Tarajim Misriyya Wa Gharbiyya
تراجم مصرية وغربية
Genres
وليس بي حاجة إلى العود للقول بأن قيام أفراد من دم غير مصري على عرش مصر لا يدل على أن مصر كانت تابعة لأمة أخرى؛ فالملوك في أكثر الأمم وفي مختلف عصور التاريخ لم يكونوا أكثر الأمر من أهل تلك الأمم إذا أنت تقصيت أصل مولدهم، لكنهم وقد عظموا بها كما عظم بمصر ملوك مصر فقد نسبوا إليها على حين يصر المؤرخون على نسبة ملوك مصر لبلاد غير مصر، والغلو في ذلك إلى حد القول بأن مصر وملوكها كانوا تابعين لدولة أخرى، وهم يقولون: ألم يتول أحمد بن طولون أمر مصر من قبل العباسيين وإن استقل من بعد بها؟ إذا فمصر ولاية عباسية، والحقيقة أن الخلافة الإسلامية في تلك العصور كانت قد انحلت عنها الصبغة الزمنية وبقيت لها السلطة الروحية وحدها، فكانت تبعية كثير من الدول الإسلامية لها شبيهة كل الشبه بتبعية الدول المسيحية لبابا روما، واستقلال الأمم وسيادتها لا شأن لها بالسلطان الروحي، وإنما مرجع أمرهما إلى السلطان الزمني، فما دام في عاصمة مملكة من الممالك كل أمر هذه المملكة الزمني فليكن لها من الاتصال الروحي بمكة أو بدمشق أو ببغداد أو بروما ما تشاء، فلن يغير ذلك قليلا ولا كثيرا من أنها أمة كاملة الاستقلال، والأمر الذي لا ريبة فيه أن الخلافة الإسلامية انحلت عنها السلطة الزمنية انحلالا فعليا من بعد خلافة المأمون ومنذ بدأ المعتصم يضطرب في حكم الدولة العربية وحدها، هذا إلى أن أولئك الذين حكموا مصر من طولونيين وإخشيديين وفاطميين وأيوبيين كان شأنهم شأن طوائف تماثلهم في أكثر بلاد أوربا حضارة ورقيا، طوائف جاءت إلى إنجلترا وفرنسا وألمانيا وغير هذه من الدول من بلاد أخرى في بعض الغزوات، وكانت في ركاب الغازي ثم اندمجت من بعد ذلك في الشعب، وظل لها مع ذلك من تاريخها ما يحفظ لها في نظام الطوائف أقرب مكان من العرش، فهي أبدا تتطلع إلى مقامه وكثيرا ما تصل إلى ارتقائه.
واستمر حكم الدول الطولونية والإخشيدية والفاطمية والأيوبية بمصر من سنة 868 إلى سنة 1250، ومن بعد هذا التاريخ ازداد انحلال السلطان الروحي للخلافة وزالت الدولة العباسية نفسها من بغداد، واستولى التتار على أكثر ممتلكاتها الآسيوية، أما مصر فقد استمرت تخطو إلى الأمام خطوات واسعة في سبيل التقدم والحضارة، وكان المماليك هم الذين حلوا محل الدولة الأيوبية في الحكم، والمماليك هم بعض هذه الطوائف التي أشرنا إليها والتي تجيء في ركاب الغزاة، ثم تصل في كثير من الأحيان إلى عرش البلاد بإقرار أهل البلاد أنفسهم، وهؤلاء المماليك كانوا قد جاءوا إلى مصر في بلاط حكامها الذين سبقوهم والأيوبيين منهم بنوع خاص.
