مقدمة
مقدمة في أهداف التربية العربية القومية
تقديم البروفسور رجيس بلاشير للطبعة الفرنسية من الكتاب
تقديم المؤلف للطبعة الفرنسية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الخاتمة
ملحق
مقدمة
مقدمة في أهداف التربية العربية القومية
تقديم البروفسور رجيس بلاشير للطبعة الفرنسية من الكتاب
تقديم المؤلف للطبعة الفرنسية
الفصل الأول
الفصل الثاني
الخاتمة
ملحق
التربية والتعليم في الإسلام
التربية والتعليم في الإسلام
تأليف
محمد أسعد طلس
مقدمة
الحمد لله حق حمده.
والصلاة والسلام على محمد نبيه وعبده.
وبعد، فهذه دراسة كنت أعددتها لإحراز شهادة الدكتوراه من جامعة السربون في باريس، وهي منقسمة إلى قسمين؛ أحدهما في تاريخ التربية والتعليم عند العرب، والثاني في «تاريخ المدرسة النظامية»؛ أول جامعة إسلامية في العالم العربي.
وقد رأيت أن أنشر «القسم الأول» لحاجة خزانتنا العربية إلى هذا النوع من الكتب. وأرجو أن يتاح لي في فرصة قريبة نشر القسم الثاني الخاص بالمدرسة النظامية؛ فيتم بهذين الكتابين تأريخ الحركة الثقافية في الإسلام.
والله سبحانه أرجو أن يوفق العاملين في خدمة الحضارة والقومية العربية إلى إظهار دقائق تاريخ أمتنا الخالدة، ويكشفوا للملأ ما انطوى عليه من عظات وعبر، ودروس وفكر.
دمشق
5 رمضان 1375ه/19 نيسان 1956م
محمد طلس
مقدمة في أهداف التربية العربية القومية
قامت الحضارة الإسلامية بالأمس بأيدي العرب؛ فهي حضارة عربية في جذورها وأصولها، وقد عاون العرب في تكوين تلك الحضارة جماهير متعددة الأعراق متباينة الأجناس منها الآري، ومنها السامي، ومنها المغولي، ولكن الطابع الواضح لذلك المزاج كله هو الطابع العربي بعنصريه الرئيسيين: اللغة والدين؛ فطبيعي إذن أن لا نسمي تلك الحضارة إلا «حضارة عربية».
ويمتد عهد الحضارة العربية من فجر تاريخ الدول المتحضرة في جنوبي الجزيرة العربية وشماليها منذ الألف الثالث قبل الميلاد إلى أيامنا هذه، وقد ظلت أمم الفرس والترك والكرد والروم والمغول والهند والزنج والقوط والبربر، منذ أن دخل فيهم الإسلام إلى ما بعد سقوط الدولة العباسية، وهي تعمل في خدمة ركب الحضارة العربية. ومما لا ريب فيه أنها قد أدت لهذه الحضارة فوائد جليلة في كافة الفروع التي تتكون منها حضارتنا من فلسفة وعلم وتربية وفن وسياسة ... فقد تفانى هؤلاء الأقوام جميعا في تكوين ذلك البناء الرفيع الممتاز.
ولقد زعم شعوبيو الأمس واليوم من أعداء القومية العربية أن نصيب العرب من هذه الحضارة هو جزء يسير جدا، بل هو جزء لا يكاد يذكر بالنسبة إلى ما قام به أبناء الأمم المفتوحة، فإن العرب قبل أن يتصلوا بتلك الأمم المفتوحة كانوا يعيشون في جهالة جهلاء، يأكلون الضباب، ويلبسون خشن الثياب، وأنهم قوم لا أخلاق لهم، ولا دين يردعهم، ولا مبادئ سامية إلى الكمال تحضهم، فلما جاء الإسلام اتبعه قوم فانصلحت أحوالهم، وأسلم له آخرون لم يلبثوا أن ارتدوا عنه بعد وفاة الرسول الكريم، وكانت الردة ردتين؛ إحداهن شكلية رجعوا عنها أيام أبي بكر الصديق، والأخرى حقيقية ظلت بعده، وظهرت آثارها في الفتن والحروب الداخلية العديدة التي قامت بينهم منذ مقتل عمر بن الخطاب إلى أن قضى المغول على ملكهم يوم احتلوا بغداد وقضوا على الملك العربي، ولم يرتفع للعرب منذ ذلك اليوم صوت إلا في أواخر عهد الخلافة العثمانية التركية حين شاخت دولتها، وحين دفعهم بعض أعدائها من الفرنسيين والإنكليز للوثوب عليها، فقام زعيمهم شريف مكة الحسين بن علي الهاشمي بثورته في الحجاز والشام، وكان من أمر هذه الثورة ما كان.
هذا ما يقوله أعداء العروبة وخصوم الإسلام، بل جهال الحقيقة والتاريخ، ولئن كان هؤلاء الضالون قليلين في القديم، أو إنهم كانوا كثرة، ولكنهم لم يكونوا يجرءون على رفع عقائرهم بالأمس خوفا من العرب الأقوياء الأعزة، فإنهم في أيامنا هذه كثيرون.
إن أعداء القومية العربية وخصومها الذين ينتقصون العرب اليوم هم واحد من ثلاثة: إما صهيوني مجرم يكره العرب ويعمل على تثبيت أقدام اليهود في فلسطين، وتوطيد دولة إسرائيل الظالمة التي أخرجت العرب من ديارهم وانتهكت حرماتهم، وداست مقدساتهم وملكت أراضيهم وبيوتهم بالباطل والعدوان؛ وإما عميل خاسر من عملاء الأجانب وجواسيس الاستعمار ممن لهم مصالح استعمارية في ديار العرب، أو ممن يطمعون في السيطرة على جزء من ديارهم ؛ وإما شعوبي ضال ملأ الحقد صدره وران الضلال على قلبه، فأخذ يلصق التهم الباطلة بالعرب وينقب مساوئهم وعيوبهم - وفي كل أمة مساوئ وعيوب - ويعمل على نشرها بين الناس لإيقاع الفتنة وبث الفساد.
هؤلاء هم أعداء القومية العربية اليوم، ولم يكن أعداؤها بالأمس البعيد إلا من هذا النمط؛ فقد كانوا أيضا واحدا من ثلاثة:
إما مجوسي حانق على العرب لقضائهم على دولة الأكاسرة وتحطيمهم لغتهم وهدمهم دينهم، وإحلال العربية والإسلام محلهما.
وإما مغولي أو رومي نفخ الشيطان فيه الغرور، ووسوس في صدره إبليس فزعم له أن هؤلاء العرب الذين احتلوا دياره، وقضوا على مملكته وفرضوا عليه دينهم ولغتهم وتقاليدهم وآدابهم ليسوا خيرا منه، ولا لهم من الماضي والقوة ما له.
وإما عربي ملحد استهواه الكفرة بقوميته، وضحك عليه الهازئون بدينه، فاتبع أهواءهم وضل ضلالهم زاعما أنه حر الفكر واسع النظر، فأخذ يعمل وإياهم على هدم الإسلام والعروبة عن طريق انتقاص قومه والطعن في دينه، وهو يظن أنه يحسن صنعا.
هؤلاء هم شعوبيو الأمس الذين كان يمثلهم الحسن الأصفهاني وأبو الريحان البيروني وابن الراوندي والحسن الصباح والفردوسي، وغيرهم من القدماء الذين مجدوا الشعوبية، وألفوا في انتقاص العرب. وأما شعوبيو اليوم فهم نفر من مؤلفي الغربيين، وعلى رأسهم كثرة من المستشرقين ونفر من كتاب العرب ومحرري بعض الصحف، ورجال السياسة والمعارف، وبعض الشبان الأغرار الذين استهوتهم أباطيل هؤلاء جميعا.
وإنه لمن المؤسف المؤلم أن يكون عددهم بيننا أضحى يزداد يوما بعد يوم لغزو المؤلفات الغربية ديارنا بكثرة، ولانحطاط الأخلاق المستمر وتدهور الوازع الديني، وفشو الرجعية العقلية، وانعدام المناهج التربوية المفيدة التي تعتمد على خلق الروح القومية في الشاب العربي المسلم.
ونحن نرى أن النقطة التي يجب على القوميين العرب الاهتمام بها في هذه الآونة من تاريخنا، للتخلص من ربقة الذل، وطرد المستعمر المسيطر على بعض ديار العروبة من المحيط الأطلسي إلى الخليج الفارسي، بعد الاستعداد العسكري الكامل؛ هي دراسة أسس التربية العربية القومية والإسلامية، وبحثها من جديد للعمل على خلق جيل صالح مؤمن خير من هذا الجيل الحاضر المنحل في علمه ودينه وخلقه، وعلى قواعد علمية متينة.
فما هي هذه الأسس؟ وما هي تلك القواعد؟ وأين يجب البحث عنها للتعرف على أسرار التربية النفسية التي بها قامت الدولة العربية، وعلى مناهجها شيدت الحضارة الإسلامية؟
لقد فكرت في هذا الأمر طويلا، واهتممت بالبحث فيه منذ زمن بعيد، وعنيت بدراسة التربية العربية وقواعدها وأسسها؛ تلك التربية التي ساهمت مساهمة فعالة في بناء الحضارة العربية، والتي تعتبر بحق نقطة تطور هامة في تاريخ التربية في العالم. وقد ألفت في ذلك رسالتي التي قدمتها إلى السربون في فرنسة لنيل شهادة الدكتوراه في سنة 1939م، وأنا منذ ذلك الحين أبحث وأدرس، وأدأب على التنقيب عن المناهج التربوية القويمة التي سار عليها العرب في خلق أطفالهم وتكوين شبانهم، وإنشاء رجالهم وتثقيف بناتهم، حتى استطاعوا أن يخلقوا تلك الحضارة العربية الخالدة.
لقد كتب في هذه الموضوع جمهرة من علمائنا القدامى الأفذاذ، وبحثوا فيه بحوثا مفيدة لا تقل عن بحوثهم في سائر فروع العلم، أمثال: الإمام محمد بن سحفون، والقابسي، وابن العربي، وابن سينا، وابن رشد، والغزالي، وابن خلدون، والعلموي، والزرنوحي، وغيرهم ممن لا مجال للبحث عنهم وعرض بحوثهم هنا.
أما البحاثون المحدثون من أبناء الضاد فلم يؤتوا هذا البحث صفة من العناية، ولم أر حتى الآن أحدا من رجالات العرب وعلمائهم القوميين الصادقين اهتم بهذا الأمر ووفاه ما يستحق من جهد.
وأما البحاثون من المستشرقين، والغربيين بصورة عامة، ممن عنوا بهذه النواحي، فإنهم على قلتهم أصحاب أغراض - في الغالب - يدسون السم في الدسم، ومهما يزعموا من أنهم مخلصون في أبحاثهم، وأنهم يكتبون ما يكتبون بروح علمية خالصة، فإنهم غير صادقين، اللهم إلا نفرا قليلا منهم يعد على أصابع اليد الواحدة.
ثم إن فيما خلف لنا آباؤنا من تراث علمي في بحوث التربية، التي نشر قسم قليل جدا منها، والتي ما يزال أكثرها مخطوطا ينتظر الناشر؛ لنظريات وبحوثا وآراء يجدر بالباحثين درسها ومناقشتها والوقوف عندها طويلا للإفادة منها في توجيه حركاتنا الثقافية والعلمية والتربوية، والاهتداء بنورها في نهضتنا العربية المتوخاة، فإن أمة استطاعت أن تخرج من جزيرتها وتسيطر على العالم المتمدن إذ ذاك، وتفرض عليه لغتها ودينها وقوانينها، وتطبعه بطابعها لأمة جديرة بالبحث. ولا شك في أنه قد كانت لها أساليب ومناهج تربوية صالحة استطاعت بها أن تخلق أجيالا صالحة تبدع ذلك الإبداع الذي خلفته في آثارها في السياسة والتشريع والعلم والفن والعمران.
إن الإمبراطورية التي شادها أسلافنا العرب بحضارتها وآثارها الباقية لم تكن أمرا مرتجلا، ولا أخبارها ملفقة مكذوبة، بل هي حقائق ثابتة تتبعت سنن النشوء والارتقاء، وسار عليها العرب متدرجين منذ أقصى عصور التاريخ حتى وصلوا إليها في فجر الإسلام، وإن تلك النهضة التي ظهرت يوم قيام الرسول الكريم كانت نتيجة طبيعية لحركات حضارية سابقة، ونتيجة لمقدمات حضارية متسقة تعتمد على التربية والأسس العلمية التي تدرج عليها العرب في دولهم قبل الإسلام. فلما جاء الإسلام اشتد ساعدها، واكتملت مقوماتها فوزعوها على العالم، وفرضوها على سكان إمبراطوريتهم المترامية الأطراف، فقبلها سكان تلك الديار طواعية لما اعتنقوا الدين الجديد، فما هي تلك التربية؟ وما هي أسسها؟ وما هي الأدوار الرئيسية التي مرت بها؟
إن تلك التربية التي قامت بها حضارتنا العربية هي تربية كانت تعتمد على المواطن المتعلم المؤمن القوي المهذب المضحي. أما أسسها فثلاثة، وهي: التعاون، والحرية، والمساواة.
ولقد مرت هذه التربية في أدوار أربعة رئيسية اكتملت في الدورين الأولين تماما، وآتت ثمرتها في الدورين الأخيرين.
الدور الأول
أما الدور الأول فهو دور الفترة التاريخية الطويلة التي قضتها الأمة العربية في جزيرتها قبل الإسلام، وقبل أن تتصل اتصالا قويا بالشعوب الأخرى كما حصل فيما بعد الإسلام. فقد قامت لعرب الجزيرة جنوبا في اليمن حضارة قديمة عريقة كما قامت لعرب الشمال حضارة خالدة فاضلة، ولكلتا الحضارتين تاريخ لامع وآثار شاهدة، مما لا مجال لإفاضة الحديث عنه ها هنا. أما سكان وسط الجزيرة في الحجاز ونجد، فقد كانت لهم حضارة أيضا، وكانوا ضاربين بسهم غير قليل في الحياة الراقية التي لا تقل عن حضارة عرب الشمال وعرب الجنوب؛ ففي هذا الإقليم الوسط تقوم الكعبة التي تهوي إليها قلوب العرب أجمعين، والتي هي موضع عزهم، ومن هذا الإقليم أيضا مكة أم القرى ومسكن قريش سيدة القبائل العربية وأعزها سلطانا في الدين والدنيا، وفيه أيضا يثرب أخصب أراضي ذلك الإقليم وأطيبها تربة وأعمرها بقعة، وفيه أيضا الطائف مدينة العلم والنشاط الفكري والتجارة، وفيها أفصح القبائل العربية وأكثرها حكمة، وفيه أجل أسواق الجزيرة العربية: عكاظ، ومجنة، وذي المجاز. وهذا القسم الأوسط من الجزيرة ممتاز عن القسمين الشمالي والجنوبي بأنه عربي بحت، لم تطأه قدم محتل أجنبي ولا تسلط عليه إنسان غير عربي، بخلاف الشمال والجنوب؛ فالحجاز - وما إليه - بلد عربي عريق في عروبته، عريق في استقلاله وسيادته منذ أقدم العصور لمكانه الحصين، وحرمته المقدسة، وصموده أمام النكبات، وما ذلك إلا لمكانة مكة المقدسة وسيطرة قريش العزيزة.
وأترك الحديث عن حضارة العرب في الشمال والجنوب؛ فإن تاريخهم معروف وآثارهم في مجالي التعليم والتربية والتقدم العلمي مبسوطة مقررة، وقد ألفت في أخبارهم كتبا جليلة، وبحثت أحوالهم في دراسات مفصلة، وإنما أريد أن أقف وقفة قصيرة أمام عرب الوسط الذين غمطهم المؤرخون حقهم، وأهملوا البحث عنهم جهلا أو تجاهلا، ولا أريد أن أفصل البحث في تاريخهم السياسي والاجتماعي والاقتصادي؛ فإن هذا ليس مجال البحث فيه،
1
وإنما أريد أن أبين شيئا عن التقدم العلمي والحياة العقلية الراقية، والتربية النفسية الصحيحة التي كان عليها عرب الوسط في ذلك الحين، وبخاصة قبل ظهور الإسلام.
إن الكتاب الذين بحثوا في تاريخ الحركات العقلية والتربوية عند العرب في الجزيرة قبل الإسلام أهملوا الكلام عن هذا الأمر لاعتقادهم بأن العرب قبل ظهور النبي العربي العظيم لم يكونوا شيئا مذكورا. وهؤلاء الكتاب إما مسلمون أو غير مسلمين. فالمسلمون إنما كتبوا ذلك ليصوروا أن العرب قبل الإسلام كانوا غارقين في الجهالة، فلما جاء الإسلام أنقذهم من جهالتهم، وقاموا بتلك الأعمال الجبارة بفضل الله ناسين أن لله سبحانه قوانين وسننا لا تنقض. وأما غير المسلمين فإنما كتبوا ما كتبوا محتجين بأنه لم يصلنا عن عرب الحجاز ووسط الجزيرة العربية كله أي أثر علمي مكتوب، كما أنه لم تجر حتى الآن دراسات أركيولوجية وأتنوغرافية وفيلولوجية صحيحة تثبت أن عرب الوسط كانت لهم حضارات، وأن ما نقل إلينا عنهم لا يتجاوز شيئا من الشعر والنثر، على ما فيه من منحول ومدسوس، وأن ذلك لا يقوم حجة قوية على وجود حضارة عريقة، ثم إن ما نقله الرواة إلينا من تاريخ ما قبل الإسلام مملوء بالخرافات والأساطير التي لا تعتمد على أساس علمي صحيح.
وكلا هذين الفريقين من الكتاب المسلمين وغير المسلمين مغرض يحاول طمس الحقيقة، إما عن عجز وإما عن جهل؛ فقد كانت للقوم حضارة، وكانت لهم آداب، وكانت لهم أنظمة تربوية، فإن ذلك العمل الجبار الذي قاموا به - بعد الإسلام - ليدل على ما ذهبنا إليه، وتثبت البحوث الأركيولوجية، والدراسات الفيلولوجية والأتنولوجية صدق ما نذهب إليه؛ فيجب على هؤلاء الكتاب أن يتريثوا حتى توجد هذه البحوث فيصدروا أحكامهم بعدئذ.
وأرى الآن قبل أن توجد هذه البحوث والدراسات العلمية الاكتفاء ببعض المصارد والأدلة الثابتة التي لا يأتيها الباطل في دراسة أحوالهم. وفي طليعة هذه المصادر القرآن الكريم؛ فهو خير ما يمكن الاعتماد عليه لتبيين الحياة العقلية قبل البعثة المحمدية، كما أنه لا مانع من أن يستعان بشعر ما قبل الإسلام وما بعده لأنه قوي الارتباط ب «الجاهلية»، معتمد على ثقافتها، قائم بمقوماتها. ونحن إذا درسنا القرآن والشعر دراسة علمية عميقة، نجد أن العقلية العربية قبل الإسلام كانت عقلية راقية ذات ثقافة حسنة، وأنها لم تكن تستحق أصلا أن توصف بالجهالة أو يطلق عليها اسم «الجاهلية»، وأن ناسها كانوا ناسا ضاربين بسهم وافر في الحضارة والعلم والحكمة والمعرفة بصورة عامة، ويمكنني إجمال ذلك في النقاط الآتية:
أولا:
نظراتهم إلى الألوهية وما يتعلق بها؛ فإنهم كانوا قوما مؤمنين بإله واحد قاهر نافع ضار، ولكنهم كانوا يشركون به، كما كان يشرك السومريون والمصريون واليونان والآشوريون فيعبدون آلهة متعددين شاركوا الإله الأعظم في ألوهيته. وقد اختلف العرب في هؤلاء الشركاء اختلاف تلك الأمم، فبعضهم جعل شركاءه الملائكة، وبعضهم جعلهم الشياطين والمردة، وبعضهم جعلهم الشمس والقمر والكواكب، وبعضهم جعلهم الأصنام والتماثيل. ولم يكن العرب متساوين في شركهم؛ فقد كان للعقلاء والخاصة اعتقاد يخالف اعتقاد العامة والبدو؛ فالأولون كانوا يعتقدون بأن الله هو المعبود وأن شركاءه ليسوا إلا وسائط بينهم وبينه، والعامة يعتقدون غير ذلك.
ومهما يكن من أمر فإنهم لم يكونوا غارقين في جهالة وحمق وضلالة من حيث نظرتهم إلى الخالق الأعظم، وهذا يدل على سموهم الفكري وتقدمهم في بحث فكرة الألوهية.
ثانيا:
تفوقهم اللغوي العجيب؛ فإن من يدرس لغتهم بنحوها وصرفها واشتقاقاتها وعروضها وفنونها البلاغية، يرى أنهم قد بلغوا درجة رفيعة في الرقي اللغوي. وكلنا يعرف أن اللغة العربية هي إحدى اللغات التي سموها «سامية»، وأنه على الرغم من أن هذه اللغات كلها قد تولدت من أم واحدة في عصور متباعدة، فإنها تختلف اختلافا كبيرا فيما بينها، كما تختلف رقيا وفصاحة، ولا ريب في أن أخصها وأرقاها هي اللغة العربية كما تشهد بذلك أبحاث العلماء اللسانيين.
ثم إن أقدم النصوص العربية الفصيحة التي عثر عليها ترجع إلى فترة تمتد من القرن الثالث إلى القرن الخامس للميلاد، وهذه النصوص هي الشعر «الجاهلي»، والحكم «الجاهلية». ولكن من يدقق في هذه النصوص يجدها كاملة مهذبة، ذات نحو متسق، وصرف منتظم، وقواعد عروضية وبيانية وشعرية راقية؛ فلا شك إذن في أن العربية قد مرت قبل ذلك بأدوار وأطوار حتى بلغت هذا الكمال والاتساق في القرن الثالث الميلادي، ولا شك أيضا في أن هذا الكمال والرقي اللغوي والأدبي دليل على الرقي العقلي والثقافي.
ثالثا:
رقي مستواهم العلمي والأدبي، وعدم صحة النظرية الشائعة القائلة بأنهم كانوا أمة أمية منحطة، وأنهم جماعات بداة حفاة، وأقوام قساة عتاة، يعيشون في الصحراء أو شبه الصحراء، وأنهم قوم لا حضارة لهم، ولا مدنية عندهم، وأن غاية ما لهم من المعرفة هو بعض الأقوال المنظومة أو المنثورة التي صقلت بعد الإسلام وكثير منها منحول مدسوس، وأن الجهل والأمية كانا متفشيين بينهم، وأن الإسلام لما جاء لم يكن بينهم في مكة - وهي عاصمتهم الكبرى - إلا سبعة عشر كاتبا، وأن اليمن كلها لم يكن فيها كاتب واحد.
2
وهذه الأقوال على الرغم من تناقضها وتهافتها لا تستند إلى حقيقة علمية، ولا تثبت أمام المناقشة المنطقية؛ فلا يعقل أصلا أن يكون في العرب فصحاء وخطباء وشعراء إذا لم يكن فيهم عدد كبير من الكتاب المثقفين ذوي المستوى العلمي الحسن، والتفكير المنطقي المعقول، والذوق الفني الراقي. ثم إن القول بأميتهم قول خاطئ لا ينطبق على الواقع وتنقضه نصوص موثقة قديمة وأدلة علمية حديثة. أما النصوص القديمة فأجلها القرآن؛ فإن ما فيه من الآيات الكثيرة التي تذكر الكتاب والكتابة، وأدوات الكتابة، والصحف والسجل، والمداد، والقلم، وما إلى ذلك مما يتعلق بالخط والأقلام لدليل على ما نقول، حتى إن الأستاذ الفاضل عزة دروزة قد أحصى كلمات الكتابة ومشتقاتها في القرآن فوجدها تسعين كلمة ونيفا بأساليب متنوعة. وقد علق على هذا الإحصاء بقوله: «فورود هذه الآيات الكثيرة في القرآن تحتوي أسماء وسائل وأدوات الكتابة والقراءة، وتحتفي بالقراءة والكتابة هذه الحفاوة الكبيرة دليل راهن على أن العرب في بيئة النبي وعصره قد عرفوا تلك الوسائل واستعملوها، وعلى أن القراءة والكتابة فيهم كانتا منتشرتين في نطاق غير ضيق ...»
3
وأما الأدلة العلمية الحديثة، فقد بحثها مطولا المستشرق الإيطالي الأمير كايتاني في الفصل الرائع الذي كتبه عن نشأة الخط العربي، وأثبت فيه بالأدلة العلمية المادية والاكتشافات النقشية والوثائق الخطية التي عثر عليها في الشام والجزيرة العربية؛ أن الخط العربي قديم الوضع، وأن الكتابة العربية كانت ذائعة في الجزيرة ومشارف الشام قبل البعثة النبوية. ثم إن كثرة وجود أهل الكتاب في الحجاز ومشارف الشام من يهود ونصارى وصلتهم القوية بالعرب لتجعل العرب من متهودين ومتنصرين يفيدون من إخوانهم في الدين أو جيرانهم في الدار فيتعلمون الكتابة والقراءة، حتى كتابة غير العربية وقراءتها من سريانية وعبرانية وكلدانية. وقصة أمر النبي
صلى الله عليه وسلم
لكاتبه زيد بن ثابت أن يتعلم العبرانية كما روى البخاري، قصة معروفة معقولة تدل على ما ذهبنا إليه ... فهذا كله يدل على خطأ النظرية القائلة بأمية العرب وأن كتاب مكة - وهي أكبر مدنهم - لم يكونوا يتجاوزون عدد الأصابع.
ثم إنه لا شك عندي في أن الكتاتيب ودور التعليم كانت معروفة في الجاهلية؛ فالمؤرخون يؤكدون أن يوسف الثقفي أبا الحجاج كان يعلم في كتاب له بالطائف، وأن أبا قيس بن عبد مناف بن زهرة، وأبا سفيان بن أمية بن عبد شمس قد علمهما بشر بن عبد الملك العبادي فكانا؛ يعلمان أهل مكة. ولا شك في أن هؤلاء المعلمين في الجاهلية لم يكونوا وحدهم يقومون بذلك العمل الثقافي، بل كان هناك معلمون آخرون.
وينقل السيد عبد الحي الكتاني عن الماوردي في «أدب الدنيا والدين» عن ابن قتيبة أن العرب كانت تعظم أمر الخط وتعده أجل نافع، حتى قال عكرمة: «بلغ فداء أهل مكة أربعة آلاف حتى إن الرجل ليفادى على أنه يعلم الخط، لما هو مستقر في نفوسهم من عظيم خطره وظهور نفعه. وقال الله لنبيه:
اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم ، فوصف نفسه بأنه علم بالقلم كما وصف نفسه بالكرم، وعد ذلك من نعمه العظام وآياته الجسام حتى أقسم به في كتابه فقال:
ن والقلم
فأقسم بالقلم وما يخط بالقلم، وهذا يبطل ما قاله ابن خلدون عن جهلهم بالخط، فإن عكرمة كان يتكلم عن مشاهدة وابن خلدون قال ما قال عن تخمين ...»
4
هذا ما قاله الكتاني، وهو في قوله يشير إلى ما قاله ابن خلدون في المقدمة من أن الخط والكتابة من عداد الصنائع الإنسانية، وأن العرب كانوا بعيدين عنها لأنهم كانوا بداة بعيدين عن الحضارة غير مجيدين لها، شأن الصنائع إذا وقعت بالبدو قلما تكون محكمة المذاهب ولا مائلة إلى الإتقان والتنميق،
5
إلى آخر ذلك الكلام الطويل الغريب المبني على التخمين والزعم، البعيد عن البحث العلمي الصحيح.
هذا وقد كان للنبي
صلى الله عليه وسلم
كتاب بلغ عددهم ما ينيف على الأربعين،
6
وكان أكثرهم من الشبان والمدنيين ، ولا شك في أنهم قد تعلموا الخط والقراءة وما إليهما في بعض كتاتيب المدينة ومكة قبل الإسلام. ثم إن الكتاتيب كانت معروفة بكثرة في الشام ومصر وفارس والعراق قبل الإسلام، فلا غرابة إذا نقل القرشيون ذلك عنهم في رحلاتهم التجارية، كما أن الجوالي النصرانية واليهودية في الجزيرة قد كانت تعلم أبناءها في المدارس أو الكتاتيب أو الكنائس أو الأديرة، وليس بعيدا أن يكون جيرانهم قد أفادوا ذلك منهم.
أما ما كان يتعلمه الأطفال العرب في تلك المدارس والكتاتيب، فهو في ظننا أشياء كثيرة، منها ما يأتي: (1)
معرفة أخبار الماضين من العرب وأحوالهم؛ فإن في القرآن إشارات إلى أن العرب كانوا يعرفون شيئا كثيرا عن قصص الأنبياء العرب وغيرهم كما هو مفصل في القرآن. (2)
أخبار حروبهم وأيامهم وقصصهم وأنسابهم. وقد كثر في عرب الجاهلية علماء النسب والإخباريون ولم تخل قبيلة أو عمارة أو فخذ أو بطن من نسابين وإخباريين. (3)
معلومات جغرافية عامة عن الكون والبلدان المحيطة بهم وأقاليمها؛ فقد أفادوا من رحلاتهم التجارية وسفراتهم البحرية والبرية فوائد جليلة، وكان لأهل الحجاز والبحرين ونجد رحلات مفيدة. ويدل سفر نفر من المسلمين الأولين إلى الحبشة على أنه قد كانت للقوم معلومات عن تلك الأصقاع، كما كانت عندهم معلومات عن بلاد النوبة وفارس ومصر والجزائر المحيطة بديارهم. (4)
معلومات فلكية وطبيعية. وقد أطنب البلدانيون العرب والمسلمون في معرفة أهل «الجاهلية» بالنجوم ومنازل الشمس والقمر والأفلاك وحركاتها والاهتداء بها في البر والبحر، كما ذكروا أنهم كانوا ملمين بالأحوال الجوية والطبيعية لديارهم، وفي شعر ما قبل الإسلام وبعده كثير من النصوص التي تدل على هذا، ولا شك في أنهم أفادوا معلومات كثيرة من جيرانهم الصابئين والكلدانيين. (5)
معرفة جيدة بالطب والبيطرة والصيدلة والبيزرة وما إلي ذلك. وقد اهتدوا إلى كثير من هذا بتجاربهم الخاصة، كما أفادوا كثيرا من خبرة جيرانهم الكلدانيين فيه. والطب العربي القديم طب ذو شقين: شق يعتمد على العقاقير والنباتات والمداواة المادية من كي وجراحة وفصد وبتر وشق، وقد كان لهم في هذا النوع من الطب فضل وعلم وافر. وشق يعتمد على الرقى والتعاويذ والتمائم والسحر، وليس في هذا النوع علم ذو شأن أو خطر. ومن مشهوري أطبائهم حكيم العرب لقمان، وابن حزيم، والحارث بن كلدة الثقفي الفيلسوف، والعاص بن وائل السهمي، وكان بارعا أيضا بعلم الحيوان ... وغيرهم. (6)
علم الآداب من نثر وشعر، وأمرهم في هذا أشهر من أن نبحث عنه ها هنا. (7)
بحوث في الكهانة والعرافة والفراسة والريافة وما إلى ذلك، وقد تواترت عنهم في هذا معلومات طريفة مفيدة اختلط فيها الباطل بالفاضل، مما لا مجال للبحث عنه هنا، ولكنه على أية حال يحتوي على كثير من المعلومات العملية المفيدة. (8)
إلمامات واطلاع على شيء من أحوال اللغات الأجنبية من كلدانية وسريانية وعبرانية ورومية وحبشية وفارسية. فأغلب ظني أن نفرا من أهل مكة والمدينة والطائف وخيبر كانوا يتقنون بعض هذه اللغات، وأنهم كانوا يثقفون بها أذهان أبنائهم، وخصوصا من كان يطمع منهم في أن يجعل ابنه تاجرا يزور ديار تلك اللغات أو متدينا بديانة اليهود والنصارى يريد أن يتعمق في دراستها. ثم إن كثيرا من مفردات تلك اللغات قد غزت اللغة العربية منذ أقدم العصور، وجاء بعضه في القرآن والشعر القديم؛ فلا شك إذن في أن هذه اللغات كانت معروفة بينهم، فاشية أو شبه فاشية في محيطهم.
هذا - فيما نظن - نمط مما كان يعرفه العرب في «جاهليتهم»، وهو دال دلالة قاطعة على أن القوم قبل ظهور الإسلام كانوا أمة مثقفة لها علم ولها اطلاع على كثير من مقومات الحضارة، كما كانت لهم معرفة بقواعد التربية والتعليم ومؤسسات خاصة بالتربية والتعليم. وإنهم في الدور الأول من هذه الأدوار التاريخية الأربعة كانوا أصحاب علم ورجال فكر، فلما جاء الإسلام في الدور الثاني جاء ليتمم ما كان عندهم ويكمل لهم العدة لتثقيف العالمين ونشر دين الله في الخافقين. فلننتقل إلى الدور الثاني لنرى آثار الإسلام في تطوير النفس العربية وفي صقلها وتهيئتها للرسالة الملقاة على عاتقها، ولنتعرف إلى تلك المبادئ التربوية التي جاء بها الرسول العربي محمد الأمين
صلى الله عليه وسلم .
الدور الثاني
هو دور ظهور الرسول العربي بالدعوة الإسلامية. وقد رأينا في الدور الأول أن الأمة العربية كانت منقسمة في ثلاثة أقاليم؛ في الشمال والوسط والجنوب، وأنه قد كان في كل إقليم من تلك الأقاليم أسس خاصة بالتربية وما إليها من ركائز الحضارة وأعمدة العمران، ولكنها كانت متفرقة لا رابط قويا بين أجزائها، فلما أن جاء الرسول عمل على توحيد الأمة في ميادين السياسة، بل في كل شيء، وكان عمله حاسما وسريعا جدا، والسبب في ذلك أن القوم - كما رأينا - كانوا مزودين بما يجب لهذه الوحدة؛ فتحمسوا للدعوة الجديدة، وتوحدوا بسرعة بنعمة الله وفضله؛ فصاروا أمة موحدة، ذات مبادئ واحدة وأهداف مشتركة ورسالة خالدة تشعر بوجوب تأديتها، وصار الفرد العربي الذي كان يعتز بقبيلته وأفقها المحدود واسع الآفاق، كبير الآمال يتلو قول الله في القرآن:
ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، فيرى أن من واجبه الديني أن يعمل بكل قواه على الدعوة في سبيل الله، وعلى بسط رسالة السماء في العالمين؛ تلك الرسالة المقدسة التي اختار الله لها محمدا وصحابته الأبرار فصارت الدعوة هجيراه، وصار نشر الإسلام ديدنه، ووجب عليه الجهاد بالسيف والقلم واللسان، وبذل النفس والنفيس، والتضحية بالأرواح والمهج حتى تصبح كلمة الله هي العليا وكلمة الذين خالفوا دينه هي السفلى. ولم يكن لدى العربي شيء من ذلك قبل الدعوة المحمدية، وهكذا تبدلت النفس العربية الهادئة المستكنة بوحي السماء إلى نفس ثائرة متحررة تجد وتدأب، وكان طبيعيا بعد هذا كله أن يربى الجيل الجديد المسلم تربية جديدة صالحة ملائمة للدعوة الجديدة، فوضع النبي أسس تلك التربية معتمدا على ما لقومه من مواهب وما رآه فيهم من استعداد؛ فاهتم أول الأمر اهتماما كليا بالأطفال، وكان يرفق بهم ويداعبهم ويوصي بهم آباءهم وأمهاتهم ويعمل وسعه على تعليمهم وتهذيبهم؛ فإنهم فلذات الأكباد، ورياحين الآباء والأجداد، وإنهم عدة الغد وأمل المستقبل.
فكيف لا تهتم الأمة بهم؟! وكيف لا يعنون بتعليمهم وتزويدهم منذ نعومة أظفارهم بفاضل الأخلاق ونبيل المزايا وشريف العلم؟! وكيف لا يفادى الأسرى من مثقفي قريش بتعليم أطفال المسلمين القراءة والكتابة؟! وقد حفظت لنا كتب السنة النبوية طرفا جليلا من الأحاديث المتعلقة بتأديب الأطفال، وألف في ذلك جماعة من مربينا القدامى أمثال محمد بن سجفون، والقابسي، والغزالي، وابن جماعة، والعلموي، وغيرهم ممن سنعرض بعد إلى دراسة كتبهم، ثم إنه
صلى الله عليه وسلم
اهتم بالشبان والشابات فأحسن توجيههم حتى خلق منهم رجالا ونساء مؤمنين برسالته متفادين في نصرته ونشر دعوته، واثقين من نصر الله للمؤمنين الصادقين، شاعرين بثقل العبء الملقى على عاتقهم، والرسالة الخطيرة التي حملها رسول الله إلى الأمة العربية، فشمروا عن سواعد الجد والنشاط، وتطلعوا إلى الآفاق البعيدة، وانزوت لهم الدنيا من أقصاها إلى أقصاها، واعتقدوا أن لغة الضاد يجب أن تعم الأرض، وأن دين محمد يجب أن يسيطر على الخافقين؛ فعملوا بكل قواهم في سبيل تحقيق ذلك، وكان لهم في أقل من نصف قرن ما أرادوا، ولم يكد يمضي عهد الرسول الكريم حتى كانت تلك االنفوس قد تربت تربية جديدة، واعتنقت مبادئ الإسلام وأفادت منها، فخلقت ذلك الفاتح العربي الذي قال بعد أن بلغ الأطلانتك: والله لو علمت أن وراءك يابسة لخضت البحر إليها في سبيل الله.
هكذا ربى محمد قومه وصحابته، وبهذا زودهم لنشر دينه ولغته، وعلى تلك الأسس القويمة ربى أطفالهم وهذب بناتهم ... فلننتقل بعد إلى الدور الثالث الذي قام به خلفاؤه من الصحابة والتابعين، لنرى كيف نشئ ذلك الوليد المحمدي، وكيف اشتد ساعده.
الدور الثالث
هو دور انتشار الإسلام خارج الجزيرة العربية في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين؛ فقد استولى الإسلام في عهدهم على ديار الشام والعراق وآسية الصغرى ومصر وشمالي إفريقية والأندلس غربا، كما امتد إلى إيران والأفغان والسند والتركستان حتى بلغ حدود الصين شرقا، ولم يبق من العالم المتمدن القديم إلا جزء صغير بالنسبة إلى ما استولوا عليه.
وهكذا تكونت المملكة الإسلامية فضمت أخصب بلاد العالم القديم وأرسخها قدما في الحضارة والعلم. وقد كان لسياسة الأمويين العربية الحكيمة الرشيدة تأثير كبير على طبع هذه المملكة بالطابع العربي؛ فخضعت الشعوب المفتوحة التي اعتنقت الدين الإسلامي لسلطان العرب الأدبي والخلقي، وتعشقت اللغة العربية وآدابها، إلا نفرا قليلا من الشعوبيين والملاحدة واليهود الذين يكرهون العرب على الرغم من إحسانهم إليهم وتخليصهم إياهم من ظلم الرومان وقسوة الفرس، وحمايتهم من ملوكهم وقادتهم العتاة، ولكنهم نسوا ذلك، وما إن رأوا العرب المساميح وقد تركوهم وشأنهم حتى أخذوا يكيدون لهم كل كيد، محاولين القضاء على الأمة العربية وتمزيق أوصالها، وتشتيت الملك العربي الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، ناسين فضله عليهم، ولكن القافلة العربية سارت قدما إلى الأمام فلم تحفل بهم، ولم يكد يمضي الشطر الأول من العهد الأموي بعد أيام معاوية ومروان وابنه عبد الملك حتى توطدت أركان الدولة في ميادين السياسة والحرب، وشرعت في تنظيم حقول العلم والدرس، وترتيب أسس الحضارة، ونشر ألوية العلم والعرفان والصناعة والفنون، مستفيدين من حضارات الشعوب المفتوحة، مختارين منها ما يلائم دينهم وذوقهم وعرفهم، مضيفين ذلك إلى تراثهم التربوي والتهذيبي الذي ورثوه عن آبائهم ومربيهم وسادتهم وقادتهم قبل الإسلام وبعده؛ فتكون من ذلك كله مزاج عربي مستقيم الخطوط، واضح القسمات، عليه الطابع العربي الإسلامي، والنزعة القومية العربية، وهكذا مهد عهد الراشدين والأمويين للعباسين في الدور الرابع.
الدور الرابع
جاء هذا الدور مع العصر العباسي؛ ذلك العصر الذي تغلغلت النفس العربية فيه إلى الثقافات القديمة والحضارات العتيقة القويمة التي حل العرب في ديار أهلها، فانتقوا منها ما أرادوا ومزجوا به علمهم وأدبهم وحضارتهم؛ فأنتج «الحضارة العباسية» الزاهرة. وقد لعبت دولة العباسيين والدول المتعددة التي تولدت عنها - أو عاشت في كنفها في المشرق والمغرب الإسلاميين - دورا خطيرا في تاريخ الحضارة العالمية؛ فقد وجد العباسيون، ومن اعتمدوا عليهم من كبار رجالات دولتهم، أن الدولة الإسلامية كانت قد توطدت أقدامها سياسيا وعسكريا في العصر الراشدي والأموي، فيجب أن تتوطد ثقافيا وعلميا وحضاريا في هذا العصر؛ فانصرفوا إلى ذلك وإلى تهيئة أسبابه. وها هنا لا بد لنا من إشارة إلى فكرة خاطئة يزعمها بعض المؤرخين، وهي أن الدولة العباسية دولة فارسية النجار، أعجمية المحتد، مجوسية التقاليد، عربية المظهر، وأنها كانت بعيدة عن روح التربية العربية، قصية عن التقاليد الراشدية والأموية. بل ذهب بعض العلماء كالمسعودي والجاحظ - غفر الله لهما - إلى أن دولة بني العباس كانت دولة أعجمية ... فهذا قول خاطئ؛ لأن الواقع يخالفه والحوادث التاريخية تناقضه؛ فإن الخلفاء العباسيين وإن تأثروا ببعض المظاهر الدولية الفارسية - وقد تأثر الأمويون قبلهم ببعض المظاهر الدولية الرومية بل والعباسية - فإنهم لم يجتازوا حدود القومية العربية، ولم يتخطوا أساليب التربية الإسلامية، بل كانوا جد متعصبين لها. ولقد وقف السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد والأمين وقفات مضريات أمام التيار القومي الأعجمي، حتى قضوا عليه.
ثم إن نواحي التربية والتعليم في هذا الدور ظلت هي هي كما كانت في الدور السابق ولم يصبها أي تغيير، اللهم إلا ما تقضي به سنة النشوء والارتقاء من الإفادة من العلوم الجديدة والدروس المفيدة، التي نشطت في البيئة العباسية نشاطا عجيبا بفضل الخلفاء والأمراء العباسيين. ولقد ساهم العرب والأعاجم على السواء في هذا النشاط؛ فقد كان لهذه المساهمة المشتركة أثر حميد أفاد منه العلم، وتطورت به التربية العربية تطورات محسوسة. كما كان لهذا الأمر أثر آخر مفيد في تماسك أجزاء الأمة العربية الإسلامية روحيا بعد انقسامها سياسيا حين ضعفت الدولة العباسية في أواخر القرن الثالث وأوائل القرن الرابع، فأخذت بعض الأقاليم تنفصل عن الدولة الأم، ولكن هذا الانفصال لم يكن إلا انفصالا سياسيا، فإن كل هذه الدول التي انسلخت عن الجسم العباسي من سامانية وصفارية وحمدانية وطولونية وبويهية وسلجوقية ... كانت كلها ذات طابع واحد هو الطابع العربي-الإسلامي، وكانت الحياة العقلية والمذاهب التربوية في كل هاتيك الدول واحدة متسقة تمام الاتساق، وكان العالم أو المربي العربي في أية بقعة من بقاع العالم العربي يجوب الديار فيحاضر ويدرس ويناقش ويناظر، وهو بين قوم يفهمونه ويفهمهم تمام الفهم، ولا فرق أصلا بين الكاشغري والطنجي والبغدادي والقرطجي والمعري والقيرواني والمصري والطاشقندي والحلبي والبخاري ... فالكل يدورون في فلك واحد ويسيرون إلى هدف واحد، ويدرسون برنامجا تعليميا واحدا، ويتربون تربية علمية مشتركة لها طابع خاص وقواعد متسقة، وربما اختلفت الصور والأشكال والهيئات والأساليب، أما حقائق الأمور وطبائع الأشياء فثابتة متحدة. وقد استمر هذا النشاط العلمي ذو المذاهب التربوية الموحدة والأغراض الثقافية المتحدة في دار الإسلام من أقصى المشرق الإسلامي إلى أقصى المغرب الإسلامي، وكان أهله ينتجون إنتاجا علميا مفيدا ذا خطر في كافة نواحي العلم من دين وأدب وطب وكيمياء وفلسفة ورياضيات، وكانوا يكتبون كل ذلك بلغة القرآن وبأدب العرب إلى أواخر القرن السابع للهجرة؛ أي إلى ما بعد القضاء على الدولة العباسية في بغداد. فلما قضي عليها اضمحل أمر العرب وذهبت ريحهم، ولم يبق لهم أثر ذو شأن كبير في العلم والفلسفة والعمران والفن، وخلق من بعد العباسيين خلق أضاعوا مجد العرب، ولم تقم لهم قائمة ذات خطر إلا في عصر النهضة واليقظة العربية. فعليهم إذا ما أرادوا أن تكون نهضتهم اليوم نهضة صحيحة سالمة من كل زيف أن يعمدوا - بعد الاستعداد العسكري - إلى الاستعداد التربوي الصحيح الذي يخلق من الأطفال رجالا ومن البنات نساء ذوات مواهب وكفايات، وأن ينشئوا شبابا وشابات أحرارا متعاونين مؤمنين بالمساواة، مخلصين لأمتهم، عاملين في سبيل قوميتهم، معتمدين على أسس التربية الثلاثة التي قامت بها حضارتهم بالأمس، وهي: التعاون، والحرية، والمساواة.
فالجيل الذي لا يتعاون أهله فيشعرون كأنهم بنيان واحد لا مصلحة للفرد منه إلا ضمن مصلحة الجميع؛ جيل لا خير فيه. والجيل الذي لا يحتقر العبودية للأجنبي ويتعشق الحرية في كافة ضروب الحياة من سياسية واقتصادية واجتماعية؛ هو جيل مهدم للوطن. والجيل الذي لا يؤمن أبناؤه بروح المساواة، وأنه لا فرق بين مواطن ومواطن أصلا، ولا مزية لأحد على أحد إلا بالعلم والمعرفة؛ هو جيل ضار لا خير فيه للوطن.
أما بعد، فإن القومية العربية ليست إلا فكرة طاهرة نقية نبيلة سامية، ترمي إلى التوحيد بين جماعات تربط بينهم روابط الإقليم واللغة والتاريخ والعادات، وتهدف إلى غرض سام هو تعاون تلك الجماعات على خلق حضارة مفيدة، وأداء رسالة رشيدة، مطبوعة بطابع تلك الجماعات.
والقومية العربية وحضارتها - كما رأينا - لا تهدف إلا إلى هذا الغرض السامي، فكيف يسوغ للبعض من أبنائها مهاجمتها زاعمين أن ثمة فكرة أنبل منها تدعو إلى غرض أسمى من غرضها؟
تقديم البروفسور رجيس بلاشير للطبعة الفرنسية من الكتاب
كانت الخلافة العباسية في بغداد في عهدها الأول واقفة نفسها على محاربة الفرق والمذاهب المخالفة لها؛ فلم يتح لهذه الفرق أن تتقوى أو أن تقوم بأي عمل حازم إلى أواخر القرن التاسع للميلاد/الثالث للهجرة، ما خلا فترة قصيرة في عهد المأمون؛ فإن العلويين استطاعوا أن يبرزوا ويكتب لهم بعض النصر. ولكن لما أطل القرن العاشر/القرن الرابع للهجرة برز كثير من هذه الفرق بقوة وخطر، وكان أبرزها وأجلها شأنا فرقة القرامطة التي تمت في أصل نشأتها إلى المذهب العلوي؛ فقد استطاع هؤلاء القرامطة بأهدافهم السياسية والدينية أن يتغلغلوا بين صفوف العامة ويجدوا لهم أنصارا يعتنقون نحلتهم ويتحمسون لمبادئهم، وتمكنت هذه الفرقة بعد أن تركت نطاق الدعوة والقول إلى حيز النشاط والعمل أن تتحدى الخليفة العباسي في قلب عاصمته، خلال فترة لا تقل عن ثلاثين سنة.
ولقد برز خطر هذه الفرق والمذاهب بمظهر أجلى حين اعتنق مبادئها نفر من رجال الإدارة والسياسة وذوي السلطان الذين أخذوا يناوئون الخلافة العباسية، كما أبان ذلك مفصلا البروفسور لويس ماسينيون في المقالات المتعددة التي نشرها حول هذا الموضوع.
ولقد نبغت في القرن العاشر للميلاد/الرابع للهجرة أسرة من الوزراء وهم بنو الفرات، وأسرة من الكتاب وهم بنو نوبخت؛ فكان لهاتين الأسرتين الشيعيتين المتحمستين أثر كبير في إقصاء العناصر غير الشيعية عن إدارة البلاد، حتى إن الخلافة نفسها - منذ عهد المتوكل حتى أواخر عهد المقتدر - لم تستطع على الرغم من الجهد الذي بذلته، وفي محاولات شتى، أن تحمي نفسها من تدخل هؤلاء. على أن الإدارة المركزية التي قاومت هؤلاء بالعنف تارة وباللطف أخرى لم تستطع أن تقضي على هذه الحركات، وعلى رأسها حركة القرامطة الذين كانوا يلبسون حركتهم السياسية ثوبا روحيا حتى عظم أمرهم. واضطر الخليفة أول الأمر بما حاكوه حوله من دسائس وما أثاروا عليه من حروب أن يخلع نفسه في أواسط القرن العاشر للميلاد/الرابع للهجرة؛ وهكذا كتب لحركة هؤلاء القوم أن تنتصر وتفوز في المعركة، واستطاع القرامطة أن يؤسسوا لهم إمارة مستقلة في بلاد البحرين. كما استطاع المهدي عبيد الله الفاطمي أن يوطد أركان حركته في المغرب، التي استطاعت فيما بعد الاستيلاء على مصر؛ حيث أسس أحفاده الخلافة الفاطمية. وكذلك فعل الحمدانيون في سورية إذ استقلوا بها وجعلوها قاعدة علوية. كما استقل البويهيون في العراق وفارس وفرضوا عليهما المذهب العلوي.
أما أهل السنة فإنهم لم يستطيعوا الوقوف أمام هذه الحركات إلا بعد قرابة خمس وسبعين سنة؛ فإنهم تنبهوا للخطر وقاموا بحركة معاكسة قوية تجلت بالقضاء على آل بويه في العراق وإيران، وقيام آل سلجوق مقامهم واستيلائهم على بغداد. ولا شك في أن الدور الرئيسي قد قامت به شخصية جليلة هي شخصية الوزير نظام الملك (485ه/1192م)؛ فقد عمل هذا عملا حاسما بمحاربة هذه الحركات، وبخاصة الحركات الباطنية.
إن مكانة هذا الوزير الخطير تتجلى في اعتقاده بأن محاربة هؤلاء القوم لا ينبغي أن تكون في قهرهم عسكريا وسياسيا فحسب، بل وفي قهرهم ثقافيا وإداريا، ولم تكن هذه المعركة الثقافية والإدارية معركة سهلة؛ فقد بذل في سبيلها كل غال وكل جهد حتى استطاع أن يتوصل إلى أغراضه.
رأى نظام الملك أن النشاط العلمي لهؤلاء القوم يجب أن يجابه بنشاط ثقافي مثله، وأن الدعاوة العلوية والباطنية يجب أن تقاوم بدعاوة مثلها؛ ولذلك أخذ يفكر جديا في إنشاء مراكز ثقافة تقف أمام ذلك النشاط. ولا شك في أن هذا كله قد ولد في ذهن نظام الملك السلجوقي ضرورة إيجاد معاهد علمية منظمة تخرج رجالا يستطيعون الوقوف أمام الدعاوات الباطنية، وكانت تلك المعاهد تحمل اسم ذلك الوزير، وفي مقدمتها «المدرسة النظامية» في بغداد.
وإن الأستاذ الدكتور محمد أسعد طلس في أطروحته هذه بقسميها: الأول عن تاريخ التربية، والثاني عن النظامية
1
لم يكشف لنا عن الحقائق المجهولة في هذه القضية فحسب، بل إنه أبان العوامل الفعالة التي دعت إلى تأسيس «المدارس النظامية»، كما بين - بوضوح وجلاء ودقة - المعالم الحقيقية التي تميز هذه المدارس النظامية عن المؤسسات العلمية الأخرى المماثلة لها، وبين الآثار التي كانت لهذه المدارس النظاميات في المدارس الأخرى التي وجدت في العراق بعدئذ.
والحق أن هذه المدارس النظاميات، وبخاصة مدرسة بغداد، بتاريخها العلمي الحافل، قد استطاعت أن تؤدي المهمة الجليلة التي شادها نظام الملك من أجلها، كما أنها أنتجت النتائج التي أرادها لها ذلك الوزير الخطير؛ فاستطاعت أن تقف أمام الدعاوات التي كان يشنها أعداء السنة على أهلها.
والحق أيضا أن نظامية بغداد لم تكن - كما سيرى قارئ رسالة الدكتور طلس - مركزا علميا أو معهد أبحاث وحسب، بل كانت مؤسسة ثقافية واسعة ذات طابع جامعي بحت، وكانت خلال الدهور الطويلة المتعاقبة التي عاشتها مقرا لنفر من كبار العلماء والحكماء والمشاهير، كما أنها خرجت جمهرة من مشاهير الطلاب الذين أفادوا من درسها ولمع اسمهم في العالم الإسلامي بأسره.
وإنه لمما هو جدير بالشكر والفخر، ذلك الجهد الجبار، والصبر الطويل المثمر، اللذان يتجليان في هذه الدراسة التي يقدمها لنا الدكتور طلس؛ فقد بذل أجل الجهد في التنقيب عن تاريخ التربية الإسلامية، كما بحث بدقة عن المدرسة النظامية وآثار أساتذتها وطلابها في كافة أنحاء العالم الإسلامي في القرون الوسطى. وسيرى قارئ «تاريخ المدرسة النظامية» أن تلك القائمة الطويلة التي تنتظم أسماء الأساتذة وأحوالهم هي قائمة حافلة بأخبار نفر كبير من العلماء الفحول في شتى نواحي العلم الثقافية، كما أنهم كانوا من مواطن متعددة، وبلاد نائية متباعدة، كما يلاحظ القارئ أن تلك القائمة الحافلة قد خرجت بالبحث عن الحدود التي ينتظمها عنوان الرسالة، ولكنها الضرورة العلمية التي حتمت على الدكتور طلس سلوك هذه الطريق؛ لأنه أراد أن يوضح الدور العلمي الخطير الذي قام به هؤلاء الأساتذة والطلاب الفضلاء.
فجاء عمله هذا جليلا ومفيدا لأنه اختص بدراسة ناحية من نواحي العلم والثقافة والنشاط الفكري العالمي في بقعة واسعة من بقاع الدنيا؛ فكشف لنا بعمله هذا عن حقيقة أمرها ومقدار فعاليتها خلال أحقاب طويلة من التاريخ.
تقديم المؤلف للطبعة الفرنسية
إن الغاية النبيلة التي أقصد إليها في دراستي هذه هي إبانة القدر الرفيع للتربية الإسلامية، ولفضل «المدرسة النظامية» في تثقيف العالم الإسلامي وتربية نشئه تربية صالحة.
ولقد كان للمدرسة النظامية آثار جليلة، وبخاصة حين وقفت أمام الأخطار الهدامة التي كانت تعتور الإسلام من جراء قيام حركات الباطنيين والغلاة من أهل الفرق الإسلامية.
والحق أن الوزير الجليل والمربي المصلح نظام الملك - مؤسس المدرسة النظامية في بغداد، والمدارس الأخرى المتعددة التي شادها في أرجاء المملكة الإسلامية الخاضعة لنفوذ السلاجقة - كان يهدف إلى غرضين اثنين، هما: القضاء على الفرق المناوئة لأهل السنة والجماعة، وإيجاد طبقة من العلماء والإداريين السنيين ليشغلوا مناصب الدولة ووظائفها الروحية والعلمية في جميع أرجاء الدولة التي كان هؤلاء الباطنيون والغلاة قد احتلوها فترة طويلة، ونشروا فيها الدعاوات الطويلة العريضة لمذهبهم ومبادئهم. وقد توصل - رحمه الله - إلى هذين الهدفين وأحيا المذهب السني، كما يتجلى ذلك لمن يقرأ رسالتنا عنه وعن المدرسة النظامية وآثارها في تاريخ التعليم عند العرب.
وقد كنت قمت بهذه الدراسة كلها في كلية الآداب بجامعة الصوربون في باريس بإشراف الأستاذ المستشرق ريجيس بلاشير، وكنت أكون سعيدا جدا لو أنني استطعت إتمام العمل العلمي في جامعة الصوربون، ولكن الحوادث التي وقعت في فرنسة بعد إعلان الحرب العالمية الثانية، واضطرار الجامعة وكلياتها إلى غلق أبوابها في تلك الآونة؛ اضطرتني إلى طلب الانتقال إلى جامعة أخرى بعيدة عن تلك العوامل، فلم أجد إلا جامعة بوردو التي تقبلت العمل مشكورة، وتبنت الرسالة لنيل شهادة الدكتوراه.
