مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
القسم الأول: العائلة الخديوية
1 - محمد علي باشا
2 - إبراهيم باشا
3 - عباس باشا الأول
4 - سعيد باشا
5 - إسماعيل باشا
6 - محمد توفيق باشا الخديوي السابق
7 - عباس حلمي باشا الخديوي الحالي
القسم الثاني: الملوك والأمراء
8 - السلطان محمود الثاني
9 - الأمير بشير الشهابي الثاني
10 - محمد أحمد المتمهدي السوداني
11 - عبد الله التعايشي
12 - ناصر الدين شاه ملك الفرس
13 - الأمير عبد الرحمن أمير الأفغان
14 - حبيب الله خان
15 - تسي هي إمبراطورة الصين
16 - منيليك ملك الحبشة
17 - علي بن حمود سلطان زنجبار
القسم الثالث: القواد والوزراء
18 - سليمان باشا الفرنساوي
19 - عمر باشا
20 - الأمير عبد القادر الجزائري
21 - عثمان باشا الغازي
22 - حميد بن محمد المرجبي فاتح الكونغو
القسم الرابع: رجال الإدارة والسياسة
23 - المعلم جرجس الجوهري
24 - المعلم غالي
25 - علي باشا تيه دلنلي
26 - بوغوص بك
27 - مصطفي رشيد باشا
28 - فؤاد باشا
29 - محمد شريف باشا
30 - رستم باشا
31 - نوبار باشا
32 - جواد باشا
33 - أحمد عرابي المصري
34 - لي هونغ تشانغ
35 - الماركيز إيتو
القسم الخامس: رجال الأعمال وأهل البر والإصلاح
36 - كيرلس الرابع
37 - الشيخ محمد عبده
38 - مصطفى باشا كامل
39 - سليم صيدناوي
40 - قاسم أمين
41 - بشارة الخوري
42 - السيد عبد الرحمن الكواكبي
تابع رجال الإدارة والسياسة
43 - مدحت باشا
44 - بطرس باشا غالي
مقدمة الطبعة الأولى
مقدمة الطبعة الثانية
القسم الأول: العائلة الخديوية
1 - محمد علي باشا
2 - إبراهيم باشا
3 - عباس باشا الأول
4 - سعيد باشا
5 - إسماعيل باشا
6 - محمد توفيق باشا الخديوي السابق
7 - عباس حلمي باشا الخديوي الحالي
القسم الثاني: الملوك والأمراء
8 - السلطان محمود الثاني
9 - الأمير بشير الشهابي الثاني
10 - محمد أحمد المتمهدي السوداني
11 - عبد الله التعايشي
12 - ناصر الدين شاه ملك الفرس
13 - الأمير عبد الرحمن أمير الأفغان
14 - حبيب الله خان
15 - تسي هي إمبراطورة الصين
16 - منيليك ملك الحبشة
17 - علي بن حمود سلطان زنجبار
القسم الثالث: القواد والوزراء
18 - سليمان باشا الفرنساوي
19 - عمر باشا
20 - الأمير عبد القادر الجزائري
21 - عثمان باشا الغازي
22 - حميد بن محمد المرجبي فاتح الكونغو
القسم الرابع: رجال الإدارة والسياسة
23 - المعلم جرجس الجوهري
24 - المعلم غالي
25 - علي باشا تيه دلنلي
26 - بوغوص بك
27 - مصطفي رشيد باشا
28 - فؤاد باشا
29 - محمد شريف باشا
30 - رستم باشا
31 - نوبار باشا
32 - جواد باشا
33 - أحمد عرابي المصري
34 - لي هونغ تشانغ
35 - الماركيز إيتو
القسم الخامس: رجال الأعمال وأهل البر والإصلاح
36 - كيرلس الرابع
37 - الشيخ محمد عبده
38 - مصطفى باشا كامل
39 - سليم صيدناوي
40 - قاسم أمين
41 - بشارة الخوري
42 - السيد عبد الرحمن الكواكبي
تابع رجال الإدارة والسياسة
43 - مدحت باشا
44 - بطرس باشا غالي
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
تأليف
جرجي زيدان
مقدمة الطبعة الأولى
رأينا من جمهور القراء ارتياحا لما ننشره في الهلال من تراجم مشاهير الناس، وتقدم إلينا غير واحد من حضراتهم أن نؤلف من تلك التراجم وأمثالها كتابا على حدة مع ما تقتضيه من الرسوم ونحوها؛ ليسهل الاطلاع عليها والاعتبار بها، فرأينا أن نلبي الطلب، على أن يكون عملنا قاصرا على مشاهير الشرق دون سواهم، وأن لا يتجاوز وفيات القرن التاسع عشر.
ومما يهون ذلك علينا أننا قضينا العقد الأخير من القرن المذكور في البحث عن مشاهير رجالنا في السياسة، والإدارة، والعلم، والأدب، وقد نشرنا كثيرا من تراجمهم في أهلة السنين الماضية، فعمدنا إلى جمع تلك التراجم في كتاب نرتب فيه أولئك المشاهير باعتبار ما اشتهروا به؛ فقسمناه إلى جزأين: الجزء الأول في رجال الحكومة، والثاني في رجال العلم مع ملاحظة الشروط الآتية: (1)
أننا لا ننشر إلا تراجم المشاهير الذين توفوا في أثناء القرن التاسع عشر، إلا في أحوال خصوصية أهمها أن يكون المترجم قد فرغ من العمل الذي انتدب نفسه له أو أوقف سيرته عند حد لا يرجى له أن يتعداه. (2)
توسعنا في المراد من لفظ الشرق إلى آخر الشرق الأقصى، فترجمنا الذين بلغت إلينا شهرتهم من رجال فارس، والهند، والصين، واليابان. (3)
عددنا في جملة مشاهير الشرق رجالا من الإفرنج خدموا الشرق، وقضوا معظم حياتهم فيه، مثل: سليمان باشا الفرنساوي، والدكتور كلوت بك، والدكتور فنديك، وغيرهم، وفعلنا نحو ذلك بمشاهير المسلمين في بلاد المغرب. (4)
قسمنا كلا من جزأي الكتاب إلى أبواب، ورتبنا رجال كل باب باعتبار سني وفاتهم بقطع النظر عن أهليتهم.
1
فالجزء الأول:
من تراجم مشاهير الشرق - وهو هذا - يحتوي على تراجم من اشتهر في الشرق من رجال الحكومة في أثناء القرن الماضي، وهو يقسم إلى أربعة أقسام:
أولا:
أمراء العائلة الخديوية.
ثانيا:
الملوك والأمراء.
ثالثا:
القواد.
رابعا:
رجال الإدارة والسياسة.
والجزء الثاني:
يشتمل على من اشتهر في الشرق من رجال العلم والأدب في أثناء القرن التاسع عشر، وهو أربعة أقسام: (1)
أركان النهضة العلمية الأخيرة. (2)
المنشئون وكتاب الجرائد. (3)
سائر رجال الأقلام وخدمة العلم والأدب. (4)
الشعراء.
فالجزء الأول عبارة عن تراجم رجال الحكومة، وتاريخ أعمالها الإدارية في الآستانة ومصر والشام والسودان وسائر المشرق، أو هو تاريخ الشرق السياسي في القرن التاسع عشر، والجزء الثاني عبارة عن تاريخ العلم والأدب في النهضة الشرقية الأخيرة، وقد توخينا تحري الحقائق جهد طاقتنا، والعصمة لله وحده.
ونظرا لما يعتور هذا المشروع من العقبات في انتقاء الرجال، والبحث عن تراجمهم لقلة المآخذ المؤدية إلى ذلك؛ لقرب عهدنا من الحضارة الجديدة، فلا يخلو أن يكون قد فاتنا ذكر بعض المشاهير من رجالنا، فنرجو من أهل الاطلاع أن ينبهونا إلى ذلك، ويبعثوا إلينا بما يعلمونه من تراجم أولئك الرجال؛ لندرجها في ملحق نجعله جزءا ثالثا لهذا الكتاب إن شاء الله.
مقدمة الطبعة الثانية
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب سنة 1902 فلم تمض بضع سنين حتى نفدت نسخها واضطررنا إلى إعادة طبعها، وكنا قد حصرنا موضوع الكتاب في ترجمة الرجال العظام الذين توفوا في الشرق قبل انقضاء القرن التاسع عشر، ثم رأينا في ذلك تقصيرا بحق جماعة نبغوا في القرن المذكور لكنهم توفوا في أوائل القرن العشرين، وفيهم جماعة من أرباب الأقلام أو غيرهم، وآخرون من كبار الرجال لا يدخلون في باب من الأبواب الأربعة التي عيناها في الطبعة الأولى وفصلناها في مقدمتها المنشورة مع هذه، فأضفنا إلى أبواب الجزء الأول هذا بابا خامسا سميناه «باب رجال العمل وأهل البر والإصلاح»، فدخل في الكتاب بسبب ذلك جماعة من خيرة الرجال؛ كالشيخ محمد عبده، ومصطفى كامل، وقاسم أمين، وغيرهم فنشرنا تراجمهم في هذا الكتاب مع تراجم أخرى فاتتنا في الطبعة الأولى، ونبهنا إليها بعض الأدباء.
فأصبحت أبواب هذا الكتاب خمسة، وهي: (1)
أمراء العائلة الخديوية. (2)
الملوك والأمراء. (3)
القواد. (4)
رجال الإدارة السياسية. (5)
رجال الأعمال وأهل البر والإصلاح.
وأضفنا إلى الجزء الثاني تراجم كثيرين من أهل العلم والأدب فاتنا ذكرهم في الطبعة الماضية، ولا نزال نوالي البحث عن تراجم رجالنا لنضيفها إلى ما عرفناه في فرصة أخرى وبالله التوفيق.
القسم الأول
العائلة الخديوية
الفصل الأول
محمد علي باشا
(1) صبوته وشبيبته
انظر إلى خارطة بلاد الروملي في سواحلها الجنوبية على مسافة 320 كيلومترا من الآستانة غربا، تر قرية اسمها قوالة لا يزيد عدد سكانها على ثمانية آلاف نفس، وكان في تلك القرية في أواسط القرن الثامن عشر رجل اسمه إبراهيم آغا، كان متوليا خفارة الطرق، ولد له سبعة عشر ولدا لم يعش منهم إلا واحدا، وفي سنة 1773 توفي هذا الرجل وامرأته عن ذلك الولد وسنه أربع سنوات واسمه محمد علي.
فأصبح الغلام يتيما ليس له من يعوله إلا عما اسمه طوسون آغا، وكان متسلما على قوالة، فجاء به إلى بيته شفقة عليه، غير أن المنية عاجلت طوسون فقتل بأمر الباب العالي بعد ذلك بيسير، فأصبح الغلام يتيما قاصرا وليس من ينظر إليه.
شكل 1-1: محمد علي باشا.
وكان لوالده صديق يعرف بجربجي براوسطة فشفق على الغلام وجاء به إليه، وعني بتربيته مع أولاده، غير أن ذلك لم ينسه حاله من اليتم، فكان يشعر بالذل وضعة النفس. ويروى أنه بعد أن ارتقى ذروة المجد واعتلى منصة الأحكام، أنه كان يحدث أخصاءه عما قاساه في صبوته من الذل إلى أن يقول:
ولد لأبي سبعة عشر ولدا لم يعش منهم سواي، فكان يحبني كثيرا ولا تغفل عينيه عن حراستي كيفما توجهت، ثم توفاه الله فأصبحت يتيما قاصرا، وأبدل عزي بذل، وكثيرا ما كنت أسمع عشرائي يكررون هذه العبارة التي لا أنساها، وهي: «ماذا عسى أن يكون مصير هذا الولد التعيس بعد أن فقد والديه»، فكنت إذا سمعتهم يقولون ذلك أتغافل عنه، ولكنني أشعر بإحساس غريب يحركني إلى النهوض من تحت هذا الذل، فكنت أجهد نفسي بكل عمل أستطيع معاطاته بهمة غريبة حتى كاد يمر علي أحيانا يومان ساعيا لا آكل ولا أنام إلا شيئا يسيرا، وفي جملة ما قاسيته أني كنت مسافرا مرة في مركب فتعاظم النوء حتى كسره، وكنت صغيرا، فتركني رفاقي وطلعوا إلى جزيرة هناك على قارب معنا، أما أنا فجعلت أجاهد في الماء وسعي، تتقاذفني الأمواج، وتستقبلني الصخور حتى تهشمت يداي، وكانتا لا تزالان يانعتين، وما زلت حتى أراد الله ووصلت الجزيرة سالما، وقد أصبحت هذه الجزيرة الآن قسما من مملكتي.
ومما يحكى عنه في أيام صبوته أنه كان يتردد على رجل فرنساوي مقيم في قوالة اسمه المسيو ليون، وكان من كبار التجار محبا للفضيلة وحالما، رأى محمد علي للمرة الأولى، فشفق عليه وأحب مساعدته؛ لما توسم فيه من الفطنة والنباهة، فكان يقدم له كثيرا من حاجياته ويسعفه بكل ما في وسعه حتى ألفه محمد علي كثيرا، وهذا هو سبب وثوقه بالأمة الفرنساوية بعد توليه الأحكام في مصر واستخدامه أفرادا منهم في مصلحة البلاد، ويقال: إنه رحمه الله بعث سنة 1820 إلى المسيو ليون المشار إليه يدعوه إلى مصر يقضي فيها زمنا في ضيافته، فأجاب دعوته، ولكنه مات قبل قدومه، فأسف عليه محمد علي كثيرا وبعث إلى شقيقته هدية تساوي عشرة آلاف فرنك.
قلنا: إنه ربي في صبوته ببيت جربجي براوسطة، وتعلم في صغره ما يتعلمه أبناء تلك البلاد من ألعاب السيف والجريد والحكم وما شاكل، فنبغ فيها حتى إذا بلغ أشده انتظم في سلك الجهادية تحت إدارة مربيه، فأظهر في جباية الضرائب مهارة وبسالة عجيبتين، فرقاه إلى رتبة بلوك باشي وزوجه إحدى ذوات قرابته وكانت مطلقة ولها مال وعقار، فترك الجهادية وتعاطى التجارة وعلى الخصوص في صنف التبغ؛ لأنه أكثر أصناف التجارة في بلاده، وقد برع في تلك التجارة حتى اكتسب شهرة واسعة، وثقة عظمى لدى عملائه، وكان قد ذاق لذة التجارة وأحبها مذ كان يتردد على المسيو ليون المتقدم ذكره؛ ولذلك رأيناه بعد أن تولى مصر يوجه انتباهه بنوع خاص لتنشيط التجارة.
وما زال يتعاطى التجارة إلى سنة 1801 حينما عزم الباب العالي على إخراج الفرنساوية من مصر بمساعدة إنكلترا، وكان الفرنساويون قد جاءوا مصر تحت قيادة نابليون بونابرت سنة 1798 فحاربوا الأمراء المماليك، ودخلوها عنوة، وأقاموا فيها ثلاث سنوات والحكومة العثمانية تبعث إليهم الجنود، وتحاربهم تارة وحدها وطورا بمساعدة إنكلترا، وهم قائمون بين إقدام وإحجام إلى سنة 1801 فبعثت العثمانية إليهم عمارة قوية تحت قيادة قبطان باشا وفيها قوات إنكليزية وبعثت الصدر الأعظم في حملة من جهة البر. (2) ارتقاؤه منصة الأحكام
وكان محمد علي في جملة القوة البحرية، وقد تجند إليها في جملة من تجند في براوسطة بصفة معاون لعلي آغا ابن مربيه على ثلاثمائة جندي ألباني (أرناءوط).
فجاءت العمارة إلى أبي قير، وكانت الغلبة هناك للفرنساويين، ثم عاد علي آغا إلى بلاده تاركا رجاله تحت قيادة محمد علي، وكان هذا قد ترقى إلى رتبة بكباشي.
ثم تغلب العثمانيون بمساعدة العمارة الإنكليزية وحملة الصدر الأعظم، ودخلوا البلاد وأخرجوا الفرنساويين منسحبين انسحابا قانونيا، وجعلوا يهتمون بتأييد سلطة الباب العالي فيها.
وكان في الجنود العثمانية جماعات من الأرناءوط والإنكشارية والغليونجية، فتفرقت هذه الجنود لحماية مصر السفلى وبعض مدن الصعيد. أما الإنكليز فكانوا تحت قيادة الجنرال هتشنسون فنزلوا الإسكندرية ريثما يقيمون في القطر المصري واليا عثمانيا يؤيد سلطة الباب العالي، ويكبح جماح المماليك الذين كانوا لا يزالون يحاولون الاستقلال.
فأقاموا محمد خسرو باشا وكان في الأصل من مماليك حسين قبطان باشا، وهو الذي سعى له في هذه الولاية فجاء القاهرة وقاص الذين كانوا فيها من محالفي الفرنساوية، وكان في يده أوامر سرية بإعدام المماليك جملة بأي وسيلة كانت، فبعث إلى محاربتهم وكانوا في الصعيد فتضايقوا ولم يروا وسيلة إلا الالتجاء إلى فرنسا، فكتبوا إليها يستنجدونها متعهدين بإجراء كل ما تطلبه منه فلم يسعدهم الحظ بمساعدتها.
أما الحملة التي بعثها خسرو باشا إلى الصعيد فإنها عادت ولم تأت بفائدة، ثم حاربهم مرارا في أماكن مختلفة وفي جملتها واقعة بعث إليها حملة من جنده وكان محمد علي قد ترقى إلى رتبة سرحشمة، وصار قائدا لأربعة آلاف من الألبانيين فأمره أن يسير في رجاله مددا لتلك الحملة، فسارت الحملة وحاربت المماليك وانكسرت قبل وصول محمد علي ورجاله فنسب قائدها انكساره إلى تأخر محمد علي عن المجيء، وأبلغ ذلك لخسرو باشا، وكان هذا حاقدا على محمد علي فاستقبل ذلك البلاغ بالصدق، وأقر على إعدامه سرا، وكتب إليه أن يوافيه في منتصف الليل للمخابرة ببعض الشئون، فأدرك محمد علي مراده، ولم يجب الدعوة ولم ير وسيلة لنجاته من مكيدته وعدوانه إلا بالالتجاء إلى المماليك فانحاز إليهم، وأخذ في مخابرتهم سرا وجهرا فتمكنوا بذلك التحالف من إخراج خسرو باشا من القاهرة قهرا، ففر إلى دمياط وأقاموا مكانه طاهر باشا، ثم قتل طاهر واحتل محمد علي القلعة برجاله، فقام أحمد باشا والي الشرطة إذ ذاك بطلب الولاية فأخرجه المماليك من القاهرة ذليلا، ثم اتحد الجميع وساروا لمحاربة خسرو باشا في دمياط فأسروه، وجاءوا به إلى القاهرة وحجروا عليه في القلعة.
أما الباب العالي فلما بلغه ما حصل في مصر بعث إليهم واليا اسمه علي باشا الجزائرلي فلم يصل القاهرة إلا بعد شق الأنفس، ولما وصلها عمد إلى الكيد بالمماليك ومحمد علي فعادت العائدة عليه.
شكل 1-2: أمراء المماليك: أوطة باشي (أبو طبق)، جندي.
وكان للماليك زعيمان: الألفي والبرديسي يتنازعان السلطة، وكان الألفي قد سار إلى إنكلترا يطلب مساعدتها على رفيقه للاستئثار بالسلطة، فلما عاد من سفرته اغتنم محمد علي تلك الفرصة وأوغر صدر مناظره البرديسي عليه، فنصب له مكيدة لم يقع فيها ولكنه فر إلى الصعيد، فظن البرديسي أن جو القاهرة قد خلا له، ولكن محمد علي كان له بالمرصاد فحرك الألبانيين عليه وأوعز إليهم سرا أن يثيروا ويطالبوا بمرتباتهم، فقاموا وهددوا البرديسي بالأذى إذا لم يدفع إليهم المتأخرات، فضرب على أهل القاهرة أموالا، واستبد في تحصيلها بقساوة، فثاروا جميعا عليه فاضطر إلى مغادرة القاهرة ولم يعد يرجع إليها، وكل ذلك سنة 1804.
فلما فر الأميران، لم يبق في القاهرة من رجال السلطة إلا محمد علي، فجمع إليه العلماء والمشائخ وتفاوضوا في إخلاء سبيل خسرو باشا، فأقروا على ذلك وأن يعود إلى منصبه فأعادوه، ولكنه لم يمكث فيه إلا يوما واحدا ثم أخرجوه من القاهرة إلى رشيد ومنها إلى الآستانة، وكل ذلك بمساعي محمد علي ودهائه وحسن سياسته.
ثم تظاهر أن الأمور لا تستقيم في مصر إلا بتنصيب وال عثماني حر، وأشار بتنصيب خورشيد باشا وكان في الإسكندرية، فوافقه العلماء والمشائخ في ذلك على أن يكون هو نائبا عنه في الأحكام بصفة «قائمقام»، وبعثوا إلى الباب العالي يخبرونه بذلك ويسترحمون تثبيت انتخابهم فأجيب طلبهم.
غير أن خورشيد باشا رأى محمد علي مستأثرا بالنفوذ عليه بمن معه من الجند الألباني فخاف عاقبة ذلك فاستقدم جندا مغربيا (الدالاتية أو الدلاة) يكونون له عونا وقت الحاجة، فأدرك محمد علي قصده فوقف له بالمرصاد، ثم جعل الدالاتية يسيئون معاملة أهل القاهرة، وينهبون ويقتلون اعتمادا على نفوذ الباشا، فسئم أهل القاهرة منهم ولا سيما المشائخ والعلماء.
شكل 1-3: الجند الألباني (الأرناءوط).
وفي 2 صفر سنة 1220 ورد لمحمد علي خط شريف بولاية جدة، فألبسه خورشيد باشا الفروة والقاووق المختصين بهذه الرتبة وقد توسم قرب تخلصه منه، فخرج محمد علي يريد الذهاب إلى جدة وفي نفسه ألا يخرج من مصر، فقامت العساكر وطالبوه بالعلوفة فقال: «هذا هو الباشا طالبوه بها»، وسار إلى منزله في الأزبكية (قرب أوتيل شبرد) وهو ينثر الذهب على الناس فازدادوا له حبا ولخورشيد باشا كرها.
وبعد ثلاثة أيام (لا ندري ما دار في أثنائها بينه وبين علماء البلاد ومشائخها) سار المشائخ والعلماء جميعا إلى محمد علي في منزله ينادون بصوت واحد: «لا نقبل خورشيد باشا واليا علينا»، فقال: «ومن تريدون إذن؟» قالوا: «لا نريد أحدا سواك» فامتنع أولا وجعل يرغبهم في خورشيد ويحملهم على الإذعان والسكينة، وهم لا يزدادون إلا إصرارا على طلبهم، فوافقهم فأحضروا له الكرك والقفطان وألبسوه إياهما، وبعثوا إلى خورشيد أن ينزل من القلعة فأبى، فحاصروه فيها، وكتبوا إلى الباب العالي بذلك فورد الفرمان بولاية محمد علي في 11 ربيع آخر سنة 1220ه/9 يوليو (تموز) 1805 وعزل خورشيد باشا، فخرج هذا من القلعة بأمر من الآستانة، وغادر البلاد وفي نفسه من الغيظ على محمد علي ما ليس وراءه غاية.
ولكن المماليك كانوا أشد غيظا منه؛ لما ظهر لهم من تلاعب محمد علي بهم واستخدامه إياهم لأغراضه، فثاروا وفي مقدمتهم الألفي، فإنه حالما علم بتولية محمد علي نزل بعصابته، وخابر حكومة إنكلترا بخلع محمد علي، واشترط على نفسه أنها إذا فعلت ذلك سلمها البلاد حالا، فعلم قنصل فرنسا بذلك فعرقل مسعاه، فعكف على مصالحة محمد علي باشا على شيء يرضى به الاثنان، فلم يتفقا، فعاد الألفي لمخابرة سفير إنكلترا، فأقنع هذا الباب العالي فبعث واليا اسمه موسى باشا مع العفو عن المماليك، وكادت تنطلي هذه الحيلة لو لم يقم العلماء والمشائخ من جهة وسفير فرنسا في الآستانة من جهة أخرى ويوضحوا للباب العالي مقصد المماليك فتثبت محمد علي، ولكنه أمر أن لا يتعرض للمماليك فيما بعد لصدور العفو عنهم قبلا، ولكن التقادير ساعدته فتوفي البرديسي بعد قليل، ثم الألفي، فتولى على المماليك شاهين بك، ولكن شوكتهم ضعفت، ولم تعد تقوم لهم قائمة.
أما إنكلترا فاعتبرت إرجاع محمد علي مخلا بنفوذها، فبعثت حملة تحت قيادة الجنرال فرازر لإرجاع سلطة المماليك، ولكن المماليك كانوا قد تبعثروا في البلاد، فأقامت الجنود الإنكليزية على سواحل القطر مدة ثم عادت بخفي حنين بعد الاتفاق على صلح، فاجتمعت السلطة في قبضة محمد علي باشا، ثم سعى بعضهم في المصالحة بينه وبين شاهين بك زعيم المماليك فتصالحا، وقدم هذا إلى مصر بالهدايا الثمينة فأكرمه محمد علي، وبنى له قصرا لسكناه في الجيزة، وفي 5 جمادى الآخرة سنة 1223 بويع السلطان محمود الثاني على عرش الآستانة العلية. (3) أعماله الحربية
فلما رسخت قدم محمد علي باشا في مصر أخذ في تسليم مصالح حكومته إلى من يثق بهم من ذوي قرباه؛ لأنه كان شديد المحبة لعائلته ولا شك أن أزره اشتد بهم، ثم استفحل أمر الوهابيين في شبه جزيرة العرب فأرسل السلطان محمود خان يعهد إلى محمد علي باشا أمر إخضاعهم وتخليص البلاد من أيديهم.
والوهابيون فئة من المسلمين ذهبوا إلى إغفال كل الكتب الدينية الإسلامية إلا القرآن الشريف فهم بمنزلة الطائفة الإنجيلية عند المسيحيين. زعيمها الأول يدعى محمد عبد الوهاب، ولد سنة 1110ه/1696م، ولما شب تفقه وحج ثم أظهر دعوته فالتفت عليه أحزاب كثيرة، فافتتح نجدا، فالحجاز، فالحرمين، وما زال يفتتح في بلاد العرب حتى توفي سنة 1205ه/1798م وسنه 95 سنة، فاستمرت أحزابه في أعمالهم حتى سنة 1224ه سنة 1809م تحت قيادة الأمير سعود، وقد أصبحت حدود مملكتهم من الشمال صحراء سوريا، ومن الجنوب بحر العرب، ومن الشرق خليج العجم، ومن الغرب البحر الأحمر، فنهبوا الكعبة وقد استفحل أمرهم، ولم ير الباب العالي بدا من تكليف بطل مصر إخضاعهم.
