Tarikh Falasifat Islam
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
Genres
ويظهر أن ابن طفيل كان من أكرم الناس خلقا وأوسعهم صدرا وأخلصهم حبا للحكمة، فإنه شمل ابن رشد بعطفه، فذكره في رسالة «حي بن يقظان» تلميحا عند ذكر ابن باجه وأتباعه ومن خلفهم من الفلاسفة، فضلا عن أنه قدمه ليوسف وأوصاه به، فلما توفي ابن طفيل عينه الأمير طبيبا لنفسه. ولما خلا منصب القضاء في قرطبة عينه مكان أبيه، ولما توفي يوسف وخلفه ولده يعقوب المنصور بالله كانت حظوة ابن رشد عنده عظيمة، فقربه ورفع الكلفة بينهما إلى درجة أن ابن رشد كان يخاطبه أثناء الحديث قائلا: اسمع يا أخي!
ولما كانت صداقة الملوك أسرع تقلبا من الجو، وأقصر عمرا من لذيذ الرؤى، وأقرب إلى الفناء من أزهار الربيع؛ فقد انقلب يعقوب على ابن رشد في حديثه طويل. أما سبب النكبة فمختلف فيه، وقد عللها المؤرخون بعلل شتى، ولكن السبب الحقيقي واحد، وهو أن كل حكيم ذي مكانة يكثر أعداؤه وحساده الذين يغارون من شهرته وينقمون عليه علو كعبه وترفعه، وهؤلاء الحساد والمقاومون يظهرون تارة باسم الدين، وطورا باسم الأخلاق والفضيلة، وتارة باسم السياسة. والحقيقة أنهم أعداء شخصيون للرجل العظيم.
وكل ما حدث في نكبة ابن رشد أن أعداءه لبسوا ثياب الدين، ودسوا عليه دسيسة في بلاط الخليفة ونجحوا فيها، فتمكنوا بها من التغلب على حزب الفلاسفة الذي كان سائدا مسموع الكلمة لدى الخليفة بفضل ابن رشد، ومما يؤيد هذا الرأي أن ابن رشد لم يكن وحيدا في الإهانة والأذى والنفي والاعتقال، بل كان معه كثير من أتباعه وأمثاله العلماء، وكان ذنبهم في نظر الخليفة وحزبه انقطاعهم للفلسفة ودرس كتب الأقدمين.
والمحنة في ذاتها تقع في كل زمان ومكان، وتاريخ العالم حافل بفظائع الاضطهاد والتنكيل، وتاريخ أوروبا مملوء بوقائع التعصب والاضطهاد، وإلحاق الأذى بالعلماء والمصلحين الدينيين والمخترعين والمكتشفين.
على أن الخليفة بعد أن أطاع مشير السوء عاد فندم على ما فرط منه في حق الحكمة والحكماء، فرجع إلى مراكش ونسخ المنشور الذي أذاعه في حق ابن رشد وصحبه، ومحا أثره واشتغل بالفلسفة واسترضى ابن رشد ورفاقه، ودعاهم إلى حضرته وقربهم من حظيرته، وقدمهم واستمع لهم وأطاع رأيهم، ونبذ حزب التعصب والجهل الذي كان سببا في نكبتهم.
