ومخلفات مي الأدبية كثيرة، ولكنها كانت في حديثها أبرع وأذكى مما كانت في جميع ما كتبت. وكنت أقول لها إن السبب لتفوق حديثها على مقالاتها ومؤلفاتها أنها شرقية تخاف في الكتابة أن تبوح بكل ما تفكر فيه ولكن هذا الخوف يزول عنها في الحديث. وقد صدمتني ذات مرة بملحوظة جعلتني أفكر، هي قولها: «إن مبالغتك في التفاؤل هي في صميمها وأصلها مبالغة في التشاؤم.» وأحيانا أظن أنها كانت صادقة، كما أنها هي أيضا كانت مثلي متفائلة ذلك التفاؤل الذي يخفي التشاؤم ويضمره.
وقد يسأل القارئ هنا: لم لم تتزوج مي مع جمالها وثقافتها؟ فالجواب أنها كانت تعيش في وسط شرقي. ولو كانت مي قد نشأت في برلين أو باريس أو لندن لوجدت الكثيرين ممن ينشدون الشرف والسعادة بالزواج منها، والفخر والمجد بالتصاق تاريخهم بتاريخها. ولكن إخواننا اللبنانيين - على الرغم من عصريتهم - لا يزالون شرقيين، ولم يستطيعوا أن يسيغوا زوجة تستقبل ضيوفها في صالون أدبي له حرية الصالونات الأوروبية في المناقشة والاختلاط. وبكلمة أخرى أقول: إن مي عاشت عمرها قبل ميعادها بخمسين سنة.
وقبل الحرب الكبرى الأولى عرفت عبد الرحمن البرقوقي صاحب مجلة «البيان». وكانت هذه المجلة الشهرية تحاول أن تحيي الأسلوب العربي القديم على نحو ما فعلت جريدة «مصباح الشرق» للمويلحي أو كما تفعل الآن «مجلة الرسالة». وكان البرقوقي نقيضي في أهدافه الأدبية؛ فقد كان يجد لذة عجيبة في التعبير عن معنى ما بكلمة مماتة. ويقول إننا يجب أن نحيي هذه الكلمة. ولم يكن يجدي احتجاجي عليه بأن الكلمة إنما أميتت لأسباب قوية استدعت موتها، وأن إحياءها الأن خطأ؛ لأن مركزها الاجتماعي قد انعدم. وكان صهره مصطفى صادق الرافعي أكثر إمعانا منه في خطة الإحياء للكلمات المماتة. وعرفت محمد السباعي وكان الكاتب الأول في مجلة «البيان». أما الكاتب الثاني فكان عباس حافظ. وكلاهما كان يعنى أكبر العناية بالأسلوب العربي القديم. ولم يكن بمجلة «البيان» لا كثير ولا قليل من الفن الصحفي، ولذلك لم تعش طويلا.
وكان عبد الرحمن البرقوقي من أطيب الناس. وكان غربي الذهن قضت المصادفات بأن يكون شرقي التربية والثقافة. وكنا أحيانا نمشي في الإسكندرية فيأخذ في المقارنة بين الشوارع التي أقيمت إليها مساكن الأجانب وبين تلك الأخرى التي أقيمت إليها مساكن المصريين. ويستنتج من هذه المقارنة ما يحمله على القول بأن الشرق كله مفلس. وقد عرف الشيخ محمد عبده وأدرك المغزى في اتجاهاته وإصلاحاته.
وإذا كان حقا أن الخمر تكشف عن خبايا الصدور، وتفكك الضوابط التي تحول دون الصراحة، فإني أروي الحادث التالي الذي يدل على النفس الزكية التي كان يتسم بها البرقوقي، فقد كنا على قهوة في الإسكندرية حوالي 1914، وقد قعدنا إلى الموائد الخارجية والنسيم يهب علينا كأنه البلسم في رقته ورخامته، وأمامنا أكواب من البيرة - أو غيرها - نشربها في اشتهاء ولذة. ثم طلبنا رطلين من الكباب، فجاء بهما الخادم وبخار الكباب يتصاعد ورائحة الشواء تسكر. وما إن شرعنا نتنقل على هذا الطبق حتى طرأ علينا متسول. وكان غاية في الرثاثة والجوع والعفن. فطلب إحسانا، فتأمله البرقوقي ثم نظر إلي كأنه يستفهم. ثم دفع الطبق إلى طرف المائدة وقال للرجل: كل. فأكل الطبق كله برطليه من الكباب وهو واقف.
وكان البرقوقي يسكن - هو ومجلته - بالقرب من باب الخلق، وكانت «الجريدة» قريبة منه. وقد دعوته قبيل الحرب الكبرى الأولى إلى أن نزور معا لطفي السيد (باشا) رئيس تحريرها. ولم أكن أعرفه قبل ذلك إلا من مقالاته مع إعجابي العظيم بها. فلما دخلنا عليه وجدت غرفته كأنها غرفة وزير في سعتها وأثاثها. وتحدثنا عن نيتشه والتصوف. ولا أدري إلى الآن كيف جمع بينهما لطفي السيد. ولكني خرجت من هذه المقابلة الأولى وفي اعتقادي أن لطفي السيد أديب كما هو فيلسوف.
