Tarikh Falsafa Calamiyya
تاريخ الفلسفة بنظرة عالمية: آخر نص كتبه الفيلسوف كارل ياسبرز
Genres
لكل حالة من حالات الواقع دلالتها النوعية، ولكل أسلوب من أساليب خدمته معنى مختلف باختلاف خدمة الوقائع أو الهدف أو الأسطورة أو الله. ولكن الانحراف يبدأ عندما يزعم عنصر معين من عناصر الواقع أنه هو الواجب نفسه في كليته ومعناه المطلق، ومن الخطأ أن ننكر الواقعية على شيء لا تنطبق عليه المعايير التجريبية المعمول بها في مجال التقنية والتأثير العملي. ومن الخطأ كذلك أن ننظر إلى موضوع يمكن معرفته بطريقة سببية، واستخدامه استخداما تقنيا، على أنه هو الواقع ذاته، كما أن من الخطأ أن نأخذ الصور الأسطورية على أنها الواقع، ونتوهم وجود الواقع في ذاته في الرؤى السامية، فلن تكون هذه كلها غير جوانب جزئية، وحقائق مشتقة من الواقع، ولن يفهم معناها وتأثيرها وشكلها المحدد إلا من خلال ذلك الواقع.
ونحن لا نملك - لهذه الأسباب كلها - أن نطبق معايير واحدة ثابتة على تفسيرنا لتاريخ الفلسفة. فلا يمكن أن نوفق في هذا التفسير إلا بقدر ما يتجه الشامل الحاضر في أنفسنا - الذي نشعر أنه دائب الحركة فينا - نحو الشامل الحاضر في التاريخ. عندئذ ينكشف لنا الوجود في أعماقه، في أثناء فهمنا للتاريخ، وتتبين لنا الصور التي تجلى فيها حتى الآن، وعندئذ يتضح أمامنا تسلسل مراتب الواقع، وتتبين لنا الانحرافات التي تمخضت عنه لتتخذ صورا مختلفة مما هو سطحي ومحدود بحدود عقلية ضيقة، أو مما هو موضوعي، ومتناه، ومادي، وشيئي، وذري، أو تافه يؤخذ مأخذ الواقع. (2-2) الوجود الممكن يستجيب للوجود الماضي
لا وجود لفلسفة حقيقية واحدة على هيئة رصيد منهجي منسق من المعارف التي تفرض نفسها على كل إنسان وتلزمه بالتسليم بها، وكأنها موضوع لا يتطلب منه إلا أن يبذل جهدا عقليا لتعلمه، كما يفعل مع سائر المعارف الموضوعية في العلوم الطبيعية والرياضية. ومن تصور أن الحقيقة الفلسفية موجودة أمامه ولا تحتاج منه إلا أن يتعلمها فلن يبلغ من الفلسفة شيئا؛ فالواقع أن الإنسان يشرع في دراسة الفلسفة بوصفه وجودا ممكنا يتواصل مع وجود آخر، وهو يحقق هذا التواصل من خلال تاريخ الفلسفة مع أولئك الذين بلغوا أقصى درجات المطلق والوضوح. إنه يدخل في حوار مع أكبر عقول الماضي وأكرمها، ويستطيع أن يطرح عليها أسئلته، وإذا لم يفعل هذا فلن يكون لدراسة الفلسفة أي معنى.
ويكون الإنسان حرا بقدر ما يكون موجودا ممكنا أو مدعوا للوجود؛ فهو هذا الكائن الذي لا يفهم، والذي يحيا حياته وهو على وعي بضرورة اتخاذ قرارات ذات قيمة أبدية، ولهذا فإنه لا يحيا حياته وحسب، وإنما يعرف الجد الذي تصبح الحياة نفسها بالقياس إليه شيئا غير ذي بال. وعندما يردد الناس: «يا إلهي! هكذا خلقت! هذه هي طبيعتي!» فإن هذه العبارة لا تبدو له خاطئة لمجرد أن مضمونها غير قابل للمعرفة؛ بل لأنه يشعر بأنها تخدعه تحت ستار معرفة مزعومة، وتنصب له فخا يغريه بالتخلي عن مسئوليته والاستسلام السلبي ل «هكذا خلقت وهذه هي طبيعتي»، والتردي في تفاهته أو انفعالاته.
