Tarikh Falasifat Islam
تاريخ فلاسفة الإسلام: دراسة شاملة عن حياتهم وأعمالهم ونقد تحليلي عن آرائهم الفلسفية
Genres
كان الفارابي رجلا هادئا عاكفا على حياة الفلسفة والتأمل، محميا بالأقوياء من الأمراء الذين لجأ إليهم، وقد انتهى بأن صار في أخريات أيامه متصوفا.
كان أبوه قائدا فارسيا، وقد ولد بوسيج إحدى قلاع فاراب، في بلاد التركستان. وقد تلقى العلم في بغداد على عالم مسيحي اسمه يوحنا بن جيلان، واشتمل تعليمه على الأدب والرياضيات، واللغات التي عرفها العربية والتركية والفارسية. وهذا ظاهر من مؤلفاته، وقد نسب إليه أهل عصره أنه كان خبيرا بلغات الأرض جميعا، وهي نحو سبعين لغة، ولكن لم يقم على هذا دليل.
وقد عاش طويلا واشتغل بالعلم في بغداد ثم ذهب إلى حلب بسبب اضطرابات سياسية، حيث أقام في ظلال بلاط الأمير سيف الدولة، ولكنه في الأيام الأخيرة من حياته اعتزل خدمة الأمراء وعاش معتكفا. وتوفي في دمشق في أثناء رحلة له، وكان ذلك في شهر ديسمبر من عام 950م. ويقال إن أميره تزيا بزي صوفي وابنه على قبره تشريفا لقدره، ويقال إنه كان عند وفاته في الثمانين من عمره. وقد توفي رفيقه في الدرس أبو بشر متى قبله بعشر سنين. أما تلميذه أبو زكريا يحيى بن عدي فقد توفي عام 971م. في الأولى والثمانين من عمره.
وأهم مؤلفاته ما كان خاصا بفلسفة أرسطو وشرحها والتأليف على نسقها. ومن مؤلفاته كتاب التوفيق بين الحكيمين أفلاطون وأرسطو، وقد حاول في هذه الرسالة التوفيق بين آراء الحكيمين وبين عقائد الإسلام ومبادئه. وهو يقول إن الخلاف الظاهر بين الحكيمين راجع حتما إلى طريقة النظر والتأليف وإلى مسائل الحياة العملية، أما تعاليمهما الخاصة بالحكمة فهي متفقة وهما إماما الفلسفة. وكان الفارابي يفضل صفاء النفس على كل صفة، ويقول إنه ثمرة الفلسفة، وكان يقول بحب الحق ولو كان الرأي المقول به مخالفا لآراء أرسطو. والأمور التي اشتغل بالتأليف فيها هي المنطق، وما وراء الطبيعة والطبيعيات ثم الأخلاق والسياسيات. (19-2) الكلام على منطق الفارابي
يقسم الفارابي المنطق إلى قسمين: وهما التصور والتصديق؛ وقد أدخل في التصور طائفة الأفكار والتعريفات، وفي التصديق الاستدلال والرأي. والتصور لا يتحتم فيه الصدق أو الكذب. ويعتبر الفارابي من الأمور الداخلة في دائرة الأفكار أبسط الأشكال النفسانية، وكذلك الأفكار التي طبعت في ذهن الإنسان منذ البداية، مثل: الضروري والواقع والممكن، وهذه أمور يمكن توجيه عقل الإنسان إليها، ولكن لا يمكن شرحها له؛ لما هي عليه من الظهور والجلاء، وبالتوفيق بين التصور والأفكار تنتج الآراء. والآراء كذلك قد تكون صادقة أو كاذبة، ولأجل الحصول على أساس للآراء لا بد من الرجوع إلى عملية الاستدلال والتصديق، ولبعض الفروض المعقولة للإدراك وهي واضحة بذاتها مباشرة وغير محتاجة إلى تأكيد أو إثبات، كالبديهيات في الرياضة وبعض الأوليات فيما وراء الطبيعة والآداب.
ونظرية التصديق الذي بواسطته ننتقل من المعلوم والثابت إلى معرفة ما كان مجهولا، هي المنطق بعينه في رأي الفارابي. (19-3) الإلهيات (ما وراء الطبيعية)
كل موجود في نظر الفارابي إما ضروري أو ممكن، وليس هناك ثالث لهذين الاثنين، وحيث إن كل ممكن يستدعي فرض سبب لوجوده، وحيث إن سلسلة الأسباب لا يمكن أن تكون بغير نهاية، فلا بد لنا من الاعتقاد بوجود كائن موجود بطبيعته بغير سبب، ومالك لأعلى درجات الكمال، وممتلئ بالحقيقة الأزلية، ومكتف بذاته بلا تغيير ولا تبديل، وهو بصفته عقلا مطلقا وخيرا خالصا وفكرا تاما يحب الخير والجمال. ولا يمكن إقامة الدليل على وجود هذا الكائن؛ لأنه هو التصديق والبرهان ولأنه العلة الأولى لكل الأشياء وفيه تجتمع الحقيقة والصدق ويلتقيان.
ولأنه أكمل الكائنات، فهو أحد فرد لا يتعدد، وهذا الوجود الأول المنفرد الحقيقي الوجود ندعوه الله.
ومن هذا الكائن الأول ينبعث مثاله أو صورته «الكل الثاني» أو الروح المخلوق الأول الذي يحرك الجرم السمائي الخارجي. وبعد هذا الروح تنبعث عن بعضها البعض الأرواح الثمانية الجرمية التي كلها وحيدة في تعدد أنواعها وكاملة. وهذه هي خالقة الأجرام السماوية وتسمى الأفلاك العلوية، وتكون الدرجة الثانية للوجود، وفي الدرجة الثالثة يوجد العقل الفعال في الإنسانية المسمى بالروح القدس، وهو الذي يصل السماء بالأرض، وفي الدرجة الرابعة توجد النفس الإنسانية، وهذان الاثنان العقل والنفس لا يبقيان بنفسهما في وحدتهما الأصلية الدقيقة، ولكنهما يتعددان بتعدد بني آدم، ثم يكون بعد ذلك الشكل والمادة وهما الدرجتان الخامسة والسادسة، وبهما يقفل باب الدرجات الروحية.
ومن هذه الدرجات الست، الثلاثة الأولى منها هي أرواح بذاتها، ولكن الثلاثة التالية النفس والشكل والمادة وإن كانت غير جرمية إلا أن لها صلة بالجسم الإنساني. وللجرمي الذي أصله في خيال الروح ست درجات: الأجسام السماوية، وبدن الإنسان، وأبدان الحيوانات النازلة، وأبدان النباتات، والمعادن، والأبدان الأولية. (19-4) تقسيم قوى النفس أو بسيكولوجيا
Unknown page