ولا يسعني ها هنا إلا أن أشكر الأساتذة المستشرقين الذين أعانوني على العمل وقدموا إلي مساعداتهم وآراءهم الصائبة، وبخاصة الأستاذ البحاثة لويس ماسينيون الأستاذ في كلية فرنسة، والأستاذ العلامة المونسنيور فغالي الأستاذ في جامعة بوردو، والأستاذ المستشرق ريجيس بلاشير الأستاذ في جامعة الصوربون بباريس، الذي كان له فضل الإشراف على العمل والتوجيه المفيد، والأستاذ العلامة جان سوفاجيه الأستاذ في معهد الدراسات العليا بباريس سابقا.
فقد كان لهؤلاء الأساتذة جميعا يد مشكورة وجهد واضح في معونتي على العمل؛ فالله أسأل أن يجزيهم عن العلم بقدر إخلاصهم له، وبخاصة الأستاذ المونسنيور فغالي، المواطن اللبناني الجليل، وأستاذ الآداب والحضارة العربية سابقا في جامعة بوردو؛ فقد قبل أن يتبنى العمل الذي قمت به تحت إشراف الأستاذ بلاشير في الصوربون، وأن يقدمه مشكورا إلى جامعة بوردو، فوافقت على قبوله، وحددت يوما لمناقشة الرسالة مناقشة علنية.
وقد كتب الأستاذ المونسنيور فغالي تقريرا مفصلا عن قيمة هذه الرسالة، وعن جهد صاحبها ومكانته العلمية في العالم العربي ومحيط المستشرقين خلال وجوده في ديار الغرب، ولولا أني أرى في نشره تقريظا ومدحا لنفسي - وأنا من أبعد الناس عن حب التقريظ - لنشرت جزءا من ذلك التقرير، ولكن نفسي تعاف هذه الأمور.
وما التوفيق إلا من عند الله القدير، إنه أفضل معين وأقوى نصير.
باريس 3 أيلول 1939
م. أ. ط.
الفصل الأول
في التعليم عند المسلمين قبل تأسيس المدرسة النظامية ببغداد (1) في الثقافة العامة والتربية عند العرب قبل الإسلام
قامت للعرب قبل ظهور الإسلام ثلاث حضارات عريقة، اتصفت كل واحدة منها بالرقي العمراني والعقلي، وكانت كل واحدة منها تكمل سابقتها. وأول تلك الحضارات حضارة عرب اليمن في الجنوب، وثانيها حضارة عرب الشمال في تدمر والجزيرة والشام، وثالث تلك الحضارات حضارة عرب الحجاز ونجد التي يبدأ عهدها من أواسط المائة الثالثة بعد الميلاد إلى ظهور الإسلام في المائة السابعة للميلاد.
ولقد كتبت عن الحضارتين الأوليين كتب كثيرة، وقامت بعض البحوث العلمية المتعلقة بحضارتي الشمال والجنوب العربيين، وإن تلك الكتب والبحوث على الرغم من قلتها أبانت طرفا لا بأس به من التقدم العلمي والعمراني والسياسي الذي بلغه أسلافنا في تلك الديار، ولكن حضارة وسط الجزيرة العربية لا نعرف عنها إلا معلومات ضحلة لأسباب كثيرة.
منها: أنه لم يصلنا أي أثر مكتوب موثوق عن تلك العصور وعن مدارك أهلها في النواحي العقلية والعلمية إلا الشعر وبعض الأقوال والحكم المنثورة التي لا تغني كثيرا في هذا الباب.
ومنها: أن كل من كتبوا في هذا الموضوع من المسلمين أو أكثرهم قد صوروا تلك العصور صورة قتيمة مغرقة في الجهالة والحمق ليبينوا فضل الإسلام وقوة أثر الحركة المحمدية.
ومنها: أن دراسات علمية صحيحة تعتمد على دراسة الآثار وبحوث طبقات الأرض وعلم الأجناس فيما يتعلق بعرب وسط الجزيرة لم تجر حتى الآن، ولم يقم بها أحد من علماء الاستشراق فضلا عن الشرقيين والعرب أنفسهم.
ومنها: أن طول العهد بيننا وبينهم، وامتزاج تاريخنا العربي بكثير من الأساطير والخرافات، وعدم قيام دراسات تاريخية علمية صحيحة تعتمد على أصول النقد، لمما يجعل التعرف إلى حقيقة تاريخ تلك الحقب أمرا عسيرا.
ومنها: أن كتابات من كتب في هذا الموضوع من المستشرقين والمبشرين وبعض شعوبيي الكتاب الشرقيين والمسلمين والعرب كتابات لم تخل من الغرض أو الجهل.
1
ولهذا كله عزمت في دراستي هذه أن لا أعتمد إلا على نصوص ثابتة لا يمكن أن يتطرق إليها الشك ولا يمكن أن يطعن في صحتها، لثبوت وصولها إلينا بطرق موثوقة، أو على أخبار تناقلها الرواة المأمونون الذين تعضد أقوالهم الشواهد التاريخية الموثوقة والبحوث العلمية الحديثة.
وإن أول تلك النصوص وأوثقها بلا ريب هو «القرآن»؛ فإنه خير ما يمكن الاعتماد عليه في تبين الحياة العقلية والحضارة العربية قبل البعثة النبوية. ويليه في المرتبة بعض القصائد الشعرية المروية عن شعراء ما قبل الإسلام أو عن شعراء الإسلام؛ فإنهم قوم نشئوا قبل الإسلام، وتربوا في البيئة العربية التي سبقت الإسلام؛ فهم من نتاج تلك البيئة، وأقوالهم تمثلها تمام التمثيل على الرغم من تأثرهم بالإسلام.
وسأتناول في بحثي هذا ما يتعلق بالحياة العقلية وما إليها، وأصرف النظر عن الخوض في شأن الحضارة العربية قبل الإسلام؛ فإن لهذا مجالا آخر. وسيرى القارئ فيما نورد من الأدلة أن أكثر الكتاب الذين كتبوا عن تلك العصور، والتي أرادوا أن يسموا أهلها بسمة «الجهل» ويطبعوها بطابع «الجاهلية»؛ لم يكونوا منصفين في أحكامهم ، وأن فيما قرروه عنهم جناية على الحقيقة والتاريخ. وإنه لمن السخف أن يسمي ذلك العصر ب «الجاهلية»؛ لأنه بعيد كل البعد عن الجهل، وأن ما ورد في القرآن من ذكر الجاهلية لم يكن مقصودا به إلا الدين وما إليه.
يذهب بعض الباحثين من المستشرقين مثل الفيلسوف المستشرق كارا دي فو في كتابه «مفكرو الإسلام»
2
والبروفسور غولد زيهر في كتابه «العقيدة والشريعة في الإسلام»
3
والبرنس كايتاني في كتابه الضخم «تاريخ سني الإسلام»
4
إلى أن نمو الإسلام وتكوينه كان متأثرا تأثرا عميقا بالأفكار والآراء الهيلينية، وأن نظامه التشريعي متأثر بالفقه التشريعي الروماني، وأن تصوفه وفلسفته ليسا إلا تمثلا لتيارات الأفكار الهندية والأفلاطونية الحديثة، وأن الإسلام قد صهر ذلك كله وأخرج للناس مجموعة أفكار نشرها فيهم على أنها دين جديد ... ويغالي غولد زيهر فيقول: «إن تبشير النبي العربي ليس إلا مزيجا منتخبا من معارف وآراء دينية عرفها أو استقاها بسبب اتصاله بالعناصر اليهودية أو المسيحية التي تأثر بها تأثرا عميقا، والتي رآها جديرة بأن توقظ عاطفة دينية حقيقية عند بني وطنه ... لقد تأثر بهذه الأفكار تأثرا وصل إلى أعماق نفسه وأدرك بإيحاء قوته التأثيرات الخارجية، فصارت عقيدة انطوى عليها قلبه، كما صار يعتبر هذه التعاليم وحيا إلهيا، فأصبح - بإخلاص - على يقين بأنه أداة لهذا الوحي ...»
5
ويقول البارون كارا دي فو: «إن المسلمين يرون أن التشريع الإسلامي - أي الفقه ومباحثه - ذو علاقة قوية بالدين، بل هم يذهبون إلى أنه جزء منه وأن الفقه كله مأخوذ من الوحي - أي من القرآن - كسائر أجزاء الدين. ولما كان في القرآن شيء من الإيجاز فقد عمدوا إلى توضيحه بالآثار؛ أي بسنن النبي والصحابة والتابعين. هذه هي النظرية الإسلامية؛ وبناء عليها ذكر الفقه في الكتب الإسلامية على أنه وليد القرآن والآثار الإسلامية، من غير إشارة إلى أصول أجنبية قط.
وهذه النظرية لا تثبت عند النقد، وإذا قرأ إنسان بعض آيات الأحكام ثم قرأ صفحتين من إحدى مبسوطات الفقه، رأى الفرق الواضح بين الاثنين؛ فذلك نص ساذج عليه مسحة البداوة ، وهذا تحليل منطقي علمي دقيق على آثار الثقافة، ذاك شبه مسودة جافة بالية قائمة في الصحراء، وهذا بحث ممحص مصقول متسق مع التطور المدني. هاتان هما حالتا الإسلام اللتان ينبغي شرحهما، فمن أين جاءت قوانين القرآن، ومن أين جاءت قوانين الفقهاء؟! ولست أريد أن أنكر - بادئ الرأي - طرافة القرآن، ولكني لا أرى مساغا من الإشارة إلى أن تلك القوانين الفقهية متأثرة تأثرا عميقا بالتلمود والقوانين المسيحية، وقد تكون هناك بعض بقايا العادات العربية القديمة التي وجدت لها منفذا في بعض الأحوال.»
6
فأنت ترى من هذه الأحوال أن الفقه وما إليه ليس للعقلية العربية فيه من أثر إلا بعض بقايا العادات القديمة العربية، أما ما فيه من منطق وبحث وتشريع فهو إما مأخوذ من تلمود اليهود أو قوانين النصارى. وليس البارون كارا دي فو وغولد زيهر وحدهما اللذين يقولان هذا القول الظالم؛ فإن كثيرا من المستشرقين قد قالوا مثله، كالبروفسور ديمومين في كتابه عن النظم الإسلامية، والسنيور سانتلانا في مشروعه للقانون المدني التونسي الذي وضعه سنة 1899، والبروفسور فون كرامر في كتابه «المباحث الإسلامية»؛ فإنهم كلهم ذهبوا هذا المذهب ووصفوا العقلية العربية بالقحط والنضوب، لا قبل الإسلام فقط بل بعده كما ترى. وواضح من هذا أن روح التعصب قد أملت هذه الأقوال لأن صلات النبي
صلى الله عليه وسلم
والمشرعين الإسلاميين بعده باليهود والنصارى لم تكن صلات قوية بحيث يتدارسون هذه الأمور مع اليهود والنصارى، ويفيدون منهم الفوائد العقلية التي تجلى أمرها في القرآن والحديث من سنة وآثار. ثم إن اليهود في الجزيرة العربية ونصاراها كانو يهودا ونصارى مستعربين أو بداة يعيشون معيشة العرب ويفكرون مثل تفكيرهم، ولم يكونوا قط أرقى منهم في مستوى الفكر، ولا أفضل منهم درجة في العلم. ونحن إذا قرأنا الشعر اليهودي العربي الذي خلفه لنا يهود الجزيرة قبل الإسلام أو في صدر الإسلام، نرى أنه شقيق الشعر العربي في أفكاره وألفاظه ومعانيه؛ وفي هذا دليل على أن القوم من عرب ويهود - بل ونصارى - يعيشون على صعيد فكري واحد، وأن تمسك اليهود والنصارى بدينهم لم يكن تمسكا متينا، ولا كانت معرفتهم بالنصرانية واليهودية إلا معرفة ضحلة، وإلا ظهر ذلك في أقوالهم وأشعارهم.
وبعد فإن مذهب المستشرقين في تبيين العقلية العربية قبل الإسلام وبعده مذهب خاطئ مغرض، ولم يفكر واحد منهم - على كثرتهم - بدراسة أوضاع العرب قبل الإسلام والفحص عن حالتهم العقلية ومستواهم الفكري، وإنه لمن المعقول جدا أن يتأثر النبي وكبار الصحابة وفقهاء عصره والتابعين من بعده بالبيئات الأجنبية القريبة منهم؛ ولهذا نرى أن من واجب الباحثين أن ينصرفوا إلى دراسة عصر ما قبل الإسلام ليثبتوا حقيقة ما كان عليه القوم والدرجة العلمية والثقافية التي كانوا عليها.
إن أركان الدين المحمدي هي خمسة: التوحيد، والصلاة، والصوم، والزكاة، والحج.
فلنبحث عما كان عند القوم قبل ظهور الإسلام من هذه الأمور حتى نتبين الأثر الجديد الطريف الذي جاء به الرسول من التالد الذي أحياه مما كان عليه حنفاء العرب قبل الإسلام؛ فإن في الكشف عن ذلك تبين حقيقة عقلية القوم ومستواهم الفكرى والثقافي، وليس في هذا القول غض من قدر الإسلام ولا انتقاص من رسالة محمد - عليه السلام - فإن الله يقول:
وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين ،
7
وما جاء محمد بغير الحقيقة التي كان جاء بها رسل الله من قبل إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم.
أما التوحيد فقد عرفه عرب الجاهلية لا خاصتهم فحسب، مثال خالد بن سنان الحكيم المتأله (40ق.ه)
8
وأكثم بن صيفي الواعظ الرشيد (9ه) وغيرهما، بل عامتهم. وليس هذا القول بالقول العجيب؛ فإن الحقيقة التي جاء بها إبراهيم وابنه إسماعيل - عليهما السلام - والتي تقول بتوحيد الله وتصفه بالكمال والجلال والقدرة والعلم وغير ذلك من صفات التنزيه؛ كانت معروفة - بل وشائعة - بينهم، وإن الأصنام والأوثان والآلهة المتعددة ما اخترعتها عقول العرب إلا للتقرب بهم إلى الله العلي القدير، قال تعالى:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم ،
9
وقال أيضا:
ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله فأنى يؤفكون ،
10
وقال:
ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله ،
11
وقال:
هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين ،
12
وقال:
ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون ،
13
وقال:
الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم * ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون ،
14
فهذه الآيات وغيرها تدل على أنهم كانوا مؤمنين بالله القوي العزيز العليم الخالد الضار النافع الرزاق، وأن هذه الأصنام والتماثيل وسائط وشفعاء إليه.
وأما الصلاة، فما هي إلا أدعية وحركات تعبدية مع التوجه إلى الكعبة. وقد كانت للعرب قبل الإسلام صلاة ذات طقوس وحركات وأدعية كما تدل عليها آية:
وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ،
15
قال القاضي البيضاوي في تفسير هذه الآية: «المكاء الصفير، والتصدية التصفيق. روي أنهم كانوا يطوفون عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون بها ويصفقون.»
16
وكلمة «الصلاة» في هذه الآية تعني أن العرب كانت لهم في جاهليتهم صلاة ذات طقوس معينة كما يفهم من كلام القاضي البيضاوي؛ وبهذا يتبين خطأ ما يقرره الفقهاء من أن كلمة صلاة بمدلولها الديني المعروف إنما هي من الكلمات الإسلامية التي استحدثها الدين الجديد؛ فليس صحيحا ما يقرره الفقهاء واللغويون من أن هذه الكلمة كانت تعني في الجاهلية الدعاء فحسب، وأنها خصصت في الإسلام فقط بهذا النوع المخصوص من العبادة. ثم إن ذكر المكاء والتصدية يفهم منه أنه كانت لهم حركات وأنغام وإشارات في صلواتهم، وليس هذا غريبا؛ فقد أمر الله سبحانه إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والركع السجود؛ فلعل بعض هذه الطقوس «الصلوية» قد بقي عند العرب مما قبل الإسلام، بل نكاد نجزم بذلك لما روي أن زيد بن عمرو بن نفيل - أحد العباد الحنفاء الموحدين قبل الإسلام - كان يقوم ببعض الحركات التعبدية أمام الكعبة، وأنه كان يسجد أمامها.
وأما الصوم، فهو الإمساك عن الطعام أو الشراب أو الحديث أو غير ذلك،
17
وقد كان العرب في جاهليتهم يصومون في العاشر من المحرم، وروى الخارق عن عائشة بنت أبي بكر أم المؤمنين أنها روت في حديث لها أن قريشا كانت تصوم في الجاهلية يوم عاشوراء؛ أي اليوم العاشر من المحرم، وأنه كان يوم ستر الكعبة، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم
كان يصومه قبل بعثته، ويروي السيوطي في كتاب الوسائل عن الخطيب البغدادي أن أول من صام آدم - عليه السلام - ثلاثة أيام في كل شهر، وعن أبي حاتم الضحاك أن الصوم الأول صامه نوح فمن دونه حتى صامه النبي محمد
صلى الله عليه وسلم
وأصحابه، وكان صومهم في كل شهر ثلاثة أيام إلى العشاء، وهكذا صامه النبي
صلى الله عليه وسلم .
18
وأما الزكاة، فهي صدقة تعطى لبيت المال كما تعطى للفقراء بشرائط معينة. وقد كان للعرب قبل الإسلام أنواع من الصدقات يعطونها للفقراء أو الحكام. قال المجد الفيروزآبادي في القاموس: ««مكس» في البيع إذا جبى مالا، والمكس الظلم ودراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في الأسواق في الجاهلية، أو دراهم كان يأخذها بعد فراغه من الصدقة.» وقال ابن الأثير في النهاية في شرح قوله
صلى الله عليه وسلم «إذا لقيتم عاشرا فاقتلوه»: أي إن وجدتم من يأخذ العشر على ما كان يأخذه أهل الجاهلية مقيما على دينه،
19
وأخرج ابن أبي شيبة عن سعيد بن زيد قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «يا معشر العرب، احمدوا الله الذي وضع عنكم العشور.» وقال الرسول
صلى الله عليه وسلم : «ليس على المسلم عشور، إنما على اليهود والنصارى.» ففي هذه النصوص والأحاديث ما يدل على أن العرب قبل الإسلام كانوا يزكون أموالهم، ويدفعون جزءا من أموالهم للحكام.
وأما الحج، فكانوا يقومون به، وهو مما ورثوه من ديانة إبراهيم - عليه السلام - فقد كان العرب يعظمون الكعبة - ولو كانوا نصارى أو متهودين أو متمجسين - فكانوا يحجون ويعتمرون ويحرمون ويطوفون ويمسحون الحجر الأسود ويسعون بين الصفا والمروة ويلبون ويقفون المواقف كلها ويهدون الهدي ويرمون الجمرات وغير ذلك من مشاعر الحج
20
التي تبناها الإسلام واستبقاها من طقوسه.
فإذا كانت هذه هي حال أركان الإسلام الخمسة، تبين لنا سخف نظرية هؤلاء المستشرقين الذين يريدون أن ينسبوا كل شيء جاء به الرسول العربي إلى تقاليد اليهود والنصارى ومحاكاة الأمم الأخرى ناسين أو متناسين أنه
صلى الله عليه وسلم
نشأ في بيئة لها ثقافتها، وتربى في إقليم له حضارته، فيجب أن يظهر أثر ذلك في تعاليمه، كما يجب أن يتجلى طابع بيئته في طقوس دينه، وليس في هذا ما يضير الدين السماوي، ولا ما يضع من قدر النبي، أو يغض من سمو رسالته؛ فإن لله نواميس لا يخالفها.
بعد هذه المقدمة التي بينت لنا أن العرب لم يكونوا في جاهلية دينية عمياء، وأن من وصموهم بها كانوا مخطئين، ننتقل إلى بيان الحالة العقلية للعرب قبل الإسلام فنقول: إن أبرز ما تتجلى به العقلية العربية هو: نظرات أهلها العميقة في الألوهية، وتفوقهم اللغوي، ورقي مستواهم الأدبي، وسعة نظراتهم في بعض نواحي العلم، ونشوء الكتابة بينهم على ما بيناه آنفا. (2) نبذة مما ورد في الإسلام عن فضل العلم والتعلم
وردت في القرآن وفي كتب السنة نصوص كثيرة تحض على التعلم، وتبين فضل العلم وتهدي إلى طرق تربية المتعلمين وتأديبهم، كقوله سبحانه وتعالى:
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ،
21
وقوله:
إنما يخشى الله من عباده العلماء ،
22
وقوله:
فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ،
23
وقوله:
يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ،
24
وقوله:
بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ،
25
إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. وليس العلم والذكر في هذه الآيات هو علم الدين وحسب، بل هو كل علم نافع يرفع من قدر الإنسان وينمي عقله ويجعله أكثر خبرة بالحياة واطلاعا على أحوالها.
وفي كتب السنة أحاديث عديدة رويت عن المعلم الأعظم؛ ففي صحيح البخاري في كتاب العلم: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين.» وفيه أيضا: «من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم لرضى الله عنه، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء.» وقال
صلى الله عليه وسلم
لعلي - رضي الله عنه: «... فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم.» وقوله لمعاذ لما بعثه لتعليم أهل اليمن: «لأن يهدي بك الله رجلا واحدا خير لك من الدنيا وما فيها.» وقال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم.» وفي رواية أخرى «ومسلمة.» وقال: «مجلس فقه خير من عبادة ستين سنة.» وقال: «من غدا إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيرا أو ليعلمه كان له كأجر معتمر تام العمرة، ومن راح إلى المسجد لا يريد إلا ليتعلم خيرا فله أجر حاج تام الحجة.»
26
وقال: «تعلموا العلم وعلموه الناس، وتعلموا الوقار والسكينة، وتواضعوا لمن تعلمتم منه العلم، وتواضعوا لمن علمتموه العلم، ولا تكونوا جبابرة العلماء.»
27
وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه
صلى الله عليه وسلم
قال: «ليس من أخلاق المؤمن الملق إلا في طلب العلم.»
كما وردت أحاديث كثيرة وآثار جليلة عن عناية الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة والتابعين بالعلم والتعليم؛ فمن ذلك قول الإمام علي - عليه السلام - لكميل بن زياد: «يا كميل، العلم خير لك من المال؛ العلم يحرسك وأنت تحرس المال، والعلم حاكم والمال محكوم عليه، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو على الإنفاق.» وقال علي أيضا: «قيمة كل امرئ علمه.» وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه: «لأن أعرب آية من القرآن أحب إلي من أن أحفظ آية.» وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه: «من قرأ القرآن فأعربه كان له عند الله أجر الشهيد.» وقال علي أيضا : «يا حملة العلم، اعملوا به فإنما العالم من عمل بما علم ووافق علمه عمله، وسيكون أقوام يحملون العلم لا يجاوز تراقيهم، ويخالف علمهم عملهم، وتخالف سريرتهم علانيتهم، يجلسون حلقا فيباهر بعضهم بعضا، حتى إن الرجل ليغضب على جليسه أن يجلس إلى غيره ويدعه، أولئك لا تصعد أعمالهم في مجالسهم تلك إلى الله.»
28
وقال أيضا في تفسير قوله تعالى:
قوا أنفسكم وأهليكم نارا
قال: علموهم أدبوهم،
29
وقد أثر عن السلف الصالح كثير من الأقوال النبيلة التي تحض على الدرس وتوجب العلم على كل مسلم ومسلمة؛ فمن ذلك قول أبي الأسود الدؤلي: «ليس شيء أعز من العلم، الملوك حكام على الناس، والعلماء حكام على الملوك.» وقال الإمام الشافعي: «ليس العلم ما حفظ، العلم ما نفع.» وكتب الإمام مالك للرشيد: «إذا علمت علماء فلير عليك أثره وسكينته وسمته ووقاره وحلمه.»
فهذه الأقوال وكثيرة غيرها في كتب السنة من صحاح ومسانيد وفي كتب الأدب والتاريخ
30
الموثوقة لتؤكد لنا أن الإسلام قد حض على تعلم العلم على اختلاف ضروبه من دين وعربية وأدب كما سترى بعد. (3) لمحة من تاريخ التعليم في القرون الإسلامية الخمسة
إن صح ما نقلناه عن الرسول والخلفاء الراشدين من أحاديث الحض على العلم، وما سننقله في الفصول الآتية من أخبار الكتاتيب ودور العلم والتدريس في عهد رسول الله والخلفاء الراشدين، فإن التعليم بدأ بقوة عند المسلمين منذ فجر الإسلام؛ فقد أثبتت هذه النصوص أن الرسول وخلفاءه الراشدين اهتموا بالتعليم ونشر مبادئ الكتابة وقواعد الدراسة على ما سنفصله بعد.
ولما استولى بنو أمية على الخلافة زادت عناية المسلمين بالتعليم وابتدأ الناس بدراسة القرآن والحديث والفقه والأدب وعلوم الأوائل،
31
وقد انتقص بعض العلماء من نصيب بني أمية في العناية بالعلم ونشر التعليم، وأبرز هؤلاء العلماء أستاذنا المرحوم أحمد أمين في كتابه القيم «فجر الإسلام»؛ فقد جزم بأن الأمويين لم يعنوا أصلا بالدراسات العلمية والبحوث الدينية والتاريخية، وإنما كان همهم الشعر وما إليه؛ لأنهم لما بنوا دولتهم على الدكتاتورية اضطروا إلى جذب الشعر إليهم لتمجيد أعمالهم والتغني بأمجادهم، لما كانوا عليه من حب التقاليد الجاهلية، فقد قال بعد أن ذكر أنه قامت في صدر الإسلام ثلاث حركات علمية، هي: الحركة الدينية، والحركة التاريخية، والحركة الأدبية، وأن هذه الحركات الثلاث كانت تتساند؛ فأصحاب المذاهب الدينية اعتمدوا في تعليمهم على الفلسفة والكتاب والسنة، والمؤرخون والقصاصون كانوا يستمدون بعض معلوماتهم من القرآن والحديث، والمفسرون والمحدثون كانوا يستعينون بالشعر والأدب على تفهم القرآن: «والذي يظهر لي أن الأمويين لم يشجعوا من هذه الحركات الثلاث إلا الحركة الأدبية والقصص الرسمي؛ ففتحوا أبوابهم للشعراء والخطباء، وبذلوا الأموال وعينوا القصاص في المساجد ولم يفعلوا شيئا من ذلك للعلماء والفلاسفة. ولعل السبب في ذلك أمران؛ الأول: أن حكم الأمويين بني على الضغط والقهر، فكانت حاجتهم إلى الشعراء والقصاص أشد؛ لأنهم هم الذين يبشرون بهم ويشيدون بذكرهم، ويقومون في ذلك مقام الصحافة ... والثاني: أن نزعة الأمويين نزعة عربية جاهلية لا تتلذذ من فلسفة ولا من بحث ديني عميق، إنما يلذ لها الشعر الجيد، والخطبة البليغة، والحكمة الرائعة. قال المسعودي: كان عبد الملك بن مروان يحب الشعر والفخر والتقريظ والمدح، وكان عماله على مثل مذهبه. وشأن أكثر بني أمية شأن عبد الملك نستثني منهم خالد بن يزيد بن معاوية؛ فقد كانت له نزعة فلسفية كما أسلفنا فوق نزعته الأدبية ... كما نستثني عمر بن عبد العزيز؛ فقد كانت له نزعة دينية وقد شقي به الشعراء ... إذا عدونا هذين - خالدا وعمر - لم نجد كبير أثر للأمويين في تشجيع الحركة الفلسفية والدينية والتاريخية كالذي نجده عند العباسيين مثلا، ومع هذا فقد نشطت هذه الحركات من نفسها ...»
32
وقول أستاذنا هذا مردود لأمرين؛ أولهما: أن الاستبدادية التي كان عليها بنو أمية لم تكن لتمنعهم من الانصراف إلى العلم، فأية علاقة لنشر العلم والحض عليه وتعميمه بين طبقات الناس باستبداد الحكام، فقد كان ممكنا مع استبداد الخلفاء الأمويين وضغطهم على الناس وقهرهم ... وحبهم للشعر وتشجيعهم للشعراء والمادحين أن يهتموا بنشر العلم ويشجعوا العلماء والفقهاء كما شجعوا الشعراء وعطفوا عليهم؛ فإن هؤلاء أيضا يكونون ألسنة لهم في المجالس العامة والخاصة، بل إنهم أكثر صلة بالناس من أولئك، ثم إنه لا مانع من أن ينتشر أحد الأمرين إذا ما انتشر الأمر الثاني. وثانيهما: أن البداوة التي كان يميل إليها بنو أمية والنزعة العربية التي كانوا يتعشقونها لا يمكن أن تحول بينهم وبين حب الفقه والعلم والفلسفة، كما أحبوا الشعر والأدب؛ فقد حفظت لنا المصادر نصوصا كثيرة تدلنا على أن منهم من كان يحب العلم والفلسفة والدين غير من ذكره الأستاذ، كما تدل على حبهم للعلم وتشجيعهم أهله وعطفهم على الفقهاء وأهل الدين بصورة خاصة،
33
فهناك أدلة كثيرة تثبت ما ذهبنا إليه، وتنقض رأي الأستاذ؛ فمن ذلك ما يرويه لنا المؤرخون من أن عبد الملك وابنه سليمان وعمر بن عبد العزيز كانوا يرعون الإمام رجاء بن حيوة، ويقدمون إليه كل ما يحتاج إليه في سبيل نشر العلم وتوطيد أركان الثقافة، ومن ذلك أن خلفاء بني أمية أحاطوا الإمام الأوزاعي بكل ضروب الإكبار والرعاية، وأعانوه على إتمام بحوثه العلمية ونشر مذهبه الفقهي في أرجاء البلاد، وقد كلفوه بإقامة حلقات الدرس في جامع دمشق، بل وفي قصورهم فيها.
34
ثم إن نشاط بني أمية في الحركة الفلسفية والعقائدية لم يكن أقل من نشاطهم في تشجيع الحركة الفقهية؛ فقد رووا أن معاوية بن أبي سفيان أحضر البطريرك اليعقوبي تيودوروس وأسقف قنسرين ليناظرا نصارى لبنان في حضرته وبحضور نفر من العلماء، حين أخذوا يدعون إلى بعض عقائدهم ويدعون أنها الصحيحة وحدها.
35
كما رووا أيضا أن عمر بن عبد العزيز كان يناقش بنفسه بعض الخوارج في معتقداتهم المذهبية.
36
وقالوا أيضا إن هشام بن عبد الملك كان أوصى غلامه سالما الرومي بالتنقيب عن بعض كتب الحكمة اليونانية القديمة لجمعها وترجمتها إلى اللغة العربية، وإن مما ترجم سالم هذا بعض آثار أرسطو ... وإذا صح هذا كان أول ترجمة عربية للفلسفة اليونانية،
37
ورووا أيضا أن سليمان بن عبد الملك قال: «عجبت لهؤلاء الأعاجم! ملكوا ألف سنة فلم يحتاجوا إلينا ساعة، وملكنا مائة سنة فلم نستغن عنهم ساعة.»
38
ولا ريب في أن سليمان لم يقصد بالاستعانة بالأعجام إلا في النواحي الثقافية والحضارية والإدارية، أما فيما عدا ذلك فإن بني أمية معروفون ببغضهم لكل ما هو غير عربي. وقال الراغب الأصفهاني: إن المنصور بعث إلى من في الحبس من بني أمية من يقول لهم: ما أشد ما مر بكم في الحبس؟ فقالوا: ما فقدنا من تأديب أولادنا ...
فهذه الأقوال وغيرها تدل دلالة قوية على أن للأمويين نشاطا في ميادين العلم والحكمة والفلسفة والتشريع، وعناية بوضع بذور الحركة الثقافية والعقلية في الإسلام.
فليس من العدل أن نغمط حق بني أمية - غفر الله لهم - في هذا المضمار، وليس من الحق أن نعدل عن إنصافهم في هذا الباب، وليس من الإنصاف مقارنتهم ببني العباس، فأين زمان هؤلاء من زمان أولئك؟ وهل يقاس القرن الأول للهجرة والإسلام غض الإهاب، رطب العود، مبتدئ الحركة، بالقرنين الثالث والرابع اللذين اكتملت فيهما قوى الإسلام واشتد ساعده؟
والحق أنه لما تولى الخلافة بنو العباس وجدوا الطريق معبدة أمامهم؛ فقد كان سابقوهم من بني أمية وبني مروان شرعوا في أمر الترجمة عن كتب اليونان والفرس والهند، وبدءوا في وضع بذور غراس العلم والحكمة والجدل وعلوم الدين، فتمم بعدهم بنو العباس ما كانوا شارعين به، وعنوا عناية زائدة بنشر علوم الدين والحكمة، وبخاصة علوم الأدب وما إليه من شعر ونثر وعربية، حتى ازدهرت العلوم والفنون وبلغت أوجها في عهدهم مما لا مجال للتحدث عنه الآن، ولكن لا يسعنا أن نهمل ناحية من نواحي نشاطهم العلمي في هذا الصدد، ألا وهو تأسيسهم لبعض المؤسسات الثقافية، كدور الكتب ودور الحكمة التي كان يتولى أمرها بعض كبار العلماء كالفيلسوف الترجمان سلم الذي أخذ ينقب عن مهرة التراجمة وكبار الفلاسفة، ويعهد إليهم بالعمل معه لوضع أسس الحركة الفلسفية المنظمة على ما سنفصله فيما بعد،
39
والحق أن ما عمله سلم هذا كان نواة للحركة العلمية الرسمية إن صح هذا التعبير.
الفصل الثاني
(1) المؤسسات التعليمية عند العرب قبل تأسيس المدرسة
كانت المساجد والكتاتيب وبعض الأماكن العامة والخاصة هي المؤسسات العلمية الأولية عند العرب في عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم
وخلفائه الراشدين، وفيها كان المسلمون الأولون يتلقون هم وأبناؤهم وبناتهم ومواليهم آيات الكتاب المبين، وعلم الفرائض والدين، كما تدل على ذلك مئات الأحاديث والآثار المروية عن الرسول وصحابته وتابعيه.
1
وكان العلماء والمتعلمون يتذاكرون في المسجد النبوي بالمدينة، والمسجد الحرام بمكة، والمساجد الأخرى في سائر العالم الإسلامي، وفي الدور، والمجالس في الأماكن الخاصة والعامة ... ضروب العلم من دين وأدب وتاريخ وسير ومواعظ وعبر، ويفتون من يسألهم في أمر من هذه الأمور. ولما آلت الخلافة الإسلامية إلى بني أمية تطور الأمر في سبيل الاستكمال على ما بينا في الباب السابق. وكان إلى جانب تلك المؤسسات العلمية التي ذكرناها مواطن جديدة للتعليم، وهي قصورهم وقصور كبار أمرائهم، ومنازل الأعيان والوجوه الذين استقرت أحوالهم أيام هذه الدولة، وبعد أن توسعت الفتوح وكثرت الأموال وسارت الحياة الاجتماعية في طور حضاري جديد.
وقد كانت هذه القصور والدور عونا لتلك الأماكن العامة والخاصة في نشر العلم وتسهيل سبل تعميمه؛ فقد كان يعقد فيها كثير من حلقات الآداب والعلوم والفقه والحديث والحكمة، كما كانت تقام بعض الحلقات العلمية في بعض الطرقات والأسواق.
2
وقد ظلت هذه الأماكن جميعا من مساجد وخزائن كتب وقصور ودور وطرقات مراكز الحركة العلمية في البلاد الإسلامية، منذ فجر الإسلام إلى أن ظهرت المدرسة بمعناها الصحيح في أواخر القرن الرابع للهجرة، وسنبين فيما يلي أحوال تلك المؤسسات العلمية وتطور أمرها منذ أن وجدت إلى أن تأسست المدرسة. (1-1) حلقات المساجد والقصاص والمجالس الخاصة والعامة
انقسم علماء الآثار الإسلامية من العرب والمستشرقين الذين اهتموا بدراسة المعاهد الإسلامية الخاصة بالعبادة أو بالدراسة إلى فرقاء ثلاثة:
فريق أول:
وهو غالبية المستشرقين، فقد ذهبوا إلى أن معاهد العبادة الإسلامية قد اقتبست نظام بنائها، وأسلوب ريازتها
architecture
من نظام الكنائس المسيحية والمعابد الكلدانية والسريانية في العراق، وسورية ومصر، وحجة هؤلاء هي أن المسلمين لم يتخذوا المساجد للعبادة إلا بعد أن توفي النبي وخرج المسلمون في الفتوح خارج الجزيرة العربية، فاتصلوا بأهل هاتيك الديار وعرفوا شيئا كثيرا عن أماكن عبادتهم؛ إذ إنه لم يكن لهم قبل ذلك أمكنة للعبادة سوى صحن منزل الرسول في المدينة. وعلى رأس هذا الفريق من العلماء البرنس كايتاني، والكابتن كريسويل، والبروفسور بدرسون.
3
وفريق ثان:
يرى أن المعاهد الإسلامية - وعلى رأسها «المسجد» - قد اقتبست صورتها ونظامها البنائي من «الكعبة»، فإنها المكان المقدس الذي رآه المسلمون قبل الإسلام وبعده وتعلقوا به، فطبيعي أن يقلدوه فيبنوا أمكنة عبادتهم على نسقه. وعلى رأس هذا الفريق من العلماء والباحثين المستشرقان لين بول ودييس. وحجتهما أن الكعبة هي البناء الديني العتيق الذي رآه المسلمون في بلادهم قبل إعلان الدين الجديد، فلما أرادوا أن ينشئوا أمكنة عبادة للدين الجديد اقتبسوا نمط ذلك المكان من الكعبة،
4
وقد يكون هذا الرأي صحيحا لو أن معلوماتنا وافرة عن الكعبة ونظامها البنائي والتعبدي في الجاهلية، ولكن ما نعرفه عن ذلك قليل جدا لا غناء فيه.
وفريق ثالث:
وهو غالبية الباحثين من العرب والمسلمين، يرون أن المعاهد الإسلامية قد وجدت منذ صدر الإسلام، وأن الرسول كما اتخذ من صحن بيته الساذج البسيط في حيطانه وسقفه مسجدا للمسلمين، كذلك اتخذ الرسول مساجد جامعة أخرى ليصلي فيها المسلمون ويقوموا بشعائر دينهم. وليس لبناء هذه المساجد أية علاقة بالكنائس المسيحية أو غيرها من أماكن العبادات عند الأمم الأخرى.
أما الفريق الأول فقد استدل أربابه على نظريتهم بأن في مساجد الإسلام الأولى آثارا مقتبسة من المعابد المسيحية، ولا نريد هنا أن نستقصي أقوال المستشرقين الذين قالوا بهذا القول، وإنما نكتفي بإيراد أقوال طائفة من كبارهم؛ يقول البروفسور هنري سلادان في كتابه عن «مسجد سيدي عقبة في القيروان»: ... إن هذا المسجد يتجه من الشمال الغربي نحو الجنوب الشرقي، وهذا هو الأمر في كافة مساجد مدينتي سوسة وتونس، وهذا الاتجاه إنما هو اتجاه المعابد المصرية القديمة والمعابد الكلدانية ...
5
ويقول البروفسور جورج مارسيه في كتابه عن «الفن الإسلامي»: ... لا شك في أن الكنائس المسيحية التي حولها المسلمون إلى معابد كانت الأساس في ابتكار بعض حقائق المسجد الإسلامي؛ لأن شكلها لم يعارض ما يحتاجون إليه في مسجدهم ...
6
وهناك أقوال أخرى يذهب أصحابها إلى أن العمارات الإسلامية ومخططاتها وريازتها منذ فجر الإسلام راجعة إلى أصول غير عربية من مصرية أو كلدانية أو بيزنطية. وحجج هؤلاء العلماء ليست قوية كما ترى، ولا تستند على حقائق علمية ثابتة، وإنما اندفع أصحابها في الأغلب إلى القول بها إشباعا لرغباتهم التعصبية ضد الإسلام والعروبة. ثم إن هؤلاء المستشرقين جميعا قوم غرباء عن الإسلام وعن أهله، لا يستطيعون أن يدركوا حقائق حاجات أهله وخصائص أحوالهم؛ لأن للإسلام روحا وطابعا لا يستطيع أن يسبر غورهما غير العربي العالم المتضلع المسلم، ابن اللغة العربية والبيئة العربية، فكيف بالمستشرق الغربي النصراني البعيد عن روح اللغة العربية، والنائي عن البيئة الإسلامية؟! ولا أدل على ذلك من زعم المستشرق سلادان؛ فإن قوله لا يمكن أن يصدر عن باحث مهما انحطت مداركه العلمية؛ لأن الإسلام قد نص نصا لا يحتمل الجدل أو النقاش في مسألة الصلاة، وفي مسألة القبلة، وفي وجوب الاتجاه نحو الكعبة في أية بقعة من بقاع الأرض كان المصلي، وقد أجمع المسلمون - بلا خلاف - في كافة مذاهبهم على هذا الأمر، ولم يخالف فيه أحد؛ لأن الله يقول في كتابه:
وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره ،
7
ولا تصح لمسلم صلاة إذا لم تكن قبلة مسجده صحيحة الاتجاه نحو المسجد الحرام. وقد تشدد الفقهاء المسلمون في هذا الأمر منذ القرن الأول في تحديد مواطن القبلة، والصلاة ركن من أركان الإسلام الخمسة، فكيف يسوغ لأمير إقليم، أو لأي مسلم يريد أن يختط مسجدا، أو أن يقلب معبدا مسيحيا أو وثنيا إلى معبد إسلامي، أن يتساهل في أمر القبلة، أو أن يبني محرابها في اتجاه المعابد القديمة كما يزعم البروفسور سلادان في قوله عن قبلة مسجد سيدي عقبة؟ ولا شك عندي في أن ذلك البحاثة ما قال قولته إلا وهو جاهل - أو متجاهل - هذه البديهية التي يعرفها أقل المسلمين حظا من العلم والفقه. وإذا كان مسجد سيدي عقبة أو غيره من مساجد القيروان وتونس وسوسة قد انحرفت عن القبلة قليلا فإن مرجع ذلك إلى ظن المسلمين الأولين الذين اختطوا المساجد هناك أن القبلة كانت في ذلك الاتجاه، وإذا كانت جهات المساجد الإسلامية هناك قد تساوقت ووجهات المعابد الوثنية أو المسيحية هناك أو في مصر، فإن ذلك بمجرد الصدفة ليس غير.
ومثل قول البروفسور سلادان قول البروفسور جورج مارسيه، فإن المعابد التي حولها المسلمون إلى مساجد إما أبقوها على شكلها الظاهري القديم ما لم يعارض الشكل الإسلامي المطلوب، أما إذا عارضه فإنهم يبدلونها ليجعلوها ملائمة للغرض الذي تقام المساجد من أجله، وإذا اضطرتهم طبيعة البناء القديم في بعض الحالات إلى إبقاء بعض النواحي المعمارية لتعسر هدمه، فإنه من العبث والباطل أن يقال إنهم في الأبنية الجديدة التي يبنونها كانوا يتعمدون بناء تلك النواحي العمرانية التي اضطروا إلى الإبقاء عليها في الأماكن القديمة المحولة إلى مساجد.
وأما أرباب الفريق الثاني، وهم الذين قالوا إن المسلمين أخذوا ترتيب مساجدهم في المدينة عن معبد أهل مكة وهو الكعبة، فقد يكون لهؤلاء النفر شيء من الحق، ولكن المعلومات الصحيحة عن وضعية الكعبة ووصفها قبل الإسلام مجهولة أو كالمجهولة، وكل ما يعتمد عليه هؤلاء العلماء من حجج إنما هو أقوال لم تثبت صحتها.
وأما أرباب الفريق الثالث، وهم الذين قالوا بأن المسجد الإسلامي نشأ في زمن الرسول ساذجا كما نشأت التعاليم الإسلامية ساذجة، وكما نشأ الدين نفسه ببساطة ما بعدها بساطة، فإن هناك نصوصا كثيرة وأدلة عديدة تثبت ما ذهبوا إليه.
منها: أن القرآن الكريم نص في آيات كثيرة على أن المسلمين كانت لهم «مساجد» في حياة النبي لا كما يزعم أرباب الفريق الأول، فقد قال الله تعالى:
ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله ،
8
وقال أيضا:
إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله ،
9
وقال أيضا:
في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه ،
10
وقال تعالى:
ومساجد يذكر فيها اسم الله ،
11
وقال أيضا:
ومن أظلم ممن منع مساجد الله ،
12
وقال تعالى:
وأنتم عاكفون في المساجد ،
13
وقال أيضا:
وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا .
14
فهذه «المساجد» و«البيوت» بصيغة الجمع تدل على أن المسلمين في حياة الرسول
صلى الله عليه وسلم
كان لهم أكثر من مسجد يقيمون فيها شعائر الله.
ومنها: أن سورة الجمعة قد نص فيها على أن الله قد فرض على المسلمين صلاة معينة في ذلك اليوم اسمها «صلاة الجمعة»، وأن هذه الصلاة لا تصح إلا في مسجد جامع كبير. كما أن الآثار الكثيرة المتواترة دلت على وجوب «صلاة الجمعة»، وهذه لا تكون إلا في «مسجد»، ولعل كلمة «جمعة» و«جماعة» وكلمة «جامع» التي تدل على الكثرة والتجمع، تقوم دليلا على أن المسلمين في عهد الرسول كانوا «يتجمعون» في أماكن متعددة للصلاة، وبخاصة صلاة «الجمعة» التي كانت تقام في عهد الرسول، والتي قال الله تعالى في حقها:
يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ،
15
ومعنى هذا أن الله يأمر كافة المسلمين أن يسعوا إلى مكان واحد يتجمعون فيه لأداء صلاة «الجمعة»، وأنه يجب عليهم أجمعين ترك أعمالهم وغلق محلاتهم التجارية والالتقاء في مكان واحد لتأدية هذه الشعيرة المفروضة، وقد صح أن المسلمين كانوا يؤدونها في عهد الرسول وفي مسجده؛ فلا شك إذن في أنه قد كان للمسلمين مسجد جامع تقام فيه «الجمعة» و«الجماعات».
ومنها: أن أقدم مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي - كسيرة ابن اسحق وطبقات ابن سعد - قد نصت على أن الرسول
صلى الله عليه وسلم
لما دخل المدينة أقام مسجده في المربد الذي وقفت عنده ناقته، وأنه كان مربدا لسهل وسهيل - غلامين يتيمين من الأنصار - وكانا في حجر أبي أمامة أسعد بن زرارة، فدعا رسول الله بالغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير. وقال معمر عن الزهري: أمر أبو بكر أن يعطيهما ذلك، وكان جدارا مجدرا ليس عليه سقف وقبلته إلى بيت المقدس، وكان أسعد بن زرارة بناه، فكان يصلي بأصحابه فيه ويجمع بهم في الجمعة قبل مقدم رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، فأمر رسول الله
صلى الله عليه وسلم
بالنخل الذي في الحديقة وبالغرقد الذي فيه أن يقطع، وأمر باللبن فضرب، وكان بالمربد قبور جاهلية فأمر بها فنبشت وأمر بالعظام أن تغيب، وكان بالمربد ماء مستنجل فسبروه حتى ذهب، وأسسوا المسجد فجعلوا طوله مما يلي القبلة إلى مؤخره مائة ذراع، ومن هذين الجانبين مثل ذلك فهو مربع، وكان يقال أقل من مائة ذراع، وجعلوا الأساس قريبا من ثلاثة أذرع على الأرض بالحجارة ثم بنوه باللبن، وجعلت قبلته إلى بيت المقدس، وجعل له ثلاثة أبواب: باب في مؤخره، وباب يقال له باب الرحمة وهو الباب الذي يدعى باب عاتكة، والباب الثالث الذي يدخل منه رسول الله وهو الباب الذي يلي باب آل عثمان، وجعل طول الجدار بسطة، وعمده الجذوع وسقفه الجريد ...
16
فهذا النص يدل على أن هذا المسجد كان قبل مقدم رسول الله إلى المدينة مهاجرا، وأن أسعد كان يجمع فيه الجمعة، وأن الرسول بناه على الشكل الذي رأينا أول مقدمه إلى المدينة، وأنه ابتناه على هذا الشكل الساذج. ويقول الرواة إنه ظل طول عهد أبي بكر كما كان في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم ؛ قال البلاذري: فلما استخلف أبو بكر - رضي الله عنه - لم يحدث في المسجد شيئا، واستخلف عمر فوسعه لما ضاق بالمسلمين، ثم إن عثمان بن عفان بناه في خلافته بالحجارة والقصة،
17
وجعل عمده حجارة وسقفه بالساج وزاد فيه ونقل إليه الحصباء ...
18
ولما تولى بنو أمية وشرعوا في بناء المساجد الضخمة في الشام ومصر وإفريقية والعراق والمشرق، أمر الوليد بن عبد الملك بإعادة بناء المسجد النبوي على شكل ضخم فخم، كما أمر بتوسعة مسجد المدينة،
19
ولم يكن المسجد النبوي هو الوحيد في الحجاز، بل كانت ثمة غيره.
20
ولما شيدت المساجد الإسلامية العظمى في الأمصار كالفسطاط والقيروان والكوفة والبصرة، بنوها على نمط مسجد الرسول ، وأول المساجد التي شادها المسلمون خارج الجزيرة مسجد الكوفة؛ فقد بني في سنة 17 للهجرة، ويحدثنا الطبري والبلاذري أن المسجد أول شيء خط في الكوفة وأنهم بنوه كالمسجد النبوي مربعا في حدود ... وجعلوا له صحنا وبيتا للصلاة، إلا أنهم لم يقيموه على جذوع النخيل كالمسجد الأموي أول ما بني، بل على أعمدة من الحجر وسقفوه بألواح من الخشب.
21
وفي تلك السنة أيضا أعاد أبو موسى الأشعري بناء مسجد البصرة لما كان واليا عليها، وبناه على النمط الذي بني عليه مسجد الكوفة، وقد كان بناه أولا عتبة بن غزوان في سنة 14ه لما اختط المدينة. وفي سنة 21ه أقيم في الفسطاط بمصر مسجد ضخم له ظلة وسقف وصفوف من الأعمدة الحجرية، شاده فاتح مصر عمرو بن العاص أول ما افتتح المدينة. وفي سنة 50ه بنى فاتح إفريقية عقبة بن نافع مدينة القيروان واختط فيها المسجد الأعظم المعروف في أيامنا هذه بمسجد سيدي عقبة.
وكل هذه المساجد الجامعة إنما بنيت ببساطة لم تحوج بناتها إلى الاستعانة بالمعابد أو الكنائس المصرية والإفريقية أو الرومية كما يزعم المستشرقون. قال الأستاذ أحمد فكري في كتابه عن مسجد القيروان: «... فواجبات الصلاة إذن وفروضها وسننها وعادات العرب وطبيعة بلادهم؛ كل هذه دون غيرها كانت الأساس في تكوين نظام البيت الذي يجتمع فيه المسلمون للصلاة، وهي الأساس في تكوين مسجد الرسول بالمدينة، وإن لبيت الصلاة عنصرا آخر هو المحراب ... وقد اتفق المؤرخون وعلماء الآثار على أنه لم يدخل في نظام مساجد الإسلام الأولى ... ولكننا لا نذهب إلى مثل ما ذهبت إليه غالبيتهم من أن هذا العنصر من المسجد مشتق من الكنائس أو أنه محور من محاريبها ... فمحراب الكنائس فناء كبير في صدر الكنيسة يتسع على الأقل لمنضدة توضع عليها معدات الشعائر والمراسيم، وفضاء فسيح يروح فيه القائم بهذه الأشياء ويغدو من غير عائق، أما محراب المسجد فهو جوفة في حائط لا تتسع لغير ركوع الإمام وسجوده وجلوسه. والاختلاف شديد بين الوظيفة التي يؤديها هذا والمهام التي يسعها ذلك ...»
22
وفي المسجد النبوي والمساجد الأولية الأخرى التي شيدت في عهد النبي وخلفائه كانت تقوم حلقات العلم ومجالس القصاص الذين كانوا يذكرون الناس ما نسوا من أمر الآخرة، ويعلمونهم أمور دينهم، ويمزجون ذلك ببعض ضروب من العلم والحكمة والمعرفة والموعظة الحسنة من نثر ونظم. وقد ظهر هؤلاء القصاص في زمن مبكر جدا،
23
ويقال إن أول من قص في المسجد النبوي هو الصحابي الفصيح العالم تميم الداري،
24
فقد رووا أنه كان يحلق حوله حلقات يعظ فيها الناس في مسجد النبي كل يوم جمعة قبل الصلاة في أيام عمر بن الخطاب، فلما استخلف عثمان بن عفان استأذنه تميم أن يقوم في الناس مرتين للوعظ والإرشاد فأذن له بذلك، فلما جاء عهد علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان، وأخذ الخليفتان - حين وقعت الفتنة بين المسلمين في تلك الآونة - يتخذان قصص القصاص آلة للدعاوة لهما، والدعاء على أعدائهما والتنفير منهم وانتقاص أهل الفتنة،
25
وكان هدفهم في هذه المجالس نشر التعليم الديني وتثقيف العامة بتفسير بعض آي القرآن الكريم، وسرد ما يحفظونه من أحاديث الرسول وما وعوه من حكيم الشعر والنثر. وكانوا يمزجون ذلك كله بما تناقل إليهم من أخبار الماضي من عرب وغير عرب،
26
ولم يقتصر أمر القصص على الحجاز؛ فقد وردت أخبار كثيرة عن جماعة من القصاص في الأقطار الإسلامية الأخرى.
فقد رووا أن سليمان بن عتر التجيبي قاضي مصر في سنة 38ه كان يقص على الناس في مسجد عمرو بن العاص بالإضافة إلى وظيفة القضاء التي كان يتولاها،
27
ويظهر أن كثيرا من القضاة في الأمصار الإسلامية كانوا يقصون على الناس في المساجد الجامعة.
28
ومما يجب أن نلاحظه أن التعليم كان يماشي القصص، ولا نستطيع أن نميز بين النواحي التعليمية والنواحي القصصية في عمل القصاصين؛ فإنهم كانوا يمزجون بين معلوماتهم ومواعظهم مزجا يصعب معه التمييز بينهما، وقد كان لهؤلاء القصاص كراسي يجلسون عليها، ويشرفون منها على طلاب الفقه والحديث وطلاب العلم والمعرفة، كما كانوا يحلقون حولهم حلقات صغيرة أو كبيرة تختلف بحسب شهرة القاص وبراعته في اجتذاب قلوب الناس إليه، وسعة علمه.
وهكذا نستطيع أن نقول إن «أصحاب الكراسي» هؤلاء كانوا هم أول طبقة للمعلمين في الإسلام.
وكان نشاط «أهل الكراسي» هؤلاء نشاطا عاما في الديار الإسلامية كلها في المغرب والمشرق منذ أيام بني أمية إلى العصر العباسي،
29
وكذلك كان شأن الفاطميين في مصر؛ فإنهم منذ أن دخلوا مصر واستولوا على الأمر فيها ألفوا هؤلاء الوعاظ والقصاص يقومون بإرشاد الناس وتعليمهم في مساجد القاهرة، وبخاصة في مسجد عمرو ومسجد ابن طولون.
30
ومما هو جدير بالإشارة إليه أن الفاطميين كانوا يقيمون حلقات للقصاص في قصورهم يقرءون فيها آيات من القرآن، وبضعا من الأحاديث النبوية والأخبار المروية عن آل البيت، ثم يعلقون على ذلك بما فيه تأييد للمذهب الفاطمي.
31
ولما كثر عدد هؤلاء القصاص وانضم بينهم نفر من الغلاة أو السذج الذين كانوا يتساهلون في رواية الأخبار والأقاصيص الإسرائيلية، انتصب لهم العلماء العاملون والأئمة الصادقون ينتقدونهم، ويحذرون الناس من أباطيلهم وترهاتهم، حتى إن بعض المؤلفين كأبي طالب المكي صاحب «قوت القلوب» لم يضعوا هؤلاء القصاص في الطبقة الرفيعة من رجال الدين أمثال المتكلمين والزهاد والفقهاء، بل جعلهم طبقة أحط منهم قدرا.
32
أما أسلوب الوعاظ الأولين في وعظهم وطرائق قصصهم فقد ضاعت؛ لأن قدماء القصاص لم يحفظوا لنا قصصهم في مدونات، وإنما نعثر على فقرات منه ونماذج من أسلوبه في بعض كتب الأدب القديمة، أو رسائل الصوفية العتيقة، أو كتب بعض الوعاظ المتأخرين أمثال الجاحظ في «البيان والتبيين» وابن عبد ربه في «العقد»
33
وابن الجوزي في «التبصرة» وغيرها من كتبه، والزمخشري في «ربيع الأبرار» وغيرها.
34
ومما يؤسف له أشد الأسف أن هذا القصص، الذي كان في صدر الإسلام وسنيه الأولى عنصرا من عناصر التثقيف والتوجيه والتعليم، أضحى في العصور المتأخرة - أي في القرن الرابع والخامس وما بعدهما - مملوءا بالأباطيل والإسرائيليات والأسجاع السخيفة المملة التي لا غناء كبيرا فيها،
35
كما يتجلى ذلك في «مدهش» ابن الجوزي. وقد اضطر هذا الأمر المفكرين والكتاب والنقاد أن يقسموا القصص إلى نوعين اثنين؛ أحدهما: قصص العامة، والثاني: قصص الخاصة. أما قصص العامة الذي كان رواده من العوام والسوقة فقد كانت موضوعاته تافهة، أما قصص الخاصة فقد كان دروسا في الدين والتوحيد والعلم، وكان يقوم به نفر من كبار الأئمة والمجتهدين الفضلاء. وقد حمل المقريزي على قصص العامة وقال إنه أمر مكروه لا خير فيه.
