Tarikh Falsafa Calamiyya
تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية: آخر نص كتبه الفيلسوف كارل ياسبرز
Genres
بقلم عبد الغفار مكاوي (1) تعريف موجز بالمؤلف وبعض مؤلفاته
لا تذكر فلسفة الوجود إلا ويذكر معها كارل ياسبرز (1883-1969م) وصديقه «اللدود» مارتن هيدجر بوجه خاص (1889-1976م)، على الرغم من الاختلافات العميقة بينهما. ولا يذكر ياسبرز إلا وتذكر معه كلمات صارت أشبه بعلامات الطريق إلى فلسفته، وجرت على أقلام المثقفين وألسنتهم: الوجود الذاتي الحميم، التواصل، الشامل، شفرات الوجود، المواقف الحدية ... إلخ.
وإذا كان التعريف بفلسفة خصبة مؤثرة، كانت وما تزال رسالة روحية إلى الإنسان، أمرا بالغ الصعوبة في مثل هذا التمهيد القصير، فسوف أحاول تقديم فكرة موجزة عنها وعن هذا النص المهم الذي كان آخر ما خطته يد الفيلسوف.
ولد كارل ياسبرز سنة 1883م في شمال ألمانيا في مدينة أولدينبورج بالقرب من شاطئ بحر الشمال. ويبدو أن بيئة الشمال المفتوحة، وبحره الممتد بغير حدود، قد أثرا على فكره وحياته، وانعكسا على عقله حركة لا نهائية، وأفقا شاسعا متلألئا بالأضواء، وتفتحا على كل الأبعاد والجهات والثقافات، وومضات وبروقا ساطعة هي أشبه بوصايا ورسائل مفتوحة إلى البشر المعاصرين، مفعمة بالحكمة والإحساس بالمسئولية والتعاطف والقلق على مستقبلهم في عصر تتهدده أخطار التعصب المذهبي والحرب النووية.
بدأ ياسبرز بدراسة الطب، مدفوعا من ناحية بمجالدة مرض رئوي مستعص، والحرص على استنقاذ أقصى طاقة ممكنة من جسده الضعيف، ومن ناحية أخرى بإرضاء حاجة فلسفية إلى تدريب عقله على المنهج العلمي الدقيق، ومعرفة حدود الفكر التجريبي. وأتاحت له دراسة الطب أن يتعمق مشكلات الطب النفسي، ويقرن منهج البحث العلمي والفسيولوجي بمنهج التفهم الحدسي والكلي للأمراض النفسية والذهنية، فكانت ثمرة ذلك كتابه «علم النفس المرضي العام» (1913م)، الذي أتبعه بكتابه «سيكولوجية وجهات النظر العالمية» (1919م)، الذي يعد إسهاما مهما في نظرية الحياة النفسية السوية، ومدخلا إلى الفلسفة على السواء، بجانب بحثيه الرائدين عن «سترندنبرج» و«فان جوخ»، اللذين اتخذ منهما نموذجين لما سماه «إضاءة الوجود الكلي للإنسان».
وفي سنة 1921م عين ياسبرز أستاذا للفلسفة في جامعة هيدلبرج، فأقبل على مهام التعليم بما عرف عنه طوال حياته من جدية وشعور بالمسئولية، حتى هجمت جحافل النازية السوداء على السلطة فعزل من منصبه في سنة 1937م. وفي هذه الآونة من حياته كان أهم من تأثر بهم من الفلاسفة هم كانط (1724-1804م) وكيركجارد (1813-1855م)، كما كان أهم شركائه في الحوار من معاصريه ماكس فيبر (1864-1920م) ومارتن هيدجر. وفي هذه المرحلة أيضا أتم أعظم كتبه: «فلسفة» (1932م) و«الموقف الروحي للعصر» (1931م) و«العقل والوجود» (1935م)، فضلا عن كتابيه عن «نيتشه» و«ديكارت» (1932 و1937م)، و«فلسفة الوجود» (1938م) الذي منع النازيون نشره، ثم توالى إنتاجه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي لطخت الضمير الألماني بالذنب والإثم، فاتسم جانب كبير منه بالاهتمام بالقضايا السياسية والقومية (مسألة الذنب، فكرة الجامعة، القنبلة الذرية ومستقبل الإنسان، الحرية وإعادة توحيد ألمانيا)، بالإضافة إلى إنتاجه الفلسفي الخالص (عن الحقيقة، الإيمان الفلسفي، المدخل إلى الفلسفة، شيلنج، الفلاسفة العظام، خطب ومقالات فلسفية).