فأجاب محمد علي مطيعا، وجعل يجمع القوات اللازمة لتلك الحملة، لكنه فكر في أمر المماليك فخشي إذا سارت الحملة أن لا تكون البلاد في أمن منهم فيجمعون كلمتهم ويعودون إلى ما كانوا عليه من القلاقل، فعمد إلى إهلاكهم قبل مسير الحملة، لكنه في الوقت نفسه عمل على إعداد مواد الحملة، فجند أربعة آلاف مقاتل تحت قيادة ابنه طوسون باشا ثم طلب إلى الباب العالي أن يبعث إلى السويس بالأخشاب لبناء المراكب اللازمة لنقل الجند ومعدات الحرب، فأرسل إليه ما طلب، فابتنى ثمانية عشر مركبا، وأعدها عند السويس في انتظار الحملة.
أما المماليك فكانوا قد يئسوا من الاستقلال بالأحكام لما رأوا ما حل بسلفائهم وما عليه محمد علي باشا من العزيمة، فكفوا عن مطامعهم، واكتفوا بالتمتع بأرزاقهم وممتلكاتهم في حالة سلمية، فقطن بعضهم الصعيد، وبعضهم القاهرة، وتشتتوا في أنحاء القطر، وكان شاهين بك وهو الذي تولى رئاستهم بعد وفاة الألفي قد أذعن لمحمد علي باشا كما تقدم، فأقطعه أرضا بين الجيزة وبني سويف والفيوم فأوى إليها، وفي محرم سنة 1226ه/فبراير(شباط) سنة 1811م سار قواد الحملة من القاهرة وعسكروا في قبة العزب في الصحراء ينتظرون باقي الحملة ومعها طوسون باشا، وتعين يوم الجمعة لوداع طوسون والاحتفال بخروجه ورجاله إلى قبة العزب، فأعلن ذلك في المدينة ودعا كل الأعيان لحضور ذلك الاحتفال وفي جملتهم المماليك وطلب إليهم أن يكونوا بالملابس الرسمية.
ففي يوم الجمعة 5 صفر سنة 1226ه/أول مارس (آذار) سنة 1811 احتشد الناس إلى القلعة، وجاء شاهين بك في رجاله فاستقبلهم الباشا في قصره بكل ترحاب ثم قدمت لهم القهوة وغيرها، ولما تكامل الجمع وجاءت الساعة أمر محمد علي بالمسير فسار الموكب وكل في مكانه منه جاعلين المماليك إلى الوراء يكتنفهم الفرسان والمشاة حتى إذا اقتربوا من باب العزب من أبواب القلعة في مضيق بين هذا الباب والحوش العالي أمر محمد علي فأغلقت الأبواب، وأشار إلى الألبانيين (الأرناءوط) فهجموا على المماليك بغتة، فانذعر أولئك وحاولوا الفرار تسلقا على الصخور، ولكنهم لم يفوزوا؛ لأن الألبانيين كانوا أكثر تعودا على تسلقها، واقتحم المشاة المماليك من ورائهم بالرصاص فطلب المماليك الفرار بخيولهم من طرق أخرى فلم يستطيعوا لصعوبة المسلك على الخيول، ولما ضويق عليهم ترجل بعضهم وفروا ساعين على أقدامهم والسيوف في أيديهم، فتداركتهم الجنود بالبنادق من الشبابيك، فقتل شاهين بك أمام ديوان صلاح الدين، وحاول بعضهم الالتجاء إلى الحريم أو إلى طوسون باشا بدون فائدة، ثم نودي في المدينة أن كل من يظفر بأحد المماليك في أي محل كان يأتي به إلى كحيا بك، فكانوا يقبضون عليهم ويأتون بهم إليه أفواجا وهو يقتلهم.
شكل 1-4: أمين بك (المملوك الشارد).
وكان عدد المماليك المدعوين إلى الوليمة أربعمائة فلم ينج منهم إلا اثنان: أحدهما أحمد بك زوج عديلة هانم بنت إبراهيم بك الكبير كان غائبا بناحية موش، والثاني أمين بك؛ كان قد أتى القلعة متأخرا فرأى الموكب سائرا نحو باب العزب فوقف خارج الباب ينتظر خروج الموكب، ثم لما أقفلت الأبواب بغتة وسمع إطلاق النار علم المكيدة فهمز جواده وطلب الصحراء قاصدا سوريا، والمتبادر على الألسنة أن أمين بك هذا كان داخل القلعة فلما حصلت المعركة همز جواده فوثب به من فوق السور لجهة الميدان فقتل جواده وسلم هو ، والأقرب للحقيقة أن هذه الإشاعة مختلقة أو مبالغ فيها، ثم نودي في الأسواق أن شاهين بك زعيم المماليك قد قتل، فخاف الناس، ثم طافت العساكر المدينة ينهبون بيوت المماليك، ويأخذون حريمهم وجواريهم وعلا الصياح.
وفي اليوم التالي نزل الباشا من القلعة وطوسون معه، وطاف المدينة يأمر الناس بإيقاف النهب، وقتل كل من حاول ذلك، ولكنه حرض على قبض من يظفرون به من المماليك في سائر أنحاء القطر، فكانوا يأتون بهم أفواجا يسوقونهم كالغنم إلى الذبح، فبلغ عدد من قتل من البكوات 23 بيكا، وفي اليوم التالي نزل طوسون باشا إلى الأسواق في فرقة من الجند؛ لتسكين الخواطر وإيقاف النهب. أما الجثث التي كانت في القلعة فاحتفروا لها حفرا جعلوا فوقها التراب، وصرح محمد علي باشا بحماية نساء المماليك، ولم يسمح بتزويجهن إلا لرجاله.
ولما خلت البلاد من المماليك عكف محمد علي على المهام الأخرى، وأخصها مسألة الوهابيين، فكتب إلى غالب شريف مكة يخبره بإعداد حملة تنقذه من الوهابيين فيفتح طريق الحرمين لجميع المسلمين، وطلب إليه أن يمهد له السبيل فأجابه شاكرا ووعده بالمساعدة.
أما سعود أمير الوهابيين فأنبأته الجواسيس بما نواه محمد علي، فأمر فاجتمع حوله خمسة عشر ألفا ليدفع بهم جنود مصر. أما حملة طوسون فركبت من البحر من السويس حتى أتت ينبع على الساحل الشرقي من البحر الأحمر، ومنها يتصل إلى المدينة، فتملكوا ينبع، وساروا منها إلى صفر وفيها معسكر الوهابيين وقد تأهبوا للدفاع، فهجم طوسون باشا فتقهقر سعود ورجاله أولا ثم ارتدوا على الجيوش المصرية فانهزموا تاركين كل مؤنهم وذخائرهم وجمالهم، وعادوا إلى ينبع، فعلم محمد علي باشا بذلك فجند جندا كبيرا مددا لابنه، فاشتد أزر طوسون وجمع إليه القوتين وسار حتى أتى المدينة، فأطلق عليها النار فهدم بعض السور، ثم دخلها وأثخن في حاميتها حتى سلمت فكف السيف عنها، فانتشر خبر افتتاح المدينة في سائر الحجاز فخاف الوهابيون وفرح أعداؤهم، ولا سيما الشريف غالب، وكان في جدة لا يدري ماذا يكون من أمر تلك الحملة، فلما علم بانتصارها كاد يطير من الفرح.
وأجلي الوهابيون عن مكة خوفا من أهلها، فجاءها طوسون واحتلها، وكتب إلى أبيه ففرح فرحا لا مزيد عليه لما آتاه الله من النصر على يد ابنه نصرا لم يأت لغيره من القواد العثمانيين، وجيء إليه بقائد حامية المدينة من الوهابيين، فأرسله في خفر إلى الآستانة فقتلوه حال وصوله إليها. أما من بقي من دعاة الوهابيين فكانوا لا يزالون في مأمن خارج مكة تحت قيادة كبيرهم سعود.
فلما جاء صيف سنة 1812م/1228ه علموا أن جنود طوسون لا يحتملون حر تلك البلاد، وأنهم إذا ناهضوهم إذ ذاك يتغلبون عليهم، فجندوا وساروا إلى تربة شرقي مكة فحاربوها واستولوا عليها، ثم ساروا إلى المدينة وهددوها بعد أن استولوا على كل ما بين هاتين المدينتين من القرى والمدن، فاتصل الخبر بمحمد علي فلم ير بدا من ذهابه بنفسه لنصرة الجنود المصرية، وقد أصبحت مصر في مأمن من المماليك وغيرهم، فسار في جند عظيم حتى أتى جدة فنزلها في 30 شعبان سنة 1228ه/28 أوغسطس (آب) سنة 1813م فلاقاه الشيخ غالب شريف مكة، ورحب به، وبعد أن أدى فروض الحج رأى أن الشريف ليس ممن يعتمد عليهم في الدفاع، فعمد إلى خلعه بطريقة تضمن حقن الدماء، ففاز ثم وضع يده على ممتلكاته، وبعث به وبعائلته إلى القاهرة، ومنها إلى سالونيك فعاش فيها أربع سنوات ومات. أما الوهابيون فمات قائدهم سعود في درعية في 26 ربيع آخر 1229ه/17 أبريل (نيسان) سنة 1814م فانحطت سطوتهم فأقاموا عليهم ابنه عبد الله، ولم يكن كفئا فحصلت بينه وبين الجنود المصرية مناوشات كبيرة لم تأت بنتيجة، وفي 28 محرم سنة 1230ه 10 يناير (ك2) سنة 1815م) حصلت معركة بين جنود محمد علي والوهابيين تحت قيادة فيصل أخي عبد الله شفت عن انتصار المصريين، فتقدم طوسون إلى نجد إلا أنه اضطر أخيرا إلى التوقف لقلة المؤن وهو لم يبلغ درعية.
ثم اقتضت الأحوال عود محمد علي إلى مصر فعاد وقد فتح طريق الحرمين، ولكنه لم يبد جميع الوهابيين، فوصل القاهرة في 4 رجب سنة 1230ه فاهتم بتدريب الجند على نظام جند أوروبا ، وهو أول من فعل ذلك في مصر، فأصدر أمرا عاليا في شعبان سنة 1230ه مؤداه أن الجنود المصرية ستدرب على النظام الحديث وهو النظام الفرنساوي، فعظم على رجاله - ولا سيما الأرناءوط - الامتثال إلى هذه الأوامر، فرأى أن يدخل هذا النظام أولا بين الجنود الوطنية؛ لأنهم أقرب إلى الطاعة من هؤلاء الألبانيين ومن كان على شاكلتهم.
وفي أثناء ذلك عاد طوسون باشا من الحجاز، فخرج الناس لملاقاته بالاحتفال والإكرام، ثم نزل الإسكندرية حيث كان أبوه مقيما فوجد امرأته قد وضعت في أثناء غيابه غلاما دعته عباسا، وبعد يسير أصيب طوسون بألم شديد في رأسه وحمى لم يعش بعدها إلا بضع ساعات، وكان محمد علي في القاهرة، ولما اتصل به الخبر كان على ضفة النيل الغربية بجوار أهرام الجيزة، فقالوا له: إن طوسون مريض، فأسرع إلى الإسكندرية لمشاهدته، فلما دنا من المكان علم بوفاته فوقف مبغوتا لا يبدي حراكا، وبقي على مثل هذه الحال ثلاثة أيام متوالية، ونقلت جثة طوسون باشا إلى القاهرة ودفنت قرب مسجد الإمام الشافعي وراء جبل المقطم حيث مدفن العائلة الخديوية اليوم.
وبعد قليل عاد محمد علي إلى روعه فأخذ يهتم في أمر الوهابيين خشية أن يعودوا إلى ما كانوا عليه، فكتب إلى عبد الله بن سعود أن يأتي إليه بالأموال التي استخرجها الوهابيون من الكعبة، وأن يتأهب متى قدم للمسير إلى الآستانة، فأجابه يعتذر بعدم الشخوص، وقال: إن تلك الأموال قد تفرقت على عهد أبيه، وأرسل له هدايا فاخرة، فأرجع إليه محمد علي تلك الهدايا وأوسعه تهديدا، ثم جرد إليه حملة عهد قيادتها إلى ابنه إبراهيم وكان باسلا مقداما، وقائدا مجربا، لا يهاب الموت، شديد الغضب سريعه، ولكنه كان سليم القلب حر الضمير؛ ولذلك كانت أحكامه عادلة صارمة.
شكل 1-5: إبراهيم باشا بلباسه العسكري.
وفي 10 شوال سنة 1231ه سار إبراهيم باشا بحملته من القاهرة في النيل إلى قنا ، ومنها في الصحراء إلى القصير على شاطئ البحر الأحمر، ومنها بحرا إلى ينبع ثم إلى المدينة، وتربص هناك بجميع قواته استعدادا لهجوم شديد امتثالا لمشورة أبيه، فالتفت حوله عصبة جديدة من القبائل المتحابة، ولما تكاملت قواته أقام الحرب سجالا، وما زال بين هجوم ودفاع حتى فاز وقبض على زعيم الوهابيين عبد الله، فأرسله إلى أبيه، فوصل القاهرة في 18 محرم سنة 1233ه، فأذن له بالمثول بين يدي الباشا وتقبيل يديه، فرحب به كثيرا؛ لأنه كان يعجب بجسارة الوهابيين، ثم سأله ما ظنه بإبراهيم؟ فأجابه قائلا: «إنه قد قام بواجباته ونحن قمنا بواجباتنا، وهكذا أراد الله.»
وفي 20 محرم أرسل إلى الآستانة، وطافوا به في أسواقها ثلاثة أيام ثم قتلوه، وخلع السلطان على إبراهيم باشا خلعة شرف مكافأة له، وسماه واليا على مكة، فاتصلت هذه الأخبار بدرعية فخاف أهلها، فهدموا المدينة وفروا من وجه الموت، فاحتلتها الجنود الظافرة وانتهى أمر الوهابيين. أما محمد علي باشا فإنه نال من إنعام السلطان محمود لقب خان مكافأة لإخلاصه وبسالته، وهو لقب لم يمنح لأحد من وزراء الدولة إلا حاكم القرم.
ولما انتهى هذا الرجل الخطير من محارباته في بلاد العرب فكر في افتتاح السودان على أمل أن يلاقي فيها الكنوز الثمينة من معادن الذهب بجوار البحر الأزرق، ناهيك بما هنالك من المحصولات والواردات العجيبة من الصمغ والريش والعاج والرقيق وغير ذلك، فجند خمسة آلاف من الجند النظامي، وبعض العربان، وثمانية مدافع، وجعل الجميع تحت قيادة إسماعيل باشا أحد أولاده، فسارت الحملة من القاهرة في شعبان عام 1235ه/يونيو (حزيران) 1820م في النيل، فقطعت الشلال الأول فالثاني فالثالث حتى السادس فأتت شندي والمتمة، وقد أخضعت كل ما مرت به من القرى والبلدان بدون مقاومة، ومن شندي سارت إلى سنار على البحر الأزرق وراء الخرطوم، ولم يكن من القبائل التي يعتد بها هناك إلا الشائقية فقاوموا قليلا ثم سلموا، ودخلت سنار وكردوفان في أملاك مصر، فسار إسماعيل باشا في جنوده إلى فزغل، وهناك ظن نفسه اكتشف معادن الذهب ، ثم فشا في رجاله الوباء فمات منهم كثيرون، ثم أتته نجدة من ثلاثة آلاف رجل تحت قيادة صهره أحمد بك الدفتردار فاشتد أزره، فأقام صهره هذا على كردوفان، وسار في جيش إلى المتمة على البر الغربي من النيل، ثم عدى إلى شندي في البر الشرقي لجباية المال وجمع الرجال، فاستدعى إليه ملكها واسمه النمر، وقال له: «أريد منك أن تأتي إلي قبل خمسة أيام بملء قاربي هذا من الذهب وألفين من العساكر.» فجعل الملك يستعطف إسماعيل باشا ليتنازل عن ذلك القدر، فقبل منه أخيرا عوضا عن الذهب مبلغ عشرين ألف ريال من الفضة، فأجابه إلى ما أراد، ولكنه لم يكن يستطيع جمعها في تلك المدة فطلب إليه تطويل الأجل فضربه إسماعيل بالشبق (الغليون) على وجهه قائلا: «لا. إن كنت لا تدفع المال فورا ليس لك غير الخازوق جزاء.» فسكت النمر، وقد أضمر له الشر وصمم على الانتقام، فطيب خاطره ووعده بإتمام ما يريد، وفي تلك الليلة جعل يرسل التبن الجاف أحمالا إلى معسكر إسماعيل علفا للجمال، ولكنه أقامه حول المعسكر كأنه يريد إشعاله، وفي المساء أتى إلى إسماعيل في سرب من الأهالي ينفخون بالمزمار ويرقصون رقصة خاصة بهم، فطرب إسماعيل ورجاله وضباطه، ثم أخذ عدد المتفرجين من الوطنيين يزداد شيئا فشيئا حتى أصبح كل أهل المدينة هناك، فلما تكامل العدد أمرهم ملكهم بالهجوم فهجموا بغتة على إسماعيل ورجاله ثم داروا بالنيران على التبن فأشعلوه، فمات إسماعيل باشا وكثيرون ممن كانوا معه بين قتل وحرق، وفي اليوم التالي أتموا على الباقين وساقوا سلبهم إلى المدينة.
فاتصل الخبر بأحمد بك الدفتردار فاشتعل غيظا، وأقسم أنه لا يقبل أقل من عشرين ألف رأس انتقاما لإسماعيل، فنزل بجيشه القليل، ولم ينفك حتى أنفذ قسمه فقتل ذلك العدد من الرجال متفننا في طرق قتلهم على أساليب مختلفة، فهدأت الأحوال بعد ذلك، وهكذا تم افتتاح السودان، وما زال أحمد بك على حكومة سنار وكردوفان إلى عام 1240ه/عام 1824م ثم أبدل برستم بك.
وفي عام 1239ه أرسل محمد علي باشا بأمر الباب العالي حملة مصرية تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا لمحاربة المورا في بلاد اليونان، فسار وحارب، وأظهرت العمارة المصرية في تلك الحروب شجاعة الأبطال، ولولا اتحاد الدول مثنى وثلاث على الجنود العثمانية والمصرية لما قامت لليونان قائمة في تلك الحرب، ولكننا نقول: إن إبراهيم باشا عاد عود الظافرين بعد أن بذل في سبيل ذلك عشرين مليون فرنك وثلاثين ألف مقاتل.
ثم كانت حملة إبراهيم باشا على سوريا لافتتاح عكا لأسباب تتضح للقارئ من مراجعة ترجمة الأمير بشير الشهابي الثاني في هذا الكتاب، فجرد محمد علي باشا سنة 1247ه/عام 1831م حملة في البر والبحر، فأرسل البيادة والطبجية عن طريق العريش برا، وسار إبراهيم باشا إلى يافا، وسار في جيشه إلى عكا فوصلها في 21 جمادي الأولى سنة 1247ه فحاصرها برا وبحرا إلى 26 ذي القعدة منها، فهجم عليها هجمة نهائية شفت عن تسليمها. ثم سار قاصدا دمشق فأخضعها، ولم تدافع إلا يسيرا، وبارحها إلى حمص حيث كانت تنتظره الجنود العثمانية تحت قيادة محمد باشا والي طرابلس، فوصلها في 8 يوليو (تموز) سنة 1822م، فهجم عليه محمد باشا، وبعد الأخذ والرد استولى إبراهيم باشا على حمص، فخافت سوريا سطوة هذا القائد العظيم، فسلمت له حلب وغيرها من مدن سوريا، فتغير وجه المسألة باعتبار الباب العالي، فبعث حسين باشا السرعسكر بجيش عثماني لإيقاف إبراهيم باشا عند حده، فجاء وعسكر في إسكندرونة، فلاقاه إبراهيم باشا وحاربه وانتصر عليه، ولم يعد يلاقي بعد ذلك مقاومة تستحق الذكر، ثم تقدم في آسيا الصغرى تاركا طورس وراءه، وكان الباب العالي قد أرسل رشيد باشا في جيش لملاقاته، فجند إبراهيم باشا جندا كبيرا من البلاد التي افتتحها، وسار نحو الآستانة لملاقاة رشيد باشا، فالتقى الجيشان في دسمبر (ك1) سنة 1832م في قونية جنوبي آسيا الصغرى، فتقهقر رشيد باشا برجاله، واخترق إبراهيم آسيا الصغرى حتي هدد الآستانة.
فتعرضت الدول وفي مقدمتهن الدولة الروسية فأنفذت إلى مصر البرنس مورافيل لمخاطبة محمد علي باشا بذلك وتهديده، فبعث إلى إبراهيم باشا أن يتوقف عن المسير، ثم عقدت بمساعي الدول معاهدة من مقتضاها أن تكون سوريا قسما من مملكة مصر وإبراهيم باشا حاكما عليها، وجابيا لخراج أدنة، وقد تم ذلك الوفاق في 24 ذي القعدة سنة 1248ه/14 مايو (أيار) سنة 1833م، وهو المدعو «وفاق كوتاهيا»، فعاد إبراهيم باشا إلى سوريا، واهتم بتدبير أحكامها وجعل مقامه والا في أنطاكية وابتنى فيها قصرا وقشلاقات وولى إسماعيل بك على حلب، وأحمد منكلي باشا على أدنة وطرسوس، أما الإجراءات العسكرية فلم يكن يسوغ لأحد أن يتولاها سواه.
وكان إبراهيم باشا سائرا بالأحكام بكل دراية وحكمة خشية سوء العقبى إلا أنه مع ذلك لم ينج من ثورة ظهرت في ضواحي السلط والكرك في أواخر سنة 1249ه/منتصف عام 1834م وامتدت إلى أورشليم، وبعد الأخذ والرد اضطر إبراهيم باشا إلى الاعتصام بأورشليم؛ لأنها ذات أسوار منيعة، ثم امتدت الثورة إلى السامرة وجبال نابلس.
وفي 16 يونيو (حزيران) منها هجم المسلمون على صفد وفيها جماهير من اليهود، فهدموا منازلهم، وقتلوا رجالهم، وفتكوا بنسائهم، وأصبحت تلك المدينة في حوزتهم، ثم أجروا مثل هذه التعديات على المسيحيين في الناصرة، وبيت لحم، وأورشليم، ولكنهم لم يتمكنوا مما تمكنوه بصفد، ويقال بالجملة: إن سوريا أصبحت بسبب ذلك شعلة ثورية، فاتصل الخبر بمحمد علي باشا فبرح الإسكندرية إلى يافا فتقربت منه وجهاء البلاد وسراتها، ثم عمدت الجيوش المصرية إلى قمع الثائرين، فتشتت العصاة إلا النابلسيين فإنهم قاوموا طويلا، لكنهم أذعنوا أخيرا، ثم هاجم المصريون السلط والكرك وهدموها، وبعد قليل عادت الثورة إلى جبال النصيرية، فاعترض أهلها فرقة من الجند كانت سائرة من اللاذقية إلى حلب وأعادوها إلى حيث أتت؛ فأرسل المصريون سبعة آلاف مقاتل اتحدوا بثمانية آلاف من الدروز والمارونيين تحت قيادة الأمير خليل ابن الأمير بشير أمير لبنان، وسار الجميع إلى النصيرية وأخضعوهم، ثم سعى إبراهيم باشا في تجريد السوريين من السلاح خوفا من عودتهم إلى الثورة ففعل، لكنه لم يستطع تجريد اللبنانيين، وكان الأمير بشير وإبراهيم باشا على وفاق تام وكأنهما خلقا ليتحدا.
وبعد أن أتم إبراهيم باشا جمع سلاح السوريين بمساعدة الأمير بشير هجم برجاله على أهالي الشوف والمتن من لبنان، وجمعوا ما استطاعوا جمعه من الأسلحة، وحملوا كل ما جمعوه منها إلى عكا، وكانوا يصنعون منها نعالا لخيولهم ، فاستتبت الراحة في سوريا وأذعنت البلاد، إلا أن محمد علي باشا لم يقف عند هذا الحد، فأحب استخدامها لتوسيع دائرة حكمه، فجعل يجمع منها الرجال والخيل بطرق زجرية فشق ذلك على الباب العالي، فعقد مجلسا في يناير سنة 1839 للنظر في مقاصد المصريين، فأقر المجلس على تجريد حملة من ثمانين ألف مقاتل منهم خمسة وعشرون ألفا من الباشبوزق طبقا لإرادة السلطان محمود الثاني، وأن تسير تحت قيادة حافظ باشا لمحاربة المصريين.
وكان محمد علي باشا قد سار إلى السودان تاركا القاهرة تحت قيادة حفيده عباس باشا، فلما عاد إليها علم بإعدادات الباب العالي فانذعر لها فكتب إلى ابنه يستحثه، فأخذ إبراهيم في الاستعداد للدفاع، فحشد جيوشه في حلب لدفع الجنود العثمانية القادمة برا، ثم علم أن معظم الأهالي راغبون في دولتهم الأصلية، ومستعدون للتسليم وعلى الخصوص الدروز تحت قيادة شبلي العريان أحد أبطالهم المعدودين، فحصلت مواقع شديدة بين الجيوش العثمانية والجيوش المصرية في نزيب انتهت بانهزام الأولى إلى مرعش، وكان السلطان محمود قد أرسل عمارة بحرية لمحاربة المصريين فجاءت الإسكندرية فأصابها ما أصاب الحملة البرية، ولكنه توفي قبل بلوغه خبر تلك الوقائع، فخلفه السلطان عبد الحميد سنة 1839.
ثم توالت الحوادث إلى 15 يوليو (تموز) سنة 1840م فانعقدت معاهدة «لندرة» قاضية باعتبار محمد علي باشا من تابعي الدولة العثمانية، إلا أن ذلك لم يكن ليوقفه عن مقاصده، ولديه إذ ذاك نحو 146 ألفا من الجنود النظامية، و22 ألفا منها الباشبوزق منه 130 تحت قيادة ابنه إبراهيم في سوريا، والباقون متفرقون في الحجاز وسنار وكريد ومصر، لكنه علم بعد ذلك أن هذه القوات قليلة في جانب ما يلزمه لإتمام مشروعاته، فجعل يضم إليها كل تلامذة المدارس حتى استخدم المرضى والجرحى، ثم عمد إلى إنشاء خفر وطني احتياطيا، ولكنه لم ينجح به كل النجاح، على أنه مع ذلك لما عرضت عليه معاهدة «لندرة» لم يصادق عليها، فعرض عليه أن يأخذ ولاية عكا ترضية له ويضمها إلى مصر وينسحب من سوريا فرفض أيضا.