غير أن حياة ابن رشد لم تطل بعد محنته عاما، فلما توفي نقل رفاته إلى قرطبة ودفن في مدفن أجداده بمقبرة ابن عباس. ويروى أن جثته نقلت على بعير، وأصدق الأخبار عن وفاته أنه توفي بمراكش يوم الخميس التاسع من صفر سنة خمس وتسعين وخمسمائة، قبل وفاة المنصور الذي نكبه بشهر أو نحوه ودفن بخارجها، ثم سيق إلى قرطبة فدفن بها مع سلفه. وذكر ابن فرقد أنه توفي بعد النكبة الحادثة عليه المشتهرة الذكر ودفن بجبانة باب تاغزوت خارج مراكش ثلاثة أشهر، وذلك في أول دولة الناصر. (6) أساتذته
روى عن أبيه أبي القاسم واستظهر عليه الموطأ حفظا، وأخذ يسيرا عن أبي القاسم ابن بشكوال وعن أبي مروان بن مسرة، وعن أبي بكر بن سمحون وعن أبي جعفر ابن عبد العزيز، وأجاز له أبو جعفر هذا وأبو عبد الله المازري الطب عن أبي مروان ابن جربول البلنسي، واشتغل على الفقيه الحافظ أبي محمد بن رزق، واشتغل بالتعاليم وبالطب على أبي جعفر هرون، ولازمه مدة وأخذ عنه كثيرا من العلوم الحكمية. (7) الرجال الذين تعلم عليهم والعلوم التي درسها
الفقه: تلقاه على أئمة عهده. الطب: على أبي جعفر هرون. الفلسفة: قيل إنه تلقى علوم الحكمة على ابن باجه، ولكن هذا قول ضعيف؛ لأن وفاة ابن باجه توافق بلوغ ابن رشد الثانية عشرة من عمره، فقد ولد ابن رشد في سنة 1126 وتوفي ابن باجه في سنة 1138، وهذه سن لا تسمح بتلقي علوم الفلسفة، قد يكون ابن رشد من النوابغ الذين تظهر نجابتهم في العقد الأول من أعمارهم، وقد يكون حظي بالتلقي عن ابن باجه، ولكن هذا في مجال الافتراض والظنون، والمؤكد أن ابن باجه كان يختلف حتما إلى بيت ابن رشد زائرا، فلا يبعد أن يكون قد حادث الصبي وناقشه أو استمع له نبذة محفوظة أو قصيدة مروية، فصارت هذه الحادثة وما يكون تكرر من نوعها سببا لانتساب ابن رشد إليه.
ولعل الذي دعا بعض المؤرخين كابن أبي أصيبعة إلى هذا القول تسلسل مذهب ابن رشد من مذهب ابن باجه، على أن هذا التسلسل طبيعي لأسباب كثيرة، أهمها اتجاه الفكر في الأندلس وفي العالم في القرن الثاني عشر وتأثير الوسط والمبادئ، وكانت تربطه بابن طفيل أواصر المودة، وهو الذي فتح له سبل التقدم في بلاط الخليفة، وكانت بينه وبين آل زهر الذين اشتهروا بالعلم والفضل والأدب في الأندلس في القرن السادس للهجرة؛ مودة عظيمة، ومنهم أبو بكر بن زهر طبيب الخليفة وأبو مروان بن زهر مؤلف كتاب «التيسير»، وكانا من أوفى أصدقائه، ومنهم أبو بكر ابن العربي الفقيه صاحب التصانيف. وبالجملة كان ابن رشد مختلطا بأشهر وأعلم وأفضل أهل عصره.
ومن غرائب المصادفات أن ابن بيطار وعبد الملك بن زهر ماتا وابن رشد في سنة واحدة، وكان قد سبقهم إلى دار الفناء ابن طفيل وأبو مروان بن زهر، وقد توفيت الحكمة في أرض أندلس بوفاة هؤلاء العظماء الذين كانوا كالنقش الجميل، إطاره تلك البقعة المباركة، أشرقت شموسهم في بداية القرن السادس الهجري وغابت بنهايته وهكذا عمر الحكمة كعمر زهر البنفسج يتنفس من الربيع ثم لا يلبث أن يذبل، ولكنه محبوب لعطره ومعزز لأنه رمز الأمل الذي لا يموت! فمن آثار هؤلاء الحكماء نستفيد، ومن بحر فضلهم نغترف، ومن إرثهم المقدس الذي تركوه لنا نبني حكمة جديدة، أساسها الحب العام وغايتها التسامح الشامل. (8) أصدقاؤه
Unknown page