ويبقى أعظم كتب ياسبرز وأشملها هو كتابه «فلسفة» بأجزائه الثلاثة؛ فهو في الجزء الأول الذي جعل عنوانه «التوجه في العالم» يحمل حملة شعواء على العلم وموضوعيته المزعومة، وكأنما هو أصلح وسيلة للكشف عن حقيقة العالم. ولهذا يسوق حجتين لتأييد هجومه: فالمعرفة العلمية بالطبيعة لا يمكن أن تكتمل في صورة كونية تامة؛ لأن نتائج البحث العلمي تتولد عنها مشكلات جديدة وأساليب جديدة لمواجهة هذه المشكلات، كما أن المناهج العلمية من الكثرة والتعدد بحيث لا يمكن أن ترد إلى منهج واحد موحد، بل إن مجرد الوعي بأن العلم نفسه عملية تركيب وتحليل لا ينتهيان يشير إشارة كافية إلى أن الحياة العقلية والعلمية لا يمكن أن يحيط بها البحث التجريبي والعلمي نفسه؛ ولذلك فإن ياسبرز لا يحاول النظر في «ماهية» هذه الحياة العقلية كما نجدها في التراث الميتافيزيقي العريق، وإنما ينظر إليها من منظور «عملي» على نحو ما فعل كانط. وهذا مضمون الجزء الثاني الذي آثر أن يجعل عنوانه «إضاءة الوجود» لا «نظرية العقل».
وقبل أن ننتقل إلى هذا الجزء الثاني لا بد من التوقف لحظة نشير فيها إلى موقف فلاسفة الوجود بوجه عام من العلم بمعناه النظري الدقيق، أو بتطبيقاته التقنية، وتفرقتهم الحاسمة بينه وبين التفلسف بوصفه فعلا باطنيا وتجربة شخصية قبل كل شيء؛ فتأملاتهم عن الوجود الإنساني تقوم في معظم الأحيان على افتراض ميتافيزيقي صريح أو مضمر بأن الوجود في الواقع وجودان أو له على الأقل بعدان مختلفان: الوجود الذاتي الحميم أو الحقيقي الأصيل من ناحية، والوجود العلمي غير الأصيل من ناحية أخرى، الأول يشارك فيه الإنسان بوصفه وجودا قوامه التحقق والمعاناة والتجربة الباطنة، وهو وجود يفلت من البحث الموضوعي بمناهجه العقلية والتجريبية، وتعبر عنه عبارة ياسبرز: «إن الإنسان في الأساس لأكثر مما يمكنه أن يعرف عن نفسه.»
1
كما تدل عليه عبارة أخرى ل «جابرييل مارسيل» (1889-1973م) وردت في يومياته الميتافيزيقية: «إنني على الدوام وفي كل الأحوال لأكثر من مجموع الصفات التي يمكن أن يخلعها علي أي بحث أقوم به لنفسي أو يتولاه غيري عني.» ولهذا يكرر فلاسفة الوجود أنه لا سبيل للإفصاح المباشر عن هذا الوجود المستسر الحميم، ولكننا نحياه ونتصل به في لحظات نادرة من حياتنا الباطنة التي تجاوز تفسيرات العقل ومناهج التجريب العلمي. ولا عجب بعد ذلك أن يصفوه أوصافا مختلفة تدل على عدم قابليته للتحديد أو على عجزهم عن تحديده، كالوجود الأصيل «هيدجر»، والوجود الذاتي أو العلو «ياسبرز»، والسر «مارسيل»، والأنت الأبدي «مارتن بوبر وإمانويل ليفيناس». ولا عجب أيضا أن يقللوا من شأن العلم الدقيق ومناهجه، أو على الأقل من قدرته على النفاذ إلى حقيقة ذلك الوجود الحميم الصميم، وأن يتابعوا «كيركجارد» في تأكيده المستمر «بأن الحقائق والمبادئ العلمية التي تلزم العقل بتصديقها - لأنها ضرورية وعامة الصدق - لا تلزمني ولا تهزني بما أنا وجود فردي وحيد، ولا تجيب عن أسئلتي القلقة عن حقيقتي ومصيري.»
Unknown page