وبعد ذلك بيسير جاءت الجيوش الإنكليزية إلى صيدا، وفر إبراهيم إلى الجبل، وكان الكومودور نابيه قد سار في عمارة بحرية إنكليزية لمحاصرة بيروت، وكانت تحت قيادة سليمان باشا الفرنساوي وقد حصنها تحصينا منيعا ومعه فرقتان من الجند، وإنما لسوء الحظ جاءته الأنباء أن إبراهيم قتل وتشتت رجاله، فخاف سليمان ورأى أن لا بد له من تأكيد حقيقة ذلك الخبر؛ حتى إذا تحقق موت إبراهيم يضم إليه ما بقي من الجيوش للمدافعة، فبرح بيروت بعد أن جعل عليها صادق بك أحد أميرالايات الفرقتين. أما هذا فلما رأى نفسه منفردا في بيروت خاف فترك المدينة وفر، فاستولى عليها الإنكليز، ثم اتصل به من سليمان أن إبراهيم باشا لا يزال حيا، ويأمره بالثبات أمام العدو بينما يحضر، فخاف صادق بك الوقوع في شر أعماله فانضم إلى الإنكليز هو ورجاله، ثم سار نابيه من بيروت إلى عكا وحاصرها، ففر إسماعيل بك ومن فيها من الرجال وسلمت المدينة.
ثم سار نابيه إلى الإسكندرية بست سفن، وعرض على محمد علي باشا الصلح فقبل، وعقدوا معاهدة وقع عليها الطرفان، ولما أرادوا تثبيتها مانعت الدول في ذلك، وبقيت الأمور على حالها حتى دارت المخابرات بين الباب العالي ومحمد علي باشا فأراد السلطان إرضاء محمد علي، فأعطاه أن تكون مصر وراثية لنسله بشرط أن يكون لجلالة السلطان الحق المطلق أن يختار من عائلة محمد علي من يريد لتوليتها، فتردد محمد علي في بادئ الرأي. ثم أمر جيوشه أن تنسحب من سوريا، وكان عددها عند ذهابها إليها مائة وثلاثين ألفا فلم يرجع منها إلا خمسون ألفا، وقد أخذ التعب منهم مأخذا عظيما، فلم ير بدا من قبول إنعام السلطان، فبعث إلى الباب العالي بذلك، فأرسل إليه خطا شريفا 13 فبراير سنة 1841م بتثبيته على مصر مع حقوق الوراثة لأعقابه، وأن يكون لجلالة السلطان أن يختار منهم من يريد لهذا المنصب وغير ذلك، ثم صدر فرمان آخر بتثبيت ولايته على النوبة، ودارفور، وكردوفان، وسنار، فأصبحت حكومته بعد ذينك الفرمانين محصورة في مصر والسودان، وبمقتضى الخط الشريف تنازل محمد علي باشا عن عشرة آلاف من جنود سوريا، فلم يبق عنده إلا ثمانية عشر ألفا بين مشاة وفرسان وغيرهم، فاضطره إذ ذاك إلى الاقتصاد لإصلاح مالية البلاد، فأوقف كثيرا من المدارس العمومية التي كان قد خصص مبالغ معلومة للنفقة عليها، ومن ضمنها مدرسة شبرا الزراعية، وأبدل الأساتذة الأوروباويين لما بقي من المدارس بأساتذة أتراك أو وطنيين، وسار من ذلك الحين في خطة الإصلاح قانعا بما قسم له من البلدان، فعمل على إرضاء جلالة السلطان فأنفذ إلى جلالته ابنه سعيد باشا لتقديم فروض العبودية.
ثم أصاب إبراهيم باشا انحراف في صحته، فسار إلى أوروبا لقضاء فصل الصيف سنة 1845 فأصاب ترحابا عظيما في سائر الممالك الأوربية، ولا سيما في فرنسا وإنكلترا وعاد إلى مصر في أواخر صيف 1846م، وكان والده قد توجه قبل وصوله بيسير إلى الآستانة بدعوة رسمية ليقدم عبوديته لجلالة السلطان، فوصلها في 19 يوليو (تموز) عام 1846م، ونزل في سراي رضا باشا، ثم تشرف بالمثول بين يدي السلطان فرحب به، ولما أراد تقبيل الأعتاب الشاهانية أمسكه جلالته وأجلسه بجانبه، ومكثا ساعة يتحادثان ثم انصرف شاكرا، وزار عدوه القديم خسرو باشا وتصافيا، وفي 17 أوغسطس من تلك السنة برح الآستانة قاصدا قوالة مسقط رأسه، فأقام فيها عدة أبنية لتعليم الفقراء وإعانة الضعفاء والمساكين، ثم بارحها إلى الإسكندرية فقوبل بالأنوار وسار منها إلى القاهرة فتقاطر إليه المهنئون من الأصدقاء أفواجا، فكان يستقبلهم وعلى صدره الطغراء الشاهانية تتلألأ كالشمس.
وفي منتصف عام 1884 توعك مزاج محمد علي باشا وازدادت فيه ظواهر الخرف، فلم يعد ثم بد من تولية إبراهيم باشا، فتوجه هذا إلى الآستانة في أوغسطس من تلك السنة لأجل تثبيته على ولاية مصر خلفا لأبيه، فثبته السلطان بنفسه، فعاد لمعاطاة الأحكام. ثم راجعه المرض واشتد عليه بغتة ففارق هذا العالم في 10 نوفمبر عام 1848م، وبعد وفاته بإحدى عشرة ساعة دفن في مدفن العائلة الخديوية بجوار الإمام الشافعي بالقاهرة.
وكان عباس باشا غائبا في مكة فاستقدم حالا لاستلام زمام الأحكام، فوصل القاهرة في 24 دسمبر بعد أن قضى فروض الحج، وبما أنه أكبر أبناء العائلة لم يكن ثم اعتراض على توليته، فجاء الفرمان الشاهاني من الآستانة مؤذنا بذلك فتولى الأمور.
كل ذلك ومحمد علي باشا في الإسكندرية وقد أخذ منه الضعف مأخذا عظيما وما زال يهزل جسدا وعقلا إلى 2 أوغسطس عام 1849م فتوفي، ولم يستغرب الناس ذلك لأنه مكث في حالة النزاع مدة طويلة، وفي 3 منه تقاطر الناس من الأعيان والقناصل إلى سراي رأس التين في الإسكندرية لحضور مشهد ذلك الرجل العظيم، فإذا هو في قاعة الاستقبال موضوعا في محمل تغطيه شيلان الكشمير، وعلى صدره سيفه والقرآن الكريم، وعلى رأسه طربوشه الجهادي أحمر تونسي، وحوله العلماء في الملابس الرسمية يتلون القرآن بأنغام محزنة، وكان سعيد أكبر من وجد في الإسكندرية من عائلة الفقيد، فكانت توجه نحوه خطابات التعزية، وقد نقلت جثة الفقيد ودفنت في جامعه في القلعة، ولا تزال هناك إلى الآن. (4) إصلاحاته
استولى محمد علي على مصر وهي في معظم الخراب والفساد سياسيا، وماليا، وتجاريا، وزراعيا، وأدبيا، فأخذ على نفسه إصلاح شئونها، وبذل في ذلك من الجهد والعناية ما ليس وراءه غاية، وقد فاز بما أراد؛ فأحيا الديار المصرية وأنعشها وأنماها من سائر الوجوه حتى أصبحت تجاري مدن أوروبا؛ ولذلك لقبه كتاب عصره بموجد الديار المصرية، يريدون أنه أوجدها من العدم. (4-1) الإصلاح الإداري
وأول شيء باشره من الإصلاح مسح الأراضي والانتفاع بزرعها وتوزيعها، وتفصيل ذلك أن الأراضي المصرية كانت منقسمة من حيث ملكها إلى قسمين: أحدهما الأراضي التي كاد يكون لواضع اليد عليها الحق في ملكها ملكا مطلقا وكانت معفاة من الضرائب، والقسم الثاني الأراضي التي لم يكن لزراعها إلا حق التمتع بريعها، وهي الأراضي التي كانت عليها الضريبة الخراجية، أما نفس العقار في هذين القسمين فكان ملك بيت المال أو الحكومة أو السلطان.
هذا كان شأن الأراضي المصرية قبل الفتح العثماني وبعده إلى القرن السابع عشر حينما استأثر الأمراء المماليك بالقوة والسلطة واختل نظام الأرضين، وصار الناس يهاجرون، فأهملت الأشغال العمومية، وقل ريع الأرض، فأصبحت الحكومة في عجز كلي عن استحصال النقود فالتجأت إلى تلزيم الخراج، وذلك أن الحكام كانوا يضمنون خراج النواحي والبلاد لأناس وكان ذلك الضمان أو الالتزام إما بالمزايدة أو بالاتفاق بين الملتزم من جهة والرزنامه بالنيابة عن الحكومة من جهة أخرى، حتى إذا تم الأمر أعطت الرزنامه للملتزم تقسيطا؛ أي عقد تلزيم يصدق عليه شيخ البلد وهو كبير أمراء المماليك.
فإذا دفع الملتزم الضريبة يعطى له حق التصرف في تحصيل المال الذي عجله، وعلى فوائده التي كان يقرر سعرها هو بنفسه كما يريد، وكانت الحكومة تتعهد بمساعدته في التحصيل وتجعل له في مقابل ما ينفقه ويكابده في ذلك التحصيل أراضي غير التي التزمها معفاة من كل ضريبة تعرف بالأواسي. أما الفلاحون فلم يكونوا يملكون أرضا فقط على أن الملتزمين أنفسهم كانت تنزع منهم الالتزامات إذا تصدى لهم من كان أكثر صولة منهم وأشد بطشا، ولا يخفى ما كان ينجم عن هذا التصرف من اختلال الأمن وضياع الحقوق والأتعاب.
فلما استقام الأمر لمحمد علي باشا أمر بمسح كل أراضي مصر المزروعة، ثم قسمها إلى مديريات، والمديريات إلى مراكز أو أقسام، وهذه إلى نواحي، وعين فيها من يقوم بإدارة أمورها وآخرين لجباية الضرائب، وأبطل الالتزامات جملة، ووزع أراضي كل ناحية بين أهالي تلك الناحية نفسها بحيث يصيب كل فلاح قادر على الشغل جانبا من الأرض بقدر جانب الآخر، فبلغ نصيب كل فلاح ثلاثة أفدنة وبعضهم أربعة أو خمسة، وجعل لمشائخ البلاد جانبا من الأرض أعفاه من الضريبة في مقابل نفقات ضيافة جباة الأموال الأميرية الذين كانوا يمرون في بلادهم، وما كانت الحكومة تكلفهم به من المهام، ودعا تلك العطايا «مسموح المشائخ» أو «مسموح المسطبة»، وهي تقابل الأواسي المتقدم ذكرها.
ثم رأى رحمه الله أن الفلاح لا يستطيع من نفسه أمرا كافلا إخراجه مما هو فيه من الضيق الذي تراكم عليه بمرور الأجيال، وكان قد انتهى من أعماله الحربية ولم يعد ثم حاجة إلى بقاء ضباط الجهادية منقطعين إلى وظائفهم العسكرية مع بقاء رواتبهم جارية عليهم في حالة السلم ، وأن ليس من التدبير والحكمة أن يتناولوا معيناتهم وهم عطل من الأعمال، ورأى من الجهة الثانية أن الفلاح يحتاج إلى مرشد يهديه إلى الطرق اللازمة لاستقامة أمره، ووازع يدفعه إلى النهوض بواجباته، وعلم أيضا أن المرء مهما كان صادقا في خدمة الحكومة يشتغل لنفسه أكثر مما يشتغل لغيره، فارتأى أن يعهد بأمر البلاد من حيث الزراعة إلى أولئك الضباط مفوضا إليهم تعميرها وإصلاحها بأنفسهم ففعل، ولم يحرم الفلاح مع ذلك من ثمرة أتعابه، بل جعل لهذه الطريقة التي اعتمدها أصولا وقوانين تقضي بأن لا تعطى الأطيان للمتعهد ما دامت رائجة ومقتدرة على أداء ما عليها من الأموال في أوقاتها. أما الأطيان غير الرائجة فتحال إلى عهدته باختيار أربابها، وهو يتعهد بأداء المال المطلوب للحكومة، وبهذه الواسطة نشطت الزراعة وتحسنت تحسنا عظيما، وما زالت تلك الأراضي في أيدي المتعهدين إلى أيام المغفور له عباس باشا، وهو الذي استردها.
ومن أعماله الإدارية إنشاء الدواوين، ومنها ديوان المعاونة وفائدته النظر فيما يعرض من الدواوين الأخرى والمديريات وسائر الجهات، ثم الديوان الخديوي وكان يقوم بأشغال ديواني الداخلية والخارجية والضابطة، ثم ديوان الأشغال، وديوان المبيعات، وديوان الفردة، ثم أنشأ بعد ذلك ديوان الخارجية خاصة، وديوان العسكرية، ثم الخزانة المالية وما يتعلق بها، وديوان الأوقاف، وديوان المعامل، وديوان التفتيش، والحقانية، والترسخانة، والأبنية، وديوان المدارس، وجميع ذلك أو معظمه عهد بإدارة أعماله إلى مديرين ورؤساء من أبناء هذا القطر السعيد، وكلها ترجع بأحكامها إلى ديوان المعاونة المتقدم ذكره.
ثم أنشأ مجالس للقضاء وما يقتضى لها من القوانين والأحكام، ورتب البريد يحمل على أيدي السعاة برا وبالسفن بحرا، وأنشأ ما يقوم مقام التلغراف الآن من الإشارات بواسطة أبنية مرتفعة ممتدة على خط واحد بين المدن الكبيرة، بين البناء والآخر مسافة تكفي لفهم الإشارة، لا يزال بعض منها قائما أثرا لهمة ذلك الرجل.
وأنشأ لتأييد السلم وتوطيد الأمن فرقة الضابطة، وفرقهم في أنحاء البلاد فأمن الناس غائلات السبل، ولا سيما الأوربيون؛ فإنهم كانوا يقاسون أثناء تجولهم في القطر إهانات ومشاق جسيمة فأصبحت السبل في مأمن، وتسهلت الصلات التجارية على الخصوص بين إنكلترا والهند على طريق البحر الأحمر فاستعاضوا بها عن طريق رأس الرجاء الصالح في أمور كثيرة. (4-2) الإصلاح الزراعي
ولم تقف إصلاحاته عند هذا الحد، ولكنه رأى خصب التربة المصرية وإمكان استخدامها لغير أنواع المزروعات المعروفة بمصر فجاء إليها بالقطن البدار (التقاوي) الأمريكاني، وجاء بنبات النيلة من جهات الهند، وبنبات الأفيون من آسيا الصغرى، وجاء بغير ذلك من أنواع المغروسات المفيدة، وجاء بأناس عالمين بكيفية زراعتها واستغلالها، وأكثر من غرس الحدائق والأشجار في القاهرة وضواحيها تلطيفا لحرارة الهواء واستزادة للغيث، من جملة ذلك مغارس الليمون في شبرا، والحدائق في الروضة، وحديقة الأزبكية فقد كان في مكانها قبل أيامه بركة كبيرة يتصل إليها الماء من النيل أيام فيضانه، وكان الناس يأتون إليها في المواسم والأعياد في قوارب عليها الأنوار وسائر الزخارف، فاحتفر محمد علي حولها ترعة ينصرف إليها الماء فظهرت أرض البركة، فجعل حول هذه الترعة صفوفا من الأشجار تحيط ببقعة كلها غرس طيب، أما الحديقة التي نراها الآن فهي من آثار الخديوي الأسبق إسماعيل باشا.
ومن آثاره الزراعية السدود التي أجراها في أبي قير وترعة الفرعونية وأشتوم الديبة وأشتوم الجميل وغيرها، وأنشأ كثيرا من الجسور والترع ونظر في تطهيرها، وأنشأ الترع الصيفية لإنماء الزراعة الصيفية، وأبدل الخول بالمهندسين في أعمال الري، وبعث كثيرا من أبناء البلاد إلى أوروبا لدرس فن الزراعة وإتقانه ليخدموا بلادهم به.
ومن مشروعاته الخطيرة من هذا القبيل القناطر الخيرية القائمة عند رأس الدلتا، والسبب في بنائها أنه رأى النيل لما يصل إلى رأس الدلتا ينفصل إلى فرعين: وهما فرعا رشيد ودمياط أو الفرع الغربي والشرقي، ورأى أن الغربي أكبرهما ويمر في بقاع معظمها لا يصلح للزراعة فيذهب كثير من مائه هدرا، والشرقي يخترق بقاعا واسعة حسنة التربة فإذا كانت أيام التحاريق لا يبقى من مائه ما يكفي للري، فأراد اتخاذ وسيلة ينتفع بها مما يزيد من ماء الفرع الغربي بإضافته إلى الشرقي. ورأى الصعيد في زمن التحاريق يشح فيه الماء لارتفاع أرضه، وقد لا يرتوي جيدا إلا في زمن الفيضان، فأقر على بناء قناطر على عرض الفرعين عند أول تفرعهما عند رأس الدلتا، وأن يجعل لهذه القناطر أبوابا من الحديد تغلق وتفتح عند الاقتضاء، فإذا أقفل قناطر هذا الفرع انصرف جانب من الماء المنحدر فيه إلى الفرع الآخر فيستطيع صرف المياه كيف شاء، وإذا كان الفيضان قليلا يقفل قناطر الفرعين جملة فيرتفع الماء في الصعيد فيروي أراضيه ثم لا يصرف منه إلا ما يلزم لري الوجه البحري، فإذا كانت أيام التحاريق تفتح القناطر فتفيض المياه والأرض في حاجة إليها، فباشر هذا العمل الخطير، ولم يضع الحجر الأول منه إلا عام 1251ه/1835م، ولم ينثن عن عزمه حتى أتم بناءه بدراية لينان باشا المهندس الفرنساوي؛ غير أن ذلك المشروع لم يأت بالفائدة المطلوبة، ولا سيما بما يتعلق بارتفاع الماء في الصعيد، ولكن الحكومة جعلت همها في السنين الأخيرة إصلاح ما هو فاسد منها وسد ما فيه من الخلل. (4-3) الإصلاح العسكري
كانت القوة العسكرية في مصر لما تولاها محمد علي أخلاطا من الألبانيين (الأرناءوط) والدلاة (المغاربة) والإنكشارية ومن جرى مجراهم، ونظامهم الحربي النظام القديم الذي كان متبعا في الأزمنة السالفة عند الدولة العلية قبل هذا القرن، فرأى رحمه الله أن يدربهم على النظام الفرنساوي الذي اتبعه بونابرت في غزواته وأخذته عنه دول أوروبا، فحاول ذلك مرارا فعظم على جنوده ولا سيما الأرناءوط، وعصوا أوامره فيه؛ لأنهم اعتبروا ذلك بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، ولما ألح عليهم ثاروا وتجمهروا إلى القلعة يطلبون الرفق بهم، فرأى من الدراية والحزم أن يعاملهم بالحسنى، فأجابهم إلى ما أرادوا، وأخذ يدخل ذلك النظام أولا بين الجنود الوطنيين؛ لأنهم أقرب إلى الطاعة من الألبانيين ومن شاكلهم، فأسس مدرسة حربية في الخانكاه قرب المطرية تعلم فيها اللغات والحركات العسكرية، وجعل سراي مراد بك في الجيزة مدرسة للفرسان، وأقام فيها أساتذة من الإفرنج، وأنشأ مدرسة للطبجية وجعل في القاهرة معامل لسكب المدافع واصطناع سائر حاجيات الجند، والفضل في تدريب الجند على النظام الجديد راجع لقائد من قواد الفرنساويين اسمه الجنرال «سيف»، ولكنه أسلم ودعا نفسه سليمان باشا، وقد خدم الحكومة المصرية خدمات صادقة في حروبها ببر الشام وغيرها.
وبنى محمد علي في الإسكندرية دار صناعة أتى إليها بالسفن والدوارع من مرسيليا والبندقية، وأقام فيها مدرسة جاء إليها بالأساتذة من فرنسا وإنكلترا، وبنى حول الإسكندرية حصنا منيعا وحصونا أخرى في أماكن أخرى.
شكل 1-6: جند محمد علي النظامي الجديد يجلدون رجلا بين يدي الكاشف. (4-4) الإصلاح التجاري
ولما أصلح الزراعة وكثرت حاصلات البلاد وجه التفاته إلى تنشيط التجارة، فأراد إنشاء مينا أمين تأوي إليه السفن التجارية، فلم تعجبه رشيد ولا دمياط لخشونة مرساهما، فاختار الإسكندرية فاحتفر ترعتها الموصلة بينها وبين النيل ودعاها ترعة المحمودية نسبة إلى السلطان محمود الثاني، فكثر نقل البضائع فيها بين الإسكندرية وداخل القطر، فاكتسبت الإسكندرية بذلك أهمية كبرى وتقاطر إليها التجار من أماكن مختلفة من أوروبا وغيرها، وأقيمت فيها البنايات الكبيرة على النمط الإفرنجي، ووجدت فيها الفنادق والنزل للغرباء، وأصلح مرفأ بولاق وغيره، ووسع للأجانب في الاستيطان والاتجار، فاتسعت التجارة وكثرت العلائق وعاد كل ذلك بالنفع الجزيل. وتوطيدا لأعماله هذه أنشأ مجلسا تجاريا مؤلفا من الوطنيين والأجانب للحكم في القضايا التجارية. (4-5) الإصلاحات الصناعية
أما الإصلاحات الصناعية فكثيرة، ولكن لم يبق منها إلى الآن إلا آثار بالية، مع ما توخاه رحمه الله من إنشاء المعامل واستجلاب الصناع من أقطار أوروبا؛ فإنه أنشأ في هذا القطر معامل عديدة لمعالجة القطن والنيلة واصطناع الطرابيش التونسية، والورق، والغزل، وأنواع الأقمشة من الحرير، والكتان، والقطن، والصوف في سائر جهات القطر، ومعمل الأسلحة على أنواعها وغيرها. أما سبب حبوط معظم تلك المعامل فعائد إلى عدم وجود معادن الفحم الحجري في القطر المصري. (4-6) الإصلاحات الصحية
رأى ذلك الرجل العظيم أن البلاد في احتياج كلي لهذه الإصلاحات؛ لانتشار التدجيل والتطبيب بالكتابة والحجابة وما شاكل، فاستقدم أحد مشاهير الأطباء الفرنساويين واسمه الدكتور كلوت (ثم صار كلوت بك، وإليه ينسب شارع كلوت بك في القاهرة) فأنشأ المدارس الطبية، والمستشفيات، وفي مقدمتها المدرسة الطبية في قصر العيني (وكان هذا القصر قبلا مسكنا لإبراهيم بك الكبير من أمراء المماليك) يدرس فيها الطب والجراحة، ومدرسة أخرى في فن التوليد، ومستشفى كبيرا في أبي زعبل قرب المطرية، وأنشأ مجلسا صحيا ومدرسة بيطرية، ورتب مستشفيات وأطباء للعساكر وأخرى للأهالي، وعين أطباء لمراقبة الأحوال الصحية في المديريات. (4-7) الإصلاحات العلمية
أما الإصلاحات العلمية فلا تقل أهمية عما تقدم؛ لأنه ألف مجلسا للمعارف العمومية قصد به تعليم خدمة الحكومة الملكيين والجهاديين ما يؤهلهم للقيام بمهام أعمالهم، وفتح مدارس كثيرة لتعليم الشبان من أهل البلاد، وبعث بعضا منهم إلى أوروبا لإتقان الدروس على مثال الإرساليات العلمية بعد ذلك، وأنشأ المطبعة الأهلية في بولاق وأمر بترجمة كثير من الكتب المفيدة، وأنشأ الجريدة المصرية الرسمية (الوقائع المصرية) وديوان المهندسخانة وغير ذلك. (5) صفاته ومناقبه
كان محمد علي متوسط القامة عالي الجبهة أصلعها، بارز القوس الحاجبي، أسود العينين غايرهما، صغير الفم باسمه، كبير الأنف متناسب الملامح مع هيبة ووداعة، أبيض اللحية كثيفها مع استدارة وسعة، جميل اليدين، منتصب القامة، جميل الهيئة، ثابت الخطوات منتظمها، سريع الحركة، إذا مشى يجعل يديه متصالبتين وراء ظهره غالبا على الخصوص إذا مشى في داره مفكرا في أمر، وكذلك كان يفعل بونابرت، وقلما كان يفاخر باللباس، فكان لباسه غالبا على زي المماليك، وعلى رأسه الطربوش الجهادي، ثم أبدله بالعمامة فزادته هيبة ووقارا، وأبدل اللباس العسكري بلباس واسع بسيط لا يمتاز به عن بعض أتباعه.
وكان يكره التفاخر بالحاشية، فلم يكن على بابه إلا رجل واحد يخفره، وإذا استوى في مجلسه لا يتقلد السلاح إنما يجلس وفي يده حقة العطوس والمسبحة يتلاهى بها، وكان يحب ألعاب البلياردو والداما، ولا يأنف من مجالسة صغار الضباط، وأما جلساؤه العاديون فالقناصل وكبار السياح، وكانوا يحبونه ويجلون قدره، ويلقبونه بمبيد المماليك أو مصلح الديار المصرية، وكان سليم القلب مع دهاء وسياسة، سريع التأثر، لا يعرف الكظم، فكثيرا ما كان ينقاد بدسائس المفسدين، وكان كريم النفس سخي العطاء، وفي بعض الأحوال مسرفا، وكان يتفاخر بعصاميته ويرتاح للتكلم عن سابق حياته، وكان محبا للاطلاع ولا سيما على الأخبار السياسية، وكان يعتبر الجرائد وتأثيرها في الهيئة الاجتماعية فكانوا يترجمونها له فيطالعها بتمعن.
أما هواجسه السياسية فكانت تقلق راحته فلا ينام إلا يسيرا، وقلما يرتاح في نومه، ولا ينفك متقلبا من جانب إلى آخر، فكان يجعل عند فراشه اثنين من خدمته يتناوبان اليقظة لتغطيته إذا انكشف عنه الغطاء من التقلب، ويقال إن من جملة دواعي أرقه الشهقة المرتجفة التي كانت تتردد إليه كثيرا، وكان قد أصيب بها في حملته على الوهابيين على إثر رعب شديد، على أن ذلك الأرق لم يكن ليضعف شيئا من سرعة حركته، فكان يستيقظ نحو الساعة الرابعة من الصباح ويقضي نهاره في المشاغل المختلفة بين مفاوضة مع ذوي شوراه أو مراقبة استعراضات العساكر أو استطلاع أمور أخرى تتعلق بمصالح الأمة، وكان بارعا في الحساب بغير تعلم؛ لأنه شرع بتعلم القراءة والكتابة وهو في الخامسة والأربعين من عمره، ويقال إنه ابتدأ بتعلم أحرف الهجاء على أحد خدمة حريمه، والكتابة على أحد المشائخ، وهذا مما يزيده شرفا وفخرا ويبرهن على ما فطر عليه من قوة الإدراك والحذاقة والمقدرة على المهام السياسية، وكان صارم المعاملة مع حس ورقة وحسن الأسلوب، وكان متمسكا بالإسلام مع احترام التعاليم الأخرى، ولا سيما التعاليم المسيحية، فكان يقرب أصحابها منه ويعهد إليهم أهم أعماله.
