Tarajim Misriyya Wa Gharbiyya

Muhammad Husayn Haykal d. 1375 AH
80

Tarajim Misriyya Wa Gharbiyya

تراجم مصرية وغربية

Genres

وقبل أن يتم قصيدته، تزوجت إميليا من غني اسمه بيوندي قبل أن يعقد عليها من غير أن يمهرها أبوها، فلما علم الشاعر بأمرها أسقط في يده ولم يطق إتمام قصيدته، فها هي ذي رمز الحب في طهارته قد فعلت فعلة ابنة عمه هاريت جروف وفعلة النساء جميعا ممن عرف، ها هي ذي سقطت إلى مستوى القطيع تاركة إياه يعض البنان ندما على خطئه في أمرها ويصب عليها اللعنة أن أضاعت عليه وحيه وإلهامه.

وفيما كان شلي في هيامه بإميليا كان بيرون يتخطى خليلة إلى خليلة حتى انتهى إلى أجمل نسوة البندقية وتدعى جيوكشولا، وكانت من عائلة نبيلة ومتزوجة رجلا نبيلا، لكن صلة المرأة بخليل لم تكن في البندقية يومئذ أمرا إدا، حتى في نظر زوجها، على أن هذه السيدة اضطرت للسفر مع هذا الزوج إلى رافنا ومن هناك دعت بيرون ليترك البندقية ويقيم عندها، فلما تلكأ بعثت إليه تخبره بأنها مريضة فطار إليها وأقام إلى جانبها، وكما انتقل هو من البندقية فقد نقل ابنته اللجرا إلى بولونيا، فلما علمت جين كليرمون بأمر ابنتها بعثت إلى بيرون تستعطفه أن يبعث بها إليها، فرد عليها ردا غليظا يقول لها فيه إن التربية في بيت شلي على أساس النباتية في الحياة المادية والإلحاد في الحياة الروحية مما لا تطمئن له نفسه، ورفض أن يسلم البنت لها، فجن جنونها وبعثت إليه بخطابات قاسية اعتذر له عنها شلي في خطاب بعث به إليه يقول فيه إن جين أم، وإنه وإن لم يطلع على ما تكتب لوالد ابنتها إلا أنه يرجوه أن ينظر إليها بعين الرحمة والمغفرة، لكن بيرون رأى في هذا كله ما أغضبه، فأراد أن ينتقم لنفسه من شلي، وكان قد وصله خطاب من قنصل إنجلترا في البندقية، يقول له فيه إن الناس يتهمون شلي بمعاشرة جين، وإن مربية كانت في خدمة شلي تذيع أن جين حملت منه فأجهضها في نابولي حين كانت زوجه في روما، وتنفيذا لانتقامه بعث بيرون يستدعي شلي إلى رافنا «لأمور خطيرة»، فلما كان عنده أطلعه على خطاب القنصل مما هاج ثائرة شلي وجعله يكتب إلى زوجه يطلب إليها أن تكذب ما تذيع خادمهم الخؤون، وأظهر بيرون اقتناعه بما كتبت ماري وإن لم يقم بأي مجهود لدى القنصل في البندقية يبدد به ما علق بذهنه من أكاذيب.

وزار شلي اللجرا في الدير الذي بعث بها إليه أبوها، في بانيو كافالو، فألفاها كبرت ولكن النحول بدا عليها، ومع نحولها بدت وسط الأطفال قريناتها في جمال جذاب يدل على أنها أرق منهن وأرقى منبتا، غير أن حياة الدير كانت بحيث تعرض صحتها بل تعرض حياتها للخطر.

وكانت خليلة بيرون معتزمة السفر إلى سويسرا، فطلب بيرون إلى صديقه أن يكتب إليها، ولو لم تسبق له بها معرفة، ليقنعها بالعدول عن فكرتها والذهاب إلى فلورسنا أو إلى بيزا، وفاضت السعادة بشلي حين علم أنها قبلت الذهاب إلى بيزا للمقام على مقربة منهم، ولم يبد بيرون اعتراضا أن كانت جين قد تركت تلك المدينة إلى فلورنسا حيث قامت بأمر التعليم في إحدى مدارسها، ولم يلبث اللورد أن نزل المدينة الصغيرة التي يقيم فيها شلي حتى أبدت جمعيتها كل الإعجاب به، فصار قصره مقصد المتأنقين في حين بقي شلي الرسول الروحي لأهل المدينة جميعا، وكانت حياة بيرون حياة ترف لم يطقه شلي، فقد كان يسهر الليل كله ثم ينام في الصباح إلى ما بعد الظهر ويذهب من بعد ذلك للصيد ويعود إلى سهره ثم إلى مكتبه ليدبج قصائده التي استوقفت أنظار إنجلترا كلها فكانت تلتهمها التهاما، وكان حقا على شلي أن يحتمل هذه الحياة زمنا كان يعتبر صاحبه فيه ضيفا عليه في بيزا، لكنه ما لبث أن رأى ماري تريد الانخراط في سلك هذه الجماعة المترفة حتى صدف عنها وعاد إلى حياته البسيطة الأولى، ووجد في أسرة إنجليزية مقيمة ببيزا ما يسر له الابتعاد عن بيرون وجماعته، تلك أسرة وليمز وزوجه جين، وكانت جين وليمز رشيقة هادئة النفس موسيقية الصوت يريح وجودها أعصاب من يتصل بها، وكان صوتها حلو الغناء مما أتاح لشلي أن يذهب وهو معها في أحلامه الشعرية وكأنه يسير وسط حديقة غناء، وزاده إعجابا بجين وليمز ما دأبت عليه ماري من الشكوى من أنها لا تجد من أسباب المسرة في الحياة ما يجد غيرها.

