Tarikh Falsafa Calamiyya
تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية: آخر نص كتبه الفيلسوف كارل ياسبرز
Genres
يمكننا من الناحية الصورية أو الشكلية أن نقارن بين تاريخ الفلسفة - بالمعنى الذي شرحناه في الفقرة السابقة - وتاريخ الأدب والفن؛ فالفلسفة والفن يشتركان في كونهما حقائق كلية باقية في كل زمان، تصدق قيمتها بهذه الصفة الكلية أو لا تصدق على الإطلاق، وكل فيلسوف وفنان عظيم يطمح إلى الكل ويسعى لتحقيقه في صورة كلية، مهما تكن هذه الصورة جزئية أو غامضة أو متهافتة. وكلما تفتح الكل واكتمل واتضح، وجدنا أنفسنا أمام عمل من أعمال الفلاسفة أو الفنانين العظام. وطبيعي أن كل فيلسوف أو فنان عظيم لا يمكنه - من حيث هو إنسان - أن ينفصل عن العمل الذي أبدعه؛ فالشامل أو الحق الخالد يتجلى في عمله، وهو لا يتجلى إلا في صورة شخصية، ولهذا كان تاريخ الفلسفة وتاريخ الأدب والفن هو تاريخ فلاسفة وأدباء عظام، قبل أن يكون تاريخ أفكار وقيم ونظم ومذاهب أثرت على الواقع التاريخي والاجتماعي، أو تأثرت به، ضمن شروط وسياقات معينة. (و)
إن الحق الخالد أو الواقع الشامل لا يتحدد بشيء آخر، وهو يستعصي على الإحاطة به من أي مكان أو في أي عمل على انفراد. ومع ذلك يمكننا أن نلمح حقيقته من المنبع الذي انبثق عنه كل ما اشتق منه وتفرع عنه. وهنا ينبغي علينا أن ننتبه إلى أمرين: تجربة المفكر أو الفنان بالواقع الحي الشامل وأسلوبه في التعبير عنه (لا سيما إذا كانت تفصلنا عنه مسافة زمنية ومكانية شاسعة)، وواقع ما حققه بالنسبة إلينا اليوم (هنا والآن). وغني عن الذكر أن «تفهم» تلك التجربة أمر لا ينفصل عن الشخص (أو الذات والوجود الحميم) الذي يحاول فهمها، ومدى قدرته على الإحساس بمعنى الواقع وإعادة تكوينه واستحضاره. وفهمنا وتفسيرنا لهذا الواقع لا يمكن أن يحالفه التوفيق إلا بقدر ما يتجه الشامل الحاضر فينا نحو الشامل الحاضر في التاريخ ، المتجلي في أشخاص المبدعين العظام وفي أعمالهم التي «تدعونا» لتحقيق وجودنا الحر المسئول، وتساعدنا على أن نكون نحن أنفسنا . (ز)
هذا التفهم من خلال التواصل القائم على المحبة والتعاطف والجد والاحترام لا ينفي أنه صراع من نوع خاص، لا من أجل القوة أو السيطرة أو إثبات التفوق أو غير ذلك من الصغائر التي يحرص عليها صغار النقاد والمفسرين البعيدين عن التواصل بمعناه الأصيل، بل من أجل الحقيقة الكلية المشتركة التي يكتشف فيها الطرفان نفسيهما. ولا ضير في أن يتخذ التواصل مع تفكير آخر، مختلف في جذوره وشروطه وأنماطه عن تفكيري، شكل الصراع والتساؤل، والاعتراض، والتفنيد، ولا بأس أيضا في أن يتبين لي أنه آخر وغريب عني وعن واقعي التاريخي، بحيث يمتنع تداخل أفق مع أفق، واندماج ذات في ذات، فالمهم هو أن أضع نفسي بقدر الطاقة في موضع السؤال والسائل، وأن أنصت بأمانة لما يدور في نفسه، وأتحسس ألوان «الشامل» وخيوطه في نسيجه الخاص الذي استعصى علي أو استعصيت عليه. ذلك أن تاريخيته الخاصة لا تقوم إلا على تاريخية الكل، ولا بد في النهاية أن تستقر سكينة الحقيقة وصفاؤها في هذا الصراع المتعاطف المحب. (2)
هل يمكن أن نكتشف من الأفكار السابقة بعض المناهج النقدية التي يحتمل أن يكون ياسبرز قد طبقها عن قصد في هذه الدراسة وغيرها من دراساته، أو أفاد منها على الأقل بصورة غير مباشرة؟ إن علينا الآن أن نتقدم خطوة نحو التحقق من ذلك، وأول ما يخطر على البال من حديثه المستمر عن العظمة وعظماء الفلاسفة «الأفراد»، أو عن بعض كبار الفنانين والأدباء الذين توفر على دراسة شخصياتهم «المرضية»، أنه قد لجأ إلى المنهج النفسي. وينبغي علينا، قبل أن نؤكد هذا أو ننفيه، أن نثبت حقيقتين أساسيتين كان لهما تأثير لا ينكر على كتاباته:
أولاهما: إنه قد تخصص في بداية حياته في الطب النفسي والعقلي، وكان من أوائل الذين شاركوا في تأسيس ما يسمى اليوم علم النفس الوجودي، كما أنه انطلق منه في اتجاهه بعد ذلك إلى فلسفة الوجود التي أصبح من أبرز أعلامها. ويكفي في هذا المقام أن نذكر كتابيه المبكرين: «علم النفس المرضي العام » (1913م) و«علم نفس وجهات النظر إلى العالم» (1919م)، ثم كتابه عن سترندبرج وفان جوخ: محاولة تحليل مرضي مع الإشارة إلى سويدنبورج وهلدرلين
7 (1922م) وهو الكتاب الذي تتبع فيه «صيرورة» التكوين النفسي لسترندبرج بوجه خاص من خلال كتاباته المختلفة عن سيرته الذاتية، منذ أن بدأت وساوس الغيرة وجنون الاضطهاد في التسلط عليه، كما تناول غيره من «الفصاميين»، وانعكاس مرضهم على شخصيتهم، ومضمون إبداعهم ونظرتهم للكون، أو على رؤاهم الحدسية والصوفية الكاشفة، بجانب كتبه الأخرى عن ماكس فيبر (1932م)، ونيتشه (1936م)، وديكارت (1937م)، ونيتشه والمسيحية (1947م)، وليوناردو فيلسوفا (1953م)، وشيلنج (1955م)، وعظماء الفلاسفة (1957م)، ونيقولا الكوزاني (1964م)؛ وهي كتب لم تخل من النظر إلى وجودهم المتفرد بالأصالة والحرية، أو تجاربهم المتميزة بالتمزق والخيبة والانكسار.