ويقال بالإجمال: إنه كان لرعيته أبا حنونا وصديقا مخلصا، ولذوي قرباه نصيرا مسعفا، ولأولاده أبا حقيقيا؛ ولذلك تراه بعد أن أصيب بفقد أكثرهم غلب عليه الحزن حتى أثر في صحته تأثيرا رافقه إلى اللحد. أما حبه للرعية فلا يحتاج إلى دليل، فهذه الديار المصرية عموما إذا قصرت ألسنة أهلها عن تعداد مآثره، ينطق جمادها بمزيد فضله، هذه الترع والجسور والبنايات والشوارع والجنائن، هذه المطابع والمدارس، هذه النظامات الجهادية والملكية والقضائية، هذه الزراعة والفلاحة، هذه شبه جزيرة العرب تردد ما لاقته من نجدته، وقد كان محترما لدى رعيته وذويه، ومن الأجانب البعيدين منه وطنا ودينا ومشربا، وكثيرا ما تقربوا إليه بالنياشين والهدايا إقرارا بفضله على العالم عموما بتمهيد سبل التجارة بين أوروبا والهند على الخصوص.
الفصل الثاني
إبراهيم باشا
شكل 2-1: إبراهيم باشا في أواخر أيامه (ولد سنة 1204ه وتولى وتوفي سنة 1265ه).
هو نجل محمد علي باشا، وقد تقدم في سيرة أبيه معظم سيرة حياته؛ لأنهما عملا معا في مصر، وكان إبراهيم ساعد أبيه الأيمن في فتوحه وسائر أعماله العسكرية، ولد في قوالة عام 1204ه ومال من صغر سنه للأعمال الحربية، وفيه مواهب أعاظم القواد؛ يشهد بذلك ما أتاه من الأعمال العظمى في مصر والشام والمورة والسودان وغيرها مما فصلناه في ترجمة أبيه.
وكان يعرف الفارسية، والتركية، والعربية، وله اطلاع واسع في تاريخ البلاد الشرقية، تولى الإمارة المصرية بعد تنازل أبيه عام 1265ه فسار على خطواته سيرا حسنا وإن كان في الحقيقة يختلف عنه بمواهبه الأصلية، فقد كان إبراهيم صارم المعاملة، صعب المراس، شديد الوطأة، كما يغلب أن يكون رجال العسكرية، وكان أبوه لين العريكة، حسن السياسة، ذا دهاء وحكمة، ولم يطل حكم إبراهيم إلا 11 شهرا وتوفي قبل والده.
وكان ربع القامة، ممتلئ الجسم، قوي البنية، مستطيل الوجه والأنف، أشقر الشعر، في وجهه أثر الجدري، كثير اليقظة قليل النوم، وكان نقش خاتمه «سلام على إبراهيم.»
الفصل الثالث
عباس باشا الأول
هو عباس باشا بن طوسون باشا بن محمد علي باشا، ولد عام 1228ه أو 1813م وربي أحسن تربية، وكان محبا لركوب الخيل، فرافق عمه إبراهيم باشا في حملته إلى الديار الشامية، وشهد أكثر الوقائع الحربية، وفي سنة 1265ه تولى زمام الأحكام على الديار المصرية بعد وفاة عمه إبراهيم، وكان على جانب من العلم والمعرفة ؛ لأن المرحوم جده كان يحبه كثيرا فاعتنى بتعليمه في مدرسة الخانكاه.
ومن مشروعاته المهمة الشروع في إنشاء الخط الحديدي بين مصر والإسكندرية، وتأسيس المدارس الحربية في العباسية، ومد الخطوط التلغرافية لتسهيل سبل التجارة وغير ذلك.
شكل 3-1: عباس باشا الأول (ولد عام 1228 وتولى سنة 1265ه وتوفي عام 1270ه).
وكان له غلام يدعى البرنس إبراهيم إلهامي كان على جانب عظيم من الجمال، والذكاء، واللطف، والمعرفة، والعلم. زار الآستانة سنة 1270ه وتشرف بمقابلة جلالة السلطان عبد المجيد فأحبه وزوجه بابنته، وغمره بنعمه، فرجع إلى مصر شاكرا حامدا، والمرحوم إلهامي باشا هو والد ذات العفاف والعصمة حرم المغفور له توفيق باشا الخديوي السابق، ووالدة مولانا الخديوي الحالي.
وعباس باشا هو الذي وضع الحجر الأول لمسجد السيدة زينب بيده، وقد كان لذلك احتفال عظيم حضره كثير من الأعيان ورجال الدولة، وذبحت فيه الذبائح، وفرقت الصدقات على الفقراء كميات كبيرة.
وفي أيامه كانت بين الدولة العلية والروسيين حروب، فبعث لنجدة الدولة حملة كبيرة سارت عن طريق بولاق في البحر، وسار هو بنفسه لوداعها هناك، وقبل ركوبها النيل نهض لوداعها فألقى في الجمهور خطابا بليغا منشطا.
وتوفي عباس باشا في شوال سنة 1270ه أو يوليو سنة 1854م في قصره في مدينة بنها العسل، ثم نقل ودفن في مدفن العائلة الخديوية في القاهرة.
الفصل الرابع
سعيد باشا
شكل 4-1: سعيد باشا (ولد سنة 1237ه، وتولى سنة 1270ه، وتوفي سنة 1279ه).
هو ابن محمد علي باشا، ولد في الإسكندرية عام 1237ه/1822م وكان محبا للعلم بارعا فيه وعلى الخصوص في اللغات الشرقية والعلوم الرياضية وسلك الأبجر والرسم، وكان يتكلم الفرنساوية جيدا. تولى زمام الأحكام عام 1270ه أو 1854م بعد وفاة عباس باشا ابن أخيه، وكان محبا للعدل والفضيلة، وكان مهتما بالإصلاح الإداري، ومن أعماله المبرورة إتمام الخطوط الحديدية والتلغرافية بين إسكندرية ومصر، والشروع في مد غيرها، وتنظيم لوائح الأطيان واسترجاعها من المتعهدين إلى أربابها، وقد عدل الضرائب فجعلها عادلة، ورفع كثيرا من الضرائب التي كان يتظلم منها الرعايا، ونزح ترعة المحمودية، وفي أيامه تمت معاهدة «ترعة السويس»، وقد نشطها تنشيطا كبيرا، وأقام على طرفها الشمالي مدينة حديثة دعيت باسمه وهي «بورت سعيد» وغرس الأشجار في طريق المنشية.
وفي السنة الثانية من توليه على مصر وضع الحجر الأول لأساس القلعة السعيدية عند رأس الدلتا فيما بين القناطر الخيرية، تداعت أركانها الآن، وقد عثرنا على قطعة فضية مستديرة قطرها قيراطان ونصف على أحد وجهيها رسم النيل عند تفرعه والقناطر الخيرية، يليها على الجانبين برجا القناطر وبينهما عند رأس الدلتا القلعة السعيدية، وكل ذلك في أجمل ما يكون من الرسم، وعلى الوجه الآخر كتابة تركية تفيد «أن المغفور له سعيد باشا بن محمد علي باشا المشهور قد وضع أساس القلعة السعيدية وما يليها من الاستحكامات بيده في يوم الأحد 23 جمادى الآخرة عام 1271ه لأجل حماية الديار المصرية.» نشرنا نصها التركي في كتابنا تاريخ مصر الحديث.
وفي أيامه ثارت مديرية الفيوم على الحكومة، فبعث إليها وأخمد الثورة فهدأت الأحوال. ولما اختتن نجله طوسون أطلق كل من كان في السجون من المجرمين، حتى القاتلين، وفي أيامه أعطيت بلاد السودان بعض الامتيازات، وتولى عليها البرنس حليم باشا حكمدارا، وفي عام 1276ه أو 1859م توجه لزيارة سوريا، فمكث في بيروت ثلاثة أيام، ونزل ضيفا كريما على وجهاء المدينة، وكان في أثناء مروره في الطرقات ينثر الذهب على الناس.
وفي عام 1278ه أو 1861م توفي المغفور له السلطان عبد المجيد وتولى السلطان عبد العزيز، وفي يوم السبت 26 رجب عام 1279ه أو 17 يناير (ك2) 1863م توفي سعيد باشا في الإسكندرية ودفن فيها.
الفصل الخامس
إسماعيل باشا
(1) ترجمة حاله
هو إسماعيل باشا بن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا الكبير، وكان لوالده ثلاثة أولاد ذكور أكبرهم البرنس أحمد (ولد عام 1825)، ثم البرنس إسماعيل (ولد عام 1830)، ثم البرنس مصطفى (ولد عام 1832)، وكان البرنس أحمد نابغة من نوابغ الزمان ذكاء وفطنة، كثير الشبه بوالده شكلا وأخلاقا، ولكنه توفي في أثمن سني حياته بين الشباب والكهولة، فأصبح صاحب الترجمة كبير أبناء إبراهيم.
وربي إسماعيل باشا في حجر والده، وتعلم وتثقف بحياطة جده؛ لأن جده رحمه الله كان قد أنشأ لأولاده الصغار، وأولاد أولاده الكبار مدرسة خصوصية في القصر العالي، فيها نخبة من مهرة الأساتذة، فتلقى صاحب الترجمة فيها مبادئ العلوم واللغات العربية، والتركية، والفارسية، ونذرا يسيرا من الرياضيات والطبيعيات، فلما بلغ السادسة عشرة من عمره بعث به جده مع ولديه المرحومين البرنسين حليم باشا، وحسين باشا، والمرحوم البرنس أحمد باشا مع إرسالية فيها نخبة من شبان مصر الأذكياء إلى مدرسة باريس يتولى رئاستهم وجيه أرمني اسمه أسطفان بك، فقضوا في تلك المدرسة بضع سنوات تلقوا بها العلوم العالية ثم عادوا إلى مصر إلا حسين بك فإن المنية أدركته هناك. ومن العلوم التي تلقاها إسماعيل اللغة الفرنساوية، والطبيعيات، والرياضيات وخصوصا الهندسة وعلى الأخص فن التخطيط والرسم، وهذا هو سبب شغفه بعد ذلك بتنظيم الشوارع وزخرفة البناء.
شكل 5-1: إسماعيل باش (ولد سنة 1830 وتولى سنة 1863 وخلع سنة 1879 وتوفي سنة 1895).
ولما عادت الإرسالية كان عباس باشا الأول واليا على مصر، فمكث إسماعيل معه على صفاء ومودة حتى وقع بين عباس باشا وسعيد باشا نفور مبني على اختلاف في اقتسام التركة، وانحاز سائر أفراد العائلة الخديوية إلى سعيد وفي جملتهم إسماعيل، فساروا كافة إلى الآستانة ورفعوا دعواهم إلى جلالة السلطان، فصدرت الإرادة الشاهانية بإنفاذ المرحوم فؤاد باشا الصدر الأعظم، وكان يومئذ فؤاد أفندي وجودت أفندي وهو جودت باشا الوزير والمؤلف الشهير إلى مصر فأتيا وسويا الخلاف، وتصالح أفراد هذه العائلة الكريمة فعادوا إلى مصر إلا إسماعيل فإنه بقي في الآستانة وتعين عضوا في مجلس أحكام الدولة العلية.
وفي سنة 1854 توفي عباس باشا الأول، وتولى عمه سعيد باشا، فعاد صاحب الترجمة إلى مصر فولاه عمه المشار إليه رئاسة لمجلس الأحكام، فاهتم بشأنه أعظم اهتمام ونظمه على مثال مجلس أحكام الدولة العلية.
وفي عام 1863 توفي المغفور له سعيد باشا فأفضت ولاية مصر إلى إسماعيل باشا، وهو خامس ولاتها من السلالة المحمدية العلوية، فأخذ منذ تبوئه الأحكام في رفع شأن هذه الديار وإعادة رونقها الذي كان لها في عهد محمد علي باشا، فأطلق يده في النفقة لتنظيم الشوارع، وتشييد الأبنية، وإنشاء المشروعات النافعة على أنواعها مما سيأتي تفصيله، غير مبال بما قد يجر إليه ذلك من الضيق.
وكانت ولاية مصر تنتقل في العائلة الخديوية إلى من يختاره جلالة السلطان بقطع النظر عن علاقته بالوالي السابق، وكان ولاة مصر يلقبون بالعزيز أو الوالي أو الباشا، وإذا لقبوا أحيانا بالخديوي فإنما ذلك يكون على سبيل التجميل والتفخيم . أما إسماعيل باشا فهو أول من نال رتبة الخديوية ولقب الخديوي، فأصبحت ولاية مصر إرثا صريحا في نسله ينتقل منه إلى أكبر أولاده ومنه إلى أكبر أولاده وهكذا على التعاقب، وهاك أهم نصوص الفرمان المؤذن بذلك، الصادر في 12 جمادي الأولى سنة 1290ه الموافق 8 يوليو عام 1873.
إن كيفية وراثة الحكومة المصرية المقررة في فرماننا الصادر ثاني ربيع الآخر عام 1285ه قد غيرت على وجه أن تنتقل الخديوية من متبوئ كرسيها إلى بكر أبنائه، ومن هذا إلى بكر أبنائه أيضا، وهلم جرا، علما بأن ذلك أدنى إلى المصلحة وأشد ملاءمة لأحوال البلاد المصرية، واختصاصا لك بانعطافي الذي صرت له أهلا بحسن سعيك واستقامتك واجتهادك وأمانتك، وإثباتا لذلك أجعل قانون الوراثة لخديوية مصر ومتعلقاتها وما يتبعها من البلاد وقائمقامية سواكن ومصوع وتوابعهما كما تقدم بيانه، بحيث تكون الولاية لبكر أبنائه من بعده. فإذا لم يرزق من تولى الخديوية ولدا ذكرا كانت الولاية من بعده لأكبر إخوته أو لأكبر بني أخيه الأكبر كما تقرر، ولا تكون هذه الوراثة لأبناء البنات. ولأجل تأييد هذه الأحكام ينبغي أن تكون الوصاية في حال كون الوارث قاصرا على الصورة الآتية وهي:
إذا توفي الخديوي وكان كبير ولده قاصرا؛ أي غير بالغ من العمر ثماني عشرة سنة يكون هذا القاصر بالحقيقة خديويا بحق الوراثة فيصدر إليه فرمانا بوجه السرعة، وإذا كان الخديوي المتوفى قد نظم قبل وفاته أسلوبا للوصاية وعين كفيتها وفحوى إدارتها بصك مثبت بشاهدة اثنين من رؤساء حكومته فأولئك الأوصياء يقبضون إذ ذاك أزمة الأعمال عقب وفاة الخديوي، ثم ينهون بذلك إلى الباب العالي ليثبتهم في مناصبهم، ولكن إذا توفي الخديوي بغير وصية وكان ابنه قاصرا فمجلس الوصاية عند ذلك يؤلف من متولي إدارة الداخلية والحربية والمالية والخارجية والحقانية وقائد العسكر ومفتش المديريات، فيجتمع هؤلاء الذوات وينتخبون للخديوي وصيا بإجماع الرأي أو بأغلبيته، فإذا تساوت الآراء لاثنين من المنتخبين كانت الوصاية لأرفعهما رتبة باعتبار الترتيب السابق من الداخلية فما بعدها، ويشكل مجلس الوصايا من الباقين فيباشرون جميعا أمور الخديوية ويعرضون ذلك لسلطتها السنية ليصدق عليه بالفرمان الشريف، وكما أنه لا يجوز تبديل الوصي وتغيير هيئة الوصايا قبل انتهاء مدتها في الصورة الأولى أي فيما إذا كان تنظيمها بحكم وصية الخديوي المتوفى فكذلك لا تغير في الصورة الثانية، وأما إذا توفي الوصي أو أحد أعضاء مجلس الوصاية في خلال تلك المدة فينتخب بدل الأول أحد أعضاء المجلس وبدل الثاني أحد ذوات المملكة وبمجرد بلوغ الخديوي القاصر ثماني عشرة سنة يكون راشدا فيباشر إدارة أمور الخديوية، وذلك مما تقرر لدينا واقتضته إرادتنا السلطانية.
ولما كان تزايد عمارة الخديوية المصرية وسعادة حالها ورفاهة سكانها من أهم الأمور لدينا، وكانت إدارة المملكة المالية ومنافعها المادية المتوقف عليها تكامل وسائل الراحة وتوفر أسباب السعادة عائدة على الحكومة المصرية، رأينا أن نذكر كيفية تعديل الامتيازات وتوضيحها على شرط بقاء جميع الامتيازات الممنوحة سابقا للحكومة المصرية، وذلك أنه لما كانت إدارة المملكة الملكية والمالية بجميع فروعها وأحوالها ومنافعها عائدة بالحصر على الحكومة ومتعلقة بها وكان من المعلوم أن إدارة أي مملكة وحسن انتظامها وتزايد عمرانها وسعادة سكانها مما لا يتم إلا بالتوفيق والتطبيق بين الإدارة العمومية والأحوال والمواقع وأمزجة السكان وطبائعهم، فقد منحناكم الرخصة المطلقة في وضع القوانين والنظامات الداخلية حسب الحاجة واللزوم. ولأجل تسهيل تسوية المعاملات سواء كانت من قبل الرعية أو من قبل الحكومة مع الأجانب ولتوسيع نطاق الصنائع والحرف وتوفير أسباب التجارة منحناكم أيضا الرخصة التامة في عقد المشاركات وتجديد المقاولات مع مأموري الدول الأجنبية في أمور المملكة الداخلية وغيرها، على شرط أن لا يكون ذلك موجبا للإخلال بمعاهدات الدولة السياسية.
ولكون خديوي مصر حائزا لحق التصرف المطلق في الأمور المالية قد أعطيت له الرخصة في عقد القروض من الخارج بغير استئذان عندما يجد لذلك لزوما، على شرط أن يكون القرض باسم الحكومة المصرية، وبما أن أمر المحافظة على المملكة وصيانتها من الطوارق (وهو أهم الأمور وأحوجها إلى العناية) من أقدم الوظائف المختصة بخديوي مصر قد منحناه الإذن المطلق بتدارك أسباب المحافظة وتنسيبها على مقتضى ضرورات الزمان والحال، وبتكثير أو تقليل عدد العساكر المصرية الشاهانية على حسب اللزوم بغير تقييد ولا تحديد، وأبقينا كذلك لخديوي مصر امتيازه القديم بمنح الرتب العسكرية إلى رتبة ميرالاي والملكية إلى الرتبة الثانية على شرط أن تكون المسكوكات المضروبة في مصر باسمنا الشاهاني وتكون أعلام العساكر البرية والبحرية في القطر المصري كأعلام عساكرنا السلطانية بلا فرق أو تمييز، ولا يجوز لخديوي مصر أن ينشئ البوارج المدرعة بغير استئذان، أما سائر السفن والبوارج ففي استطاعته أن ينشئها متى شاء. انتهى.
وقد امتاز إسماعيل باشا عن سائر ولاة مصر قبله أنه حبب سكنى الديار المصرية إلى الأجانب من جالية أوروبا وأميركا وغيرهما بما مهده من وسائل الراحة والطمأنينة مع الأخذ بناصرهم وتأييد مشروعاتهم وتنشيطهم وتوسيع نطاق التجارة، فتقاطروا إليها أفواجا، وأقاموا فيها على الرحب والسعة؛ لما آنسوه من الكسب الحسن والعيش السهل.
وفي عام 1869 احتفل إسماعيل باشا بافتتاح ترعة السويس، وكان قد بوشر بحفرها على عهد سعيد باشا فحضر ذلك الاحتفال جميع ملوك أوروبا أو من يقوم مقامهم، وكان له رنة بلغ صداها أربعة أقطار المسكونة؛ لما أعده فيه إسماعيل من وسائل الزينة مما قد تقصر عنه همم الملوك العظام، وفي جملة ذلك أنه بنى الأوبرا الخديوية بالقاهرة لتكون مرسحا يشاهد فيه ضيوفه صنوف التمثيل، وكانت المدة غير كافية لتشييد ذلك البناء فبذل الدراهم والدنانير فلم تمض خمسة أشهر حتى تم البناء وسائر معدات التمثيل على ما نشاهده الآن، وهو من المراسح التي لا مثيل لها إلا في عواصم أوروبا العظمى، ومما اختص به صاحب الترجمة من الشرف العظيم دون سواه من الولاة أن ساكن الجنان السلطان عبد العزيز حلت ركابه في القطر المصري في السنة الأولى من ولاية إسماعيل فلاقى ترحابا عظيما.
وفي عام 1872 تعدى الحبشة على حدود مصر مما يلي بلادهم، وأسروا بعضا من رعايا مصر فبعثت الحكومة المصرية تطلب ردهم، فجرت المخابرات فآل ذلك إلى حرب جرد فيها إسماعيل حملة لم تنل غرضا فانتهت الحرب بالصلح، وفي عام 1873 شخص رحمه الله إلى دار السعادة فاحتفل بقدومه، فعاد وقد حاز رضا الحضرة الشاهانية ورجال المابين الهمايوني، وفي تلك السنة احتفل بزواج أنجاله الثلاثة وهم: المغفور لهما توفيق باشا الخديوي السابق، والبرنس حسن باشا، ودولتلو البرنس حسين باشا احتفالا واحدا تحدث به الناس زمنا طويلا، ومما زاد ذلك الاحتفال بهجة أنهم نالوا عندئذ رتبة الوزارة الرفيعة معا.
ولنأت الآن إلى أمر هو أهم الأمور المتعلقة بصاحب الترجمة وعليها مدار ما آل إليه أمره؛ نريد به أمر الديون التي تعاظمت على مصر في أيامه، وإيضاحا لذلك نذكر ملخص تاريخ الدين المصري، فأول من وضع جرثومة الدين المصري المغفور له سعيد باشا عام 1862 وقدره الاسمي 3292800 جنيه بفائدة 7 بالمائة، وفي السنة التالية تولى صاحب الترجمة تخت الحكومة المصرية فأخذ في البذل والنفقات في التشييد والبناء وغير ذلك حتى زادت النفقات على الدخل، فكان إذا أراد عملا جنح إلى الاستقراض لا يبالي بعاقبة ذلك، حتى بلغت ديون مصر نحو مائة مليون جنيه، وأصبحت حملا ثقيلا على الخزينة المصرية وعلى أهالي البلاد؛ لأنه كان يضرب الضرائب الفادحة ليفي منها بفائدة تلك الديون، ويستخدم العنف في تحصيلها من الأهالي حتى آل الأمر إلى مداخلة الدول الأجنبية للمحافظة على أموال رعاياها أصحاب الديون.
فتخابرت الدول وتشاورت في أحسن الوسائل لضمان تلك الأموال واستهلاكها، فألفت لجنة دولية مشتركة سموها «لجنة صندوق الدين العمومي»، صدر الأمر العالي بتشكيله في 2 مايو عام 1876، وورد في ذلك الأمر أن هذا الصندوق قد أنشئ لتأمين أرباب الديون على ديونهم واستلام ما يستحق لهم من الفوائد وغيرها، وأن الحكومة لا يجوز لها تجديد قرض إلا بالاتفاق مع صندوق الدين، وأن الدعاوي التي يتراءى لصندوق الدين رفعها على الحكومة تنظر في المجالس المختلطة.
وكانت الديون المصرية قسمين: دين الحكومة، ودين الدائرة السنية، فضموهما في 7 مايو من تلك السنة إلى دين واحد فبلغ قدره 91 مليون جنيه، وسموه الدين الموحد بفائدة 7 بالمائة، ويتم استهلاكه في 65 عاما، ثم رأى إسماعيل باشا أن توحيدا على هذه الصورة لا يتيسر له إتمامه، فأصدر في 18 نوفمبر منها أمرا يقول فيه: أن تصدر الحكومة المصرية عليها سندات بمبلغ 17 مليون جنيه تكون ممتازة برهن خصوصي هو السكة الحديدية المصرية ومينا الإسكندرية وفائدته 5 بالمائة، وسماه «الدين الممتاز».
على أن كل هذه الوسائل لم تكن كافية لإقناع الدول؛ لأن الحكومة لم تكن تقوم باستهلاك الديون حسب الشروط، فعينت الدول عام 1878 لجنة مالية مختلطة لمراقبة حسابات الحكومة المصرية، فرأت فيها عجزا مقداره مليون ومائتا ألف جنيه، فتنازل إسماعيل باشا عن أملاكه الخاصة وأملاك عائلته للحكومة، وهي التي تعرف بأملاك الدومين، وتقرر في تلك السنة استقراض ثمانية ملايين جنيه ونصف وجعلوا أملاك الدومين رهنا لها، وهذا هو الدين المعروف بدين روشيلد.
وكانت أعمال الحكومة المصرية تجري بمقتضى إرادة الخديوي رأسا، أما بعد تداخل الأجانب بأحوال المالية فلم ير إسماعيل بدا من جعل حكومته شورية، فشكل مجلس النظار على ما هو عليه الآن برئاسة نوبار باشا، وصادق على تعيين ناظرين: أحدهما إنكليزي، وهو المستر ولسن للمالية، والآخر فرنساوي، وهو المسيو بلينير للأشغال العمومية، فرأى مجلس النظار أن يقتصد شيئا من نفقات الجند فرفت جانبا منهم، فثار المرفوتون، وجاء جماعة منه وفيهم 400 ضابط إلى نظارة المالية، وأمسكوا بنوبار باشا والمستر ولسن وطلبوا إليهما دفع ما تأخر لهم من رواتبهم، وخاطبوهم بعنف وشدة حتى علت الضوضاء وكادت تئول إلى ثورة لولا أن أقبل إسماعيل باشا وخاطب الجند ووعدهم وأمر بانصرافهم، أما هم فحالما رأوه ذعروا وكأنه جاءهم برقية أو سحر فانكفئوا راجعين، والمظنون أن ذلك حصل بالتواطؤ من قبل.