وليس الوجود في الزمان مجرد حلقات متتابعة من التجارب والخبرات، ولا هو مجرد تذكر لما لم ينس بعد، فالواقع - على العكس من ذلك - أن السابق يحدد اللاحق، وأن المستقبل يرتبط ارتباطا واعيا بما تم إنجازه واستيعابه وتقريره في الماضي. وبالمثل يمكن القول إن اللاحق يحدد السابق، وذلك بقدر ما كان الماضي ملتزما بمستقبل لا يسمح لذلك الماضي بأن يحيا حياته كيفما اتفق، وما من وجود يخلو من الوعي بماض - كنته أنا نفسي - يدفعني في الحاضر لاتخاذ قرارات قد حددها المستقبل من قبل.
إنني أتواصل مع نفسي ما دمت موجودا؛ فلست أحيا ببساطة وكأنني موجود فحسب، وإنما أنا وجود له علاقة بذاته ومن ثم بالمتعالي، غير أنني لا أوجد نفسي في علاقة بالوجود في ذاته، هذا الذي يعد «آخر» لا سبيل إلى النفاذ إليه، والذي يواجهني وتتأسس عليه حياتي، وإنما أوجد كذلك في علاقة بوجود الذين يمكنني أن أتواصل معهم.
ولما كان التفلسف وجوديا، فإنه يتحقق عن طريق استيعاب تفكير أولئك الذين وجدوا في الماضي والتحاور معه. وإذا كان الوجود (الذاتي الحميم) يتسم دائما بالأصالة، فإنه لا يبدأ أبدا بداية مطلقة؛ لأن هناك سياقات متتابعة على الطريق الذي أدى به إلى موقفه الراهن. ويتوقف عمق التفكير الفلسفي على مدى قدرة الإنسان على استيعاب الروح التاريخية الفعالة التي انبثقت منها شخصيات الماضي.
ولكن العلاقة التي يمكن أن تربطنا بشخصية ظهرت في الزمن الماضي هي علاقة بعد واحد. فكل ما هو تاريخي يضع الإنسان الحاضر أمام إمكانات مختلفة. وكل ما عرفته عن ماض - كان واقعا ذات يوم - لا يعدو أن يكون مجموعة متنوعة من آثار من سبقوه على الدرب، وضروبا من التنظيم والتصنيف المؤقت، وعددا من الأشكال والاتجاهات والمواقف الأساسية، غير أن الأمر المهم في كل الأحوال هو أن يحرص في أثناء وجوده الزمني على الدخول في علاقة أصيلة ومباشرة بالمتعالي، وأن يكون هو نفسه، ولا بد له من أن يسمع في الحاضر ما قد سمع قديما في الماضي، ومع ذلك فإن الماضي لا يقدم ضمانا كافيا لمجرد أنه قد وجد من قبل؛ إذ يتحتم علينا أن نجربه تجربة جديدة إذا أردنا أن يحتفظ بحقيقته وواقعه في أنفسنا.
ولهذا فإن كل محاولة لتكرار الوجود الماضي أو محاكاته لا يمكن أن تخلو من خداع النفس، وهذا هو السر في ألوان الانحراف التي تؤدي بالإنسان إلى التشبث بغيره بدلا من أن يكون هو نفسه وأن يجرب تجربته، كما تفسر حرصه على التمسك بالمعارف اليقينية التي انتقلت إليه بدلا من حرصه على الارتباط المباشر بوجود المتعالي. وطبيعي أن تتخذ هذه الانحرافات شكل المعرفة (الدقيقة)، والاعتقاد المتزمت، والنزوع إلى الأحكام المطلقة، وأن تستمد يقينها من المؤسسات والضمانات الموضوعية. (2-3) الماضي بوصفه شرطا لا غنى عنه للاستيعاب
لاحظنا التعارض القائم بين حقيقة ضرورية ثابتة تتسم بالموضوعية البحتة من ناحية، وحقيقة الوجود في الزمان من ناحية أخرى، هذه الحقيقة التي تتضح بالتواصل، وتعي ماضيا ينتمي إليها، وحاضرا تتخذ فيه القرارات الحاسمة، ومستقبلا تحدده وتجربه قدرا لها؛ لأنها حقيقة لا تعطى أو توجد كغيرها من المعطيات والموجودات، وإنما تتحقق من خلال الحرية، وتقوم على أساس معتم.
Unknown page