Tarbiya Fi Islam
التربية في الإسلام: التعليم في رأي القابسي
Genres
في القرون الوسطى تناقض كبير بين الحياة الواقعية التي يقبل فيها الناس على اللذات، وبين الحياة المثالية التي تصورها الأخلاق المسيحية بما فيها من تضحية وزهد وقسوة في المعيشة وتقييد لأسباب الحياة.
ومع ذلك فهناك جانب في المسيحية اتفق مع مطامع المسيحيين. هو دين العامة والبسطاء والفقراء. وقد سمت المسيحية بفضيلة التواضع ونشدت بسطة القلب والعقل. ولما كان الجرمان شعبا في دور الطفولة فهم أهل بساطة وتواضع، وهم أيضا فقراء لأنهم كانوا يعيشون عيشة البداوة، لذلك قبلوا مع السرور هذا المذهب الجديد الذي يمجد الفقر والبساطة.
وقد حارب الجرمانيون الحضارة الوثنية الرومانية كما حاربها المسيحيون. وهذا يفسر لنا المودة التي توثقت عراها بين الكنيسة والمتبربرين، وكيف وجدت المسيحية أرضا خصبة بين الشعوب الجرمانية. والسر في هذا يرجع إلى أن مبادئ المسيحية حققت آمالهم، ووجدوا فيها الراحة الخلقية التي لم يعثروا عليها في مكان آخر.
ومن ناحية أخرى كانت أصول المسيحية ترجع إلى جذور يونانية ورومانية لم يكن من السهل التخلص منها. ولا يغيب عن بالنا أن المسيحية نشأت ونمت في العالم الروماني، فحملت معها - برغم إرادتها - كثيرا من حضارة الرومان ووثنيتهم. وكانت لغة المسيحيين هي اللغة اللاتينية في الغرب واليونانية، ثم السريانية في الشرق.
وكانت غاية المسيحية الخلاص بالإنسان من الإثم والنجاة به من الرذيلة، وقد خشيت إقبال الناس على دروس آداب الرومان واليونان وفنونهم وعلومهم، وهي ثقافة في مجموعها لا دينية قد تصرف الناس عن الإيمان الصحيح.
وقد عجزت الكنيسة عن التخلص من ثقافة الرومان واليونان؛ لأن اللغة اللاتينية والإغريقية هما اللغتان المقدستان اللتان صبغت بهما عقائد الدين.
وأين يتعلم الناس اللغة اللاتينية واليونانية إن لم يتجهوا نحو آداب الرومان واليونان. وديانة الرومان واليونان شعائر عملية ممتزجة بالأساطير، على عكس المسيحية القائمة على نظام يتركب من مجموعة من العقائد. وليس المسيحي مسيحيا لأنه يقيم بعض الشعائر الدينية فحسب، بل لأنه يؤمن بعقيدة خاصة ويعتقد في آراء معينة.
وسبيل تعلم الشعائر الدينية قد يكتفى فيه بالقليل من التدريب، أما اعتناق الآراء فلا يتم إلا بواسطة التعليم سواء اتجه هذا التعليم إلى العقل أو إلى القلب. لهذا السبب اصطنعت المسيحية منذ نشأتها طريقة التعليم والوعظ. ولكن التعليم لا بد أن يستند إلى أساس من الثقافة، ولم تكن هناك ثقافة إلا ثقافة الرومان واليونان اللاتينيين، فاضطرت المسيحية إلى اصطناعهما، ثم إن المعلم أو الواعظ يحتاج إلى دلالة اللسان وسحر البيان وقوة الحجة والإقناع والبصر بأحوال الناس، والمعرفة بتاريخ البشر. ولم تكن هذه المعارف المختلفة موجودة إلا في آثار الأقدمين. وكانت حاجة المسيحيين شديدة إلى هذه الثقافة لفهم الكتابات المقدسة فهما جيدا، فلا بد من التبحر في اللغة والتمكن منها، ولا بد من معرفة التاريخ لتحديد الحوادث في سجل الزمان. وكانت الحاجة إلى البلاغة أشد لأنها سلاح المؤمن الذي يدفع به أخطاء الرذيلة.
تلك هي الضرورات التي ألجأت الكنيسة إلى افتتاح المدارس لتعليم هذه الألوان المختلفة من الثقافة.
ونشأت باكورة هذه المدارس في أحضان الكنائس والأديرة. وكان الطلبة ينفقون حياتهم منذ الصغر في الأديرة لإعدادهم لحياة الكهنوت. وهي حياة زهد وتقشف يسودها طابع الروح المسيحي.
Unknown page