وكنا في تلك الأيام لا نستطيع السفر إلا بإذن من موظف إنجليزي ولو كان الانتقال لا يتجاوز ما بين القاهرة وبنها. وأذكر أني حين أردت الحصول على هذا الإذن دخلت على الموظف الإنجليزي فجابهني بقوله: استكلال؟ بلهجة التهكم.
وكان الأقباط يدا واحدة مع المسلمين ولم تنجح دسائس التفرقة. حتى كان الشبان المسلمون يخطبون من منابر الكنائس والشبان الأقباط يخطبون من منابر المساجد. وقد عرفت بعد ذلك أنه كان في الثورة العرابية في 1882 مثل هذا الاتفاق أيضا إذ كان يرافق عبد الله نديم خطيب الثورة قسيس ينهض بعده ويخطب في الدعوة إلى الاتفاق بين العنصرين وحق الأمة في الحكم النيابي التام.
وكان بديها أن يقتل بعض الإنجليز من الأبرياء في مثل هذا الاختلاط؛ لأن الإنجليزي - أيا كانت شخصيته - كان رمزا للاستعمار. ولكن الإنجليز كانوا وحوشا يهاجمون القرى ويصبون البنزين عليها ويحرقونها. وكانوا - عقب تحطيم الترام ونزع قضبانه في القاهرة - يقبضون على الأفندية ويطرحونهم على الأرض ثم يجلدونهم. وبعد الجلد يجبرونهم على العمل في ترميم القضبان المنزوعة. وحدث أن قطع الخط الحديدي للدلتا فيما بين الزقازيق وميت غمر، فقصد الجنود الإنجليز إلى مكان القطع واحتشد الفلاحون المساكين نساء ورجالا وأطفالا - في سذاجة - في ذلك المكان. والأغلب أنهم لم يشتركوا في قطع هذا الخط، ولكن الإنجليز عندما اقتربوا منهم صوبوا عليهم البنادق وقتلوا منهم عددا كبيرا.
وكل هذا التقتيل في المصريين نسيه الإنجليز وذكروا فقط العدد القليل من قتلاهم. فأنشئوا المحاكم العسكرية لمحاكمة المصريين الذين اتهموا بقتلهم، وكانت هذه المحاكم تحكم بالإعدام.
وما زلت أذكر نادرة مضحكة وقعت لي في تلك الأيام. فقد ركبت حمارا من الزقازق أقصد إلى العزبة. وبينا أنا في الطريق خرج إلي أحد الفلاحين من حقل قريب وأخبرني أن الإنجليز يرممون الخط الحديدي على مسافة فهمت أنها تبلغ نحو كيلومتر. واقترح علي أن أختار طريقا أخرى لأنهم - إذا اجتزت بهم - سيلقون القبض علي ويجبرونني على العمل معهم في الخط الحديدي. وبينا هو يحدثني خرج علي صبي وعرض علي أن أشتري منه جرو ذئب، فنفحته بقرش وأخذت الجرو، وسرت في بطء أفكر في طريق أخرى أتجنب بها الإنجليز. ولكن الفلاح الذي أوهمني أن بيني وبينهم نحو كيلومتر كان مخطئا أو هو لم يحسن التعبير عن المسافة؛ لأني وأنا لا أزال في التفكير عن طريق أخرى خرج علي إنجليزي من خلف جميزة غليظة وهجم علي وجرني في عنف إلى الأرض وطلب مني العمل مع سائر من قبض عليهم. وكان الجرو لا يزال بيدي، فقلت له: هل لك أن تأخذ هذا الذئب وتخلي عني؟ فلم يصدق أنه ذئب. ولكنه بعد أن لوح بيده أمامه وكشر له الجرو عن أنيابه سلم بأنه ذئب وقبل الصفقة. بل زاد عليها أن حمل الجرو وأنا على الحمار وحرسني من زملائه حتى اجتزت مكان الترميمات وسرت في طريقي وأنا أتعجب من هذه المصادفة الحسنة وفضل هذا الجرو علي.
وتبرز في ذهني ثلاثة أشياء من ثورة 1919:
أولها الإكبار العظيم للموقف الوطني الذي اتخه الأقباط ورفضهم أية مساومة مع الإنجليز بشأن حماية الأقليات؛ فإن شباب المسلمين وكهولهم كانوا لا يزالون يذكرون موقف الحزب الوطني وما كان يدعو إليه من الجامعة الإسلامية ونفور الأقباط من هذه الدعوة. ولذلك كانوا يتشككون في موقفهم في 1919. ولكن الأقباط كانوا على الدوام في المقدمة، بل كان منهم كاهن هو القسيس سرجيوس الذي كان لا يبالي أن يقول ويكرر القول بأنه إذا كان استقلال المصريين يحتاج إلى التضحية بمليون قبطي فلا بأس من هذه التضحية. وعندما كانت لجنة الدستور تبحث قانون الانتخاب طلب توفيق دوس باشا أن تكفل حقوق الأقباط في الانتخابات بالتعيين، أي إذا لم ينتخب منهم العدد الذي يمثلهم فإن الحكومة تعين حينئذ عددا من الأقباط حتى لا يكون هناك نقص في التمثيل. فهببنا - نحن الشبان في ذلك الوقت - نزيف هذا الرأي ونقول بالاكتفاء بالانتخاب.
والشيء الثاني الذي يبرز في ذاكرتي من هذه الثورة هو وثبة المرأة المصرية من الأنثوية والبيت إلى الإنسانية والمجتمع؛ فقد مزق الحجاب وشرعنا جميعا نعد المرأة المصرية إنسانا له حقوق الإنسان بعد أن كنا نتكلم عنها باعتبارها ربة البيت أو الزوجة أو غير ذلك من الصفات التي كنا نصف بها «المخدرات». وقد زالت هذه الكلمة الآن من لغتنا.
أما الشيء الثالث فهو النهضة الاقتصادية التي أثمرت بجهود طلعت حرب وغيره، بنك مصر وسائر توابعه من الشركات الأخرى، وبهذا البنك مسخت عن جباهنا الوصمة التي كان يعيرنا بها المستشار المالي برونيات بقوله إنه ليس بين المصريين من يعرف أعمال البورصة.
هذا في شئوننا الداخلية، أما في شئوننا الخارجية فإن ثورة 1919 علمتنا كيف ننظر إلى الدولة باعتبارنا أمة مستقلة لا نجري في ذيل بريطانيا.
Unknown page