وعدت إلى لندن وعادت هي إلى مدينتها في وسط إنجلترا. ولم تنقطع المراسلة بيننا. وعقد في لندن مؤتمر الشعوب المخضعة، وكان محمد فريد يمثل مصر، وكان دي فاليرا يمثل إرلندا. فجاءت إليزابيث وقضينا أياما في لندن حضرنا فيها اجتماع هذا المؤتمر الذي خطب فيه دي فاليرا باللغة الإرلندية التي لم يفهمها أحد. ولكنه أصر على ذلك كي يثبت حق أمته في ثقافة ولغة مستقلين، وترجمت خطبته إلى الإنجليزية. وكذلك خطب محمد فريد باللغة الفرنسية. وبعد هذه الزيارة القصيرة للندن عادت إلى بلدتها وتأكد لي عندئذ أن الزواج غير مستطاع لأني لن أبرأ. وبعثت إليها بذلك مع هدية غالية. وتزوجت هي بعد ذلك ولكني لم أرها وهي متزوجة.
وقد ملأ هذا الاختبار نفسي غما ومرارة، ولكنه بعثني على الاستطلاع والدراسة للشئون الجنسية، فعرفت هافلوك أليس وأوجست فوريل قبل أن أعرف فرويد. بل إن هذا الاستطلاع الجنسي كان سببا في استطلاعات ثقافية أخرى عديدة.
وكانت الحركة النسوية على أشدها في لندن حوالي 1910. فكانت مظاهرات النساء للمطالبة بحقوق الانتخاب. وكان بعض هذه المظاهرات عنيفا تشتبك فيه السيدات والفتيات مع رجال البوليس وكانت زعيمة هذه الحركة سيدة تدعى المسز بانكهرست، وكانت جرئية مقدامة تتخير الكلمات الجارحة عندما تصف رجال الحكومة الذين كانوا يعارضون هذه الحركة. وحضرت أحد هذه الاجتماعات وعجبت للحماسة بين الحاضرات المستمعات وهي حماسة تجلت عن جمع نحو خمسة آلاف جنيه في بضع دقائق للإنفاق على هذه الحركة.
وكان البيت الإنجليزي يمتاز برفاهية لا تعرفها البيوت في أي قطر آخر في أوروبا؛ وذلك لارتفاع مستوى المعيشة بين الإنجليز بما كانوا ينهبونه من محصولات الأمم المخضعة في إمبراطوريتهم أو يشترونه رخيصا من هذه الأمم ويبيعونه غاليا لهم ولغيرهم. وكذلك بما كان يرد إليهم من دخل آخر هو أرباحهم من الشركات التي يؤسسونها في الهند أو مصر أو غيرها. ولذلك كثيرا ما كنت أجد منزل النجار في أحد المصيفات مؤثثا بالرياش التي تعد في مصر فاخرة لا يحصل على مثلها إلا موظف في الدرجة الرابعة.
وانتفعت كثيرا باختلاطي بأعضاء الجمعية الفابية، وكانوا - كما قلت - من الاشتراكيين، ولكنهم كانوا مع ذلك أماميين في شئون أخرى. وأيما حركة كانت تنتشر في الأدب، أو نظرية يقول بها العلميون، أو دعوة إلى بدعة جديدة في الدين أو الفلسفة، كنا نجد لها من يمثلها أو تمثلها في الجمعية الفابية؛ فقد كانت بها اجتماعات لبحث اليوجنية أي هذا العلم الجديد لترقية النسل. كما كان بها اجتماعات أخرى لدرس التطورات الاجتماعية أو الاقتصادية في ألمانيا أو فرنسا. وقد عرفت الأدب الروسي عن طريق هذه الجمعية كما عرفت إبسن. ولا أذكر شو أو ولز وكلاهما كان من أعلام هذه الجمعية.
وكان برناردشو في تلك السنين في شبابه أحمر اللحية يتعلق به الفابيون ويتكأكئون حوله، وكان أول لقائي له في الحديث أنه رآني أتأمل رسما له على الحائط. فجاءني وقال: ما رأيك في هذا القذف؟ فقلت: إن الرسم جميل ولا يعد قذفا. فلما عرف أني قبطي قال: أنت مونوفيزيت؟
فأربكني السؤال لأني لم أكن أعرف هذه الكلمة الضخمة. وتبادر إلي أن الكلمة تتعلق بالطعام النباتي؛ لأن برناردشو كان مقرونا في ذهني إلى الطعام النباتي. وكنت قد داعبت الفكرة بأن اقتصرت أنا أيضا على النبات وانقطعت عن اللحم جملة أشهر. وظننت أن الخطاب موجه إلينا كأمة لأن كلمة أنتم تقال في الإنجليزية للمفرد كما للجمع. وأنه قد حسب أننا مثل الهندوكيين نقتصر على الطعام النباتي. فقلت: لا، نحن نأكل اللحم أيضا في مصر.
فانفجر بالضحك، وطلب إلي أن أبحث في المعجم عن «مونوفيزيت» وبحثت عنها ذلك المساء فوجدت أنها تتعلق بالغيبيات المسيحية. وأن الأقباط يؤمنون أن طبيعة المسيح البشرية قد اندغمت في طبيعته الإلهية، وأن له لذلك طبيعة واحدة أي مونوفيزيت. وأن هذا المعنى هو النقطة الجوهرية في الخلاف بيننا وبين الكاثوليك الذين يعتقدون أن طبيعة المسيح حين كان على الأرض كانت بشرية، وأن طبيعته الإلهية تبدأ من رفعه إلى السماء بعد صلبه.
وكان برناردشو في تلك السنين «الطفل المدلل» في الصحافة والأدب. وكانت دراماته قد بدأت تغزو المسارح وأفكاره تستحيل إلى مذاهب تتشيع لها أو عليها الجماعات المفكرة. وقد غزا برناردشو عصره وأشعل نورا كثيرا ما كان يستحيل إلى نار، حين كان يجد جورا إمبراطوريا أو ظلمات استغراضية أو تعصبية.
وقد كانت لندن حوالي 1910 في ثورة فكرية على التقاليد التي كانت تسود الأمة في العصر الفكتوري أي القرن التاسع عشر. فقد اختمرت في هذا القرن جملة خمائر في الاقتصاد والدين والاجتماع.
Unknown page