36
ويذكر ابن الحاج أن الإمام مالك بن أنس، وعبد الله بن عمر، وأبا داود كانوا يحملون على قصص العامة، وأن الإمام عليا طرد أصحابه من مسجد البصرة، وأن الخليفة المعتضد بالله منعهم من الجلوس في المساجد سنة 284ه وحظر عليهم أن يلتف الناس حولهم ...
37
ومهما يكن من شيء فإن القصص بنوعيه، وعلى الرغم مما صار إليه من انحطاط، كان مدرسة شعبية أفاد عوام الناس منه معلومات وأخبارا قد استنارت بها عقولهم، وزكت بها نفوسهم. •••
وأما حلقات مجالس التعليم الخاصة في القصور والدور، فقد ورد عنها الكثير في كتب الفقه والأدب والتاريخ، ونقلت إلينا نصوص عديدة تدل على أنه كان للقوم مجالس للتعليم يعقدونها في قصور المدينة ودمشق والعواصم الإسلامية الأخرى، كما أن دور بعض العظماء والوجوه كان يعقد فيها مجالس للتعليم والمناظرة والإفادة.
أما الأسواق العامة فأمرها في التعليم أشهر من أن يذكر، وقد كان هذا الأمر معروفا في الجاهلية، وأخبار أسواق عكاظ ومجنة وذي المجاز والطائف وغيرها كثيرة منثورة في كتب الأدب والتاريخ والسيرة، ولقد لعبت هذه الأسواق في الجاهلية وصدر الإسلام - بل وفي العصر الأموي - دورا هاما في نشر العلم وحفظ التراث الفكري والعقلي والأدبي في الجاهلية والإسلام.
والحق أن الخلفاء والأمراء الذين كانوا يهتمون بالنواحي الثقافية والنشاط العلمي كانوا يجمعون في قصورهم مشاهير العلماء في كافة فروع العلم والأدب ويستمعون إلى مناقشاتهم، وكثيرا ما كانوا يشاركونهم هم أنفسهم في ذلك النشاط العلمي.
38
وقد تطور أمر هذه المجالس في القصور إلى مجالس كانت تعقد في المحلات العامة كالطرقات والأندية، يتناقش فيها العلماء ويتناظرون أمام الجمهور بشكل جذاب ومفيد .
39
ومن أشهر مجالس الأماكن العامة مجالس المربد وحلقاته في البصرة، وقد كانت تضم إلى علماء المدينة وأئمتها جمهرة كبيرة فاضلة من علماء البادية ورواة أخبارها، الذين كانوا يقصدون «المربد» للامتياز والمشاركة في ذلك النشاط الأدبي والنحوي واللغوي بصورة عامة.
وكان العلماء والإخباريون الحضريون يرحبون بمقدم هؤلاء البدو الأذكياء ليفيدوا من علمهم ورواياتهم، وكان كثير من طلاب العلم يقصدون تلك المجالس ليدونوا ما يجري فيها من الأحاديث، أو لينقلوا عن علماء البادية ما يحفظون من أخبار قبائلهم وأنسابها وأشعارها ومنثورها. وفي «المربد» أيضا كان جرير والفرزدق والأخطل وأصحابهم يلقون قصائدهم ومعارضاتهم. وقد ظل هذا الأمر طوال العصر الأموي، فلما جاء العصر العباسي وكثر العلماء ازدادت الحركة في تلك الأسواق العلمية وأضحت في فجر العصر العباسي «مدارس» منظمة إن صح استعمال هذا التعبير.
وكان كثير من أئمة النحو واللغة أمثال الأصمعي وأبي عمرو بن العلاء وقطرب والكسائي والخليل وسيبويه و... يقصدونها ويفيدون منها، بل إن كثيرا منهم اعتمد في تثقيف نفسه وتخريجها على ما حفظه من رواة البادية الفحول الذين كانوا يقصدون تلك الأسواق العلمية. (1-2) الكتاتيب ومعلموها
الكتاتيب:
عني العرب منذ «الجاهلية» وصدر الإسلام بأطفالهم عناية خاصة؛ فأبناء الخواص منهم كانوا يلقون عناية شديدة لتثقيفهم روحيا وتربيتهم جسمانيا،
40
كما أن أبناء العوام لم يكن أمرهم مهملا. يقول المستشرق دييس في دائرة المعارف الإسلامية: إن التعليم في مدارس الأطفال «الكتاتيب» كان أقدم من التعليم الذي جاء به الإسلام؛ بحيث إن الطفل الجاهلي كان يلقن مبادئ القراءة والكتابة، وكذلك كان الأمر في صدر الإسلام، وقد كان ليهود المدينة أثر واضح في تعليم أطفال العرب،
41
ويقول البلاذري نقلا عن الواقدي وغيره: «كان الكتاب (أي الكتابة) بالعربية في الأوس والخزرج قليلا، وكان بعض اليهود قد علم كتاب العربية وكان يعلمه الصبيان بالمدينة في الزمن الأول؛ فجاء الإسلام وفي الأوس والخزرج عدة يكتبون ...»
42
ويقول الإمام محمد بن سحنون في رسالته «آداب المعلمين» مما دونه عن أبيه سحنون عن الصحابي الجليل أنس بن مالك أنه قال: «إذا محت صبية الكتاب تنزيل رب العالمين بأرجلهم نبذ المعلم إسلامه خلف ظهره.» قيل لأنس كيف كان المؤدبون على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؟ قال أنس: كان المؤدب له إجانة، وكل صبي يجيء كل يوم بنوبته ماء طاهرا فيصبه فيها فيمحون به ألواحهم. وقال أنس: ثم يحفرون له حفرة يصبون ذلك الماء فينشف.
43
وروى أنس أيضا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «أيما مؤدب ولي ثلاثة صبية من هذه الأمة فلم يعلمهم بالسوية فقيرهم مع غنيهم وغنيهم مع فقيرهم حشر يوم القيامة مع الخائنين»
44
فهذان الحديثان الجليلان يدلان على أنه كان في عهد الرسول وخلفائه الراشدين كتاتيب منتظمة يتعلم فيها أبناء المسلمين الأغنياء مع أبناء المسلمين الفقراء بصورة عامة، وأن التعليم كان صناعة لها آدابها وأصولها، وأنه كان يتولاها جماعة مخصوصة من الناس، وأنه كانت لهم طرائق في التعليم وفي تهذيب أطفال المسلمين والعناية بتهذيبهم وإصلاح أحوالهم.
ومما ينبغي أن نذكره هنا أنه قد كانت في المدينة دار تسمى «دار القرآن»، وأن بعض القراء كانوا يسكنونها ليحفظوا آي كتاب الله ويجودوا قراءته، ويقصدهم الناس إليها فيفيدون مما عندهم من علم كتاب الله وما حفظوا من حروفه. قال المستشرق دييس في دائرة المعارف الإسلامية: «ويظهر أنه قد وجدت منذ فجر الإسلام أمكنة كانوا يجتمعون فيها لاستظهار القرآن وتدارسه.» ولا شك في أن هذه المواضع كانت كالمدارس الأولية يتعلمون فيها مبادئ القراءة وأصول الكتابة العربية، كما يحدثنا الواحدي ويذكر أن عبد الله ابن أم مكتوم كان يسكن دار القراء بالمدينة.
45
ولما سارت جيوش المسلمين في فتوحاتهم الواسعة خارج الجزيرة العربية برزت الكتاتيب القرآنية بصورة واضحة، وتعددت في كافة الأرجاء التي حل الفاتحون فيها من عواصم المدن والدساكر والقرى القريبة والنائية،
46
ولا غرو في أن كثرة الفتوح واتساع رقعة المملكة وتحمس الناس الشديد للقرآن قد سبب كل ذلك.
وقد لعب المسلمون الأولون من أهل الحجاز والشام والعراق ومصر دورا كبيرا في إيجاد هذه الكتاتيب حيثما انتقلوا من الديار المفتوحة في خراسان والمشرق والمغرب، ليعلموا أولادهم القرآن وليلقنوا أبناء المسلمين من أهل هاتيك الديار آيات كتاب الله البينات؛ وهكذا وجدت الكتاتيب بكثرة في البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان ودمشق وحلب والإسكندرية وغيرها من العواصم؛ فقد روي عن غياث بن أبي غياث لما كان طفلا في الكتاب أن الصحابي الجليل سفيان بن وهب كان يزور كتابهم، ويلاطف الأطفال ويباركهم ويدعو لهم بالفتوح والبركة.
47
ولما استقل بنو أمية بأمر المسلمين ازدادت عنايتهم بالثقافة زيادة واضحة لتوسع رقعة الملك وحاجة الدولة إلى المتعلمين. وقد نبغ في هذا العصر جمهرة من كبار المعلمين والمؤدبين ذوي المكانة السامية والفضل والقدر الرفيع والشهرة. وقد كانت للأمويين عناية خاصة بتهذيب أبنائهم وأبناء رجالات دولتهم، فكانوا يرسلونهم إلى البادية لتفصح ألسنتهم وتتقوى أجسامهم، متبعين في ذلك السنن الذي كان يفعله آباؤهم قبل الإسلام حين كانوا يرسلون أطفالهم إلى البادية فيرضعونهم فيها وينتقون لهم أشرف المراضع من بنات القبائل الشريفة الفصيحة.
48
قال عبد الملك بن مروان: «... أضر بالوليد حبنا له فلم نوجهه إلى البادية.» ولذلك خرج الوليد لحانة، وكذلك كان أخوه محمد لحانا، على عكس أخويهما هشام ومسلمة؛ فإنهما كانا فصيحين لأنهما خرجا إلى البادية فتفصحا فيها. وقد أساء لحن الوليد إلى نفسه وإلى الأمة إساءة خطيرة؛ قال الجاحظ بعد أن روى حكمة عبد الملك السابقة في ابنه الوليد: لحن الوليد على المنبر فقال الكروس: لا والله إن رأيته على هذه الأعواد قط فأمكنني أن أملأ عيني منه من كثرته في عيني، وجلالته في نفسي، فإذا لحن هذا اللحن الفاحش صار عندي كبعض أعوانه، وصلى الوليد يوما الغداة فقرأ السورة التي تذكر فيها الحاقة فقال: يا ليتها كانت القاضية. فبلغت عمر بن عبد العزيز فقال: أما إنه إن كان قالها إنه لأحد الأحدين. وقالوا: لم يكن في أولاد عبد الملك أفصح من هشام ومسلمة.
49 •••
أما في العصر العباسي فقد انتظم أمر هذه الكتاتيب بصورة فنية فائقة؛ لعناية الناس بأمر أولادهم من جهة، ولاشتداد الدولة واهتمامها بأمر التعليم وما إليه من الشئون العامة من جهة أخرى.
ويلاحظ أن معلمي الكتاتيب منذ العصر الأموي قد كانوا منقسمين إلى قسمين:
أولهما:
معلمو كتاتيب العامة الذين كانوا يهتمون بتعليم أبناء الطبقة المتوسطة وسواد الشعب.
وثانيهما:
معلمو أبناء الطبقة العليا والأمراء والنبلاء والأثرياء، وكان لهؤلاء المعلمين اسم يمتازون به وهو اسم «المؤدبين».
وكان إلى جانب هؤلاء جميعا طبقة هي طبقة كبار المؤدبين الذين امتازوا بسعة اطلاعهم في الثقافة العربية الإسلامية، إلى جانب تعمقهم في ضروب من العلم والأدب واضطلاعهم بآداب الأمم السابقة وتقاليد الملوك الغابرة، وكلم الحكماء والفلاسفة القدماء، وكان هؤلاء يختصون بتربية أبناء الخلفاء وولاة العهد وغيرهم من أبناء الأسرة الحاكمة وكبار الأمراء. نذكر منهم الأئمة سيبويه والكسائي والأصمعي، وغيرهم من طبقة كبار علماء الإسلام.
وكان إلى جانب هؤلاء أيضا طبقة من العلماء الأعراب البداة الذين ورثوا علم البادية، وحفظوا أشعار القبائل ووعوا أخبارهم، وكانت لهم ثقافة واسعة في العربية، فكان هؤلاء يطوفون على أصحاب الكتاتيب والمؤدبين وكبار العلماء فيفيدونهم من علمهم ويستفيدون مما عندهم. ونذكر منهم أسعد الرياحي، وأبا مسهر مؤدب البرامكة، وأبا العميثل بن خليد معلم عبد الله بن طاهر ومحمد قادم، وأبا عمرو الشيباني، وغيرهم ممن سنذكرهم بعد.
50
كما يلاحظ أيضا أن الكتاتيب قد انقسمت إلى قسمين أيضا:
أولهما:
كتاتيب أولية كان يتعلم الأطفال فيها القراءة والكتابة ويحفظون القرآن ومبادئ الدين وأوليات الحساب.
وثانيهما:
كتاتيب قانونية - إن صح هذا التعبير - كانت لتعليم الأطفال والشبان علوم اللغة والآداب، وكانوا يتوسعون فيها بعلوم الدين والحديث وسائر صنوف العلم الأخرى بصورة عامة.
معلمو الكتاتيب وآدابهم
قلنا فيما سبق إن الحكومة لم تكن تشرف في صدر الملة الإسلامية على المعلمين وكتاتيبهم، وإنما كانت الرقابة متروكة لدين المعلم ووجدانه وخلقه، وقد كان الناس في صدر الملة الإسلامية يخافون الله فيراقبون أنفسهم، وكان كثير من المعلمين والمربين يعلمون وهم لا يبغون من التعلم إلا الاحتساب وطلب الثواب، فلما تطورت الحياة في المجتمع الإسلامي، ودخل في كيان الدولة الفساد صار الآباء يهتمون بانتقاء أفاضل المعلمين لأولادهم كما ينتقون العارفين بهذه المهنة، وكانوا يتطلبون من معلم الكتاب أن يكون ذا ثقافة محدودة، وعلم بعينه، ويطلبون منه أيضا أن يكون عارفا بسياسة الأطفال وعلم نفسياتهم، وأن يكون دينا ورعا متزوجا، ولا يجيزون للشباب المراهقين مزاولة هذه المهنة.
هذا وقد اشترط المسلمون منذ زمن مبكر في معلمي الكتاتيب وأساتيذ الأطفال والشبان في التعليم الأولي والثاني شروطا عديدة، أهمها: (1)
أن يقصد الواحد منهم لعمله التهذيبي هذا وجه الله تعالى، وأن يكون اشتغاله بالتعليم في سبيل الله تعالى لإصلاح ناشئة المسلمين، لا طمعا في مال أو جاه، فإن فعل ذلك ضل. قال سفيان بن عيينة: كنت قد أوتيت فهم القرآن فلما قبلت الصرة من أبي جعفر سلبته. (2)
أن يكون قوي اليقين بالله عز وجل، وأن يقوم بشعائر الدين وإظهار السنن وإخماد البدع، وأن يتخلق بمحاسن الأخلاق حتى يقذف الله في قلبه الفهم. قال ابن مسعود: ليس العلم بكثرة الرواية، إنما العلم نور يقذفه الله في القلب. (3)
أن يتنزه في ساعات فراغه عن امتهان المهن الحقيرة كالحجامة والدباغة وما إلى ذلك ... (4)
أن ينظف جسمه بإزالة الأوساخ وتقصير الأظافير، واجتناب الروائح الكريهة. (5)
أن يقتصد في ملبسه ومطعمه ومسكنه. قال الإمام الشافعي: ما شبعت منذ ست عشرة سنة. (6)
أن يبتعد ما استطاع عن الحكام والملوك. قال الأوزاعي: ما شيء أبغض إلى الله تعالى من عالم يزور وزيرا. (7)
أن يتشبه بأهل الفضل والدين من معلمي الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أكابر العلماء. (8)
أن يكون ذا عناية بالعلوم المفيدة، وأن يتجنب غير المفيدة التي يقل نفعها ويكثر الجدل فيها والقيل والقال عنها. (9)
أن تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة من نوع ما روي عن الإمام شقيق البلخي أستاذ حاتم الأصم أنه قال لحاتم: منذ كم صحبتني؟ فقال: منذ ثلاث وثلاثين سنة. فقال: وما تعلمت مني في هذه المدة؟ قال: ثماني مسائل. قال شقيق: إنا لله وإنا إليه راجعون! ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل. فقال: يا أستاذ، لم أتعلم غيرها ولا أريد أن أكذب . فقال: هات هذه المسائل الثماني حتى أسمعها، فذكرها وهي: محبة الحسنات، ومدافعة الهوى، والصداقة، والتقوى، وترك الجسد، ومصادقة الخلق وعداوة الشيطان، وملازمة الطاعة، وترك الذل للخلق بسبب المعيشة، والتوكل على الله. فقال شقيق: يا حاتم، وفقك الله! إني نظرت في علم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان فرأيته يدور على هذه المسائل الثماني.
51 (10)
أن لا ينصب نفسه للتعليم حتى يستكمل أهليته ويشهد له أفاضل أساتذته بذلك. قال الشبلي: من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه. (11)
أن يؤدب طلابه وتلاميذه بسيرته وعمله قبل تأديبهم بقوله وموعظته. (12)
أن لا يذل العلم بالذهاب إلى المتعلم وإن كان كبير القدر. قال الزهري: هوان العلم أن يحمله العالم إلى بيت المتعلم، فإن دعت الضرورة وحسنت فيه النية فلا بأس. (13)
أن يحب تلاميذه ويصونهم عن الأذى ما استطاع. قال أبو عباس: أكرم الناس علي جليسي الذي يتخطى الناس حتى يجلس إلي، ولو استطعت أن لا يقع عليه الذباب لفعلت. (14)
أن يغفر لتلاميذه خطاياهم ويعذرهم على هفواتهم، فإن أراد تنبيههم على ذنوبهم أدبهم أولا بالتلميح، فإن لم يتعظوا صرح لهم، فإن لم يفدهم ذلك وبخهم. قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «علموا ولا تعنفوا؛ فإن المعلم خير من المعنف.» وقال: «لينوا لمن تعلمون، ولمن تتعلمون منه». (15)
أن يرحب بطلبته إذا حضروا إليه، ويسأل عنهم إذا غابوا عنه. وكان أبو حنيفة أكرم الناس مجالسة، وأشدهم إكراما لأصحابه، وإذا غاب أحدهم غيبة طويلة سأل عنه، فإن لم يخبر عنه أرسل إليه أو قصد منزله بنفسه، وإن كان مريضا عاده، وإن رآه في غم خفض عنه، وإن رآه محتاجا قضى له حاجته. (16)
أن يقول «لا أدري» إذا سئل عما لا يعرفه. قال ابن مسعود يوصي المعلمين: يا أيها الناس من علم شيئا فليقل به، ومن لا يعلم فليقل «الله أعلم»، فإن من العلم أن تقول «الله أعلم». (17)
أن يتفهم مستوى فهم طلابه ويخاطبهم على قدر فهمهم وإدراكهم، فيكتفي للحاذق بالإشارة، ويوضح لغيره بالعبارة، ويكرر لمن لا يعلم، ويبدأ بتصوير المسألة ثم يوجهها بالأمثلة، ويقتصر على ذلك من غير دليل ولا تعليل، فإن سهل عليه الفهم فيذكر التعليل والمأخذ، ويبين الدليل المعتمد ليعتمده، والضعيف لئلا يغتر به، ويبين ما يتعلق بالمسألة من النكت اللطيف والألغاز الطريفة والأمثال والأشعار. (18)
أن يذكر لهم قواعد الفن التي لا تنخرم مطلقا أو غالبا مع مستثنياتها إن كانت موجودة، وأن يحرضهم على الاشتغال في كل وقت ويطالبهم بإعادة محفوظاتهم، فمن وجده حافظا أثنى عليه، ومن وجده مقصرا عنفه، وأن يطرح عليهم أسئلة يختبر بها أفهامهم، ويأمرهم بالاعتدال في الطلب إذا ما أسرفوا فيه وظهر ذلك على أجسامهم وفي وجوههم، وإذا ما رأى من أحد ضجرا أو نحوه أوصاه بالراحة والاستجمام. (19)
أن لا يعلم أحدا ما لا يحتمله ذهنه أو سنه، ولا يشير على أحد بقراءة كتاب يقصر عنه ذهنه، فإن استشاره من لا يعرف حاله في قراءة فن مشكل أو كتاب معضل أو بحث عويص، لم يشر عليه بشيء حتى يمتحنه، فإذا امتحنه سمى له الكتاب الذي يقدر عليه، ولا يمكن طالبا من الاشتغال بعدة فنون لا يستطيع إتقانها معا. (20)
أن لا يدرس وهو منزعج النفس فيه ملل أو مرض أو جوع أو غضب أو نعاس؛ فإن ذلك مضر بنفسه وبطلابه ضررا بالغا. (21)
أن يكون له «نقيب» فطن كيس درب يرتب الطلاب على أقدارهم، ويوقظ منهم الغافل، ويأمرهم بحسن الاستماع والانتباه، ويراقب الذي يمحون به ألواحهم بكونه طاهرا، وأن لا يلقى في أماكن قذرة، ولا يدعهم يمحونها بأرجلهم. (22)
أن يجعل للطلاب أوقاتا معينة يعرضون فيها عليه ما حفظوه من القرآن والكتب، وكان المعلمون قديما يجعلون ذلك عشية يوم الأربعاء وصبيحة يوم الخميس، ويتركون طلابهم أحرارا عشية الخميس وطيلة الجمعة للاستراحة والاستجمام. قال سحنون: وذلك سنة للمعلمين منذ كانوا، فأما بطالتهم كل يوم الخميس فهذا بعيد، إنما دراسة الصبيان أحزابهم وعرضهم إياه على معلميهم في عشي يوم الثلاثاء والأربعاء وغدو يوم الخميس إلى وقت الكتابة، والتخاير إلى قبل انقلابهم نصف النهار، ثم يعودون بعد صلاة الظهر للكتاب أو الخيار
52
إلى وقت صلاة العصر، ثم ينصرفون إلى يوم السبت يبكرون فيه إلى معلميهم؛ وهذا حسن بالغ رفيق بالصبيان. (23)
أن يتركهم أحرارا في الأعياد، وكانوا يبطلون الدرس في عيد الفطر يوما واحدا وربما جعلوها ثلاثة أيام مع بعض الديار الإسلامية، وفي عيد الأضحى ثلاثة أيام وربما جعلوها خمسة، ولا بأس ببطالة بعض الأيام الأخرى كأيام ختمة بعضهم أو غير ذلك من المناسبات المشروعة.
53
المتعلمون وآدابهم
وكما اشترط المربون المسلمون في المعلمين شروطا بيناها في الفصل السابق، اشترطوا كذلك على الطالب شروطا يجب عليه أن يتخلق بها، وقد أسهبوا في بيان ذلك. ونرى أن نذكر هنا أهم تلك الشروط لأنها تعطينا صورة موجزة عما يجب أن يتحلى به الطفل المسلم من أخلاق في الكتاب وغيره: (1)
يجب عليه أن يفهم أنه إنما يتعلم العلم لله وللخير وللدين لا لأمور الدنيا ولا لأي عرض زائل، وأن يحافظ على شعائر الدين ومكارم الأخلاق وإظهار السنن، ويخشى الله، ويطهر قلبه من الصفات الذميمة كالحسد والرياء والعجب واحتقار زملائه والغش، وما إلى ذلك من فاسد الأخلاق. (2)
يجب عليه أن يجد في الدراسة، وينشط في الحفظ والعمل، وأن لا يتأخر عن مواعد الدروس والحفظ. (3)
يجب عليه أن لا يسأل أستاذه أسئلة تعنت وتعجيز، وأن يهذب أسئلته، وأن لا يستنكف عن التعلم ممن هو دونه من رفقائه إذا كان أعلم منه؛ فقد ثبتت في الصحيحين وغيرهما من كتب الأئمة رواية جماعة من الصحابة عن التابعين وسؤالهم إياهم عن بعض مسائل العلم والدين. (4)
أن لا يعاشر غير إخوانه المجدين من الطلبة؛ فإن الطبع سراق. (5)
أن لا يفتش في ابتداء دراسته عن اختلافات العلماء، وبخاصة في المباحث العقلية والسمعية؛ فإن ذلك مما يفسد ذهنه ويشوشه. (6)
أن لا ينتقل من بحث قديم إلى بحث جديد إلا بعد إتقان البحث القديم، إلا إذا كان ذا مواهب كبيرة وأهلية واسعة، وبعد استئذان أستاذه ومشورته بذلك. (7)
أن لا ينظر إلى «أستاذه» و«نقيبه» بغير الإجلال والاحترام. ويروى عن الشافعي أنه قال: كنت أصفح الورقة بين يدي مالك - رحمه الله - صفحا رفيقا؛ هيبة له لئلا يسمع وقعها . ويروى أن الإمام يحيى بن سعيد القطان كان يصلي العصر ثم يستند إلى أصل منارة مسجده، فيقف بين يديه علي بن المديني، والشاذكوني، وعمرو بن علي، وأحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، وغيرهم، يسألونه عن الحديث وهم قيام على أرجلهم إلى أن تحين صلاة المغرب لا يقول لواحد منهم: اجلس، ولا يجلسون هيبة له وإعظاما. (8)
أن يبجل أستاذه في حضوره وغيبته، ولا يخاطبه بتاء الخطاب وكافه ولا يناديه من بعيد، بل يقول له: يا سيدي، يا أستاذ، يا أيها المعلم، يا أيها الحافظ، ويخاطبه بصفة الجمع، ويذكره في غيبته بقوله: قال الشيخ، أو قال شيخنا، أو قال شيخ الإسلام، أو حجة الإسلام، أو غير ذلك. (9)
أن يصبر على بعض هفوات أستاذه أو جفوته أو سوء خلقه. قال الشافعي: قيل لسفيان بن عيينة إن قوما يأتونك من أقطار الأرض تغضب عليهم يوشك أن يذهبوا ويتركوك! فقال: هم حمقى إن تركوا ما ينفعهم لسوء خلقي. (10)
أن يسبق أستاذه في الحضور إلى المكتب أو الحلقة، وأن يجلس في حضرته بأدب ويتعاهد تغطية قدميه وإرخاء ثيابه، ولا يستند بحضرته إلى حائط أو مخدة، ولا يدير إليه ظهره أو ما أشبه هذا. (11)
أن يلقي بسمعه إلى الشيخ وهو شهيد لما يلقيه؛ بحيث لا يحيجه إلى إعادة الكلام، ولا يلتفت ولا يتمخط ولا يتمطى ولا يتثاءب ولا يتجشأ ولا يضحك إلا بقدر. (12)
أن لا يأكل ما يفسد عليه ذوقه وفهمه أو يضر بصحته أو ينسيه، أو يسبب إفساد صحته وسوء فهمه.
54 (13)
أن يقلل النوم حتى لا يلحقه الضرر من ذلك في بدنه وذهنه، وأن لا يزيد في نومه في اليوم والليلة على الثماني ساعات وإلا تبلد ذهنه، وأن ينشط ذهنه بالترويح عن النفس في التفرج على المستنزهات والرياضة. قال ابن خلكان في ترجمة الفارابي: وكان الشيخ مدة قيامه بدمشق لا يكون غالبا إلا عند مجتمع ماء أو مشتبك رياض يؤلف هناك كتبه ويتناوبه المشتغلون عليه.
55 (14)
أن لا يسيء معاملة أستاذه أو يسخر منه، أو يقوم هو ورفقاؤه من الأطفال ببعض الأعمال الشائنة التي تحط من قدر الأستاذ أو تجعله أضحوكة بين التلاميذ أو الناس. وينبغي على شيخ الكتاب إذا رأى من أطفال كتابه عملا أو قولا أو حركات يراد بها الاستهزاء به أن يتظاهر بأنه مطلع على حركاتهم هذه، وأنه سيعفو عنهم هذه المرة، فإن كرروا العمل عاقبهم عقابا شديدا ليرهبوه وينزجر بهم رفقاؤهم، وينبغي عليه أن لا يثور عليهم ثورات تدل على حمقه أو سخفه. وقد اتهم معلمو الكتاتيب منذ القديم بأنهم حمقى حتى ضربت بهم الأمثال في ذلك؛ قال الجاحظ: ومن أمثال العامة أحمق من معلم كتاب. وقد ذكرهم صقلاب فقال:
وكيف يرجى الرأي والعلم عند من
يروح على أنثى ويغدو على طفل
وقال بعضهم: لا تستشيروا معلما ولا راعي غنم ولا كثير القعود مع النساء ... وقد سمعنا في المثل «أحمق من راعي ضأن ثمانين.» فأما استحماق رعاة الغنم في الجملة فكيف يكون صوابا وقد رعى الغنم عدة من جلة الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ... وقد سمعنا قول بعضهم «الحمق في الحاكة والمعلمين والغزالين.» وقال: «الحاكة أقل وأسقط من أن يقال لهم حمقى، وكذلك الغزالون؛ لأن الأحمق هو الذي يتكلم بالصواب الجيد ثم يجيء بخطأ فاحش، والحائك ليس عنده صواب جيد في فعال ولا مقال ... وما زلت أسمع هذا القول في المعلمين. والمعلمون عندي على حزبين؛ منهم رجال ارتفعوا عن تعليم أولاد العامة إلى أولاد الخاصة، ومنهم رجال ارتفعوا عن تعليم أولاد الخاصة إلى أولاد الملوك أنفسهم المرشحين للخلافة، فكيف تستطيع أن تزعم أن مثل حمزة بن علي الكسائي ومحمد بن المستنير الذي يقال له قطرب وأشباه هؤلاء يقال لهم حمقى؟! ولا يجوز هذا القول على هؤلاء ولا على الطبقة التي دونهم، فإن ذهبوا إلى معلمي كتاتيب القرى، فإن لكل قوم حاشية وسفلة، فما هم في ذلك إلا كغيرهم، وكيف نقول مثل ذلك وفيهم الفقهاء والشعراء والخطباء مثل عبد الحميد الكاتب و ...»
56
والحق أن المعلمين هم الصفوة المختارة الذين نذروا نفوسهم لتعليم أبناء الأمة ، وأذابوا نفوسهم لإضاءة الطريق أمام الجيل الصاعد، وإن ظهر من بعضهم سخف أو حمق فهو كالذي يظهر من غيرهم من طبقات الناس كالمهندسين والأطباء وغيرهم.
كيف كان يجري التعليم في الكتاتيب
كان الطفل يرسل إلى الكتاب الذي كان يكون في الغالب إلى جانب المسجد، وقد يكون بعيدا عنه، ونادرا ما يكون فيه لعدم تحرز الأطفال عن الوساخة والضوضاء، وكان يشرف على الكتاب معلم قارئ حافظ مثقف يتخذ التعليم حرفة ومكتسبا، وقد يشترك أكثر من معلم واحد في كتاب واحد إذا كان عدد الأطفال كثيرا، ولم تكن للحكومة أية رقابة على هذه الكتاتيب إلا متأخرا حينما وجدت وظيفة «المحتسب». وكان الآباء ينتقون لأبنائهم الكتاتيب، ويتفقون مع معلميها على الأجر ويشارطونهم على مقدارها أسبوعيا أو مشاهرة أو مسانهة، كما يشارطونهم على ما يجب أن يتعلمه أبناؤهم، ولم يكن الكتاب في الغالب دارا متعددة الغرف، كما هو الحال اليوم في دور الحضانة أو حدائق الأطفال أو المدارس الابتدائية أو الأولية، وإنما هي غرفة واسعة أو ضيقة أو غرفتان على الأكثر، متواضعة الفرش والأثاث، تتسع لعدد من الأطفال يشرف عليهم المعلم والنقيب.
وكان من العادة أن يذهب الطفل إلى الكتاب مبكرا فيبدأ يومه بحفظ حزب من القرآن الكريم، وبعد أن يحفظه يبدأ بالنسخ والكتابة والتمرن على تجويد الحفظ إلى وقت الظهر، ثم يعود إلى بيته للغداء أو يتغدى في الكتاب، ثم يبدأ عمله ثانية بعد صلاة الظهر حتى فترة العصر يقرأ ويكتب إلى حين الانصراف إلى أهله بعد العصر.
وكان للأطفال نصف يوم الخميس وطول يوم الجمعة عطلة للاستراحة، بالإضافة إلى أيام عيد الفطر الثلاثة وأيام عيد الأضحى الخمسة، وبعد عطل أيام المناسبات كيوم ختم أحدهم أو طهوره أو ما أشبه هذا.
وكانت مدة بقاء الطفل في الكتاب خمسة أعوام أو ستة على الأكثر، وتكون على الغالب ابتداء من السنة الخامسة أو السادسة من عمره إلى السنة العاشرة أو الحادية عشرة، يحفظ الطفل خلالها القرآن الكريم كله أو بعضه عن ظهر قلب أو رواية وإتقانا، ويتقن فني الكتابة والخط، ويلم بمبادئ العربية، ومبادئ الحساب الأولية.
وطريقة التعليم في الكتاب هو أن يقرأ المعلم آية من القرآن ثم يرددها الطفل حتى يحفظها، فينتقل إلى آية أخرى سواها، أو يكتب الآيات المطلوبة في لوح من الحجر أو اللخاف أو العظام أو الجلود ثم يحفظها، فإذا حفظها محاها في إجانة ماء يلقى به في مكان طاهر فتبتلعه الأرض.
وكان في الكتاب عقوبات يتلقاها الطفل المخطئ أو المهمل أو الكسول، وأول تلك العقوبات التوبيخ وحده ثم أمام زملائه، ثم التهديد العلني ثم الضرب باليد أو العصا.
وإذا أتم الطفل مدة الدراسة في الكتاب وحفظ القرآن أو رواه امتحنه المعلم لمعرفة ذلك والتأكد منه، فإذا اجتاز الامتحان احتفل ب «الختمة»، ثم يدخل معركة الحياة العملية، أو يبدأ الدراسة الثانوية فالعالية إذا ما أراد ذلك.
هذا بإيجاز وصف الحالة التي كان عليها الكتاب ومدتها، وسنعود إلى تفصيل دقائق ذلك بعد.
57
أهداف الكتاتيب ومناهجها وبرامجها
يظهر أن الكتاتيب التي وجدت في صدر الإسلام كانت كتاتيب ساذجة، يتعلم الطفل منها أوليات القراءة ويحفظ القرآن كله أو بعضه، فلما انتظمت شئون الدولة الإسلامية في عهد بني أمية، عني الناس عناية شديدة بهذه الكتاتيب لتخريج طبقة من الكتاب ومستخدمي الدولة وعمالها ورجال الأعمال في مصالح الدولة وخارجها. ولم يكد يطل القرن الثاني للهجرة حتى كانت هذه الكتاتيب قد انتظمت شئونها وصار لها برامج تطبق في كتاتيب الصبيان كما تطبق في كتاتيب البنات. وقد حفظ لنا الإمام الجليل محمد بن سحنون وغيره طرفا مهما من أحوال تلك الكتاتيب وأنظمتها وقواعدها مما سنفصله بعد.
ولا شك في أن أول مقررات تلك البرامج هو القرآن الكريم؛ فقد كانت العناية به جد شديدة، وكانوا يبدءون في إقراء الطفل للقرآن بجملته قراءة درج، ثم يعمدون إلى تحفيظه إياه كله أو ما تيسر منه، وقد يبدأ المعلم بإعراب بعض آياته، وتفسير غريبه تفسيرا وجيزا، وطريقة ترتيله وتجويده، كما يعلمهم مبادئ العلوم والآداب التي تعينهم على تفهم معاني كتاب الله.
قال ابن سحنون: وينبغي له أن يعلمهم إعراب القرآن وذلك لازم له، والشكل والهجاء والخط الحسن، والقراءة الحسنة والتوقيف والترتيل ... ولا بأس أن يعلمهم الشعر مما لا يكون في فحش من كلام العرب وأخبارها، وليس ذلك بواجب عليه، ويلزمه أن يعلمهم ما علم من القراءة الحسنة، وهو مقرأ نافع
58
ولا بأس إن أقرأهم لغيره إذا لم يكن مستبشعا،
59
ولا يجوز أن يقرأ القرآن بالألحان، ولا أرى أن يعلمهم التحبير؛
60
لأن ذلك داعية الغناء وهو مكروه، وأن ينهى عن ذلك بأشد النهي، وليعلمهم الأدب فإنه من الواجب لله عليه النصيحة وحفظهم ورعايتهم، وليجعل الكتب من الضحى إلى وقت الانقلاب - أي الانصراف - ولا بأس أن يجعلهم يملي بعضهم على بعض؛ لأن في ذلك منفعة لهم، وليتفقد إملاءهم، ولا يجوز أن ينقلهم من سورة إلى سورة حتى يحفظوها بإعرابها وكتابتها إلا أن يسهل له الآباء ... ويلزمه أن يعلمهم الوضوء والصلاة لأن ذلك دينهم ...
61
ويظهر أن هذه الطريقة كانت متبعة في أكثر أنحاء العالم الإسلامي إلا الأندلسي، ويظهر أن الإمام أبا بكر بن عربي العالم الأندلسي المشهور (؟-543) قد انتقد هذه الطريقة بعد أن طاف في العالم الإسلامي ووجد أن أطفال المسلمين في كافة أصقاع الإسلام التي زارها يبدءون بتعلم القرآن دون أن يعوه؛ فانتقد ذلك في العواصم من القواصم «... فصار الطفل عندهم إذا عقل، فإن سلكوا به أمثل طريقة لهم علموه كتاب الله، فإذا حذقه نقلوه إلى الأدب، فإذا نهض منه حفظوه الموطأ، فإذا أتقنه نقلوه إلى المدونة ...»
ويقول ابن خلدون، في الفصل الذي عقده لبيان تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية وطرقه: «اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعار الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث، وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعد من الملكات، فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط، وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه، لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه ... وأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو؛ وهذا هو الذي يراعونه في التعليم، إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك ورأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلا في التعليم فلا يقتصرون لذلك عليه فقط، بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب، ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه، بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة ... فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل ومدارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي، وقصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها؛ فكانوا لذلك أهل خط وأدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا.
ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ، وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس، قال: لأن الشعر ديوان العرب. ويدعو إلى تقديمه وتعليم العربية في التعليم ضرورة فساد اللغة، ثم ينتقل منه إلى الحساب ليتمرن فيه حتى يرى القوانين، ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة. ثم قال: ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول أمره يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر غيره أهم عليه. ثم قال: ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه، ونهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان، إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم والنشاط. هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر - رحمه الله - وهو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال، ووجه ما اختصت به العوائد من تقدم دراسة القرآن إيثارا للتبرك والثواب وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم، فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر وربقة القهر تحصيل القرآن لئلا يذهب خلوا منه. ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ به أهل المغرب والمشرق ...»
62
فأنت ترى من هذا أن ابن خلدون يفضل الطريقة المتبعة في سائر ديار الإسلام على الطريقة التي يقترحها القاضي ابن العربي لأنها الطريقة التي تلائم عقلية الطفل ويتقبلها مستواه الفكري.
ولا يسعنا في هذا الموضع أن نهمل الإشارة إلى رأي المستشرق الفرنسي هنري بيريس الذي كتب كتابا قيما عن الشعر الأندلسي في القرن الخامس للهجرة/الحادي عشر للميلاد - فقد ذكر في بعض فصول كتابه مشيرا إلى الطريقة التي اقترحها ابن العربي في تعليم الأطفال في الأندلس: «... إن الطريقة التي تذكر عن ابن العربي وينتقدها ابن خلدون هي الطريقة التي كانت متبعة في بلاد الأندلس، وإنها الأفضل على الرغم من انتقاد ابن خلدون إياها.» وقد اعتمد البروفسور بيريس هذه النظرية وزعم أن الأندلسيين إنما خالفوا المشارقة في طريقتهم لأنهم وجدوا خطأ الطريقة الشرقية ... ولم يكتف بهذا القول، بل قال أيضا: «... إن الأندلسيين إنما فعلوا ذلك لأنهم وجدوا أن هذه الطريقة أجدى في التعليم.» ثم أخذ يفتش عن الأسباب التي حدت بالأندلسيين في زعمه إلى سلوك هذه الطريقة، وقد أداه بحثه إلى أن الأندلسيين إنما فعلوا ذلك متأثرين بالطريقة اليهودية والنصرانية التي كانت متبعة في تعليم الأطفال في بلاد الأندلس قبل دخول الإسلام إلى هاتيك الديار، كما أنهم قد تأثروا ببقايا التراث الإسباني القديم في تعليم الأطفال ...
63
وهذا قول غريب جدا واستنتاج جد عجيب؛ إذ لا يقوم عليه دليل، ولا يؤيده برهان، ولا يسيغه المنطق. والذي نراه ونؤمن به هو أن من فعل ذلك من الأندلسيين في تعليم أطفالهم إنما فعل ذلك مهتديا إليه بطبيعته العربية وسليقته الأدبية، وقد رأيت أن ابن خلدون، على الرغم من انتقاد تلك الطريقة، قد أعجب بها لما فيها من تقويم اللسان وتقوية الملكات قبل البداءة بدراسة القرآن، ثم إن الأندلسيين لم يكونوا وحدهم متبعين تلك الطريقة؛ فقد كان في المشارقة أيضا نفر ذهبوا في تعليم أولادهم هذا المذهب، وقالوا إنه لا يصح أن يبدأ الولد بتعلم القرآن قبل معرفة العدة والآلات التي تعينه على فهمه وإداراك معانيه. وممن قال بهذه الطريقة ابن الأعرابي الإمام النحوي المشهور والأديب اللغوي المعروف (؟-231ه)؛ فقد كان يرى أنه يحسن بالطفل أن يبدأ بتعلم العربية واللغة ويطلع على الشعر والنثر القديمين، فإذا أتقن ذلك كله طلب إليه أن يقرأ القرآن حتى إذا ما قرأه استطاع أن يعيه ويفهمه. وقد نقل المبرد مثل هذا الرأي عن الإمام علي رضوان الله عليه وسلامه،
64
ونقل الجاحظ عن الحجاج بن يوسف الثقفي أنه أوصى مؤدب ولده - وهو المؤدب المعلم القديم - بأن يعلمهم السباحة وما إليها من ترويض الجسم أولا ثم يعلمهم القراءة والكتابة، قال: «علم ولدي السباحة قبل الكتابة؛ فهم يصيبون من يكتب عنهم ولا يصيبون من يسبح عنهم»،
65
ويروي الجاحظ أيضا أن عمر بن الخطاب كتب إلى ساكني الأمصار: أما بعد فعلموا أولادكم العوم والفروسية ورووهم ما سار من المثل وحسن من الشعر،
66
فأنت ترى من هذه الأقوال أن في المسلمين من المشرق جماعة كانت تذهب مذهب أهل المغرب من وجوب تقديم تعليم آلات القرآن على القرآن نفسه.
أمور أخرى تتعلق بالتعليم الأولي في الكتاتيب
أخذ الأجرة على التعليم:
أشرنا فيما مضى إلى أن جماعة من قدماء المعلمين والمربين كانوا يتحرجون من تناول الأجرة على التعليم، وبخاصة تعليم القرآن وعلوم الدين، ونحب ها هنا أن نفصل هذا الأمر الهام الذي يبين لنا طرفا ساميا من أخلاق المسلمين الأولين، كما يبين لنا سرا من أسرار التقدم العلمي العجيب الذي قام به العرب على الرغم من قلة الوسائل وقصر المدة.
أورد البخاري في الجامع الصحيح عن الإمام ابن عباس أن النبي
صلى الله عليه وسلم
قال: «أحق ما أخذتم عليه أجرا كتاب الله.» فهذا نص صريح في أنه لا بأس من أخذ الأجرة على التعليم، ولكن روي عن الرسول أيضا حديث آخر رواه ذلك الأنصاري الذي علم بعض أهل الصفة شيئا من آي القرآن وأخذ منه مقابل ذلك قوسا لأنه لم يكن يملك مالا، وأن النبي
صلى الله عليه وسلم
لما أبصره يحمل القوس قال له: من أين لك هذه القوس؟ فقال: أعطانيها رجل ممن يستقرئونني. فقال رسول الله: ارددها وإلا فقوس من النار. وقال أيضا في حديث آخر: «اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به ولا تراءوا ولا تسمعوا به.» فهذان الحديثان يخالفان حديث ابن عباس، والحقيقة أنه لا خلاف، فإن الرسول في الحديث الأول بين لنا جواز أخذ الأجرة على التعليم إلا إذا كان المتعلم فقيرا أو أنه لا يملك إلا شيئا قليلا كصاحب القوس؛ فإنه لا يجوز أخذ الأجرة منه مقابل تعليمه، كما أنه يحرم أخذ شيء من المتعلم إذا كان لا يعلم شيئا من القرآن أو أنه إنما يريد بتعلمه الاهتداء إلى الدين الحنيف، وإلا فإن الأجر على التعليم مباح لا بأس به، كما أن الأجر على الأذان وإقامة الصلاة والإمامة والقضاء وغيرها من الأمور الشرعية مباح، إلا إذا تعمد القائم بها أن لا يقوم إذا لم يدفع له أجره. قال القابسي: إن أئمة المسلمين في صدر هذه الأمة ما فيهم إلا من قد نظر في جميع أمور المسلمين بما يصلحهم في الخاصة والعامة، فلم يبلغنا عن أحد منهم أنه أقام معلمين يعلمون للناس أولادهم من صغرهم في الكتاتيب ويجعلون لهم على ذلك نصيبا من مال الله عز وجل، كما صنعوا لمن كلفوه القيام للمسلمين في النظر بينهم في أحكامهم والأذان لهم في مساجدهم مع سائر ما جعلوه حفظا لأمور المسلمين وحيطة عليهم، وما يمكن أن يكونوا أغفلوا شأن معلم الصبيان، ولكنهم - والله أعلم - رأوا أنه شيء مما يختص أمره كل إنسان في نفسه؛ إذ كان ما يعلمه المرء ولده فهو من صلاح نفسه المختص به، فأبقوه عملا من عمل الآباء الذي لا ينبغي أن يحمله غيرهم إذا كانوا مطيقيه.
ولما ترك أئمة المسلمين النظر في هذا الأمر، وكان حتما لا بد للمسلمين أن يفعلوه في أولادهم ولا تطيب نفسهم إلا على ذلك، واتخذوا لأولادهم معلما يختص بهم ويداويهم ويرعاهم حسب ما يرعى المعلم صبيانه، وتعذر أن يمكن أن يوجد من الناس من يتطوع للمسلمين أن يستأجروا من يكفيهم تعليم أولادهم ... ويكون هذا المعلم قد حمل عن آباء الصبيان مئونة تأديبهم وتبصيرهم استقامة أحوالهم وما ينمي لهم في الخير أفهامهم، ويبعد عنهم في الشر مآلهم، وهذه عناية لا يكثر المتطوعون بها، ولو انتظر من يتطوع بمعالجة تعليم الصبيان القرآن لضاع كثير من الصبيان ... ولقد ذكر الحارث بن مسكين في تاريخ سنة ثلاث وسبعين أخبرنا ابن وهب قال سمعت مالكا يقول: كل من أدركت من أهل العلم لا يرى بأجر المعلمين - معلمي الكتاتيب - بأسا ...
67
فأنت ترى أن القوم قد ناقشوا هذه القضية مناقشة عقلية وتربوية منذ زمن، وأبانوا ضرورة وجود المعلمين وأباحوا لهم تناول الأجرة على تعليم الصبيان كتاب الله، والضروري من العلم الديني والدنيوي. وأما غير ذلك من العلوم كالتوسع في علوم اللغة والفقه والعربية والحديث والشعر والدين والحساب، فقد اختلفوا في جواز أخذ الأجرة، ولكن الأكثرين أباحوا ذلك. قال ابن حبيب: لا بأس بإجازة المعلم على تعليم الشعر والنحو والرسائل وأيام العرب. وعلى الرغم من هذه الفتوى فقد ظل من العلماء والمعلمين نفر يعلمون في سبيل الله لا يأخذون على التعليم أجرا، وكان في مقدمة هؤلاء المعلمين أئمة المتصوفة ورجالات الزهد والورع ممن كانوا يكتفون باليسير ويطلبون المثوبة على عملهم من اللطيف الخبير.
68
سن ابتداء التعليم:
ذكرنا فيما سلف أن السن التي كانوا يبدءون فيها بتعليم الطفل كانت في الخامسة أو السادسة، والحقيقة هي أننا لم نعثر على نص يقطع بتعيين مبدأ سن الدراسة؛ فبعضهم كان يبدأ بتعليم أولاده في الرابعة،
69
وبعضهم في السنة السابعة أو الثامنة،
70
ولكن الأكثرين فيما رأينا من المصادر يذهبون إلى أن السنة السادسة أو السنة السابعة هي السن المعتدلة التي يمكن للطفل فيها أن يستوعب ما يلقى إليه. قال ابن الحاج العبدري (؟-737): وينبغي له - أي للمعلم - أن يمتثل السنة في الإقراء، ومن جملة ذلك أن السلف الماضين - رضي الله عنهم - إنما كانوا يقرئون أولادهم في سبع سنين لأنه يؤمر الولي أن يكلف الصبي بالصلاة والآداب الشرعية فيها، فإذا كان الصبي في تلك السن فهو غير محتاج إلى من يأتي به إلى المكتب إن أمن عليه غالبا، فإن لم يأمن فليرسل معه وليه من يثق به في ذهابه إلى بيته لضرورته وغذائه ومن يأتي به إلى المكتب؛ فهو أسلم عاقبة ... والغالب في هذا الزمان أنهم يدخلون أولادهم المكتب في حال الصغر بحيث إنهم يحتاجون إلى من يربيهم ويسوقهم إلى المكتب ويردهم إلى بيتهم، بل بعضهم تكون سنه بحيث لا يقدر أن يمسك ضرورة نفسه، بل يفعل ذلك في المكتب ويلوث به ثيابه ومكانه، فليحذر من أن يقرئ مثل هؤلاء؛ إذ لا فائدة في إقرائه لهم إلا وجود التعب غالبا ... ألا ترى أن الغالب منهم أنهم يرسلون أولادهم إلى المكتب في حال صغرهم لكي يستريحوا من تعبهم لا لأجل القراءة.
71
ورأي ابن الحاج هذا رأي وجيه أيدته البحوث التربوية الحديثة؛ فقد ذهب المربون المحدثون إلى أنه لا يحسن تعليم الصبي قبل اكتمال وعيه، وأن هذا الاكتمال لا يتم في الأغلب إلا بعد السنة السادسة، أما في السنة الرابعة فإن في ذلك إرهاقا للطفل. ولقد أحصى البروفسور رودس كثيرا من طلاب الأطفال الذين يذهبون في سن مبكرة جدا إلى المدرسة، فوجد أن من بدءوا تعلمهم في السنة الرابعة بدلا من السن الخامسة أو السادسة كانوا أضعف معلومات ومدارك ممن ذهبوا إليها بعد تلك، وذلك حين اختبرهم في سن الثانية عشرة، إلا أنه قال : أما المحفوظات فإنهم يتساوون فيها، وأما الأشغال اليدوية فإن الذين ذهبوا إلى المدرسة في سن مبكرة يتفوقون على من ذهبوا إليها في سن متأخرة.
72
أما السن التي يجب أن يترك الأطفال فيها الكتاب فلم تحدد، ولكن القابسي يذكر أنه ينبغي أن يخرجوا من الكتاب إذا بلغوا سن الحلم، وهذه السن تتراوح عند الأطفال الذكور بين الثالثة عشرة والخامسة عشرة. يقول القابسي «... وإنه لينبغي للمعلم أن يحترس الصبيان بعضهم من بعض إذا كان فيهم من يخشى فساده يناهز الاحتلام أو يكون له جرأة ...»
73
عقوبة الأطفال للتعليم:
اهتم المربون المسلمون منذ القديم بأمر عقوبة الطفل المقصر لتعليمه وتهذيبه؛ فرأى بعضهم أنه لا بد من العقوبة، على أن لا تتجاوز حدود الإنذار فالتوبيخ فالتشهير فالضرب الخفيف. وقال آخرون بإباحة الضرب والعقوبة الجسدية الشديدة إذا ما تجاوز الطفل حدود المعقول المقبول ولم ينفع فيه الإنذار والتوبيخ والتشهير والزجر والضرب الخفيف. والأكثرون على أن العقوبة تنقسم إلى قسمين:
أحدهما:
روحي.
وثانيهما:
بدني.
ويجب أن تسبق القسمين النصائح والتوجيهات، فإن لم تجد نفعا ولم يجد المؤدب بدا من اللجوء إلى العقوبة، فإنه يبدأ بالعقوبة الروحية من العبوس، فاللوم، فالإهانة على انفراد، فالتوبيخ أمام الرفقاء، فإن لم تجد تلك العقوبة الروحية نفعا لجأ إلى العقوبة الجسدية من الوخز والضرب. وهم يستدلون على جواز ذلك بالحديث النبوي القائل: مروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين واضربوهم عليها لعشر بعصا لا بخشبة، وبالآية الكريمة:
ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب .
قال المربي الإمام القابسي في فصل عنوانه «سياسة المعلمين»: ومن حسن رعايته لهم أن يكون بهم رفيقا؛ فإنه قد جاء عن عائشة: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق بهم فارفق به.» وقد قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحب الرفق في الأمر كله، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء.» وإذا أحسن المعلم القيام وعني بالرعاية وضع الأمور مواضعها؛ لأنه هو المأخوذ بأدبهم والناظر في زجرهم عما لا يصلح لهم، والقائم بإكراههم على مثل منافعهم؛ فهو يسوسهم في كل ذلك بما ينفعهم؛ فكونه عبوسا أبدا من الفظاظة الممقوتة، ويستأنس الصبيان بها فيجترئون عليه، لكنه إذا استعملها عند استئهالهم الأدب صارت له دلالة على وقوع الأدب بهم فلم يأنسوا إليها، فيكون منها إذا استعملت أدب لهم في بعض الأحايين دون الضرب، وفي بعض الأحايين يوقع الضرب معها بقدر الاستئهال الواجب في ذلك الجرم. ولكن ينبغي أن لا يتبسط إليهم تبسط الاستئناس في غير تقبض موحش في كل الأحايين، ولا يضاحك أحدا منهم على حال، ولا يبتسم في وجهه وإن أرضاه وأرجاه على ما يجب، وإن استأهل الضرب فاعلم أن الضرب من واحدة إلى ثلاث، فليستعمل اجتهاده لئلا يزيد في رتبة فوق استئهالها ... وربما كان من صبيان المعلم من يناهز الاحتلام ويكون سيئ الرعية غليظ الخلق لا يريعه وقوع عشر ضربات عليه ويرعى للزيادة عليه مكانا، وفيه محتمل مأمون فلا بأس - إن شاء الله - من الزيادة على عشر ضربات، والله يعلم المفسد من المصلح ... وليتجنب أن يضرب رأس الصبي أو وجهه ...
74
فالقابسي يبيح للمعلم أن يؤدب أطفال كتابه إذا لم يفد اللطف والإيناس معهم، ويبيح له ذلك على أن لا يتجاوز ثلاث ضربات، إلا إذا كان الطفل سيئ الأخلاق، قد ناهز الاحتلام، فلا بأس من ضربه عشر ضربات وإلا فلا يجوز له؛ لأن أبناء الناس وديعة في يده. قال ابن خلدون: «... إن من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعا إلى الكسل وحمل إلى الكذب والخبث، وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه ... فينبغي للمعلم في متعلمه، والوالد في ولده أن لا يعتدوا عليهم في التأديب ...»
75
فابن خلدون يعالج مشكلة تربوية نفسية جد خطيرة، وهي أن من يعود على القيام بواجبه مكرها، لا يفعل الواجب إذا زال الإكراه، وفي هذا فساد عظيم، ويرجع ذلك كله إلى التربية الظالمة التي يلجأ إليها بعض الآباء والمعلمين.
وكما يعاقب المعلم تلميذه على إهمال دروسه، يعاقبه على الإسراف في لعبه ولهوه، وعلى الهرب من كتابه، وعلى إيذاء إخوانه. قال القابسي: «... وهذا هو أدبه إذا أفرط فتثاقل عن الإقبال على العلم، فتباطأ في حفظه، أو أكثر الخطأ في حزبه أو كتابة لوحه من نقص حروفه وسوء تهجيته وقبح شكله وغلطه في نقطه، فنبهه مرة بعد مرة فأكثر التغافل ولم يغن فيه البذل والتقريع بالكلام الذي فيه التوعد من غير شتم ولا سب بعرض، كقول من لا يعرف لأطفال المؤمنين حقا فيقول: يا مسخ، يا قرد ... فلا يفعل هذا ...»
76
على أن كثيرا من المؤدبين كانوا يلحون إلحاحا شديدا بوجوب عدم الضرب والشتم لما فيهما من الفساد، حتى قال سحنون لمؤدب ولده محمد حينما سلمه إياه ليعلمه: «... ولا تؤدبه إلا بالمدح ولطف الكلام، وليس هو ممن يؤدب بالضرب أو التعنيف.»
77
فهذا يدلنا على أن نفرا من المسلمين المربين كرهوا الضرب أصلا وأوجبوا عدم العنف لما في ذلك من الضرر البالغ.