اشتراهم هؤلاء الحكام ليكونوا في حاشيتهم وفي جيوشهم وليكون لهم من نسائهم الجميلات سراري وموالي، ومن شأن هؤلاء أن يكونوا أكثر من كل الناس وقوفا على أسرار ذوي العرش ومعرفة ببواطن أمورهم وأسباب قوتهم وضعفهم، فكان طبيعيا بعد إذ كثروا في مصر كثرة جعلت منهم جيشا جرارا أن يخلفوا الأيوبيين في ملكهم، لكنهم - كالأيوبيين وأكثر من الأيوبيين - كانوا مستقلين بمصر وكانت مصر مستقلة بهم تمام الاستقلال غير خاضعة لحكم أية دولة أخرى، بل لقد كانت في عهدهم عزيزة الجناب مرهوبة الجانب من كل دول البحر المتوسط التي كانت وحدها المعتبرة ذات حضارة معترف بها في العالم كله، وبلغت من ذلك أن أصبحت القاهرة مقر الخلافة الإسلامية ممثلة في العباسيين الذين انقرضوا ملوكا، فلم يبق للخلافة منهم إلا شبح ذابل أراد الظاهر بيبرس أن يخلع عليه رواء من قوة مصر ومجدها بأن يسكن الخليفة العباسي في عاصمة ملكه، ولم يكن الظاهر في هذا دعيا ولا مغرورا، فقد بلغت مصر في عهد المماليك البحرية والبرجية من الرفعة شأوا عظيما حتى كانت صاحبة الإملاء على السياسة الدولية في ذلك العصر، ولم يقف أمرها في عظمتها عند السلطان الحربي، بل كان لها أكثر من سلطان علمي وأدبي معترف به، كما كانت مركز الدائرة من حركة التجارة العالمية، وكمثل من سلطان مصر الأدبي أضع تحت نظر القارئ الفقرة الآتية من كتاب الأستاذ عبد الرحمن بك الرافعي «تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم في مصر» قال:
ظلت الآداب العربية إلى عهد السلاطين البحرية والبرجية الشراكسة حافظة مكانتها التي كانت لها من قبل، وإليهم يرجع الفضل في إنقاذ آداب العربية من غزوات المغول التي كادت تقضي على العلوم والآداب العربية في الشرق، فكانت مصر ملجأ للناطقين بالضاد ممن فروا أمام التتار في العراق وفارس وسوريا وخراسان، وبقيت لغة حكومتها عربية في عهد تينك الدولتين، واستظلت العلوم والآداب العربية بحماية الملوك والسلاطين في مصر، ونبغ فيها طائفة من فطاحل الشعراء والأدباء والعلماء، كالبوصيري صاحب البردة، والسراج الوراق، وابن نباتة المصري ، والقلقشندي صاحب صبح الأعشى، والأبشيهي صاحب المستطرف، وابن منظور صاحب لسان العرب، وابن هشام النحوي العظيم الذي يقال فيه إنه أنحى من سيبويه، وابن عبد الظاهر، والنواجي - نسبة إلى نواج إحدى قرى مديرية الغربية - صاحب حلبة الكميت، والقسطلاني المحدث المشهور، وشمس الدين السخاوي صاحب الضوء اللامع، وابن خلكان المؤرخ المشهور صاحب وفيات الأعيان، والصفدي صاحب الوافي، وابن حجر المؤرخ إمام الحفاظ والمحدثين في زمانه، والعيني المؤرخ والمحدث، وابن وصيف شاه، وابن دقماق، والمقريزي صاحب الخطط، والمكين بن العميد، وأبو الفداء المؤرخ الجغرافي المشهور صاحب تقويم البلدان، والذهبي، والنويري صاحب نهاية الأرب في فنون الأدب، وابن فضل الله العمري صاحب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، وابن عقيل، وابن تغري بردي صاحب النجوم الزاهرة، وجلال الدين السيوطي صاحب التآليف الشهيرة في التفسير والعلوم الشرعية والتاريخ والأدب واللغة وهو آخر من ظهر في ذلك العصر من كبار العلماء بمصر، والدميري صاحب حياة الحيوان، وابن إياس المؤرخ الذي أدرك الفتح العثماني، وقد استضافت مصر في ذلك العصر جماعة من أئمة العلوم والفلسفة في الشرق، كالإمام ابن تيمية وابن القيم الجوزية، وفيلسوف المؤرخين ابن خلدون.
ونضع كذلك تحت نظر القارئ هذه العبارة من كتاب «صفحات في تاريخ مصر» للأستاذ توفيق حامد المرعشلي، ليرى منها مبلغ ما وصلت إليه مصر أيام المماليك من عظمة في نواحي حياتها الاقتصادية والسياسية، قال: «إن عصر المماليك يعد من عصور الرخاء والنشاط التجاري والاقتصادي بمصر، فكانت الصلة بين مصر ودول أوربا موطدة الدعائم، عقدت المعاهدات مع فرنسا وجمهوريات إيطاليا لحماية التجار الأجانب وترغيبهم في الإقامة بمصر، فراجت الأسواق التجارية وصارت مصر الملتقى التجاري بين الشرق والغرب سواء أكان بمرور التجارة من مصر فالبحر الأحمر إلى الهند، أم من الشام إلى العراق فالخليج الفارسي إلى بلاد العجم والهند وبالعكس من الطريقين، بما عاد على المماليك وخزانتهم وعلى المصريين ضمنا بالأموال الطائلة التي كانت تجبى من المكوس والحركة التجارية.» فأما رقي الفنون، وفن العمارة منها بنوع خاص، فتشهد به الآثار الكثيرة الموجودة بمصر ومنها المساجد والمنازل الأثرية بمشربياتها وأبهائها البديعة التنسيق الرائعة الجمال.
