يؤرخ مصنف ابن القلانسي لقرنين من الزمن هما من أهم القرون، وبالنسبة لكثير من الأحداث هو المصدر المتفرد، في هذين القرنين جرت أحداث الصراع القرمطي الفاطمي على الشام، وأعقب ذلك الحكم الفاطمي للشام، وكان حكما لم يعرف الاستقرار لأسباب داخلية فاطمية، ولمقاومة أهل الشام لهذا الحكم، وابن القلانسي يروي لنا سيرة المقاومة الشامية، وهي سيرة لشعب دمشق وشعب الشام أجمع، سيرة لمنظمات هذا الشعب وفئاته الاجتماعية وقبائله، سيرة لعمران دمشق وخططها، وهنا يقتضي أن ننوه أن هذه مزية تفرد بها ابن القلانسي إلى أبعد الحدود.
صحيح أن الكتاب أوقفه صاحبه بالأصل على دمشق لكنه يولي مع دمشق اهتماماته بقية أجزاء الشام، ثم بقية أجزاء الوطن العربي والعالم الإسلامي، فمواده عن كل من الخلافتين الفاطمية والعباسية لها مكانة خاصة، بل أكثر من هذا نجده يتقصى أخبار المغرب الأقصى ويقدم لنا رواية ذات مكانة خاصة حول المهدي بن تومرت وتأسيس دولة الموحدين.
وعلى مكانة مواد ابن القلانسي حول العصر الفاطمي، فإن الذي يفوقها أهمية هو ما رواه حول دخول الشام تحت السلطان السلجوقي، ثم أحداث الحروب الصليبية زمن الحملتين الأولى والثانية، وهي أحداث عاصرها وكان شاهد عيان لها، ولأهمية هذه الروايات تمت ترجمتها إلى كل من الإنكليزية والفرنسية.
وابن القلانسي مؤرخ ثقة يمكن الاعتماد على رواياته، وقد أوضح منهجه في كتابه بقوله: "قد انتهيت في شرح ما شرحته من هذا التاريخ، ورتبته وتحفظت من الخطأ والخطل والزلل فيما علقته من أفواه الثقات، ونقلته وأكدت الحال فيه بالاستقصاء والبحث، إلى أن صححته إلى هذه السنة المباركة، وهي سنة أربعين وخمسمائة، وكنت قد منيت منذ سنة خمس وثلاثين وخمسمائة وإلى هذه الغاية بما شغل الخاطر عن الاستقصاء عما يجب إثباته في هذا
المقدمة / 18