إلزامية التعليم:
الدين الإسلامي دين ديمقراطي؛ لأنه جاء بالتساوي بين الناس، ولأنه لا يفضل أحدا على أحد إلا بالتقوى والصلاح والعلم والكمال، وأن ما جاء عن النبي
صلى الله عليه وسلم
من علم وصلاح وهدى هو للناس أجمعين، كما نص عليه القرآن وتواترت به السنة وسار عليه الرسول وخلفاؤه الراشدون من بعده. ومبدأ الديمقراطية والتساوي بين الناس جميعا وإلزامية التعليم والتساوي فيه مبدأ يقره الإسلام بروحه، وهو وإن لم ينص عليه فإنه يدعو إليه بل يحض عليه، وقد قام الرسول
صلى الله عليه وسلم
بعمل باهر في هذا الصدد حين افتدى عشرة من الأسرى الكفار بتعليم أطفال المسلمين، ثم إنه حض الناس على التعليم، وأمر بالتعليم احتسابا لوجه الله، ولنيل الأجر والمثوبة عند الله، وفي هذا أيضا ما يشعر بإلزامية التعليم.
وقد ظل المعلمون والمفتون زمن الرسول
صلى الله عليه وسلم
وأيام الخلفاء الراشدين والأمويين حتى القرن الثاني للهجرة، وهم في خلاف على جواز أخذ الأجرة على التعليم كما أسلفنا، ولقد بحث الفقهاء مطولا ومنذ زمن مبكر في حكم التعليم بصورة عامة هل هو مباح أو واجب، وإذا كان واجبا فمن هو المكلف به، وما هو نوع التعليم الذي يجب أن يكلف به؟ ولعل أجل كاتب تعرض لهذه النقطة الخطيرة وناقشها مناقشة دقيقة وانتهى إلى أن الإسلام يلزم تابعيه بوجوب التعليم هو الإمام القابسي في رسالته القيمة المفصلة لأحوال المتعلمين وأحكام المعلمين. وقد حلل الدكتور الفاضل الأهواني ناشر رسالة القابسي ما جاء فيها مما يتعلق بهذا الأمر تحليلا مفيدا حيث يقول: «... فالقابسي يريد أن يعلم أبناء الشعب جميعا لأنه يريد أن ينتشر الدين ولا يحرم أحدا، ولم يرد في القرآن نص على وجوب التعليم ولا يوجب الحديث مثل ذلك، ولم يعهد عن الصحابة والتابعين أنهم أوجبوا على الناس تعليم أولادهم وإرغامهم على إرسالهم إلى الكتاتيب أو استحضار المعلمين لهم؛ لذلك احتال القابسي للحكم في هذه المسألة الجديدة التي لم يسبقه إليها أحد، وبين أيدينا كتاب ابن سحنون في التعليم الذي دونه عن أبيه، فلا نجد فيه ذكرا لهذا الموضوع.»
وأدلة القابسي قوية أخاذة تنقلك من فكرة إلى أخرى حتى تنتهي بك إلى أن تعليم الصغار ضروري واجب، وأن هذا الوجوب هو الوجوب الشرعي على طريقة الفقهاء، وذلك أن معرفة العادات واجبة بنص القرآن، ومعرفة القرآن واجبة أيضا لضرورتها في الصلاة، وأن الوالد مكلف بتعليم ابنه القرآن والصلاة؛ لأن حكم الولد في الدين حكم أبيه، فإذا لم يتيسر للوالد أن يعلم أبناءه بنفسه فعليه أن يرسلهم إلى الكتاب لتلقي العلم بالأجر، فإذا لم يكن الوالد قادرا على نفقة تعليم ولده فأقرباؤه مكلفون بذلك، فإذا عجز أهله عن نفقة التعليم فالمحسنون مرغبون في ذلك، أو أن معلم الكتاب يعلم الفقراء احتسابا أو من بيت المال ... والنتيجة التي يريد أن يصل إليها القابسي هي تعليم أبناء المسلمين أغنياء وفقراء، وهذا هو نص التعليم الإلزامي الذي أعلنه القابسي في القرن العاشر للميلاد؛ أي في صميم القرون الوسطى التي كان أهل أوروبا يعيشون فيها مع الجهل ...
78
ولقد أقر كثير من الفقهاء المغاربة والمشارقة الإمام القابسي على نظريته هذه لأنها نظرية سليمة، وفتواه وجيهة؛ ولذلك أوجبوا التعليم الإلزامي الابتدائي للأطفال المسلمين مستندين في ذلك إلى الحديث النبوي الكريم القائل: «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.» وهم وإن اختلفوا في نوع هذه العلم المفروض طلبه على كل مسلم ومسلمة، فإنهم طرا مجمعون على إلزام تعليم ضروريات من الدين، ولا يتوصل إلى تعليم تلك الضروريات الدينية إلا بتعلم مبادئ القراءة والكتابة ودراسة القرآن الكريم. وبتعلم تلك المبادئ ودراسة القرآن يخرج المرء من الأمية إلى العلم.
تعليم البنات:
من الأمور التي لها علاقة وشيجة بإلزامية التعليم أمر تعليم البنات، وقد انقسم المربون المسلمون في القدر الواجب تعليمه للفتاة المسلمة؛ فقد روي عن الرسول
صلى الله عليه وسلم
أنه قال للشفاء العدوية، إحدى مثقفات قريش وعوالمهم في «الجاهلية»: «ألا تعلمين حفصة رقية النملة كما علمتها الكتابة.»
وقد ذكر المؤرخون جمهرة صالحة من كواتب العرب قبل الإسلام وبعده، ومنهن السيدات عائشة بنت سعد بن أبي وقاص، وأم كلثوم بنت عقبة، وحفصة زوجة النبي
صلى الله عليه وسلم ، وهند بنت أبي سفيان ... وغيرهن. ويظهر أن المسلمين في صدر الإسلام كانوا في شغل عن هذه القضية فلم يولوها عنايتهم، ولعل أول كاتب مسلم فصل في هذه القضية القول هو الإمام القابسي؛ فقد ذكر في رسالته عن التعليم أن «من حسن النظر أن لا يخلط بين الذكران والإناث، وقد قال سحنون: أكره أن يعلم الجواري ويخلطهن مع الغلمان؛ لأن ذلك فساد لهن ...»
79
فهذا النص صريح يدلنا على أن البنات كن يتعلمن منذ زمن مبكر جدا، وأنهن كن يقصدن الكتاتيب، وابن سحنون والقابسي يريان أن تفصل البنات عن الصبيان خشية الفساد.
روى الجاحظ في البيان والتبيين أن الوليد بن عبد الملك مر بمعلم صبيان فرأى عنده جارية فقال: ويلك! ما لهذه الجارية؟! فقال: أعلمها القرآن. قال: فليكن الذي يعلمها أصغر منها.
80
ولعل الخشية على البنات من فساد أخلاقهن ومن معلمي السوء هي التي جعلت كثيرين من الفقهاء منذ زمن بعيد يحرمون عليها تعلم الكتابة ويبيحون لها تعلم القراءة، وقراءة القرآن فحسب، ويوصونها بتعلم سورة النور خاصة لما فيها من الوعظ والتأديب والتعلم المتعلق بها.
قال الجاحظ: وكان يقال لا تعلموا بناتكم الكتاب، ولا ترووهن الشعر وعلموهن القرآن، ومن القرآن سورة النور.
81
ومثل هذا ما نجده منثورا في سقط الزند، فإن أبا العلاء المعري - غفر الله له - كان يكره أن تعلم الفتاة، وكان يوصي أهلها أن يجنبوها القراءة والكتابة.
ومثل هذا ما دفع العلامة العراقي المتأخر أبا الثناء الآلوسي أن يؤلف رسالة خاصة في تحريم تعليم الفتاة سماها «الإصابة في منع النساء من تعلم الكتابة».
ولكن الأمر لم يسر في هذه الطريق المتشددة؛ فقد كان كثير من الفقهاء والعلماء يحرصون على تعليمها، حتى نبغ منهن في الإسلام قديما وحديثا من لا يحصين كثرة ولا يقارن بكثير من الرجال. قال القابسي: «وأما تعليم الأنثى القرآن والعلم فهو حسن ومن مصالحها، فأما أن تعلم الترسل والشعر وما أشبهه فهو مخوف عليها ...»
82
ويقول العلامة التونسي حسن حسني عبد الوهاب: ولا تحسبن أن التعليم الابتدائي كان يختص بالولدان الذكور دون البنات، بل إنه كان شاملا الجنسين، لا سيما عند المياسير ... فهذا القاضي الورع عيسى بن مسكين (؟-275) كان يقرئ بناته وحفيداته، قال عياض: «فإذا كان بعد العصر دعا بنتيه وبنات أخيه ليعلمهن القرآن والعلم، وكذلك كان يفعل قبله فاتح صقلية أسد بن الفرات بابنته أسماء التي نالت من العلم درجة كبيرة، والإمام سحنون بابنته خديجة ... وروى الخشني أن مؤدبا كان بقصر الأمير محمد بن الأغلب وكان يعلم الأطفال بالنهار والبنات في الليل ...»
83
وصفوة القول أن الإسلام لم يحرم التعليم على الفتاة، ولكن الذي نهاها عنه بعض العلماء هو قول الشعر الفاحش، والكلام المقذع وقراءة هذا وأمثاله، أما أن تقول الشعر الحكيم الرصين وتتعلم المحكم الحسن والجيد المتقن فأمور يدعو إليها الشرع ويحرص عليها.
المكتبة، دار العلم:
عني الخلفاء المسلمون منذ فجر العهد الأموي بالكتاب العربي وتكثيره ونشره بين الناس وإنشاء الخزائن التي تضم الكتب والدفاتر والسجلات ، كما عنوا بالحصول على كتب العلم القديمة لتكون مرجعا لهم ولأولادهم، وكانوا يزودون المساجد الجامعة من كل إقليم بالخزائن التي تضم المصاحف والأجزاء الحديثة، وكتب العلم، وكان كثير من العلماء منذ زمن قديم يقفون كتبهم وأوراقهم ومخطوطاتهم على خزائن المساجد ودور العلم يتقربون بذلك إلى الله، ويرجون نشر العلم ومعونة أصحابه.
84
ولعل أقدم الخزائن العربية التي عرفت بعض أخبارها هي خزانة الخليفة الأموي الحكيم خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان (؟-85)، وكان من كبار علماء المسلمين وعقلائهم، اشتغل بالعلم واهتم بالكيمياء والطب والنجوم فأتقنها وألف فيها رسائل، ولما مات أبوه أجمع بنو أمية على توليه الخلافة، فأقام فيها ثلاثة أشهر ثم غلب عليه حبه كتبه وبحوثه فعزم على ترك الأمر وجمع الناس وخطبهم فقال: إن جدي معاوية نازع الأمر من كان أولى به، ثم تقلده أبي، ولقد كان غير خليق به، ولا أحب أن ألقى الله تعالى بتبعاتكم، فشأنكم وأمركم. ثم خلع نفسه، ولزم بيته يطالع في كتبه ويدرس إلى أن توفاه الله. قال ابن النديم في الفهرست: كان خالد بن يزيد فاضلا في نفسه له همة ومحبة للعلوم، خطر بباله حب الصنعة - الكيمياء - فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان ممن كان ينزل مصر وقد تفصح بالعربية وأمرهم بنقل الكتب من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي؛ وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة. وقال الجاحظ: «خالد بن يزيد خطيب شاعر، وفصيح جامع، جيد الرأي، كثير الأدب، وهو أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء. وقد وقف هذا الخليفة نفسه على العلم وخدمته، وجمع الكتب وتأليف الرسائل.»
85
وقد ظلت خزانة خالد هذه محفوظة في البلاط الأموي، ولما ولي الخلافة الأموية عمر بن عبد العزيز فتحها للناس للإفادة منها والتعليم من نفائسها، وقد انقطعت أخبارها بعدئذ فلم نعثر لها على خبر بعد خلافة عمر بن عبد العزيز سوى ما يذكره القفطي العالم المؤرخ الأشهر المعروف بعلم الكتب والخزائن؛ فإنه ذكر في «تاريخ الحكماء» أثناء ترجمة الفلكي المعروف بابن السنبدي: «إن الوزير أبا القاسم أحمد علي بن أحمد الجرجاني تقدم في سنة 435 قبل وفاته باعتبار خزانة الكتب بالقاهرة وأن يعمل لها فهرست ويرم ما أخلق من جلودها، وأنفذ القاضي أبا عبد الله القضاعي وابن خلف الوراق ليتوليا ذلك وحضر القصر، وحضرت لأشاهد ما يتعلق بصناعتي، فرأيت من كتب النجوم والهندسة والفلسفة خاصة ستة آلاف وخمسمائة جزء، وكرة نحاس من عمل بطليموس وعليها مكتوب «حملت هذه الكرة من الأمير خالد بن يزيد بن معاوية» وتأملنا ما مضى من زمانها فكان ألفا ومائتين وخمسين سنة.»
86
وممن ذكر عنه الاعتناء بجمع الكتب من خلائف أمية الوليد بن عبد الملك (؟-96) الخليفة الفاتح المصلح المحب للبناء والعمران، وأول من أحدث المستشفيات ودور المجذومين في الإسلام؛ فقد رووا أنه كان محبا للقراءة وجمع الكتب، وأنه جمع خزانة وجعل عليها خازنا اسمه سعد، وكان يلقب بصاحب المصاحف، ولا يقصدون بذلك مصاحف القرآن فقط، وإنما يقصدون مصاحف العلم من أدب وشعر ودين. وقد اختار سعد هذا خالد بن أبي الهياح لكتابة المصاحف العربية والشعر والأخبار ونسخها، وكان حسن الخط، وحسن الكتابة والنسخ.
87
وممن ذكر عنه أيضا من خلائف بني أمية أنه كان يعتني بجمع دفاتر الكتب في الخزائن الوليد بن يزيد بن عبد الملك (؟-126)، وقد كان من فتيان قريش وأدبائهم وظرفائهم على الرغم من حبه للهو والمرح؛ فقد ذكروا أنه على الرغم من حبه للشراب وانهماكه بالمرح والسماع، كان محبا للعلم منقبا عن كتبه ودواوين الشعر، وأنه جمع خزانة كتب كبيرة في قصره على الرغم من قصر مدته؛ إذ إنه لم يبق في الخلافة إلا سنة وثلاثة أشهر. ويقول ابن سعد: حملت الدفاتر على الدواب من خزائنه.
88
هذا ما كان عليه الأمر في عهد بني أمية، فلما استخلف بنو العباس اهتموا كذلك بالعلم وكتبه، وكان أبو جعفر المنصور (95-158) مؤسس هذه الدولة من العلماء الأعلام في الفقه والأدب والحكمة، وهو أول من عني بالعلم والترجمة ، وأمر من حوله من أهل الفضل بترجمة الكتب القديمة والاهتمام بعلم الفلك، وفي زمنه عمل أول أسطرلاب عربي صنعه الفيلسوف المهندس المنجم محمد بن إبراهيم الفزاري،
89
ويروي ابن الأثير في تاريخه أن المنصور كان له دفاتر علم، وكان شديد الحرص عليها حتى أوصى ابنه المهدي بها عند وفاته.
90
ويقول القفطي: قدم على المنصور في سنة 156 رجل من الهند بالحساب المعروف عندهم بالسند هند في حركات النجوم ... مع ضروب من أعمال الفلك والكسوفين ومطالع البروج وغير ذلك في كتاب يحتوي على عدة أبواب ... فأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى العربية وأن يؤلف منه كتاب تتخذه العرب أصلا في حركات الكواكب، فتولى ذلك محمد بن إبراهيم الفزاري.
ويظهر أن الخزانة الكبرى التي تناقل الناس أخبارها في عصر بني العباس هي الخزانة التي عني بها الخليفة المأمون العباسي (؟-218)؛ فقد نقلت الأخبار عنه اهتمامه بالعلم وأهله وبجمع الكتب وترجمتها، وأنه كان يتحف ملوك عصره بالهدايا النفيسة طالبا إليهم أن يعطوه ما في خزائنهم من كتب الحكمة والفلسفة، فبعثوا إليه بعدد كبير من آثار أفلاطون وأرسطو وأبقراط وجالينوس وبطليموس وإقليدس وغيرهم، فأمر بترجمة تلك الآثار واختار لها البارعين من التراجمة، ونشرها بين الناس وحض على قراءتها واستنساخها، وأمر بتشييد درا الحكمة ووضع فيها هذه الكتب وترجمتها، وكان لا يفتأ يبعث البعوث العلمية إلى بلاد الروم وفارس والهند والصين يشترون له الكتب ويترجمونها، وقد بلغت محفوظات هذه الدار آلافا في جميع فروع العلم من حديث وقديم، وقد تولى أمرها جمهرة من أهل الفضل، نذكر منهم الفيلسوف المتكلم غيلان الشعوبي (؟-؟) وأبا سهل بن نوبخت (؟-؟) وسهل بن سابور الطبيب (؟-218) وسلما المترجم (؟-؟) وأبا حسان المنجم (؟-؟)، وغيرهم من أئمة العلم والفلسفة في العصر المأموني الزاهر.
91
ولا شك عندنا في أن هذه الدار كانت مركزا ثقافيا جليلا في بغداد، وأن العلماء كانوا يقصدونها من شتى أنحاء العالم الإسلامي، ولكنا لا نستطيع أن نقول إنها كانت مركزا تعليميا أو مدرسة أو ما أشبه ذلك، بل إنها كانت في الغالب مركزا ثقافيا مفتوحا للناس أجمعين يقصدونها ويطالعون ما فيها من الآثار، وإن هؤلاء العلماء والفلاسفة المقيمين فيها أو الذين يتولون أمورها كانوا يعينون من يقصد إليها إذا ما أشكل عليه فهم نص من نصوص كتبها، وبخاصة سلم المترجم الفيلسوف؛ فقد كان من عيون الناس وفضلائهم، وهو الذي أتقن تفسير المجسطي،
92
وكان يتولى أمر البعوث العلمية ويوالي الأسفار إلى بلاد الإغريق لانتقاء الكتب النفيسة من خزائنها وترجمتها ووضعها في هذه الدار تلبية لرغبة الطالبين. ويحدثنا القاضي القفطي في ترجمة أرسطوطاليس أن المأمون رآه في نومه، فلما استيقظ من منامه حدثته نفسه بطلب كتب أرسطو، فلم يجد منها شيئا ببلاد الإسلام، فاغتم لذلك وأخذ يتطلبه، واستحضر منها خمسة أحمال سيرت إليه، فأحضر لها المأمون المترجمين فاستخرجوها من الرومية إلى العربية.
93
ولا ريب في أن المأمون ومن اختارهم للخدمة في تلك الدار من العلماء والتراجمة كانوا ينقلون نفائس الكتب إلى العربية ويضعونها في خزائنها المفتوحة للطالبين يفيدون منها ضروب العلم والحكمة. ويظهر أن هؤلاء التراجمة كانوا ينقطعون فيها للترجمة والبحث؛ فقد اقترنت أخبار رجال الترجمة في العصر المأموني بأخبار هذه الدار، فسلم المترجم كان صاحبها على ما يحدثنا ابن النديم وابن أبي أصيبعة والقفطي،
94
ومحمد بن موسى الخوارزمي المترجم يصفه القفطي بأنه «كان منقطعا إلى خزانة الحكمة للمأمون، وهو من أصحاب علم الهيئة.»
95
وموسى بن شاكر المهندس وبنوه الثلاثة محمد وأحمد والحسن العلماء المشهورون بعلم الحيل والرياضيات والهيئة كانوا من التراجمة الأفاضل الذين نشئوا في تلك الدار. يقول ابن القفطي: إن المأمون اعتنى بأولاد موسى الثلاثة فوصى بهم إسحق بن إبراهيم المصعبي وأثبتهم مع يحيى بن أبي منصور في بيت الحكمة، وكانت كتبه ترد من بلاد الروم إلى إسحق بن إبراهيم المصعبي بأن يراعيهم ويوصيه بهم ويسأل عن أخبارهم حتى قال: جعلني المأمون داية لأولاد موسى ... فخرج بنو موسى نهاية في علومهم ...
96
فهذه الأخبار كلها تجعلنا نذهب إلى أن تلك الدار كانت خزانة حكمة، ومقر حركة للنشاط والعلم والترجمة في عهد المأمون.
أما المواد التي كانوا يهتمون بها في تلك الدار فهي - في الأغلب - المواد الحكمية من فلسفة وطب وهندسة ورياضيات وتنجيم وفلك وحيل ومنطق وطبيعة وموسيقى، وما إلى ذلك مما كانوا يسمونه علوم القدماء أو العلوم القديمة.
ونحن إذا تتبعنا ما قيل في سير بني موسى بن شاكر الذين تخرجوا في هذه الدار وما أتقنوه من علم، نستطيع أن نتعرف إلى المواد التي كان علماء الدار مهتمين بها؛ فالقفطي يحدثنا عن محمد بن موسى بن شاكر - وهو أكبر الثلاثة - أنه كان وافر الحظ من الهندسة والنجوم عالما بإقليدس والمجسطي وجميع كتب النجوم والهندسة والعدد والمنطق وكان حريصا عليها، وأن أخاه أحمد كان مثله في العلم إلا صناعة الحيل - أي علم الميكانيك - فإنه قد فتح له فيها ما لم يفتح مثله لأخيه ولا لغيره من المتحققين بالحيل، وأن الحسن - وهو ثالثهم - كان منفردا بالهندسة، وله طبع عجيب فيها لا يدانيه أحد، وأنه علم كل ما علم منها بطبعه، ولم يقرأ من كتب الهندسة إلا ست مقالات من كتاب إقليدس ...
97
فأنت ترى من هذه النصوص أن هذه الدار كانت مجمعا علميا، ومقرا للنشاط الحكمي والفلسفي يقصده كل من يرغب في التزود من علوم القدماء.
وكان إلى جانبها «مرصد» بناه الخليفة المأمون ليكون مقرا لمباحث الفلك والجغرافية الطبيعية، وكان يتولى الإشراف عليه أيضا جمهرة من المنجمين والفلاسفة والفلكيين أمثال يحيى بن أبي منصور
98
وخالد المروزي
99
وعباس الجوهري
100
وغيرهم. ويزعم الأستاذ الخطاب السبكي في كتابه تاريخ التربية أن جزءا من هذه الدار ظل باقيا إلى أواخر القرن الخامس للهجرة.
101
وتدعي دائرة المعارف الإسلامية أنها ظلت إلى حين استيلاء هولاكو على بغداد.
102
أما الأستاذ السبكي فيعتمد على ابن خلكان وياقوت اللذين يذكران أنها «دار العلم» التي زارها أبو العلاء المعري إبان إقامته في بغداد. وهو اعتماد خاطئ لأن المعري إنما زار الدار التي شادها الوزير سابور بن أردشير سنة 381، وهي غير الدار التي شادها المأمون، ويؤكد هذا ما ذكره الصلاح الصفدي في عيون التواريخ حيث يقول في حوادث سنة 391: صادر سابور دارا في محلة بين السورين وسماها «دار العلم»، وجعل فيها عشرة آلاف مخطوطة أدبية وعلمية، وإلى هذه الخزانة يشير المعري بقوله:
وغنت لنا في دار سابور قينة
من الورق مطراب الأصائل منهال
103
ومثل قول صاحب عيون التواريخ قول ياقوت في معجم الأدباء عن «أبي القاسم بن ناقيا أنه دخل دار العلم على ابن فضال المجاشعي المغربي المتوفى سنة 479 وهو يدرس النحو فيها.»
104
فابن ناقيا الشاعر الأديب الكاتب المتوفى سنة 485 إنما دخل على الدار التي شادها الوزير سابور لا دار المأمون، وكذلك قول ابن خلكان في ترجمة أبي العلاء: «قال أبو العلاء: حدثني عبد السلام المصري خازن دار العلم ببغداد ...»
105
فدار العلم هذه ليست دار علم المأمون أو خزانته العلمية، وإنما هي دار علم سابور، كما ذكر ذلك المعري في بيته، وكما يقول الصلاح الصفدي.
وأما دائرة المعارف الإسلامية فلا نعرف لقولها مصدرا يعتمد عليه أو يوثق به لأنها لم تذكر المصدر الذي نقلت عنه، وأغلب ظننا أن كاتب المقالة فيها عن دار العلم قد توهم كما توهم الأستاذ السبكي، وأن تشابه الاسمين قد خدعه فانخدع.
106
ويظهر أن تاريخ دار العلم - أو دار الحكمة كما تسمى في بعض النصوص - التي شادها المأمون قد اعتوره الغموض؛ فإني لم أجد فيما بين يدي من المصادر الموثوقة شيئا يعرفني بأمرها وتاريخها وأحوالها وما آل إليه أمرها، وينبغي أن ننتظر قليلا حتى نعثر على بعض المخطوطات القديمة التي قد تكشف لنا تلك النواحي المجهولة من تاريخ هذه المؤسسة الجليلة. •••
ولا نحب أن نترك هذه النقطة قبل أن نتحدث عن النشاط الثقافي في مصر والمغرب في العهد الفاطمي؛ فإن ثمة تشابها بين الحركتين؛ فقد حذا الفاطميون في مصر حذو العباسيين في العراق، وعنوا بالثقافة العامة والاهتمام بالكتب وخزائنها. وقد روت لنا المصادر الموثوق بها أنهم أسسوا خزانة كتب في القاهرة زودوها بنفائس المخطوطات وأعلام الكتب والدفاتر ليكسفوا شهرة بغداد ودار كتبها، كما أنهم اتخذوا بعد سنة 358 في قصر الخلافة بالقاهرة خزانة كتب ضخمة وصفت بأنها من أجل خزائن الكتب في الإسلام إن لم تكن أجلها، وأنها كانت مقرا لحركة علمية وثقافة واسعة، وقالوا أيضا إن عدة الخزائن التي كانت برسم الكتب في سائر العلوم بالقصر أربعون خزانة، من جملتها ثمانية عشر ألف كتاب من العلوم القديمة، وأنها كانت تحتوي على عدة رفوف مقطعة بحواجز، وعلى كل حاجز باب مقفل بمفصلات وقفل، وفيها من أصناف الكتب ما يزيد على مائتي ألف كتاب من المجلدات، ويسير من المجردات، فمنها في الفقه على سائر المذاهب والنحو واللغة وكتب الحديث والتواريخ وسير الملوك والنجامة والروحانيات والكيمياء من كل صنف ... ويقال إنه كان فيها نيف وثلاثون نسخة من كتاب العين منها نسخة بخط الخليل، وما ينيف على عشرين نسخة من تاريخ الطبري، ومائة نسخة من الجمهرة لابن دريد ...
107
أما المصاحف والربعات المخطوطة بالذهب والتزاويق والمكتوبة بالأقلام المنسوبة، فشيء لا يحصر، وكان فيها عدد من النساخ والمذهبين والمجلدين والفراشين ومن إليهم.
108
وإن هذه الخزانة مرت بعدة نكبات، أعظمها النكبة التي وقعت بديار مصر في عهد الخليفة المستنصر بالله الفاطمي (427-487) أيام المجاعة الكبرى التي بيع فيها رغيف الخبز بخمسين دينارا ودام الجوع سبع سنين. ويذكر المسبحي المؤرخ أنه شاهد وهو بمصر في سنة 461ه خمسة وعشرين جملا موقرة كتبا محملة إلى دار الوزير أبي الفرج محمد بن جعفر المغربي وزير المستنصر (؟-478) وقال: فسألت عنها فعرفت أن الوزير أخذها من خزائن القصر، وذكر لي من له خبرة بالكتب أنها تبلغ أكثر من مائة ألف دينار، ونهبت جميعا من داره يوم انهزم ناصر الدولة بن حمدان من مصر في السنة نفسها.. هذا سوى ما كان في خزائن دار العلم بالقاهرة، وسوى ما صار إلى عماد الدولة أبي الفضل بن المحترق بالإسكندرية ثم انتقل بعد مقتله إلى المغرب، وسوى ما ظفرت به ولاته محمولا مع ما صار إليه بالابتياع والغصب في بحر النيل إلى الإسكندرية سنة 461 وما بعدها، من الكتب الجليلة المقدار المعدومة المثل في سائر الأمصار صحة وحسن خط وتجليد وغرابة، التي أخذ جلودها عبيدهم وإماؤهم برسم عمل ما يلبسونه في أرجلهم وأحرق ورقها تأولا منهم أنها خرجت من قصر السلطان أعز الله أنصاره، وأن فيها كلام المشارقة الذي يخالف مذهبهم، سوى ما غرق وتلف وحمل إلى سائر الأقطار وبقي منها ما لم يحرق، وسفت عليه الرياح والتراب وصار تلالا باقية إلى اليوم في نواحي آثار تعرف بتلال الكتب ...
والنكبة الثانية العظيمة التي حلت بهذه الخزانة كانت أيام الفتح الأيوبي والقضاء على الدولة الفاطمية؛ فقد نقل المقريزي عن ابن أبي طي أن صلاح الدين الأيوبي بعدما استولى على القصور الملكية الفاطمية أمر ببيع ما في الخزانة، وكانت من عجائب الدنيا، ويقال إنه لم يكن في جميع بلاد الإسلام دار كتب أعظم من التي كانت بالقاهرة في القصر، ومن عجائبها أنه كان فيها ألف ومائتا نسخة من تاريخ الطبري إلى غير ذلك،
109
ويقال إنها كنت تشتمل على مائة ألف وستمائة كتاب، وكان فيها من الخطوط المنسوبة أشياء كثيرة، ويؤيد قول ابن أبي طي أن القاضي الفاضل عبد الرحيم لما أنشأ المدرسة الفاضلية بالقاهرة بعد الفتح الأيوبي جعل فيها من كتب القصر مائة ألف كتاب، وباع ابن صورة الدلال - دلال الكتب - منها جملة في مدة أعوام ... ويعلق المقريزي على هذا الخبر بقوله: فلو كانت مائة ألف كلها لما فضل عن القاضي الفاضل شيء. وذكر ابن أبي واصل أن خزانة الكتب كانت تزيد على مائة وعشرين ألف مجلد.
110
ويقول المقريزي في كلامه عن المدرسة الفاضلية: إن القاضي الفاضل (؟-596) وقف عليها جملة عظيمة من الكتب في سائر العلوم، ويقال إنها كانت مائة ألف كتاب وذهبت كلها «وكان أصل ذهابها أن الطلبة الذين كانوا بها لما وقع الغلاء بمصر سنة 694 مسهم الضر، فصاروا يبيعون كل مجلد برغيف خبز حتى ذهب معظم ما كان فيها، ثم تداولت أيدي الفقهاء عليها بالعاربة فتفرقت.» وبها إلى الآن مصحف قرآن كبير القدر جدا مكتوب بالخط الأول الذي يعرف الآن بالكوفي ويسميه الناس مصحف عثمان بن عفان، اشتراه بنيف وثلاثين ألف دينار على أنه مصحف أمير المؤمنين عثمان، وهو في خزانة مفردة له بجانب المحراب من غربيه وعليه مهابة وجلالة،
111
ولا غرابة في هذا المبلغ؛ فإن القاضي رحمه الله كان معروفا بحب الكتب والإنفاق عليها إنفاقا عجيبا؛ فقد ذكر عنه عبد اللطيف البغدادي أنه دخل عليه فرأى شيخا ضئيلا كله رأس وقلب ... وأنه كان يقتني الكتب من كل فن ويجتلبها من كل جهة، وله نساخ لا يفترون ومجلدون لا يبطلون. قال لي بعض من يخدمه في الكتب إن عددها قد بلغ مائة ألف وأربعة عشرين ألفا، وهذا قبل موته بسنة.
112
ومهما يكن من أمر فإن هذه الخزانة الملكية الضخمة كانت من مراكز العلم في الديار المصرية منذ أواسط القرن الرابع حتى استقر الفاطميون بمصر، ولما استوزروا الوزير العالم يعقوب بن يوسف بن إبراهيم بن هارون بن كلس (318-380) في عهد العزيز نزار بن المعز الفاطمي، اهتم بنشر العلم والمذهب الفاطمي. قال المقريزي: أول ما عرف إقامة درس من قبل السلطان بمعلوم جار لطائفة من الناس بديار مصر في خلافة العزيز بالله نزار بن المعز ووزارة يعقوب بن كلس، فعمل ذلك بالجامع الأزهر ... ثم عمل في دار الوزير يعقوب ابن كلس مجلس يحضره الفقهاء، فكان يقرأ فيه كتاب فقه على مذهبهم، وعمل أيضا مجلسا بجامع عمرو بن العاص من مدينة الفسطاط لقراءة كتاب الوزير،
113
ولما استخلف الحاكم بأمر الله المنصور بن العزيز نزار (375-410) وكان عالما مشتغلا بعلوم الفلسلفة والتنجيم والرصد، أمر سنة 395ه بإشادة دار العلم في القاهرة لتكون مقرا للدعوة الفاطمية ومستودعا للذخائر والكتب الفلسفية والحكمية والأدبية والدينية «وكانت بجوار القصر الغربي من بحريه إلى شماليه» قال الأمير المختار عز الملك محمد بن عبيدان بن أحمد المسبحي المؤرخ (؟-420) الذي كان في خدمة الحاكم: وفي يوم السبت هذا - يعني العاشر من جمادى الآخرة سنة 395 - فتحت الدار الملقبة بدار الحكمة بالقاهرة وجلس فيها الفقهاء وحملت إليها الكتب من خزائن القصور المعمورة، ودخل إليها الناس ونسخ كل من التمس نسخ شيء مما فيها ما التمسه، وكذلك من رأى قراءة شيء مما فيها، وجلس فيها القراء والمجتمعون وأصحاب النحو واللغة والأطباء بعد أن فرشت هذه الدار وزخرفت وعلقت على جميع أبوابها الستور وأقيم قوام وخدام وفراشون وغيرهم، وسموا بخدمتها، وحصل في هذه الدار من خزائن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله من الكتب التي أمر بحملها إليها من سائر العلوم والآداب والخطوط المنسوبة ما لم ير مثله مجتمعا لأحد قط من الملوك، وأباح ذلك كله لسائر الناس على طبقاتهم ممن يؤثر قراءة الكتب والنظر فيها؛ فكان ذلك من المحاسن المأثورة أيضا التي لم يسمع مثلها من إجراء الرزق السني لمن رسم له بالجلوس فيها والخدمة لها من فقيه وغيره، وحضرها الناس على طبقاتهم، فمنهم من يحضر لقراءة الكتب، ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم من يحضر للتعلم، وجعل فيها ما يحتاج إليه الناس من الحبر والأقلام والورق والمحابر ... وفي سنة 403ه أحضر جماعة من دار العلم من أهل الحساب والمنطق وجماعة من الفقهاء منهم عبد الغني بن سعيد وجماعة من الأطباء إلى حضرة الحاكم بأمر الله، وكانت كل طائفة تحضر على انفرادها للمناظرة بين يديه ثم خلع على الجميع ... ووقف الحاكم أماكن في فسطاط مصر على عدة مواضع وضمنها كتابا. وقد ذكر عند الجامع الأزهر وذكر فيه «دار العلم» وقال: ويكون العشر وثمن العشر لدار الحكمة لما تحتاج إليه في كل سنة من العين المغربي مائتان وسبعة وخمسون دينارا من ذلك الثمن:
الحصر العبداني وغيرها لهذا الدار
10 دنانير
ولورق الكاتب، يعني الناسخ
90 دينارا
وللخازن بها
48 دينارا
ولثمن الماء
12 دينارا
وللفراش
15 دينارا
وللورق والحبر والأقلام لمن فيها من الفقهاء
12 دينارا
ولمرمة الستارة
1 دينار
ولمرمة ما عسى أن يتقطع من الكتب وما عساه أن يسقط من ورقها
12 دينارا
ولثمن لبود للفرش في الشتاء
5 دنانير
ولثمن الطنافس في الشتاء
4 دنانير
209 * *
انظر الخطط المقريزية 334/2، 335.
ويظهر أنه قد كانت ثمة بعض الوظائف الأخرى التي سقط ذكرها من النسخة المطبوعة للخطط المقريزية، فإن مرتب الوظائف التي ذكرها أقل من مجموع المبلغ الموقوف وقدره (275) دينارا.
وقد استمرت هذه الدار على نشاطها التعليمي إلى عهد الوزير الأفضل ابن أمير الجيوش؛ فإنه أمر بإغلاقها في ذي الحجة سنة 516ه، وإنما فعل ذلك لأنها حادت عن الطريق التي وجدت من أجله وهو الدعاوة للمذهب الفاطمي. فقد حدثنا المقريزي عن ابن المأمون المؤرخ المصري أنه قال: وفي هذا الشهر - يعني ذا الحجة سنة 516ه - جرت نوبة القصار وهي طويلة، وأولها من الأيام الأفضلية، وكان منهم رجلان يسمى أحدهما بركات والآخر حميد بن مكي الأطفيحي القصار مع جماعة يعرفون بالبديعية، وهم على الإسلام والمذاهب الثلاثة المشهورة، وكانوا يجتمعون في دار العلم بالقاهرة، فاعتمد بركات من جملتهم من استفسد عقول جماعة وأخرجهم عن الصواب، وكان ذلك في أيام الأفضل، فأمر للوقت بغلق الدار والقبض على المذكور ... في قصة طويلة خلاصتها أن بركات هذا وحميدا قد أخذا ينشران بين زوار الدار أفكارا تنافي المذهب الفاطمي فيها شيء من مذهب الأشعري والتصوف ومذهب الشافعي والحنفي والمالكي، وكان أصحاب هذا المذهب يسمون بالبديعية، وأخذ الناس وفيهم بعض مماليك دار الخلافة يعتنقون البديعية، فخشي الوزير الأفضل مغبة ذلك فأمر بغلق الدار.
وقد ظلت هذه الدار مغلقة طول عمر وزارة الأفضل، فلما مات أمر الخليفة الآمر بأحكام الله وزيره المأمون بن البطائحي بإعادة فتحها على الأوضاع الشرعية. ثم عاد حميد القصار ... فأفسد عقول بعض الجماعات وادعى الربوبية، فحضر الداعي ابن عبد الحقيق إلى الوزير المأمون وعرفه بأن هذا قد تعرف بطرف من علم الكلام على مذهب أبي الحسن الأشعري ثم انسلخ عن الإسلام وسلك طريق الحلاج في التمويه ... فرسم المأمون بالقبض عليه وعلى جميع أصحابه وقتلوا سنة 517ه.
ويقول ابن عبد الظاهر مؤرخ مصر: «... وكان لإبطالها أمور سببها اجتماع الناس والخوض في المذاهب والخوف من الاجتماع على المذهب النزارني.»
114
ولم يزل الخدام يتوصلون إلى الخليفة الآمر بأحكام الله حتى تحدث في ذلك مع الوزير المأمون ... فأجاب المأمون إلى ذلك وقال بشرط أن يكون متوليها رجلا دينا والداعي الناظر فيها، ويقام فيها متصدرون برسم قراءة القرآن، فاستخدم فيها أبو محمد حسن بن آدم، فتولاها وشرطا عليه ما تقدم واستخدم فيها مقرئون.
115
وقد عقد المقريزي لدار العلم الثانية هذه بابا خاصا عنوانه «دار العلم الجديدة»، وقال إنها كانت بجوار القصر الكبير الشرقي، وإنها فتحت بعد مقتل الوزير الأفضل، وأن الوزير المأمون امتنع من إعادتها في موضعها الأول بباب التبانين، ففتحت في جوار القصر في ربيع الأول سنة 517 وأنها لم تزل عامرة إلى أواخر عهد الدولة الفاطمية.
116
ولا شك في أن هذه المؤسسة بخزانتها ورجالاتها كانت مفتوحة لنشر المذهب الفاطمي؛ فقد اهتم الفاطميون بنشر مذهبهم الديني لأنه كان السبب في فرض سلطانهم السياسي، فأذاعوا عقائدهم على جماهير المستجيبين وأعانوا العلماء وأجزلوا لهم العطاء، وجعلوا من دار العلم هذه مركزا من مراكز الدعوة يلقي العلماء فيه الدروس والمحاضرات على الدعاة والعامة، كما أنهم قد جعلوا جانبا من جوانب قصرهم مركزا من مراكز الدعوة، وهو المعروف «بالمحول»، وفيه كانت تلقى المحاضرات والدروس على الخاصة ورجالات الدولة. ويذكر ابن خلكان أن الخليفة الظاهر بن الحاكم بأمر الله قد أمر الناس بحفظ كتاب «دعائم الإسلام» للقاضي النعمان، وأنه جعل لمن حفظه مالا كثيرا، ويذكر أيضا أن الوزير يعقوب بن كلس ألف كتابا في الفقه الفاطمي ورتب لنفسه مجلسا في كل ليلة جمعة يقرأ فيه مصنفاته على الناس، وكان يحضر هذا المجلس جماعة من كبار رجالات الدولة كالقضاة والفقهاء والقراء والنحاة وجميع أرباب الفضائل والعدول.
117
ويقول المقريزي: إن الإمام الظاهر الفاطمي طلب إلى الناس أن يحفظوا كتاب مختصر الفقه للوزير ابن كلس.
118
وفي ديوان الإمام المؤيد في الدين داعي الدعاة هبة الله بن موسى بن داود الشيرازي (؟-470) الكاتب الأديب العالم المعروف برسائله التي ناظر بها أبا العلاء المعري في موضوع أكل اللحم مقطوعة، قيل إن الخليفة المستنصر بالله أرسلها إليه يحثه فيها على نشر علوم أهل البيت الفاطميين وفقههم، وفيها قوله:
119
يا حجة مشهورة بين الورى
وطود علم أعجز المرتقي ... شيعتنا قد عدموا رشدهم
في الغرب يا صاح وفي المشرق
فانشر لهم ما شئت من علمنا
وكن لهم كالوالد المشفق
وفي «سيرة داعي الدعاة المؤيد في الدين» التي كتبها بقلمه،
120
وفي «المجالس المستنصرية» التي كتبها الداعي ثقة الإمام علم الإسلام،
121
وقد نشرهما الأستاذ الدكتور محمد كامل حسين المصري، شيء كثير عما كان يجري في «دار العلم» و«المحول» من البحوث الكلامية وأخبار العقائد الفاطمية.
ونرى قبل أن نختم الحديث عن «دار الحكمة» أو «دار العلم» هذه أن نعرض إلى أقوال بعض الباحثين الذين أرادوا أن يجعلوا من هذه الدار «مدرسة» أو «جامعة» كما يقول البروفسور متس
122
والأستاذ خطاب عطية،
123
فإن الأول ذهب إلى «أن مجرد اسم دار علم يدل على الفرق بينها وبين دور الكتب القديمة، وإن دار الكتب قديما كانت تسمى خزانة حكمة، وهي خزانة كتب ليس غير، أما المؤسسات الجديدة فتسمى دور علم وخزانة الكتب جزء منها، وتزيد على دور الكتب بالتعليم وبإجراء الأرزاق على من يلازمها.» وأخذ الثاني كلام الأول وأضاف إليه قوله «ودار العلم التي نحن بصددها ينطبق تماما عليها هذا القول، فقد كانت «جامعة» حقة تضم عدة حلقات دينية وأدبية وعلمية، وجلس فيها القراء والفقهاء وأصحاب النحو واللغة والمنجمون والأطباء ...»
ونحن نرى في هذا القول، وبخاصة قول الأستاذ خطاب، مبالغة كبيرة؛ فإن إطلاق كلمة «جامعة» على «دار العلم» هذه فيه كثير من التساهل، ف «المدرسة» أو «الجامعة» لها شروط عديدة، منها:
أن يكون المكان مشيدا للعلم والتعليم خاصة.
وأن يكون للدخول فيه شرائط معينة.
وأن يرتب لمن فيه من الطلاب والأساتذة الرواتب الخاصة.
وأن تكون تلك الرواتب لكل منتسب إليه لا للفقراء والمعوزين الذين يقصدونه.
وأن يكون له هدف خاص معروف.
وأن يكون مزودا بكل ما تحتاج إليه الدراسة من عدد الدرس وآلاته كالكتب والألواح والغرف المهيأة.
وأن توقف بعض الوقوف الدارة عليه لاستمرار العمل فيه طويلا.
وأن يزود بالموظفين الكفاة الذين يقومون بالسهر عليه وعلى مصالحه.
ونحن لا نعرف مؤسسة روعيت فيها هذه الشروط إلا المدرسة النظامية التي أسسها الوزير نظام الملك السلجوقي. أما «دار العلم» أو «دار الحكمة» أو «المحول » أو «الجامع الأزهر» نفسه، فإنها مؤسسات علمية وثقافية، إلا أن هذه الشروط غير متوفرة فيها؛ فلذلك لا يصح أن يطلق عليها اسم «مدرسة» أو «جامعة»؛ لأننا لا نعرف معهدا روعيت هذه الشروط فيه إلا المدارس النظامية التي شيدها نظام الملك في بغداد وغيرها من نواحي العالم الإسلامي. فقول البروفسور متس والأستاذ خطاب قول مبالغ فيه ولا يعتمد على الواقع العلمي، إلا إذا تساهلنا في إطلاق لفظ «المدرسة» أو «الجامعة» على أي مكان يدرس فيه، وليس في هذا الإطلاق أية دقة علمية.
ونحن نحب أن نختم هذا المبحث بأن كلمة «دار علم» صارت تطلق فيما بعد على كثير من خزائن الكتب التي ليس لها أية صفة جامعية أو مدرسة؛ ففي طرابلس الشام مثلا شاد أميرها القاضي جلال الملك خزانة كتب ضخمة للكتب عرفت باسم «دار العلم»، وقد ذكرها الشاعر أبو عبد الله أحمد بن محمد علي التغلبي الدمشقي المعروف بابن الخياط (؟-517)؛ فقد كتب مرة إلى القاضي أبي الفضل بن أبي روح، وكان قد أمره القاضي جلال الملك أن يفرق شيئا من المال على أهل العلم فيها، فلم يعط ابن الخياط شيئا، وكان ابن أبي روح هذا متوليا دار العلم، فبعث إليه ابن الخياط بالبيتين الآتيين:
أبا الفضل كيف تناسيتني
وما كنت تعدل نهج الرشاد
فأوردت قوما رواء الصدور
وحلأت مثلي وإني لصاد
فاضطر ابن أبي روح أن يعطيه شيئا من ماله.
124
وفي بغداد شيد الأديب الفقية المحدث المؤرخ الطبيب أبو بكر عبيد الله بن علي بن نصر، المعروف بابن المارستانية ناظر أوقاف المارستان العضيدي؛ دارا بدرب الشاكرية سماها «دار العلم»، وجعل فيها خزانة كتب ووقفها على طلاب العلم، ولكن سيرته لم تحمد في نظارة الأوقاف فقبض عليه وصودرت أمواله وبيعت دار العلم بما فيها من الكتب.
125 (1-3) مؤسسات أخرى للتعليم
لم يقتصر التعليم عند العرب على المسجد والجامع والكتاب ودور العلم وخزائن الكتب كما رأينا، بل وجدت عندهم مؤسسات أخرى كانوا يتلقون فيها العلم إلى جانب الأغراض الأخرى التي أسست من أجلها كالخانقاه، والرباط، والزاوية، والبيمارستان. وسنفرد فيما يلي بحثا موجزا لكل مؤسسة من هذه المؤسسات:
الخانقاه:
ويقال لها الخانكاه أيضا ، وتجمع على خوانق وخوانك، وهي كلمة فارسية الأصل معناها البيت. قال المقريزي: «هي كلمة فارسية معناها بيت، ويقال إن أصلها خونقاه، أي الموضع الذي يأكل فيه الملك.» وقال مؤلف «فرهتك خيام»: «خانقاه معرب خانكاه.»
126
وإن معنى «خانكاه» هو مقام درويشان، أي بيت الدراويش والصوفية والفقراء. وقد حدثت الخوانق في الإسلام في حدود الأربعمائة من سني الهجرة، وجعلت لتخلي الصوفية فيها للعبادة،
127
وكانت تبنى في الغالب على شكل مساجد الصلاة، إلا أن فيها غرفا عديدة لبيت الفقراء والصوفية وبيتا كبيرا لصلاتهم مجتمعين وللقيام بأورادهم وأذكارهم، ولا يكون فيها في الغالب منبر لأنها لا تقام فيها صلاة الجمعة إلا نادرا، فإن الصوفية عادة كانوا يخرجون منها أيام الجمع إلى أقرب مسجد. وربما أقيمت صلاة الجمعة في بعض الخوانق كخانقاه يكتمر بمصر،
128
وكانت الخوانق في العادة تزود بحمام ومطبخ ومخازن للأطعمة والمؤن، وفرن تصنع فيه الأخباز والمأكولات.
129
وكان يكون لكل خانقاه شيخ يلقب ب «شيخ الشيوخ». قال المقريزي في كلامه عن الخانقاه الكبرى الصالحية التي كانت دار سعيد السعداء في دوبرة الصوفية بمصر: «هذه الخانقاه كانت أولا دارا تعرف في الدولة الفاطمية بدار سعيد السعداء، وهو الأستاذ قنبر ويقال عنبر أحد الأستاذين المحنكين خدام القصر، عتيق الخليفة المستنصر قتل في سابع شعبان سنة 544ه، فلما استبد الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شاذي بملك مصر عمل هذه الدار برسم الفقراء الصوفية الواردين من البلاد الشاسعة، ووقفها عليهم في سنة 569 وولى عليهم شيخا، وشرط أن من مات من الصوفية وترك عشرين دينارا فما دونها كانت للفقراء ومن أراد منهم السفر يعطى تسفيرة، ورتب للصوفية في كل يوم طعاما ولحما وخبزا وبنى لهم حماما بجوارهم، فكانت أول خانقاه عملت بمصر وعرفت بدوبرة الصوفية، ولقب شيخها بشيخ الشيوخ، واستمر ذلك بعده إلى أن كانت الحوادث والمحن سنة 806، واتضعت الأحوال وتلاشت الرتب، فلقب كل شيخ خانقاه ب «شيخ الشيوخ»، وكان سكانها من الصوفية يعرفون بالعلم والصلاح وترجى بركتهم ... أخبرني الشيخ أحمد بن علي القصار أنه أدرك الناس في يوم الجمعة يأتون من مصر إلى القاهرة ليشاهدوا صوفية خانقاه سعيد السعداء عندما يتوجهون منها إلى صلاة الجمعة بالجامع الحاكمي.»
130
وكانوا يخصصون في كل خانقاه عددا من الصوفية يقيمون فيها، وربما بلغ عددهم في بعض الخوانق خمسمائة صوفي، كما كان الحال في خانقاه الملك المظفر ركن الدين بيبرس الجاشنكير، فقد بنى في مصر بناء فخما جعله خانقاه وجعل إلى جانبه رباطا قال عنه في الخطط المقريزية: «ولما كملت في سنة 799 قرر في الخانقاه أربعمائة صوفي، وبالرباط مائة من الجند وأبناء الناس الذين قعد بهم الوقت.»
131
وكانوا يجعلون في تلك الخوانق دروسا في الفقه والدين والعربية والتصوف والحديث، فقد جعل الملك المظفر بيبرس دروسا في الحديث وسمى لذلك مدرسا وعنده عدة من المحدثين والقراء،
132
وربما جعل بعضهم في الخانقاه دروسا لتدريس المذاهب الأربعة، وكانوا كثيرا ما يلحقون بالخوانق كتاتيب لتعليم الأطفال المسلمين القرآن والكتابة والقراءة مع تجويد الخط العربي،
133
كما كانوا يجعلون في الخوانق خزائن للكتب والمصاحف القرآنية والربعات، وربما وضعوا فيها بعض الكتب الفلكية وآلاتها؛ فقد رووا أن الأمير بسكتمر الساقي جعل في خانقاهه شيخا وإماما وعشرين صوفيا وقراء وهيأ لهم كل ما يحتاجون إليه من طعام وغذاء ودواء، وظل ذلك إلى أن وقعت الفتن في مصر سنة 806، فتعطل كثير من تلك الخيرات وخربت الحمام والبستان التابعان للخانقاه وتمزق ما كان فيها من الفرش، وآلات النحاس والكتب والربعات والقناديل النحاس المفرغة والقناديل الزجاج المذهب، وغير ذلك من الأمتعة والنفائس الملوكية.
134
الرباط:
هو في الأصل مصدر «رابط»، قال في المصباح المنير: «الرباط اسم من رابط مرابطة، إذا لازم ثغر العدو.»
135
وقد أطلق لفظ «الرباط» على نوع من الثكنات العسكرية التي تبنى على الحدود الإسلامية وقرب الثغور، يقيم فيها المجاهدون «المرابطون» الذين رابطوا في هذه الأمكنة للدفاع عن دار الإسلام بسيوفهم. وقد كانت الأربطة منتشرة في أيام بني أمية وبني العباس بين ديار الإسلام وديار الحرب. وأجل هذه الربط ما كان في شمالي بلاد الشام وشمالي إفريقية، وقد كانت في تصميمها تشبه الحصون البيزنطية، ومعظمها بني على شكل مستطيل وفي أركانها الأربعة أبراج للمراقبة، أما داخلها فبناء تحف به القاعات التي لا نوافذ لها في الغالب.
136
وقد كان إلى جانب هذه الأربطة ساحات فسيحة معدة لخيول المجاهدين استعدادا لرد العدو أو مبادرته بالقتال تنفيذا لمنطوق الآية الكريمة:
ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله .
ثم على مرور الأزمنة تطور معنى هذه اللفظة، فأصبحت تطلق على الأمكنة التي يرابط فيها من نذروا أرواحهم للجهاد في سبيل الله ونصرة دينه، فأصبحت تطلق على البيوت التي يسكنها المتقشفون والصوفية. قال المقريزي: «الربط جمع رباط، وهو دار يسكنها أهل طريق الله.» قال ابن سيده: الرباط من الخيل الخمسة فما فوقها، وأصلها أن يرابط كل واحد من الفريقين خيله، ثم صار لزوم الثغر رباطا، وربما سميت الخيل نفسها رباطا، والرباط والرباط المواظبة على الأمر. قال الفارسي: هو ثان من لزوم الثغر، ولزوم الثغر ثان من ربط الخيل، وقوله تعالى:
وصابروا ورابطوا
قيل معناها جاهدوا، وقيل واظبوا على مواقيت الصلاة. وقال أبو حفص السهروردي في كتاب عوارف المعارف: وأصل الرباط ما تربط به الخيل، ثم قيل لكل ثغر يدافع أهله عمن وراءهم رباط، فالمجاهد المرابط يدفع عمن وراءه، والمقيم في الرباط على طاعة الله يدفع بدعائه البلاء عن العباد والبلاد، وروى داود بن صالح قال: قال لي أبو سلمى بن عبد الرحمن: يا ابن أخي، لم يكن في زمان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
غزو تربط فيه الخيل ولكنه انتظار للصلاة بعد الصلاة، فالرباط جهاد النفس، والمقيم في الرباط مرابط مجاهد نفسه، واجتماع أهل الربط إذا صح على الوجه الموضوع له الربط، وتحقق أهل الربط بحسن المعاملة ورعاية الأوقات وتوقي ما يفسد الأعمال ويصحح الأحوال يعود بالبركة على البلاد والعباد. وشرائط سكان الرباط قطع المعاملة مع الخلق وفتح المعاملة مع الحق، وترك الاكتساب اكتفاء بكفالة مسبب الأسباب، وحبس النفس عن المخالطات واجتناب التبعات، ومواصلة الليل والنهار بالعبادة متعوضا بها عن كل عادة، والاشتغال بحفظ الأوقات وملازمة الأوراد، وانتظار الصلوات واجتناب الفضلات، ليكون مجاهدا مرابطا. والرباط بيت الصوفية، ومنزلهم، ولكل قوم دار، والرباط دارهم، وقد شابهوا أهل الصفة في ذلك؛ فالقوم في الرباط متفقون على قصد واحد، وعزم واحد، وأحوال متناسبة، ووضع الرباط لهذا المعنى.
137
ولقد كانت الربط في أيام بني أمية وبني العباس بكثرة على الثغور الرومية والبيزنطية وإلى أقصى الشرق وعلى حدود ما وراء النهر وفي شمالي إفريقية وسائر بلاد المغرب، وكان يقيم فيها المجاهدون، وطبيعي جدا أن هؤلاء المرابطين كانوا في خلال الأوقات التي لا تكون فيها الحرب أو الاستعداد لها، كانوا يعملون على ترويض أنفسهم جسميا أو روحيا، وكانوا يقرءون ما تيسر لهم من القرآن أو نصوص العلم والدين أو أحاديث الرسول
صلى الله عليه وسلم . ويظهر أنه منذ القرن الرابع أخذ بعض أهل الخير يقفون مساكن في ضواحي المدن الكبرى، يجعلونها مؤبدة على الزهاد والعباد؛ أي في الوقت الذي شرعوا يبنون فيه الخوانق. والرباط هو الخانقاه إلا أن أهل العراق قلما استعملوا كلمة الخانقاه، أما أهل مصر والشام فقد استعملوا كلمة رباط. وقد جعلوا الرباط مأوى الصوفية الفقراء المجردين غير المتأهلين، وربما كانوا يقفون بعض الربط على النساء من أهل الصلاح والفقر والخير والدين، ويجعلون لها شيخات من فواضل النساء وعوالمهن. قال المقريزي في الكلام عن رباط البغدادية: بنته السيدة الجليلة تذكار باي خاتون ابنة الملك الظاهر بيبرس سنة 684 للشيخة الصالحة زينب بنت أبي البركات المعروفة ببنت البغدادية، فأنزلتها به ومعها النساء الخيرات، وما برح إلى وقتنا هذا يعرف سكانه من النساء بالخير، وله دائما شيخة تعظ النساء وتذكرهن وتفقههن،
138
وكما جعلوا في الخانقاه شيخا ومدرسين وقراء، فكذلك جعلوا في الرباط. ومن أشهر الربط التي كانت فيها حلقات لتعليم القراءة والكتابة والدين والتصوف رباط الآثار الذي عمره الصاحب تاج الدين محمد بن الصاحب فخر الدين محمد، فقد قرر فيه دروسا للفقهاء الشافعية وجعل له مدرسا وعنده عدة من الطلبة ولهم جار.
