رقي الأمة المادي في ثلاثة قرون
لكي يتصور الإنسان الخطوة الواسعة التي خطتها روسيا في 300 عام، لا يكلفه ذلك إلا أن ينظر حوله، فيرى كل شيء جديدا لم يكن له أثر من ذي قبل. اليراع الذي أكتب به، والورق، والكتب، والمنضدة، والساعة، والرسوم الفوتوغرافية، والمصباح الذي ينار بالكهرباء أو الكحول أو البترول، ورياش الغرفة وزينتها، والأواني المنزلية، والطعام والشراب، والشوارع المنارة، والجسور، والعربات، والمخازن، وخطوط الترامواي، كل هذا جديد لم يكن له أثر من قبل، وإن كان فعلى طراز قديم خال من الذوق وإحكام الصناعة. أجل لقد أصبحنا في عالم جديد وحياة جديدة، والروسي الآن ما كان يستطيع العيشة لو وجد في ذلك العهد المظلم الخالي من جميع مطالب وحاجيات المعيشة، وكذلك إنسان العهد القديم، لو وجد في هذا العصر لاندهش دهشا شديدا، وأيقن أنه في عالم آخر غير عالمه.
فكم من الأعمال العظيمة اقتضى القيام بها في البلاد لإيصالها إلى هذه الحالة التي ترتع بها الآن، فقد ارتقت ارتقاء عقليا وأدبيا واقتصاديا، وغير ذلك.
إن حالة البلاد المادية كانت في ذلك العهد طبيعية، وعاش الناس فيها على حساب مواجب الطبيعة التي كانت تهبها للبلاد.
وأما الزراعة، فكانت في العهد المظلم في درجة قصوى من الانحطاط، ومساحات شاسعة من الأراضي كانت بورا، لا تجد أيدي عاملة تستثمر خيراتها الوافرة، ولم تكن تزرع إلا قطع أراضي صغيرة في أواسط روسيا.
وكان الأهالي يستسهلون الاشتغال بصيد الحيوانات والأسماك على الاشتغال بالزراعة التي كانت في حيز العدم، ونمت نموا بطيئا جدا. مثلا في عام 1615 في فورينج وأوسكول، كان يزرع الفلاح فدانا واحدا أو فدانا ونصفا، ويترك نحو 30 فدانا خاصة به بورا.
أما الفلاحون فكانوا يكرهون الاشتغال بالزراعة؛ لأنهم كانوا في أغلب البلاد مستعبدين للأشراف، ومن أواسط القرن الماضي، أخذ الغيورون على تقدم البلاد يهتمون بمسألة تحرير الفلاح من نير الاستعباد ، وأخذت هذه الفكرة الشريفة تزداد انتشارا يوما فيوما، وفي 1861 جرى إصلاح هام للفلاحين، ووزعت عليهم الأطيان بعد أن كانوا يشتغلون فيها كالعبيد، ولكنها لم تعط ملكا لكل فرد، بل إنها جعلت تحت مراقبة جمعيات، حتى إذا ازداد عدد الأهالي في المستقبل يصيبهم نصيبا من الأرض يرتزقون منه، ولكن في هذه الجمعيات لم تعم المساواة، بل وجد فيها الغبن، حيث كان القوي يأكل حقوق الضعيف، فنجم عن ذلك خراب عام للفلاحين، واضطر البعض أن يشهروا حربا عوانا على هذه الجمعيات لإصلاح الخلل الموجود فيها، ثم للضرب على أيدي بعض الأشخاص الذين قبضوا على زمام هذه الجمعيات، واستعملوها لأغراض ثورية، وقد حاول العلماء والأفاضل الذين كرسوا نفوسهم لهذه المسألة إقناع الحكومة بحالة تلك الجمعيات الحرجة، وضرورة تحويل الأراضي إلى ملك الأفراد، وقد انتهى الأمر على هذه الصورة، الأمر الذي أفضى إلى تحسين حالة الفلاحين.
وسارت الزراعة بعد ذلك على طريقة منظمة، وهي خطوة شاسعة في سبيل تقدم روسيا، التي ترتكز ثورتها على الزراعة التي يشتغل بها ثلاثة أرباع أهلها.
كان الروسيون في العهد القديم يعيشون عيشا بسيطا طبيعيا، يزرعون من القمح قدر ما يلزم لطعامهم، وكذلك من الكتان قدر ما يلزم لملابسهم، ولكن بعد ذلك الحاجة ازدادت كثيرا، واحتاجت البلاد إلى معامل كثيرة وأيدي عاملة تقوم بحاجات البلاد، فأخذ بطرس الأكبر يغرسها بيده الحديدية، وكان يمنح أرباب الصنائع امتيازات عديدة، ومنحا كثيرة، وحسن أجور العمال، وضمن لهم أجرتهم. ومن جهة أخرى فإنه وضع ضرائب باهظة على المصنوعات الأجنبية، وازدادت الصناعة ارتقاء على عهد كاترينا الثانية، ومنحت امتيازات كثيرة لأصحاب المعامل، وأعفتهم من كثير من الرسوم، وصرحت لمن يريد إنشاء معمل أن ينشئه بدون تصريح من الحكومة.
الإمبراطور إسكندر الأول.
Unknown page