Tarikh Cilm Adab
تاريخ علم الأدب: عند الإفرنج والعرب وفكتور هوكو
Genres
وهل يجوز نزع عضلة من الجسم، أو لولب من الدولاب إن أريد انتظام دورانه؟
وهل من الواجب على المطرب أن لا يعرب؟
ثم نظرت هذه القريحة الجديدة في وقائع العالم فوجدتها مضحكة مرهبة معا، واعتراها المزاج السوداوي بسبب الاعتقاد المسيحي، وأثر عليها أيضا الانتقاد الفلسفي المستفاد من ذاك الدور الانتقالي، فخطت في الأدب خطوة كبرى زلزلت بها العالم العقلي، وقلبت عاليه سافله وحذت في الشعر حذو الطبيعة، وخلطت في اختلاق المعاني النور مع الظلام، وكلام السخرية مع الإعجاز بالفصاحة بدون أن تمزج أحدهما بالثاني، وبتعبير آخر جمعت في الشعر بين النفس والجسد وبين الحيوانية والنطق؛ لأن الشعر والدين متلازمان، والنقطة التي يسير منها أحدهما يسير منها الآخر؛ فأوجدت في الشعر نموذجا جديدا وأسلوبا غريبا بالنظر للمتقدمين، وشرطت فيه شرطا قلب شكله وأصلح قالبه، فهذا النموذج وهذا الشرط هو كلام السخرية الذي يظهر في قالب الكوميدية، فهذا هو الفرق الذي يفرق في نظرنا بين صناعة الأدب الجديدة، وصناعة الأدب القديمة، وبين الشكل الجديد الحي، والشكل القديم الميت، أو بتعبير أشهر من هذا ولو كان مبهما، هذا هو الفرق بين أدب الطريقة الرومانية، وأدب الطريقة المدرسية.
فيقول لنا حينئذ أهل الطريقة المدرسية: ها نحن أمسكناكم، وأخذناكم بألسنتكم، أنتم تتخذون من القبيح نموذجا للتقليد ومن كلام السخرية أسلوبا لصناعة الأدب؟ ولكن أين اللطافة في ذلك أين حسن الذوق؟ أما تدرون أن صناعة الأدب ينبغي لها أن تقوم ما اعوج من الطبيعة؟ أما تعلمون أن الواجب عليها إعلاء شأن الطبيعة؟ أما تعلمون أن الأجدر بها انتخاب الأحسن مما في الطبيعة؟ هل أدخل المتقدمون القبيح أو السخرية في كلامهم؟ هل مزجوا الكوميديا بالتراجيديا؟ فاتبعوا يا سادة أساليب المتقدمين، واقتفوا في فنون الأدب أثر أرسطو وبوالو ولاهارب ... إلخ.
وفي الواقع أن حجج أهل الطريقة المدرسية دامغة، ولكن لسنا مكلفين بالرد عليهم؛ لأننا لا نريد وضع قواعد جديدة ولا تقييد العقل بالعقال كما قيدوه؛ إذ حمانا الله من القواعد ... وإنما نحن حققنا وجود أمر، فنحن مؤرخون ولسنا منتقدين ولا مشرعين، فهذا الأمر موجود سواء أعجبهم أو لم يعجبهم، فقريحة الشعر الجديد تولدت من انضمام نموذج السخرية بالكلام إلى نموذج الإعجاز بالفصاحة، وهي غريزة المنبع في ابتكاراتها مختلفة الأشكال في تصويراتها، بخلاف الشعر القديم فإنه وحيد الشكل وحيد الأسلوب لبساطته واضطراده على وتيرة واحدة، فهذا هو الفرق الحقيقي والأساسي بين أدب الطريقتين الرومانية والمدرسية.
نعم إن المتقدمين لم يجهلوا بالكلية حقيقة الكوميديا، ولا السخرية التي نحن بصددها إذ لا بد لكل شيء من أصل، وجرثومة الدور الثاني لا بد أن تكون في الدور السابق عليه، ففي الإيلياذة كل من «فولكين» و«نيرميت» نموذج لهذه السخرية والكوميديا، والأول مثال للآلهة وقد مر ذكر السبب في عرجه، وليس على أعرج من حرج، والثاني مثال للبشر، ووصف هوميروس في الفصل الثاني من الإيلياذة هذره في المنطق، وهذيانه في الكلام، وبين كثرة جلبته واستهزائه بجميع الناس حتى بالملوك، فكان في محاربة تروادة مضحكة اليونان يسخر بهم ويسخرون منه؛ لأن فيه جميع النقائص والعيوب، ومن أمثلة السخرية أيضا مكالمة منيلاس مع بواب القصر في رواية «هيلانه» التي نظمها الشاعر اليوناني أوريبيد في القرن الخامس قبل الميلاد.
