واتفق وجودي في لندن في الوقت الذي كانت قد شرعت فيه هذه الخمائر تغير الآراء والعقائد والاتجاهات. وكان أعظم ما تركته في نفسي الثقافة العامة الإنجليزية في ذلك الوقت، هو الشك في القيم والأوزان الأخلاقية والروحية. وقد رأيتني أسير في لندن بلا قبعة احتجاجا على العرف مع أن الرأس العاري لم يكن وقتئذ مألوفا كما هو في أيامنا. وكان إكبابي على دراسة كتب العقليين دليلا آخر على هذا القلق الذي كان يشيع في الأوساط المتعلمة اليقظة. وزادني قلقا اختلاطي بأعضاء الجمعية الفابية وكانوا على وجدان بالتغيرات الكامنة والقادمة يضعون أناملهم على نبض الثقافة الأوروبية ويتعرفون اتجاهاتها. وفي هذا العام 1909 ألفت رسالة صغيرة دعوتها «مقدمة السبرمان» وأرسلتها إلى المرحوم جرجي زيدان محرر الهلال فطبعها لي بعد أن حذف بعض الفقرات الجريئة. وهي تدل القارئ على القلق العام لشاب مصري لم تزد سنه على 20 أو 21 سنة، شاب مسته بل كوته الثقافة الجديدة وقطعت ما بينه وبين الماضي وسددت نظره إلى بصيص من نور المستقبل.
وقد نفدت هذه الرسالة ولم أعد طبعها، ولكني - بعد تنقيحات أو تلطيفات - جعلتها فصلا من فصول كتابي «اليوم والغد».
ولا أنسى هنا أن أذكر المتحف البريطاني؛ فإن هذا المتحف - زيادة على ما فيه من الآثار القديمة التي تحوي مقدارا كبيرا من مخلفات الفراعنة - يحتوي أيضا مكتبة بها نحو أربعة ملايين مجلد. وكنت أتردد كثيرا على هذه المكتبة. بل لقد قرأت فيها بعض الكتب العربية.
وقد ذكرت شيئا عن الاستغراض اللوني في لندن. ولكن هذا الاستغراض كان مع ذلك ضعيفا. وكان لا يبدو إلا في بعض البنسيونات أو الفنادق التي كانت ترفض نزول الهنود فيها. وكنا نحن المصريين نعامل أحيانا مثل الهنود. وأحيانا كنا نجد التسامح لأن لوننا كان قريبا من لون الأوروبيين. أما في الريف الإنجليزي فلم نكن نجد شيئا بتاتا من هذا الاستغراض.
والريف في إنجلترا هو أجمل ريف في العالم كله؛ لأن الإنجليز لا يعنون بالزراعة، فالجبل والسهل، والبحيرة والغابة، لا تزال جميعها على عذريتها لم تمسسها سكة المحراث إلا في نبذ صغيرة متباعدة؛ ولذلك يجد الزائر الجائل في الريف الإنجليزي الطبيعة الساذجة في صميم جمالها.
والريف في كل أوروبا يعد مزارا في الربيع والصيف حين ترغي الحقول وتزبد بفيض الحياة الهائجة. والقرية الأوروبية مبلطة الشوارع جميلة البناء تغسلها الأمطار حتى لتبدو عقب شؤبوب من المطر كأنها صورة مزخرفة بالألوان الزاهية. وكل قرية - مهما صغرت - تحتوي الحانة والمطعم والفندق؛ ولذلك يستطيع الزائر أن يجد الراحة أسبوعا أو أكثر. وقد انتفعت كثيرا واستغللت هذه الحضارة القروية في تأملات ومقارنات مع ريفنا الكالح الأسيف الذي لا يزال يعيش الفلاحون في قراه في جحور تحطم صحهتم وتجرئ المستبدين على انتهاك كرامتهم.
وأذكر أني في بعض زياراتي للريف البريطاني قعدت على العشب أتحدث إلى فلاح مسن، وكان قريبا منا حقل قد نمت فيه الذرة وزكت ارتفاعا وغصونا. فسألت الفلاح: هل تشوون الذرة كما نفعل؟ فلم يفهم سؤالي، وعرفت أن الذرة تنمو في إنجلترا ولكنها لا تثمر ، أي إن الكوز أو القنديل لا يتكون؛ لأن القمة التي تتألف من اللقاح الذكري لا تتم. وإنما تزرع الذرة كي تصير مرعى فقط للبهائم، وبرودة المناخ هي التي تمنع نمو الذرة إلى النضج.
وإيجار الفدان لم يكن يزيد على نصف جنيه أو جنيه. فمن يملك مائة فدان في إنجلترا لا يحصل إلا على خمسين أو مائة جنيه في السنة إيجارا. أما الفلاح المزارع المستأجر فيحصل على نحو عشرة جنيهات ربحا من الفدان. وهذا عكس ما نجد في مصر حيث أكثر الربح للمالك وأقله بل أقله جدا للمستأجر.
وزرت فلاحا آخر في بيته، فوجدته يربي نحو خمسين عجلا يشتريها وهي في الأسبوع الثالث من عمرها، ثم يرضعها في بيته بالبزازات؛ أي إنه كان يبيع قشدة اللبن ثم يأخذ المخيض ويخلطه بزيت القطن ويرضع بمخلوطهما هذه العجول. فيكسب ثمن القشدة أو الزبدة في حين أن العجل يجد في الزيت عوضا عنهما. فإذا فطم العجل حبس حتى لا يكاد يتحرك ثم يسمن بالغذاء المركز من كسب القطن وبعض البروتينات. والعجل المسمن في إنجلترا يبلغ وزنه أحيانا طنا كاملا - 22 قنطارا - ويباع لحمه بأغلى مما يباع الضأن.
وقد كان تأملي للمزارع الأوروبية يبعثني على الاكتئاب كلما فكرت في فلاحينا في مصر؛ لأن المقارنة بين القرية الأوروبية والقرية المصرية إنما هي مقارنة بين النعيم والجحيم أو بين الجمال والقبح أو بين الكرامة والمهانة.
Unknown page