وليس إنسان يقرأ هذا الذي بلغت إليه مصر في عصر المماليك من سؤدد وعلم وحضارة إلا يقف ذاهلا: ألم يكن الأثر الباقي في نفوسنا لما تعلمنا عن تاريخ مصر في هذه الفترة أنها تعتبر عصرا مظلما في تاريخ مصر؟ فكيف يذر العصر المظلم كل هذه الآثار المضيئة؟! قد نفهم القول بأن حكومات مصر في ذلك الزمن كانت حكومات استبدادية وأن الفكرة الديمقراطية كانت معدومة يومئذ، وإنما كان يقوم نظام الطوائف مقامها، لكن هذا لا يعني شيئا ولا يخفى ما لتاريخ مصر في أثناء عصر المماليك من سناء ساطع، هو لا يعني شيئا لأن أمم العالم كله كانت يومئذ محكومة على نظام استبدادي تؤيده الطوائف المعزوة رياستها إلى مقام الحاكم بما يجعلها ذات مشورة، إن لم تكن ذات رأي في تصريف الشئون العامة، وما دام هذا النظام قد أنبت كل تلك الثمرات اليانعة التي تفخر بها مصر وتضعها في الغرة من تاريخها، فذلك الدليل على أنه كان النظام الصالح في العصر الذي قام فيه، فليس نظام للحكم يحمد لذاته أو يذم لذاته، ولكنه يحمد أو يذم بقدر ما يؤتي من صالح الثمرات أو من سيئها، وبقي هذا العصر الزاهر في تاريخ مصر من سنة 1250 إلى سنة 1517.
وكما اكتسح الإسكندر الأكبر العالم فعنت له أممه ثم فتحت مصر له آخر الأمر أبوابها، وكما أتاحت الأقدار ليوليوس قيصر أن يصنع بالعالم صنيع الإسكندر من قبل، مما جعل مصر تذعن لسلطان روما مع مداومتها الثورة عليه، كذلك اكتسح الأتراك العالم في القرن الخامس عشر وقضوا على الدولة البيزنطية باستيلائهم على القسطنطينية في سنة 1453 وأوغلوا بعد ذلك في أوربا حتى وصلوا إلى أسوار فيينا، وقد بقيت مصر مرهوبة مهوبة الجناب عندهم برغم ما كان من كل تلك القوة لهم حتى سنة 1517 حين نزلها السلطان العثماني سليم بعد حرب تم له فيها النصر على السلطان الغوري في موقعة بالشام على مقربة من حلب وعلى طومان باي الذي كان قائما مقامه بالقاهرة.
وحكم الأتراك مصر على الطريقة التي حكمتها بها روما، وكان أول ما صنعوا أن أخذوا الخليفة العباسي إلى الأستانة حيث جعله السلطان سليم يتنازل عن الخلافة التي أصبحت من يومئذ في آل عثمان حتى قضى مصطفى كمال عليها في سنة 1923، ثم جعلوا يوفدون إلى مصر واليا حرصوا على ألا تطول مدته بمصر من خشية أن ينظم جيشها ثم يقهر الأتراك به ويعيد إلى مصر استقلالها على نحو ما حدث في عهد البطالسة، وأوقفوا ما كان بمصر من مظاهر الحضارة بأن أخذوا إلى عاصمتهم كل رجال العلم والفن والصناعة في مصر، ولم يعوضوها شيئا، وظل الحال على ذلك إلى أواخر القرن السابع عشر حين بدأت نذر الانحلال يدب دبيبها إلى تركيا، حينذاك بدأ المماليك، الذين ظلوا طوال مدة ولاية تركيا حكام الأقاليم، يفكرون في استعادة السلطة والاستقلال بمصر، وكان هؤلاء المماليك قد أصبحوا - كما أصبح اليونان والعرب من قبل - مصريين، فكانوا يقفون متكاتفين مع شعب مصر في وجه الوالي الذي تبعثه الأستانة كما كان أسلافهم من قبل يقفون في وجه الحاكم العسكري الذي تبعثه روما، وكان هذا الوالي التركي الذي لم يندمج في مصر ولم يتمثل روحها يظل سجينا في قلعة القاهرة لا سلطان له على أحد ولا على شيء فيها، وكان