وثانية هذه الحقائق، أن تأكيده المستمر لخصوصية تجارب الفلاسفة والفنانين والأدباء، مع حسبانها تجليا تاريخيا للحقيقة الخالدة المتعالية على التاريخ، دليل على تأثره بالمنهج أو المنحى النفسي بوجه عام، وانشغاله بالمواقف الحدية - على حد تعبيره المشهور - في حياة الإنسان، كالألم والعجز والإخفاق والموت وإدراك تناهي العالم.
وعلى الرغم من أن المنهج النفسي في نقد الأدب والفن قد تراجع في العقود الأخيرة تراجعا شديدا أمام زحف المناهج الجديدة، وأنه قد أثار الشك من حوله والهجوم عليه من أكثر من ناحية، فلا يمنع هذا من القول بالتأثير المتبادل بين الأدب وعلم النفس. إن الإحساسات، والمشاعر، والأفكار، والخيالات، والحالات، والمواقف النفسية، تؤلف جميعا مادة لا غنى عنها للأديب والشاعر والفنان، كما أن افتراض وجود «النفس» ضروري لإثبات استجابتها للأدب والفن والفكر (بالرغم من الارتياب في وجودها نفسه، منذ أن تشكك «هيوم» في وحدتها الجوهرية، وأنكرها الماديون والوضعيون التقليديون والجدد، واستبعدها السلوكيون من تسمية العلم نفسه ليصبح في رأيهم هو علم السلوك ...) ومع أن حدود التأثير المتبادل الذي سبق ذكره غير واضحة، كما أن الحدود الفاصلة بين الأدب وعلم النفس غير واضحة أيضا، فإن العمليات الذهنية والمضامين الباطنية واقع لا شك فيه، كما أن هذا الواقع يدخل في أي لون من ألوان الأدب والفن، ويمكن أن يكون موضوعا من موضوعات البحث النفسي ، وأن تشهد عليه حياة الأدباء والفنانين وأعمالهم، وحياة بعض الفلاسفة والمفكرين على مر العصور.
وإذا كانت كتابات ياسبرز عن بعض عظماء الفلسفة والفن والأدب توحي في ظاهرها بما يسمى بالسيرة النفسية، أو تقدم تحليلات علمية، وتطبق مناهج وأساليب وصفية وعلاجية معروفة في علم النفس المرضي النفسي والعقلي، فلا يصح في الحقيقة أن نتسرع بإطلاق صفة «النفسي» عليها، أو نجعل من صاحبها «سيكلوجيا» نفسانيا بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. وتتلخص حجتنا على هذا في الأمور التالية: (أ)
كان انشغال ياسبرز بالطب النفسي والعقلي، ومشاركته في تأسيس علم النفس الوجودي تعبيرا عن اتجاهه الأساسي إلى النظر الكلي للإنسان بوصفه «شيئا» أكثر بكثير مما يمكن أن تسفر عنه نتائج العلوم والبحوث الطبيعية والحيوية والطبية والاجتماعية والنفسية التي تتناوله أو تطبق عليه. ومن ثم كان تحوله من الطب النفسي إلى الفلسفة تأكيدا لرغبته الأصلية في إضاءة الوجود الإنساني الحميم بالوعي الفلسفي. وإذا كان في بداية حياته قد اعتمد منهج التواصل الوجودي بين الطبيب والمريض، حتى ينير الأول وجود الأخير ويعيده إلى السواء والشفاء، فقد تلفع بعد ذلك بمسوح طبيب الأرواح والنطاسي المداوي لأمراض العصر، وظل التواصل عنده هو لب الوجود الإنساني وسبيله إلى سر الوجود الشامل وإلى تجربة الأفراد العظام لحقيقته الغامضة والنابضة مع ذلك بالحياة فينا وفي كل شيء. لذلك لم تكن العظمة الشخصية للفيلسوف أو الأديب والفنان، ولا كانت الأحوال المرضية والظواهر الاستثنائية عند بعض العظماء منهم، مجرد حالات يمكن إدراكها بوسائل علم النفس. فالإنسان دائما أكثر مما يمكن أن نعرف عنه من الزوايا النفسية. والعظمة في الفرد صورة من عظمة الكلي، وقيمتها لهذا السبب قيمة كلية. وإذا كانت وقائع حياة العظيم، وسلوكه في حياته ووسطه، وأعماله وسجيته، ومظاهر قلقه وتمزقه ومرضه وشذوذه؛ إذا كانت كلها تصلح لأن تكون موضوعا للبحث النفسي، فإن هذا البحث يهتم بدلالتها الميتافيزيقية والوجودية لا بدلالتها «السيكولوجية» الخالصة.
Unknown page