وكان لأسرة وليمز صديق بحار من الأشقياء يدعى ترلوني، وقد دعوه إلى بيزا، فاشترط أن يكونوا سبب تعارف بينه وبين شلي، وبينه وبين بيرون بنوع خاص، فوعده وليمز بهذا ولم يكن عليه عسيرا، وجاء ترلوني فانضم إلى عصبتهم، ولما ربطت المعرفة بينه وبين شلي برباط وثيق طلب إليه أن يبني له ولوليمز يختا يشتركان فيه، واختار لنفسه ولوليمز بيتا على الشاطئ قريبا من بيزا فأقاما فيه ومعهما ماري وجين، وجعل شلي من يخته مركبا لرياضته ولخيالاته وأحلامه، وشعر بالسعادة تفيض عنه وبآلهة الشعر تواتيه بإلهامها من كل جانب.

والحق أن آلهة الشعر لم تضن على شلي بإلهامها يوما من الأيام، لكنها كانت في هذه الفترة وخلال الأربع السنوات والنصف التي أقامها في إيطاليا أشد بإلهامها فيضا، حتى ليدهش الإنسان حين يرجع إلى ديوانه متى استطاع أن يكتب هذا الشعر الملائكي كله، ثم ليزداد دهشة إذا رجع إلى رسائله وإلى نثره فرآها لا تقل عن إلهامه الشعري غزارة فيض ولا قوة عبارة ولا ملكا لعالم الجمال وكل ما حوى، ولو أنك أردت أن تحصي ما كتب من شعر في هذه الآونة وحدها لبلغ عشرات الألوف من الأبيات بل مئات الألوف ! وليس يقف ما كتب من هذا عند قصائده الكبرى كقصيدة (بروموتيه) و(سنسي) و(ساحرة الأطلس) و(إببسشديون) و(قناع الفوضى) و(أدوناييس) و(هلاس) وغيرها وغيرها، بل إن له لمقطوعات يقر مترجموه جميعا بأنها أبقى الشعر الإنساني كله على الدهر، وهذه المقطوعات التي يتحدث بها مرة إلى قبرة، وأخرى عن سحابة، وغيرها عن شجرة حساسة، وأخرى إلى النيل وعشرات ومئات غيرها - هي لا ريب خير ما تغنى به شلي معبرا به عن صلته بمملكة الجمال في الوجود، ولقد تغنى في هذه المقطوعات كما تغنى في مواضع كثيرة من قصائده الكبرى، فخلع على كل ما تغنى به حياة لم تكن لتحسبها له، فإذا بك وقد قرأت شلي محسا بها لامسا إياها معترفا بأنك أنت الذي كنت عاجزا عن رؤيتها بحسك واكتناهها بقلبك، وليس شعره وحده هو الخالق حياة جديدة في الوجود، بل إن لنثره من هذه القوة ما لشعره، وإن كانت موسيقى شعر شلي مما يزيد في قوة خلقه حياة وقوة.

ولشعر شلي جوانب شتى لمح القارئ بعضها فيما قدمنا له من ترجمته، فثم جانب من حياته هو وتغنيه بما كان يرجوه فيها، و(روح الوحدة) و(إببسشديون) وكثير من مقطوعاته تعبر عن هذا الجانب خير تعبير، تترنم القصيدة الأولى بيأس الشاعر وآلامه وركوبه زورق الحياة على لجة الوجود ملتمسا في العدم راحة من آلامه، واجدا في خيالات الحب لهذه الأعرابية التي مرت به ثم تبعه طيفها عزاء نفسه عن بعض هذه الآلام حتى تسكن إلى الموت سكونها الأخير، وقصيدته الثانية هي قصيدة الجمال والحب مجسمين في إميليا فيفياني، أما الكثير من مقطوعاته فيتضوع بشذا الحب والجمال ويترنم بموسيقاهما على صورة لم تعرف في شعر شلي، فلقد كان من عباد جمال المرأة والذين يجدون فيه تمثال الكمال الإنساني مجسما، وكأنما كان جسمه يصبو إلى هذه الأجسام التي تتمثل فيها الروح الإنسانية بكل نوازعها معنى الجمال الإنساني، لكنه كان يسبح من عبادته هذا الجمال في خيال قسرته عليه فضيلته وألزمته إياه آراؤه ومبادئه؛ لذلك لم يكن يدع لصبوة جسمه أن تنزلق مع تيار الغريزة باحثة عن الاتصال بمن صبا إليه، بل كان يدع هذا الاتصال لعقله ولخياله ولشعره يصوغ من الاتصال آي الحكمة وأهازيج الجمال، وهو هنا يختلف عن بيرون وعن كثيرين من الشعراء الذين يجدون في صبوة الجسم إلى الجسم - شفاء لغريزة تخليد النوع - كل ما يسعى إليه الحب، بل كل ما يحرك في النفس هذه العاطفة، وهذا المعنى الذي تراه صريحا جليا في شعر شلي هو الذي كان ينتهي باليأس إلى نفوس كل من أحببنه من النسوة، وبما يشبه اليأس إلى نفس ماري أكثرهن ذكاء وأسماهن حكمة، فالمرأة التي ترى في فضيلة شلي معنى من معاني الرواقية والزهد في الحياة والرغبة عنها تشعر بنقص في الحياة على حين خلقتها الطبيعة لتزيد فيها وتستزيد منها.

