Tarajim Mashahir
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Genres
فاستتب الأمر للأمير بشير، غير أن الفتن بين ولايتي صيدا ودمشق لم تكن تنقطع، واللبنانيون تارة يثورون على أميرهم وطورا يستبد فيهم محصلو الأموال، ونظرا لكثرة الفئات والطوائف في لبنان لم يكن يخلو ذلك الجبل من فتنة تهرق في سبيلها الدماء وتسلب الأموال، وكان الأمير بشير يتدبر كل ذلك حينا بالحكمة، وآونة بالقوة، وتارة بالحيلة والدهاء، حتى بهر الحكام وسحر الرعية، وزد على ذلك أنه لم يكن في مأمن من صداقة رئيسه الجزار والي صيدا؛ لأن الجزار لم يكن يرعى ذماما ولا يتفاضل الأمراء عنده إلا بنسبة ما يدفعونه إليه من الخراج والأموال، وكان إذا ولى أميرا لا يأمن انتقاضه فيسترهن عنده ابنه أو أخاه أو زوجته، فإذا عزله بعث إليه بالرهن ويسترهن أحدا من أبناء الأمير الجديد وهكذا.
وفي سنة 1799م قدم بونابرت بجيوشه لافتتاح سوريا بعد أن دوخ الديار المصرية فافتتح يافا ثم جاء عكا وحاصرها، وكان الأمير بشير عونا كبيرا للفرنساوية يمدهم بالمئونة والزاد، وقد سر نصارى لبنان بقدوم تلك الجيوش وخاف الدروز، ولما طال الحصار على الفرنساويين وامتنعت عكا عليهم بمساعدة العمارة الإنكليزية تحت قيادة السير سدني سميث مل الأمير بشير من معاضدتهم، ثم وردت عليه كتابات من السير سدني يبين له فيها: «أن الفرنساوية لما دخلوا مصر نشروا منشورات ادعوا أنهم مسلمون وقد كسروا الصلبان في رومية.» وبعث إليه بنسخة من ذلك المنشور فنفر الأمير من الفرنساوية وقطع المؤنة عنهم، وكان ذلك من جملة أسباب فشلهم وعودهم على الأعقاب، ولم يفتحوا عكا مع أنهم حاصروها زهاء شهرين.
وكان الجزار قد تغير على الأمير لمساعدته الفرنساوية ثم علم بكفه عن مساعدتهم، ولكنه لم يقره في مكانه فتوسط له السير سدني سميث، وكان بين هذا والأمير صداقة ومهاداة، وسافر الأمير في أثناء تغير الجزار عليه في مركب من عمارة السير سدني إلى الإسكندرية، وكان ذلك المركب بانتظاره في طرابلس، وبالغ السير سدني في إكرام الأمير وأحبه محبة شديدة لما رأى من هيبته وجسارته، وأمر بتصويره وخاطب بشأنه الصدر الأعظم، وكان قد قدم غزة لمحاربة الفرنساوية ليعيده إلى منصبه في إمارة لبنان فأعاده.
ولكنه اضطر بعد قليل لمغادرة لبنان لعدم رضوخ أصحاب المقاطعات له ، فسافر في عمارة السير سدني إلى قبرص وأقام فيها ستة أشهر ثم سافر معه إلى الإسكندرية، وما زالوا في البحر المتوسط بين ذهاب وإياب نحو شهرين، وبعد ذلك عاد إلى إمارته في لبنان وكانت بينه وبين الجزار ومن ولاهم مكانه حروب دامت أربع سنوات، ثم تصالح والجزار سنة 1803م.
وفي السنة الثانية توفي الجزار وخلفه إبراهيم باشا (غير ابن محمد علي باشا)، ولم تطل ولايته، فخافه سليمان باشا وكان من مماليك الجزار، وبينه وبين الأمير صداقة فأقره في إمارته وأيد نفوذه، وكان أولاد الأمير يوسف من أكبر مناظري الأمير في الإمارة وكثيرا ما كانوا يتمكنون من إغراء الجزار على عزله والتولي مكانه بمساعدة مديره جرجس باز وأخيه عبد الأحد، فلم يصف له الكأس حتى قتلهما بدسيسة سنة 1707م، وفي سنة 1709م بنى الأمير بشير جسر نهر الكلب، وبعد سنتين بنى جسر نهر الصفا، وكان للأمير ثلاثة أولاد: الأمراء (قاسم وخليل وأمين).
وفي سنة 1813م جاء إلى الأمير رجل حمصي اسمه بطرس بن إبراهيم كرامة، وكان شاعرا فصيحا ومنشئا بليغا حسن الخط، وكان قد قرأ صناعة الإنشاء والشعر على الشيخ أمين الجندي الشاعر المشهور فجعله الأمير نديما عنده ثم وكل إليه تعليم ابنه الأمير أمين، وصار بعد ذلك كاتب يده.