139
وقد كانت الربط مأوى يلجأ إليه العلماء الرحالون وطلاب العلم الذين ينتقلون في أرجاء العالم الإسلامي طلبا للحديث النبوي أو علوم الدين والعربية. قال الإمام الكبير القاضي أبو بكر بن العربي (468-543) الإمام المجتهد والمحدث الجليل لما خرج من الأندلس قاصدا المشرق دخل بغداد ونزل في رباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية، فاجتمع فيه بالإمام الغزالي فقرأ عليه ولازمه. ذكر المقري في نفح الطيب نقلا عن ابن العربي أنه قال: «ورد علينا دانشمند - وهو لقب فارسي للإمام الغزالي معناه العلامة - فنزل برباط أبي سعد بإزاء المدرسة النظامية معرضا عن الدنيا مقبلا على الله، فمشينا إليه وعرضنا أمنيتنا عليه، وقلت له: أنت ضالتنا التي كنا ننشد وإمامنا الذي به نسترشد، فلقينا لقاء المعرفة، وشاهدنا منه ما كان فوق الصفة ...»
140
الزاوية:
هي كالرباط والخانقاه إلا أنها أصغر في الغالب، وهي أكثر ما تكون في الصحاري والأمكنة الخالية من السكان، وربما أطلقت على ناحية من نواحي المساجد الكبرى تقام فيها بعض حلق العلم، فقد كان في جامع عمرو بن العاص بمصر عدة زوايا، قال المقريزي: «وبالجامع زوايا يدرس فيها الفقه، منها «زاوية الإمام الشافعي» يقال إنه درس فيها الفقه فعرفت به، ولم يزل يتولى تدريسها أعيان الفقهاء وجلة العلماء، وفيها «الزاوية المجدية» بصدر الجامع فيما بين المحراب الكبير ومحراب الخمس داخل المقصورة الوسطى بجوار المحراب الكبير، رتبها مجد الدين أبو الأشبال الحارث بن مهلب الأزدي، ويعد تدريسها من المناصب الجليلة، ومنها «الزاوية الصاحبية» رتبها الصاحب تاج الدين محمد بن فخر الدين، وجعل لها مدرسين؛ أحدهما مالكي والآخر شافعي، ومنها «الزاوية الكمالية» بالمقصورة المجاورة لباب الجامع الذي يدخل إليه من سوق الغزل ... وغير ذلك من الزوايا الصوفية.»
141
وكانوا يقفون هذه الزوايا - ومثلها التكايا - على الفقراء الصوفية، ويجعلون لها شيخا واحدا أو أكثر من واحد، ويحددون عدد من يباح لهم الإقامة الدائمة فيها، ومن يحق لهم البقاء فيها موقتا مدة من الزمن.
ومما تجدر الإشارة إليه أن المسلمين قد خصصوا بعض الخوانق والربط والزوايا للنساء خاصة، يقمن فيها ويتلقين بعض الدروس في الدين من القرآن والحديث والفقه والأدب من شعر ونثر، ومن أشهر هذه الربط النسوية «رباط البغدادية» الذي بنته السيدة الجليلة تذكار باي ابنة الملك الظاهر بيبرس سنة 684 للشيخة الفاضلة الزاهدة زينب ابنة أبي البركات البغدادية (؟-714)، فأنزلتها به مع النساء الصالحات، وله دائما شيخة تعظ النساء وتذكرهن وتفقههن. قال المقريزي: وآخر من أدركنا فيه الشيخة الصالحة سيدة نساء زمانها أم زينب فاطمة بنت عباس البغدادية (؟-796)، وكانت فقيهة وافرة العلم زاهدة قانعة باليسير عابدة واعظة حريصة على النفع والتذكير ... انتفع بها كثير من نساء دمشق ومصر، وكان لها قبول زائد ووقع في النفوس ... أدركنا هذا الرباط وتودع فيه النساء اللاتي طلقن أو هجرن حتى يزوجن أو يرجعن إلى أزواجهن صيانة لهن لما كان فيه من شدة الضبط وغاية الاحتراس والمواظبة على وظائف العبادات.
البيمارستان: «البيمارستان» - ومخففها «مارستان» كلمة فارسية معناها «المستشفى»، وهي مؤلفة من كلمة «بي» ومعناها: «بدون»، و«مار» ومعناها: «الحياة، أو الحيوية»، و«ستان» ومعناها مكان؛ فمعنى الكلمة كلها «مكان المرضى».
وقال الجوهري في الصحاح: المارستان بيت المرضى، معرب. وقد أطلقت في الأصل على كل مستشفى، ثم خصصت بمستشفى المجاذيب، وأول من عمل البيمارستانات في الإسلام الوليد بن عبد الملك في سنة 88، وجعل فيها الأطباء وأجرى عليهم الجرايات، وعمل دور الضيافة، وأمر بحبس المجذومين والعميان، وكانوا يودعون في هذه البيمارستانات الأدوية والعقاقير والأكحال، ويجعلون فيها الأطباء والكحالين والجراحيين والخدم وكل ما تحتاج إليه المشافي من عدد وآلات، وربما جعلوا في بعضها خزائن الكتب
142
وغرفا وأواوين ومعاهد لتدريس الطب والصيدلة وما إليها، وربما ألحقوا مكان التدريس بجانب البيمارستان ليكون الطلاب في جو هادئ، وإذا ما أراد الأستاذ تدريسهم وإجراء التطبيق العملي نقلهم من المدرسة إلى البيمارستان أو من البيمارستان إلى المدرسة، وممن عمل ذلك الخليفة المستنصر العباسي؛ فإنه جعل في مدرسته المستنصرية العظمى معهدا لتدريس الطب والصيدلة، وإلى جانبه شاد البيمارستان ليطبق الطلاب علومهم النظرية على الحالات المرضية في ذلك المستشفى.
وكذلك فعل الملك المنصور قلاوون الألفي الصالحي؛ فإنه بنى البيمارستان الكبير المنصوري في القاهرة سنة 682، وجعل فيه قبة ومدرسة وبيمارستانا، وإن ذلك كله تم في أسرع مدة وهي أحد عشر شهرا، وكان مقدار ذرعها عشرة آلاف وستمائة ذراع، وكان الشروع في البناء سنة 683، ووقف عليها ما يقارب من ألف ألف درهم في كل سنة لمصاريف البيمارستان والقبة والمدرسة ومكتب الأيتام، وجعل مكانا تفرق فيه الأدوية والأشربة، ومكانا يجلس فيه رئيس الأطباء لإلقاء الدروس في الطب، وقرر في القبة خمسين مقرئا يتناوبون قراءة القرآن ليلا ونهارا، ودرسا للتفسير له مدرس ومعيدان وثلاثون طالبا، ودرس حديث نبوي، وجعل بها خزانة كتب وستة خدام طواشية لا يزالون بها، ومتصدرا لإقراء القرآن، ودروس في الفقه على المذاهب الأربعة، ورتب بمكتب الأيتام معلمين يقرئان الأيتام القرآن
143
الكريم، وقد مدحها الشرف البوصيري بقوله:
أنشات مدرسة ومارستانا
لتصحح الأديان والأبدانا
وقال أيضا:
ومدرسة ود الخورنق أنه
لديها حظير والسدير غدير
مدينة علم والمدارس حولها
قرى أو نجوم بدرهن منير
تبدت فأخفى الظاهرية نورها
وليس بظهر للنجوم ظهور
بناها كأن النحل هندس شكله
ولانت له كالشمع فيه صخور
ولما دخل صلاح الدين مصر أمر بفتح مارستان للمرضى. قال القاضي الفاضل: في متجددات سنة 577 في تاسع ذي القعدة أمر السلطان بفتح مارستان للمرضى والضعفاء فاختير له مكان في القصر، أفرد برسمه من أجرة الرباع الديوانية مشاهرة قدرها مائتا دينار، واستخدم له أطباء وطبائعيين وجراحيين ومشارف وعاملا وخداما، ووجد الناس فيه رفقا وإليه مستروحا وبه نفعا. وكذلك بمصر أمر بفتح مارستانها القديم وأفرد برسمه من ديوان الأجناس ما تقدير ارتفاقه عشرون دينارا، واستخدم له طبيبا وعاملا ومشرفا وارتفق به الضعفاء.
144
والمستشفيات التي كانت فيها حلقات لتدريس الطب كثيرة في الإسلام. قال الدكتور أحمد عيسى في فصل عنوانه «تدريس الطب بالبيمارستان وفي مدارس خاصة»: ذكرنا أن طلبة الطب كانوا يتلقون علومهم على أساتذتهم في البيمارستانات؛ إذ كانت تهيأ لهم الإيوانات الخاصة المعدة والمجهزة بالآلات والكتب أحسن تجهيز، فيقعدون بين يدي معلمهم بعد أن يتفقدوا المرضى وينتهوا من علاجهم كما كان يفعل أبو المجد بن أبي الحكم في البيمارستان النوري الكبير، وإن بعضا من مشايخ الطب وكبار رؤسائهم كان يجعل له مجلسا عاما لتدريس صناعة الطب للمشتغلين عليه في منزله أو في المدارس الخاصة،
145
ويقول ابن أبي أصيبعة: إن الفيلسوف الطبيب أبا الفرج بن الطبيب كان يقرئ الطب في البيمارستان العضدي ويعالج المرضى فيه،
146
وإن الإمام الطبيب إبراهيم بن مكس كان يدرس الطب في البيمارستان العضدي في بغداد وكان له ما يقوم بكفايته،
147
وقال ابن كثير في حوادث سنة 572: وفيها بنى الأمير مجاهد الدين قايماز نائب قلعة الموصل جامعا حسنا - هو الجامع المجاهدي - ورباطا ومدرسة ومارستانا متجاورات بظاهر مدينة الموصل على دجلة وأوقف عليها الأوقاف،
148
ولما زار ابن جبير مدينة الموصل في سنة 728 وجد فيها مارستانا أمام مسجدها الجامع.
149
ويذكر ابن كثير أن الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي لما كان ملك دمشق سنة 549 ابتنى بها سنة 569 بيمارستانه العظيم المشهور بالمارستان النوري الكبير، وأن ذلك البيمارستان لم تخمد منه نار منذ بنائه إلى أيامنا هذه؛ أي سنة 774، وهي سنة وفاة ابن كثير. ويقول ابن أبي أصيبعة: إن نور الدين لما أنشأ بدمشق بيمارستانه هذا جعل أمر الطب فيه إلى الطبيب الأشهر أبي المجد بن أبي الحكم الباهلي، وأنه كان يدور على المرضى ويتفقد أحوالهم ويعتبر أمورهم وبين يديه المشارفون والقوام لخدمة المرضى، فكان جميع ما يكتبه لكل مريض من المداواة والتدبير لا يؤخر عنه ولا يتوانى في ذلك، وبعد فرغه من ذلك وطلوعه إلى القلعة وافتقاده المرضى من أعيان الدولة يأتي ويجلس في الديوان الكبير بالبيمارستان، وجميعه مفروش، ويحضر كتب الاشتغال. وكان نور الدين - رحمه الله - قد وقف على هذا البيمارستان جملة كتب من الكتب الطبية، وكانت في الخرستانين اللذين في صدر الديوان، فكان جماعة من الأطباء والمشتغلين يأتون إليه ويقعدون بين يديه ثم تجري مباحث طبية ويقرئ التلاميذ، ولا يزال معهم في اشتغال ومباحث ونظر في الكتب مقدار ثلاث ساعات،
150
وقال ابن أبي أصيبعة: كنت بعدما يفرغ الحكيم مهذب الدين والحكيم عمران من معالجة المرضى بالبيمارستان وأنا معهم أجلس مع الشيخ رضي الدين الرحبي، فأعاين كيفية استدلالاته على الأمراض ومداواتها، وكان معه - أي مع مهذب الدين - في البيمارستان لمعالجة المرضى الحكيم عمران، وهو من أعيان الأطباء وأكابرهم في المداواة والتصرف في أنواع العلاج، فتتضاعف الفوائد المقتبسة من اجتماعهما ومما كان يجري بينهما من الكلام في الأمراض.
151
وكانت البيمارستان قسمين؛ أحدهما للرجال، والآخر للنساء، وفي كلا القسمين ما يحتاج إليه الأطباء أو المستخدمون من العدد والآلات والكتب، كما كان كل منهما مجهزا بالالات المخصصة لمختلف الأمراض والعلل والجراحات والجبائر،
152
وما إلى ذلك، وكان إلى جانب هذه البيمارستانات أو داخلها في الغالب صيدليات ربما سموها «الشراب خاناه»، وفيها رئيس وموظفون، ويسمى هذا الرئيس «صيدليا» أو «صيدلانيا» أو «شاد الشراب خاناه».
153
وكان الأطباء في صدر الدولة يطببون - بعد أن يدرسوا الطب على شيوخه - حين يجدون في أنفسهم الكفاية ويأذن لهم أستاذوهم بذلك، ويظهر أنهم لما وجدوا بعض المتطفلين على هذه الصناعة يدسون أنفسهم في عداد الأطباء، رأوا ضرورة صيانة هذه الصنعة الحساسة فأوجدوا للرقابة عليهم رجالا مخصوصين.
ويقال إن الخليفة المقتدر بالله العباسي هو أول من فرض على من يريد انتحال هذه الصنعة أن يؤدي امتحانا حتى ينال إجازة التطبيب، قال سنان بن ثابت رئيس أطباء عصره وطبيب الخليفة المقتدر: لما كان في سنة 319 اتصل بالمقتدر أن غلطا جرى على رجل من العامة من بعض المتطببين فمات الرجل؛ فأمر الخليفة أبا إبراهيم بن محمد بن أبي بطيحة المحتسب أن يمنع المتطببين من التصرف إلا من امتحنه سنان بن ثابت بن قرة، فصاروا إلى سنان وامتحنهم وأطلق لكل واحد منهم ما يصلح أن يتصرف فيه، وبلغ عددهم في جانبي بغداد ثمانمائة رجل ونيفا وستين طبيبا، سوى من استغنى عن امتحانه باشتهاره وتقدمه في صناعته، وسوى من كان في خدمة الخليفة. وصار النظام بعد ذلك أن من أتم دراسة الطب يتقدم إلى رئيس الأطباء لامتحانه وأخذه الإجازة في العراق أو الشام أو سائر الأقطار الإسلامية. يقول الدكتور أحمد عيسى: وكان طالب الإجازة يتقدم إلى رئيس الأطباء برسالة في الفن الذي يريد الحصول على الإجازة في معاناته، وهذه الرسالة أشبه بما يسمى اليوم أطروحة
thèse ، وتكون هذه الرسالة له أو لأحد مشاهير الأطباء المتقدمين أو المعاصرين يكون قد أجاد دراستها فيمتحنه فيها ويسأله في كل ما يتعلق بما فيها من الفن، فإذا أحسن الإجابة أجازه الممتحن بما يطلق له التصرف فيه من الصناعة، ومن محاسن الصدف أني عثرت في دشت قديم في خزانة كتب أستاذنا وصديقنا أحمد زكي باشا على صورتين لإجازتين في الطب من القرن السادس عشر، منحت إحداهما لفصاد والأخرى لجراح أنقلهما هنا لكي يعلم الباحث ما كان عليه الحال في تلك العصور.
154
وقد بلغت المارستانات في الإسلام مبلغا عظيما، أحصاه الدكتور أحمد عيسى في كتابه القيم. وقد تجاوز عدد المشهور فيها المائة بيمارستان، ولم يكد يخلو منها قطر من أقطار الإمبراطورية الإسلامية إذ ذاك. (2) المدارس وأساتذتها وطلابها وكل ما يتعلق بها (2-1) المدارس
أقدم النصوص الأدبية التي نجد فيها ذكر «المدرسة» بمعناها الاصطلاحي المفهوم - فيما أرى - هو قول دعبل بن علي الخزاعي (؟-246) في قصيدته التي يرثي بها آل البيت وما يلقون من تقتيل وتعذيب، وما أصاب معاهد العلم والدين من قتلهم:
مدارس آيات خلت من تلاوة
ومهبط وحي مقفر العرصات
ولا شك في أنه يقصد ب «المدرسة» معناها الاصطلاحي؛ أي الأمكنة التي كانت تشاد لإقراء القرآن وتلاوة آي الذكر الحكيم.
أما أقدم النصوص التاريخية التي نجد فيها ذكر «المدرسة»، فهي كما يلي على ما أحصاه العلامة المستشرق البروفسور وستنفلد في كتابه القيم الذي ألفه في الإمام الشافعي، قال:
155 (1)
شيد الإمام أبو حاتم البستي الأديب المحدث المشهور (؟-345) مدرسة «دارا» في بلده بست، وجعل فيها خزانة كتب وغرفا للطلاب، وخصص مبالغ مالية وأرزاقا للغرباء من طلاب العلم فيها، وقالوا إنه جمع في تلك الدار جميع مؤلفاته ووقفها فيها ليطالعها الناس، وقد قرئ عليه أكثرها.
156 (2)
بنى الشافعيون بنيسابور، المعجبون بعلم الإمام النيسابوري «أبي علي الحسين بن علي الحافظ الكبير» (؟-349) مدرسة خاصة به.
157 (3)
بنى وجوه طهران للإمام الحاتمي (؟-362) مدرسة يفقه فيها الناس على المذهب الشافعي.
158 (4)
أسس الإمام المحدث الشيخ أبو علي الحسيني (؟-393) مدرسة لتعليم علوم الحديث وروايته، وقد بلغ عدد طلابها ألف طالب من شتى بقاع الأرض.
159 (5)
شاد الإمام الإسماعيلي (؟-396) مدرستين في بغداد لتعليم المذهب الشافعي، عهد بتدريس إحداهما إلى الإمام الإسفرائيني، وبالثانية إلى الإمام الباقي.
160
ويمكن أن نضيف إلى هذه القائمة مدارس أخرى شيدت في القرن الرابع أو أوائل القرن الخامس، وهي: (أ)
يحدثنا المؤرخان ابن عساكر وابن خلكان أن فقهاء مدينة نيسابور استدعوا الإمام المحدث الأديب ابن قورك محمد بن الحسن الأنصاري الواعظ المتكلم الجليل (؟-406) والإمام الفقيه الشافعي أبا إسحق الإسفرائيني إبراهيم بن محمد إبراهيم (؟-418) ليقوما بالتدريس والوعظ في مدرستين جليلتين بنوهما لهما.
161
ويقول السبكي: إن المدرسة التي بنيت للإسفرائيني لم يبن قبلها بنيسابور،
162
وإن المدرسة التي بنيت لابن قورك في نيسابور قد جعل إلى جانبها دارا لسكنه.
163 (ب)
ويقول السبكي في الرد على أستاذه الذهبي لزعمه أن نظام الملك هو أول من بنى المدارس في الإسلام: «... وليس كذلك؛ فقد كانت المدرسة البيهقية بنيسابور
164
قبل أن يولد نظام الملك، والمدرسة السعيدية بنيسابور أيضا بناها الأمير نصر بن سبكتكين أخو السلطان محمود لما كان واليا بنيسابور، والمدرسة الثالثة بنيسابور بناها أبو سعد إسماعيل بن علي بن المثنى الاسترابادي الواعظ الصوفي شيخ الخطيب،
165
ومدرسة رابعة بنيسابور أيضا بنيت للأستاذ أبي إسحق الإسفرائيني. وقد قال الحاكم في ترجمة الأستاذ: لم يبن بنيسابور قبلها، يعني مدرسة الأستاذ، مثلها، وهذا صحيح في أنه بني قبلها في غيرها ...»
166
فهذه النصوص تدل على أنه قد كانت في القرنين الرابع وأوائل الخامس مدارس، وأن نظام الملك السلجوقي لم يكن أول من أوجد هذا النوع من المعاهد على ما سنفصله بعد، ونريد هنا أن نذكر أن المدرسة كانت موجودة ومعروفة في القرن الرابع، وأنها كانت مكانا خاصا بالتدريس غير «المسجد» و «الكتاب» و«دار العلم» و«دار الحكمة». ونحن وإن كنا لا نعرف شيئا ذا خطر عن «المدرسة» في ذلك الحين ولا عن ترتيبها وتنظيمها وما يدرس فيها، ولكن يغلب على ظننا أنها كانت أمكنة خاصة بالتعليم والمعلمين يدرسون فيها، وربما كانت فيها غرف يسكنها الطلاب الغرباء، وربما سكن فيها بعض الشيوخ أيضا. وأن هذه المدارس قد كانت تتمتع ببعض الأحوال في سبيل الهدف الذي أنشئت من أجله، وخصوصا تلك التي بناها بعض الأمراء كمدرسة نصر بن سبكتكين والمدرسة الجليلة التي بنيت لأبي إسحق الإسفرائيني، وأن هذا النوع من المعاهد كان منتشرا في العالم الإسلامي وفي الشرق وبنيسابور بصورة خاصة. أما في مصر والمغرب والأندلس فلم نعثر على نصوص تفيد أن شيئا من هذه المعاهد كان موجودا قبل العصر الأيوبي.
قال ابن خلكان في ترجمة الملك الناصر صلاح الدين بن أيوب: ولما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية لم يكن فيها شيء من المدارس، فإن الدولة المصرية كان مذهبها مذهب الإمامية فلم يكونوا يقولون بهذه الأشياء، فعمر في القرافة الصغرى المدرسة المجاورة لضريح الإمام الشافعي - رضي الله عنه - وبنى مدرسة في القاهرة في جوار المشهد المنسوب للحسين بن علي وجعل عليها وقفا كبيرا، وجعل دار سعيد السعداء خادم المصريين خانقاه ووقف عليها وقفا طويلا، وجعل دار العباس المذكور في ترجمة الظافر العبيدي والعادل بن السلار مدرسة للحنفية وعليها وقف جيد كبير، والمدرسة التي بمصر والمعروفة بزين التجار وقفا على الشافعية ووقفها جيد أيضا، وبنى بالقاهرة داخل القصر مارستانا وله وقف جيد، وله مدرسة بالقدس وقفها كثير، وخانقاه بها أيضا، وله بمصر مدرسة للمالكية ...
167
ويذهب المؤرخان المصريان المقريزي والسيوطي مذهب ابن خلكان في أن مصر لم يكن بها مدارس قبل الدولة الصلاحية،
168
أما الجامع الأزهر والمعاهد العلمية الأخرى التي شادها الفاطميون فلم تكن مدارس بالمعنى الاصطلاحي، وهي بجامع عمرو بن العاص والجامع الطولوني في مصر ودار الحكمة ودار العلم في بغداد وطرابلس على ما سنفصله بعد، ف «المدرسة» إذن بمعناها الاصطلاحي المعروف وجدت في الشرق أولا ولم ينتظم أمرها وتتخذ طريقها الثقافي الواسع إلا حين أسس نظام الملك الطوسي «مدارسه» في بغداد وغيرها من عواصم الدولة الإسلامية التابعة للسلطة السلجوقية في عهده. ويعتبر عمل نظام الملك هذا أول عمل رسمي قامت به الدولة الإسلامية لتنظيم الدراسة وترتيبها بتهيئة الأسباب وإيجاد الموارد الضرورية، وإعداد الرواتب والنفقات للأساتذة والطلاب، وتثبيت بعض التقاليد التي كانت غير مستقرة قبلا مما يتعلق بأنظمة الدروس وتقاليد العلم والتأليف والقضاء على الفوضى التعليمية التي كانت سابقا.
ولا يعترض على هذا بأن العلم كان مزدهرا في الدولة الإسلامية قبل تأسيس «المدرسة»، وأن النتاج الفكري كان عظيما من قبل؛ فإن همم الناس كانت في العصور الإسلامية الأولى تتغلب على كل العقبات، أما في القرن الخامس وما بعد حين فقد فترت الهمم وكثر الهدامون فوجب الاعتناء بالعلم وأهله وتهيئة الأسباب لذلك؛ ولهذا كان عمل نظام الملك المصلح الاجتماعي والإداري الكبير عملا جليلا صان به الحركات العقلية وحماها من التدهور وسوء المصير، على أن نظام المدارس، وإن كان قد صان العلم وحفظه، فإن كثيرا من العلماء لم يكونوا يميلون إليه، بل فضلوا النظام السابق - أعني نظام التعليم الحر في «المساجد» - على نظام «المدارس» وأسلوبها الجديد المبني على النظام والترتيب؛ فمن ذلك ما يروى عن بعض العلماء في ما وراء النهر أنهم لما بلغهم تأسيس «المدارس» في الشرق أقاموا مأتما للعلم وقالوا: كان يشتغل به أرباب الهمم العلية والأنفس الزكية الذين يقصدون العلم لشرفه والكمال به فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجر تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل،
169
ومن ذلك قول ابن الجاح في المدخل: «... لا يخلو موضع التدريس من ثلاثة أحوال، إما أن يكون بيتا أو مدرسة أو مسجدا، وأفضل مواضع التدريس المسجد؛ لأن الجلوس للتدريس إنما فائدته أن تظهر به سنة، أو تخمد به بدعة، أو يتعلم به حكم من أحكام الله علينا، والمسجد الذي يحصل فيه هذا الغرض متوفر؛ لأنه موضع الناس رفيعهم ووضيعهم وعالمهم وجاهلهم بخلاف البيت، فإنه محجور على الناس إلا من أبيح له وذلك لأناس مخصوصين، وإن كان العالم قد أباح بيته لكل من أتى لكن جرت العادة أن البيوت تحترم وتهاب؛ فكان المسجد أولى لأنه أهم في توصيل الأحكام وتبليغها للأمة، وكذلك أيضا بالنظر إلى هذا المعنى يكون المسجد أفضل من المدرسة لوجهين؛ أحدهما: أن السلف لم تكن لهم مدارس وإنما كانوا يدرسون في المساجد وإن كان ذلك في المدرسة فيه المنفعة والخير والبركة، لكن لما أن لم يقع ذلك للسلف كان أخذه في المساجد فيه صورة الاقتداء بهم في الظاهر وإن كان غيره يجوز، وكفى لنا أسوة بهم. الوجه الثاني: أن المدرسة لا يدخلها في الغالب إلا آحاد الناس بالنسبة للمسجد؛ لأنه ليس كل الناس يقصد المدرسة وإنما يقصد أعمهم المساجد، وليس كل الناس أيضا له رغبة في طلب العلم، وإذا كان التدريس أيضا في المدرسة امتنع توصيل العلم على من لا رغبة له فيه ...»
170
فهذا يدل على أن كثيرا من زهاد العلماء وأهل البصيرة في المشرق كرهوا اتخاذ المدارس كما كره المغاربة ذلك، ولكن الضرورة هي التي دفعت المشارقة إلى تأسيس هذه المعاهد، وللضرورة أحكامها. (2-2) المدرسون وآدابهم
كانت المدارس تبنى لبعض الأئمة الكبار الذين أوتوا نصيبا من العلم عظيما كما رأينا فيما سبق من بناء المدارس للأئمة البيهقي والإسفرائيني وابن قورك البستي، وهم من كبار أئمة الإسلام في علوم الدين والحديث والعربية والآداب والكلام، ولما بنى نظام الملك السلجوقي مدرسته في بغداد اختار لها إمام أئمة الشافعية في عصره، وهو أبو إسحق الشيرازي، وكذلك جعل في كل مدرسة من المدارس التي بناها في ديار الإسلام شيخا جليل القدر معروفا في تلك المدينة بالفقه والدين والورع وسعة الاطلاع. وكذلك كان بناة المدارس بعده يختارون لمدارسهم شيوخا عرفوا بالعلم الواسع والخلق الرضي. وقد تعارف الواقفون منذ القديم على كثير من الشروط التي يجب أن تتوفر في المدرسين والأساتذة والشيوخ. ولما انتظمت شئون المدارس في القرن السادس وما بعده - بعد تأسيس المدارس النظامية التي أضحت المثل الذي احتذاه الواقفون ومؤسسو المدارس فيما بعد - صار لتلك المدارس ومدرسيها تقاليد وآداب وقواعد حين قامت في الشرق وفي العراق والشام ومصر والمغرب تلك المدارس.
فمن تلك التقاليد احترام الطالب أستاذه احتراما يجعله في مصاف الوالدين بل أسمى منهما مقاما، قال الإمام الغزالي: «فمن علم وعمل بما علم فهو الذي يدعى عظيما في ملكوت السموات؛ فإنه كالشمس تضيء لغيرها وهي مضيئة في نفسها، وكالمسك الذي يطيب غيره وهو طيب، ومن اشتغل بالتعلم فقد أتى أمرا عظيما وخطرا جسيما فليحفظ آدابه ووظائفه ...»
171
وقد جعلوا للأساتذة آدابا مهمة، فمنها غير ما ذكرناه في الفصل الخاص بمعلمي الكتاتيب ما سنذكره فيما يلي: (2-3) أساتذة المدارس وآدابهم
لقد اشترطوا منذ زمن مبكر جدا في أساتذة المدارس شروطا نجملها فيما يلي:
أن لا ينتصب لهذا المنصب العلمي الخطير إلا بعد أن يستكمل عدته ويشهد له بذلك أفاضل أساتذته وكبار علماء عصره أو بلدته على الأقل، وأن يتفرغ للتعليم ولا يشرك بعمله الشريف هذا عملا آخر، إلا إذا كان ممن ينزه نفسه عن أخذ أموال الأوقاف فيحتاج حينئذ إلى القيام ببعض المهن الشريفة ليقوم بأود نفسه وإصلاح أهله، وأن يستعلم عن أسماء طلبته وحاضري درسه وأنسابهم ومواطنهم وأحوالهم؛ لما في ذلك من تقوية الصلات بينه وبينهم والتعرف إلى ماضيهم.
وأن لا يمتنع عن تعليم أحد منهم علما أو بحثا إذا أنس منه الفهم، وأن يتدرج معه في تفهيمه، وأن يذكر له قواعد الفن وضوابطه التي لا تنخرم مطلقا أو غالبا مع مستثنياتها إن كانت موجودة، وأن يبدأ بعدئذ بالأمور المتفرعة عن تلك القواعد، فيصور له المسألة ثم يوضحها بالأمثلة والشواهد ليقربها إلى ذهن الطالب مع غير ذلك الأدلة والعلل، فإن عرف ذلك جاءه بالأدلة والعلل والمآخذ.
وأن يطرح على التلاميذ أسئلة كثيرة يفهم منها مقدار ما استوعبوه من دروسه وما فهموه من مقرراته، فإن لم يجدهم قد استفادوا أعاد عليهم الكرة، وإن وجدهم قد فهموا منه أثنى على البارع منهم وشجع المتوسط، وأن يختبر مقدار فهمهم وعلمهم فيوصي كل واحد منهم بقراءة الكتب التي تلائم مستواه الفكري ومقدار علمه.
وأن يصون مجالس درسه عن الغوغاء واللغط وسوء الأدب والمباحثة، وأن يراعي مصلحة طلابه في تعيين مواعيد الدروس وساعاتها، وأن لا يرفع صوته، وأن لا يدعي علم ما يجهل؛ فإذا سأله تلاميذه عن شيء يجهله قال «لا أعلم»، وأن يجلس على منصة وهو مستقبل القبلة بوقار متربعا، لا مقعيا ولا رافعا إحدى رجليه على الأخرى ولا مادا رجليه ولا متكئا من غير عذر.
وأن يهتم مع طلابه بالدروس المهمة فيقدم ما تكثر حاجتهم إليه على غيره، وأن يكون مطلق الحرية في توجيه الطلاب بالشكل الذي يريده ما لم يخالف روح الشريعة والتقاليد الإسلامية المرعية.
وأن يكون مهذبا متدينا متحليا بالأخلاق النبيلة، كاظما لغيظه حليما وقورا متئدا رفيقا بطلابه.
وأن يكون متقيدا بشروط واقف المدرسة منفذا لرغباته، ولا بأس بمخالفة تلك الشروط إذا كانت المخالفة لمصلحة الطلاب وفائدتهم العلمية أو التهذيبية.
وأخيرا، أن يكون حريصا على حفظ أثاث المدرسة وكتبها وأدواتها، وأن يوصي الطلاب بذلك.
172 (2-4) طلاب المدارس وآدابهم
أخذ أهل الورع والخلق من طالبي العلم يقيدون أنفسهم بقيود وآراء يفرضونها على أنفسهم لئلا يخسروا في الدنيا والآخرة؛ فمن تلك القيود والآداب أن ينتخب الطالب المدرسة التي يريد أن يدخل فيها، وقد عقد المربي ابن جماعة في الباب الخامس من كتابه التربوي النفيس «تذكرة السامع» أحد عشر فصلا بين فيها تلك الشروط والآداب، نورد إليك خلاصتها فيما يلي:
173 (1)
أن ينتخب لنفسه من المدارس بقدر الإمكان ما كان واقفه أقرب إلى الورع وأبعد من البدع؛ بحيث يغلب على ظنه أن المدرسة ووقفها من جهة حلال. ومهما أمكن التنزه عما أنشأه الملوك الذين لا يعلم حالهم في بنائها ووقفها فهو أولى. وأما من علم حاله فالإنسان على بينة من أمره مع أنه قل أن يخلو جميع أعوانهم عن ظلم أو عسف. (2)
أن يكون المدرس فيها ذا رياسة وعقل ومهابة وجلالة وناموس وعدالة، ومحبة في الفضلاء وعطف على الضعفاء، يقرب المحصلين ويرغب المشتغلين ويبعد اللعابين وينصف البحاثين، حريصا على النفع مواظبا على الإفادة. وينبغي للمدرس الساكن بالمدرسة أن لا يكثر الخروج من غير حاجة؛ فإن كثرة ذلك تسقط حرمته من العيون، ويواظب على الصلاة في الجماعة فيها ليقتدي به أهلها، وينبغي أن يجلس في كل وقت معين ليقابل مع الجماعة الذين يطالعون دروسه من كتبهم، ويصححونها ويضبطون مشكلها ولغاتها واختلاف النسخ في بعض المواضع وأولاها بالصحة، ليكونوا في مطالعتها على يقين فلا يضيع فكرهم ويتعب. وإذا اشترط الواقف استعراض المحفوظ كل شهر أو كل فصل على الجميع حقق قدر العرض على من له أهلية البحث والفكر والمطالعة والمناظرة؛ لأن الجمود على يقين المسطور يشغل عن الفكر الذي هو أم التحصيل، وأما المبتدئون والمنتهون فيطالب كلا منهم على ما يليق بحاله. (3)
أن يتعرف شروط الواقف ليقوم بحقوق المدرسة ويستحق معلوم الراتب بحق. ومهما أمكنه التنزه عن معلوم المدارس فهو أولى، لا سيما في المدارس التي ضيق في شروطها، فإن كان تحصيله البلغة يضيع رفاقه ويعطفه عن تمام الاشتغال أو لم يكن له حرفة أخرى تحصل بلغته وبلغة عياله فلا بأس بالاستعانة بذلك، ولكن يتحرى القيام بجميع شروطها ويحاسب نفسه على ذلك. (4)
إذا حصر الواقف أمر سكنى المدرسة على المرتبين بها لم يسكن غيرهم فيها، وإن لم يحصر ذلك فلا بأس إن سكن فيها من كان أهلا، وإذا سكن فيها غير المرتب وجب عليه أن يكرم أهلها من المرتبين ويقدمهم على نفسه، ويحضر دروسها ولا يرفع صوته بقراءة أو تكرار رفعا منكرا، أو يغلق بابه أو يفتحه بصورة شديدة ونحو ذلك. (5)
أن لا يشتغل فيها بالمعاشرات والصحبة وما إلى ذلك، بل يقبل على الدرس. واللبيب المحصل من يجعل المدرسة منزلا يقضي وطره فيه ثم يرتحل عنه، وإن عاشر من يعينه على تحصيل مقاصده ممن يوثق بأمانته فلا بأس بذلك، وليكن له أنفة من عدم ظهور الفضيلة مع طول المقام فيها، وليطالب نفسه كل يوم باستنارة علم جديد ويحاسب نفسه على ما حصله ليكون مرتبه حلالا ، فإن المدارس وأوقافها لم تجعل لمجرد المقام والعشرة ولا لمجرد التعبد والصلاة كالخوانق، والعاقل يعلم أن أبرك الأيام عليه يوم يزاد فيه علما. (6)
أن يكرم أهل المدرسة التي يسكنها بإفشاء السلام وإظهار المودة والاحترام، فإن لم يستقر خاطره بينهم فليرتحل عنهم، وإذا استقر خاطره فلا ينتقل من غير حاجة؛ فإن ذلك مكروه للمبتدئين جدا، وأشد منه كراهية تنقل الأطفال من كتاب إلى كتاب؛ فإنه علامة على الضجر واللعب وعدم الصلاح. (7)
أن يختار لجواره أصلح الطلاب حالا وأكثرهم اشتغالا، والمساكن العالية في المدارس لمن لا يضعف عن الصعود أولى. وقد قال الخطيب البغدادي: إن الغرف أولى بالحفظ، أما الضعيف أو من يقصد للفتيا والاشتغال عليه فالمساكن السفلية أولى بهم. والمراقي التي تقرب من الباب أو الدهليز أولى بالموثوق بهم، والمراقي الداخلية أولى بالمجهولين. (8)
أن يحافظ على أثاث المدرسة من الإتلاف والأوساخ. (9)
أن لا يتخذ باب المدرسة مجلسا، بل لا يجلس فيه إلا للحاجة كانقباض صدر أو ضيق، ولا يجلس كذلك في دهليزها المؤدي إلى الطريق، ولا يكثر من المشي في ساحة المدرسة من غير حاجة. (10)
أن لا ينظر في غرفة أحد من الطلاب أثناء مروره من شقوق الباب، وإن سلم سلم وهو ماش، ولا يكثر الإشارة والالتفات إلى الشبابيك والطاقات، لا سيما إذا كان فيها نساء، ويتحفظ من الضوضاء والصياح. (11)
أن يتقدم الطلاب على الدرس في حضور الدرس ويكونوا في أحسن الهيئات. وكان الشيخ أبو عمر بن الصلاح يقطع من يحضر من الطلاب بغير عمامة أو مفكك أزرار الفرجية والجبة.
هذه هي الشروط والآداب التي أضحت تقاليد متبعة في أكثر المدارس في الإسلام بعد أن وجدت تلك المدارس وكثرت واستقرت أنظمتها واتسقت أحوالها وبرامجها. (3) التعليم عند المسلمين «أهدافه، مواده، مناهجه» (3-1) توطئة في التعليم عند الأمم القديمة
قدمنا في الفصل الخاص ب «الكتاتيب» شيئا عن برامج التعليم فيها، ونريد هنا أن نبين شيئا عن برامج «المدرسة» وأهداف التعليم فيها، ونريد قبل أن نشرع في تفصيل ذلك أن نلم إلمامة بالتعليم عند الأمم القديمة المجاورة للمسلمين من فرس ويونان وروم ومسيحيين؛ لما في ذلك من فائدة، ولأن المسلمين قد اقتبسوا بعض ما يتعلق بالتعليم عن هذه الأمم. ولقد ظلت الدواوين في الدولة العربية بالفارسية والرومية إلى أيام عبد الملك، فكان طبيعيا جدا أن يركن إلى نظام التعليم عند الفرس والروم ليفيدوا منه ما يلائم أوضاعهم وأسلوب دولتهم، يقول الجهشياري: «... ولم يزل في الكوفة والبصرة ديوانان؛ أحدهما بالعربية لإحصاء الناس وأعطياتهم، وهذا الذي كان عمر قد رسمه، والآخر لوجوه الأموال الفارسية، وكان بالشام مثل ذلك أحدهما بالرومية والآخر بالعربية، فجرى الأمر على ذلك إلى أيام عبد الملك.»
174
وقال في موضع آخر: «وكان أكثر كتاب خراسان إذ ذاك مجوسا، وكانت الحسابات بالفارسية، فكتب يوسف بن عمرو - وكان يتقلد العراق في سنة أربع وعشرين ومائة - إلى نصر بن سيار كتابا أنفذه مع رجل يعرف بسليمان الطيار يأمره ألا يستعين بأحد من أهل الشرك في أعماله وكتابته.»
175
ولا شك في أن العرب كانوا يستمدون من الفرس والروم ما عندهم من آداب ونظم وتعاليم. أما عن الفرس فيقول الأستاذ علي أكبر مظاهري في رسالته المفيدة التي سماها «الأسرة الإيرانية قبل الإسلام»: «كان الطفل الإيراني قبل الإسلام يتعلم مهنة أبيه؛ لأن النظام الاجتماعي الفارسي في إيران كان يقضي بتوزيع الناس إلى طبقات يتوارث أبناء كل طبقة صناعة آبائهم وأهلهم.» وفي ذلك يقول الفردوسي:
لم يعرف أن أحدا كان أبوه حدادا فصار هو كاتبا، بل يرث كل طفل صناعة أبيه؛ فابن الفلاح يرث صناعة الفلاحة، وابن الصانع يرث الصناعة، وابن الكاتب يرث الكتابة، وابن الكاهن يرث علوم أبيه الكهنوتية، والجندي يرث صناعة أبيه الحرب ...
176
فهذا يدل على أن الناس في الأمة الإيرانية قبل الإسلام كانوا طبقات منظمة، وأن العلم كان له أربابه، وكذلك الكتابة والكهانة، وهي كلها صناعات ثقافية. وطبيعي جدا أن تؤثر هذه الصناعات الثقافية وأساليبها في العرب حين دخلوا بلاد فارس أو أن ينقلها الفرس إلى ديار الإسلام حين يعتنقون الإسلام. ومما هو جدير بالإشارة إليه أنه كان لدى طبقة الأشراف في فارس مربون يعلمون أبناءهم في قصورهم ولا يذهبون إلى المدارس الابتدائية كما يذهب أبناء طبقة الكتاب ، وكان هؤلاء المربون يعلمون أولئك الأطفال معلومات عامة في الدين والأدب والرياضة والفروسية والموسيقى. وتلي طبقة الأشراف هذه طبقة الكتاب التي يسعى أبناؤها إلى المدارس فيتعلمون الدين والآداب والفنون وآداب السلوك والأخلاق. ومما هو جدير بالذكر أيضا أنه على الرغم من وجود تلك الطبقات وتميز طبقة الأشراف بالمؤدبين، فإن أبناء الطبقات الأخرى جميعا كانوا متساوين في شيء واحد هو التعليم الديني الذي يتلقونه في المعابد، وكان ذلك التعليم الديني مزاجا من الديانة والتاريخ المقدس والتقويم والتراتيل الدينية. وقد كان لرجال المعابد طريقة تعليمية مفيدة يعلمون بها الأطفال وهي طريقة السؤال والجواب على النمط الآتي: أيها الطفل الإيراني، من تكون أنت؟
من أين جئت إلى هذا العالم وإلى أين تذهب؟
إلى أي الآلهة تنتسب، إلى أهورا أم أهرمن؟ إلى خالق الخير أم خالق البشر؟
ما الخير أيها الطفل؟ وما الشر أيها الطفل؟ ... إلخ.
وكانوا يعلمونه أجوبة هذه الأسئلة ويشرحونها له.
177
وبعد أن يتم الطفل علم هذه الأشياء ينصرف إلى صناعة أبيه، ولم يكن هؤلاء الأطفال يتعلمون القراءة والكتابة؛ لأن ذلك مخصوص بالطبقتين الرفيعتين اللتين سبق ذكرهما، وهما الأشراف والكتاب.
وأما الروم فهم قوم أصحاب حضارات عريقة، وإلى جانب حضارتي اليونان والرومان الوثنيتين ظهرت في بلادهم الحضارة المسيحية التي أخذت تشرق وتقوى لطابعها الرومي شيئا فشيئا، وتحاول القضاء على الوثنية اليونانية، وعلى الرغم من أنها قضت عليها إلا أنها قد تأثرت بآثار عميقة من التراث اليوناني والروماني. وقبل أن نعرض إلى ما جاءت به الديانة المسيحية من آداب التعليم والتربية، نريد أن نلم إلمامة قصيرة بما كان عند اليونان والرومان مما يتعلق بالأطفال وتعليمهم، ومن أمور الثقافة بصورة عامة؛ كانت أدوار التربية عند اليونان الإسبارطيين كما يلي: (1)
من حين الولادة إلى السنة السابعة، ويكون الطفل فيها تحت إشراف الأم. (2)
من السنة السابعة إلى الثامنة عشرة، ويكون الطفل فيها في الثكنات العسكرية تحت إدارة أولاد أكبر منه. (3)
من السنة الثامنة عشرة إلى العشرين، ويكون في بعض الثكنات كضابط ومربي أولاد أصغر منه سنا . (4)
من السنة العشرين إلى الثلاثين، يتدرب في الجيش على المعارك الحقيقية أثناء الحروب الحقيقية، أو الاصطناعية أثناء السلم. (5)
من السنة الثلاثين فما فوق يصبح مواطنا ينال ما يستحق من مراكز الدولة.
وكانت أدوار التربية عند الأثينيين كما يلي: (أ)
من الولادة إلى السابعة، تقوم إحدى الإماء المدربات بتربيته عوضا عن الأم. (ب)
من السابعة إلى السادسة عشرة، تقسم تربية الطفل بين مدرستين «البالستر»
وهي مدرسة التربية البدنية، و«الموسيقى» وهي مدرسة الغناء، ويكون الطفل دوما مصحوبا بعبد يشرف عليه يسمى «البيداغوغ»
. (ج)
من السادسة عشرة إلى الثامنة عشرة، تقسم تربيته إلى مدرستين «الجمنازيوم»
Gymnasium
وهي مدرسة يدرس فيها الرياضة بصورة عامة، و«مدرسة المعلومات المدنية» وهي التي يدرس فيها ما يؤهله للحياة العامة. وفي سن الثامنة عشرة يحلف يمين الإخلاص لأثينا. (د)
من الثامنة عشرة إلى العشرين، يدخل مدرسة التعليم العسكري الإجباري بحيث يقضي سنة في أثينا وسنة في خارجها. (ه)
من العشرين إلى ما فوق، يصبح مواطنا وينال مركزه اللائق به في الحياة الاجتماعية. وكانت الغاية من التعليم عند اليونان هي تنمية الطفل خلقا وخلقا. إلا أن الناحية العقلية عند الأثينيين كانت موسعة، بينما كانت الناحية الجسمية عند الإسبارطيين هي الموسعة. كان الشاب الأثيني يدرس أشعار هوميروس ليفيد منها الآداب والأخلاق ويطلع على المعلومات الثقافية العامة، كما كان يدرب على حضور المجامع العامة والمحاكم، أما الإسبارطي فكان يصرف وقتا طويلا على الرياضة ويحشو دماغه بكثير من المحفوظات، وبخاصة قوانين «ليسرغوس» الفقيه الإسبارطي المشهور، وبضع مختارات من «هوميروس» فينشدها بإتقان ويدرب على الكلام الفصيح الموجز، أما في أثينا فكان الطفل على خلاف ذلك؛ إذ كان يمرن على الموسيقى والرقص والقراءة والكتابة والحساب، وكانوا يقرئونه «هوميروس» ويحفظونه كثيرا منه. ومن أهل أثينا نبغ الفلاسفة وعلماء البيان، وفي أثينا قامت «الجامعة»
Université
حوالي 200ق.م وكانت مقسمة إلى قسمين؛ أحدهما للفلسفة، وثانيهما للآداب، وظلت أثينا إلى سنة 300ق.م مركز العلم والفكر في العالم، وقد شجع الملوك هذه الجامعة، ولما منع جوستنيان في سنة 529 تعليم الفلسفة في أثينا كان ذلك - في الحقيقة - عهد القضاء على الجامعة، وكان لليونان جامعة أخرى في الإسكندرية، وكانت لها مكتبة عظيمة ومتحف أثري. ولما أحرقت هذه المكتبة في القرن الثالث للميلاد تقهقرت الجامعة وتقهقر العلم في المدينة حتى الفتح العربي سنة 640 للميلاد.
أما الرومان فهم ورثاء اليونان، وقد أفادوا كثيرا من خبرتهم في التعليم والثقافة وضروب الحضارة، كما أنهم أضافوا أشياء كثيرة إلى ما اقتبسوا منهم في فنون العلم والآداب.
وقد ازدهرت الخطابة في عهدهم وارتقت رقيا فاق ما كان عليه في أيام اليونان. أما الفلسفة فإنهم لم يستطيعوا أن يبزوا فيها أساتيذهم، وكانوا مقلدين أكثر منهم مخترعين. أما الرقص والرياضة والألعاب فقد أهملوا أمرها.
وتنقسم تربية الأطفال عند الرومان إلى أدوار ثلاثة، خصصوا كل دور بمعهد: (1)
الدور الابتدائي:
ويدرس الطفل فيه بالمدرسة الابتدائية «لودوس ببليكوس»، وهي مدارس مختلطة يجتمع فيها البنات والصبيان من السنة السابعة حتى العاشرة، ولم يكن للرومان عناية شديدة بهذه المدارس، وإنما كانوا يكتفون بتعليم الطفل فيها مبادئ الكتابة والحساب، وما كانوا يهتمون بانتقاء المعلمين اهتمامهم بهم في الدور الثانوي. (2)
الدور الثانوي:
ويدرس الطالب فيه بالمدرسة الثانوية التي لا يدخلها سوى الشباب الذين تجاوزوا العاشرة إلى السادسة عشرة. ومنهج الدراسة في هذه المدرسة يشتمل على دروس اللغة اللاتينية نحوها وغريبها، ودروس في الإنشاء والآداب وتاريخها، والخطابة والفصاحة، ودروس في الموسيقى والفنون الجميلة. وكان لهم اهتمام شديد بهذه المدارس، وكانوا ينتقون لها أفاضل المثقفين من علمائهم وفلاسفتهم. (3)
الدور العالي:
ويدرس الطالب فيه بالمعاهد العالية والجامعات التي يدخلها من تجاوز السادسة عشرة. ونهج الدارسة في هذه الكليات مشتمل على محاضرات في فنون الخطابة والفصاحة، والقانون والأحكام الشرعية والقضائية والجنائية، وعلم المناظرة في القوانين، ودروس في الأخلاق والفلسفة.
178
ومدة الدراسة في هذا الدور ثلاث سنوات. وكانت أرقى الجامعات جامعة روما الشهيرة ب «الأثينيوم» التي امتازت بمن كان فيها من العلماء وكبار المدرسين، وما احتوت عليه في مكتبتها من نوادر المخطوطات التي جمعها الرومان من بلاد اليونان حين كانوا يغزونها في حروبهم منذ القرن الثاني ق.م، وكان الإمبراطور فسباسيان في 75ق.م هو الذي أسس تلك المكتبة العظيمة. ولما انحطت الإمبراطورية الرومانية انحطاطا سياسيا خلال القرون الثلاثة التي عقبت القرن الثاني للميلاد أخذت الثقافة اليونانية تنحط وشرعت الثقافة المسيحية تحل محلها. وأهم عناصر الثقافة المسيحية الجديدة مما يتعلق بتربية الأطفال هو التربية الروحية، والبحث عن ماهية الإنسان وخلقه، والاهتمام بنظرية وجود الله سبحانه وتوحيده، والقول بالمبدأ والمعاد وما إلى ذلك مما لم تكن التربية الرومانية تعرفه. وبانتشار المسيحية بين الرومان خلال تلك القرون الثلاثة انزوى الناس عن الثقافة الرومانية واتجهوا إلى الثقافة المسيحية، وأخذت المعاهد الرومانية بأصنامها الثلاثة تنحط، وكانت الكنيسة هي الأم التي حضنت الثقافة الجديدة، وقد أوجدت الكنيسة في الأديرة والكنائس والكاتدرائيات مدارس ابتدائية وثانوية وعالية يعلم فيها الدين الجديد وفلسفته والآداب والتاريخ والطبيعيات طبق تعاليم الكنيسة. وكانت هذه المعاهد مقصورة على رجال الدين وأبنائهم، وغرضها هو تخريج رجال للكنيسة. وقد لمع اسم هذه المعاهد وأضحت المؤسسات الرسمية للتعليم بعد أن اعتنقت الدولة الرومانية الدين المسيحي سنة 391م، وازداد نفوذ تلك المؤسسات الرسمية حين أصدر الإمبراطور جوستينيان سنة 500م أمره بوجوب غلق المعاهد الرومانية الوثنية؛ وبذلك انتصرت التربية المسيحية على التربية الوثنية، ويمكننا أن نقسم المعاهد المسيحية على الشكل التالي: (أ)
الدور الابتدائي:
ويدرس فيه الطفل بمعهد أولي ملحق بالدير أو الكنيسة، ويتلقى فيه مبادئ القراءة والكتابة والدين، وهذا الأمر كثير الشبه بالذي حدث بعدئذ عند المسلمين. (ب)
الدور الثانوي:
ويدرس فيه الفتى بمعهد ثانوي ملحق بالكنيسة أو الكاتدرائية، ويتلقى فيه تعاليم الدين ومبادئ اللغة اللاتينية وآدابها وبعض مباحث الفلسفة المسيحية التي تؤهله أن يكون من رجال الدين. (ج)
الدور العالي:
ويدرس الطالب في مدرسة الكاتدرائية أو الكنيسة مباحث اللاهوت وعلوم اللغة والآداب والفلسفة وعلوم الطبيعة والرياضيات والتاريخ الكنسي؛ بحيث يصبح المتخرج قسيسا عالما بالدين. وقد انقسمت الأساليب الدراسية في هذه المعاهد إلى طرائق عديدة، أشهرها البندكتية والفرنسيسكانية والدومينيكية.
هذه صورة مجملة لما كان عليه الوضع الثقافي للأطفال والشبان لدى الفرس واليونان والرومان في بلادهم وفي الديار الخاضعة لنفوذهم في الشام ومصر منذ العصور القديمة إلى أن فتح المسلمون ديارهم.
فلما فتح الله على العرب تلك الديار كانت الثقافة فيها مضطربة تبعا للاضطراب السياسي الذي كانت عليه البلاد؛ فقد تدهورت البلاد سياسيا، وعمتها الفوضى، وانحطت الثقافة وانصرف الناس إلى الكسل ومتع الحياة عن الحزم والجد. وعلى الرغم من أن المسيحية أرادت إحياء النفوس وتطهيرها من الجهالة والفساد الخلقي والانحلال الاجتماعي، فإنها لم تستطع ذلك، وقد رأى زعماء الكنيسة أنهم لا يستطيعون الوقوف أمام تيار الفلسفة الإغريقية الوثنية المادية إلا بالتسلح بالأدلة العقلية والفلسفة المنطقية لمحاربة أولئك الماديين. وكانت «جامعة الإسكندرية» مركزا من مراكز تلك الحركة الاصطلاحية. وعلى الرغم من أن المسيحية في أيامها الأولى قد انزوت عن الحكومة ولم يكن بينها وبين الدولة صلات قوية، فإنها اضطرت - حين وجدت انهيار الحكومة - أن تدخل في المعترك وأصبحت دولة ضمن دولة، ولمع من أقطاب الكنيسة وأحبارهم قوم تداخلوا في السياسة محاولين بسط نفوذهم على كل مرافق الحياة وإصلاح ما يمكن إصلاحه في الدولة. وقد اعتبر بعض المسيحيين الزاهدين في الدنيا والمنصرفين عن أمور السياسة وفتنها، والمعتقدين بأن هذا العالم كله شرور وآثام؛ أن إقدام هؤلاء الأقطاب والأحبار أمر غير محمود العاقبة، فانزووا في الديارات والصوامع لاجئين إلى الصحاري والقفار، ناجين بأنفسهم عن معترك السياسة ورذائل الحياة الدنيا؛ بهذا العمل ظهرت الرهبنة في المسيحية في الشرق ثم انتقلت منه إلى الغرب في أوائل القرن الرابع للميلاد.
والمسيحية منذ ظهرت وجدت نفسها أمام ثقافة وثنية غنية من آداب اليونان والرومان وفنونهم وعلومهم ولغتهم؛ فأخذت تعد العدة لخلق ثقافة رفيعة وتعليم سام، ولكنها لم تجد بدا - كما قلنا - من اصطناع بعض أصول الثقافتين الوثنيتين لغناهما الأدبي واللغوي والعقلي. وقد افتتحت المسيحية عددا كبيرا من المدارس لتعليم شبان المسيحيين في الكنائس والأديرة في الشرق والغرب، وكانت هذه المدارس هي النواة التي سمقت منها دوحة العلم في الغرب فيما بعد، وكانت مناهج تلك المدارس مزاجا من علوم الدين والدنيا إلا أن الروح الديني مسيطر عليها. وقد اقتبست هذه المدارس كثيرا من قواعد التعليم ومواده عن اليونان والرومان، والشيء الوحيد الجديد الذي انفردت به هو أنها ألزمت الطلاب بالدراسة في مكان معين وعلى أستاذ معين بعد أن كان الطلاب لدى اليونان والرومان أحرارا في اختيار أساتذتهم وأحرارا في التنقل من مكان إلى آخر. وقديما كان الشاب يتلقى قواعد اللغة وأدبها من أستاذ، ثم يتلقى الموسيقى والرقص من أستاذ آخر، ويتلقى الخطابة والفصاحة من أستاذ ثالث ينتخبه. أما المدرسة المسيحية في الدير أو الكنيسة فقد كانت من نمط آخر يدرس الطالب فيها على أستاذ بعينه ويلازمه فيتخلق بكثير من أخلاقه ويتطبع بطابعه الروحي والخلقي والمعاشي. ثم إن هناك فرقا آخر بين الطالب المسيحي والطالب الوثني؛ فالأول طالب يدرس لتسمو روحه وتصقل شخصيته بصقال إلهي ويتفلسف فلسفة دينية سماوية، أما الثاني فطالب يدرس ليصقل عقله ويجمل جسمه وتنمو معلوماته بالحياة ويتعرف على ماهية الكون ويتفلسف فلسفة اجتماعية ترفع قدره بين أترابه ومواطنيه.