ثم استقال الوزيران نوبار ورياض تخلصا من عبء التبعة؛ لما آنسوه في أعمال الخديوي من الخطر، فشكل مجلسا آخر برئاسة ابنه توفيق باشا (الخديوي السابق) على أن ذلك لم يقلل شيئا من القلاقل؛ لأن الداء لم يكن في المجلس، ولكنه كان في مقاصد إسماعيل؛ لأنه استعظم إغلال يديه بمجلس فيه ناظران أجنبيان، فقلب هيئة ذلك المجلس في 7 أفريل عام 1879 وأخرج الناظرين الأجنبيين، وعهد برئاسة المجلس إلى المرحوم شريف باشا فعظم ذلك على دولتي إنكلترا وفرنسا؛ لأنهما اعتبرتا تلك المعاملة إهانة لهما فعمدتا إلى الانتقام، فسعتا في ذلك لدى الباب العالي سرا وجهرا، وفي 25 يونيو عام 1879 صدر الأمر الشاهاني بإقالته وتولية المغفور له توفيق باشا، وفي 30 منه، وقيل: في 26 سافر إسماعيل باشا من القاهرة إلى الإسكندرية ومنها إلى أوروبا، ويقال إنه خاطب ابنه توفيق باشا عند سفره قائلا:
لقد اقتضت إرادة سلطاننا المعظم أن تكون يا أعز البنين خديوي مصر، فأوصيك بإخوتك وسائر الآل برا، واعلم أني مسافر وبودي لو استطعت قبل ذلك أن أزيل بعض المصاعب التي أخاف أن توجب لك الارتباك، على أني واثق بحزمك وعزمك، فاتبع رأي ذوي شوراك وكن أسعد حالا من أبيك.
وما زال بعد سفره مقيما في أوروبا حتى أفضت به الحال إلى الإقامة في الآستانة العلية، فأقام فيها إلى أن توفاه الله في 6 مارس عام 1895 وله من العمر 65 عاما فحملت جثته إلى مصر ودفنت فيها. (2) أعماله وآثاره
قلنا: إن إسماعيل باشا كان شغفا بتنظيم المدن، حتى قيل: إنه يريد أن يجعل القاهرة تضاهي باريس بالنظام والترتيب، فنظم طرقها ووسعها وأكثر من فتح الشوارع الجديدة وبناء الأبنية الفاخرة؛ كالأوبرا الخديوية، والقصور الباذخة في القاهرة والإسكندرية، وأعظم تلك الأبنية سراي الجيزة، وهي مما تقصر عنه همم الملوك حتى ضربت بها الأمثال، وأنشأ المتحف المصري في بولاق، والمكتبة الخديوية بالقاهرة، وهما من أجل الآثار وأنفعها، وأما المتحف فقد أنشأه بأمره ماريت باشا وقبره فيه، وكان المتحف أولا في بولاق ثم نقل على عهد الخديوي السابق إلى سراي الجيزة، وهو اليوم في بناية بنوها له خاصة بجوار قصر النيل. أما المكتبة فقد كانت أولا في درب الجماميز، ثم بنوا لها بناية خاصة في ميدان باب الخلق نقلوها إليها، والمكتبة نفيسة تفتخر بها مصر على سائر الأمصار الشرقية لما حوته من الآثار العلمية، وبينها جانب كبير من الكتب الخطية التي يعز وجودها.
ومن أعماله أنه جر الماء بالأنابيب إلى بيوت العاصمة، وكان الناس يستقون قبلا بالقرب والصهاريج، وعمم زرع الأشجار في المدن وضواحيها، وأنار القاهرة بالغاز، وتدارك ما ينجم عن الحريق باستجلاب آلات الإطفاء.
وهو الذي نظم معظم فروع الإدارة على ما هي عليه الآن، فقسم القطر المصري إلى 14 مديرية، وعين لها المراكز، وأسس مجلس النواب ونظمه، ونظم مجالس القضاء الأهلي والقضاء الشرعي، وجعل لكل روابط وحدودا ووضع نظام المجالس الحسبية، وأنشأ مجلس حسبي القاهرة، وعلى عهده أنشئت المجالس المختلطة بمساعي دولتلو نوبار باشا، وقد أراد بها تقليل نفوذ القناصل، وحصر النفوذ الأجنبي، ولكنها كانت سببا لزيادة النفوذ واتساع دائرة المداخلة، وكانت مصلحة البريد قبلا شركات أجنبية فأنشأ مصلحة البوسطة المصرية، وجعلها من المصالح الأميرية كما هي الآن، وحسن مطبعة بولاق وزاد فيها، وأمر بترجمة الكتب المفيدة وطبعها ونشرها، وأسس معملا للورق، ونشط المطبوعات، فلم يكن في القاهرة قبله إلا جريدة الوقائع المصرية، ولم تكن تصدر على نظام، فجعل لها إدارة خاصة بها، وتكاثرت على عهده المطابع والجرائد العربية؛ كجريدة التجارة، ومصر، والوطن، والأهرام، والكوكب، الإسكندري، وروضة الإسكندرية، وروضة المدارس، واليعسوب، ونزهة الأفكار، وحديقة الأبصار، وغيرها، وبالجملة فقد كانت للعلم في أيامه نهضة، مرجع الفضل بها إليه؛ لأنه كان يقرب العلماء، ويجيز المجيدين منهم ويأخذ بناصرهم ماديا وأدبيا، وكان يشهد الاحتفال بامتحان التلامذة بنفسه ويسلم الجوائز لمستحقيها بيده، وقد يقف عند تقديمها تنشيطا لهم.
ولم يكن في القطر المصري يوم توليه إلا خط حديدي ممتد بين القاهرة والإسكندرية فأنشأ كثيرا من الخطوط الأخرى الممتدة إلى سائر أنحاء القطر شمالا وجنوبا، وشرقا وغربا، ومد أسلاك التلغراف حتى أوصلها إلى السودان، وقد بلغت نفقات الخطوط الحديدية والآلات البخارية والعربات والآلات التلغرافية التي أحدثها بين عام 1281 و1290ه 9658327 جنيها على تقدير المرحوم صالح مجدي بك.
ومن آثاره «الإسماعيلية»، بناها على قنال السويس وسماها باسمه وجعل فيها الحدائق والقصور، وأنشأ المنارات في البحرين الأبيض والأحمر، وزين حديقة الأزبكية بغرس أشجارها وتسويرها، ورتب فيها الموسيقى، وبنى بنايات كثيرة بالقرب من طرة على طريق حلوان لمعامل البارود والأسلحة الصغيرة، أنفق على بنائها مبالغ كبيرة، ولكنه لم يستعملها ، وبنى ليمان الإسكندرية والحمامات المعدنية في حلوان ولولاها لم تعمر حلوان، وبنى المرصد بالعباسية وكثيرا من معامل السكر في سائر أنحاء القطر، هذا فضلا عن الترع الكثيرة والجسور الهائلة، ومن أشهر تلك الترع الإبراهيمية بالصعيد، والإسماعيلية بين القاهرة والسويس، ومن أعظم الجسور كوبري قصر النيل الموصل بين القاهرة والجزيرة، وبنى حوضا لترميم السفن في السويس.
ومما تم على يده من الأعمال العظيمة إبطال تجارة الرقيق وإتمام فتح السودان وإخضاعها، فافتتح مملكة دارفور عام 1291ه وما بعدها حتى بلغت جنوده الدرجة الرابعة من العرض الجنوبي وراء خط الاستواء، وعني في تحسين أحوال السودان فمهد شلال عبكة، وفتح سدا كبيرا جنوبي مديرية فشودة طوله ستون ميلا، كان يعيق مسير السفن في النيل الأبيض، فتسهلت طرق التجارة كثيرا، ومن مآثره تسهيل اكتشاف ما غمض من قارة أفريقيا بمد أصحاب الخبرة.
وكانت المدارس التي أنشأها جده رحمه الله قد أخذت في الاضمحلال لإغفال أمرها بعده، فأعاد رونقها وأحدث غيرها، فمن المدارس التي أسسها أو حسنها مدارس المبتديان والتجهيزية والمهندسخانة والمساحة والألسن والعمليات والإدارة واللسان القديم والتجارة ومدرسة البنات في السيوفية وغير ذلك من المدارس في القاهرة والإسكندرية والأرياف، وفي عهده تأسست المحافل الماسونية الوطنية، وبحمايته تعزز شأن الجمعية الماسونية في مصر وانتشرت مباديها حتى انتظم في سلكها نجله المغفور له الخديوي السابق وجماعة كبيرة من أمراء البلاد ووجهائها.
وخلاصة القول: إن مصر كانت في أيامه زاهية زاهرة، والناس في رغد ورخاء، وخصوصا بعد ارتفاع أثمان الأقطان أثناء حرب أميركا، فإن ثمن القنطار الواحد بلغ 16 جنيها، فكان سكان هذا القطر السعيد وفيهم الكاتب، والشاعر، والتاجر، والصانع، يتحدثون بمآثره وإنعامه وتنشيطه، على أن العقال منهم كانوا لا يغفلون عن ذكر ما كان من إسرافه فوق ما تحتمله حال البلاد، وتنبأ بعضهم بمنقلب تلك الحال ووقوع مصر في وهدة الدين وتعريضها لمطامع الدول الأجنبية، والواقع أنه لم يترك هذه الديار إلا وقد بلغت ديونها زهاء مائة مليون جنيه كما رأيت، وهي لا تزال تئن من وطأتها إلى الآن ، وكان ذلك من أعظم الأسباب لمداخلة الأجانب في إدارة البلاد ومراقبة أعمالها.
على أننا لا ننكر أن الإصلاحات التي أجراها ببعض تلك الأموال قد عادت على البلاد بالنفع الجزيل، ولكننا لا نرى أنها تعوض الخسارة كلها، وزد على ذلك أنه لو أحسن التصرف في النفقات وسار بها سيرا قانونيا لكانت العواقب أحسن كثيرا ولأصبحت مصر في غنى عن كل هذه التقلبات، ويقال إن مقدار الأموال التي دفعت من خزينة الحكومة المصرية بأمره بغير تسمية المدفوع إليه، بمعنى أنه كان يرسل إلى المالية تذكرة بإمضائه يقول فيها: ادفعوا إلى رافعه المبلغ الفلاني، فيدفعونه وهم لا يعلمون مصيره، فقد جمعت هذه المبالغ فبلغت 84 مليونا من الجنيهات، فإذا صحت هذه الرواية كان هذا المبلغ وحده كافيا لوفاء دين مصر. (3) صفاته
كان إسماعيل باشا ربعة، ممتلئ الجسم قوي البنية، عريض الجبهة، كثيث اللحية مع ميل إلى الشقرة، أما عيناه فكانتا تتقدان حدة وذكاء مع ميل قليل نحو الحول، أو أن إحداهما أكبر من الأخرى قليلا.
وكان جريئا مقداما، ذا قوة غريبة على إقامة المشروعات، كثير العمل لا يعرف التعب ولا الملل ولا مستحيل عنده، وكان ساهرا على ماجريات حكومته، لا تفوته فائتة، وأما أعمال الدائرة السنية فقد كان يطلع على جزئيات أعمالها وكلياتها، فلا يباع قنطار من الفحم إلا بمصادقته.
وكان عظيم الهيبة جليل المقام لا يستطيع مخاطبه إلا الانقياد إلى رأيه، حتى قيل على سبيل المبالغة: إن الذين يخاطبونه يندفعون إلى طاعته بالاستهواء أو النوم المغنطيسي.
وكان حسن الفراسة، قل أن ينظر في أمر إلا استطلع كنهه، فإذا نظر إلى رجل عرف نواياه أو تنبأ بمستقبل أمره، ومما يتناقلونه عنه أنه أدرك مستقبل أحمد عرابي وهو لا يزال ضابطا صغيرا، فأوصى المغفور له الخديوي السابق أن لا يرقيه؛ لئلا يتمكن من بث نواياه الثوروية فتقود إلى ما لا تحمد عقباه.
وكان يتكلم الفرنساوية جيدا، وهي اللغة التي يخاطب بها الأجانب ويحسن العربية، والتركية، والفارسية، ويحب الفخر والبذخ والأبهة، وكان منغمسا في الترف مكثرا من السراري والحظايا.
ولكنه مع ذلك كان كثير الميل إلى تنشيط المعارف ورفع منار العلم والأخذ بناصر المظلومين، ومما يؤيد ذلك أن مصر بليت عام 1874م بطغيان النيل فأصابها جهد عظيم، فوجه التفاته إلى حال المزارعين والتجار فأراد جماعة من تجار الإسكندرية أن يقيموا له تمثالا تذكارا لفضله، فأبى وأمر أن يقام بدل ذلك التمثال مدرسة للتعليم. (4) تركته ووصيته
يعسر تقدير تركة صاحب الترجمة تقديرا مدققا؛ لكثرة فروعها واختلاف جزئياتها وتفرقها في البلاد، ولكن المعروف من تركته أنه استبدل معاشه قبل مماته باثنين وعشرين ألف فدان من الأطيان، باع ألفين منها للأوقاف العمومية و1500 للجناب العالي، فبقي له 18500 فدان منها 12 ألف فدان في تفتيش إيتاي البارود وقفها على زوجاته الثلاث في حياتهن ثم يرثها ورثته بعدهن، والباقي وقدره 6500 فدان يقسم على الورثة. وترك غير ذلك مما ورثه عن والدته وهو 5000 فدان وهبها لها المرحوم عباس باشا الأول وهي مرهونة و900 فدان وقصر في حلوان، وسراي القصر العالي، و34 فدانا تابعة لها، وما ورثه عن ابنه المرحوم البرنس علي باشا جمالي الذي توفي منذ بضع عشرة سنة وهو600 فدان، وترك في العباسية قصر الزعفران وفي الآستانة قصر ميركون، وهو يحتوي على قصرين كبيرين وقصرين صغيرين، وترك فيها أيضا قناق بايزيد، وتقدر قيمة أرضه بثلاثين ألف جنيه، وأصله للمرحوم البرنس حليم باشا ورثه عن أخته زينب هانم فأخذه السلطان منه ووهبه للفقيد، فهذه التركة كلها ما عدا سراي الزعفران تقسم على الورثة بعد إيفاء ديونه التي تقدر بنحو 180 ألف جنيه.
أما وصيته فإنه كان قد أضاف 4700 أو4800 فدان من أطيانه في أيام ولايته إلى الأطيان الموقوفة على أهل قوالة وقدرها 10 آلاف فدان في كفر الشيخ، وجعل لنفسه الشروط العشرة في هذا الوقف بما فيها من حق التغيير والإبدال، ثم آلت نظارة هذا الوقف إليه ففصل 4700 فدان التي أضافها إليه عملا بحقه ووقفها على حاشيته كلها، ولم يستثن أحدا منهم فرنساويا كان مثل: سكرتيره أو إنكليزيا مثل: طبيبه، أو غيرهما من الأتباع والجواري اللواتي يبلغ عددهن 450 جارية عدا 400 بيضاء كان قد زوجهن بأعيان مصر قبل مفارقته هذه البلاد.
وقد أقام صديقه الحميم دولتلو راتب باشا وكيلا لحرمه، وأوصى أن يعطى 150 جنيها شهريا وأن تعطى حرمه 50 جنيها شهريا، وأن يضاف راتبها إلى راتبه إذا توفيت في حياته، ويؤخذ راتبهما كليهما من تفتيش إيتاي البارود.
وتئول نظارة وقف قوالة بعده إلى حضرة دولتلو عصمتلو البرنسس زبيدة هانم بنت محمد علي باشا الصغير ابن محمد علي باشا الكبير وتئول نظارة وقف القصر العالي إلى البرنس عثمان باشا فاضل، ولهذا الوقف بيوت ونحو 1200 فدان من الأطيان، ويبلغ دخله نحو 5 آلاف جنيه سنويا، وقد ترك سراي الزعفران لحرمه الثلاث، وكذلك كل منقولاته وقيمتها غير معلومة.
الفصل السادس
محمد توفيق باشا الخديوي السابق
ولد سنة 1852 وتوفي سنة 1892
هو أكبر أنجال المرحوم إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، ولد سنة 1852 وأدخله والده مدرسة المنيل وسنه تسع سنوات، فدرس فيها اللغة، والجغرافية، والتاريخ، والطبيعيات، والرياضيات، واللغات العربية، والتركية، والفرنساوية، والإنكليزية، وكان ميالا للعلم من صغر سنه فأحرز منها جانبا أهله لرياسة المجلس الخصوصي في حياة والده وسنه 19 سنة. ثم تقلد نظارة الداخلية ونظارة الأشغال ورئاسة مجلس النظار.
ولما بلغ الحادية والعشرين من عمره تزوج بكريمة المرحوم إلهامي باسي، وهي مشهورة بالجمال والتعقل والكمال، وفي السنة التالية (1874) ولد له بكره (الخديوي الحالي) فسماه عباس حلمي، ثم ولد البرنس محمد علي سنة 1877 والبرنسس خديجة هانم سنة 1877 والبرنسس نعمت هانم سنة 1881.
وما زال يتقلد المناصب في عهد المرحوم أبيه حتى قضت الأحوال بإقالته كما تقدم في ترجمته فاستلم رحمه الله أزمة الأحكام في 26 يونيو سنة 1879 وجاءه الفرمان الشاهاني المؤذن بذلك، وكان مشهورا بحبه للوطن المصري، وقد شعر باحتياجه إلى الحرية والرفق بالرعية فخفف الضرائب، ونظر في تأمين أصحاب الديون، وفي أيامه تشكلت لجنة التصفية وأنشأت قانونها فصادق هو عليه، ثم طاف القطر المصري لتفقد الرعية واستطلاع أحوالهم فدرس في أثناء تلك الرحلة ما يحتاج إليه القطر من الإصلاح، وحالما عاد عمد إلى إصلاح حال الفلاح من حيث ما عليه من الضرائب، فأمر بتقسيط الأموال والعشور على أشهر معلومة، وأن تقتضى من الكبير والصغير على السواء مع اتخاذ الرفق في تحصيلها، ومن تأخر عن السداد تباع أرضه، فانتظمت الأحوال أحسن انتظام.
شكل 6-1: محمد توفيق باشا الخديوي السابق.
ثم وجه عنايته إلى إصلاح شئون المعارف، فأمر بإنشاء المدارس العالية والابتدائية، ووسع دوائر المدارس التي أنشأها آباؤه ونظم شئونها، وجعل للبلاد نظامات شورية، وشكل مجالس المديريات ومجلس شورى القوانين والجمعية العمومية.
شكل 6-2: محمد توفيق باشا أمام مدافن قبلي واقعة طوسكي بين كروسكو وحلفا.
وفي أيامه أنشئت المحاكم الأهلية، وتحسنت حال الري بإنشاء الترع وبناء القناطر الخيرية، ورفع العونة والسخرة، وأنشأ لائحة المستخدمين الملكية والعسكرية ومعاشاتهم.
وكان مع سهره على مصالح رعاياه تقيا ورعا، بنى المساجد ونظر في الأوقاف الخيرية وأصلح فيها، وكان شفوقا على رعاياه كثير الرفق بهم، فأكثر من تنشيط أهل العمل بالرتب والنياشين وكانت الرتب على عهد أبيه تستلزم زيادة الرواتب، فلما كثرت في أيامه جعلها لا تستلزم الرواتب بل هي علامة شرف من أمير البلاد.
وكأنه بالغ في إكرام الناس وزاد في إطلاق الحرية قبل استعداد البلاد لها فانقلب النفع المنتظر منها إلى ضرر، فحدثت الثورة الوطنية المعروفة بالثورة العرابية، وسيأتي تفصيلها في ترجمة أحمد عرابي (باشا)، والحوادث السودانية، وسيأتي تفصيلها في ترجمة محمد أحمد المهدي.
وأصيب رحمه الله بالنزلة الوافدة إصابة شديدة لم تمهله إلا أياما قليلة، فتوفي في 8 يناير سنة 1892 فبكاه الناس على اختلاف الطبقات والعناصر والمذاهب؛ لما كان عليه من صدق النية وإخلاص الطوية والرفق والعدل، ودفن في مصر.
الفصل السابع
عباس حلمي باشا الخديوي الحالي
ولد سنة 1874 وتولى عرش الخديوية سنة 1892
شكل 7-1: عباس حلمي باشا، الخديوي الحالي.
هو بكر الخديوي السابق، ولما توفي والده كان سموه أعزه الله في مدرسة فينا، وكان قبل ذهابه إليها قد تثقف في مدرسة عابدين التي شادها والده له ولدولة شقيقه البرنس محمد علي، فلما أتما دروسهما فيها أرسلهما والدهما إلى مدرسة جنيف بسويسرة، فمكثا فيها مدة يجدان في تحصيل العلوم ثم برحاها إلى فينا وانتظما في مدرستها الملوكية العليا، وفي أثناء إقامتهما في تلك المدرسة استأذنا والدهما المرحوم بالتجول في أنحاء أوروبا لاستطلاع أحوال تلك المدنية من مصادرها، فزارا ألمانيا وإنكلترا وروسيا وإيطاليا وفرنسا، ولقيا من ملوك هذه الممالك ترحابا حسنا، وزارا الممالك الأخرى.
شكل 7-2: الخديوي يقرأ خطابه أمام سراي الخرطوم.
وفي سنة 1889 عادا إلى مصر واستأذناه في زيارة معرض باريس لذلك العام، فأجابهما إلى ذلك، فلقيا هناك ترحابا جميلا وعادا إلى المدرسة، وفي سنة 1891 عادا إلى مصر في أثناء الراحة المدرسية، ثم رجعا إلى المدينة في فينا، وفي 8 يناير من السنة التالية عام 1892 جاءهما النبأ البرقي بوفاة الخديوي السابق فأصبح سمو أكبرهما مولانا الأمير خديويا على مصر من ذلك اليوم، ثم جاءته رسالة الصدر الأعظم بتثبيته على ذلك العرش، فأسرع إلى مقر حكومته فوصل الإسكندرية في 16 يناير المذكور فاحتفل القطر بقدومه احتفالا يليق بمقامه.
واشتهر سمو الخديوي بانعطاف المصريين إليه أكثر مما إلى كل خديوي سواه؛ لما يلاقونه من دعته ولطفه وصدق محبته لهم، ويمتاز عصره عن عصور سائر أسلافه بنهضة الأقلام، واتساع نطاق الصحافة، وإطلاق حرية المطبوعات، وتكاثر المطابع والجرائد والمجلات والمكاتب، وسائر عوامل النهضة العلمية.
وفي أيامه فتح السودان وانقضت دولة الدراويش بتعاضد الجيشين المصري والإنكليزي، ورحل الجناب العالي إلى السودان في شتاء سنة 1901 لتفقد أحواله فاحتفلوا بوطء أقدامه هناك احتفالا عظيما، وتلا في الخرطوم خطابا دل على حسن ظنه بحكومة السودان المشتركة.
القسم الثاني
الملوك والأمراء
الفصل الثامن
السلطان محمود الثاني
شكل 8-1: السلطان محمود الثاني (ولد سنة 1785 وتولى سنة 1808 وتوفي سنة 1839).
هو السلطان الثلاثون من سلاطين آل عثمان، شقيق السلطان مصطفى الرابع، وابن السلطان عبد الحميد الأول، تبوأ السلطنة العثمانية وهي في اختلال عظيم وارتباك لم يسبق له مثيل. وكان السلطان سليمان القانوني آخر من قاد جيوشه بنفسه من سلاطين آل عثمان، وتقاعدوا بعده عن المسير إلى ساحة الحرب تاركين قيادة الجند إلى وزرائهم ورجال دولتهم، الأمر الذي آل إلى تقهقر الدولة واختلال أحوالها وانتفاض ولاتها، وأصبح الإنكشارية عثرة في سبيل فلاحها بعد أن كانوا حصنا لها وقواما لسطوتها، وكان السلطان سليم الثالث ابن عم صاحب الترجمة قد شرع في إصلاح ما فسد من شئونها، فبث لابن عمه كل ما كان في نيته من ذلك.
فلما أتيح للسلطان محمود تولي السلطنة أخذ على عاتقه القيام بتلك المهام وإخراجها من حيز القوة إلى حيز الفعل، وكان أعظم وزراء الدولة إذ ذاك مصطفى البيرقدار، وهو الذي أجلس السلطان محمود على سرير السلطنة بعد سفك الدماء، فولاه السلطان الصدارة العظمى لما تبينه فيه من الشجاعة والإقدام وشدة البطش، فباشر البيرقدار أول كل شيء قطع شأفة الأحزاب المضادة، فقتل بعضا ونفى آخرين، حتى خلا له الجو فأخذ في إصلاح شئون المملكة باذلا في ذلك جهد الطاقة عملا بإرادة مولاه، فرأى أن يبدأ بإصلاح القوة العسكرية وتنظيمها على النمط الحديث الذي وضعه نابليون بونابرت، وهو المعول عليه في تنظيم جنود أوروبا.
وعلم أن مباشرته ذلك تقضي بتغيير الإنكشارية وتمردهم لما يرون في الأمر من انحطاط سطوتهم وتقلص ظل مجدهم، فاحتال على العلماء والوزراء وكبار أهل الدولة واستجلب مصادقتهم في تنظيم جند جديد وإصلاح جند الإنكشارية بتدريبه على النظام الجديد، فتعهد له أولئك ببذل أرواحهم وأموالهم توصلا إلى تلك البغية، فعلقت الآمال بإصلاح الحال على يد ذلك الوزير.
وكأن الله سبحانه وتعالى لم يشأ أن يتم ذلك على يده، فجاء البيرقدار أمورا غيرت عليه القلوب، أخصها أنه طمع في أموال الناس فأكثر من الضرائب واستخدم في استخراجها طرقا غير قانونية، فخاف الناس الانتظام في الجندية، وأوجس العلماء والمشائخ خيفة على مال الأوقاف لئلا يصبح طعمة له. أما السلطان فإنه لم يكن أقل حذرا منهم، وقد رأى كل شيء سائرا على ما يريده هذا الوزير والأحكام في يده يريدها كيف شاء.
وما زالت الأحزاب تتعاظم وتتكاثر حتى صاروا يجاهرون بذلك في مجتمعاتهم العمومية، واتفق ذات يوم أن البيرقدار كان سائرا بموكبه الحافل والشوارع غاصة بالجماهير، فأمر رجاله أن يبعدوا الناس عن الطريق بالعنف وأن يضربوا من لا يطيع الأمر حالا فنفر الناس إلى القهوات والجوامع، وقد عدوا ذلك استبدادا وعتوا وأخذوا ينقمون عليه، فاجتمع جماعة منهم إلى آغا الإنكشارية وتوسلوا إليه أن ينقذهم من استبداد ذلك الرجل، وكان الإنكشارية أشد منهم رغبة في قتله فتواطئوا على مهاجمة منزله بغتة، فهجموا عليه وأحرقوه بما فيه من الرجال والنساء، وكان البيرقدار في جملتهم فذهب فريسة النار فتخلصت الآستانة منه، ولكنه لا يزال معدودا من جملة أهل الإصلاح لما آتاه من الأعمال العظيمة، وما خصه الله به من المواهب التي رفعته من حضيض الفاقة إلى منصة الصدارة العظمى، ويروى عنه أعمال تدل على قسطه وعدله مما يطلق الألسنة بالثناء عليه.