المماليك والشيوخ الذين يمثلون الطبقة المتعلمة إذا رأوه على غير ما يريدون بعثوا إليه رسولا يطلق عليه اسم (الأوده باشي) يدخل عليه ويطأطئ الرأس احتراما له ثم يلمس طرف السجادة ويطويها ويقول مناديا للوالي: «انزل يا باشا»، ويكون هذا أمرا للوالي صادرا له من المصريين لا يستطيع له مقاومة ولا تستطيع تركيا له نقضا، وبلغ الضعف بالوالي التركي أن كان طوال القرن الثامن عشر واليا بالاسم لا سلطة له ولا عمل أكثر من إرسال الخراج إلى تركيا، ودفع هذا الضعف علي بك الكبير إلى التفكير في الاستقلال بمصر وتم له من ذلك ما أراد، وظل ثلاث سنوات تلقب فيها بسلطان مصر وخاقان البحرين ، على أن سوء سياسة الحكم في تركيا وما كان من تدميرها كل أسباب الحضارة في مصر في أثناء القرن الأول من استبدادها بها، نضح على هؤلاء المماليك فجعلهم يسيرون مع الشعب أسوأ ما يسير مستبد جائر، مما شوه اسم أسلافهم المماليك الذين ارتفع اسم مصر في عهدهم على مكان من العزة لا ينال.
وجاءت الحملة الفرنسية إلى مصر سنة 1798 فقاومها المصريون أشد المقاومة حتى انتهت بالجلاء عن البلاد بعد ما نقلت إليها أفكار الثورة الفرنسية وأسباب الحضارة الغربية، وبعد أن فتحت عيون المصريين على حياة جديدة هي التي يدأبون اليوم لتوطيدها واتخاذها وسيلة لعود مصر إلى مجدها وقوتها.
وجاء محمد علي باشا واليا من قبل تركيا على مصر فقضى على المماليك، ثم استمال إليه علماء مصر وأعيانها ووجهاءها، وفكر طوعا لإرادتهم في الاستقلال بها، وأعلن ذلك بالفعل وغزا الدولة العثمانية في الشام وفي الأناضول ووصل حتى صار على ثلاث ساعات من الأستانة، وكان مخضعا سلطان تركيا لولا أن تحالفت معها عليه دول أوربا جمعاء، ووقفت في وجهه برا وبحرا، وقضت على الأسطول المصري في معركة نافارين، وهذا الوقوف من جانب الدول الأوربية في وجه الجيوش المصرية الظافرة لم يكن القصد منه المحافظة على تركيا الضعيفة مخافة أن يهدد وجود حاكم قوي في الأستانة التوازن الدولي كما اعتاد المؤرخون أن يقولوا، فلو أن ذلك وحده كان السبب لكان أقل ما تجزى به مصر على انتصاراتها بقيادة محمد علي أن تقوم بنفسها دولة مستقلة غير خاضعة لأحد، لكن الدول أبت على مصر هذا الاستقلال وأصرت على أن تظل ولاية تابعة لتركيا، وإن كانت ولاية ممتازة مستقلة استقلالا داخليا كاملا، إنما كان السبب الصحيح تخوف أوربا من أن تستعيد مصر قوتها التاريخية المعروفة، وأن تنضم إليها فلسطين وسوريا كما كانتا منضمتين لها في أكثر حقب التاريخ، وأن تتحكم لذلك في حوض البحرين: الأبيض والأحمر، وأن يصبح سلطانها بالفعل خاقان البحرين كما كان علي بك الكبير يدعو نفسه في الفترة القصيرة التي استقل فيها بأمر مصر، ومهما يكن من أثر ذلك في تقوية الحضارة ورفع منار السلام فإن الفكرة الاستعمارية كانت قوية يومئذ في نفوس الساسة الأوربيين إلى حد جعلهم يضعون أساسا لسياستهم القضاء على قيام دولة في مصر لها هاته القوة والسلطان، وهذا وحده هو السر في إبائهم على مصر أن تستقل بإزاء تركيا التي ضعفت كل الضعف عن مقاومة جيوشها، والتي كانت معرضة لأن تقع هي وعاصمتها تحت سلطانها.
Unknown page