179
والخلاصة أن المسيحية جاءت بنمط جديد حين ربطت التعليم بالكنيسة والدير، وهي وإن أحسنت من ناحية فقد أفسدت من ناحية أخرى؛ أما الناحية التي أحسنت فيها فهي أنها نظمت شئون التعليم وهيأت له الأمكنة الصالحة، وسارت به في طريق صحيحة مستقيمة، وأما الناحية التي أفسدت فيها فهي أنها ضيقت نظام التعليم وجعلته مقصورا على طبقة الكهنوت ومن يتصل بها بعد أن كان التعليم قبلا عاما لجميع أفراد الشعب. وسير التعليم في الإسلام يشبه سيره في المسيحية؛ فقد كان التعليم كما رأينا في صدر الإسلام يهدف إلى تعليم القرآن وما إليه، وكانت المساجد هي المركز الأول الذي احتضن التعليم، إلا أن الفرق بين الإسلام والنصرانية في هذا أن الإسلام جعل التعليم لكافة الناس، أما النصرانية فإنها تفرضه على طبقة رجال الكهنوت، وفي هذا دليل على أن الإسلام لم يقتبس نظام الكتاتيب من المدارس المسيحية والأديرة أو الكنائس، كما قال بعض الباحثين من المستشرقين؛ فقد رأينا أن الفرق واضح بين «المدرستين » الإسلامية والمسيحية، ثم إن التعليم الإسلامي نشأ مع الإسلام نفسه وتطور بتطوره؛ فقد كان بسيطا سمحا في عصر الرسول وخلفائه ثم تعاظم في العصر الأموي وبلغ درجة الكمال في العصر العباسي وفقا لسنة النشوء والارتقاء. (3-2) أهداف التعليم عند المسلمين
اختلف المؤلفون المسلمون وغير المسلمين في بيان الأهداف التي قصد إليها الإسلام من وراء حضه على العلم؛ فمنهم من قال إن أهدافه من وراء ذلك هي إحياء شعائر الإسلام والقيام بفروضه لا غير؛ فالأغراض الدينية بحتة، والرسول حين قال: «طلب العلم فريضة على كل مسلم.» قصد التعليم الديني من قرآن وسنة وما إليهما، وأنه فسر هذا العلم بقوله في حديث ثان: «أفضل الناس المؤمن العالم.» وهذا العالم هو المقصود بقوله تعالى:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون . ومنهم من قال إن أهداف الإسلام من التعليم هي أهداف دينية ودنيوية معا؛ فإن الدين الإسلامي لا يمنع أهله من الإفادة مما في الكون من ملاذ ومتع ومن توجيه العقل إلى اكتساب المال بالطرق المشروعة من تجارة وصناعة وزراعة، وما إلى ذلك مما وردت في حله وإباحته الآيات والأحاديث النبوية. ومنهم من قال إن وراء الهدفين الديني والدنيوي هدفا ثالثا، وهو هدف اللذة الروحية من العلم، وذلك الهدف هو الذي يدفع صاحبه إلى التعلم والبحث لا لشيء سوى البحث والتعلم لذاتهما مكتفيا بلذة البحث عن الحقيقة والتفتيش عن دفائن المعرفة. وقد تعرض الأساتذة خليل طوطح وأسماء حسن فهمي والأهواني إلى مناقشة هذه المسألة بإسهاب، وأكتفي هنا بإيراد ما قاله الدكتور الأهواني؛ فإنه أحصى القول فيه وعلق عليه ووصل فيه إلى نتيجة طيبة؛ حيث يقول في فصل عنوانه «مناقشة الغرض من التعليم»: «لم يذكر القابسي من الأغراض التي يبتغيها الإنسان حين يتعلم إلا الغرض الديني، وقد ذكر الأستاذ خليل طوطح أن التعليم عند المسلمين كان يرمي إلى أربعة أغراض : غرض ديني، وغرض اجتماعي، والتذاذ عقلي، وغرض مادي. وقسمت أسماء فهمي أغراض التعليم إلى ثلاثة أقسام: غرض ديني، وغرض عقلي وثقافي، وغرض نفعي.
180
وكلاهما يأخذ هذه الأغراض من شتى الكتب العربية، مثل «تعليم المتعلم» للزرنوجي، و«جامع بيان العلم» لابن عبد البر، و«إحياء العلوم» للغزالي، و«كشف الظنون» لحاجي خليفة، و«مفتاح السعادة» لطاش كبري زاده، و«رسائل إخوان الصفاء» ... والرأي عندنا أنه لا توجد أغراض للتربية عند العرب على وجه الإطلاق، وإنما يجب أن نذكر صاحب المذهب ثم نذكر الغرض من التعليم الذي يلائم المذهب؛ فطريقة التعليم مستمدة من مذهب صاحبها.
والغرض من التعليم عند القابسي - وهو من فقهاء أهل السنة - غرض ديني يقصد منه تعليم القرآن ومعرفة العبادات المفروضة. وقد أوجزنا القول في حقل آخر عن التربية عند العرب وعرضنا هذه المذاهب المختلفة لنبين أن الاختلاف في أغراض التعليم ووسائله عند المسلمين إنما يرجع إلى اختلاف هذه المذاهب العقلية ...»
181
وقال في فصل آخر عنوانه «آراء المسلمين في التربية والتعليم»: «... ونحن نرمي من هذا الغرض أن نبين أمورا ثلاثة؛ الأول: أن المستشرقين الذين كتبوا في التربية الإسلامية - ومن تبعهم من المؤلفين في الشرق - درجوا على تقرير آراء معينة في التعليم، قالوا عنها إنها آراء المسلمين أو العرب فيما يختص بأغراض التعليم ومناهجه وطرقه وأصوله. وهذا التعميم خطأ؛ لأن أمور التعليم اختلفت باختلاف الأقاليم واختلاف الأشخاص القائمين عليها ... والثاني: أن الآراء التعليمية لمفكر ما وحدة متماسكة في ذهن صاحبها؛ فقد يذكر منهجا خاصا يلائم الغرض من التعليم الذي يذهب إليه وكذلك طريقة التعليم التي سلكها في تحقيق ذلك المنهج؛ فلا يصح أن ننقل جزءا من مذهب مفكر في التعليم ونترك سائر ما ذكره. والثالث: أننا نذهب إلى أبعد من ذلك فنقول إن مذهب المفكر في التعليم جزء أو صدى لمذهبه العام في الحياة أو فلسفته؛ إذ كانت الفلسفة هي النظر الشامل للحياة، وقد التزمنا هذه المنهج في بحثنا ...»
182
ثم عرض إلى رأي القابسي، فرأي إخوان الصفا، فرأي ابن سينا ، فرأي الغزالي، فالزرنوجي، فابن عبد البر، وختم برأي ابن خلدون. ولا نريد إطالة البحث ببيان آراء هؤلاء ها هنا مفصلة، وإنما نريد أن نقول إن من يدقق في دراسة آرائهم لمعرفة أهداف المسلمين من التعليم يرى أن أهدافهم كانت ثلاثة: دينية، ودنيوية، وعلمية. أما القول بأن التعليم إنما كان له هدف واحد كما ذهب إليه القابسي والأهواني
183
فهو قول المتزمت المبالغ؛ فقد روى ابن عبد البر في «جامع بيان العلم» كلمة رائعة لعبد الملك بن مروان يوصي بها بنيه، وهي قوله: «يا بني تعلموا العلم، فإن استغنيتم كان لكم جمالا، وإن افتقرتم كان لكم مالا ...»
184
ويقول حاجي خليفة: «... فالعلوم ليس الغرض منها الاكتساب، بل الاطلاع على الحقائق وتهذيب الأخلاق. على أن من تعلم علما للاحتراف لم يأت عالما إنما جاء شبيها بالعلماء. ولقد كوشف علماء ما وراء النهر بهذا الأمر ونطقوا به، ولما بلغهم بناء المدارس في بغداد أقاموا مأتم العلم، وقالوا كان يشغل به أرباب الهمم العالية والأنفس الذكية الذين يقصدون الشرف والكمال به فيأتون علماء ينتفع بهم وبعلمهم، وإذا صار عليه أجرة تدانى إليه الأخساء وأرباب الكسل.»
185
وهناك أقوال كثيرة أخرى نقلت لنا عن القدماء والمتأخرين، وهي كلها تدل أن للعلم أهدافا غير الأهداف الدينية، منها أهداف دنيوية واجتماعية، ومنها أهداف سامية لا يبغي منها صاحبها إلا العلم نفسه، وهذا كان هدف عشرات من العلماء الذين بذلوا أعمارهم في سبيل العلم والبحث ولم يقبلوا عليه أجرا ولا وظيفة، ولا أباحوا لأنفسهم أن يقبلوا درهما ولا دينارا في سبيل العلم والبحث أمثال عشرات من الصحابة والتابعين، وفي طليعتهم أبو بكر وعمر وعلي وابن عباس وابن عمر، وأبو حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل والأوزاعي، وسيبويه والكسائي والخليل، والأشعري والبخاري ومسلم، والمعري والماوردي والذهبي والبطليوسي والبيضاوي والسيوطي والزرنوجي والأفغاني ومحمد عبده - رضوان الله عليهم. (3-3) المواد
ذكرنا في الفصل الخاص بالكتاتيب اختلاف الديار الإسلامية في المواد التي كان الأطفال المسلمون يتعلمونها في الكتاب، أما مواد التدريس في الحقبة الثانية التي تلي تلك الحقبة، سواء أكانت في الكتاب أو المدرسة أو غيرهما، فقد بحث المسلمون فيها وقسموا العلوم إلى درجات، فقالوا: أول ما يجب على الطالب درسه بعد القرآن ومبادئ العلوم الدينية والعلوم العربية هو علم التفسير، ثم علم الحديث، ثم علم أصول الدين، ثم علم أصول الفقه، ثم علم الفقه، ثم علم الخلاف بين المذاهب الإسلامية. وقال بعض المربين: بل الأولى أن يقدم علم النحو والعربية على علم الخلاف. وقال آخرون: بل الأولى أن يقدم علم الجدل.
ولهم في ترتيب مواد التدريس هذه أقوال كثيرة وآراء مختلفة لا نريد التفصيل فيها، وإنما نريد أن نشير ها هنا إلى أنهم قسموا العلوم إلى أربعة أقسام: (1)
علوم مفروضة فرض عين:
وهي علوم القرآن الكريم والضروري من علم الدين أصولا وفروعا. (2)
وعلوم مفروضة فرض كفاية:
وهي العلوم الدينية كلها، فإن تعلمها فرض كفاية، إذا قام بها البعض كفى. (3)
وعلوم مباحة:
وهي العلوم المفيدة، ولكن تعلمها ضروري في الحياة الاجتماعية الراقية، كالموسيقى أو التوقيع والخط والتذهيب وما إلى ذلك. (4)
وعلوم محرمة:
وهي العلوم الباطلة المضرة، كالسحر والشعوذة والسيمياء وما إلى ذلك.
186
وقد صنف الإمام الغزالي في الإحياء هذه العلوم تصنيفا آخر، فقال: «بيان العلم الذي هو ضروري»؛ اعلم أن الفرض لا يتميز عن غيره إلا بذكر أقسام العلوم، والعلوم بالإضافة إلى الفرض الذي نحن بصدده تنقسم إلى شرعية وغير شرعية، وأعني بالشرعية ما استفيد من الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - ولا يرشد العقل إليه مثل الحساب، ولا التجربة مثل الطب، ولا السماع مثل الفقه؛ فالعلوم التي ليست بشرعية تنقسم إلى ما هو محمود وإلى ما هو مذموم وإلى ما هو مباح، والمحمود ما يرتبط به مصالح أمور الدنيا كالطب والحساب، وذلك ينقسم إلى ما هو فرض كفاية وإلى ما هو فضيلة وليس بفريضة. أما فرض الكفاية فهو كل علم لا يستغنى عنه في قوام أمور الدنيا كالطب؛ إذ هو ضروري في حاجة بقاء الأبدان على الصحة، والحساب فهو ضروري في المعاملات وقسم التركات والوصايا والمواريث وغيرها ، وهذه العلوم التي لو خلا البلد عمن يقوم بها جرح أهل البلد، وإذا قام بها واحد كفى وسقط الفرض عن الآخرين؛ فلا تتعجب من قولنا إن الطب والحساب من فروض الكفاية؛ فإن أصول الصناعات أيضا من فروض الكفاية، كالملاحة والحياكة والسياسة والحجامة والخياطة؛ فإنه لو خلا البلد عن الحجام لسارع الهلاك إليهم وخرجوا بتعريضهم أنفسهم للهلاك، فإن الذي أنزل الداء أنزل الدواء وأرشد إلى استعماله وأعد الأسباب لتعاطيه؛ فلا يجوز التعريض للهلاك بإهماله. وأما ما يعد فضيلة لا فريضة فالتعمق في دقائق الحساب وحقائق الطب وغير ذلك مما يستغنى عنه ولكن يفيد زيادة قوة في القدر المحتاج إليه. وأما المذموم منه فعلم السحر والطلسمات وعلم الشعبذة والتلبيسات. والمباح منه علم الأشعار التي لا سخف فيها وتواريخ الأخبار وما يجري مجراه ...
187
فهذا يرشدك إلى بعض مواد التدريس التي كانوا يدرسونها في الدور الثاني من العلم. وقد فصل ابن خلدون في المقدمة مباحث هذه العلوم وأفضل بحوثها وخير الطرق في تعليمها.
188
ولا شك في أن مناهج التعليم الثانوي عند كل قوم هي الأسس التي ينبغي أن توضع لبناء مقومات تلك الأمة وإعداد أبنائها الإعداد الصالح الملائم للحياة التي يحياها أبناء تلك الأمة، وتوجيههم توجيها تقدميا نحو حياة أكمل من حياتهم، أو نحو بيئة اجتماعية أفضل من بيئتهم. فمن ينظر إلى ما ذكرناه فيما سبق عن التربية ومناهج التعليم عند الفرس واليونان والرومان المسيحيين في القديم يجدها تلائم حياتهم والأهداف الاجتماعية التي يسعون إليها؛ فالإسبارطيون كانوا يعنون عناية شديدة بتدريب أبنائهم على الرياضة والحرب لأنهم كانوا قوم قتال، والأثينيون كانوا شديدي العناية بالفلسفة والآداب والبيان والموسيقى لأنهم كانوا يحبون الحكمة والفنون الجميلة، والرومان جمعوا بين المذهبين السابقين لأنهم اقتبسوا مذاهب الحياة ومناهج التعليم عن اليونان، والمسيحيون كيفوا مناهج الدراسة في الكنائس والأديرة والكتدرائيات تكييفا دينيا ممزوجا بما اعتقدوا فيه الصلاح والخير من التراث اليوناني والروماني الوثني القديم، والفرس كذلك رتبوا برامج دراسة أطفالهم دراسة تلائم بيئتهم وتقاليدهم الدينية والاجتماعية؛ أما المسلمون فقد كيفوا مناهج التربية عندهم بحسب بيئتهم الإسلامية الجديدة الممزوجة بتقاليدهم الموروثة مما قبل الإسلام.
ونحن إذا رحنا نتتبع المناهج التي ذكرها المؤلفون الإسلاميون في كتبهم في القديم والحديث نجدها كلها تحوم حول محورين؛ أولهما: محور المواد الواجب درسها، والثاني: محور المواد الاختيارية. فالمحور الأول يحيط به مباحث ترويض الجسم وتعليم القراءة والكتابة ودرس القرآن وبعض أخبار السنة ومعرفة أوليات الدين والعربية والحساب، والمحور الثاني يحيط به التوسع في دراسة علوم القرآن والدين وبحوث اللغة وآدابها ودراسة الحساب وما إليه من العلوم. وقد كانت هذه المناهج متبعة منذ زمن الرسول وخلفائه الراشدين والأمويين وصدر العباسيين لأنها كانت تلائم البيئة الاجتماعية التي يحياها العرب المسلمون بصورة عامة في تلك الأزمان، فلما تطورت الحياة وتعقدت وسمت في سبيل الحضارة بعد صدر العصر العباسي، تطورت المناهج الدراسية في الدور الثاني، وأضحى التعمق في علوم الفلسفة والكلام والعقائد والآداب من شعر ونثر وتجويد وخط وفنون رفيعة وما إلى ذلك، وقد ظلت هذه المواد في سمو طول العصر العباسي، فلما انحطت الأمة بعد سقوط الدولة العباسية انحطت البرامج وتراجع الناس إلى برامج ساذجة لا تهتم بتنمية الجسم والعقل ولا تعمل على إذكاء روح البحث والجدل، وإنما ترمي إلى حشو الأدمغة ببعض القشوريات ومباحث الجدل والتصرف. ولم يقتصر هذا الأمر على تعلم الشبان في الكتاتيب الأولية، بل تعداه إلى تعليم الكبار في المعاهد العالية قليلا، وأصبحت المناهج عبارة عن محفوظات ومكررات ومماحكات لقضية لا طائل كبيرا تحتها بعد أن كانت مناهج رفيعة تهدف إلى رفع مستوى الطالب الفكري والاجتماعي والعقلي. (3-4) المناهج
انقسمت مناهج البحث والتعليم في الإسلام بعد أن تطورت العقلية العربية في العصر العباسي إلى قسمين: قسم حافظ على المنهج العربي الخالص ولم يمزجه بشيء من الثقافات غير العربية وآرائها ومحتوياتها؛ وهو منهج أصحاب الحديث في الحجاز والشام ومصر والمغرب. وقسم أضاف إلى المنهج العربي القديم مباحث جديدة استقاها من ثقافات جديدة؛ وهو منهج أهل الرأي، وهم أهل العراق.
قال الشهرستاني: المجتهدون من الأئمة محصورون في صنفين لا يعدوان إلى ثالث: أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي. أصحاب الحديث - وهم أهل الحجاز - هم أصحاب مالك بن أنس وأصحاب محمد بن إدريس الشافعي
189
وأصحاب سفيان الثوري وأصحاب أحمد بن حنبل وأصحاب داود بن محمد الأصفهاني، وإنما سموا أصحاب الحديث لأن عنايتهم بتحصيل الأحاديث ونقل الأخبار وبناء الأحكام على هذا النحو، ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدوا خبرا وأثرا، وقد قال الشافعي: إذا وجدتم لي مذهبا ووجدتم فيه خبرا على خلاف مذهبي فاعلموا أن مذهبي ذلك الخبر. ومن أصحابه أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، والربيع بن سليمان الجيزي، وهم لا يزيدون على اجتهاده اجتهادا، بل يتصرفون فيما نقل عنه توجيها واستنباطا ويصدرون عن رأيه جملة ولا يخالفونه بتة.
وأصحاب الرأي - وهم أهل العراق - هم أصحاب أبي حنيفة النعمان، وإنما سموا أصحاب الرأي لأن عنايتهم بتحصيل وجه من القياس والمعنى المستنبط من الأحكام وبناء الحوادث عليها، وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار. وقد قال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه، فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى، ولنا ما رأيناه. وهؤلاء ربما يزيدون على اجتهاده اجتهادا ويخالفونه في الحكم الاجتهادي، وبين الفريقين اختلافات كثيرة في الفروع، ولهم فيها تصانيف وعليها مناظرات، وقد بلغت النهاية في مباهج الظنون.
190
والحق أن أصحاب المذهب الأول - وهم أهل الحديث - هم قوم تتبعوا أحاديث الرسول الكريم وآثار الصحابة الأولين فوجدوها وفيرة، واستطاعوا أن يحلوا بها كافة المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والدينية التي كانت تحل بهم. أما أصحاب الرأي فقوم لم تتح لهم تلك الكثرة من الأحاديث والأخبار والروايات والآثار، ثم إنهم تشددوا في قبول الأحاديث وصعبوا في شروط الرواية عن الرسول وصحابته فقل الحديث الصحيح عندهم، واضطروا في دراساتهم أن يلجئوا إلى القرآن الكريم ويحكموا فيه عقولهم، ويقيسوا الأشباه بالأشباه، ويجمعوا النظائر مع النظائر، وقد أجمع المسلمون على أن أصول «الاجتهاد» وأركانه أربعة، وهي: الكتاب والسنة والإجماع والقياس.
أما القرآن، فقوله فصل لأنه مروي بالتواتر، وكل ما ورد فيه من الأحكام مقبول قبولا لا يحتمل المناقشة والتأويل.
وأما السنة، فما صح منها مقبول مسلم به، وقد اختلف الأئمة في شرائط المقبول منها.
وأما الإجماع ، فهو إجماع أهل الحل والعقد على رأي عام، والرأي العام للأمة لا يأتيه الباطل، فمتى أجمع أهل زمان على شيء كان مقبولا.
وأما القياس فقد قبل به جمهور كبير من المسلمين، ورده بعضهم وهم أهل الظاهر مثل الإمام داود الأصفهاني وتابعيه ومن اقتدى بهم؛ فإنهم قالوا لا يجوز الاجتهاد في الأحكام، وقالوا إن أصول الأحكام ثلاثة: الكتاب والسنة والإجماع، أما القياس فأمر خارج عن مضمون هذه الثلاثة.
وبعد، فنحن إذا أردنا بعد ما تقدم أن نكون أكثر تدقيقا في تصنيف مناهج البحث عند المسلمين، نجدها تنقسم إلى أقسام ثلاثة: (1)
منهج أهل الحديث، وهم مالك وأصحابه ممن قالوا بالأصول الأربعة ولكن اعتمادهم على القرآن والحديث الإجماع، أما القياس وما إليه من تحكيم الرأي في أمور الدين فلم يكن يلجأ إليه إلا قليلا وحين الضرورة. (2)
منهج أهل الرأي، وهم أبو حنيفة وأصحابه ممن قالوا بالأصول الأربعة ولكن جل اعتمادهم على القرآن وعلى ما صح من الحديث - وهو قليل عندهم - وعلى الإجماع والقياس. (3)
منهج أهل الظاهر وهم داود وأصحابه ممن قالوا بالأصول الثلاثة: القرآن والسنة والإجماع، ومنعوا العمل بالتأويل والرأي والقياس.
وقد غلبت بعض هذه المناهج الثلاثة على أقاليم دون غيرها؛ فمذهب أهل الحديث غلب على أهل مكة والمدينة ومصر ومسلمي إفريقية والأندلس وصقلية، ومذهب أهل الرأي غلب على أهل العراق والمشرق والأندلس ولكنه لم يعمر طويلا. (3-5) أمور تتعلق بالتعليم الثانوي والعالي في المدارس الإسلامية: (الفتيا، المناظرة، الرحلة في طلب العلم واستملاء الحديث، التدوين)
لم يقسم مربو المسلمين التعليم إلى أولي وثانوي وعال، وإنما صنفوه - كما رأيت فيما سبق - إلى: تعليم في الكتاتيب وتعليم في المدارس والمعاهد الأخرى.
وربما كانوا يعلمون - في بعض الأقطار والأزمنة - بعض مواد تعليم المدارس في الكتاتيب، والعكس صحيح.
ولقد ارتأيت تسهيلا للبحث أن أطلق اسم «التعليم الأولي» على تعليم الكتاتيب كما أسلفت، وأن أطلق اسم «التعليم الثانوي والعالي» على تعليم المدرسة وما إليها من المعاهد الأخرى كالمكتبة، ودار العلم، ودار الحكمة، والخانقاه، والبيمارستان، والمسجد، والرباط وما إلى ذلك من المعاهد التي كانت تكون ميدانا لنشاط فكري عال يتجلى في مباحث الفتيا والاستملاء والتدوين والتأليف على ما سأبينه فيما يلي:
الفتيا
وردت في القرآن الكريم والحديث النبوي نصوص كثيرة تتعلق بالفتيا والاستفتاء، وهذا النوع التعليمي من أقدم أنواع التعليم في الإسلام؛ فقد ورد في القرآن قوله:
يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة ، وفيه أيضا:
يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات ، وفي الحديث: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينزعه من الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.» وقال
صلى الله عليه وسلم : «من أفتى بفتيا من غير ثبت فإنما إثمه على من أفتاه.» وقال أيضا: «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار.» فهذه الآيات والأحاديث تدلنا على أن الفتيا كانت من العناصر التعليمية البارزة الأثر في الإسلام، كما أنها كانت معروفة في «الجاهلية»؛ فقد كان عندهم مفتون وعرفاء وحكماء يرجعون إليهم ويستفتونهم في حل مشاكلهم،
191
وفي زمن الرسول عرفت جمهرة من الصحابة وفضلائهم بالفتيا والبراعة في تفهم مشاكل الناس وأسئلتهم وحلها، وفي طليعتهم الخلفاء الأربعة الراشدون، ومعاوية بن أبي سفيان، وعمار بن ياسر، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وحذيفة بن اليمان، وأبو موسى الأشعري، وسلمان الفارسي، وأبو الدرداء.
وكان من تقاليد المفتين إذا سألهم السائلون واستفتاهم المستفتون أن يتورعوا عن الفتيا، على الرغم من تبحرهم في العلم والأعراف والتقاليد، لما جاء به عن الرسول من وجوب تحري الحقيقة تحريا شديدا، والتنقيب عنها بدقة فائقة، كما كانوا كثيرا ما يحيلون المستفتي إلى من يرونه أفضل منهم وأعلم وأزكى. قال محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى (؟-148):
192
أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يسأل أحدهم عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول. وقال البراء بن عازب (؟-71): لقد رأيت ثلاثمائة من أهل بدر ما فيهم من أحد إلا وهو يحب أن يكفيه صاحبه الفتيا.
193
وقد ظل القوم في صدر الإسلام وفي طول عهد الصحابة وأوائل عهد التابعين يتورعون عن الفتيا والإسراع فيها إلا بقدر الضرورات لما كانوا يخشون من الوقوع في الأخطاء، قال أبو حصين التابعي يعتب على التابعين إسراعهم في الفتيا: إن أحدكم ليفتي في المسألة ولو وردت على عمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر. وروي عن معاوية أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
نهى عن الأغلوطات؛ وهي القضايا التي لم تقع، أو التي لا يمكن أن تقع وإنما يخترعها المفيهقون من الناس ليتعاملوا أو ليوقعوا غيرهم في الأخطاء، وقد نهى الإسلام عن أمثال هذه لما فيها من فساد العلم والدين، وإنه لمن الطبيعي أن لا يتقدم للفتوى إلا من استكمل شرائطها.
وأول تلك الشروط: المعرفة والفطنة والتحري. وقد اشترط المتأخرون في المفتي شروطا لا شك في أن القدماء اعتبروها كلها لما في ذلك من التحري؛ قال العلموي: شرط في المفتي كونه مسلما، مكلفا، عدلا، ثقة، مأمونا، متنزها عن أسباب الفسق وخوارم المروءة، سليم الذهن، رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط، قوي الضبط متيقظا، سواء فيه الحر والعبد والمرأة والأعمى.
194
وقد قسموا المفتي إلى قسمين:
مفت مستقل.
ومفت غير مستقل.
فالمستقل هو المجتهد الذي يكون متعمقا بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع والقياس، عارفا بالعلوم الشرعية من قرآن وحديث وعربية وما إلى ذلك، قادرا على الفهم والاستنباط والاقتباس، ذا دربة وارتياض على حل المشاكل وفهم عويصها، ووجود هذا النوع من المفتين بين المسلمين هو فرض كفاية إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين، والمفتون المستقلون هم أرباب المذاهب، وقد أجمع أهل السنة على اعتبار أبي حنيفة النعمان بن ثابت (؟-150) ومالك بن أنس الأصبحي (؟-179) ومحمد بن إدريس الشافعي (؟-204) وأحمد بن حنبل (؟-241) وداود بن علي الأصبهاني الظاهري (؟-270) هم الأئمة المجتهدين، والمفتين المستقلين، كما أجمع المتأخرون على انقطاع وجود المستقلين من المفتين من دهر طويل.
195
أما الشيعة الجعفرية فقالوا بأن المفتين المستقلين لم ينقطعوا، وأن كل من اجتمعت فيه الشرائط المطلوبة في المفتي المستقل نال تلك المرتبة؛ لأن باب الاجتهاد لم يقفل، والخير في أمة محمد إلى قيام الساعة.
والمفتي غير المستقل هو المفتي المقلد لأحد المفتين المستقلين، ويشترط فيه أن يطلع على فروع المذهب وعلى صحته ودلائله، وأن يكون حافظا لمذهب إمامه، يستطيع تمييز الحجج وتبين صحيحها وسقيمها، ومرتبته قريبة من مرتبة المفتي المستقل، لكنه قصر عنه، وهذه صفة كثير من المؤلفين وكبار الفقهاء منذ القرن الثالث إلى أواخر القرن الرابع.
196
وكما أن وجود المفتي المستقل فرض كفاية، فكذلك وجود المفتي غير المستقل، ولكنه ينقلب فرض عين إذا لم يكن في الناحية أحد لكيلا تخلو الناحية من فقيه مرشد.
وللإفتاء آداب وأركان، فمنها: (1)
أن يدرس القضية المستفتى عنها من كافة نواحيها لئلا يقع في خطأ فاحش. (2)
وأن يبتعد عن تتبع الحيل الشرعية والشبه غير الواضحة، والرخص التي لا يلجأ إليها إلا في الضرورة. (3)
وألا يفتي وهو في حال غير طبيعية من مرض أو تعب أو إرهاق وما إلى ذلك. (4)
وألا يأخذ أجرا على فتواه، ولو أخذ شيئا مقابل ذلك كان أخذه مباحا. (5)
وأن يكون ملما باصطلاحات إقليم المستفتي وتعبيرات بلده ولهجة إقليمه إذا كان من العوام لئلا يقع في خطأ. (6)
وأن يكون الجواب على الاستفتاء واضحا لا لبس فيه ولا إغراب في ألفاظه، وخصوصا إذا كان المستفتي أميا أو عاميا. (7)
وأن يرتب الفتوى ترتيبا منطقيا إذا كان فيها عدة قضايا؛ بحيث لا يضطرب المستفتي أو القارئ حين يقرؤها. (8)
وأن يكون دقيقا في فهم القضية، سواء في ذلك القضية الصعبة أو القضية السهلة. وكان محمد بن الحسن الشيباني - صاحب الإمام أبي حنيفة - يفعل ذلك، وإن كان في القضية المستفتى عنها كلمة غريبة أو مشتبهة سأل عنها ونقطها وضبطها، وإن وجد في القضية لحنا فاحشا أو خطأ يحيل المعنى طلب إصلاحه أو أصلحه لتستقيم القضية، وإن رأى في أثناء سطر من سطورها بياضا خط عليه أو شغله؛ لأنه ربما قصد المستفتي إيذاء المفتي بإضافة بعض الألفاظ التي تفسد الفتوى أو تحيل معناها.
197 (9)
وأن يكتب الجواب بخط واضح وسط لا دقيق ولا غليظ، واستحب بعضهم ألا تختلف أقلامه وخطوطه في فتاويه خوفا من التزوير، ولئلا يشتبه خطه. (10)
وأن يكتب اسمه في آخرها ويختم بعده، قال الصيمري: وليختمها بقوله «والله أعلم» أو «بالله التوفيق»، ويكتب بعده «كتبه أو قاله فلان بن فلان الفلاني»، فينتسب إلى ما يعرف به من قبيلة أو بلد أو صنعة أو غير ذلك، ثم يذكر مذهبه، فإن كان مشهورا بالاسم فلا بأس بالاقتصار عليه. (11)
وأن يكون الجواب ملصقا في آخر الاستفتاء، ولا يدع فرجة لئلا يزيد السائل شيئا يفسدها، وإن ضاق موضوع الجواب فلا يكتبه في ورقة أخرى على ظهرها، وأن يكتب فتواه بالحبر دون المداد خوفا من الحك والتزوير؛ لأن الحبر أبقى وأثبت.
198
المناظرة
المناظرة نوع من أنواع البحث العلمي، وقد عرفها العرب في أسواقهم الأدبية قبل الإسلام وبعده، وقد شجع الرسول الكريم
صلى الله عليه وسلم
هذا النوع من البحث العلمي المفيد، ومضى العلماء والفضلاء من صحابته على التباحث والتناظر في قضايا العلم والأدب والنسب لتتجلى الحقيقة، وقد ورد في القرآن الكريم الكثير من أحاديث المناظرات، سواء في القصص الديني الذي رواه رسول الله
صلى الله عليه وسلم
عن أهل الأديان السابقة مع خصومهم، أو في مناظرة كفار قريش ومجادلتهم في عباداتهم. وكان الغالب على المناظرات قبل الإسلام وفي أيام الرسول والخلفاء الراشدين روح التساهل والبساطة وتحكيم المنطق العقلي السليم، فلما دخلت الحضارات الأجنبية في البيئة العربية وتغلغلت في أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي وما بعده، وتعمقت جذور الفلسفة والحكمة القديمة، وامتزجت الثقافات القديمة بالثقافة العربية الإسلامية؛ ظهرت روح المنطق والفلسفة والمجادلة في تلك المناظرات، وخصوصا حين نجم الزنادقة والملاحدة وأرباب الأهواء والفرق في الإسلام وأرادوا نشر مبادئهم، فزخرفوها للناس وأخذوا يحبذون إليهم الدخول فيها، ويجذبون قلوب الشبان والعامة إليها، فكان طبيعيا أن ينبري لهم المسلمون الغير ويجادلوهم في تلك الأمور، ويناظروهم فيما يدعون لتزييف معتقداتهم وآرائهم، وقد كان لظهور فرقتي «الجبرية» و«المعتزلة» أثر كبير جدا في تطوير أمر المناظرة وآدابها وتكون أسسها وأنظمتها. قال الإمام أبو حامد الغزالي: ... نبغت طائفة المتكلمين من المعتزلة وغيرهم، وظهر من الصدور والخلفاء من مال إلى البحث عن العقائد وإلى التعصب منه، وأقبلوا على من اشتغل بذلك العلم، فأكب الناس على علم الكلام وأكثروا التصانيف، ورتبوا فيه طرق المجادلات والمناقضات، وزعموا أن غرضهم الذب عن الدين والنضال عن السنة، كما زعم من قبلهم أن غرضهم الاستقلال بالفتوى ليتميز الحلال من الحرام. ثم ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يستصوب الخوض في أصول العقائد لما فيه من الفتنة، فأعرض عن المتكلمين وأقبل على التعصب للمذاهب في الفروع، وأقبل على من يناظر، وبيان الأولى من مذهب أبي حنيفة والشافعي - رضي الله عنهما - خاصة، فترك الناس الكلام وانثالوا على المسائل الخلافية بين أبي حنيفة والشافعي خاصة، وزعموا أنهم إنما فعلوا ذلك لله تعالى وغرضهم استنباط دقائق الشرع وبيان مآخذ الأحكام، وأكثروا فيه التصانيف ورتبوا طرق المجادلات، وأعرضوا عن الخلاف مع مالك وأحمد بن حنبل وسفيان، مع أنهم كانوا يخالفونهم في جملة الأحاديث والبحث عن معاني الأحاديث وما لا يصح منها وما يصح لهم في مآخذ الأحكام، ولكن كانت رغبتهم بحسب ميل الصدور للتوصل إلى الصلات والولايات؛ فلم يشتغلوا إلا بما يروح عندهم ثم لم يسكتوا عن قولهم إنه لا باعث لهم إلا الدين وإحياء الشرع، ولو مالت نفوس أرباب الولايات إلى الخلاف مع أحمد بن حنبل ومع مالك وغيرهما لاشتغلوا بالبحث عن مذاهبهم ومناقضاتهم ... فهكذا كان ترتيب الأعصار إلى الآن، ولا ندري ما قدره الله تعالى فيما بعد من الأعصار، فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلافيات والمناظرة لا غير ... وقلما تجد رجلا يتعلم الخلاف خوفا من أن يقال له يوم القيامة لم تتعلم الخلاف، وما من أحد إلا ويخاف يوم القيامة؛ لم لم تخلص في علمك وعملك، ولم راءيت الناس بطاعتك يا فاجر ويا غاوي ويا فاسق ويا مرائي، كما ورد في الخبر أن المرائي ينادى بهذه الألقاب، ومع ذلك لا يتعلم علم الإخلاص، وطريق الحذر من الرياء، وما يجري هذا المجرى من صفات القلب ...
199
هذا ما يقوله الإمام الغزالي، وهو في رأينا تفسير صحيح لظهور علم المناظرة والخلاف والاختلاف بهما في الدولة العباسية منذ زمن المأمون إلى ما بعده، وبخاصة في القرن الرابع والخامس واهتمام الناس بهما هذا الاهتمام الشديد، بعد أن كان وجودهما في عصر النبي وخلفائه الراشدين والأمويين ظهورا غير واضح الأثر لقرب الناس من طراوة الإسلام وسذاجته، فلما أن تعقدت الحياة العامة واضطربت أحوالها تعقد تفكير الناس واضطربوا وأخذوا يفتشون عن علم الجدليات وعن علم المنطق والمناظرة والبحث وما إلى ذلك، ليظفروا بالغلبة على خصومهم، وتنتصر مبادئهم وعقائدهم. ومهما يكن من أمر المناظرة والجدل فإنهما قد تطورا تطورا عظيما في القرنين الرابع والخامس للهجرة، وكان لهما تأثير في تطوير العلم الإسلامي بصورة عامة، وفي السير قدما بالفكر العربي.
وقد اشترط العلماء للمناظرة شروطا، وألفوا فيها عدة كتب جيدة مفيدة لا مجال للتحدث عنها أو البحث فيها ها هنا، وإنما نريد أن نشير إشارة عابرة إلى أهم الشروط التي اشترطها علماء المناظرة وأرباب الجدل في بحوثهم بما يلي: (1)
أن يكون غرض المتناظرين بحث العلم وإحياء الحق والهدف الثقافي البحت، لا الجدل الخالص وحب الانتصار على الخصم، وهكذا كان جدل الأئمة الكبار، والفقهاء والعلماء أمثال الشافعي، وإسحق بن راهويه، وأبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، والقاضي أبي يوسف، وغيرهم من الجلة. (2)
وأن يكون المتناظران عالمين بارعين متسامحين غير حقودين ولا غيورين ولا مرائيين.
200
وهكذا كانت روح المناظرة في البيئات الإسلامية الأولى، ولكنها ما لبثت أن فسدت بعد حين أراد الناس من المناظرة مجرد الجدل وإقامة الحجج الشكلية لا البحث عن الحقيقة والكشف عن طرق الصواب في العلم والدين.
الرحلة في طلب العلم واستملاء الحديث
عني المسلمون عناية كبيرة بالرحلة في سبيل العلم من دين وأدب، وخصوصا حين تفرق الأئمة من العلماء والقراء في الأقطار الإسلامية النائية بعد أن اتسعت رقعة ديار الإسلام . قال عبد الله بن المبارك الإمام الرحالة المحدث الثقة (؟-181):
201
دوخت العلماء وعاينت الرجال بالشامات والعراقين والحجاز فلم أجد الأدب إلا مع ثلاثة؛ ابن عون غريزته الأدب، وعبد العزيز بن أبي رواد متكلف الأدب، ووهب المكي كأنه ولد مع أدب،
202
وكانوا يرحلون في طلب الأدب والحديث النبوي قبل تدوينهما في الكتب وبعد تدوينهما، لما في الرحلة من فوائد الاطلاع على أحوال الدنيا ومعرفة أوضاع الشعوب الإسلامية وغيرها وتقاليدها وتوسيع الثقافة العامة.
قال الذهبي: قال ابن إسحق سمعت مكحولا يقول: طفت الأرض في طلب العلم، وروى أبو وهب عن مكحول أنه قال: عتقت بمصر فلم أدع بها علما إلا حويته فيما أرى، ثم أتيت العراق ثم المدينة فلم أدع بها علما إلا حويته، ثم أتيت الشام فغربلتها. ومكحول هذا هو عالم أهل الشام، وهو أبو عبد الله بن أبي مسلم الهذلي مولاهم، وكان فقيها أديبا محدثا، كان مولى لامرأة من هذأيل، وأصله من أهل كابل، توفي سنة 113.
203
وقال الذهبي أيضا: قال أبو الزناد عبد الله بن ذكوان القرشي (؟-131) كنا نطوف مع الزهري «محمد بن مسلم القرشي» (؟-124) على العلماء ومعه الألواح والصحف يكتب كل ما يسمع. وقال سعيد بن المسيب: إني كنت أسير الليالي والأيام في طلب الحديث الواحد.
204
وروى أبو صالح عن الليث بن سعد (؟-175): ما رأيت عالما أجمع من الزهري يحدث في الترغيب فنقول لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن العرب والأنساب قلنا لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن القرآن والسنة كذلك.
205
وقال الذهبي أيضا: قال أبو الطيب الطبري: رحلت قاصدا إلى أبي بكر وهو حي فمات قبل أن ألقاه. قال حمزة: وسمعته يقول: لما ورد نعي محمد بن أيوب الرازي بكيت وصرخت ومزقت القميص ووضعت التراب على رأسي، فاجتمع أهلي علي وقالوا ما أخبارك؟ قلت: نعي إلي محمد بن أيوب ومنعتموني الارتحال إليه . قال فسلوني وأذنوا لي في الخروج وأصحبوني خالي إلى الحسين بن سفيان، ولم يكن ها هنا شعرة، وأشار إلى وجهه، وأبو بكر هذا هو أحمد بن إبراهيم الإسماعيلي الذي قال عنه الحاكم: كان الإسماعيلي واحد عصره وشيخ المحدثين والفقهاء، مات سنة 371.
206
فهذه الروايات وكثير غيرها في كتب الأدب والتاريخ والفقه تدلنا على شدة اهتمام السلف بالارتحال في طلب العلم من بلد إلى آخر، وخصوصا فيما يتعلق بالسنة النبوية وجمعها، خوفا من الكذابين والوضاعين، والزنادقة المارقين.
قال ابن السمعاني في معرض حديثه عن تتبع الأسانيد: «وألفاظ رسول الله
صلى الله عليه وسلم
لا بد لها من النقل، ولا تعرف صحتها إلا بالإسناد الصحيح، والصحة في الإسناد لا تعرف إلا برواية الثقة عن الثقة والعدل عن العدل. وقد روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي بن الحسين عن أبيه عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: إذا كتبتم الحديث فاكتبوه بإسناده، فإن يك حقا كنتم شركاء في الأجر، وإن يك باطلا كان وزره عليه. وقال ابن سيرين: كانوا في الدهر الأول لا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة سألوا عن الإسناد لكي يأخذوا حديث أهل السنة ويدعوا حديث أهل البدعة. وقال ابن المبارك: الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء. وقال عبدان: ذكر هذا عند ذكر الزنادقة وما يضعون من الأحاديث ...
207
وقد كانت للعلماء ولطلاب العلم في أخذ الحديث النبوي الشريف عن الشيوخ طرق عديدة:
منها: أن يملي الشيخ فيسمعه الطالب أو يكتبه في دفتره الخاص.
ومنها: أن يقرأ الطالب على الشيخ الحديث فيقره على ما يقرأ.
ومنها: أن يقرأ قارئ الحديث، والشيخ والطالب يسمعان منه.
ومنها: أن يعرض الطالب على الشيخ كتابا مكتوبا فيخبره الشيخ بروايته.
ومنها: أن يكتب الطالب إلى الشيخ كتابا من بلده يستجيزه رواية الحديث فيجيزه.
وأفضل هذه الطرق أن يملي الشيخ ويكتب الطالب، وأسوأها أن يعرض الطالب على الشيخ كتابا فيجيزه بروايته دون أن يقرأ عليه منه شيئا، وذهب بعض العلماء إلى عدم جواز هذه الإجازة؛ قال شعبة: لو صحت الإجازة لبطلت الرحلة.
208
وقد وجد في التابعين ومن بعدهم جماعات يعقدون المجلس للإملاء والاستملاء، وكان الناس يرحلون إليهم من أقصى ديار الإسلام، أمثال شعبة بن الحجاج، ووكيع بن الجراح، وأبي حنيفة، والشافعي، ومالك، وأحمد، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وكانت هذه الحلقات العلمية تتسع بشكل عجيب، وربما بلغ عدد الطلاب الألوف؛ فيضطر الشيخ أن يستعين بالمبلغين عنه والمستملين منه ليبلغوا عنه. وقد وردت روايات عجيبة عن كثرة طلاب بعض الشيوخ الأجلاء؛ فقد ذكر ابن السمعاني أن طلاب مجلس يزيد بن هارون كانوا سبعين ألفا،
209
وأن المعتصم وجه من يحرز مجلس عاصم بن علي بن عاصم في رحبة النخل التي في جامع الرصافة، وكان عاصم بن علي يجلس على سطح المسقطات وينتشر الناس في الرحبة وما يليها فيعظم الناس جدا في سمعته، يقول يوما: «حدثنا الليث بن سعد.» ويستعاد قوله هذا، فأعاد أربع عشرة مرة، والناس لا يسمعون، قال: فكان هارون المستملي يركب نخلة معوجة ويستملي عليها، فبلغ المعتصم كثرة الجمع فأمر بحرزهم، فوجه بقطاعي الغنم فحرزوا المجلس عشرين ألفا ومائة ألف.
210
وقال صالح بن محمد البغدادي: كان محمد بن إسماعيل البخاري يجلس ببغداد، وكنت أستملي له، ويجتمع في مجلسه أكثر من عشرين ألفا، وربما تعدد المستملون حتى يبلغوا المئات، ولما ورد أبو بكر جعفر بن محمد الغريابي إلى بغداد استقبل بالطيارات والزبازب - وهما أنواع من السفن - ثم أوعد الناس له إلى شارع المنار بباب الكوفة ليسمعوا منه، فاجتمع الناس فحرز من حضر مجلسه لسماع الحديث فقيل نحو ثلاثين ألفا، وكان المستملون ثلاثمائة وستة عشر.
211
وروى القاضي أبو الحسن علي بن محمد البصري قال: كنا نجلس مجلس أبي إسحق إبراهيم بن علي الهجيمي للحديث، فكان يجلس على سطح أهله ويمتلئ شارع بلجهم بالناس الذين يحضرون للسماع، ويبلغ المستملون عن الهجيمي. قال البصري: وكنت أفوقه في السحر فأجد الناس قد سبقوني وأخذوا مواضعهم، وحسب الموضع الذي يجلس فيه الناس وكسر فوجد مقعد ثلاثين ألف رجل.
212
وبعد أن يورد ابن السمعاني هذه الأخبار يعلق عليها بقوله: فرحم الله السلف الماضين، كان العلم مطلوبا في زمانهم، والرغبات متوافرة، والجموع متكاثرة ؛ فالآن خمدت ناره، وقل شراره، وكسد سوقه حتى سمعت أبا حفص عمر بن طفر المغازلي ببغداد يقول: فرغنا من إملاء الشيخ أبي الفضل بن يوسف نكتب فيها أسماء من حضر فما وجدنا.
213
وكما اشترط العلماء للفتيا والمناظرة شروطا، كذلك اشترطوا للإملاء والاستملاء شروطا أحصاها الإمام السمعاني وابن الصلاح العراقي ومن بعدهما من مؤلفي علوم مصطلح الحديث، وها نحن أولاء نوردها موجزة فيما يلي:
ينبغي للمحدث قبل بدايته بالإملاء أن يصلح هيئته، وأن يكون على أكمل هيئة وأفضل زينة اقتداء بالنبي
صلى الله عليه وسلم ؛ فقد روي أنه كان له ثوبان ينسجان في بني النجار، فكان يقول عجلوا بهما علينا نتجمل بهما في الناس. وكان عمر بن الخطاب يقول: إنه ليعجبني أن أرى القارئ النظيف. وكان مالك بن أنس إذا أراد أن يجلس للحديث اغتسل وتبخر وتطيب ولبس أحسن ثيابه.
214
فإذا خرج من بيته إلى المجلس فليقصد في مشيه وليسلم على الناس، فإذا وصل إلى المجلس ابتدأ بإملائه، فإذا أتم المجلس عمد الطلاب معا - أو الطلاب والشيخ - إلى معارضة ما كتبوا وإصلاح ما قد يكون وقع من الخطأ أو زاغ عنه القلم.
هذه هي آداب الشيخ المحدث. أما آداب الطالب فنوجزها بما يلي:
ينبغي لطالب العلم أن يبكر إلى مجلس الاستملاء لئلا يفوته شيء فيتعذر عليه تلافيه، وخصوصا إذا كان الشيخ ممن يكرهون إعادة الحديث، كما روي عن سفيان بن عيينة ويزيد بن هارون والأعمش؛ فقد روي أن رجلا جاء الأعمش فرآه قد أتم درسه فقال له: يا أبا محمد، اكتريت حمارا بنصف درهم وأتيت لأسألك عن حديث كذا وكذا. فقال له: اكتر بالنصف الثاني وارجع.
215
وينبغي أن يحرص على القرب من مجلس الشيخ إذا كان المجلس كثير الطلاب لئلا تفوته بعض الفوائد.
وينبغي عليه إذا حضر وغيره من الطلبة إلى دار الشيخ أو مجلسه وأذن لهم بالدخول أن يدخلوا مقدمين أسنهم وأفضلهم، فإذا دخلوا سلموا، ويجلس الواحد منهم حيث ينتهي به المجلس ولا يتخطى الرقاب، فإن استدناه الشيخ تقدم، وإن أكرمه بمخدة أو غيرها فلا يردها، ولا يقم أحد من مكانه، ولا يجلس وسط الحلقة ولا في صدر المجلس، ولا بين اثنين، ويجلس على ركبتيه ويبالغ في تعظيم أستاذه ويكنيه ولا يسميه، ويقوم له ويقبل يده.
وينبغي أن يكون حسن الاستماع والكتابة، وإذا شرع فيها كتب بالحبر دون المداد؛ لأن السواد أصبغ الألوان وأبقاها، ويحضر أدوات الكتابة من ورق ومحبرة وأقلام ومقلمة وسكين. وتكره الكتابة على ما ليس طاهرا نظيفا، وتجوز على الجلد والخزف والألواح. ويحسن خطه، ويتقن كتابته.
هذه هي آداب الطالب. أما آداب المستملي فنوجزها بما يلي: ينبغي أن يكون فصيحا جهوري الصوت واضح البيان حسن العبارة، يستطيع أن يبلغ كلام الشيخ إلى البعيد عنه بأمانة وفصاحة وصوت مسموع، كما ينبغي أن لا يكون بليدا مغفلا، كما يحكى عن بعض المستملين، ومنهم مستملي يزيد بن هارون؛ فإنه قال يوما: «حدثنا به عدة.» فصاح المستملي: «يا أبا خالد، عدة ابن من؟» فقال يزيد: «عدة ابن فقدتك.» وينبغي أن لا يكون ثقيل الظل، ولا متحذلقا، ولا ثرثارا، وأن يقعد على مكان عال مرتفع، فإن لم يجده وقف ...
وقد كره بعض القدماء هذه الوظيفة وربما هاجموا صاحبها، وكان شعبة يقول: لا يستملى إلا سفلة أو نذل. وقال ابن عيينة: إن لكل قوم غوغاء، وغوغاء المحدثين المسمعون.
216
ومما اشترطوه أيضا في المستملي أن يكون ممن عرف الحديث وأنس به، وإذا كثر الزحام كثر المستملون. ولما حدث أبو مسلم الكجي في رحبة غسان كان في مجلسه سبعة مستملين يبلغ كل واحد منهم صاحبه الذي يليه، وكتب الناس عنه قياما بأيديهم المحابر.
217
وأول واجبات المستملي أن يستنصت الناس، وأن يقرأ سورة من القرآن، ثم يقول للشيخ «من حدثك رحمك الله؟» أو «من ذكرت رحمك الله أو رضي الله عنك؟» ثم يبدأ الشيخ بالإملاء. قال يحي بن أكثم: جالست الخلفاء وناظرت العلماء، وتقلدت الوزارة مرتين وأنا في هذا الوقت قاضي القضاة، فما سررت بشيء قط سروري بقول المستملي: «من ذكرت رضي الله عنك؟»
218
فإذا سرد المملي الحديث، أعاد المستملي قوله كلمة كلمة محاكيا ألفاظ الشيخ، فإذا فرغ الشيخ ودعا للحاضرين دعا المستملي مثل دعائه للحاضرين ولنفسه.
وقد كانت الرحلة في طلب العلم واستملاء الحديث منتشرة في كافة أرجاء مملكة الإسلام، وكانت قبلة الناس في القرن الأول هي المدينة ومكة والحجاز بصورة عامة. وقد ظل هذا الاتجاه معمولا به في العصر الأموي على الرغم من انتقال العاصمة إلى دمشق ووفود العلماء إليها؛ لأن الحجاز ظل طوال ذلك القرن هو العاصمة الروحية للإسلام. وما جاء القرن الثاني للهجرة حتى أخذت الرحلات تتنوع إلى ديار الإسلام الأخرى؛ لأن قسما كبيرا من أهل الحجاز والمسلمين الأولين في الجزيرة أخذوا يستوطنون البلاد المفتوحة ويستقرون فيها، كالفسطاط ودمشق والبصرة والكوفة وبغداد ومدن المشرق. وكان طلاب العلم في الأندلس والمغرب على الرغم من نبوغ جمهرة كبيرة منهم في ديارهم، فإنهم كانوا يرحلون إلى المشرق في سبيل طلب العلم والحديث إلى مصر والحجاز خاصة؛ فإن الحلقات العلمية في مساجد ديارهم لم تكن لتشبع نهمهم العلمي؛ فقد كانت مصر بمساجدها وحلقاتها منذ القرن الأول من مراكز الثقافة الإسلامية الكبرى؛ ظهر فيها الشافعي وانتشر فيها مذهب مالك إمام أهل المدينة. وأما الحجاز فهي مهبط الوحي، وقد نبغ فيها المئات من الأئمة والفقهاء والمحدثين والأدباء، وعلى رأسهم الإمام مالك، وقد اتصل المغاربة والأندلسيون بمالك وتلاميذه في الحجاز ومصر، فأحبوا مذهبه واعتنقوا طريقته وتحمسوا له واختصوا به. قال ابن خلدون: وأما مالك فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس لما أن رحلتهم كانت غالبا إلى الحجاز وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذ دار العلم ومنها خرج إلى العراق، ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا على الأخذ من علماء المدينة وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك وشيوخه من قبله وتلاميذه من بعده، فرجع إليه أهل المغرب والأندلس وقلدوه ممن لم تصل إلينا طريقته.
219
التدوين
يراد به تدوين العلم وكتابته في الكتب والسجلات والدفاتر. وقد زعم بعض الباحثين من المستشرقين والشرقيين أن التدوين عند العرب لم يظهر في الإسلام إلا في أواسط القرن الثاني للهجرة؛ أي بعد انقضاء الدولة الأموية، وأن التدوين قبلئذ لم يكن معروفا إلا في نطاق ضيق جدا، وهو نطاق القرآن وبعض الأحاديث النبوية، وأن العرب لم يدونوا أدبهم إلا بعد أواسط المائة الثانية للهجرة، وكانوا قبل ذلك يتناقلون أدبهم حفظا ورواية ليس غير، إلى أن جاء العصر العباسي فدونه الكتاب والمؤلفون.
وليس لهؤلاء الباحثين من المستشرقين والشرقيين حجج قوية يعتمدون عليها، وإنما هي أوهام وظنون وأباطيل سار بها بعض الشعوبيين من الكتاب القدماء، فتلقفها المستشرقون وشعوبيو اليوم، ورفعوا بها عقائرهم، وملئوا بها كتبهم وهدفهم الأول من وراء ذلك هو التهجم على العرب، والطعن في تاريخهم، وهتك حرمة آدابهم، والطعن في صحة ما ابتدعوه قبل الإسلام أو بعده من الحكمة والشعر الخالدين، وليس قول هؤلاء جميعا إلا باطلا في باطل، فإن التدوين الأدبي كان معروفا عند العرب قبل الإسلام؛ فقد دون عرب زمن الفترة شعرا وعلقوه على الكعبة، كما دونوا كثيرا من مأثور كلام عقلائهم شعرا ونثرا، كما دون متهودوهم ومتنصروهم في الجزيرة آيات من الكتاب المقدس؛ فإنه لا يعقل أصلا أنهم كانوا يؤدون شعائر الدين الموسوي أو النصراني بالعبرية أو السريانية، فإنهم كانوا عربا يعتزون بلغتهم ويفخرون بلسانهم العربي المبين.