وكان في جملة من قتل أثناء تلك الثورة السلطانية مصطفى الرابع وكان معتزلا عن السلطنة فلم يبق من عصبية آل عثمان إلا السلطان محمود، ولم يعد للإنكشارية باب للعزل والتولية فأمن دسائسهم، ولاح له لحسن سياسته أن يصلح ما بينهم وبين العساكر الذين سيباشر تدريبهم على النظام الحديث، فأصلح ذات بينهم وأبعد من بقي من أصدقاء البيرقدار فسكنت الخواطر، فتربص ينتظر فرصة لتنفيذ ما يريده من الإصلاح، فشغلته الأعمال الحربية التي قامت بين الدولة العلية والروسيين، وقد أخذوا يزحفون بعدتهم ورجالهم نحو الدانوب فاحتلوا بعض المدن هناك فجرد السلطان جندا لدفعهم، واتفق أثناء ذلك تجريد نابليون بونابرت على روسيا سنة 1812 فاضطر الروسيون لعقد معاهدة الصلح في 16 مايو (أيار) من تلك السنة مع الباب العالي وسحب جيوشهم عن الحدود لقتال نابليون.
وبقي ذلك الصلح مرعيا ثماني سنوات، اهتم السلطان أثناءها في إخماد ما ثار إذ ذاك في ولايتي بغداد وآيدين، وقمع عصيان الوهابيين الذين ظهروا في شبه جزيرة العرب بدعوى دينية حتى تعاظم أمرهم، فبعث السلطان إلى محمد علي باشا والي مصر إذ ذاك فجند عليهم وقطع دابرهم.
وفي عام 1821 ثار اليونان في المورا، وشقوا عصا الطاعة حتى صاروا يهاجمون سواحل سوريا والأناضول وغيرهما، ويصادرون العمارات العثمانية فبعث السلطان جندا عظيما لردهم، فقامت الحرب على ساق وقدم، وبعث الباب العالي إلى محمد علي باشا إذ ذاك أيضا فأرسل حملة تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا انضمت إلى جيوش الدولة وضيقوا على أهل المورا، فاستنجدت اليونان الدول الأوربية، فتوسطت دولتا إنكلترا وفرنسا، فلم يرض السلطان بتوسطهما، فبعثا عمارتيهما وانضمت إليهما العمارة الروسية، وهددوا إبراهيم باشا وعمارته في مينا نافارين من أعمال المورا وطلبوا إليه أن يكف عن القتال، فأبى إلا أن يكون ذلك بأمر من السلطان، فدخلوا المينا وأطلقوا النار على العمارتين المصرية والعثمانية في 6 يوليو (تموز) عام 1827 وظهروا عليهما بعد دفاع شديد، فاضطر السلطان محمود لقبول اقتراح الدول المتحدة وأمضى معاهدة تقضي باستقلال اليونان.
وكان السلطان في أثناء ذلك مشتغلا بتنظيم الجند الجديد، لعلمه أن جند الإنكشارية لا يقوى على مدافعة جنود أوروبا المنظمة، ولكنه علم بما يحول بينه وبين ما يريد فجمع إليه رجال دولته بحضرة المفتي أفندي، وخطب الصدر الأعظم إذ ذاك محمد سليم باشا خطابا عدد فيه ما وصلت إليه قحة الإنكشارية مع ما هم فيه من القصور في النظامات الحربية الجديدة، وطلب إليهم أن يبدوا رأيهم فيما يجب اتخاذه من الوسائل؛ لملاقاة ما يهدد المملكة العثمانية بسبب ذلك، فأقر الجميع وفي جملتهم آغا الإنكشارية على اتخاذ الوسائل الفعالة فتلا المكتوبجي أمرا قاضيا بتنظيم جيش جديد باسم «إيكنجي» وتهذيبه، فوقع الجميع على وجوب تنفيذ ذلك الأمر، وتلي ذلك بعدئذ على ضباط الإنكشارية فقبلوا به فأخذوا في تنظيم الجيش، وفي 6 ذي الحجة عام 1241ه /12 يونيو 1826 استعرضوه وشرعوا في تهذيبه للمرة الأولى في ساحة الميدان.
أما الإنكشارية فحالما شاهدوا ذلك النظام نسوا عهودهم لما رأوا في الأمر مما يحط من سطوتهم ونفوذهم، وأخذوا يتحدثون سرا وينقمون على تلك البدعة، فحاول الصدر الأعظم قمعهم سرا وجهرا فلم يزدادوا إلا عنادا، حتى هجموا أخيرا على منزله للإيقاع به فلم يظفروا بشخصه؛ لأنه لم يكن هناك، فتفرقوا في المدينة يصادرون المارة والباعة، فبعث الصدر إلى السلطان بالأمر وأمر ضباطه وجنده الخصوصيين فحضروا في السراي. أما الإنكشارية فأصروا على أعمالهم وجاهروا بطلب رءوس الذين أشاروا بتنظيم ذلك الجيش، فوقف الصدر الأعظم وحوله من رجاله والعلماء والمشائخ عدد غفير في انتظار مجيء السلطان، وكان في بشكطاش فأسرع إلى السراي وخطب في الجماهير فأنهض هممهم، فأقسموا على الثبات حتى يفوزوا أو يقتلوا فداء عن سلطانهم، وطلبوا إليه أن يجرد العلم النبوي الشريف فجرده، ومشى فتبعه الناس وتقاطروا من أنحاء المدينة للدفاع عن السلطان والسنجق الشريف ففرق فيهم الأسلحة ثم سلم العلم إلى المفتي، وجلس في قصر (كشك) فوق باب السراي حيث يشرف على الساحة ويشاهد الجماهير.
ثم اجتمع الصدر الأعظم والمفتي والعلماء في جامع السلطان أحمد وتلوا الفاتحة وسورا أخرى بالخشوع التام، ثم نهضوا في هيئة الحرب وفيهم العساكر وأهل المدينة، فأدركوا الإنكشارية وقد تجمهروا في ساحة الميدان، فحاولوا ردهم بالتي هي أحسن فأبوا فأطلقوا عليهم الرصاص، والتحم الفريقان، وكانت المذبحة هائلة عادت فيها العائدة على جند الإنكشارية ومن لم يقتل منهم قيد أسيرا، فنجت البلاد منهم وهدأت الأحوال كما نجت مصر من أمراء المماليك بعد أن ذبحهم محمد علي قبل ذلك ببضع عشرة سنة.
وأخذ السلطان محمود بعد ذلك بتنظيم الجند على النمط الفرنساوي المتقدم ذكره، فاغتنمت الدولة الروسية انهماكه بذلك، وأشهرت الحرب وزحفت بجنودها الجرارة لجهة الدانوب في أوروبا وجهة القرص وأرضروم وغيرهما في آسيا، وبعثت عمارتها البحرية إلى البحر الأسود، فعظم ذلك على السلطان لما يعلمه من قصور جنده الجديد، ولكنه جند على الروسيين، وجاهد العثمانيون جهاد الأبطال دفعا لعدوهم عن حدود البلاد ما ليس فوقه غاية، وقد شهد لهم بذلك أعداؤهم، على أن جهادهم وبسالتهم وثباتهم لم تغن عنهم شيئا؛ لأنهم كانوا يحاربون ثلاث دول عظام وليس الروس وحدهم، كما علمت من نجدة إنكلترا وفرنسا للمورة، وانقضت الحرب الروسية هذه باحتلال بعض المدن في رومانيا وفي آسيا.
ولما علم السلطان بذلك اضطرب قلبه ولم يكن يعرف الاضطراب قبل ذلك، ولكنه أظهر ثباتا وحزما جديرين بالسلاطين الفخام والمصلحين العظام، وانتهت تلك الشرور بعقد معاهدة «أدرنة» في 6 سبتمبر (أيلول) عام 1829 القاضية باستقلال اليونان استقلالا تاما، والتنازل عن إقليم السرب لعائلة دوبرينوفيتش وعن إقليمي الفلاخ والبغدان، وقد انضم هذان سنة 1861 إلى إمارة واحدة عرفت بإمارة رومانيا تدفع جزية سنوية للدولة العلية كالديار المصرية، والتنازل عن بعض الجزائر الواقعة عند مصب الدانوب، وعن بلاد أخرى في آسيا مع غرامة حربية مقدارها مائة مليون وعشرة ملايين من الفرنكات.
وقد يستغرب القارئ رضوخ السلطان محمود لتلك المعاهدة، وهو من سلاطين آل عثمان الذين دوخوا العالم وأرجفوا ملوك الأرض، ودانت لهم أعظم ممالك الدنيا، ولكن ليس ذلك محل الاستغراب وإنما الغرابة في ثبات هذه الدولة أيدها الله ودفاعها الدولتين والثلاث أو أكثر معا بعزم ثابت، وكانت كل دول أوروبا ضدها تنتظر فرصة لابتلاعها فلو لم تكن أقوى الدول وأشدهن بطشا ما استطاعت دفع تلك الصدمات، ناهيك بما كان مستحكما في داخليتها من الخلل وما أفسده الإنكشارية ومن جرى مجراهم.
فلم تكد تتخلص من تلك المشاكل حتى كانت حملة الجنود المصرية تحت قيادة إبراهيم باشا على سوريا، فافتتحوا عكا وأوغلوا في داخل القطر وما وراءه حتى كادوا يهددون الآستانة فتوسطت الدول وأوقفتهم في سوريا حيث أقام إبراهيم باشا حاكما ضمن حدود وعهود تسع سنوات، توفي السلطان محمود في السنة التاسعة منها بعد أن حكم إحدى وثلاثين سنة كلها حروب وأهوال، ولولا حزمه وثباته وقسطه ما قوي على مقاومة تلك الصدمات التي لو كانت على أعظم دول الأرض لذهبت بها إلى الدمار.
وكان رحمه الله ثابت الجنان، مقداما، حازما، تتجلى في وجهه ملامح الوقار والرزانة، وقد قال الذين قابلوه من سفراء الدول الأجنبية إنهم لم يجدوا في سائر ملوك أوروبا وإمبراطوريها المعاصرين ما في السلطان محمود من قوة التسلط على الأفكار والتأثير على العقول، وكان يحسن الخط ونظم الشعر متبصرا، لا يعمل عملا ما لم يتدبره وينظر في عواقبه. ومن أعماله إبادة وجاق الإنكشارية وتأسيس النظام الجندي الجديد، وهو أول من لبس الطربوش واللباس الإفرنجي على الزي المعتاد (في أواخر حكمه)، وأول من ركب عربة (فايتون) من سلاطين آل عثمان، وقد كان السلاطين قبله يلبسون العمامة والجبة ويركبون الخيل، وفي عصره ظهرت أول جريدة في المملكة العثمانية، ويقال إنه أذن بنقل رسمه بالزيت وعرضه في الترسانة العامرة، وقد طبع ذلك الرسم بمطبعة الحجر وبيع في الآستانة.
الفصل التاسع
الأمير بشير الشهابي الثاني
شكل 9-1: الأمير بشير الشهابي الثاني، المعروف بالكبير أو المالطي (ولد سنة 1767 وتولى سنة 1788 ولي سنة 1840 وتوفي سنة 1850).
هو أعظم أمراء بني شهاب حكام جبل لبنان في الأجيال الأخيرة، وهم عرب يتصل نسبهم إلى قريش، قدموا بلاد الشام في صدر الإسلام، وما زالوا يتناوبون الأحكام في لبنان ووادي التيم مع الأسر الأخرى من الأمراء وغيرهم تحت رعاية الباب العالي إلى أواسط القرن التاسع عشر. (1) ترجمته وأعماله
أما الأمير بشير فهو أعظم الأمراء الشهابيين سطوة وهيبة، وبسالة وبطشا، وأطولهم حكما، تنصر والده في آخر أيامه ثم توفي عن ولدين: حسن وبشير، فتزوجت والدتهما وتركتهما وهما في ضنك من العيش، وكان حسن أكبرهما سنا فانتظم في خدمة الأمير يوسف الشهابي أمير جبل لبنان إذ ذاك، وأقام في قصبة الإمارة بلدة دير القمر، فأصبح الأمير بشير وحيدا منفردا، وكان لوالده خادمة أمينة فلازمت الغلام شفقة عليه، وأقاما في برج البراجنة قرب مدينة بيروت. أما والدته فسكنت مع زوجها الجديد في قرية الحدت قرب البرج، وكانت تعول ولدها بشيرا وتسعفه بما يقوم بأود حياته من الطعام واللباس.
ولما ناهز السادسة عشرة أنفت نفسه من تلك المعيشة فغادر البرج قاصدا دير القمر، ونزل في بيت الدين بالقرب من الدير في منزل رجل يقال له: الشيخ أبو علي البتديني، وكان شيخ مجلس (خلوة) محترما محبا للبر، وكان يؤانس في وجه الأمير بشير مهابة الأسود وشهامة الرجال ففتح له صدر بيته، وأنزله على الرحب والسعة، فأقام عنده بضع سنين يقضي نهاره في الصيد وليله في التحرق لما هو فيه من ضيق المعيشة مع شرف الحسب والنسب، ولكنه كظم على مضض الحياة ينتظر فرصة ينهض بها من حضيض الذل إلى ما تطلبه نفسه من المعالي.
فاتفق أن دروز لبنان وهم الفئة الكبرى من سكانه أنفوا من حكومة الأمير يوسف، وأجمعوا على إنزاله وإقامة أمير سواه، وكان كبير الدروز إذ ذاك الشيخ بشير جنبلاط، وكان نافذ الكلمة شديد البطش، فتشاور العقلاء والأعيان فأخبره بعضهم عن الأمير بشير وقال: «إن هذا إذا تولى الإمارة كان آلة بيدنا لصغر سنه، وقلة أحزابه.» فقال الشيخ بشير: إلي به، وليكن مجيئه إلى منزلي سرا لأراه ولا يعلم به أحد، فبعثوا إليه فجاء في منتصف الليل، ودخل على الشيخ وحياه، فسأله إذا كان يريد أن يتولى لبنان، فقال: «ومن أين لي ذلك ولا مال عندي ولا رجال؟» فقال: أما المال والرجال فنحن نقوم بتقديمهما لك، فكن ثابت الجأش وتربص ريثما نخلع الأمير يوسف، وأمر وكيله فجاء بصرة من الدراهم دفعها إليه قائلا: خذ هذه الآن، ومتى أنفقتها أبعث إليك بمثلها، واحفظ هذا سرا حتى يئون الوقت، فشكره الأمير بشير، وخرج ولم يعلم به أحد.
ولكن صدق من قال: «كل سر جاوز الاثنين شاع.» فالأمير يوسف علم بما تواطأ عليه الدروز والأمير بشير، فعزم على إعدامه قبل تمكنه من الحكم، فبعث إليه أخاه حسنا وأمره أن يقتله ويأتي برأسه، فسار حسن بالرغم منه حتى أتى بيت الدين، فبلغ الأمير بشيرا ذلك فجاء ببندقيته وذخيرته وجلس في صدر الحجرة، فلما أطل عليه أخوه من بعيد ناداه قائلا: «لا تقرب من هذا البيت وإلا فإني قاتلك لا محالة.» وهول عليه بالبندقية، فقال له: «إنما جئت لأخاطبك في أمر.» قال «لا تخاطبني في شيء، أما كفاكم أني مقيم هنا ولا ينظر إلي أحد كأنما أنا من السوقة؟! أليس ذلك عارا على الأمير يوسف؟!» فخجل حسن وعاد وأخبر بما كان وحسن للأمير الرفق بأخيه، فبعث إليه جوادا يريد تقريبه منه وهو غير واثق بما سمعه عنه.
أما الدروز فكتبوا إلى الجزار والي ولاية صيدا (وكان لبنان تحت ولايته) يشكون من الأمير يوسف واستبداده، فبعث إليه الجزار أن ينزل أو أن يبعث إليه أحدا من ذوي قرابته رهنا ضامنا لتسديد ما تأخر عليه من مال الحكومة، فأرسل الأمير بشير تخلصا منه، ويقال إنه لما أمره بالذهاب إلى عكا ليكون رهنا عند الجزار قال له: «سر يا ولدي إلى الجزار في شغل.» فأجابه: «أخاف أن أذهب ولدك وأرجع ولد الجزار.» فلم يفقه الأمير لما قاله.
فوصل عكا ومعه كتب التوصية من الشيخ بشير للجزار وغيره من رجال حكومته وفي جملتهم رجل يهودي اسمه حاييم كان مديرا لدائرة الجزار وبيده الحل والعقد، وعائلة سكروج، وكانوا كتابا في ديوانه فساعدوا الأمير بشيرا مساعدة قوية، فولاه الجزار الإمارة على لبنان، وألبسه الفروة وأعطاه العدة والرجال وأمره بالذهاب إلى دير القمر لاستلام مقاليد مصلحته، فسار في مائتي جندي، وعلم الأمير يوسف بقدومه ففر من الدير ودخلها الأمير بشير وتولاها، وكان الشيخ بشير جنبلاط وأنصاره أنصارا للأمير في كل ما يريد فتعززت سطوته وذاع صيته.
ولكن لم يستتب له الأمر إلا بعد مقتل الأمير يوسف؛ لأن اعوجاج حكم الجزار كان يقضي لمن يدفع إليه الرشوة الكبرى، فكان يتعهد له الأمير يوسف تارة بدفع قدر أعظم مما يدفعه الأمير بشير فيوليه، ثم يزيد هذا على ذاك القدر فيعيده ويعزل ذاك، وكان اللبنانيون يشتكون أحيانا من قساوة الأمير فيتآمرون عليه ويتظلمون منه، وبقي الحال كذلك حتى قتل الأمير يوسف في عكا بأمر الجزار سنة 1790م، وكيفية ذلك أن الجزار كان سائرا إلى الحج فوصل إليه وهو في المزاريب كتاب من الأمير بشير يشكو فيه من دسائس الأمير يوسف، وكان هذا قد التجأ إلى حمى الجزار في عكا، فكتب الجزار إلى نائبه هناك أن يقتله، ثم ندم على مسارعته فبعث إليه أن لا يقتله، ولكن سبق السيف العزل، فقتل الأمير يوسف شنقا قبل وصول الكتاب الثاني، ويقال إنه وصل، وأخفاه ابن السكروج كاتب الجزار خدمة لمصلحة الأمير بشير، ولما عاد الجزار وتحقق ذلك منه قتله.
فاستتب الأمر للأمير بشير، غير أن الفتن بين ولايتي صيدا ودمشق لم تكن تنقطع، واللبنانيون تارة يثورون على أميرهم وطورا يستبد فيهم محصلو الأموال، ونظرا لكثرة الفئات والطوائف في لبنان لم يكن يخلو ذلك الجبل من فتنة تهرق في سبيلها الدماء وتسلب الأموال، وكان الأمير بشير يتدبر كل ذلك حينا بالحكمة، وآونة بالقوة، وتارة بالحيلة والدهاء، حتى بهر الحكام وسحر الرعية، وزد على ذلك أنه لم يكن في مأمن من صداقة رئيسه الجزار والي صيدا؛ لأن الجزار لم يكن يرعى ذماما ولا يتفاضل الأمراء عنده إلا بنسبة ما يدفعونه إليه من الخراج والأموال، وكان إذا ولى أميرا لا يأمن انتقاضه فيسترهن عنده ابنه أو أخاه أو زوجته، فإذا عزله بعث إليه بالرهن ويسترهن أحدا من أبناء الأمير الجديد وهكذا.
وفي سنة 1799م قدم بونابرت بجيوشه لافتتاح سوريا بعد أن دوخ الديار المصرية فافتتح يافا ثم جاء عكا وحاصرها، وكان الأمير بشير عونا كبيرا للفرنساوية يمدهم بالمئونة والزاد، وقد سر نصارى لبنان بقدوم تلك الجيوش وخاف الدروز، ولما طال الحصار على الفرنساويين وامتنعت عكا عليهم بمساعدة العمارة الإنكليزية تحت قيادة السير سدني سميث مل الأمير بشير من معاضدتهم، ثم وردت عليه كتابات من السير سدني يبين له فيها: «أن الفرنساوية لما دخلوا مصر نشروا منشورات ادعوا أنهم مسلمون وقد كسروا الصلبان في رومية.» وبعث إليه بنسخة من ذلك المنشور فنفر الأمير من الفرنساوية وقطع المؤنة عنهم، وكان ذلك من جملة أسباب فشلهم وعودهم على الأعقاب، ولم يفتحوا عكا مع أنهم حاصروها زهاء شهرين.
وكان الجزار قد تغير على الأمير لمساعدته الفرنساوية ثم علم بكفه عن مساعدتهم، ولكنه لم يقره في مكانه فتوسط له السير سدني سميث، وكان بين هذا والأمير صداقة ومهاداة، وسافر الأمير في أثناء تغير الجزار عليه في مركب من عمارة السير سدني إلى الإسكندرية، وكان ذلك المركب بانتظاره في طرابلس، وبالغ السير سدني في إكرام الأمير وأحبه محبة شديدة لما رأى من هيبته وجسارته، وأمر بتصويره وخاطب بشأنه الصدر الأعظم، وكان قد قدم غزة لمحاربة الفرنساوية ليعيده إلى منصبه في إمارة لبنان فأعاده.
ولكنه اضطر بعد قليل لمغادرة لبنان لعدم رضوخ أصحاب المقاطعات له ، فسافر في عمارة السير سدني إلى قبرص وأقام فيها ستة أشهر ثم سافر معه إلى الإسكندرية، وما زالوا في البحر المتوسط بين ذهاب وإياب نحو شهرين، وبعد ذلك عاد إلى إمارته في لبنان وكانت بينه وبين الجزار ومن ولاهم مكانه حروب دامت أربع سنوات، ثم تصالح والجزار سنة 1803م.
وفي السنة الثانية توفي الجزار وخلفه إبراهيم باشا (غير ابن محمد علي باشا)، ولم تطل ولايته، فخافه سليمان باشا وكان من مماليك الجزار، وبينه وبين الأمير صداقة فأقره في إمارته وأيد نفوذه، وكان أولاد الأمير يوسف من أكبر مناظري الأمير في الإمارة وكثيرا ما كانوا يتمكنون من إغراء الجزار على عزله والتولي مكانه بمساعدة مديره جرجس باز وأخيه عبد الأحد، فلم يصف له الكأس حتى قتلهما بدسيسة سنة 1707م، وفي سنة 1709م بنى الأمير بشير جسر نهر الكلب، وبعد سنتين بنى جسر نهر الصفا، وكان للأمير ثلاثة أولاد: الأمراء (قاسم وخليل وأمين).
وفي سنة 1813م جاء إلى الأمير رجل حمصي اسمه بطرس بن إبراهيم كرامة، وكان شاعرا فصيحا ومنشئا بليغا حسن الخط، وكان قد قرأ صناعة الإنشاء والشعر على الشيخ أمين الجندي الشاعر المشهور فجعله الأمير نديما عنده ثم وكل إليه تعليم ابنه الأمير أمين، وصار بعد ذلك كاتب يده.
وكان بجوار دير القمر قرية يقال لها: بيت الدين - وقد تقدم ذكرها - فاتخذها الأمير مسكنا له وبنى فيها الدور لسكناه ولسكنى أولاده وفي جملتها السراي الباقية إلى هذا العهد المعروفة بسراي بيت الدين، وفيها مقر متصرفية لبنان إلى هذه الغاية. وأجرى إلى بيت الدين قناة من ماء تحت عين زحلتا على مسافة ثلاث ساعات يسمى نبع القاع بجانب نهر الصفا، وغرس فيها المغارس والبساتين حتى أصبحت من أجمل المساكن وأبهاها.
وكان الجنبلاطية عونا كبيرا له في كل حروبه وأعماله؛ لأنهم هم الذين سعوا في إمارته وقد شدوا أزره وقاموا بنصرته وأيدوا حكومته ماديا وأدبيا، ولكنهم كانوا يفعلون ذلك حبا بتعزيز سطوتهم وتأييد نفوذهم، فكانوا ينظرون من وراء مساعدتهم إلى ما يؤيد نفوذهم على الأسر الأخرى الدرزية التي كانت تناظرهم في السطوة ونفوذ الكلمة، وقد سعوا في استخدام الأمير بشير لأغراضهم حتى سئم هو من استبدادهم واعتراضهم له في أعماله، فرأى أن الجو لا يخلو له إلا إذا كسر شوكتهم وتفرد بالأحكام فعول على التخلص منهم.
ولكنه لم يكن يتظاهر بذلك، فاتفق أن أحد الأمراء المدعو الأمير حسن أراد التزوج بابنة ولم يرض أبوها به فغضب وقتله، فعل ذلك برضاء الشيخ بشير جنبلاط، فغضب الأمير بشير على الأمير حسن وأمر بالقبض عليه ففر إلى دمشق، وهناك أسلم ووشى بالأمير أنه مسيحي وهيج عليه الوالي، فحقد الأمير على الشيخ بشير لأنه نسب ذلك إليه، وفي أثناء ذلك بنى الشيخ بشير جامعا في المختارة بالقرب من بيت الدين وتظاهر بالإسلامية، فازداد حقد الأمير عليه وأضمر له الشر وعزم على تعضيد الأحزاب المضادة له من الدروز، ولكنه كتم ذلك في باطن سره وبقي مظهرا الصداقة له كالعادة.
وفي سنة 1819م توفي سليمان باشا والي عكا وخلفه عبد الله باشا الخزنة دار بن علي باشا أحد مماليك الجزار، فأقر الأمير في إمارته ولكنه أخلف بعد قليل وولى غيره مدة قصيرة، ثم عادت الإمارة إليه فعاد مكرما مع الهدايا والتقادم على أن يكون أميرا على لبنان مدة حياته، ولكن بعض اللبنانيين لم يذعنوا له بدسيسة ممن كان أميرا قبله، وأبوا دفع الأموال كما أراده هو فقامت بينه وبينهم حروب آلت إلى خصام طويل بين ولايتي صيدا ودمشق، وكان الأمير يحارب مع عبد الله باشا والي صيدا أو عكا ضد درويش باشا والي دمشق، وقد أخلص النية وبذل قصارى الجهد في تلك المساعدة حتى أوجس درويش باشا خوفا منه، وكان عالما أن الفضل في ذلك النصر للأمير بشير فكتب إليه يستجلب رضاه ووعده بالولاية على صيدا ولقبه بوالي الشام وصيدا، فأعرض الأمير عن إجابته وبعث الكتاب إلى عبد الله باشا، فسر هذا من صداقته وكتب إليه أن يثابر في محاربة الدمشقيين، ولقبه بوالي الشام وصيدا أيضا. أما الأمير فجاء عكا يريد إرجاع عبد الله باشا عن عزمه في ذلك فلم يجبه، فسار في الجند كما أمره وعاد إلى المحاربة، فاعتبرت الدولة العلية أعمال عبد الله باشا هذه تعديا على حقوقها فأنجدت درويشا وأنذرت الأمير بذلك فأذعن، ولكنها اشترطت عليه بواسطة الشيخ بشير شروطا صعبة في إمارته فلم يرض، فاتفق الأمير والشيخ على تولية الأمير عباس فقبل درويش بذلك، وعقد الأمير مع الأمير عهدا أن يحافظ هذا على بيت الأمير وكل ماله أثناء غيابه، وركب قاصدا عكا فعلم أن درويش باشا بعث للقبض عليه، فعرج إلى صيدا ونزل من ضواحي بيروت في المراكب ومعه من الحاشية نحو المائة وخمسين رجلا قاصدا مصر سنة 1821م وفيهم إذ ذاك المغفور له محمد علي باشا واليا فلاقى منه كل رعاية وإكرام.