على أن جمال المرأة وإن زان كل جمال في الوجود وتوجه فليس ما في الوجود سواه من جمال أقل إلهاما لنفس الشاعر وتحدثا إلى قلبه، بل إن كثيرا من جمال الوجود ليخلع على المرأة جمالا وزينة بمقدار ما تزينه هي وتجمله، ولئن كنت ترى هذين اللونين من الجمال مقترنين أكثر الأحايين في نفس أكثر الشعراء، إلا أن لجمال الوجود مكانة خاصة من نفس شلي تكاد تجعل الجمال لذاته آية إيمانه في الحياة، وهو في هذا أصدق من كثيرين غيره نظرة وأدق حسا، وهو لهذا كان يريد أن يفصل المرأة كمثال للجمال والمرأة كمخلدة للنوع، وكان يبحث فيها عن الجمال في مثله الأعلى، وكان لذلك لا يرى لجمال الجسد قيمة ما لم يصحبه روح جميل هو الآخر.

وفيما سوى هذا الجانب من جوانب شعر شلي كانت المدينة الفاضلة غاية قصده من أكثر قصائده، المدينة الفاضلة بما فيها من إخاء وتسامح وحرية وتبادل محبة، المدينة الفاضلة المنزهة عن دنيا الشهوات، السامية إلى مكانة هي وحدها الجديرة بالإنسانية المهذبة، و(الملكة ماب) و(بروموتيه) و(سنسي) نفسها اندفاعات صادقة في الدعوة إلى هذه الغاية العليا، وحرب شعواء على الجمود وعلى التعصب، وعلى ما يؤدى إليه الجمود والتعصب من تحكم الشهوات الدنيا في الروح الإنسانية تحكما ينتهي بها إلى فسادها وذلها، ولعل هذه الصورة التي صورها الشاعر من آثار الجمود والتحكم أشد ما تكون وضوحا في (سنسي) منها في أية قصيدة أو رواية أخرى، فقصة هذه الرواية التي وضعها الكثيرون من النقاد والكتاب في صف روايات شكسبير، أن الكونت سنسي بلغ من كراهية ابنته وابنه من زوجة متوفاة أن حدثته نفسه بالفتك بعفاف ابنته بياتريس، وشعرت الفتاة بالكريهة التي يريدها أبوها عليها فدبرت مع أخيها وزوج أمها مؤامرة للتخلص من حياة ظالمهم جميعا، وإنما لجأوا إلى الائتمار بحياته بعد أن لجأوا إلى البابا وإلى كبراء روما فلم يجدوا منهم منصفا، وكشف الأب المؤامرة فشكاهم إلى قداسة الباب فأمر بإعدامهم وفقا لإرادة الكونت الذي اشترى من القداسة العليا العفو عن كثير من جرائمه بثمن زاد على مائة ألف من الجنيهات، ولو أن العدل أخذ مجراه في هذه المؤامرة لكان (سنسي) هو الخليق بأن يجزى أشد الجزاء، لكن في إعدامه إعداما للأموال الطائلة التي كان يغدقها على الخزانة البابوية، فليعدم الفقراء، وإن كانوا أنصار الفضيلة، ولتبق الجماعة على حياة الرذيلة ما دامت تفيد منها، ثم لتثر الفضيلة على لسان شلي في أشعار هذه الرواية الخالدة ثورة تدك عرش الظلم وتهز قوائم الظالمين.

وهو هذا الدفاع عن الحرية وعن الفضيلة ومحاولة الارتفاع بجمال المرأة ليكون مثالا لهما هو الذي كان يفرق بين شلي وبيرون، ويجعل من كل واحد ند صاحبه، وطبيعي أن كان إقبال الجمهور يومئذ على شعر بيرون، فالجمهور أسير الشهوات يلتمسها في واقع الحياة، ولئن صح إن كانت ألسنة الخلق أقلام الحق، فلبيرون أن يزهي على صاحبه وأن ينظر إليه مشفقا عليه، لكنه كان في الخيال كما كان في الواقع يستشعر الغيرة منه، وكأنما كان يجري به خياله إلى لجج المستقبل يلتمسها فيتبين خلالها ما أعده لشلي من عظمة وخلد ينافسان خلده وعظمته ويدعو الكثيرين لتفضيله عليه.

Unknown page