وليس هذا القول قولا جزافا ألقيناه بدافع العصبية لأجدادنا وتاريخنا وقوميتنا العربية، وإنما هو قول يعتمد على سنن الكون وأنظمة الحياة؛ فقد كتب العرب قبل الإسلام وكانت لهم حضارة وكان لهم علم وكان لهم أدب، وكانت عندهم كتاتيب ودور للتعليم على ما فصلناه قبلا، وقال المرزباني في الموشح في معرض حديثه عن النابغة الذبياني إن العرب في الجاهلية كانوا صنفين؛ أهل البوادي وأهل القرى أي المدن. أما أهل البادية فقد كانوا بدوا أميين، أما أهل الحواضر والمدن فقد كانوا متعلمين ذوي حصافة وحس مرهف، وإن «أهل القرى ألطف نظرا من أهل البدو، وكانوا يكتبون لجوارهم أهل الكتاب».
220
ولا ريب في أن نصارى الحيرة والشام من المناذرة وآل غسان كانوا ذوي حضارة زاهية وأدب وعلم وكتابة وفهم؛ لأن آثارهم الباقية وقصورهم الشاهقة لتدل على مبلغ ما سموا إليه من رقي، وروى العالم الثقة الثبت العالم ابن جني عن حماد الراوية (؟-155) أنه قال:
أمر النعمان «ابن المنذر اللخمي» (؟-8ق.ه) فنسخت له أشعار العرب ثم دفنها في قصره الأبيض، فلما كان المختار ابن أبي عبيد «الثقفي أمير الكوفة» (؟-68) قيل له إن تحت القصر كنزا، فاحتفره فأخرج تلك الأشعار؛ فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة.
221
فهذا يدل على أن العرب كانوا قبل الإسلام قد دونوا بعض أشعارهم وتراثهم الأدبي الذي يفخرون به ويعتزون باحتوائه. ولا ريب في أن أبا قابوس النعمان إنما فعل ذلك افتخارا بآثار قومه، وقد كان من الملوك الذين ازدهت بهم الحيرة لعلمه وفضله، ولأنه كان ممن يتذوقون الشعر، وكان بلاطه موئلا لفحولة الشعراء أمثال النابغة الذبياني، وحسان بن ثابت، وحاتم الطائي، وغيرهم من أئمة الشعر العربي، وهو صاحب قصة إيفاد الحكماء العرب إلى كسرى، وهو باني مدينة النعمانية على ضفة دجلة اليمنى، وليس هذا الخبر مكذوبا اخترعه حماد الراوية الذي يتهمونه بالوضع، وإنما هو خبر روى مثله أيضا هشام الكلبي (؟-206) المحدث الراوية النسابة المشهور الموثق؛ فقد قال: «كنت أستخرج أخبار العرب وأنسابهم وآل نصر بن ربيعة ومبالغ أعمار من ولي مهمة لآل كسرى وتاريخ نسبهم من كتبهم بالحيرة.»
222
ونحن حين نقول هذا القول لا نقصد أن العلم والتدوين وما إليهما كانا منتشرين في المدن والقرى العربية قبل الإسلام انتشارا عاما، ولكننا نريد أن ننفي القول بفشو الأمية والجاهلية وسيطرتها، وعدم وجود التدوين عند العرب أصلا قبل أواسط القرن الثاني للهجرة كما زعم أولئك المستشرقون والشرقيون؛ فقد رأيت أن الكتابة كانت فاشية عند العرب قبل الإسلام، وبخاصة في المدينة ومكة والطائف والحيرة ومدن مشارق الشام العربية ومدن اليمن وحضر موت؛ لأن قوما كانت لهم تلك الحضارة لا يمكن أن يكونوا أميين، وما يقال عن عرب ما قبل الإسلام - ولا أبيح لنفسي أن أسم ذلك العهد بسمة الجاهلية - يقال عن عرب صدر الإسلام؛ فقد كانت الكتابة منتشرة في البيئة النبوية في المدينة، وفي العواصم الإسلامية التي شادها العرب في الديار التي فتحوها كالبصرة والكوفة في العراق، والفسطاط والقطائع في مصر، والقيروان في شمالي إفريقية، وفي عواصم الأقاليم التي دخلوها كدمشق وحلب وبيت المقدس والمدائن والري وغيرها.
وكان معلمو الصحابة كأبي الدرداء وأبي ذر وأبي موسى الأشعري وأبي بن كعب وجبير بن حية، وغيرهم من علماء الصحابة، يحلقون حلق العلم في مساجد العواصم الإسلامية التي يحلون فيها. قال سويد بن عبد العزيز: كان أبو الدرداء «عويمر بن مالك الأنصاري (؟-32) قاضي دمشق»
223
إذا صلى الغداة في جامع دمشق اجتمع الناس للقراءة عليه، فكان يجعلهم عشرة عشرة، وعلى كل عشرة عريف، ويقف في المحراب يرمقهم ببصره، فإذا غلط أحدهم يرجع إلى عريفهم وإذا غلط عريفهم رجع إلى أبي الدرداء فسأله عن ذلك.
224
وقال مسلم بن مشكم: قال لي أبو الدرداء اعدد من يقرأ عندي القرآن، فعددتهم بأمره ألفا وستمائة ونيفا، وكان لكل عشرة منهم مقرئ.
225
وهكذا كان الأمر في مساجد حلب وبيت المقدس والإسكندرية والفسطاط والبصرة والكوفة، وغيرها من العواصم الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين، فإذا كان هذا عدد الكتاب في العصر الأموي والراشدي، كان من الطبيعي جدا أن يكون لهذا العدد العديد من المتعلمين مدونات وكتب جمع فيها شيء من تعاليم الدين وحديث الرسول والآداب والعلوم الإسلامية، ولولا وجود هذه المدونات في زمن مبكر لما كره بعض المتزمتين أن يدون غير القرآن؛ خوفا من اختلاطه بالسنة أو غيرها من الأخبار، وحجة هؤلاء القوم قول الرسول
صلى الله عليه وسلم : «لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن، فمن كتب عني شيئا سوى القرآن فليمحه.» ومثل هذا قول زيد بن ثابت حين دخل على معاوية وسأله عن شيء من حديث رسول الله
صلى الله عليه وسلم
ثم أمر كاتبا له أن يكتبه، فنهاه زيد وقال: إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أمرنا أن لا نكتب شيئا من حديثه، فمحاه.
226
ولما رأى أبو سعيد الخدري جماعة من تلاميذه يكتبون الحديث عنه نهاهم عن ذلك وقال: أتريدون أن تجعلوها مصاحف؟ إن نبيكم
صلى الله عليه وسلم
كان يحدثنا فنحفظ، فاحفظوا كما نحفظ.
227
ولكن بعض هؤلاء المتزمتين أباحوا كتابة القرآن حين وقع الاطمئنان في نفوسهم من أن شيئا من ذلك الذي تخوفوه لن يكون، فأجازوا كتابة الحديث بعد أن كانوا يكرهونه لكيلا يختلط بالقرآن، أو لكيلا يعتمد العالم على الكتاب، بل على حفظه.
228
وقد احتج من أباح الكتابة ببعض الروايات التي رويت عن النبي وكبار الصحابة؛ فمن ذلك ما روي عن أبي هريرة أنه
صلى الله عليه وسلم
أذن لأبي شاة اليمني أن يكتب عنه خطبة يوم فتح مكة.
229
وقال أبو هريرة: لم يكن أحد من أصحاب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أكثر مني حديثا إلا عبد الله بن عمرو بن العاص؛ فإنه كتب ولم أكتب.
وفي العهد الراشدي دونت بعض المدونات الشعرية أيضا؛ فقد روى أبو الفرج أن عمر بن الخطاب كتب إلى أميره على العراق وفاتح القادسية وباني الكوفة سعد بن أبي وقاص (؟-55): أما بعد، فاجمع من قبلك من الشعراء فسلهم ماذا فقدوا من شعرهم وما بقي منه. فجمعهم سعد فسألهم عن ذلك فكلهم زعم أنه أغزر ما كان شعرا وأقدر عليه إلا لبيد، فإنه حلف بالذي هداه للإسلام ما قدرت على أن أقول بيتا واحدا منذ أسلمت، فكتب بذلك إلى عمر.
230
ومثل ذلك ما ذكره أبو الفرج أيضا أن عبد الله بن الزبعري السهمي وضرار بن الخطاب الفهري طلبا من حسان بن ثابت أن يتناشدوا ما قيل من مناقضات بين الأنصار ومشركي قريش في صدر الإسلام، فأنشداه أشعار قريش من الأنصار، ثم ذهبا قبل أن يسمعا شعره في قريش، فغضب حسان وذهب إلى عمر بن الخطاب، فجمعهما بحسان وأمرهما أن يسمعا مناقضته لكفار قريش، فاستمعا إليه بمحضر عمر وكبار الصحابة، ثم إن عمر قال لمن حضره: إني قد كنت نهيتكم أن تذكروا مما كان بين المسلمين والمشركين شيئا دفعا للتضاغن عنكم وبث القبيح فيما بينكم، فأما إذا أبوا فاكتبوه واحتفظوا به . فدونوا ذلك عندهم، قال: فأدركته - أي ذلك السجل الذي دونوا فيه الأشعار - ومما دون في عهد عمر بن الخطاب غير هذه الكتب الأدبية دواوين أنساب القبائل العربية، التي أمر عمر بن الخطاب بتدوينها وتسجيل أسماء كل قبيلة وأفخاذها وأسماء من ولد كل منهم.
وما إن دخل النصف الثاني للقرن الهجري واستولى بنو أمية على الخلافة الإسلامية حتى كثر التدوين في الأدب والحديث؛ فقد روى لنا المبرد عن المعلمين الشاعرين المشهورين؛ الكميت بن زيد، والطرماح بن حكيم، عن رؤبة بن العجاج أنه قال: قدمت فارس على إبان بن الوليد البجلي منتجعا له، فأتاني رجلان لا أعرفهما، فسألاني عن شيء ليس من لغتي فلم أعرفه، فتغامزا بي فتقبعت عليهما فهمدا، ثم كانا بعد ذلك يختلفان فيسمعان مني الشيء فيكتبانه ويدخلانه في أشعارهما، فعلمت أنهما ظريفان، وسألت عنهما فقيل لي هما الكميت والطرماح.
231
فلا شك في أن العالمين الشاعرين الأديبين المعلمين كانا يدونان ما يسمعان من رؤبة ومن غيره ما يستجيدان من الشعر والغريب وأخبار العرب. ويروي الإمام الراوية الثقة أنه رأى الطرماح بسواد الكوفة وهو يكتب ألفاظ النبيط ويتعلمها ويعربها ويدخلها في شعره،
232
وأغلب ظننا أنه كان ينتقي الألفاظ الفنية والعلمية فيعربها ويدخلها في شعره، وقد كان الطرماح وزميله الكميت شاعرين فحلين من فحول شعراء الإسلام وأجودهم معاني وأحسنهم صورا، ولم يكن هذان الشاعران وحدهما اللذين دونا شعرهما في العصر الأموي؛ فقد روي أن الفرزدق كان يدون شعره وقد كان له أربعة رواة يكتبون شعره عنه ويدونونه ويذيعونه عنه،
233
وكذلك كان جرير يدون شعره، بل يروي صاحب الأغاني أن بعض موالي بني كليب بن يربوع - وكان بائعا للرطب في البصرة - يدون شعره، قال: كنت أجمع شعر جرير وأشتهي أن أحفظه وأرويه، فجاءني جرير ليلة فقال إن راعي الإبل النميري قد هجاني وإني آتيك الليلة فأعد لي شواء وفراشا ونبيذا محشفا، فأعددت له ذلك، فلما أعتم جاءني فقال: هلم عشاءك. فأتيته به فأكل ثم قال: هلم نبيذك. فأتيته به فشرب أقداحا ثم قال : هات دواة وكتفا. فأتيته بهما فجعل يملي علي قوله:
أقلي اللوم عاذل والعتابا
وقولي إن أصبت لقد أصابا
234
ويروي أبو الفرج أن رجلا من الأنصار لاحق عدي بن الرقاع العاملي (؟-95) معاصر جرير وشاعر الوليد بن عبد الملك وقال له: اكتب لي شيئا من شعرك. فقال عدي: ومن أي العرب أنت؟ قال: أنا رجل من الأنصار. قال: ومن منكم القائل:
إن الحمام إلى الحجاز يهيج لي
طربا ترنمه إذا يترنم
فقيل له: سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت. فقال: عليك بصاحبكم فاكتب شعره فلست تحتاج معه إلى غيره.
235
ويروي المرزباني أن ذا الرمة (؟-117) كان يكتب وأن عيسى بن عمر قال: قال لي ذو الرمة: أنت والله أعجب إلي من هؤلاء الأعراب؛ أنت تكتب وتؤدي ما تسمع، وهؤلاء يهون على أحدهم وقد نحته من جبل أن يجيء به على غير وجهه. قال قلت: إني لم أصل منك بشيء. قال: كنت مشغولا، عد إلي. فعدت إليه فتعاييت في شيء فتهجاه لي فقلت: أراك تكتب يا أبا الحارث. قال: إياك أن يعلم هذا أحد، تعلمت الخط من رجل كان عندنا بالجفر، فكان يجلس إلي من العتمة إلى أن ينكفت السامر يخط لي في تراب البطحاء. وقال شعبة بن الحجاج (؟-160): لقيت ذا الرمة فقلت أكتبني شعرك، فجعل يملي علي ويطلع في الكتاب فيقول: ارفع اللام من السين وشق الصاد، ولا تعور الكاف، فقلت من أين لك الكتاب؟ قال: قدم علينا رجل من الحيرة فكان يؤدب أولادنا فكنت آخذ بيده فأدخله الرمل فيعلمني الكتاب، وأنا أفعل ذلك لئلا تقول علي ما لم أقل.
236
ولم يكن الشعراء وحدهم هم الذين يدونون؛ فقد دون كثيرون في العصر الأموي خطب الخطباء وأقوال الحكماء كخطب الحجاج وزياد وغيرهما،
237
وكان للخلفاء الأمويين كالوليد بن عبد الملك والوليد بن يزيد خزائن فيها كثير من الدفاتر والكتب التي سجلت فيها كتب العلم والأدب والشعر،
238
ويحدثنا صاحب الأغاني أن عبد الحكيم بن عمرو بن عبد الله بن صفوان الجمحي (؟-حوالي سنة 100ه) قد اتخذ بيتا فجعل فيه شطرنجات ونردات وقرقات ودفاتر فيها من كل علم، وجعل من الجدار أوتادا، فمن جاءه علق ثيابه على وتد منها ثم جر دفترا فقرأه أو بعض ما يلعب به فلعب به مع بعضهم، وأن الأحوص الشاعر (؟-105) قد زار هذا البيت بدعوة من صاحبه عبد الحكيم.
239
ولم يقتصر التدوين على الشعر والأخبار كما أسلفنا، بل يظهر أن جماعة من العلماء ألفوا بعض المصنفات الأدبية؛ فهذا صحار بن العباس العبدي ألف في عهد معاوية بن أبي سفيان كتابا جمع فيه أمثال العرب كما يذكر ذلك ابن النديم في الفهرست،
240
وهذا عبيد بن شرية الراوية الإخباري المشهور، وعطاء بن مصعب الراوية المحدث الأديب، والشرقي بن القطامي الأديب النسابة الإخباري، ويونس بن سليمان الكاتب الأديب (؟-حوالي سنة 135)؛ يؤلفون الكتب والمجموعات في الأدب والنسب والأخبار والأمثال والأغاني،
241
وهذا زياد بن أبيه الأمير القائد المشهور يؤلف كتابا في المثالب يتهجم فيه علي من عيروه،
242
ثم جاء من بعده الهيثم بن عدي فألف في المثالب لأنه كان دعيا، فأراد أن ينتقص أهل الأنساب والأشراف،
243
ثم جاء بعدهما النضر بن شميل الحميري وخالد بن سلمة المخزومي (؟-132) وألفا كتاب الواحدة في المثالب.
244
فهذه الكتب كلها قد ألفت في العصر الأموي وتناقل الناس أخبارها كما رووا بعض الأخبار مما ورد في فصولها. ومما ألف في هذا العصر الأموي أيضا من الكتب غير ما سلف ذلك الديوان الضخم الذي جمعت فيه أشعار العرب وأخبارها وأنسابها؛ فقد روى ابن النديم عن أبي العباس ثعلب النحوي أنه قال: جمع ديوان العرب وأشعارها وأخبارها وأنسابها الوليد بن يزيد بن عبد الملك ورد الديوان إلى حماد وجناد.
245
هذه نبذة عن حركة التدوين قبل الإسلام وبعده إلى أواخر العصر الأموي. أما في العصر العباسي، فقد انتظمت تلك الحركة بشكل تام واتبعت طريقة علمية صحيحة في ذلك ووضعوا لها القواعد ورتبوها ونظموها، كما فننوا أصول الكتابة وقواعد النسخ والتدوين وطرائق الخط وأساليب التأليف. قال ابن جماعة الكناني: ويشترط فيمن نصب نفسه للتدوين والتصنيف أن يكون تام الأهلية كامل الفضيلة. إلى آخر الشروط التي اشترطها، وقال الخطيب مبينا فضائل التدوين إنه «يثبت الحفظ ويذكي القلب ويشحذ الطبع ويجيد البيان، ويكسب جميل الذكر وجزيل الأجر.» وقال ابن جماعة في بيان ما يجب على المؤلف والمدون البداءة به: «والأولى أن يعتني بما يعم نفعه وتكثر الحاجة إليه، وليكن اعتناؤه بما لم يسبق إليه تصنيفه متحريا إيضاح العبارة في تأليفه معرضا عن التطويل الممل والإيجاز المخل، مع إعطاء كل مصنف ما يليق به، ولا يخرج تصنيفه من يده قبل تهذيبه وتكرير النظر فيه وترتيبه، وبين الناس من ينكر التصنيف والتأليف في هذا الزمان على من ظهرت أهليته وعرفت معرفته، ولا وجه لهذا الإنكار إلا التنافس بين أهل الأعصار ...»
246
وقد اشترطوا في التأليف منذ فجر عصر التأليف أن يبدأ الكتاب بالبسملة ثم يكتب «قال الشيخ» ويذكر اسمه، ثم يشرع في الكتابة والتدوين، وإذا فرغ من كتابه ختمه بالحمدلة والصلاة على النبي
صلى الله عليه وسلم
وبقوله «آخر الجزء الأول والثاني ويتلوه كذا وكذا» إن لم يكن أكمل الكتاب، فإن أكمله فليقل «كمل الكتاب الفلاني» وكلما كتب اسم الله أتبعه بالعظيم، وكذلك اسم النبي، ولا يكتب «صلعم» ولا «صلسم»، وكذلك إذا ذكر أحدا من الأعلام، ولا يهتم بتحسين الخط بل بصحته وتصحيحه، ويتجنب خط التعليق وهو خلط الحروف التي ينبغي تفريقها، كما يتجنب خط المشق - هو الخط المستعجل المتلاصق الكلمات - وشر القراءة الهرذمة وأجود الخط أبينه، ولا يكتب الكتابة الدقيقة إلا إذا كان فقير الحال عاجزا عن ثمن الورق، أو رغبة في حمل الأسفار، ويكتب بالحبر الأسود الثابت لا بالمداد الملون،
247
وربما كتبوا بعض كتب العلم منذ زمان مبكر جدا بماء الذهب؛ فقد ذكر السمعاني أن أحمد بن مهدي قال: أردت أن أكتب كتاب الأموال لأبي عبيد فخرجت لأشتري ماء الذهب فلقيت أبا عبيد، فقلت يا أبا عبيد إني أريد أن أكتب كتاب الأموال بماء الذهب، فقال اكتبه بالحبر فإنه أبقى.
248
كما اعتنوا منذ القديم بالحبر والمحابر والأقلام والكواغد والمعالم والسكاكين والمقاط والألواح والتجليد، وغير ذلك من أدوات الكتابة وعدد الكتاب، وألفوا في ذلك الكتب، ومن أقدم ذلك كتاب أدب الكتاب للصولي، وطراز الذهب في أدب الطلب لابن السمعاني - وهو مفقود - وكتاب أدب الإملاء والاستملاء للسمعاني أيضا، الذي نشره المستشرق ويسملر، وكتاب المعيد للعلموي. (4) تصنيف العلوم عند العرب
ذكرنا في الباب الثاني شيئا من المواد التي كان الأطفال والشبان يتعلمونها في الكتاتيب ومعاهد الدراسة الأخرى، ونبين في هذا الباب رأي الفلاسفة والمربين المسلمين في تصنيف العلوم.
ولعل أقدم مؤلف عربي تعرض للبحث في هذا الأمر هو المعلم الثاني الفيلسوف أبو نصر الفارابي
249
محمد بن محمد بن أوزلغ (؟-339)، فقد ألف رسالة من هذا البحث سماها «مراتب العلم» أو «إحصاء العلوم»، وقد شاعت هذه الرسالة بين الفلاسفة والمربين؛ فاعتمدها بعده كل من أراد البحث في تصنيف العلوم وتبويبها.
أما الطريقة التي تبعها الفارابي في تصنيفه فقد بينها في مقدمة رسالته فقال:
قصدنا في هذا الكتاب أن نحصي العلوم المشهورة علما علما، ونعرف جمل ما يشتمل عليه كل واحد منها، وأجزاء كل ما له منها أجزاء، وجمل ما في كل واحد من أجزائه، ونجمله في خمسة فصول:
الأول:
في علم اللسان وأجزائه.
والثاني:
في علم المنطق وأجزائه.
والثالث:
في علوم التعليم، وهي العدد والهندسة، وعلم المناظر، وعلم النجوم التعليمي، وعلم الموسيقى، وعلم الأثقال، وعلم الحيل.
والرابع:
في العلم الطبيعي وأجزائه، وفي العلم الإلهي وأجزائه.
والخامس:
في العلم المدني وأجزائه، وفي علم الفقه وعلم الكلام.
250
وغرضه من هذا الكتاب هو أن يبين لمن «أراد أن يتعلم علما من هذه العلوم وينظر فيه، علم على ماذا يقدم وفي ماذا ينظر، وأي شيء سيفيد نظره، وما غناء ذلك، وأي فضيلة تنال به، ليكون إقدامه على ما يقدم عليه من العلوم على معرفة وبصيرة، لا على عمى وغرر، وبهذا الكتاب يقدر الإنسان على أن يقيس بين العلوم، فيعلم أيها الأفضل، وأيها الأنفع، وأيها أتقن وأوثق وأقوى، وأيها أوهن وأوهى وأضعف، وينتفع به في تكشف من ادعى البصر بعلم من هذه العلوم ولم يكن كذلك ... ويتبين أيضا فيمن يحسن علما منها هل يحسن جميعه أو بعض أجزائه ... وينتفع به المتأدب المتفنن الذي قصده أن يشدو جمل ما في كل علم.»
251
والفارابي في هذه المقدمة لم يبين لنا الطريقة التي اتبعها في تصنيف هذه العلوم كما نجده عند من جاءوا بعده من الفلاسفة والمربين، مثل ابن سينا (؟-459) في «الشفاء» الذي أحصى فيه العلوم وفصل الكلام عليها، ومثل جماعة إخوان الصفا الذين كانوا في البصرة في النصف الثاني من القرن الرابع في رسائلهم الاثنتين والخمسين التي ذكروا فيها العلوم وقسموها إلى أقسام أربعة: رياضية، وطبيعية، ونفسانية، وإلهية؛ ومثل ابن حزم الظاهري في كتابه «مراتب العلوم وكيفية طلبها»، ومثل الفخر الرازي (؟-606) في كتابه «حدائق الأنوار في حقائق الأسرار» الذي أحصى فيه العلوم الإنسانية وأبلغها إلى نحو ستين علما.
وقد عمد الفارابي في كتابه إلى سرد العلوم على ترتيب ارتآه متوخيا اتباع الطريقة الطبيعية أو المنطقية في إحصاء العلوم؛ فقد قدم «علم اللسان» وما يتبعه من لغة ونحو وصرف وغيرها لأن هذا العلم هو العلم الذي تستقيم به العبارات وتصحيح الألفاظ فلا بد من تقديمه، ثم أتبعه بعلم المنطق لأنه العلم الذي يعطي جملة القوانين التي من شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب.
252
وكما أن علم اللسان يقوم اللسان، فكذلك علم المنطق يقوم العقل، وهذان العلمان ضروريان لكل من يريد أن يشدو علما من العلوم، وهما في الحقيقة ليسا علمين مقصودين وإنما هما آلتان تخدمان العلوم.
أما العلوم الحقيقية فهي نوعان:
علوم نظرية:
وهي علم التعاليم وعلم الطبيعة، وعلم ما بعد الطبيعة «الإلهي».
وعلوم عملية:
وهي العلم المدني، وعلم الفقه، وعلم الكلام.
أما «علم اللسان» فهو سبعة أقسام:
علم الألفاظ المفردة في لغة أمة ما من أصيل ودخيل.
علم قوانين الألفاظ المفردة من معاني الألفاظ واشتقاقها وصرفها ونحو ذلك.
علم قوانين الألفاظ المركبة التي صنفها خطباؤهم وكتابهم وشعراؤهم.
علم قوانين الألفاظ عندما تتركب في أطراف الكلم أو في أحوال التركيب.
علم قوانين الكتابة والإملاء.
علم قوانين القراءة.
علم الأشعار وأوزانها وقوافيها وألفاظها.
أما علم المنطق فهو الصناعة التي من شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو الصواب في كل ما يمكن أن يغلط فيه من المعقولات.
وأما العلوم النظرية، فهي علوم تحصل بها معرفة الموجودات التي ليس للإنسان أن يفعلها، وهي ثلاثة أقسام:
علم الرياضة:
وهو الذي سماه علم التعاليم،
253
ويبحث في علم العدد والهندسة، والمناظر - وهو ما يطلق عليه باللغة الأوروبية اسم
perspective - والنجوم، والموسيقى، والأثقال، والحيل - وهو ما يطلق عليه باللغات الأوروبية اسم
mecanique .
علم الطبيعة:
وهو الذي يبحث في معرفة الأجسام الطبيعية وأعراضها وأحوالها.
علم ما وراء الطبيعة:
وهو الذي يبحث في العلم الإلهي، وهو أشرف العلوم وما سواه خدم له؛ ولذلك كان بعض الفلاسفة يسمونه العلم الأعلى، ويسمون العلم الرياضي بالعلم الأوسط، والعلم الطبيعي بالعلم الأدنى.
وأما العلوم العملية، فهي التي تعلم الحكمة العملية في الحياة من أخلاق وسياسة. وتنقسم إلى قسمين:
العلم المدني:
وهو الذي يبحث عن أصناف الأفعال والسنن الإرادية والملكات والأخلاق والشيم التي تصدر عن الأفعال الجميلة والقدرة على أسبابها، وبه تصير الأشياء الجميلة قنية للإنسان.
العلم السياسي:
وهو الذي يبحث عن الأمور التي تحصل الأشياء الجميلة لأهل المدن والقدرة على تحصيلها وحفظها لهم.
وقد أتبع الفارابي هذين القسمين قسما ثالثا هو علم «الفقه الإسلامي» و«الكلام الإسلامي»؛ لأن صناعة علم الفقه هي التي يقتدر بها الإنسان على أن يستنبط تقدير شيء مما لم يصرح واضع الشريعة بتحديده على الأشياء التي صرح فيها بالتحديد والتقدير، وأن يتحرى تصحيح ذلك حسب غرض واضع الشريعة بالعلة التي شرعها في الأمة التي لها شرع، وكل ملة فيها آراء وأفعال؛ فالآراء مثل الآراء التي تشرع في الله وفيما يوصف به، وفي العالم أو غير ذلك، والأفعال مثل الأفعال التي يعظم بها الله، والأفعال التي بها تكون المعاملات في المدن؛ فلذلك يكون علم الفقه جزأين: جزء في الآراء، وجزء في الأفعال.
254
وكلام الفارابي هذا غير مسلم به على إطلاقه ؛ لأنه يفهم منه أن «علم الفقه» يشتمل على نوعين من البحث؛ أولهما: «علم الفقه» نفسه، والثاني: «علم العقائد». وقد يمكن قبول هذا التعميم خصوصا، وقد ذهب إليه غير الفارابي كالحاج خليفة في كشف الظنون. وأما الذي لا يمكن قبوله فهو جعله «علم العقائد» من العلوم التي يدخلها القياس؛ فهذا قول غريب لم يقل به أحد غيره، ولا يقبله المنطق الديني السليم؛ لأن العقائد لا تثبت بالقياس والاستدلال، بل لا بد فيها من ورود نصوص شرعية تثبتها وتدل عليها.
هذه هي أصناف العلوم على ما ارتآه الفارابي، وهذا هو تقسيم العلوم الإنسانية في نظره كما قرره في رسالته «إحصاء العلوم» وكتابه «التنبيه على سبيل السعادة»، والظاهر أن هذا التقسيم قد اتبعه من بعده أكثر الفلاسفة والمربين الذين كتبوا في تصنيف العلوم، وقد اتبعوا هذا التقسيم لسهولته وانتظامه، ولعل أفضل من بحث في هذا الأمر من العلماء المتأخرين ودقق فيه وأجاد في تفريعه وتقسيمه؛ العلامة المولى أحمد بن مصطفى طاش كبري زاده (؟-962)، فقد أفاض فيه وقسم العلوم تقسيما آخر حيث يقول:
اعلم أن للأشياء وجودا في أربع مراتب؛ في الكتابة، والعبارة، والأذهان، والأعيان. وكل سابق منها وسيلة إلى اللاحق؛ لأن «الخط» دال على «الألفاظ» وهذه على ما في «الأذهان» وهذا على ما في «الأعيان». ولا يخفى أن الوجود العيني هو الوجود الحقيقي الأصيل، وفي الوجود الذهني خلاف في أنه حقيقي أو مجازي، أما الأولان فمجازيان قطعا. ثم العلم المتعلق بالثلاث «آلي» البتة، وأما التعلق بالأعيان فإما «عملي» لا يقصد به حصول نفسه بل غيرها، وإما «نظري» يقصد به حصول نفسه فقط؛ ثم كل منهما إما أن يبحث فيه من حيث إنه مأخوذ من الشرع فهو «العلم الشرعي»، أو من حيث إنه مقتضى العقل فهو «العلم الحكمي»؛ فهذه الأصول السبعة، ولكل منها أنواع ولأنواعها فروع، يبلغ العلم على ما اجتهدنا في الفحص والتنقير عنه بحسب موضوعاته وأساميه وتتبع ما وقع فيه من المصنفات إلى مائة وخمسين نوعا، ولعلي سأزيد عليه،
255
ولا نريد ها هنا أن نعدد أنواع العلوم التي أوصلها إلى ثلاثمائة وستة عشر علما، وإنما نريد أن نبين الأصول السبعة التي أشار إليها، وقد قسمها إلى دوحات سبع:
فالدوحة الأولى:
في العلوم الخطية.
والدوحة الثانية:
في العلوم اللفظية؛ المفردات والمركبات.
والدوحة الثالثة:
في علوم باحثة عما في الأذهان من المنطق والجدل والخلاف.
والدوحة الرابعة:
في علوم باحثة عما في الأعيان من العلم الإلهي، والطبيعي، والرياضي.
والدوحة الخامسة:
في علوم باحثة عن الحكمة العملية من علم الأخلاق وتدبير المنزل والمدينة.
والدوحة السادسة:
في علوم باحثة عن الشريعة من قرآن وحديث وتفسير وأصول وفقه.
256
وقد استوفى إحصاء العلوم وتعدادها وترتيبها أحسن استيفاء، وذكر في كل علم مشهور كتبه وأئمة مؤلفيه مع الدقة الفائقة، والترتيب المنطقي الجميل، والإحصاء الصحيح، وبخاصة علوم العرب والإسلام.
ولا ريب في أن هذه العلوم قد درست في عصور الإسلام الخمسة الأولى دراسات مختلفة بحسب طبيعة الزمان والمكان والظروف؛ ففي القرن الأول كانت عناية الناس بعلوم الدوحتين السادسة والسابعة؛ أعني علوم الدين من قرآن وحديث وتفسير وفقه، كما كان لهم بعض اهتمام بعلوم الدوحتين الأولى والثانية؛ أعني علوم الخط والكتابة والإملاء والمفردات، مع قليل من علوم الدوحة الرابعة كبعض فروع العلم الطبيعي والعلم الرياضي.
وفي القرن الثاني عني الناس بعلوم الدوحة الأولى والثانية والرابعة والخامسة والسادسة، وكان اهتمام خلفاء بني أمية في آخر عهدهم وخلفاء بني العباس في أول عهدهم حتى عصر الخليفة الهادي؛ اهتماما ضيقا بعلوم هذه الدوحات التي أشرنا إليها. كما أن التأليف في علوم هذه الدوحات لم يكن شيئا مذكورا حاشا الدوحتين الثانية والسادسة.
وفي القرن الثالث والرابع عني الناس بعلوم جميع الدوحات، ونشطت همم الناس إلى علوم الدوحات الثالثة والرابعة والخامسة، وهي علوم المنطق والجدل والإلهيات والطبيعيات والرياضيات، وعلوم الحكمة العملية، كما أن علوم الدوحتين الثانية والسادسة؛ أعني علوم المفردات والمركبات وعلوم الشريعة، قد اهتم المؤلفون بها اهتماما ملموسا، وألفت فيها كتب المراجع والأمهات والبحوث القيمة.
وفي القرن الخامس وما بعده ارتقت علوم الدوحات كلها وكثرت فيها التآليف والبحوث ما خلا بعض علوم الدوحة الرابعة؛ أعني علم الإلهيات والطبيعيات، فإنها قد اعتورها بعض الانحطاط لانصراف الناس عنها إلى علوم اللغة والدين، ولمحاربة بعض الأمراء ورجال الدين إياها في المشرق وبلاد الأندلس والمغرب بصورة خاصة؛ فالمدرسة النظامية ببغداد والمدارس النظامية الأخرى في العواصم الإسلامية كانت لا تهتم بغير علوم العربية والدين، وأما العلوم الفلسفية والطبيعية والإلهية فإنها كانت تكون في الدرجة الرابعة والخامسة، وربما كانوا لا يهتمون بها أصلا. وكذلك كان الحال في المعاهد الأخرى التي شيدت بعد النظاميات وعلى غرارها في عواصم العالم الإسلامي، ولم يبق لعلوم الفلسفة والحكمة ما كان لها من شأن في عهد دار الحكمة ببغداد ودار العلم بالقاهرة، اللهم إلا دراسات الطب وما إليه، كالذي رأيناه في البيمارستانات معاهد الطب. (5) كتب التربية والتعليم عند العرب والمسلمين
ألف العرب والمسلمون في التربية والتعليم كتبا جليلة ومتنوعة منذ عهد مبكر. واهتموا بدراسة الأطفال وأحوالهم، وطرائق تعليمهم وأنجعها في ذلك. ولم يكن شأن المغاربة أقل من شأن المشارقة في هذا الموضوع الهام. وسنبين في هذا الباب ملاحظاتنا ودراساتنا، كما سنعرض للقارئ لائحة مفصلة عن بعض هذه الكتب وأصحابها، نرجو أن تكون موفية بالغرض. (5-1) كتاب آداب المعلمين لابن سحنون
إن أقدم كتب التربية العربية - فيما نعلم - هو كتاب «آداب المعلمين» مما دونه الإمام المربي الفقيه محمد بن سحنون المغربي (؟-226) عن أبيه الإمام الفقيه سحنون.
وهو كتاب لطيف الحجم ألفه محمد في سياسة الأطفال وتعليم الصبيان وتأديبهم، وبحث شيء من قواعد التربية وآدابها عند المسلمين. وقد طبعه الأستاذ العلامة حسن حسني عبد الوهاب الوزير التونسي المعروف في تونس سنة 1350ه ضمن مطبوعات اللجنة التونسية لنشر المخطوطات العربية، وقدم له بمقدمة مطولة مفيدة، كشفت عن قيمة الكتاب وفضله. ومن يتصفح الكتاب يجد فيه معلومات مفيدة جدا عن القواعد الأولية التي كان العرب والمسلمون بصورة عامة يتبعونها في تعليم أولادهم منذ فجر الإسلام حتى أواسط القرن الثالث للهجرة، وها أنا ذا مثبت فيما يلي عنوانات فصول الكتاب ليتبين القارئ الموضوعات التي تعرض إليها، والمعلومات التي كان المربون المسلمون يحرصون عليها: (1)
ما جاء في تعليم القرآن العزيز. (2)
ما جاء في العدل بين الصبيان. (3)
باب ما يكره محوه من ذكر الله. (4)
ما جاء في الأدب وما يجوز في ذلك وما لا يجوز. (5)
ما جاء في الختم وما يجب في ذلك للمعلم. (6)
ما جاء في القضاء بعطية العيد. (7)
ما يجب للمعلم من لزوم الصبيان. (8)
ما جاء في إجارة المعلم ومتى تجب. (9)
ما جاء في إجارة المصحف وكتب الفقه.
فالكتاب - كما ترى - يبحث في فصول تتعلق بآداب التربية العربية، وشيء من طرق تعليم الأطفال عند المسلمين والمواد التي يجب عليهم أن يدرسوها، كما يبحث في شيء من آداب المعلمين والمربين، وفي بعض المسائل العامة التي تتعلق بهذا الموضوع. وهو - على الرغم من أنه سلك فيه مسلك المحدثين - كتاب ممتع غني بالفوائد، جمع كثيرا من النصوص القيمة التي بينت لنا كثيرا من الأوضاع التي نجهلها عن تربية الطفل وتأديبه وتعليمه وتهذيبه في فجر الإسلام وعصر بني أمية وأوائل العصر العباسي.
والكتاب قد أزاح لنا الستار عن معلومات كنا نعتقد أنها لا بد كانت موجودة لدى المسلمين ولكنا نجهل تفصيلها، فإذا بابن سحنون يرويها لنا عن أبيه عن شيخه الإمام مالك إمام المدينة، وعن غيره من الأئمة الأعلام والشيوخ الأكابر الذين عاصروا الصحابة فعرفوا عن كثب طريقة التربية العربية الإسلامية.
ولا عجب في أن يؤلف ابن سحنون المغربي كتابه المفيد هذا في القرن الثالث؛ فإن الكتاتيب - كما رأيت سابقا - كانت معروفة في المغرب - كما كانت معروفة في المشرق - وأن المسلمين في المغرب قد أنشئوا الكتاتيب منذ أواسط القرن الأول للهجرة، فإن الفاتحين حينما خططوا القيروان أنشئوا الدور والمساجد، ثم التفتوا إلى صبيانهم يعلمونهم الكتاب الكريم وحديث الرسول العظيم والآداب الإسلامية؛ فقد حكى العالم المغربي غياث بن شبيب في سنة 78 قال: كان سفيان بن وهب صاحب رسول الله يمر علينا ونحن غلمة بالكتاب فيسلم علينا وعليه عمامة أرخاها من خلفه.
257
ويقول ابن عساكر: إن إسماعيل بن أبي المهاجر المخزومي الذي كان يؤدب أولاد الخليفة عبد الملك بن مروان قد استعمله على إفريقية في سنة مائة للهجرة.
258
ولا شك في أن هذا الأمير المعلم لما تولى إفريقية عني بالتعليم فيها، كما عني بنشر الكتاتيب ودور العلم بين سكان تلك البلاد، خصوصا إذا علمنا أن عامة أمم البربر قد أسلمت على يديه في أيام عمر بن عبد العزيز، وهو الذي علم أهل إفريقية مباحث الحلال والحرام، وبعث معه عمر بن عبد العزيز عشرة من فقهاء التابعين وأهل العلم والفضل ليفقهوا أهل إفريقية، ومنهم عبد الرحمن بن نافع وسعيد بن مسعود التجيبي، وغيرهما من فحول علماء التابعين.
259
وقد علق الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب على هذا الخبر بقوله: ولو أردنا استقصاء مثل هذه الأخبار الواردة في خصوص عناية أسلافنا بالتعليم في الأجيال العربية الأولى لطال بنا الحديث ... ولم يزل شأن الكتاتيب في نمو وعددها في ازدياد وتكاثر في العاصمة وفي المدن الإفريقية الكبيرة، حتى لم يخل منها درب من الدروب أو حي من الأحياء ... ولا عجب إذا اعتبرت الكتاتيب في القديم كملحقات للمساجد وتوابع لها، بل إنها وجدت أيضا في دور الأعيان والأغنياء، وبالأحرى في قصور الوزراء والأمراء ...»
260
أما مذهب المغاربة في تعليم أبنائهم وطريقة ذلك وأول ما يجب تعليمه، فلم ينص عليه ابن سحنون، اللهم إلا إذا اعتبرنا أن ما اشترطه ابن سحنون على المعلم هو الذي كان يدرس في زمانه، وإنما أشار إلى ما ذكره من الفنون لتقرير الواقع يومئذ، فقد اشترط على المؤدب أن يعلم الطالب فنونا وعلوما جعلها على قسمين:
أحدهما إجباري:
وهو القرآن مع إعرابه ورسمه وشكله وإتقان هجائه وقراءته قراءة حسنة، والأنسب أن تكون قراءة نافع لأن مالكا إمام المغاربة أخذ عن نافع، وليحذر المعلم من التغني بالقرآن والتلحين والترجيع.
والثاني اختياري:
وهو الذي لا يجبر المعلم على تعليمه ما لم يشترط الولي على المؤدب ذلك، وهو علم الحساب ثم الشعر فإنه ديوان العرب ومعجم لغتهم، ثم أخبار العرب وأنسابهم، ثم النحو والغريب، ثم الخط الحسن، ثم تدريبهم على الخطابة. (5-2) كتب الفيلسوف الفارابي
هو أبو نصر محمد بن محمد بن أوزلغ (259-339)، وقد بينا في الباب الثالث آراءه في التربية ومباحثه في التعليم وفيما يجب على الطالب البداءة به من العلوم. ولا ريب في أنه قد ألف في تأديب الأطفال وتهذيب الشبان، ولكن آثاره هذه قد فقدت ولم يبق لنا الدهر منها إلا قليلا، مثل كتاب «آراء أهل المدينة الفاضلة» و«كتاب في السياسة» وهو رسالة لطيفة نشرتها مجلة المشرق البيروتية،
261
وقد ضمن هذه الرسالة القيمة كثيرا من آرائه في تأديب المتعلمين وطرق تثقيفهم، كما فعل ذلك في «آراء أهل المدينة الفاضلة».
وهو يرى فيهما وجوب مراعاة استعداد المتعلمين، والتعرف إلى طبائعهم وطباعهم، وإلا كان التعليم هدرا، كما يرى أيضا أن نقد سلوك الناس والاتعاظ بهم هو خير الأوجه لسياسة النفوس. ويقرر في المدينة الفاضلة أن أول ما يحدث في الإنسان القوة التي يتغذى بها، وهي «القوة الغاذية» ثم من بعد ذلك «القوى التي بها يحس» الملموس ... والمطعوم، والمشموم، والمسموع، والمبصرات، وأن القوة الحاسة لها رئيسة ولها رواضع، فرواضعها هي الحواس الخمس، والرئيسة هي التي تجمع فيها جميع الحواس الخمس بأسرها، وكأن هذه الحواس الخمس هي منذرات تلك، وكان هؤلاء أصحاب أخبار، كل واحد منهم موكل بجنس من الأخبار، وبأخبار ناحية خاصة من نواحي المملكة والرئيسة كأنها الملك الذي تجتمع عنده الأخبار، ثم يحدث فيه من بعد ذلك قوة أخرى يحفظ بها في نفسه المحسوسات بعد غيبتها عن مشاهدة الحواس، وهي «القوة المتخيلة»، ثم من بعد ذلك تحدث فيه «القوة الناطقة» التي بها يمكن أن يعقل المعقولات، وبها يميز الجميل من القبيح، وبها يحوز الصناعات والعلوم، وهذه القوى الثلاث - الحاسة والمتخيلة والناطقة - يقترن بها نزاع النفس إلى ما يحس أو يتخيل أو يعقل فتشتاقه أو تكرهه، وهناك قوة أخرى هي «القوة النزوعية»، وهي التي بها تكون الإرادة، وللقوة النزوعية خدم بالبدن، هي قوى متفرقة في الأعصاب والعضلات السارية في اليدين والرجلين، وسائر الأعضاء التي يمكن أن تتحرك بالإرادة فتحدث الأفعال التي نزوع الحيوان والإنسان إليها، وإن في الإنسان والحيوان من الأعصاب صنفين؛ أحدهما آلات أعصاب الحس، والثاني آلات أعصاب الحركة، وهذه الأعصاب فيها طائفة مفارزها في الدماغ، وطائفة مفارزها في النخاع النافذ، وهذا متصل من أعلاه بالدماغ.
وبمثل هذه المعلومات الدقيقة، والتحليلات النفسية المرهفة، وأبحاث علم النفس الصادقة، المأخوذة عن التجارب والدراسات الشخصية، يحاول هذا الفيلسوف الكبير أن يوجه المعلمين والمربين من أهل الملة المحمدية إلى تهذيب ناشئة الملة، وتأديب أبنائها من شباب وبنات تهذيبا رفيعا معتمدا على أصول علم النفس ودراسة الإنسان. (5-3) كتاب القابسي
القابسي هو الإمام المصلح أبو الحسن علي بن خلف القابسي (؟-403) الفقيه المؤلف الموثوق وصاحب كتاب «الرسالة المفصلة لأحوال المعلمين، وأحكام المعلمين والمتعلمين»، وقد نشره الدكتور أحمد فؤاد الأهواني بمصر في ذيل رسالته التي نال بها درجة الدكتوراه، وموضوعها «التعليم في رأي القابسي»، وكتاب القابسي هو من أمتع الكتب التربوية وأفضلها، ولعله من أوسع ما أثر في الخزانة العربية من كتب التربية والتعليم.
وقد صدر القابسي كتابه بفصل ذكر فيه تفسير «الإيمان» و«الإسلام» و«الإحسان» و«الاستقامة»، وكيفية الصلاح، ثم ذكر فصولا عناوينها كما يلي: (1)
ما جاء في فضائل القرآن، وما لمن تعلمه وعلمه، وآداب حامله ... ومن يعلم الإناث. (2)
ما يأخذه المعلمون على المتعلمين، وما يصلح أن يعلم للصبيان مع القرآن وما لا يصلح، وهل يعلم المسلم النصراني، والنصراني المسلم. (3)
سياسة معلم الصبيان وقيامه عليهم وعدله فيهم ... وكيف يرتب لهم أوقاتهم لدرسهم وكتابتهم، وأوقات بطالتهم، وحد أدبه إياهم، والمكان الذي يعلمهم فيه ... وهل يشترك معلمان أو أكثر. (4)
الأحكام بين المعلمين والصبيان. (5)
خاتمة في معنى الحديث القائل: نزل القرآن على سبعة أحرف.
وقد أطال القابسي في تبيين فصول الكتاب وبيان دقائق المشاكل التربوية التي عرض لها، وهو وإن استعان بكثير من أقوال ابن سحنون ، فإنه قد وسع الموضوع ونقل كثيرا من المعلومات عن شيوخه وأساتذة عصره والعصور التي سبقته مما لا نجده في كتاب ابن سحنون. يقول الدكتور الأهواني: إن ما نقله القابسي عن كتاب ابن سحنون يكاد يكون بلفظه في بعض المواضع، وباختلاف يسير في مواضع أخرى كحذف السند عن رأي فقيه، أو تغيير في العبارة دون إخلال بالمعنى. على أن القابسي لم يكتف بما أخذه عن كتاب «آداب المعلمين»، بل نقل عن الفقهاء الذين أخذ عنهم سحنون وابنه، كابن القاسم وابن وهب وغيرهما. فإذا كان لابن سحنون فضل الصدارة في تحرير كتاب خاص في تعليم الصبيان، فللقابسي مزية التوسع في هذا الموضوع والإفاضة في أبوابه المختلفة، والترتيب الذي يدل على استقرار فكرة التعليم في الذهن، والعمل على بيان السبل المختلفة المؤدية إلى تحقيق الغاية المنشودة؛ فالقابسي يسجل في كتابه أحوال تعليم الصبيان في القرن الرابع، وابن سحنون يدون هذه الأحوال في القرن الثالث.
262
ومهما يكن من أمر فإن كتاب القابسي قد بحث لنا كثيرا من أمور التعليم العربي في عصور الإسلام الأولى، وكشف لنا عن الجهد القوي الذي كان المسلمون يبذلونه لتحقيق فكرة محو الأمية من صفوف الأمة المسلمة، والدعوة إلى نشر الدين والكتاب الكريم عن طريق نشر الكتابة وتعميم التعليم.
ولقد كان للمربين المسلمين - على اختلاف أمصارهم وأعصارهم وأجناسهم - أثر كبير واضح في تعميم التعليم، وتقوية أركان الثقافة في الدولة الإسلامية. وكتاب القابسي صورة مصغرة تبين لنا أهمية ذلك الأثر وعمق مداه. (5-4) كتب الفيلسوف المؤرخ مسكويه
كان الفيلسوف المؤرخ أحمد بن محمد بن يعقوب المعروف بمسكويه (325-421) من أفاضل رجال عصره بارعا بعلوم الأدب والفلسفة والتاريخ والتربية، واتصل ببني بويه اتصالا قويا حتى إن عضد الدولة جعله خازن كتبه، ونديما له، ورسولا عنه، وكاتما لأسراره، كما اتصل بأولاد عضد الدولة بعده فأكرموه وعظموه. وكانت بينه وبين ابن سينا وأبي حيان التوحيدي وبديع الزمان الهمذاني مساجلات ومناقشات. وقد خلف في الخزانة العربية كتبا جليلة في التربية والفلسفة فضلا عن كتبه في التاريخ والطب والأدب والعربية والفارسية،
263
ومن تلك الكتب التربوية التي خلفها لنا هذه الكتب الثلاثة: (أ)
رسالة وصيته لطالب الحكمة:
264
وهي وصية جد ثمينة نصح فيها طالب الحكمة والمعرفة، وهي من أنفس ما في الخزانة العربية من رسائل التربية والتوجيه والتعليم؛ فقد بدأها بإسداء النصائح التربوية والنفسية الواجب على طالب الحكمة أن يسلكها، وإليك بيان ذلك:
أوصى مسكويه طالب الحكمة بأن يطهر قلبه ويقضي على المشاعر الوضيعة في النفس حتى تصفو وتذهب عنها الشهوات كالحقد والحسد، ثم يقول: «وقد رأينا من أراد الغرس في أرض يبدأ فيقتلع ما فيها من غرائب النبت، ثم يأتي بكرائم الغرس فينصبه فيها، وكذلك من طلب الحكمة ورغب في اقتنائها فهو حقيق أن يبدأ بما في قلبه من أضدادها فيمحقها ويطهره منها.» ثم يدعوه أن يجمع سائر قواه العقلية ويركزها في تفهم أمر أنواع الموجودات المختلفة في هدوء وسكينة؛ فإن الحكمة وما تتطلبه من نظر وتدبر هي أم الفضائل التي ترفع من قدر الناس، وهي ضرورية لسائر الناس خيرهم وشرهم؛ «لأن من فقد الحكمة من أهل الخصال الحسنة ضاعت خصاله، ومن فقدها من غيرهم هلك كل الهلاك.» فالحكمة وسيلة لإصلاح النفس، ومن عجز عن إصلاح نفسه بجميع الوصايا الحكمية فليأمر غيره بها. وفي آخر هذه الوصية يسمي إطالة نظر العقل فيما حصله «ذهنا»، ويقول: إن الذهن لا ينام ولا يسكن ولا يحتاج إلى تذكير، وهذه الدرجة العقلية هي الدرجة العليا، وبها يشبه الإنسان الملائكة والأرواح الطاهرة. (ب)
رسالة وصية أخرى له:
ذكر هذه الوصية ياقوت، وهي مهمة جدا؛ لأنها تلخص آراء مسكويه في الأخلاق والتربية وما يجب على المربي أن يدعو الوليد إليه ويتعلمه ويتخلق به من الفضائل الخلقية والكمالات النفسية؛ فهو يدعو الطالب إلى أن يتحلى بالفضائل الأربع الكبرى، وهي: الحكمة والعفة والشجاعة والعدالة، ثم ينصحه أن يتحلى بفضائل، هي: إيثار الحق على الباطل في الاعتقاد، والصدق على الكذب في القول، والخير على الشر في الفعل، وكثرة الجهاد؛ ثم يوصيه ببعض الأخلاق العملية في الحياة كحفظ الوعد، وقلة الثقة بالناس، ومحبة الجمال، والصمت في أوقات حركات النفس للكلام حتى يستشار فيه العقل، وترك الخوف من الموت والفقر، وترك الاكتراث لأقوال أهل الحسد، وحسن احتمال الغنى والفقر، والكرامة والهوان، وذكر المرض وقت الصحة، والهم عند السرور، والمرض عند الغضب.
وقد اهتم مسكويه بأمور الشريعة اهتماما لم ينصرف إليه ذهن من سبقه من المربين والفلاسفة في الإسلام؛ فلقد كانت «الأخلاق» مادة ثانوية في أبحاثهم الفلسفية، واهتموا خاصة بالطبيعيات كالكندي، وبالمنطق والإلهيات كالفارابي، وبالترجمة والنقل كيحيى بن عدي، والأخلاق تطغى على حدود ما خصص لها مسكويه من مؤلفات فتلقي ظلها على معظم كتبه، فترى ذلك واضحا في كتابه «تجارب الأمم»، فإن عرض هذا التاريخ عرض أخلاقي، وهو الاعتبار بحوادث التاريخ وأخذ العظات منها، وكذلك الحال في كتابه «أنس الفريد» المفقود، فإن غرضه فيه تقويم أخلاق الفرد عن طريق القصص والحكايات.
265 (ج)
كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق:
هو كتاب مشهور ومطبوع عدة مرات، ويحتوي على عدة مقالات في الأخلاق والتربية، وقد أفاد صاحبه من معلومات الفلاسفة الإغريق ودراساتهم في التربية والأخلاق إفادات عظيمة، واختار منها ما يلائم نفس الطفل المسلم، ومزج ذلك بالتراث العربي القديم. يقول: «فمن اتفق له في الصبا أن يربى على أدب الشريعة ويؤخذ بوظائفها وشرائطها حتى يتعودها، ثم ينظر بعد ذلك في كتب الأخلاق حتى يتأكد تلك الآداب والمحاسن في نفسه، ثم ينظر الحساب والهندسة حتى يتعود صدق القول وصحة البراهين، ثم يتدرج في منازل العلوم؛ فهو السعيد الكامل ... ثم يذكر فصلا عن كيفية تأديب الأطفال وتهذيبهم، وقد نقل كثيرا مما فيه من كتاب بروسن الذي نقله عن فلوطرخس، مع بعض التحوير الذي يلائم البيئة العربية الإسلامية، ولكن مع هذا كله ظل الطابع الإغريقي واضحا على أقواله. وصفوة القول أن مسكويه في نصائحه الأخلاقية ومباحثه التربوية والنفسية متأثر إلى حد بعيد جدا بالتراث اليوناني، أما الآثار الشرقية من عربية وإسلامية وغيرها فقليلة، وللدكتور عبد العزيز عزت بحث مطول ختم فيه كتابه عن مسكويه، وذكر فيه مصادر مسكويه الفلسفية بدقة، فليرجع إليه. (5-5) رسائل إخوان الصفاء
أشرنا في الباب الثالث إلى شيء من آراء إخوان الصفاء في تصنيف العلوم. ونحب هنا أن نبين أن هؤلاء الإخوان كانوا جماعة من الفلاسفة الباطنيين الذين مزجوا الدين بالفلسفة القديمة، وأرادوا تأييد الحركات الباطنية في الإسلام، كما أرادوا تشجيع الحركة الإسماعيلية عن طريق الفلسفة. وقد دونوا في رسائلهم الاثنتين والخمسين ما كان معروفا في عصرهم من العلوم والفنون، وصنفوا ذلك إلى أقسام أربعة:
الأول:
في الرياضة والصناعات والمنطق.
الثاني:
في علوم الطبيعة وما إليها.
الثالث:
في بحوث النفس والحياة والموت واللذة والألم، وفي اللغات والنشوء والارتقاء، وفي السمعيات كالبعث والقيامة.
الرابع:
في الإلهيات وما يتصل بها من مباحث الديانات والشرائع والتصوف.
والذي يهمنا هنا هو رأيهم في الشريعة والتعليم؛ فهم يرون أنه يجب أن تكون الغاية من التعليم دينية لا غير، ولكنهم يعترفون بأن للتعلم فوائد اجتماعية ومادية، وأن العلم «يكسب صاحبه الشرف وإن كان دنيئا، والعز وإن كان مهينا، والغنى وإن كان فقيرا، والقوة وإن كان ضعيفا، والنبل وإن كان حقيرا.»
266
ويرون وجوب السير في التعليم من المحسوسات إلى النظريات؛ لأن النظر في مبادئ الأمور المحسوسة يروض بها عقله، ويقوى على النظر في مبادئ الأمور المعقولة، ويرون أيضا أن تشمل مناهج التربية العالية: مباحث علم النفوس، والعقل والمعقول، والحاس والمحسوس، والعلة والمعلول، والنظر في أسرار الكتب الإلهية والتنزيلات النبوية، والرياضيات وما إليها ... على أن العناية يجب أن تكون في العلوم الإلهية.
وهم يرون أيضا أن قبول الصبيان تعلم الصنائع يختلف بحسب اختلاف طبائعهم المختلفة، واختلاف طبائعهم بحسب مواليدهم، ويرون أن صناعات الآباء أنجع في الأولاد من صناعات الأغراب.
