Tarbiya Wa Taclim Fi Islam
التربية والتعليم في الإسلام
Genres
ولقد مرت هذه التربية في أدوار أربعة رئيسية اكتملت في الدورين الأولين تماما، وآتت ثمرتها في الدورين الأخيرين.
الدور الأول
أما الدور الأول فهو دور الفترة التاريخية الطويلة التي قضتها الأمة العربية في جزيرتها قبل الإسلام، وقبل أن تتصل اتصالا قويا بالشعوب الأخرى كما حصل فيما بعد الإسلام. فقد قامت لعرب الجزيرة جنوبا في اليمن حضارة قديمة عريقة كما قامت لعرب الشمال حضارة خالدة فاضلة، ولكلتا الحضارتين تاريخ لامع وآثار شاهدة، مما لا مجال لإفاضة الحديث عنه ها هنا. أما سكان وسط الجزيرة في الحجاز ونجد، فقد كانت لهم حضارة أيضا، وكانوا ضاربين بسهم غير قليل في الحياة الراقية التي لا تقل عن حضارة عرب الشمال وعرب الجنوب؛ ففي هذا الإقليم الوسط تقوم الكعبة التي تهوي إليها قلوب العرب أجمعين، والتي هي موضع عزهم، ومن هذا الإقليم أيضا مكة أم القرى ومسكن قريش سيدة القبائل العربية وأعزها سلطانا في الدين والدنيا، وفيه أيضا يثرب أخصب أراضي ذلك الإقليم وأطيبها تربة وأعمرها بقعة، وفيه أيضا الطائف مدينة العلم والنشاط الفكري والتجارة، وفيها أفصح القبائل العربية وأكثرها حكمة، وفيه أجل أسواق الجزيرة العربية: عكاظ، ومجنة، وذي المجاز. وهذا القسم الأوسط من الجزيرة ممتاز عن القسمين الشمالي والجنوبي بأنه عربي بحت، لم تطأه قدم محتل أجنبي ولا تسلط عليه إنسان غير عربي، بخلاف الشمال والجنوب؛ فالحجاز - وما إليه - بلد عربي عريق في عروبته، عريق في استقلاله وسيادته منذ أقدم العصور لمكانه الحصين، وحرمته المقدسة، وصموده أمام النكبات، وما ذلك إلا لمكانة مكة المقدسة وسيطرة قريش العزيزة.
وأترك الحديث عن حضارة العرب في الشمال والجنوب؛ فإن تاريخهم معروف وآثارهم في مجالي التعليم والتربية والتقدم العلمي مبسوطة مقررة، وقد ألفت في أخبارهم كتبا جليلة، وبحثت أحوالهم في دراسات مفصلة، وإنما أريد أن أقف وقفة قصيرة أمام عرب الوسط الذين غمطهم المؤرخون حقهم، وأهملوا البحث عنهم جهلا أو تجاهلا، ولا أريد أن أفصل البحث في تاريخهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ فإن هذا ليس مجال البحث فيه،
1
وإنما أريد أن أبين شيئا عن التقدم العلمي والحياة العقلية الراقية، والتربية النفسية الصحيحة التي كان عليها عرب الوسط في ذلك الحين، وبخاصة قبل ظهور الإسلام.
إن الكتاب الذين بحثوا في تاريخ الحركات العقلية والتربوية عند العرب في الجزيرة قبل الإسلام أهملوا الكلام عن هذا الأمر لاعتقادهم بأن العرب قبل ظهور النبي العربي العظيم لم يكونوا شيئا مذكورا. وهؤلاء الكتاب إما مسلمون أو غير مسلمين. فالمسلمون إنما كتبوا ذلك ليصوروا أن العرب قبل الإسلام كانوا غارقين في الجهالة، فلما جاء الإسلام أنقذهم من جهالتهم، وقاموا بتلك الأعمال الجبارة بفضل الله ناسين أن لله سبحانه قوانين وسننا لا تنقض. وأما غير المسلمين فإنما كتبوا ما كتبوا محتجين بأنه لم يصلنا عن عرب الحجاز ووسط الجزيرة العربية كله أي أثر علمي مكتوب، كما أنه لم تجر حتى الآن دراسات أركيولوجية وأتنوغرافية وفيلولوجية صحيحة تثبت أن عرب الوسط كانت لهم حضارات، وأن ما نقل إلينا عنهم لا يتجاوز شيئا من الشعر والنثر، على ما فيه من منحول ومدسوس، وأن ذلك لا يقوم حجة قوية على وجود حضارة عريقة، ثم إن ما نقله الرواة إلينا من تاريخ ما قبل الإسلام مملوء بالخرافات والأساطير التي لا تعتمد على أساس علمي صحيح.
وكلا هذين الفريقين من الكتاب المسلمين وغير المسلمين مغرض يحاول طمس الحقيقة، إما عن عجز وإما عن جهل؛ فقد كانت للقوم حضارة، وكانت لهم آداب، وكانت لهم أنظمة تربوية، فإن ذلك العمل الجبار الذي قاموا به - بعد الإسلام - ليدل على ما ذهبنا إليه، وتثبت البحوث الأركيولوجية، والدراسات الفيلولوجية والأتنولوجية صدق ما نذهب إليه؛ فيجب على هؤلاء الكتاب أن يتريثوا حتى توجد هذه البحوث فيصدروا أحكامهم بعدئذ.
وأرى الآن قبل أن توجد هذه البحوث والدراسات العلمية الاكتفاء ببعض المصارد والأدلة الثابتة التي لا يأتيها الباطل في دراسة أحوالهم. وفي طليعة هذه المصادر القرآن الكريم؛ فهو خير ما يمكن الاعتماد عليه لتبيين الحياة العقلية قبل البعثة المحمدية، كما أنه لا مانع من أن يستعان بشعر ما قبل الإسلام وما بعده لأنه قوي الارتباط ب «الجاهلية»، معتمد على ثقافتها، قائم بمقوماتها. ونحن إذا درسنا القرآن والشعر دراسة علمية عميقة، نجد أن العقلية العربية قبل الإسلام كانت عقلية راقية ذات ثقافة حسنة، وأنها لم تكن تستحق أصلا أن توصف بالجهالة أو يطلق عليها اسم «الجاهلية»، وأن ناسها كانوا ناسا ضاربين بسهم وافر في الحضارة والعلم والحكمة والمعرفة بصورة عامة، ويمكنني إجمال ذلك في النقاط الآتية:
أولا:
Unknown page