وحوالي تلك السنين، أو قبل ذلك بقليل، بزغ طه حسين، وكان أزهريا معمما، يكره الأزهر، ويعربد على صفحات «الجريدة». والتحق بالجامعة المصرية ونال دكتورية الأدب. وكان الفرح عاما بين الشباب الجديد لهذا الأزهري الناجح. وكنت أصدر مجلة «المستقبل» الأسبوعية في الدعوة إلى القرن العشرين وما بعده. فنشرت صورته وهو بالجبة والقفطان. وراج العدد بين القراء الذين رغبوا في اقتناء الصورة، وكان لنجاح طه حسين قيمة رمزية هي أن مصر العتيقة تستطيع أن تتجدد. وقد وجد طه حسين من لطفي السيد المراعاة بل أحيانا المحاباة، حتى كانت مقالاته تتحيز المكان الأول في «الجريدة» على الدوام. والواقع أن انتقال طه حسين من الأزهر إلى الجامعة المصرية ثم إلى السوربون - مع أنه ضرير - هو معجزة. ولكن ثم معجزة أخرى هي أنه اتخذ مكانا أماميا ثوريا مستقبليا في الأدب. مع أن الإنسان كان يتوقع - بعد اعتبار ماضيه - أن يتخذ مكانا تقليديا حيث يراعى «قواعد النحو والصرف» في الأدب والاجتماع والسياسة. وقد يقال إن المعري قد أثر فيه وبعث في نفسه كراهة لقواعد «النحو والصرف» في أسلوب الحياة. ولكن يبقى عندئذ سؤال هو: لماذا اختار طه حسين المعري كي يكتب عنه ويسهب في الكشف عن عقله وقلبه؟ ولا عبرة بأن يقال إن الاشتراك في العاهة باعث مقنع للقوة الجذبية التي وجدها طه حسين في المعري. لأن هناك أدباء وشعراء كثيرين بهم هذه العاهة ولكنهم لم يجذبوه. وظني أن عاهة العمى لم يكن لها إلا أقل الأثر في التفات الأديب المصري إلى أديب المعرة. وإنما الأثر الأكبر أنهما يشتركان في الثورة، وخاصة الثورة على المشايخ. فقد رأى طه حسين في الأزهر ما بعث سخطه وحركه إلى الكفاح، ثم رأى عند المعري مثل هذا السخط ومثل هذا الكفاح. فارتبطت بين الأديبين أواصر الحب والفهم وتعارفا وتفاهما. وقد انتقلت عند طه حسين بعد ذلك بؤرة المعركة من ميدان الأزهر إلى ميدان السياسة المصرية. ولكن اتجاهه الأول لم ينحرف.
وهناك من يزعم أن السياسة قد أفسدت أدباءنا وشغلتهم عن مهمتهم الأصلية. وهذه المهمة إنما هي عند هؤلاء الزاعمين أدب البرج العاجي الذي لا يتصل بالمشكلات العصرية. ولكنهم مخطئون؛ لأن الأديب في عصرنا يخون عصره إذا لم يكن سياسيا. وأعني بالطبع السياسة العليا العالمية والقطرية ولا أعني أن يستأجر أحد الأحزاب كاتبا فيرصد هذا قلمه للدفاع عنه ظالما أو مظلوما في مهاترات مزرية. ونحن نعيش في عصر انفجاري يحفل بالانقلابات الاجتماعية والأدبية والعلمية. وذلك الأديب الذاهل الذي يعيش في البرج العاجي إنما يبتعد عن أهم الشئون البشرية حين يبتعد عن السياسة. وكل أديب له وجدان بتطور العالم في عصرنا يحس أن واجبه الأول أن يكون هو نفسه عنصرا من عناصر هذا التطور؛ ولذلك يستحيل أدبه إلى أدب كفاحي سياسي.
ولذلك لا يستحق أدباؤنا اللوم على أنهم أخضعوا أدبهم للسياسة، بل الحق أنهم يستحقون الثناء والحمد. وحين أتأمل الصدود الذي نلاقيه أحيانا في بعض الأفراد أو عند الجميع عن شوقي - على الرغم من شاعريته الرائعة - أعتقد أن مرجعه أن شوقي لم يمارس الأدب الكفاحي. ولم يطابق بين فنه وبين أماني الشعب إلا في فترات نادرة. وأن إعجاب الشعب بحافظ إبراهيم - على الرغم من شاعريته التي لا تسمو إلى مستوى شوقي - إنما يرجع إلى أنه طابق بين فنه وبين أمانينا السياسية. وحتى في المستقبل، بعد مائة سنة مثلا، سوف يدرس حافظ ويستدل بشعره على عواطف الأمة المصرية واتجاهاتها ومستواها الفني أكثر مما يدرس شوقي الذي عاش زمنا غير قصير من حياته في البرج العاجي.
ولم أعرف شوقي إلا في السنوات الأخيرة من حياته. وكان له مكتب بالقرب من دار الكاتب المصري كنت أزوره فيه. وقد فهمت مقدارا كبيرا من سيكلوجيته حين شرع ذات مرة يوضح لي في إسهاب لماذا ألف درامة «كيلوبطرة». فقد زعم أنه أراد أن يزكي هذه المرأة باعتبارها ملكة مصرية قد أسيء إليها في سمعتها. ودهش أكبر الدهشة مني عندما ناقضته وقلت إنها لم تكن مصرية. وكان في ثقافته يصبو إلى كل قديم، حتى إنه لم يدرك شيئا من التيارات الكاسحة التي اتسم بها الثلث الأول للقرن العشرين. وقد ولد شوقي في أواخر القرن التاسع عشر في مصر، في بيئة الباشوات والبكوات التي كانت تكره عرابي، ولم يقطع الحبل السري الذي كان يربطه بالقرن التاسع عشر إلى يوم وفاته.
Unknown page