وكان الغرض من قدومه إليه الالتماس منه أن يتوسط لدى الباب العالي في العفو عن عبد الله باشا؛ لأن الدولة كانت تحب محمد علي باشا وتراعي خاطره على أثر ما أوتيه من النصر في حرب الوهابيين في بلاد العرب بعد أن تعبت الدولة في قهرهم.
وكان محمد علي باشا إذ ذاك في شاغل من أمر الحرب في المورة، وكانت الدولة قد بعثت إليه أن يجند جندا لمحاربتها، فلما جاء الأمير مستنجدا طيب خاطره ووعده بالمساعدة وكتب إلى الباب العالي بذلك، وأسكن الأمير في بني سويف ريثما يرد الجواب، وشدد في طلب العفو تشديدا كبيرا ؛ لأنه كان راغبا في امتلاك قلب الأمير ولسانه ليكون له عونا فيما نواه من فتح الشام.
ولبث الأمير في مصر حتى وردت الأوامر بالعفو عن عبد الله باشا فحملها شاكرا بعد أن تداول مع محمد علي سرا بشئون كثيرة تعود إلى مقاصد الباشا في بر الشام، وسار الأمير من مصر إلى عكا بكل إكرام ومعه سلاحدار الباشا حاملا العفو، فوصلوا عكا وبلغوه ذلك فسر عبد الله باشا بفوزه، ولكن الجنود العثمانية في الشام طلبت النفقات المعينة في مثل هذا الصلح ولم يكن عند عبد الله باشا نقود، وكان الأمير قد جاء بنحو نصف القدر اللازم من محمد علي، فضرب عبد الله باشا الباقي ضرائب على المقاطعات وفي جملتها جانب على الأمير، وكان الأمير قد زاد حقدا على الشيخ بشير، ولا سيما لما بلغه تواطؤه مع الأمير عباس عليه فأحب التخلص منه قطعيا ففرض عليه مبلغا كبيرا من ذلك المال، فدفع جانبا واعتذر عن الباقي، فألح عليه ففر إلى دمشق، فطلبه من واليها فأمره بالذهاب، ثم التمس من عبد الله باشا التوسط له عند الأمير بالعفو فأظهر الأمير القبول، فحضر الشيخ بشير وكان لا يزال خائفا من الغدر به فجاء في جماعة من رجاله إلى بيت الدين، وسار توا إلى مقابلة الأمير في قصره، فجعل رجاله صفين مر بينهما ذليلا خائفا من الغدر به حتى دخل على الأمير وسلم عليه فأمره بالجلوس فجلس مكتئبا واجسا، وأمر له بالقهوة فلم يستطع تناولها لما كان فيه من الارتعاش، ولكنه أمسك الفنجان وأراد الارتشاف منه فنظر إليه الأمير بعين الغضب فازداد ارتعاش يده حتى انسكبت القهوة على ثيابه، وكان منظر الأمير مخيفا بغير غضب فكيف بالغضب! ولم يستطع الوقوف حتى حول الأمير نظره عنه إلى نافذة بقربه، فنهض الشيخ مستأذنا وخرج.
ثم بعث إليه الأمير أن يصرف من جاء بهم من الرجال لئلا يتكدر خاطره عليهم فانصرفوا عنه، فخاف الشيخ ففر إلى حوران، فضبط الأمير أرزاقه وممتلكاته فعاد الشيخ بشير ناقما، وجمع إليه أحزابه الدروز وبعض أحزاب الأمراء مناظري الأمير وقدموا لمحاربته، فانتشبت الحرب بينهما شديدة حتى اضطر إلى استنجاد ولاة طرابلس وعكا ومحمد علي باشا في مصر، فبعث إليه محمد علي باشا «أن ألفي مقاتل متأهبة تنتظر أمركم.»
ولكن لم تبق حاجة إليها؛ لأن والي الشام قبض على الشيخ بشير وباقي المشائخ وقتل أحدهم الشيخ علي العماد؛ لأنه من أكبر زعماء الثورة، وكان لوالي دمشق ثأر عليه، وبعث بالباقين إلى عكا، أما الأمراء المتحزبون معهم فقبض عليهم الأمير، وأمر بسمل عيونهم وقطع رءوس ألسنتهم.
أما الشيخ بشير فكتب الأمير إلى عبد الله باشا أن يقتله لأن أصل الشر منه، ثم علم الأمير أن الباشا أطلق سراحه وأذن له بالسكنى خارج السجن، فبعث إلى محمد علي باشا على يد ابنه الأمير أمين - لأنه كان إذ ذاك في مصر - يخبره بالأمر ويلتمس منه كتابا إلى عبد الله باشا بقتل الشيخ بشير، فبعث إليه برسول خاص بشأن ذلك فقتله شنقا مع شيخ آخر، وبقيت جثتاهما معلقتين أمام باب عكا ثلاثة أيام.
وبقتل الشيخ بشير خلا الجو للأمير بشير ففرق أولاده وذويه حكاما في المقاطعات، وهدأت الأحوال إلى سنة 1826 حينما قدمت مراكب اليونانيين إلى بيروت، وكان قدومها عدوانيا؛ لأن اليونان كانوا في حرب مع الدولة العلية في المورة فبعثوا بمراكبهم إلى سواحل سوريا لافتتاح الثغور.
فلما بلغ الأمير قدوم تلك المراكب جمع إليه رجاله ونزل إلى حرج بيروت لدفعها، وكانت قد أطلقت بعض القنابل على المدينة، فلما علم اليونان بتجمع الرجال لدفاعهم تحولوا عن المدينة، وفي سنة 1830م انتدبه عبد الله باشا لفتح قلعة سانور في نابلس فسار وفتحها فتحا أيد ما عرف به اللبنانيون من الشجاعة والإقدام، وفي السنة التالية قدم المغفور له إبراهيم باشا بن محمد علي باشا لحصار عكا.
والسبب الحقيقي لقدومه يكاد يكون مجهولا؛ لأن المؤرخين قلما أفصحوا عن حقيقته، ولكننا قد عرفناه ممن عاصر الأمير وكان من حاشيته وسمع حقيقة الخبر من فيه، قال: إن محمد علي باشا لما قدم إليه الأمير بشأن العفو عن عبد الله باشا تداولا في أمور كثيرة تعود إلى التعاضد والتعاون عند الحاجة، ولذلك رأينا عزيز مصر لم يتقاعد عن نجدة الأمير في حروبه مع الشيخ بشير كما قدمنا، وأما محمد علي فكان عازما على توسيع نطاق حكمه بافتتاح سوريا، وكان يظن صنعه الجميل مع عبد الله باشا والأمير يكفي لبلوغ أمانيه، ولكنه رأى من عبد الله باشا اعوجاجا عن غرضه، والغالب أن عبد الله كان طامعا بمثل مطامع محمد علي، فلما علم بما نواه هذا صار يحاذره.
وأدرك محمد علي ذلك فعزم على اختياره والتعويل على تنفيذ مقاصده بالقوة، فبعث إلى الأمير بشير أن يبعث إليه بجانب من الأخشاب التي يحتاج إليها في بناء المراكب فباشر الأمير إجابة طلبه فمنعه عبد الله باشا، فشق ذلك على محمد علي واعتبره بظاهر الأمر مخالفا لأوامر الدولة العلية؛ لأن تلك المراكب إنما هي للحكومة فجرد لمقاصته حملة تحت قيادة ولده إبراهيم باشا فسار لحصار عكا كما قدمنا.
فبعث عبد الله باشا إلى الأمير أن يعد رجاله ويأتي لدفع الجنود المصرية عن عكا، وكتب إبراهيم باشا بمثل ذلك لما بينه وبين والده من العهود، فوقع الأمير في حيرة بين أن يطيع رئيسه الشرعي أو يقوم بمواعيده لدى والي مصر، وكان حاقدا على عبد الله باشا؛ لأنه رأى منه استبدادا فيه بعد أن كان هو السبب في عوده إلى ولاية عكا، فترجح إليه أفضلية نصرة الجنود المصرية، فجمع رجاله وسار قاصدا عكا، وكان إبراهيم باشا قد استبطأ حضوره فكتب إلى والده بذلك، فغضب محمد علي وكتب إلى الأمير يهدده، فأدركه الكتاب وهو قادم إلى عكا، وفي جملة ما قال له فيه: «إذا تأخرتم عن الحضور إلى ولدنا إبراهيم أخربنا داركم وغرسنا موضعها زيتونا»، فظل سائرا إلى صحراء عكا فاستقبله إبراهيم باشا بترحاب؛ لأنه كان في حاجة كلية إلى مساعدته فيما جاء من أجله.
وكان الأمير عضدا قويا للجنود المصرية في حصار عكا وغيره من أعمالهم في سوريا. وكان إبراهيم باشا يحترمه كثيرا ويدعوه «والدنا»، وكان اعتماده في كثير من المواقع عليه وعلى أولاده، ولا سيما الأمير خليل فإنه حارب عنه حروبا كثيرة في طرابلس وغيرها. أما أهل لبنان فكان دروزهم ضد إبراهيم باشا ونصاراهم معه، غير أن الدروز اضطروا أخيرا إلى الإذعان بمساعي الأمير وتهديده، وقد جاهد هذا مع الجنود المصرية جهادا حسنا، وعرض بنفسه للخطر مرارا حتى كان يضطر أحيانا إلى التنكر بلباس الفعلة وغيرهم خوفا من مكامن الدروز.
وبعد أن فتح إبراهيم باشا عكا وقبض على عبد الله باشا وبعث به إلى الإسكندرية سار إلى دمشق وبعث إلى الأمير أن يوافيه إليها فجند إليها وفتحوها، وعاد الأمير إلى بيت الدين، وخرج إبراهيم باشا لفتح حمص ففتحها وسار منها إلى حلب يحارب الجنود العثمانية ففتحها ثم فتح أيقونية، وهناك قبض على الصدر الأعظم قائد الجنود العثمانية وزحف على مرسين فترسيس، وما زال في فتوحاته حتى توسطت الدول الإفرنجية وتم الصلح بين الدولة العلية وإبراهيم باشا على أن يقف عند حدوده في سوريا وأن يكون واليا عليها جابيا لأموالها (كما تقدم في ترجمة محمد علي باشا).
ولما كادت تهدأ الأحوال انتفض النابلسيون وهاجوا وماجوا، حتى اضطر محمد علي إلى المجيء بنفسه لنجدة ولده، فأتى وأخمد الثورة وعاد، وكان ذلك عام 1833.
ثم رأى إبراهيم باشا أن الأمر لا يستتب له إلا إذا جرد اللبنانيين والنابلسيين وغيرهم من السلاح، فعهد بذلك إلى الأمير فجمع السلاح ولم يكن جمعه كافيا لاستتباب الراحة لأن البلاد لم ترضخ لحكومته رضوخا تاما، والدولة لم تفتأ عن محاربته تارة بعد أخرى، فقضى إبراهيم باشا في سوريا نحوا من تسع سنوات لم يهدأ له فيها بال، وفي سنة 1837 قدم الدكتور كلوت بك كبير الأطباء المصريين إلى بيت الدين فطلب إليه الأمير أن يستأذن محمد علي باشا في إرسال بعض اللبنانيين يدرسون الطب في القصر العيني على نفقة الحكومة، فنال ما طلبه وبعث بعضا منهم إلى تلك المدرسة، وفي سنة 1838 أمر إبراهيم باشا أن يلبس أولاد الأمير بدل العمائم الطرابيش ، وكتب الأمير إلى أقاربه أن يفعلوا ذلك أيضا ففعلوا.
وفي سنة 1840 توسطت الدول الأوربية ثانية في فض الخلاف فعقدوا مؤتمرا أقروا فيه على وجوب إخلاء الجنود المصرية للديار السورية، ومما حملهم على إخلائها أيضا أن الحكومة المصرية جندت عسكرا أدخلت فيه شبانا من الذين كانوا قد أرسلوا لدراسة الطب في مصر، فلما بلغ نصارى لبنان وسوريا ذلك خافوا أن يجري هذا التجنيد عليهم إذا استقام الأمر للمصريين بينهم، فانقضوا عليهم، وكان الأمير بشير مع ذلك يحاول إقناعهم في الخضوع فلم ينجح، وحاول جمع سلاحهم ثانية فلم يفز.
ورأت الدول أن إبراهيم باشا لا بد من إخراجه من سوريا بالقوة، فجاء ريشارد وود الإنكليزي بمأمورية سرية، وكان يعرف العربية فأغرى السوريين على كتابة عرض يطلبون فيه من الدولة العلية وسفراء دول إنكلترا وفرنسا والنمسا أن يخرجوا الجنود المصريين من بينهم، فكتبوا وأرسلت الكتابة إلى الآستانة.
فجاء الأميرال نابيه في عمارة إنكليزية إلى ميناء بيروت، وبعث يتهدد متسلمها ويبشر اللبنانيين والسوريين بقدوم عمارات أخرى لإنقاذ سوريا من الدولة المصرية، ثم جاءت العمارة العثمانية وفيها بوارج إفرنجية كما تقدم، وأطلقت المدافع على بيروت فتحققت الجنود المصرية أن الانسحاب أولى بهم بعد أن دافعوا دفاع الأبطال وصبروا صبر الرجال.
أما الأمير فخاب أمله وكان يظن فرنسا تساعده عند الحاجة فلم يتحقق ظنه، فاضطر إلى التسليم فسلم فأمر بالذهاب بمن أراد من أهله وذويه للإقامة في مالطة، فأخذ أولاده وحفدته وكاتبه المعلم بطرس كرامة وسائر الحشية، وسار مودعا لبنان بدموع الأسف في مركب أعد له حتى أتى مالطة، فأقام فيها مكرما نحو سنة ثم استأذن للإقامة في الآستانة فأذن له، فأقام فيها مع أولاده نحو ثلاث سنوات، ثم أرسل إلى الأناضول إلى بلدة اسمها زعفر أنبول فأقام فيها سنة ونصف سنة، ثم أقام في بروسة سنتين منفيا أيضا، ثم عاد إلى الآستانة ومات هناك شيخا هرما، ودفن في كنيسة الأرمن الكاثوليك بغلطة.
أما أولاده: فالأمير أمين اعتنق الديانة الإسلامية بعد مجيئه الآستانة واستأمن فلم يسر مع والده إلى المنفى، وأما الأمير خليل فبقي مسيحيا حتى توفي في الآستانة.
أما بطرس كرامة فتعين مترجما في الباب العالي وبقي مع ذلك محافظا على صداقة الأمير وتوفي بعده ببضعة أشهر في الآستانة أيضا.
هكذا كانت نهاية هذه العائلة بعد الحروب الطويلة والمعاناة الشديدة. (2) صفاته ومناقبه
كان الأمير بشير ربع القامة، كثير الشعر، حاد العينين، عظيم الهيبة جدا، ويروى عن هيبته وشدة بأسه وصرامته روايات أشبه بالخرافات منها بالحقائق.
ومما يحكى عنه أنه كان لعظم هيبته لا يستطيع أحد أن يطيل النظر إليه بغير أن يخافه، وكان جهوري الصوت حتى قد يسقط الرجل خوفا ورعبا بمجرد سماع صوته إذا غضب. ولولا ذلك لم يستطع أن يحكم اللبنانيين المعروفين بالشجاعة وشدة البأس وقوة الأجسام والعقول، ومما يحكى عن صرامته أن أحد رجاله الذين كان يبثهم في أنحاء لبنان لصيانة الطرق من اللصوص جاءه يوما قائلا: «رأيت أيها الأمير بالأمس في وادي العليق فتاة منفردة في ظلام الليل غير خائفة فعجبت من جسارتها فسألتها عما جرأها على المسير وحدها في ذلك الوادي المخيف، فقالت: إني لا أسير وحدي؛ لأن أبا سعدى (تريد الأمير بشيرا) سائر معي، فعجبت لجسارتها وتركتها.» فحملق الأمير بالرجل حتى كاد يقع صريعا من الخوف، وقال له: «لقد صدقت الفتاة، ولكن ما الذي جرأك أنت على مخاطبتها وهي سائرة بنفسها في طريقها؟» وأمر فقبض عليه، ويقال إنه قتله.
ويروى عنه من أمثال هذه الحكاية شيء كثير تشيب لهوله الأطفال.
ومما يحكى عن هيبته أنه لما كان في الآستانة وكان قد زاده الشيب هيبة ووقارا دعاه الصدر الأعظم لزيارته في مجلس الوكلاء، فلما حضر وقف له وأكرمه، فلما خرج عنف الوكلاء الصدر على وقوفه له فوعدهم أنه إذا جاء ثانية لا يقف له، فلما زاره المرة الثانية لم يستطع إلا الوقوف بالرغم منه، فسأله الوكلاء بعد خروجه عما حمله على الوقوف وإخلاف وعده، قال: «إني وقفت له بالرغم مني؛ لأني حالما رأيته وما هو فيه من الهيبة لم أشعر إلا أني وقفت بغتة.»
وكان إذا جلس في مجلسه لا يجلس إلا جاثيا على طرف مقعد وغدارته محشوة إلى جانبه.
أما لباسه فكان بسيطا لا يزيد عن القفطان الحريري والجبة والعمامة، وفي آخر أيامه لبس الطربوش كما يشاهد في الصورة.
وكان عفيف النفس قليل النهم في الطعام، وكان يدخن في شبق كبير يسع ربع رطل مصري من التبغ، فإذا أخذ في التدخين يتصاعد الدخان من فيه كدخان الأتون متخللا شعر شاربيه ولحيته. وكان قوي البنية شديد البطش.
أما آدابه فكانت من العفة على جانب عظيم، وكان بعيدا عن مغازلة النساء، ورعا تقيا مثابرا على الفروض الدينية حتى أقام كنيسة للصلاة في نفس منزله في بيت الدين، وقضى حياته طاهرا عفيفا لم يدنس عرضه ولا شرفه بدنيئة حتى توفاه الله، وقد أوضحنا أخلاق هذا الرجل وسائر مناقبه في روايتنا «المملوك الشارد».
الفصل العاشر
محمد أحمد المتمهدي السوداني
شكل 10-1: محمد أحمد المتمهدي السوداني (ولد سنة 1848 وتوفي سنة 1886). (1) المهدوية في الإسلام
المشهور بين المسلمين من أوائل الإسلام إلى الآن أنه سيظهر رجل منهم يؤيد الدين وينشر لواء العدل ويستولي على الممالك الإسلامية يسمى المهدي، ويسندون ذلك إلى أحاديث نبوية بحث كثيرون من علماء الإسلام في صحتها وفسادها وفي مقدمتهم العلامة ابن خلدون، ومن أوثق الأحاديث المروية من هذا القبيل رواية الترمذي وهي: «لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي.» ورواية الحاكم وهي: «تملأ الأرض جورا وظلما فيخرج رجل من عترتي فيملك سبعا أو تسعا فيملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما.» ولم يرد في هاتين الروايتين لفظ المهدي، ولكنهم ذكروا أحاديث أخرى ورد فيها لفظه انتقدها ابن خلدون انتقادا طويلا في كلامه عن أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس ... إلخ (في مقدمته الشهيرة، فمن أراد الإسهاب فليراجعه هناك).
على أن ذلك لم يقلل شيئا من اعتقاد الجمهور في مجيء المهدي، فما انفك المسلمون ينتظرون مجيئه، فأدى ذلك إلى ظهور جماعة كبيرة في أزمان مختلفة ادعى كل منهم أنه المهدي المنتظر، فالتفت حوله الأحزاب وأسس بعضهم دولا عظمى لا يزال ذكرها باقيا إلى الآن، على أن كثيرين آخرين لم يكادوا يظهرون بدعواهم حتى طوى الزمان ذكرهم لأن الأحوال لم تكن معدة لقبولهم.
على أن بين الشيعة والسنة خلافا من قبيل المهدي وزمن ظهوره؛ فأهل الشيعة يعتقدون أنه ظهر في أواخر القرن الثالث للهجرة في شخص أبي القاسم محمد بن الحسن العسكري الإمام الثاني عشر، وأنه سيظهر ثانية قبل انقضاء العالم من سرداب في سر من رأى بالعراق، وأما أهل السنة فيقولون إنه لم يظهر بعد، وتتمة للموضوع نذكر أشهر الذين ادعوا المهدوية من أول الإسلام إلى الآن. (1)
محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية، ظهر في المدينة سنة 154ه في عهد الخليفة المنصور ثاني الخلفاء العباسيين، فدعا الناس إليه، وكان له أخ اسمه «إبراهيم» نصره وقام بدعوته ففتح البصرة والأهواز وفارس ومكة والمدينة، وبعث عماله إلى اليمن وغيرها، وكان ذلك في زمن الإمام مالك فأفتى له وشد أزره فكثرت دعاته حتى كاد يذهب بالدولة العباسية لو لم يستدرك المنصور أمره ويتغلب عليه ويقتله (وترى تفصيل أخباره في الجزء السادس من تاريخ ابن الأثير). (2)
عبيد الله المهدي بن محمد الحبيب بن جعفر الصادق مؤسس الدولة الفاطمية في المغرب التي فتحت الديار المصرية في أواسط القرن الرابع للهجرة وبنت مدينة القاهرة على يد القائد جوهر، وقد اتسعت دولة الفاطميين وامتدت سلطتهم وطالت أيام حكمهم (وترى تفصيل أخبارهم في الجزء الأول من كتابنا تاريخ مصر الحديث). (3)
محمد بن عبد الله تومرت المعروف بالمهدي الهرعي، ويكنى أبا عبد الله، أصله من جبل السوس في أقصى بلاد الغرب، رحل إلى المشرق حتى انتهى إلى العراق، واجتمع بأبي حامد الغزالي وغيره فأخذ العلم عنهم واشتهر بالنسك والتقوى وساح في الحجاز، وجاء مصر ثم سار إلى الغرب وأقام بمراكش وغيرها، وتأسست على يده دولة عظيمة في أوائل القرن السادس للهجرة هي دولة عبد المؤمن (وترى تفصيل ذلك في الجزء الثاني من تاريخ ابن خلكان). (4)
العباس الفاطمي ظهر بالمغرب في آخر المائة السابعة للهجرة، وادعى المهدوية فتكاتف الناس حوله وعظمت شوكته حتى دخل مدينة فاس عنوة، وأحرق أسواقها وبعث العمال إلى الأنحاء، لكنه قتل غيلة فانقضى أجله وسقطت دعوته. (5)
السيد أحمد، ظهر في أوائل القرن التاسع عشر للميلاد في جهات الهند وحارب الأسياخ على حدود بنجاب الشمالية الغربية سنة 1826 ولم تقم له قائمة. (6)
محمد المهدي السنوسي ابن الشيخ محمد السنوسي الذي ظهر في المغرب في أواسط القرن المذكور، وأصله من جبل سوس بجزائر الغرب، نبغ (والده) سنة 1837 ولاقى من بعض أولي الأمر الإسلامي ترحابا، نشر دعوته وأيدها، وكان مقامه الرئيسي في جغبوب على مقربة من واحة سيوا نحو الغرب، ولكنه أنشأ زوايا عديدة في أماكن أخرى من بلاد الغرب يبلغ عددها ثلاثمائة كلها تعلم طريقته وتعاليمه.
أما زاوية جغبوب (أو جربوب) فإنها أعظمها كلها، تجتمع إليها الطلبة من تونس ومصر والشام ومن بادية الغرب، وفيها كان يقيم الشيخ محمد السنوسي، وقد وفق هذا الشيخ إلى نشر تعاليمه ونفوذه توفيقا غريبا وانتشرت طريقته بين القبائل المغربية، وامتدت إلى سلطنة وداي ودارفور، ونال هناك نفوذا عظيما حتى أصبحت تلك السلطنة في قبضة يده، فلما توفي سلطانها سنة 1876 استخاروا السنوسي في من يخلفه، فاختار لهم سلطانا اسمه يوسف.
