وما زلت أذكر حادثا عجيبا وقع في 1951. فقد كنت مع أصدقاء في مشاهدة قصة سينمائية وخرجنا حوالي الساعة الحادية عشرة وسرنا في شارع عماد الدين نستروح نسيم المساء. فأشار أحدنا إلى شارع إلى اليمين وقال: هنا ماخور يزوره فاروق في بعض الليالي.
وأثارت هذه العبارة استطلاعنا ودخلنا الشارع. فوجدنا رجال البوليس السري في ملابسهم التنكرية واقفين في الأماكن الاستراتيجية. ووجدنا السيارات. ورأينا البيت تتلألأ منه أنوار المصابيح.
وكان رجال البوليس السري في غاية الكياسة يمنعون ويشيرون في رفق واستحياء. وكثرت تعليقاتنا. وقصد كل منا إلى مسكنه وهو يفكر.
وعندما أتأمل تلك الأحداث المهينة لتاريخنا أجد أن الوفد لم يكن ليجد الفرصة لضرب السراي أكثر مما وجدها في 1950؛ فإن فاروق قبل سنتين كان قد دفع الجيش المصري إلى مقاتلة إسرائيل دون أن يستشير مجلس الوزراء فضلا عن البرلمان. وهذا عمل يكفي وحده لخلع أي ملك في العالم. وأوقعنا بذلك في حرب كان جيشنا فيها لا يزيد على 23 ألف جندي بينما كان جيش إسرائيل يبلغ 65 ألف جندي. وأنا أنقل هذه الأرقام عن جلوب (باشا) الذي لا يمكن أن يتهم بحب مصر.
على أن لفاروق هنا فضلا قد أسداه إلى بلادنا من حيث لا يدري ومن حيث لا يقصد؛ ذلك أن الحرب بيننا وبين إسرائيل قد نبهت الجيش إلى مدى الفساد الذي كان يعم بلادنا. فكانت بداية التفكير والعمل لإنقاذ الوطن من الاستعمار البريطاني والاستبداد الفاروقي. وبدأت الثورة تختمر. •••
وسارت الثورة، التي شرحتها في كتابي «الثورات»، في تدرج: التخلص من السراي، ثم التخلص من الإقطاعيين، ثم التخلص من الإنجليز، ثم البناء والإصلاح. •••
وكان أعظم ما قامت به الثورة - بعد ذلك - هو الإقدام على تأميم قناة السويس في 1956.
وتاريخ هذه القناة لا يقرؤه مصري إلا مع الألم والغيظ؛ فإنه أكبر عملية نصب واحتيال في السياسة العالمية في القرن التاسع عشر.
وأذكر أني في 1947 دعوت في مقال بمجلة «مسامرات الجيب» التي كان يصدرها الأستاذ عمر عبد العزيز إلى تأميم هذه القناة. وقلت في تدليلي وتبريري إن هذه القناة تقع في أرض مصرية، وإن تأميمها من حيث القانون لا يزيد على تأميم الترام في القاهرة. وعدت فكتبت مقالات أخرى في هذا المعنى في مجلات أخرى. ولا أعتقد إلا أن الوفديين كانوا يقرءون مقالاتي هذه في استهزاء وسخرية. ولكن أحد الصحفيين سأل النحاس (باشا) - بإيعاز من الشركة على ما أظن - عن إشاعة التأميم؛ فأجاب بأنه ليس عند الحكومة أية نية للتأميم وأنها تنتظر انتهاء الامتياز حين تستولي عليها أي في 1969 ... كان الوفد قد فقد روح الكفاح.
وأممت القناة في 1956. وأحس الشعب أنه بهذا التأميم لم يسترد هذه القناة فقط بل استرد كرامته.
Unknown page