Tarikh Falsafa Calamiyya
تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية: آخر نص كتبه الفيلسوف كارل ياسبرز
Genres
يتعرض العيان للضياع في اللانهائي إذا لم يتشبث بصور تظل على الدوام مؤقتة ونسبية، وكل الروايات التاريخية تبلور في صور ما قد كان في حينه حركة حية، وتوحد وتثبت وتتم ما لم يكن في الواقع إلا توترا، وتصدعا، وتخطيطا غير مكتمل. ولكن العيان لم يكن ليتسنى له، بغير هذه النماذج والصور، أن يصل إلى الثبات والاستقرار، أو يرى نفسه رؤية واضحة، أو يتقدم في سيره في الأعماق المضيئة.
صحيح أنه لا توجد صورة صادقة في ذاتها؛ فهي تتوقف على النشاط العياني، كما أنها مجرد وسيلة يلجأ إليها العيان وليست شيئا بلغ ذروة الكمال. ولهذا يجب التفكير من الناحية المنهجية في وضع نماذج واضحة وملموسة، ثم يجب بعد ذلك وبالوضوح نفسه أن نجعلها نسبية، وأن نذيبها ونلقي بها مرة أخرى في تيار الحركة، وذلك بعد أن تكون قد نجحت - ولو للحظة واحدة - في خلق الوهم بالكمال. (ج) الارتباط بين ملكة العيان والعالمية
إن الانفتاح على العالمية ليتوه في الفراغ إذا استغنى عن الرؤية العيانية واكتفى بالتعميمات المجردة. كذلك تضل الرؤية العيانية للجزئي في الغموض والاضطراب الذي لا حد له إذا لم تستند إلى العالمية.
إن الكل ينعكس في الجزئي كما ينعكس العالم في قطرة الماء، والمعرفة الكاملة بالجزئي مساوية للمعرفة بالكل؛ لهذا يتعذر الوصول للعالمية الأصيلة بغير الرؤية العيانية العميقة للجزئي، كما أن الطاقة اللازمة للنفاذ في الجزئي تستمد قوتها من رحابة العالمي. ولا تتحقق العالمية إلا بقدر ما تقوم في أساسها على التغلغل في صميم الجزئي.
إن تجميع الدقائق والتفاهات التي لا نهاية لها، وإطلاق التعميمات الفارغة، أمران متلازمان تلازم الرؤية العيانية الخصبة للجزئي والعالمية الغنية بالمعنى والمضمون.
والاستقطاب (أو التقابل الضدي ) بين الرؤية العيانية والعالمية هو الذي تتولد عنه المناهج المتنوعة التي تلقي الضوء على تاريخ الفلسفة. ويتحقق هذا على أفضل صورة في المؤلفات التي تعرض لموضوع واحد أو شخصية واحدة (المونوجرافات). وهو يستلزم في كل مرة أن نحاول تقديم صورة تخطيطية عامة لتاريخ الفلسفة؛ هذه الصورة التي تكون بحسب الفكرة المقصودة منها أهم شيء، في حين أنها في الواقع شيء هش وواه إلى أبعد حد. ويرجع هذا إلى أن المفكر الفرد يعجز بطبيعته عن التعمق الحقيقي المطلق إلا في المواضع القليلة النادرة، ولهذا يضطر في بقية الحالات إلى الاكتفاء بالنتائج التي تقدمها له «المونوجرافات»، والقناعة ببعض الحقائق التي يعثر عليها بالصدفة المواتية. ولكن إذا تيسر وجود مفكر تعمق تاريخ الفلسفة تعمقا حقيقيا فينبغي عليه أن يغامر بتقديم لوحة إجمالية عنه؛ لأن ذلك في الواقع واجب يتعين القيام به مرة بعد مرة. ولو لم تكن لدينا مؤلفات تضم المعرفة الشاملة المحيطة بتاريخ الفلسفة لما كان للمونوجرافات مكان بيننا. (د) بهجة العيان الفلسفي
يبلغ الإنسان ذرى الحكمة والبصيرة عندما يتحالف عالم الفكر مع فهمنا للنص فنكتشف بأعيننا ما ينطوي عليه الموضوع (الذي يتناوله هذا النص) من غنى وثراء، ويتضح أمامنا صدق العبارة، وتوافق الأسلوب مع استخدام الكلمات، ونشعر أن هذا كله قد تآلف مع وضوح الوعي المعبر عن نفسه، واتحد مع الدوافع والقوى المبدعة التي اكتسبت لغة تنطق بها، ومع المتعالي الذي يفصح عن نفسه في هذه الرموز والشفرات؛ عندئذ تتخذ الظاهرة التاريخية العينية شكلا مجازيا يرمز لذلك الذي يعود عودا أبديا، ذلك الذي يعد فريدا نسيج وحده، والذي يختلف اختلافا جذريا عن أي شكل من الأشكال التي تتصف بالعمومية.
ما أروع السعادة والبهجة التي نشعر بها إذا استطعنا أن نهب أنفسنا لمثل هذا التأمل العياني! لن نشاهد أحلاما، بل سنعاين الواقع الحاضر الحي. ولن نكون بصدد بناءات عقلية مصطنعة، بل سنجرب - عبر هذه البناءات التي استعان بها التفسير - ذكريات عن الواقع الذي استعدناه. وسوف يفتح المنهج التجريبي أبوابه لأعجب التجارب قاطبة ، فكل ما تلقيته من الخارج على هيئة معلومات تاريخية أحفظها في ذاكرتي يصبح كأنه ذاكرتي الخاصة، ويلقي أضواءه الساطعة على ما كنت أعرفه من قبل، وليس هذا تأملا سلبيا، وإنما هو النشوة التي تحلق بوجودي، والأصل الذي ينبع منه نشاط جديد. وهذا هو الذي يعبر عنه «جوته» في الجزء الثاني من فاوست حين يقول:
أشعر أن الروح الحي تغلغل في،
تتراءى لي الأشكال جليلة،
Unknown page