Tarikh Falasifat Islam
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
Genres
وهو لا ريب معدود أكبر أساتذة فلسفة أرسطو في القرون الوسطى، ومع أنه تساهل كثيرا إكراما لمبادئ الإسلام، فإنه لم يحدث تغييرا كبيرا في مجموع فلسفة أرسطو التي لا يمكن اتفاقها مع الدين الحنيف. ولا ريب في أن الغزالي قصد إليه بكتابه «تهافت الفلاسفة». (1) إيضاح عن ابن سينا
إن ما ذكرناه بالإيجاز عن حياة الشيخ الرئيس، من الشئون العادية يدل دلالة سطحية على حياته، ويحار المؤرخ إذا حاول الوصول إلى علم يقيني عن نفسية ابن سينا وأخلاقه، ويظهر للواقف على أخباره أن أبا عبيد الجرجاني، وهو صاحبه الذي نقل عنه، لم يدون ما يلقي شعاعا من النور على تلك الناحية من حياة الرئيس، ولكن المدقق قد يصل بعد طول الإمعان إلى بصيص من الضياء. وقد جاءت النبذ الدالة على خلقه وعقله عرضا لا قصدا، من ذلك أنه نشأ منذ نعومة أظفاره مستقلا برأيه، وترعرع ونما وهو يحافظ على ذلك الاستقلال بالرأي الذي هو الجوهر في أخلاق الرجال.
فقد حكى أن أباه وأخاه كانا من الإسماعيلية، وأنه سمع منهما كلاما في النفس والعقل على طريقة يرضاها أبوه وأخوه ولا يقبلها عقله ولا ترتاح إليها نفسه، فلم يقبل عليها ونبا عنها. وهذا الاستقلال في الرأي والاعتداد بالنفس دليل قوة الفكر والإرادة. حقا أن الاعتداد بالنفس من أدلة الإعجاب بها، وفي الإعجاب بالنفس عيوب ومحاسن، ويظهر لنا أن ابن سينا استفاد بإعجابه بنفسه سموا في خلقه وعلوا في مقاصده واقترابا من المثل الأعلى، ولم يخف علينا ذلك؛ فقد وصف نفسه بالتقدم في العلم والبراعة فيه بكلام ملؤه الإعجاب بالذات.
ويظهر من أخباره أنه كان عبقريا ممتازا قادرا على الإلمام بالعلوم والمعارف واستنباط الأفكار القوية ببساطة وبدون تكليف ظاهر أو خفي، فكان عقله مخلوقا للفلسفة. فقد سبقه في كل الأمم فلاسفة وصلوا إلى الحقيقة بعد الجهد والتعب وبعد التألم والمعاناة في سبيل البحث عنها، ولكن ابن سينا كان فذا في عبقريته حقا، وكان ذكاؤه من النوع الذي يظهر قبل أوان ظهوره عند أشباهه في السن والمواهب، فقد أتم ابن سينا تعليمه ودراسته في أواخر العقد الثاني من عمره الحافل بالعجائب، وكان على قمة الفتوة مالكا زمام العلوم المعروفة لعهده، يعيها ويحفظها ويحللها، ثم اندمجت تلك العلوم في نفسه فنضجت النفس وتجلت معرفتها أجمل تجل، وليس لدينا دليل على أنه راد على علمه شيئا بكر السنين ومرها، ولكنه أحسن استعمال الأدوات التي حباه الله إياها، فلما فرغ من تحصيل العلوم بأسرها في مقتبل الشباب لم يزد عليها شيئا ولم يتجدد له علم، ولكن فطرته السليمة وبصيرته المنورة وعقله الجبار وإرادته القوية تضافرت كلها وتآزرت على المحافظة فيما بقي من عمره على الأسس العلمية التي ركزت في نفسه عنفوان الفتوة، والتي صرف جهده في صقلها وتهذيبها.
ومما يؤيد قولنا بأن عقل ابن سينا كان مخلوقا للفلسفة ، وأن ممارسة العقليات كانت لديه أسهل منها لدى غيره؛ أنه بعد تفوقه في سرعة إحراز العلوم، وامتلاك ناصيتها بقليل عناء، صار التأليف والتصنيف من أبسط الأمور وأسهلها وأسرعها لديه، فلم يكن من الحكماء الذين يطيلون النظر فيما يكتبون، ثم إذا هم دونوا شيئا يصرفون وقتا في تحويره وتبديله بعد نقده وتمحيصه، بل كان ابن سينا فياضا بحكمته وفلسفته يثبتها، ولا يمحو ما أثبت، ولا يتردد في تنقيح أو تصحيح، ولا يشك في صحة ما كتب. ودليلنا على ذلك كثرة الكتب التي ألفها ابن سينا، وكلها قيمة ممتعة، وقد ألف بعضها وهو في نضارة العمر يترقرق في وجهه ماء الشباب، على أنه لم يبلغ أكثر من ثلاث وخمسين سنة على الأقل أو ثمان وخمسين سنة على الأكثر.
ينتج مما تقدم أن الشيخ كان من أظهر صفاته كثرة العمل وسهولته وسرعة إتمامه، وكان يشبه جوته الفيلسوف الألماني من بعض وجوه، فإن جوته ألف رواية «فوست» في جزأين، بين الأول والثاني منهما نحو ستين عاما، كذلك ابن سينا ألف الجزء الأول من الشفاء مذ كان في معية الأمير شمس الدولة، وما زال يوالي التأليف فيه في فترات متباعدة حتى أتمه وهو في معية الأمير علاء الدولة. وهذا دليل على أنه رضي عما ألفه في شبابه بعد أن بلغ أشده، وثبتت في الحكمة قدمه. كذلك كانت حال «جوته» وكتابه الخالد «فوست»، وكذلك كان كتاب الشفاء للرئيس أوسع وأمتع ما وضعه في الحكمة.
أما عن عقيدة ابن سينا فقد وردت نصوص تدعو للتقول والظن، ولكن الأخبار الصادقة الصحيحة المروية عن الجرجاني الثقة وغيره، مجمعة على أن الشيخ الرئيس كان إذا أشكلت عليه معضلة، توضأ وقصد المسجد الجامع وصلى ودعا الله أن يسهلها عليه، ويفتح مغلقها بين يديه، وهذا دليل على العاطفة الدينية القوية في نفس ابن سينا. ويصح لنا أن نقول إن إيمانه كان جزءا من عبقريته، وإن اعتقاده بواجب الوجود كان من أقوى أسباب ظهور عبقريته.
أما ما رواه الجرجاني من أن الرئيس كان شديد القوى كلها، وأن قوة الحب كانت لديه أقوى وأغلب، وأن مظاهر تلك القوة المعنوية والمادية جذبت الشيخ إليها، واستدعت منه جهودا أثرت في مزاجه، وكانت من أسباب علته واشتداد وطأتها عليه، فقد كان هذا صحيحا، وكانت هذه الصفات موضع العجب لدى الباحثين، ولكن منذ ظهر العلامة «فرويد» واستوفى النظر فيما بين قوة الحب الجنسي والمواهب العقلية، فقد أصبحت دراسة تلك العاطفة القوية لدي العبقريين، من أهم الوسائل للوقوف على كثير من خفايا نفوسهم وأسرار حياتهم العقلية والقلبية، وهذه الأشياء التي ذكرت تلميحا في تاريخ الفلاسفة، أصبحت ذات شأن كبير في نظر علماء النفس وتحليل قواها ومواهبها. وصار هذا البحث نفسه علما قائما بذاته اسمه
.
الفصل الرابع
Unknown page