وكان بجوار دير القمر قرية يقال لها: بيت الدين - وقد تقدم ذكرها - فاتخذها الأمير مسكنا له وبنى فيها الدور لسكناه ولسكنى أولاده وفي جملتها السراي الباقية إلى هذا العهد المعروفة بسراي بيت الدين، وفيها مقر متصرفية لبنان إلى هذه الغاية. وأجرى إلى بيت الدين قناة من ماء تحت عين زحلتا على مسافة ثلاث ساعات يسمى نبع القاع بجانب نهر الصفا، وغرس فيها المغارس والبساتين حتى أصبحت من أجمل المساكن وأبهاها.
وكان الجنبلاطية عونا كبيرا له في كل حروبه وأعماله؛ لأنهم هم الذين سعوا في إمارته وقد شدوا أزره وقاموا بنصرته وأيدوا حكومته ماديا وأدبيا، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك حبا بتعزيز سطوتهم وتأييد نفوذهم، فكانوا ينظرون من وراء مساعدتهم إلى ما يؤيد نفوذهم على الأسر الأخرى الدرزية التي كانت تناظرهم في السطوة ونفوذ الكلمة، وقد سعوا في استخدام الأمير بشير لأغراضهم حتى سئم هو من استبدادهم واعتراضهم له في أعماله، فرأى أن الجو لا يخلو له إلا إذا كسر شوكتهم وتفرد بالأحكام فعول على التخلص منهم.
ولكنه لم يكن يتظاهر بذلك، فاتفق أن أحد الأمراء المدعو الأمير حسن أراد التزوج بابنة ولم يرض أبوها به فغضب وقتله، فعل ذلك برضاء الشيخ بشير جنبلاط، فغضب الأمير بشير على الأمير حسن وأمر بالقبض عليه ففر إلى دمشق، وهناك أسلم ووشى بالأمير أنه مسيحي وهيج عليه الوالي، فحقد الأمير على الشيخ بشير لأنه نسب ذلك إليه، وفي أثناء ذلك بنى الشيخ بشير جامعا في المختارة بالقرب من بيت الدين وتظاهر بالإسلامية، فازداد حقد الأمير عليه وأضمر له الشر وعزم على تعضيد الأحزاب المضادة له من الدروز، ولكنه كتم ذلك في باطن سره وبقي مظهرا الصداقة له كالعادة.
وفي سنة 1819م توفي سليمان باشا والي عكا وخلفه عبد الله باشا الخزنة دار بن علي باشا أحد مماليك الجزار، فأقر الأمير في إمارته ولكنه أخلف بعد قليل وولى غيره مدة قصيرة، ثم عادت الإمارة إليه فعاد مكرما مع الهدايا والتقادم على أن يكون أميرا على لبنان مدة حياته، ولكن بعض اللبنانيين لم يذعنوا له بدسيسة ممن كان أميرا قبله، وأبوا دفع الأموال كما أراده هو فقامت بينه وبينهم حروب آلت إلى خصام طويل بين ولايتي صيدا ودمشق، وكان الأمير يحارب مع عبد الله باشا والي صيدا أو عكا ضد درويش باشا والي دمشق، وقد أخلص النية وبذل قصارى الجهد في تلك المساعدة حتى أوجس درويش باشا خوفا منه، وكان عالما أن الفضل في ذلك النصر للأمير بشير فكتب إليه يستجلب رضاه ووعده بالولاية على صيدا ولقبه بوالي الشام وصيدا، فأعرض الأمير عن إجابته وبعث الكتاب إلى عبد الله باشا، فسر هذا من صداقته وكتب إليه أن يثابر في محاربة الدمشقيين، ولقبه بوالي الشام وصيدا أيضا. أما الأمير فجاء عكا يريد إرجاع عبد الله باشا عن عزمه في ذلك فلم يجبه، فسار في الجند كما أمره وعاد إلى المحاربة، فاعتبرت الدولة العلية أعمال عبد الله باشا هذه تعديا على حقوقها فأنجدت درويشا وأنذرت الأمير بذلك فأذعن، ولكنها اشترطت عليه بواسطة الشيخ بشير شروطا صعبة في إمارته فلم يرض، فاتفق الأمير والشيخ على تولية الأمير عباس فقبل درويش بذلك، وعقد الأمير مع الأمير عهدا أن يحافظ هذا على بيت الأمير وكل ماله أثناء غيابه، وركب قاصدا عكا فعلم أن درويش باشا بعث للقبض عليه، فعرج إلى صيدا ونزل من ضواحي بيروت في المراكب ومعه من الحاشية نحو المائة وخمسين رجلا قاصدا مصر سنة 1821م وفيهم إذ ذاك المغفور له محمد علي باشا واليا فلاقى منه كل رعاية وإكرام.
Unknown page