وهم يرون أيضا أن اختلاف أخلاق الناس وطبائعهم سببه أربعة أشياء: (1) أخلاط أجسادهم ومزاج أخلاطها. (2) تربة بلدانهم واختلاف أهويتها. (3) نشوؤهم على ديانات آبائهم ومعلميهم. (4) موجبات أحكام النجوم في أصول مواليدهم. والأسباب الثلاثة معقولة أقرها العلم، أما السبب الرابع فخرافة لا أصل له.
وهم يرون أيضا وجوب التواضع والخضوع التام لمن يتعلم المرء منه ، والتعظيم له ومعرفة حقه، ووجوب الشفقة والرفق الكامل بمن يعلمه، وقلة الضجر من إبطاء فهمه، وقلة الطمع في أخذ ماله، وقلة المنة عليه.
ويرون أيضا أن الطالب محتاج إلى سبع خصال: (1) السؤال والصمت. (2) الاستماع. (3) التفكر. (4) العمل. (5) طلب الصدق من نفسه. (6) كثرة الذكر أنه إنه من نعم الله. (7) ترك الإعجاب بما يحسن.
هذه هي القواعد والأصول التي يرى الفلاسفة الإخوان وجوب أخذ طالب العلم نفسه بها، كما يرون أن من اتصف بها بلغ الكمال في العلم الدنيوي، وبلغ الهناء والاستقرار في العرفان الديني. (5-6) كتب الفيلسوف الشيخ الرئيس
أورد الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن الحسن بن علي بن سينا (370-438) في أكثر كتبه الباقية بالعربية والفارسية بعض آرائه المتعلقة بتأديب الأطفال وتربية الصبيان، ولكن رسالته المسماة «كتاب السياسة»
267
قد جمعت معلومات جد مفيدة؛ فقد ابتدأها بوجوب اختيار المرضعة للوليد، ثم إذا فطم الوليد عن الرضاع بدئ بتأديبه ورياضة أخلاقه قبل أن يهجم على الأخلاق اللئيمة، فإن الصبي تبادر إليه مساوئ الأخلاق فما تمكن منه من ذلك غلب عليه، فلم يستطع له مفارقة ... فإذا اشتدت مفاصل الصبي واستوى لسانه وتهيأ للتلقين ووعى سمعه أخذ في تعلم القرآن وصور له حروف الهجاء، ولقن معالم الدين ... ثم يروي الصبي الرجز ثم القصيد.
ويرى ابن سينا أن يتعلم الطفل في الكتاب لا في البيت «لأن انفراد الصبي الواحد بالمؤدب أجلب لضجرهما ... ولأن الصبي عن الصبي ألقن وهو عنه آخذ وبه آنس ... وأدعى إلى التعلم والتخرج؛ فإنه يباهي الصبيان مرة، ويغبطهم مرة، ويأنف عن القصور عن شأوهم مرة، ثم إنهم يترافقون ويتعاوضون الزيارة، ويتكارمون ويتعاوضون الحقوق، وكل ذلك من أسباب المباراة والمباهاة والمساجلة والمحاكاة، وفي ذلك تهذيب لأخلاقهم وتحريك لهممهم.»
ويشترط ابن سينا في معلم الأطفال أن يكون «عاقلا ذا دين بصيرا برياضة الأخلاق حاذقا بتخريج الصبيان، وقورا، رزينا، بعيدا عن الخفة والسخف، قليل التبذل والاسترسال بحضرة الصبي.»
ومن الأمور الطريفة في رسالة ابن سينا أنه يوصي المربي بوجوب مسايرته للصبي ليتعرف مواهبه، فإذا عرفها أحسن توجيهها، وهذه من أحسن نظريات التربية وأحدثها اليوم، يقول: «ليس كل صناعة يرومها الصبي ممكنة له مؤاتية، لكن ما شاكل طبعه وناسبه، وإنه لو كانت الآداب والصناعات تجيب وتنقاد بالطلب والمرام دون المشاكلة والملاءمة، إذن ما كان أحد غفلا من الأدب، وعاريا من صناعته، وإذن لأجمع الناس كلهم على اختيار أشرف الصناعات ... وينبغي لمدبر الصبي إذا رام اختيار الصناعة أن يزن أولا طبع الصبي ويسبر قريحته، ويختبر ذكاءه، فيختار له الصناعة بحسب ذلك ...» وأغلب ظني أن ابن سينا قد استفاد كثيرا من آرائه في هذه الرسالة من رسالة الفيلسوف المربي الروماني «كونتليان» الذي عاش حوالي سنة (35-95م)، فقد أورد هذا في كتابه «تربية الخطيب» آراءه في تربية الطفل وتهذيبه على النمط الذي أورده ابن سينا في «رسالة كتاب السياسة». وكتاب كونتليان يعتبر أول كتاب تربوي تصدى فيه صاحبه لمباحث تربوية عند الأطفال ومعالجة مشاكلها وأنظمتها، وقد ابتدأ رسالته بوجوب العناية بانتخاب المرضع من الصالحات الفصيحات حتى يقتبس الولد من كمالها وبيانها ما يشب عليه، فإذا شب وجب على مربيه أن يحفظه منتخبات من أقوال الحكماء والشعراء ... ويجب أن يرسل إلى المدرسة لأن تعليمها أفضل من تعليم البيت، وإن خبث الروح المدرسية والتهجم عليها إنما نشأ من انحلال أخلاق الأسر في العهد الإمبراطوري الروماني؛ فالأولاد في سنيهم الأولى يعتادون كثيرا من الشرور وفي المدرسة تظهر تلك الشرور، فهي لم تصبهم بها، وإنما هم نقلوها من البيت. وإن من حسنات التربية المدرسية وميزتها على التعليم المنفرد في البيت أنها تذكي العقل؛ فالعقول كالنيران تشعلها مخالطة الأقران، وكالمرايا وجلاؤها المعاشرة، وفي المدرسة يتهيأ ما لا يتهيأ في البيت، والمدرسة تتسع ميادينها لما يضيق عنه المنزل من استثمار كثير من الغرائز كالتقليد والمنافسة وحب الثناء، وصداقة المدرسة تبقى مدى الحياة عقدا مقدسا، ثم إن تربية المدرسة ضرورية لمن سيكون في النهاية خطيبا ...» إلخ، تلك الآراء التي نجدها أو نجد مثالها عند ابن سينا، ولا غرور في أنه قد اقتبس أصولها من لدن الفيلسوف المربي الروماني. (5-7) جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر الأندلسي
هو الإمام المحدث الأديب الراوية المجتهد أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري (؟-463)، وقد ألف كتابا في بيان العلم في مجلدين لطيفين نشرهما الأستاذ منير عبده آغا الدمشقي المصري سماه «جامع بيان العلم وفضله»،
268
وهو من أمتع الكتب التربوية التعليمية وأفضلها. قال في المقدمة: «... سألتني - رحمك الله - عن معنى العلم وفضل طلبه وحمد السعي فيه والعناية به، وعن تثبيت الحجاج بالعلم، وتبيين فساد القول في دين الله بغير فهم ... ورغبت أن أقدم لك قبل هذا من آداب التعلم وما يلزم العالم والمتعلم التخلق به والمواظبة عليه، وكيف وجه الطلب وما حمد ومدح فيه من الاجتهاد والنصب إلى سائر أنواع التعلم والتعليم ونقل ذلك وتلخيصه ...»
269
وقد سلك المصنف فيه مسلك المحدثين لأنه كان من أئمتهم وناهجي منهجهم في التصنيف والبحث؛ فهو يورد الفكرة والخبر في عنوان الفصل ثم يستشهد عليهما بما حفظ من الأحاديث النبوية والآثار الإسلامية، كقوله: باب ما ورد من الأحاديث في وعيد من سئل العلم فكتمه.
باب قوله
صلى الله عليه وسلم
طلب العلم فريضة على كل مسلم ...
وهو يقسم العلم إلى فرض عين، وفرض كفاية، ومباح:
ففرض العين:
ما لا يسع الإنسان جهله من جملة الفرائض الدينية.
وفرض الكفاية:
ما إذا قام به البعض سقط عن أهل ذلك الموضع.
والمباح:
هو العلم الدنيوي.
ثم يذكر فصولا مطولة في الحض على العلم، وآداب العلماء وآداب المتعلمين والمتناظرين والمفتين.
ثم يذكر فصولا جد مفيدة في أحكام القياس وبيان طريقة أهل الرأي والقياس وحسن مذهبهم، واستحسان المحاجة والمناظرة القائمة على المنطق السليم، واستهجان المناظرة التي تهدف إلى المخاصمة والجدال العقيم.
ثم يسهب في بيان ضرر التقليد وسوء أثره ويذمه، ويدعو إلى الاجتهاد والبحث وتحكيم العقل وتربية الطلاب على هذا المربى، وما إلى ذلك من الأمور والمباحث المفيدة. (5-8) كتب الإمام الغزالي
للإمام أبي حامد محمد بن محمد الغزالي (450-505) بحوث وكتب ورسائل عديدة في تربية الأطفال وتعليم النساء والرجال، وأجل هذه الكتب: «الإحياء» و«فاتحة العلوم» و«ميزان العمل» و«الرسائل اللدنية». وقد تشعبت أقوال الإمام أبي حامد في التربية تشعبا عظيما، ولكنها كلها تدور حول جعل الشريعة هي الأساس والمحور المنظم لتربية الأطفال وتوجيههم، ويمكننا إجمال ما أوجبه الغزالي على المتعلم بالنقاط التالية، ولا ريب عندنا في أنه قد استفاد كثيرا من كتب الفلاسفة اليونانيين والرومانيين والفرس، ولكنه هضم ذلك كله ومزجه وطبعه بطابعه الشرقي الإسلامي. وفيما يلي إيجار ملخص لمباحث الغزالي التربوية انتقيناها من الكتب والرسائل التي أشرنا إليها: (1)
يجب على المتعلم أن يطهر نفسه من الرذائل والخبائث الدينية والأخلاقية. (2)
يجب عليه أن يقلل علائقه بالدنيا وأمورها ومشاكلها ومتطلباتها. (3)
يجب عليه أن لا يتكبر على معلمه، بل يلقي إليه زمام نفسه يفعل ما يريده به. (4)
يجب عليه في مبدأ دراسته أن لا يخوض في مباحث الاختلاف والمشاكل؛ فإن ذلك يفسده. (5)
العلوم ثلاثة أنواع: «فرض عين» وهي قضايا الدين وما إليه، و«فرض كفاية» وهي العلوم العربية وما إليها، و«مباح» وهي الشعر والعلوم الدنيوية. (6)
لا يدع طالب العلم بحثا من بحوث العلم المفيدة إلا درسه؛ فإن العلوم متفاوتة، وعليه أن لا يخوض في بحث من بحوث العلم والمعرفة دفعة واحدة، بل يراعي التريث بادئا بالأهم؛ فإن العمر لا يتسع لجميع العلوم، وعليه أن لا يخوض في فن حتى يدرك الفن الذي قبله؛ فإن العلوم مرتبة ترتيبا طبيعيا، وعليه أن يدرك أن علوم الدنيا ثمرتها في الحياة الفانية، وعلوم الدين في الحياة الباقية، فليفضل الباقي على الفاني. وعليه أن يقصد بالعلم تحلية الباطن بالفضائل وتخليته من الرذائل، ولا يقصد به عرض الدنيا والرياسات ومماراة السفهاء، ولا ينبغي عليه مع هذا أن ينظر باحتقار إلى العلوم التي هي فرض كفاية أو مباحة.
أما ما يجب على المعلم فهو: (1)
الرحمة بالمتعلم والشفقة عليه، وأن يعامله كولده. (2)
أن لا يطلب على التعليم أجرا؛ فإن أجره عند الله. (3)
أن لا يدع نصح المتعلم، وينبهه على أن الغرض من العلم هو التقرب من الله دون الرياسات والمباهاة. (4)
أن يقوم اعوجاج المتعلم بأسلوب حكيم ما أمكن ذلك. (5)
أن لا ينفره من غير العلم الذي يعلمه إياه، كأن ينفر معلم الفقه عن علم اللغة. (6)
أن يقتصر مع المتعلم على قدر فهمه؛ فلا يعلمه ما لا يبلغه عقله. (7)
أن يتدرج مع الطالب، فإن كان قاصر الفهم بسط له الأمور، وإن كان ذكيا لم يضيع وقته بالتافه منها. (8)
أن يكون المعلم عاملا بعلمه، فإن تكذيب الفعل القول من مفسدات التعليم. (9)
أن يقرب الطالب من مباحث الصوفية وأهل الورع والدين ما استطاع؛ فإن هذا هو الفوز المبين. (5-9) كتب الإمام السمعاني
هو الإمام المؤرخ المحدث النسابة عبد الكريم بن محمد بن منصور مؤلف كتاب الأنساب الكبير (؟-562)، وقد اهتم بشئون التربية ودراسة أحوال طلاب العلم بصورة عامة والحديث النبوي بصورة خاصة. وقد ألف كتابين لهما علاقة بالتربية الإسلامية وآداب الطلاب وطلب العلم؛ أولهما «طراز الذهب في آداب الطلب» وقد ذكره صاحب كشف الظنون، والسبكي في طبقات الشافعية، وابن العماد في شذرات الذهب، وأشار إليه مصنفه في الكتاب الثاني وهو «أدب الإملاء»، ولكنه فقد مع الأسف ولا أعرف له وجودا. وثانيهما «كتاب أدب الإملاء والاستملاء» وقد نشره حديثا المستشرق مكس وبس ويلر بليدن سنة 1952 مع التعليق عليه وتلخيصه باللغة الألمانية، وقد قسم المصنف كتابه هذا إلى فصول ثلاثة: (1)
في آداب المملي. (2)
في آداب المستملي. (3)
في آداب الكاتب.
وهو كتاب خاص لطلبة علم الحديث وآداب استملائه وإملائه وكتابته. قال في مقدمته: «... سألتني يا أخي - رعاك الله وحفظك - عن أدب الإملاء والاستملاء وما يحتاج إليه المملي والمستملي من التخلق بالأخلاق السنية والاقتداء بالسنن النبوية، وشرطت علي أن يكون مختصرا، فإن الهمم قاصرة، وأعلام الحديث مندرسة، والرغبات فاترة، فاستخرت الله تعالى وشرعت في جمعه واقتصرت على إيراد ما لا بد منه ... ممن يريد معرفة آداب النفس واستعمالها في الخلوة والمجالس.»
270
وبعد أن يذكر أن علم الحديث هو أشرف العلوم بعد العلم بكتاب الله؛ إذ الأحكام مبنية عليهما ومستنبطة منهما، وأن ألفاظ رسول الله لا بد لها من النقل ولا تعرف صحتها إلا بالإسناد إلى الثقات والعدول، وبعد أن ذكر أن أخذ حديث رسول الله يكون على طرق متعددة منها أن يحدثك به المحدث، ومنها أن تقرأ ومنها أن يقرأ وأنت تسمع، ومنها أن تعرض عليه وتستجيز منه بروايته، ومنها أن يكتب إليك ويأذن لك في الرواية، وإن أصح هذه الأنواع أن يملي عليك وتكتبه من لفظه.
ثم يذكر آداب المملي فيقول: (1)
ينبغي للمحدث أن يصلح هيئته قبل أن يذهب إلى مجلس الحديث، ويأخذ لرواية الحديث أهبته، ويكون على أكمل هيئة وأفضل زينة من السؤال وتنظيف الأظافر وتجميل الشعر ولبس الثياب البيض والتطيب. (2)
أن يقصد في مشيه إذا ذهب إلى مجلس الحديث، ويسلم على من يلقاه من المسلمين، فإذا وصل إلى المجلس فليصل ركعتين. (3)
يستحب له أن يجلس متربعا متخشعا في حلقة الدرس. (4)
ليستعمل مع أصحابه وأهل حلقته لطيف الحديث ويحسن خلقه. (5)
ينبغي عليه أن يعين لأصحابه أيام تحديثه لئلا ينقطعوا عنه، ولا ينبغي له أن يتخلف عن ذلك إلا لعذر. (6)
يستحب للمحدث أن يملي في المساجد يوم الجمعة، ويحسن أن يكون ذلك في المسجد الجامع. (7)
يستحب له أن يكون جلوسه تجاه القبلة طاهرا. (8)
يجب أن لا يحدث إلا من كتابه؛ فإن الحفظ خوان. (9)
يفتح حديثه بقراءة شيء من القرآن ثم يستنصت الناس - هو أو المستملي - ثم يرفع صوته بقدر ما يسمع الحاضرين، ثم يبدأ بالبسملة والحمدلة والصلاة على النبي، ثم يقول له المستملي «من ذكرت؟» أو «من حدثك رحمك الله؟» فيقول المملي «حدثنا فلان»، وينسب شيخه ويترحم عليه، ولا يروي عن شيخ واحد بل عن جماعة، ولو روى كل أستاذ عن شيخ آخر كان أحسن، ولا يروي ما لا يتحمله عقل العوام. ومن أنفع ما يملي الأحاديث الفقهية، وأحاديث الترغيب وفضائل الأعمال والزهد، وإذا روى حديثا فيه غريب فسره بما يعرفه وإلا سكت. (10)
ويستحب للراوي أن ينبه على فضل ما يرويه ويبين المعاني التي لا يعرفها إلا الحفاظ من أمثاله، فإن كان الحديث عاليا أو صحيحا وصفه بذلك وإلا بين نوعه. (11)
ويكره أن يطيل الدرس فيمل الطلاب، ويختم المجلس بالحكايات والنوادر ثم بالأناشيد والأشعار.
ثم يذكر أدب المستملي ويجمله فيما يلي: (1)
ينبغي على المحدث أن يتخذ «مستمليا» يبلغ عنه الطلاب البعيدين. (2)
يستحب للمستملي أن يقعد على مرتفع عال، فإن لم يجد استملى قائما، وينبغي أن يكون جهوري الصوت متيقظا، محصلا لا بليدا ولا منفعلا. (3)
ينبغي للمحدث أن يتخير أفصح الحاضرين لسانا، وأجودهم أداء، وأن يكون ممن قد أنس بالحديث واشتغل به. (4)
إذا كثر عدد الطلاب بحيث لا يكفيهم مستمل واحد اتخذ أكثر من واحد. (5)
وأول ما يجب على المستملي قوله «استنصت الناس» ثم يقرأ سورة من القرآن الكريم ثم يبسمل ويحمدل، ويدعو للشيخ ويقول «رضي الله عنك وعن والديك وعن جميع المسلمين»، ويكره أن يدعو له بطول البقاء؛ فإن السلف كرهوا ذلك. ثم ينسب الشيخ ويذكر كنيته للحاضرين، ثم يقول للشيخ «من حدثك رحمك الله؟» أو «من ذكرت رحمك الله - أو رضي عنك؟» فيقول المملي «أخبرنا فلان بن فلان»، ويروي الحديث كلمة كلمة فيحاكيه المستملي ويرفع صوته، وإذا لم يسمع الكاتب شيئا سأل عنه المستملي حتى يسمعه.
ثم يذكر آداب الطالب والكاتب ويجملها فيما يلي: (1)
ينبغي لكاتب الحديث أن يتميز عن طريق العوام باستعمال آثار رسول الله ما أمكنه، ويجعله
صلى الله عليه وسلم
أسوته الحسنة. (2)
ينبغي عليه أن يبكر إلى مجلس التحديث، ويمشي بتؤدة وأدب إلا إذا خاف من التأخر عن الدرس. (3)
ينبغي عليه أن يوسع كمه ليضع فيه الأجزاء والكتب، وأن لا يتكلف في لباسه. (4)
ينبغي عليه إذا حضر جماعة من الطلبة وأذن لهم الشيخ في الدخول أن يقدم الأسن، وإذا قدم الأعلم كان لا بأس بذلك. (5)
ينبغي عليه إذا كان له نعلان أن يخلعهما قبل دخوله، وإذا خلعهما وضعهما على يساره، ويجلس بحيث ينتهي به المجلس ولا يتخطى الرقاب، إلا إذا استدناه الشيخ، وإن أكرمه بمخدة فلا يردها، ويكره له أن يقيم غيره من مكانه أو أن يجلس وسط الحلقة أو في صدر المجلس، أو أن يجلس بين اثنين بغير إذنهما، وإن فسح له اثنان ليجلس بينهما فعل ذلك ولا يتربع بل يجمع نفسه، والأفضل أن يجلس على ركبتيه. (6)
ينبغي عليه إذا خاطب المملي أن يقول له «أيها الأستاذ» أو «أيها العالم أو الحافظ» ويكنيه في خطابه - ويجوز للطلاب أن يقوموا للمملي إن دخل عليهم، ويجوز تقبيل يده - ويجب عليه توقير المجلس، وأن لا ينام ويحسن الاستماع والإصغاء ويتواضع للمملي. (7)
وينبغي عليه أن يكتب بالحبر دون المداد؛ لأن السواد أصبغ الألوان والحبر أبقاها، ولا يحضر مجلس الإملاء إلا مع أدوات الكتابة من محبرة ومقلمة وسكين وحبر وكاغد، ويبالغ في تحسين خطه، وأن يكتب خطا غليظا لا دقيقا إلا في حال العذر، مثل أن يكون فقيرا أو مسافرا ليخفف حمله. (8)
وينبغي عليه أن يبدأ كتابته بالبسملة ويمد السين قبل الميم، ولا يكتب في السطر الأول غير البسملة، ثم يذكر اسم الشيخ المحدث وكنيته ونسبه وبقية الكلمات بالشكل التام والإعجام، وإذا فرغ من كتابة حديث يجعل بينه وبين حديث آخر دارة تفصل بينهما، وينبغي إن كتب وجها وأراد أن يقلب الورقة أن يضع بينهما ورقة ينشرها بنشارة لئلا ينطمس، ويكون ما ينشر به من نحاته الساج أو غيره من الخشب، ويتقي استعمال التراب. (9)
وإذا فرغوا من الكتابة يقرأ المستملي الإملاء والطلبة يعارضون، وإن فات بعض الطلبة شيء من المجلس فيعيره بعض من حضر كتابه حتى ينسخه، وإذا أعاره فلا يحبسه ويرده عاجلا، ولأجل الحبس امتنع غير واحد من الإعارة واستحسن بعضهم أخذ الرهون. (10)
وإذا أراد بعض الطلبة الذهاب قبل أهل المجلس سلم عليه.
وبهذا ينتهي كتاب ابن السمعاني، وهو - كما ترى - خاص بتعليم رواة الحديث وطلابه، ولكنه يعطينا صورة عن بعض أنواع العلم وطريقة أخذه، وإنما أسهبنا في الكلام عنه لنبين شدة اعتناء المسلمين بالحديث النبوي واعتبارهم إياه ركنا ركينا في بناء الثقافة العربية الإسلامية. (5-10) كتاب العلامة الزرنوجي
هو العلامة برهان الدين الزرنوجي، أحد علماء القرن السادس ومن كبار رجال التربية المسلمين (؟-571)، وقد ألف رسالة لطيفة الحجم كثيرة الفوائد يلخص فيها آراء المربين المسلمين، واعتمد فيها كل الاعتماد بصورة خاصة على آراء الإمام الغزالي وسماها «تعليم المتعلم لتعليم طرق العلم»، وقد اعتنى المربون المسلمون بها عناية شديدة فشرحوها وعلقوا عليها؛ فمنهم الشيخ يحيى بن علي بن نصوح المشهور بنوعي (؟-1007)، وكان شاعرا تركيا ومؤلفا بالعربية متقنا، ومنهم الإمام عبد الوهاب الشعراني الشاعر المؤلف الصوفي الأشهر، ومنهم القاضي زكريا الأنصاري العالم المشهور.
271
والرسالة - على اختصارها وعدم إتيان صاحبها بجديد في موضوع التربية - مفيدة وذات أثر واضح في التربية الإسلامية لاشتهارها واعتناء الناس بها واعتمادهم عليها في تهذيب أطفالهم؛ ولهذا ذكرناها. (5-11) مباحث العلامة ابن خلدون
أبدع العلامة المؤرخ الفيلسوف عبد الرحمن بن محمد الحضرمي المالكي المشهور بابن خلدون (؟-808) في مقدمته إبداعا فائقا في تربية الأطفال وطريقة تعليمهم؛ فإنه لم يسلك مسلك اليونان، ولا استحسن طريقة فقهاء الإسلام أو الصوفية والمحدثين، وإنما اختار مذهبا خاصا نلخصه فيما يلي:
يقول ابن خلدون: إن العلم والتعلم طبيعي في العمران البشري لأن الإنسان إنما يتميز عن الحيوان بالفكر الذي يهتدي به ليحصل معاشه، والتعاون مع أبناء جنسه والاجتماع المهيأ لذلك التعاون، وقبول ما جاءت به الأنبياء عن الله تعالى والعمل به واتباع صلاح أخراه.
272
وإن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين: «علوم مقصودة بالذات» كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه والكلام والطبيعيات والإلهيات من الفلسفة، و«علوم وسيلة آليه» لتلك العلوم كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات، وكالمنطق للفلسفة، وربما كان آلة لعلم الكلام ولأصول الفقه على طريقة المتأخرين.
فأما العلوم التي هي مقاصد، فلا حرج في توسعة الكلام فيها.
وأما العلوم التي هي آلة لغيرها، فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط ولا يوسع الكلام فيها.
273
والقرآن هو أصل التعليم وأول ما ينبغي تعليمه للولدان، ولأهل الأمصار الإسلامية اختلاف في طرق ذلك على ما قدمناه سابقا.
ويذكر ابن خلدون العلوم المعروفة في عصره علما علما، ويبين ما انتهى إليه الناس من أمر هذا العلم تبيينا لا مزيد عليه.
ثم يذكر أن التأليف في هذه العلوم قد كثر كثرة أضرت بالطلاب؛ بحيث أصبح تعلم العلم والوقوف على غايته أمرا عسيرا لاختلاف الاصطلاحات في التعليم وتعدد طرقه بشكل يجعل عمر المتعلم أقصر من أن يفي بما كتب في صناعة واحدة،
274
ثم ينحي باللائمة أيضا على قوم من المتأخرين ذهبوا إلى اختصار بحوث العلم اختصارا مخلا، يحشون ذلك في متن مختصر يشتمل على حصر مسائل العلم وأدلتها باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة، كما فعل ابن مالك في النحو وابن الحاجب في الفقه،
275
ثم يذكر أن أنجع الطرق في رأيه هي: أن يكون التعليم بالتدريج شيئا فشيئا، يلقى على الطالب أولا مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه حتى ينتهي في آخر العلم؛ وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأته لفهم العلم وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك المرتبة إلى أعلى منها ويستوحي الشرح بالبيان.
هذا هو وجه التعليم المفيد في رأي الفيلسوف المربي ابن خلدون، وهو كما رأيت يحصل - كما يقول - في ثلاثة تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك.
276
ثم يعرض في فصل لطيف إلى بيان رأيه في العلوم الإلهية، ويقول إن هذه العلوم لا توسع فيها الأنظار، ولا تفرع المسائل.
ثم يذكر أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم، لا سيما في أصاغر الولد، ولا ينبغي لمؤدب الأطفال أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إلى ذلك على ثلاثة أسواط.
ويختم آراءه في شئون الطلبة والتعليم بوجوب الرحلة في سبيل العلم ولقاء الشيوخ، وأن هذا من التقاليد القديمة في الملة الإسلامية.
وصفوة القول أن مذهب ابن خلدون في التربية هو مذهب واقعي عملي، وهو أقرب إلى المذاهب الواقعية السهلة منه إلى المذاهب النظرية المعقدة، ولو أن المربين المسلمين في زمانه وبعده ساروا على الطريقة المفيدة الواقعية التي دعا إليها لما تخبطوا في دياجير الجهالة التي مرت بها الأمة الإسلامية منذ القرن الحادي عشر الهجري إلى عصر النهضة العربية.
الخاتمة
أما بعد، فهذه نظرة شاملة إلى تاريخ التربية والتعليم ومعاهدهما وأساليبهما وطرقهما وبرامجهما وكتبهما في العالم الإسلامي منذ فجر الإسلام الزاهي إلى العصور المتأخرة الراكدة. وقد بذلنا وسعنا لتبين الطريق الرشيدة التي سلكها أجدادنا العرب المسلمون في تربية أبنائهم وتنشئة أحفادهم تنشئة صالحة مكنتهم من تكوين تلك الإمبراطورية العربية المسلمة التي نعتز بها، ونرفع رأسنا بذكرها.
إن من يدقق في هذا الكتاب ويمعن النظر في الآراء والنظريات العلمية التي نشأ بموجبها آباؤنا أبناءهم، يرى أنهم لم يبنوا تلك الحضارة اعتباطا ولا جزافا، وإنما هي مبنية على أسس قويمة، وقواعد ثابتة مدروسة تهدف إلى إنشاء الفتى العربي حرا في نفسه مستقلا في تفكيره، واثقا من أقواله، لا يصدر آراءه وأحكامه إلا بعد التفكير والاختبار لا عن تقليد أو اضطرار.
وإنهم ما كانوا يحشرون العلم في ذهنه حشرا، أو يرغمونه على الحفظ وحشو الدماغ حشوا، بل يتركون له حرية القراءة والاستيعاب والحفظ، ولا يقسرونه على شيء، وكانوا يحرصون على تنمية ملكاته متبعين في ذلك سنة الكون وعامل الزمن، وإنهم وإن أباحوا ضربه إذا أذنب فإنما فعلوا ذلك رحمة به وإشفاقا عليه من أن يضل أو يفسد.
ملحق
ينتظم أسماء نفر من كبار قدماء المربين والمعلمين في الإسلام
من مشاهير قدماء المربين والمعلمين في الإسلام نفر كان لهم قدر رفيع ومكانة سامية في المجتمع الإسلامي، وأثر في رفع المستوى الثقافي بصورة عامة والأدبي بصورة خاصة. وقد أحببت أن أهتم بشئونهم، وأختم هذا الكتاب بذكرهم، وبالإشارة العابرة إلى بعض أخبارهم، وأرجو أن يكون هذا حافزا للمؤلفين من بعدي فيدرسوهم دراسة أوسع، ويعلموا أن في النفر الأولين من قدماء المربين العرب والمسلمين أئمة جلة أسهموا في رفع شأن العرب والمسلمين، وكان لهم نصيب موفور في رفع ركن الحضارة العلمية لا يقل عن نصيب كبار الفاتحين، وعظماء المتفقهين ، وفحول العلماء العاملين:
الصحابة (1)
الصحابي الجليل جبير بن حية الثقفي (؟-85؟): كان له كتاب في الطائف، يعلم فيه الناس مبادئ الكتابة والقراءة، وعلوم العربية والرياضيات في عهد أمير المؤمنين ابن الخطاب.
ثم إنه ترك هذه الصناعة الرفيعة ليصبح غازيا فواليا. قال عنه ابن حجر: «هو ابن عم المغيرة بن شعبة، وابن أخي عروة بن مسعود، ثبت في صحيح البخاري أنه شهد الفتوح في عهد عمر، وأخرج البخاري الحديث بذلك ... وليست صحبته عندي بمندفعة، فمن يشهد الفتوح في عهد عمر لا بد أنه يكون رجلا ... وكان المذكور يسكن الطائف، وكان معلم كتاب، ثم قدم العراق فاستقر كاتبا في الديوان، ثم ولاه زياد أصبهان وعظم شأنه، ومات في خلافة عبد الملك ...»
1 (2)
الصحابي العالم غيلان بن سلمة الثقفي (؟-23ه): كان من رجالات ثقيف فضلا وعلما، وكان من رجالها الأفذاذ، ورواتها المشهود لهم بسعة الدراية، وشعرائها المعروفين بطول الباع، وحكمائها ومعلميها المعروفين. وهو ممن وفد في الجاهلية على كسرى وسمع كلامه فأعجب به وبعقله وفضله، ثم أدرك البعثة المحمدية فأسلم وحسن إسلامه يوم الطائف.
2 (3)
الصحابي النبيل أبو سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس القرشي (؟-31ه): والد معاوية، ووجيه قريش الأشهر، قالوا إنه قدم الحيرة هو وأبو قيس بن عبد مناف بن زهرة، وتعلما فيها وكتبا على بشر بن عبد الملك العبادي، ثم أتيا أهل مكة فكانا يعلمان أهلها قبل الإسلام.
وكان أبو سفيان هذا من فضلاء قريش وعلمائها في الجاهلية، وكان واسع الاطلاع على تاريخ قريش وأخبار العرب وأيامها وأنسابها، أسلم يوم فتح مكة سنة ثمان للهجرة، وله تاريخ طويل حافل.
3 (4)
الصحابي القاضي أبو الدرداء عويمر بن مالك بن قيس الخزرجي الأنصاري (؟-32ه): كان قبل الإسلام من تجار المدينة ورجال الأعمال فيها، ثم أسلم وانقطع للعبادة وخدمة النبي والإسلام ونشره، ولما هاجر النبي إلى المدينة كان من كبار أنصاره، وقد وصفه الرسول
صلى الله عليه وسلم
بالحكمة والشجاعة والفروسية، وقال عنه: «عويمر حكيم أمتي.» وقد ولاه معاوية قضاء دمشق بأمر عمر بن الخطاب، وكان يحبه ويكرمه طوال عهده.
وكانت له ولزوجه أم الدرداء - وهي سيدة جليلة نبيلة متعلمة فاضلة حوت كثيرا من العلم والفضل والدين - حلقات يدرسان فيها القرآن، ويفقهان فيها الناس في الدين في جامع دمشق.
4 (5)
الصحابي العالم يوسف بن الحكم بن أبي عقيل الثقفي (؟-40): وهو والد الحاكم الحجاج بن يوسف، كان من العلماء والرواة والأدباء، أسلم يوم الطائف، وروى الحديث عن النبي
صلى الله عليه وسلم
وعن كبار الصحابة، وبخاصة محمد بن سعد بن أبي وقاص، وروى عنه جماعة منهم محمد بن أبي سفيان، وقد عده المؤرخ العجلي من المحدثين الثقات، وقال عنه حرملة بن عمران عن كعب بن علقمة: كان يوسف بن الحكم فاضلا من خيار المسلمين.
5
التابعون (1)
عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي القرشي (؟-80): كان من أشراف قريش وأفاضل رجالاتها، وكان من المعلمين البارعين الورعين. قال سفيان بن عيينة عنه وعن الضحاك بن مزاحم: إنهما كان معلمين، وكانا لا يأخذان أجرا على التعليم، بل يعلمان حسبة ولوجه الله تعالى.
وقد ولاه عبد الله بن الزبير البصرة في مدة خلافته، ومات بعمان. (2)
الحكيم معبد بن عبد الله الجهيني (؟-80): كان من المعلمين المتألهين، والمربين الأفاضل، وهو أول من قال بالقدر والاستسلام له، وقد كان له تاريخ حافل في نشر هذا المذهب في البصرة، ثم نقل مذهبه إلى المدينة المنورة.
وكان أيضا من رواة الحديث وأئمة رجاله، وهو ممن قتلهم الحجاج بن يوسف الثقفي.
وهو معلم نخبة من كبار أئمة الإسلام، أشهرهم سعيد بن عبد الملك.
6 (3)
الشاعر الطرماح بن حكيم الطائي (؟-80): كان من الرواة العلماء، والمؤدبين الفضلاء، والشعراء المعدودين، والفحول المجودين، نشأ في الشام ثم سكن في الكوفة واعتنق مذهب الأزارقة، وكان صديقا للكميت الأسدي على شدة اختلافهما في الاعتقاد والمذهب، وله ديوان شعر حسن، وتاريخ في التربية والتعليم حافل.
7 (4)
الشاعر الكميت بن زيد الأسدي (؟-80؟): كان من الشعراء العلماء، والمعلمين، روى ابن قتيبة في كتاب المعارف نقلا عن خلف الأحمر قال: رأيت الكميت في مسجد الكوفة يعلم الصبيان، وكان من أكابر الشعراء وفحولهم منقطعا لبني هاشم في العصر الأموي، وكان واسع الاطلاع على أدب العرب وأنسابهم ولغاتهم وأخبارهم، وكان ثقة في علمه وتعلميه.
قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: لو لم يكن لبني أسد منقبة غير الكميت لكفاهم. وقال أبو عكرمة الضبي: لولا شعر الكميت لم يكن للغة ترجمان. وأشهر شعره قصائده المعروفة بالهاشميات، ويقال إن شعره تجاوز الخمسة آلاف بيت. وقالوا في وصفه: لم يجتمع في شاعر ما اجتمع فيه من الصفات؛ فقد كان خطيب بني أسد، وفقيه الشيعة، فارسا شجاعا، سخيا، راميا ومعلما فاضلا.
8 (5)
الزاهد المرابط العالم الإمام المحدث القاسم بن مخيرة الهمداني أبو عروة (؟-100): كان من كبار العلماء العاملين، والمربين المسلكين، وكان من أئمة الحديث وخيار رجالاتهم فضلا وعلما وإتقانا وكثرة تلاميذ، اشتغل بالتجارة وسافر إلى الشام، واشتهر ذكره فيها، ثم انقطع إلى الجهاد والرباط في سبيل الله إلى أن أدرك الشهادة، وله تاريخ حافل. (6)
الزاهد الإمام العالم الضحاك بن مزاحم الخراساني أبو القاسم (؟-105): كان من كبار رجال التابعين وأفاضل معلميهم، وقد روى عنه ابن قتبة أنه كان هو وعبد الله بن الحارث يعلمان أطفال المسلمين الكتاب بالمجان في سبيل الله ولا يأخذان عليه أجرا ولا على التعليم، وأن له كتابا ضخما، حتى بلغ عدد طلابه فيه في وقت من الأوقات ثلاثة آلاف طالب فيهم سبعمائة جارية، وأنه كان يتجول بينهم وهو راكب على حمار.
وله رحمه الله آثار في التربية تدل على سعة أفقه وطول باعه.
9 (7)
الإمام العالم عطاء بن أبي رباح بن صفوان (؟-115): هو من أئمة أجلاء التابعين الفقهاء، ولد في اليمن ونشأ في الحجاز، وتعلم في مكة ونبغ فيها، وقصده الناس للإفادة من علمه وفضله ودينه وورعه، ثم تولى إفتاءها وصار محدثها، وكان له قبل ذلك كتاب كبير يعلم فيه أبناء المسلمين القرآن والحديث والفقه احتسابا.
10 (8)
الأمير العالم الإمام إسماعيل بن أبي المهاجر المخزومي صاحب إفريقية (؟-؟): كان من المؤدبين الفضلاء الذين علموا أطفال المسلمين احتسابا لوجه الله، وهو الذي أشارت به أم الدرداء الصحابية الجليلة على الخليفة عبد الملك بن مروان أن يتخذه معلما لأولاده ومربيا وموجها لهم، لما تعرفه عنه من الدين والورع وكمال الخلق والعلم وسعة الرواية، فلما أحضره الخليفة إليه قال له: يا إسماعيل، علم ولدي فإني معطيك ومثيبك. فقال له: وكيف ذلك يا أمير المؤمنين وقد حدثتني أم الدرداء عن أبي الدرداء عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أنه قال: «من أخذ على تعليم القرآن قوسا، قلده الله قوسا من نار يوم القيامة»؟ فقال عبد الملك: إني لست معطيك على القرآن، ولكن أعطيك على النحو والعربية.
11 (9)
العالم النحوي علقمة بن أبي علقمة التيمي المدني (؟-؟): كان من موالي السيدة عائشة أم المؤمنين - رضي الله عنها - وقد تلقى عنها كثيرا من العلم وحفظ عنها كثيرا من الآداب. قال ابن قتيبة في المعارف: كان يروي عنه مالك بن أنس، وكان له كتاب يعلم فيه العربية والنحو والعروض. ومات في خلافة أبي جعفر المنصور.
12 (10)
المحدث الإمام قيس بن سعد الحنفي المكي (؟-119): كان من فضلاء علماء الحجاز وفقهائه، نشأ في مكة وتلقى العلم عن مجاهد وطاوس وامتهن التعليم، وكان من كبار الفقهاء والمحدثين، وتولى إفتاء مكة.
عده ابن قتيبة من قدماء المعلمين في الإسلام، وتخرج به جماعة من كبار الأئمة منهم الحمادان، وسيف بن سليمان.
وقد وثقه الإمام أحمد بن حنبل وأبو داود، وله آثار جليلة في الحديث.
13 (11)
الإمام الزاهد المحدث محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري القرشي (؟-124): تعلم على أئمة الحجاز في الحديث والفقه والعربية حتى نبغ، وهو أول من دون وبلغ رتبة أئمة الحفاظ في الحديث، وسمت منزلته حتى استدعاه الخليفة عبد الملك بن مروان وطلب إليه تهذيب هشام ابنه فهذبه وثقفه. وله آثار جليلة في علم الحديث، وكان صاحب أثر كبير في تدوين العلم الإسلامي.
14 (12)
المحدث عبد الكريم بن أبي المخارق البصري أبو أمية (؟-126): كان من فضلاء التابعين وعلماء الحديث في الحجاز، روى العلم عن أنس بن مالك ومجاهد وطبقتهما، وتخرج به جماعة من المشهورين كالسفيانيين الإمامين المحدثين ، والحافظ الدستوائي.
وكان له كتاب يعلم فيه القرآن، ورواية الحديث، وأخبار العرب وتاريخهم وأشعارهم وأحوالهم.
15 (13)
الأمير الحجاج بن يوسف الثقفي: كان قبل تولي الإمارة معلما بالطائف مثل أبيه، وقد هجاه مالك بن الريب بذلك فقال فيه:
فماذا عسى الحجاج يبلغ جهده
إذا نحن جاوزنا صغير زياد
فلولا بنو مروان كان ابن يوسف
كما كان عبدا من عبيد إياد
زمان هو العبد المقر بذنبه
يراوح غلمان القرى ويغادي
وقال فيه آخر:
أينسى كليب زمان الهزال
وتعليمه سورة الكوثر
رغيف له فلكة ما ترى
وآخر كالقمر الأزهر
16 (14)
الكاتب عبد الحميد بن يحيى بن سعد العامري (؟-132): كاتب بني أمية الأشهر ووزيرهم ومترسلهم، تولى صناعة تعليم الأطفال في مبدأ أمره، وتخرج به جمهرة من أبناء السراة والوجهاء، ثم عهد إليه بنو أمية بالمناصب الديوانية، وأخباره في ذلك كثيرة.
17 (15)
الكاتب عبد الله بن المقفع (؟-142): هو إمام كتاب الإسلام، أصله من فارس ولكنه ولد في العراق ونشأ في كنف العباسيين، فنبغ في العربية وجمع إلى ذلك ثقافة الفرس وعلومهم، وعلم اليونان والرومان، واتخذ التعليم حرفة، واختص بتربية أبناء مواليه الخلائف من بني العباس.
18 (16)
النحوي المحدث الإمام أبو معاوية شيبان بن عبد الرحمن التميمي مولاهم (؟-164): كان من كبار المحدثين والنحاة الأولين، ولد في البصرة والكوفة وبغداد، وروى عن الحسن البصري وعبد الملك بن عمير وقتادة وطبقتهم من كبار محدثي الإسلام ورجالات الدين، وتخرج به جماعة من أشهرهم الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان، وقال عنه أحمد بن حنبل: إنه إمام ثبت، وكان يؤدب أولاد داود بن علي بن عبد الله بن عباس. (17)
العالم المحدث أبو سعيد المؤدب محمد بن مسلم بن أبي الوضاح القضاعي: كان من أفاضل رجالات قضاعة، أتقن الحديث النبوي وعلومه، وروى عن طبقة سالم الأفطس وهشام بن عروة والأعمش حتى نبغ، واتخذ التعليم حرفة، ثم ضمه المنصور العباسي إلى ابنه المهدي ليؤدبه، ثم ضم بعده إليه سفيان بن الحسين. مات في خلافة الهادي، وعرف بأبي سعيد المؤدب، وهو غير أبي سعيد المعلم.
19 (18)
العالم الفقيه أبو محمد سفيان بن حسين بن حسن السلمي مولاهم (؟-؟): كان من تلاميذ محمد بن سيرين والحكم بن عتبة وطبقتهما، نبغ في الحديث والعربية واتخذ التعليم مهنة وتخرج به جماعة من المشهورين أجلهم الإمام شعبة بن الحجاج، وعباد بن العوام، وكان من المحدثين الثقات. قال عنه الحافظان ابن معين والنسائي: هو من الأئمة الحفاظ الثقات. وكان أبو جعفر المنصور يحبه ويعتمد عليه، وقد عهد إليه تهذيب ابنه وولي عهده المهدي. ومات في خلافة المهدي.
20 (19)
الإمام الثقة المجتهد أبو علي شقران بن علي الهمذاني (؟-168): كان من فضلاء قدماء المعلمين، وكان يعلم ولا يأخذ على ذلك أجرا. كان في الطبقة العالية من الفقهاء في إفريقية، أخذ العلم عن جماعة من كبار رجالات إفريقية وأئمتها مثل سحنون وعون بن يوسف ... وكان ينطق بالحكمة والمواعظ. انتفع به المتعلمون وخلق لا يحصون، وكان يقرئ مجانا في كتاب منسوب إليه بالقيروان، ولا يزال قبره فيها في محلة باب سلم معروفا متباركا به، وحوله قبور كثيرة. قال الأستاذ حسن حسني عبد الوهاب مؤرخ تونس: وقبره مشهور إلى الآن، عليه حوطة حولها قبور كثيرة اشتهر على ألسنة العامة أن أصحابها من طلبة وتلاميذ كتابه.
21 (20)
علي بن الحسن الأحمر (؟-194): كان من تلاميذ الكسائي وطبقته، وسما قدره حتى عد من كبار علماء عصره في الإدارة واللغة والأدب ورواية الأخبار. وقد اختاره الرشيد لتأديب ابنه الأمين كما اختار الكسائي العالم النحوي الأشهر ليعلمه النحو والعربية. ولما اختير لتأديب الأمين انتعشت حاله وأثرى بعد أن كان فقيرا مدقعا، حتى قال محمد بن الجهم: كنا إذا أتينا الأحمر تلقانا بالخدم فندخل قصرا من قصور الملوك ويخرج علينا الأحمر وعليه ثياب الملوك.
22
ولما سلم الرشيد الأمين إليه، أوصاه بوصية تعتبر من أحسن الوصايا التربوية لما اشتملت عليه من النصائح والآداب، وفيها يقول له: يا أحمر، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين؛ أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنين ، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة. قال الأحمر: فكنت كثيرا ما أشدد عليه في التأديب، وأمنعه الساعات التي يتفرغ فيها للهو واللعب.
23
الأعراب الفصحاء
اهتم بعض الأعراب الفصحاء المشهورين بسعة الاطلاع وفصاحة الألسنة، بتعليم الأطفال، وكان كثير من العلماء والأئمة يقصدونهم أيضا ويروون عنهم ما يعرفون من أحوال اللغة العربية وآداب الجاهلية والإسلام وشعرهما وحكمهما، وقد اتخذ بعضهم كتاتيب في العواصم الكبرى يعلمون فيها الأطفال ويهذبونهم ويروونهم الشعر وأخبار البادية العربية، كما اتخذ بعضهم حرفة التأديب في بيوتهم، فمنهم: (1)
أبو الوزير عمر بن مطرف (؟-168): وكان كاتبا عالما أديبا من بني عبد القيس، سكن مرو، ونبغ في الكتابة والعلم والأدب، وقصد العراق ولمع اسمه هناك فتقلد ديوان المشرق للخليفة المنصور، والمهدي، والهادي، والرشيد. قال الجاحظ: ما كان عندنا بالبصرة رجلان أدرى بفنون العلم ولا أحسن بيانا من أبي الوزير، وأبي عدنان - وسنذكره فيما بعد - وحالهما من أول ما أذكر من أيام الصبا، قيل إنه مات في زمن المهدي، والصواب أنه مات في زمن الرشيد فحزن عليه وصلى عليه ورثاه بقوله: رحمك الله، فوالله ما عرض لك أمران أحدهما لله والآخر لك إلا آثرت ما هو لله على ما هو لك. وكان ثقة مأمونا بليغا مقدما في صناعته، وله تآليف منها «كتاب منازل العرب وحدودها وأين كانت محلة كل قوم وإلى أين انتقل منها» و«كتاب رسائله»، و«كتاب مفاخرة العرب ومنافرة القبائل في النسب».
24 (2)
أبو عدنان عبد الرحمن بن عبد الأعلى (المتوفى حوالي منتصف القرن الثاني): كان من الأدباء الرواة، والمعلمين الثقات، وكان راوية لأبي البيداء الرياحي أسعد بن عصمة العالم الفصيح المشهور، وكان من شعراء البصرة ولغوييها ومؤلفيها القدماء ، ومحدثيها الأفاضل، وله من الكتب «كتاب النحويين» و«كتاب الغريب» و«كتاب ما جاء من الحديث المأثور من النبي مفسرا»، وهو الذي قال عنه الجاحظ: ما كان عندنا بالبصرة رجلان أدرى بفنون العلم ولا أحسن بيانا من أبي الوزير وأبي عدنان.
25 (3)
أبو البيداء أسعد بن عصمة الرياحي (في أواسط المائة الثانية): كان من الأدباء الرواة والمعلمين الأفاضل الثقات، وكان زوج أم أبي مالك عمرو بن كركرة عالم اللغة وراويتها المشهور، وهو أعرابي لقن فطن جدا، نزل البصرة أول ما ترك البادية فاتخذ حرفة تعليم الصبيان مكتسبا، وكان أعيانها يعطونها أجل الأجور لتعليم أبنائهم، وقد ظل في البصرة طول عمره يؤخذ العلم عنه وينشر العربية، وكان شاعرا محسنا وله ديوان.
26 (4)
أبو مالك عمرو بن كركرة (في أواسط المئة الثانية): كان من أفصح الأعراب الأذكياء الفضلاء، عالم اللغة المشهور. وقد امتهن تعليم الصبيان في البادية أول أمره ثم قدم الحاضرة فاتخذ الورفة صناعة له، وهو راوية أبي البيداء الرياحي وربيبه وخريجه، وكانت أمه تمت إلى البيداء فتربى في حجره، قال ابن النديم: ويقال إن أبا مالك كان يحفظ اللغة كلها، وكان من أئمة النحاة البصريين. قال الجاحظ: وكان أحد الطياب يزعم أن الأغنياء عند الله أكرم من الفقراء، ويقول إن فرعون عند الله أكرم من موسى. وقال السيوطي: قال ابن مناذر كان الأصمعي يجيب في ثلث اللغة، وأبو عبيدة في نصفها، وأبو يزيد في ثلثيها، وأبو مالك فيها كلها، وإنما عني توسعهم في الرواية والفتيا لأن الأصمعي كان يضيق ولا يجوز إلا أصح اللغات.
ولأبي مالك كتب ورسائل في اللغة، منها «كتاب خلق الإنسان» و«كتاب الخليل».
27 (5)
أبو عرار العجلي (في النصف الأول من المائة الثانية): كان من الأئمة من حفظ اللغة، ومن الرواة العلماء والفضلاء المؤدبين، وكان يقال إنه قريب في علمه وفضله وحفظه اللغة من أبي البيداء الرياحي، وكان شاعرا قويا، ولا مصنف له.
28 (6)
أبو زياد الكلابي يزيد بن عبد الله بن الجر (من أعيان المئة الثانية): كان بدويا فصيحا ، وشاعرا مليحا، قال دعبل الخزاعي الشاعر: قدم بغداد أيام المهدي (؟-169) حين أصابت الناس المجاعة، ونزل قطيعة العباس بن محمد فأقام فيها أربعين سنة ومات وهو يعلم الناس. وكان شاعرا فحلا من بني كلاب بن عامر، وله من الكتب «كتاب النوادر» و«كتاب العرق» و«كتاب الإبل» و«كتاب خلق الإنسان» و«كتاب معاني الشعر».
29 (7)
أبو ثروان العكلي من بني عكل (في أواخر المائة الثانية): كان فصيحا معلما شاعرا، وقد اتخذ تعليم الأطفال صناعة في البادية. قال ابن النديم في الفهرست: كان فصيحا يعلم في البادية. كذا ذكر يعقوب بن السكيت، وله من الكتب «كتاب خلق الإنسان» و«كتاب معاني الشعر».
30 (8)
أبو الجاموس ثور بن يزيد (في صدر المائة الثانية): كان من الأدباء الفصحاء المربين الظرفاء، وكان لا يقطع صلته بالبادية، يقيم في الحاضرة قليلا ويرجع إلى البادية، وكان كثير التردد على آل سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس، وعنه أخذ ابن المقفع كثيرا، ومن فصاحته استفاد، ولا مصنف له.
31 (9)
أبو سوار الغنوي (في أواخر المائة الثانية): كان أعرابيا عالما فصيحا راوية إخباريا، تلقى العلم عنه جمهرة من الأئمة وفي طليعتهم أو عبيدة (؟-209) وجماعات كثيرة من تلاميذ أبي عبيدة وطبقته من النحويين واللغويين، وكان له مع محمد بن حبيب وأبي عثمان المازني جلسات ومحاضرات ومناظرات.
32 (10)
الفقعسي محمد بن عبد الملك الأسدي راوية بني أسد وعالمهم (؟-بعد سنة 158ه): كان علامة راوية مؤدبا بارعا في حفظ مآثر بني أسد وأخبارهم، وكان شاعرا فحلا أدرك المنصور العباسي ومن بعده من الخلائف، وعنه أخذ كثير من العلماء والرواة وبخاصة أخبار بني أسد وشعرهم، وله مؤلفات ورسائل أصلها ما ألفه في مآثر بني أسد.
33 (11)
عبد الله بن أبي صبح المازني (؟-بعد سنة 158ه): كان أعرابيا بدويا فصيحا من بني مازن، ترك ديار قومه وقدم إلى بغداد بعد أن أسسها المنصور فعلم بها وطار ذكره وتهافت عليه الطلاب، ولم يتركها إلى أن مات، وكان شاعرا بليغا، وله ديوان مفقود وله أخبار ومناظرات ومحاورات أدبية لطيفة مع الفقعسي.
34 (12)
خلف الأحمر بن حيان أبو محرز (؟-180): هو مولى أبي موسى الأشعري، وقيل بل هو مولى بني أمية، وأصله من أهل خراسان من سبي قتيبة بن مسلم، عاش في البادية طويلا، وفيها تعلم، وحفظه كثيرا من أخبار أهلها، ونبغ في معرفة الشعر القديم ومحاكاته حتى صار من أفرس الناس به. قال السيوطي: كان راوية ثقة علامة، يسلك مسلك الأصمعي وطريقته، حتى قيل هو معلم الأصمعي، وهو الأصمعي فتقا المعاني وأوضحا المذاهب، وبينا المعالم، وكان الأخفش يقول إنه لم يدرك أحدا أعلم بالشعر من خلف والأصمعي، واتهموه بصنع الشعر ونحله للعرب.
35 (13)
أبو العميثل عبد الله بن خليد (؟-240): هو من الموالي إلا أنه عاش في البادية طويلا، وكان ولاؤه لبني جعفر بن سليمان، وقد خرج إلى البادية سنين كثيرة وجمع علما كثيرا وفضلا وأدبا، ثم عاد واتخذ حرفة التأديب مكتسبا، وسمع به عبد الله بن طاهر فاستدعاه وعهد إليه بتأديب ولده.
وكان من الفصحاء المعروفين بتفخيم كلامهم والتقعر في الإعراب، وله أخبار كثيرة في كتب الأدب والعربية.
36
قدماء المعلمين في القرن الثالث (1)
الأمير الإمام القاضي العلامة أسد بن الفرات بن سنان (؟-213): كان عالم إفريقية وأميرها، اتخذ التعليم في فجر حياته صناعة، وكان يقيم في بعض قرى «بجردة» من أعمال تونس، ثم ترك صناعته هذه ورحل ليطلب العلم في المشرق، فأخذ عن جماعة من أئمة الحجاز والعراق، فكان يفيد ويستفيد، وممن أخذ عنه القاضي أبو يوسف، وقد روى عنه كتاب موطأ الإمام مالك، ولما رفع إلى إفريقية عظم قدره جدا حتى تولى القضاء ثم الإمارة، وله أخبار كثيرة جليلة.
37 (2)
القارئ المشهور حسنون المعروف بابن زبيبة الدباغ (في أواسط المائة الثالثة): كان من العلماء الفضلاء الصالحين، تلقى قراءة القرآن عن أئمة شيوخ عصره، وكان من معاصري ابن سحنون، وقد ذاع صيته فقصده الناس لتلقي العلم عنه وتلاوة القرآن عليه، وله أخبار كثيرة.
38 (3)
الإمام العلامة أبو عبيد القاسم بن سلام الأزدي مولاهم (؟-224): أصله من خراسان، نشأ نشأة إسلامية عربية عميقة الجذور في الثقافة العربية خاصة، واتخذ التعليم حرفة له أول أمره فأفاد كثيرا، ثم تولى القضاء، وكان بارعا في الحديث والفقه والأدب منقطعا لعبد الله بن طاهر، وله آثار جليلة وأخبار كثيرة.
39 (4)
الداعية الشيعي الفاطمي أبو عبيد الله الصنعاني (؟-298): كان من الأذكياء الفضلاء بارعا بعلوم العربية والجدليات، كان في مبدأ أمره معلما ثم اهتم بشئون السياسة وأحوالها واتصل بالفاطميين فقربوه واتخذوه داعية لمذهبهم، وهو الذي قام على يديه ملكهم في المغرب ثم في مصر، وله أخبار كثيرة.
40
Unknown page