ومن السخرية أيضا ما نراه عند اليونان من الأشخاص الخارقة للطبيعة كالذي نصفه الواحد إنسان ونصفه الآخر سمكة، والذي بعين واحدة في جبهته، وعرائس الجن اللواتي يظهرن على الإنس كأنهن حور الجنان، كل واحد من ذلك نموذج للسخرية، غير أن أدباء اليونان الأقدمين لم يتمكنوا من إيفاء هذا الموضوع حقه بسبب ما في أشعار حماستهم من الفخامة، وما في رواياتهم من العظة والجلالة، فالسخرية في كلامهم ليست في موقعها؛ لأنها مستورة بجلالة الشكل الحماسي، وأسلوب الحماسة يفوق فيها على أسلوب السخرية ويمنعها من الظهور والبيان، بخلاف الأدباء المتأخرين فإن أسلوب السخرية له في شعرهم ورواياتهم موقع مهم، وهو في كل موضع من كلامهم. ويصورون بهذا الأسلوب الشناعة والفظاعة من جهة، والهزر واللعب من جهة أخرى، ويلحقون به في الدين ألف وسوسة وأباطيل غريبة، وفي الشعر ألف معنى مبتكر وتصور بديع فأسلوب السخرية هو الذي أوجد في القرون الوسطى جميع هذه المخلوقات التي اعتقد الناس وجودها بين الإنسان، والله من عوالم الجن والروح والملك، وملئوا بها الهواء والماء والأرض والنار فلم يبق محل في الفضاء إلا وهي ساكنة فيه. ومنها من هو على أكتافنا يكتب أعمالنا، ومنها من يأكل ويشرب معنا من طعامنا وشرابنا، ومنها من يلبسنا لبس الجلد على اللحم، ولا يخرج منا إلا بالضرب الشديد والتعذيب، وهذه السخرية هي التي جعلت لشيطان النصارى قرون التيس، وأرجل الخنزير وأجنحة الخفاش، وجرت الشاعر دانتي الطلياني وملتون الإنكليزي إلى تصوير تلك الصور الجهنمية العجيبة ووصفها بالأوصاف الهائلة والأشكال المخيفة، حتى جاء في القرن السادس عشر المصور الشهير ميكل أنجلو ونقش على جدار كنيسة في الفاتيكان الذي يسكنه البابا صورة مفخة بديعة سماها اليوم الآخر وهو يوم العرض والحساب، ولو قرأ القرآن الكريم لصور جهنم ترمي بشرر كالقصر كأنه جمالة صفر.
ومن أمثلة هذه السخرية أيضا الخادم الجني ميفستوفلس المرافق لفوست في الرواية المتقدم ذكرها، ومنها الساحرات التي مركزهن في رواية ماقبت وأنواع كثيرة من الخدام والرصد القائمين على حفظ الكنوز المخفية، والعيون الجارية والأشجار الكبيرة، وكذا الحوت الذي يظهر في البحر كالجزيرة المعشبة، والثعابين التي تحاكي في الضخامة الفيلة، وتحرق بنفسها كل مخضر ونحو ذلك. فالمتأخرون عبروا عن جميع ما ذكر بكلام أفصح، وأبلغ من كلام المتقدمين.
فأسلوب السخرية ما هو في نظرنا إلا ضد قام بجانب أسلوب الإعجاز بالفصاحة ليميزه ويظهره؛ لأن الأشياء تتميز بضدها، فهو أغزر المنابع التي فتحتها الطبيعة لصناعة الأدب، فطريقة المتقدمين أورثت الملل والكلال باضطرادها على نسق واحد، ومراعاتها لأسلوب واحد وهو أسلوب الإعجاز؛ لأن الإعجاز على الإعجاز، والبلاغة وراء البلاغة، والبيان تلو البيان متعب للفكر مجهد للذهن، فإذا فصل بينهما بكلام السخرية تفكه العقل وارتاح مما أجهده وأضناه، واستأنف السير نحو الإعجاز وهو في نشاط وارتياح بسبب توقفه بكلام السخرية والهزل، ثم لا يخفى أن الجميل إذا قرن بالقبيح زاد جماله رونقا وصفاء، وتلألؤا واعتلاء؛ ولذا كانت الجنة التي وصفها ميلتون ألذ وأشهى من جنان الإيليزة التي وصفها هوميروس وفرجيل؛ لأن ميلتون صور تحت جنة عدن جهنم أشد دهشة ونكالا من «تارتار» المتقدمين، ولو لم يصف لنا دانتي حبس ذاك الجبار العنيد في برج مدينة بيزه، وسد باب البرج عليه حتى هلك جوعا بعد أن أكل أولاده لما وجدنا طلاوة لحسن فرانسواز دوريمني، ولا لجمال بياتريس التي دخلت به جنان النعيم، إذ لو لم يكن في كلامه تلك الشدة والقسوة والعذاب الأليم لما كان فيه تلك الحلاوة الرائقة والعذوبة السائغة.
ففي شعر المتأخرين الإعجاز بالفصاحة يشبه النفس الناطقة المطمئنة بتعاليم النصرانية، والسخرية؛ أي الهذر بالكلام يشبه الجسد الحيواني الذي في الإنسان، فالنموذج الأول بتجرده من الهذيان، وسلامته من العيوب حاز كل الحسن والجمال والرشاقة والاعتدال والجذب واللطافة والرقة والحلاوة، وأخرج من خدور الأفكار عرائس مثل جوليت وأوفيليه اللتين صاغهما شكسبير في رواية روميو وجوليت ورواية هاملت، ولعلهما تشبهان ليلى التي افتتن بها قيس العامري على عهد الدولة الأموية، ولقب لأجلها بمجنون ليلى، وفاطمة التي هام بحبها أمرؤ القيس، وقال لها: «أفاطم مهلا بعض هذا التدلل».
Unknown page