فالسنوسي هذا توفي منذ بضع عشرة سنة، ولكنه لمح قبل وفاته أن المهدي المنتظر سيظهر قريبا ولعله ابنه، فاستوضحوه فلم يزدهم إلا كلمة «لا أعلم»، على أنه أنبأهم بأن ظهوره سيكون في ختام القرن الثالث عشر للهجرة (1882م) فالسنوسيون يعتبرون شيخهم المشار إليه مهديا، وقد سموه محمد المهدي، وهو رجل عاقل شديد البطش، ومن كراماته خيمة سحرية يحملها في جربه يزعمون أن الزاد لا يفرغ منها. (7)
محمد أحمد المهدي السوداني، وقد نحا في دعواه منحى الشيعة، فقال إنه الإمام الثاني عشر الذي ظهر مرة قبل هذه، وفي تسمية أتباعه بالدراويش تأييد لرغبته في قول الشيعة؛ لأن لفظة درويش فارسية. (1-1) سبب ظهور المهدي السوداني وقيامه
لو بحثنا عن قيام دعاة المهدية (المتقدم ذكرهم) لرأينا لكل منهم داعيا حمله على القيام، وأحوالا ساعدت في تأييد دعواه، فالأسباب التي دعت إلى قيام محمد أحمد وساعدت في وقوع دعوته موقع القبول لدى أهل السودان كثيرة نذكر أهمها وهي: (1)
ذكرنا انتظار جمهور المسلمين للمهدي وأهل السودان في جملتهم، ولكن السودانيين كانوا ينتظرونه قريبا اعتمادا على قول الشيخ السنوسي كما تقدم. (2)
من المتداول بين شيوخ أهل السودان وفقهائهم أن المهدي سيظهر من بينهم؛ استنادا إلى أقوال يروونها عن بعض الأئمة منها قول الإمام القرطبي في طبقاته الكبرى، ونصه: «وزير المهدي صاحب الخرطوم» وقول السيوطي وابن حجر: «إن من علامات ظهور المهدي خروج السودان»، وغير ذلك. (3)
كان تحصيل الضرائب في السودان منوطا بجماعة الباشبوزق فكانوا يسومون السودانيين في تحصيلها أنواع الخسف والذل، وقد يقتضونها مرارا، وروى المستر فرنك بلور قنصل إنكلترا بالخرطوم إذ ذاك أن الضرائب كانت تضرب على أهل السودان بلا شفقة فيضربون ضريبة على كل فرد منهم وعلى الأولاد والنساء يقتضونها ثلاث مرات في السنة، مرة لصاحب القضاء وأخرى للجابي وأخرى للحكمدار، وكان الزارع إذا زرع حنطة لا يؤذن له بزراعتها حتى يدفع ثلاثة جنيهات كل سنة، ويدفع سبعة أخرى في مقابل التصريح له بريها من ماء النيل، فإذا تردد في الدفع سيق إلى السجن، وإذا صح زرعه دفع ذلك المال مرتين: مرة للحكومة، ومرة لجيب الباشا، وإذا كان من أصحاب السفن التجارية التي تجري في النيل فرض عليه أربعة جنيهات عن كل سفينة، فإذا لم يرفع العلم المصري على سفينته غرم بأربعة أخرى، ومن تأخر عن تأدية تلك الضرائب اقتضتها الحكومة منه بالكرباج، وقد يعاقب ذلك المسكين بإحراق منزله أو سلب أمتعته، والخلاصة أن السوداني لم يكن يباشر أمرا إلا أدى عليه ضريبة. (4)
من المقرر المشهور أن التجارة السودانية محصورة في أصناف معدودة، أهمها: تجارة الرقيق. والنخاسون أو تجار الرقيق أشبه بالملوك والقواد منهم بالتجار في حاشية كل منهم مئات أو ألوف من الرجال بين خدمة وعمال وعبيد يقومون لقيامه ويقعدون لقعوده، فالنخاسون عمد السودان وعيون أعيانه وقادة أعماله، تهابهم الحكام وتخشى سطوتهم الحكومة، وما زالت تجارتهم رابحة وأعمالهم سائرة حتى قام أهل العالم المتمدن لإبطال تجارة العبيد فجاء السودان السير صموئيل بكر للقيام بتلك المهمة، ثم أنيطت بغوردون باشا فأخذ بالكف عن الاسترقاق جملة. وهي صدمة قوية ارتجت لها أركان السودان؛ لأن منع النخاسة لم يقتصر على تقليل أرباح النخاسين، ولكنه عرضهم لاستبداد الجباة؛ لأنهم كانوا يؤدون الجانب الأكبر من الضرائب عبيدا أو ماشية، فأصبحوا بعد إبطال النخاسة لا يقومون على تأديتها، فاستبد بهم الجباة، وساموهم الذل والعسف حتى خيف عصيانهم، ولكن غوردون باشا لحسن سياسته ولين جانبه لم يحدث في أيامه اضطراب، فلما غادر السودان تولاه رجل لم يكن عالما بمحل الضعف ليتلافى خطره، فكأن غوردون أوقد نارا في بعض جهات البيت فجاء غيره لا يدري كيف يطفئ تلك النار فتعاظمت والتهمت المدينة برمتها، فلما قام المهدي يدعو الناس إلى رفع المظالم آنس من أولئك التجار إصغاء، وكانوا له عونا في إضرام تلك الثورة. (2) محمد أحمد المتمهدي السوداني
هو من قبيلة الداناقلة، ولد في جزيرة اسمها (نبت) مقابل دنقلا (وقال آخرون في حنك) سنة 1848 ويقال إن نسبه ينتهي إلى الشيخ القرفي صاحب كتاب الفروق، اشتهرت عائلته باصطناع سفن سودانية يضرب المثل بدقة صنعها ومتانتها، وكان اسم والده عبد الله، هاجر إلى شندي بأولاده كلهم، ومحمد أحمد لا يزال طفلا، فقضى محمد أحمد حداثته في صناعة السفن ولم يكن ميالا إليها، على أنه كان يختلف في أثناء ذلك إلى المدرسة، فحفظ القرآن وهو في الثانية عشرة، ويقال إنهم عهدوا بتربيته وتدريبه في إتقان صناعة السفن إلى عمه شريف الدين في جزيرة شبكة بالقرب من سنار، فاتفق أن عمه هذا ضربه مرة ففر إلى الخرطوم وانتظم في سلك طلبة طريقة الفقراء، وهي من الطرق الشهيرة في السودان بمدرسة خوجلي بالقرب من الخرطوم، وخوجلي هذا مقام شهير هناك يؤمه أهل الخرطوم وضواحيها يتبركون به، فقضى في هذه المدرسة بضع سنين ثم انتقل إلى بربر فدخل مدرستها، ثم انتقل منها إلى قرية أرداب وتناول العلم فيها على الشيخ نور الدايم، وعنه تناول سر طريقة الفقراء سنة 1871، ويقول الإمام السيد الميرغني: إنه أخذها عن القرشي هذا؛ كان عنده فرس لا تلد، فقال: إن فرسي هذه ستلد ويركب نتاجها المهدي فأخذها محمد أحمد فولدت عنده.
وكان قوي الذاكرة فحفظ القرآن وشيئا من الحديث، وجاء جزيرة آبا جنوبي الخرطوم وأقام فيها، وكان حسن الأسلوب لين العريكة، فطنا حاد الذهن، فصيحا قوي الحجة، إذا خطب أثر في السامعين، فمال الناس إليه وأحبوه، فكان يذكر ويعظ ويصلي ويظهر التقوى والزهد والاعتزال عن العالم ، والناس يتقاطرون إليه أفواجا، وأكثرهم من قبيلة البقارة المشهورين بالقوة والشدة، فكانوا يلتفون حوله حلقات يذكرون وينشدون.
وقد قال سلاطين باشا في حداثة هذا المهدي ما يخالف هذا القول؛ من ذلك قوله: إنه ولد في جزيرة أرقو قرب دنقلة، وأنه سار إلى بربر وانتظم في حلقة محمد الخير ثم ذهب إلى الخرطوم وانتظم في حلقة الشيخ محمد الشريف من شيوخ الطريقة السمانية، ثم انتقل إلى جزيرة آبا، واتفق أن بعض التلامذة احتفل بختان أولاده فاجتمع في الحفلة جماعة كبيرة غنوا ورقصوا، فنهاهم محمد أحمد عن ذلك لأن الشريعة لا تجيزه، وأن شيخ الطريقة نفسه لا يقدر أن يجيزه، فبلغ الشيخ محمد الشريف ذلك فغضب واستحضر محمدا فجاء ذليلا والتمس العفو فلم يعف عنه، بل وبخه ومحا اسمه من سجل الطريقة، فخرج محمد أحمد مطرودا ثم عاد وقد ذر الرماد على رأسه، وجعل في عنقه الشعبة وهي عود ذو شعبتين توضع في العنق علامة التذلل والاستعطاف، فانتهره محمد الشريف وطرده وأهانه، فلم يعد محمد يستطيع الكظم فالتجأ إلى شيخ آخر من الطريقة المذكورة اسمه الشيخ القرشي، وكان بينه وبين الشيخ الشريف منافسة فخاف هذا عاقبة الأمر فاستقدم محمد أحمد واستدناه فأبى، وكان الإباء رنة في آذان أهل السودان، وعظم محمد أحمد في عيني الناس وانتقل إلى جزيرة آبا، وبعد قليل مات الشيخ القرشي فبنى محمد على قبره قبة، وبالغوا في إكرامه نكاية بالشيخ الشريف، وازداد الرجل شهرة بالتقوى والكرامة في معظم أنحاء السودان، وهو إلى ذلك الحين لم يدع المهدوية.
وكان استبداد جباة الأموال ضاربا أطنابه وحال السودان كما تقدم من القلاقل والاضطراب، فكان محمد أحمد إذا ذكر الضيق الذي أصابهم من ظلم الجباة نسب ذلك إلى خطية بني الإنسان وأن العالم قد فسد والناس قد ضلوا عن سواء السبيل فنالهم ما نالهم من غضب الله، وأن الله سيبعث رجلا يصلح ما فسد ويملأ الأرض قسطا وعدلا هو المهدي المنتظر، وقد كان ذلك حديث الناس في سائر أنحاء السودان فحينما اجتمعوا تحدثوا فيما يقاسونه من الضنك وما ينتظرونه من الفرج على يد ذلك المنتظر حتى أصبح لفظ «المهدي» يدوي في سائر مجتمعاتهم ومنازلهم، في الأكواخ، والأسواق، والمساجد، والزوايا، على الطرق وفي العطمور، وحيثما وجد اثنان أو ثلاثة فلا حديث لهم إلا الفرج المنتظر على يد المهدي.
فلما رأى محمد أحمد ذلك وآنس من الناس ارتياحا إلى أقواله وإصغاء إلى مواعظه خطر له أن يكون هو صاحب ذلك الأمر، على أنه لم ينطق به حتى سألوه: ألعلك المهدي المنتظر؟ فقال: «أجل، أنا هو» فأخذ يبث تعاليمه والناس يقدمون إليه ويسلمون له، فانتشر خبره رويدا رويدا من جزيرة آبا على ضفاف النيل حتى وصل الخرطوم وما والاها، فآمن بدعوته قبائل البقارة ورئيسها علي ولد حلو، ولم يكن إيمان البقارة به لمجرد اعتقادهم بمهديته، ولكن أكثرهم من النخاسين الذين نقموا على الحكومة لمنع الرقيق. ومكن هو علاقته معهم بعد ذلك بالتزوج ببنات كثيرين من كبارهم.
وكان في جملة الذين يجتمعون عليه عبد الله التعايشي من قبيلة التعايشة، وكان يشتغل بالتنجيم وكتابة الأحجبة، وله شأن كبير في قبيلته، فقال له محمد أحمد: أنت وزير المهدي، فقال عبد الله: إني في انتظار مجيئه، فإذا كنت إياه اظهر وأنا ناصرك. فقال: نعم أنا هو، فآمن به فاستوزره، فكان هو وقبيلته أنصارا له، واتفق ظهور نجم ذي ذنب سنة ظهوره، فاعتقد أهل السودان أن ذلك النجم إنما هو راية المهدي تحملها الملائكة.
ووصل خبر هذه الدعوة إلى الخرطوم سنة 1881 وحكمدارها رءوف باشا فأنفذ إليه رجلا من خاصته اسمه أبو السعود ليستقدمه إلى الخرطوم، فسار في أربعة من العلماء على باخرة حتى أتوا جزيرة آبا، فلما نزلوا على الشاطئ نادوا بأعلى أصواتهم: أين المهدي؟ فجاء محمد أحمد ويداه مخبأتان في ثوبه وجلس على عنقريب (مقعد سوداني) بجانب أبي السعود، فقال له أبو السعود: «ما هذا الذي قمت به؟» فأجابه محمد أحمد بلطف ودعة: «أنا هو المهدي.» فقال أبو السعود: «ولكن يجب أن تذهب.» فنهض محمد مغضبا ويده على قبضة حسامه، وصاح به: «لا، لا أذهب.» فخاف أبو السعود وترك الرجل للحال، وأخذ علماءه وعاد بباخرته إلى الخرطوم فوصلها ليلا، فأيقظ رءوف باشا من فراشه، وأنبأه بما كان، وقال له: أعطني خمسين رجلا وأنا آتيك بهذا المنافق، فأذن له فسار بهم حتى أتوا الجزيرة فنزلوا إليها، وبقي أبو السعود في الباخرة، وهم يفكرون في كيفية الهجوم على المتمهدي، هجم رجاله عليهم بغتة، وقتلوهم عن آخرهم، فاشتد أزر المهدي وتمكن اعتقاد أتباعه بدعوته.
على أنه أدرك خطر مقامه بالقرب من مركز الحكومة فرأى أن يوغل في السودان ريثما تتكاثر أحزابه فولى مكانه رجلا اسمه أحمد المكاشف، وغادر آبا قاصدا جبل كردوفان، وسمى انتقاله هذا «الهجرة».
وكان في كاوا على النيل الأبيض على مسافة خمسين ميلا من آبا شمالا قوة عسكرية مصرية مؤلفة من 1400 رجل تحت قيادة محمد سعيد باشا، فاقتصت آثار محمد أحمد فأوغل هو في جنوبي كردوفان، فتعقبته شهرا حتى هلكت ولم تدرك منه وطرا، ثم انتقل محمد أحمد إلى جبل قدير فحارب رشيد بك حكمدار فشودة وتغلب عليه في 9 ديسمبر سنة 1881 وكتب إلى القبائل يدعوهم إلى الاعتقاد بدعوته والأخذ بناصره.
فلما علم رءوف باشا بفشل سعيد باشا ورشيد بك هاله أمر المتمهدي وأخذ يجمع الجند من دنقلة وبربر ودار الشايقية، والثورة آخذة في الانتشار، فانضم إلى المهدي عرب الشلك وأصبحت قبائل الكبابيش في شمالي كردوفان، والرفاعة في سنار، والبشارين بين سواكن وبربر تتردد بين الطاعة والعصيان.
وفي مارس سنة 1882 أقيل رءوف باشا فقام مقامه جيكلر باشا فأنفذ يوسف باشا الشلالي لمحاربة المتمهدي، فجنحت به السفينة عند كلوا فتركه رجاله وفروا، فلما علم المكاشف بذلك تشدد وخرج برجاله على سنار ومديرها حسين بك شكري فدخلها، وقتل بعض حاميتها وتجارها فحاصر المدير ورجاله في المديرية، فبلغ ذلك جيكلر باشا فأنفذ لإنقاذهم صالح بك في خمسمائة جندي، فجاءوا المدينة ودخلوها ورفعوا الحصار عن المديرية فتقهقر الدراويش إلى كركوج وراء سنار، فخرجت عليهم الجنود المصرية من أبي حراز ومعهم 500 مقاتل من عرب الشكرية بقيادة أميرهم عوض الكريم باشا أبي سن، فلقيهم العصاة في المسلمية وأرجعوهم على أعقابهم بعد أن قتلوا منهم جمعا كبيرا، فخرج جيكلر باشا على العصاة بنفسه فغلبهم في أبي حراز وفي موقعة بالقرب من سنار ثم عاد إلى الخرطوم، وكان قد وصلها عبد القادر باشا حكمدارا بدلا من رءوف باشا (في 11مايو سنة 1882).
وكان الشلالي باشا قد أعد حملة في كاوا للخروج على المهدي في جبل قدير فسار بحرا في ستة آلاف مقاتل حتى أتى فشودة في مايو فسار برا وأقام مدة على جبل في منتصف المسافة بين فشودة وجبل قدير، ثم استأنف المسير في السهول والجبال حتى دنا من العدو في 7 يونيو، وكانوا فئة ضعيفة جائعة، ولكن الشلالي استخف بمهمته ولم يحسن التحصين فهاجموه بغتة وكسروه شر كسرة وأخذوا كل ما كان معه من المؤن والذخيرة ولم يبقوا إلا على القليل من رجاله، وكان ذلك النصر أعظم ما ناله المتمهدي إلى ذلك الحين فاتخذ السودانيون نصرة هذا مع قلة رجاله دليلا على صدق دعوته، وكان قد طاف كردوفان قبل أن صرح بدعوته واشتهر بين أهلها بالتقوى والكرامة والغيرة على الدين، فجاء نصره هذا مصداقا لما في أذهانهم، فتقاطروا إليه بالمال والرجال من أقاصي كردوفان، وعظم أمره في عين الحكومة فأخذ عبد القادر باشا في تحصين الخرطوم، وفرض لمن يقتل الدراويش جنيهين عن كل درويش و18 جنيها عن كل أمير وبعث إلى الدراويش أن يثوبوا إلى الطاعة ووعدهم خيرا، وأخذ من الجهة الثانية يجمع الجند فاستقدم فرقا من حاميات القلابات وسنهيت وجيرا وجند غيرهم فاجتمع لديه 12 ألف مقاتل، وأمد حامية الأبيض بألف.
وفي أثناء ذلك هجم المكاشف على شات وافتتحها، وقتل حاميتها وحاول فتح الدويم فلم يستطع، وكان المهدي لا يزال في جبل قدير لا يبدي حراكا، أما قواده فكانوا يسيرون برجالهم يفتحون البلاد في جهات كردوفان، فحاربوا الحامية المصرية في أماكن مختلفة وهددوا بارا وكشجيل والبركة وغيرها، ثم سار المهدي برجاله إلى الأبيض عاصمة كردوفان، وفيها محمد سعيد باشا، فلما علم بقدوم العصاة جمع جنده من الجهات وحصن المدينة، وفي أوائل سبتمبر سنة 1882 أصبح المتمهدي برجاله على مقربة من الأبيض فكتب إلى محمد سعيد باشا يدعوه إلى التسليم، فجمع الباشا رجال مجلسه وشاورهم في الأمر فأقروا على شنق الرسل، وأن لا يبعثوا جوابا، ولكن أهل الأبيض كانوا على دعوة المهدي سرا، وهم الذين دعوه إلى فتحها وفي مقدمتهم إلياس باشا أعظم تجار كردوفان وحاكمها السابق، فانضموا إلى العصاة في تلك الليلة هم وبعض الحامية، وبقي محمد سعيد باشا في نحو عشرة آلاف من الجند الباشبوزوق، وأما جيش المتمهدي فكان جرارا فيه 6000 تحمل البنادق التي غنموها من الجنود المصرية بالمواقع الماضية، وأما سائر قواته فتبلغ ستين ألفا، ويقول سلاتين باشا في كتابه «النار والسيف في السودان»: إن حملة البنادق لم تأت معه الأبيض بل بقيت في قدير.
وفي 8 سبتمبر هجم العصاة على الأبيض فارتدوا خاسرين، وقد غنم الجند المصري 63 راية من جملتها راية المتمهدي نفسه واسمها «راية عزرائيل»، وقتلوا منهم نحو عشرة آلاف، وفي جملتهم محمد أخو المهدي، ويوسف أخو عبد الله التعايشي، ولم يقتل من الحامية إلا 300، فعظم ذلك على المتمهدي وأدرك خطر الهجوم على الأسوار الحصينة وعول من ذلك الحين أن لا يهاجم سورا، وإنما يفتح البلاد بالتضييق عليها بالحصار حتى يضنيها الجوع وتعمد إلى التسليم، ثم جاء العصاة مدد فاشتد أزرهم فشددوا الحصار على الأبيض وعلى بارا، وكان في بارا نور عنقرة أحد أمراء العرب وكان مواليا للحكومة، ولكنه رأى مقامه حرجا وتحقق الفشل، فكتب إلى المهدي سرا أنه إذا أرسل إليه أميرا من أكابر أمرائه سلم له، فأرسل إليه ولد النجومي فخرج نور عنقرة مع محمد الخير وكان يلقب سر سواري؛ أي قائد الخيالة، وسلما لولد النجومي فقبلهما وانقضت سنة 1882 والحصار شديد على الأبيض وبارا والعصاة يتكاثرون في سنار وغيرها.
وكان المهدي قد أرسل فرقا من رجاله لنشر دعوته في دارفور وبحر الغزال فانتشرت الثورة هناك، ولكنهم لم يغتنموا سنة 1882 إلا بعضا من بلادها، وفي أوائل سنة 1883 فتحوا دارا في 5 يناير واضطرت الأبيض إلى التسليم من الجوع في 19 منه، فدخلت كردوفان في حوزة الدراويش، وغنموا منها شيئا كثيرا من المؤن والذخائر والأسلحة والأموال، وصار المتمهدي من ذلك الحين حاكما على كردوفان، وقبض على سعيد باشا ورجاله، وبعد أسرهم مدة اكتشف على تقرير بعثوا به سرا إلى الخرطوم وأمر بقتلهم.
شكل 10-2: طبيب المهدي.
وكان عبد القادر باشا قد سار بنفسه وجنده لقمع العصاة في جهات سنار، فوشى به بعضهم في مصر، فاستقدمته الحكومة إليها على حين غفلة وعينت مكانه علاء الدين باشا وكان قبلا في مصوع، وعهدت بقيادة الجند الذي كان في سنار إلى حسين باشا، وأرسلت حملة جديدة لاسترجاع كردوفان، وعهدت بقيادتها إلى ضابط إنكليزي اسمه الكولونيل هيكس ثم سمي هيكس باشا.
وكان المهدي لما فتح الأبيض ودانت له كردوفان وآمن به معظم أهل السودان أخذ ينظم حكومته على غير نظام الحكومة.
وأهم أقسام الإدارة على أبسط وجوهها ثلاثة: الجند والمال والقضاء، فجعل على الجند خليفته عبد الله التعايشي قائدا عاما لجماعة الدراويش يدير حركاتهم، وأنشأ إدارة سماها بيت المال وفيه تحفظ الأموال: كالعشور، والغنائم، والفطرة، والزكاة، والغرامات التي يضربونها على شارب المسكر أو السارق. وعهد بإدارة بيت المال إلى صديق له اسمه أحمد ولد سليمان. أما القضاء فأقام عليه رجلا اسمه أحمد ولد علي كان قاضيا في دارفور وسماه قاضي الإسلام، وكان محمد أحمد منذ أوائل ظهوره قد عين خلفاءه وجعلهم أربعة، مثل: الخلفاء الراشدين، يتولون الأمر بعده الواحد بعد الآخر، أولهم عبد الله التعايشي، والثاني علي ولد الحلو، والثالث محمد الشريف، والرابع محمد السنوسي، ولكن هذا رفض الخلافة.
وعلم المتمهدي أن الحكومة المصرية ستحمل عليه بكل قوتها لاستخراج كردوفان من يديه فأخذ يحث الناس على الجهاد ويحقر الدنيا في أعينهم ويحبب الآخرة إليهم وهم، يفدون إليه زرافات وقبائل يتبركون به، وقد آمنوا بدعوته بعد أن ذاقوا الراحة والاستقلال على يده؛ فتخلصوا من الضرائب ونجوا من الباشبزوق واستبدادهم، فاعتقدوا أنه المهدي المنتظر الذي جاء «ليملأ الأرض عدلا وقسطا كما ملئت جورا وظلما»، ومما ساعدهم على هذا الاعتقاد تظاهر هذا الرجل بالتقوى والزهد، فلم يكن يلبس غير السراويل والجبة فوقها منطقة من خوص يقضي نهاره في الصلاة ونشر المنشورات يحث بها الناس على ترك الدنيا والتمسك بالآخرة، ويضع لهم القوانين والأحكام، ومن أمثلة ذلك منشور نشره من الأبيض سنة 1301ه وقعت لنا نسخة منه ننشرها مثالا لتعاليمه، وهاك نصها بالحرف الواحد، على علاتها اللغوية:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الوالي الكريم، والصلاة على سيدنا محمد وآله مع التسليم
وبعد، فمن عبد ربه محمد المهدي ابن السيد عبد الله، إعلاما منه إلى كافة المشائخ في الدين والأمراء والنواب والمقاديم أتباع المذكورين. يا عباد الله، اسمعوا ما أقول لكم وكونوا على بصيرة، واحمدوا ربكم واشكروه على النعمة التي خصكم بها، وهو ظهورنا؛ فهو شرف لكم على سائر الأمم، ولكن المطلوب منكم يا أحبابنا المهاجرة في سبيل الله والمجاهدة في سبيل الله، والزهد في الدنيا، وكل ما فيها؛ فإلى البوار، ولو كانت لها بال لكان ربكم يحليها، وانظروا في أهلها الذين كانت في كل ما يطلبوه وصارت لهم بعد ما كانت عسلا حنظلا وسما، وصاروا في غاية العذاب والهلاك بعده وشدة التعب والمشقة، ولو كان فيها خير لما صاروا هكذا، وبعد ذلك فلهم العذاب الشديد، فإن عجبكم هذا فافعلوا، وإلا فاتقوا الله وكونوا مع الصادقين، وجاهدوا في سبيل الله؛ فلهزة سيف مسلم في سبيل الله أفضل من عبادة سبعين سنة، ووقفة في الجهاد قدر فواق ناقة؛ يعني حلبة ناقة، أفضل من عبادة سبعين سنة. وعلى النساء الجهاد في سبيل الله، فمن صارت قاعدة وانقطع منها أرب الرجال فلتجاهد بيديها ورجليها، والشبابة فليجاهدن نفوسهن ويسكن بيوتهن، ولا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، ولا يخرجن إلا لحاجة شرعية، ولا يتكلمن كلاما جهرا، ولا يسمعن الرجال أصواتهن إلا من وراء حجاب، ويقمن الصلاة ويطعن أزواجهن ويستترن بثيابهن، فمن قعدت كاشفة فاتحة رأسها ولو لحظة عين فتؤدب وتضرب سبعة وعشرين سوطا، ومن تكلمت بفاحشة فعليها ثمانون سوطا، ومن قال لأخيه: يا كلب أو يا خنزير أو يا يهودي أو يا ... أو يا ... فيضرب ثمانين سوطا ويحبس سبعة أيام، ومن قال: يا فاجر أو يا سارق أو يا زاني أو يا خائن أو يا ملعون فعليه ثمانون سوطا، أو يا كافر أو يا نصراني أو يا لوطي فعليه ثمانون سوطا ويحبس سبعة أيام، ومن تكلم مع أجنبية وليس بعاقد عليها ولا لأمر شرعي يجوز ذلك الكلام فيضرب سبعة وعشرين سوطا، ومن حلف بطلاق أو حرام يؤدب سبعة وعشرين سوطا، ومن شرب الدخان يؤدب ثمانين ويحرق التنباك إن كان عنده، وكذلك من خزنها في فمه ومن عملها بأنفه ومن أبقاها في فيه يؤدب مثل ذلك، ومن باعها واشتراها ولم يستعملها يؤدب سبعة وعشرين سوطا، ومن شرب الخمرة ولو مصة إبرة فيؤدب ثمانين سوطا ويحبس سبعة أيام، وجاره إن لم يقدر عليه يكلم أمير البلد، وإن لم يكلمه فيضرب ثمانين سوطا ويحبس سبعة أيام، ومن ساعد شارب الخمر بشربة ماء أو إناء فيؤدب كذلك ويحبس، ويجاهد نفسه في طاعة الله حقيقة أشد من الجهاد بالأرماح؛ لأن النفس أشد من الكافر مقاتلة؛ فالكافر تقاتله وتقتله وتكون لك الراحة منه، وهي عدوة في صورة حبيب، فقتلها صعب ومسلكها تعب، ومن ترك الصلاة عمدا فهو عاصي الله ورسوله، قيل: كافر، وقيل: يقتل، وجاره إن لم يقدر عليه يكلم أمير البلد، فإن لم يكلمه فيضرب ثمانين سوطا، ويحبس سبعة أيام، وقيل: أموالهم غنيمة. وبنت خمس إن لم يسترها أهلها فيضربون من غير حبس، ومن علم بأمة معها زوج بغير عقد وصبر يوما، قيل: يقتل، وقيل: يحبس وماله غنيمة. واعلموا أيها الأحباب أن خلافتكم وإمارتكم ونيابتكم عنا في الأحكام والقضايا لأجل أن تشفقوا على الخلق، وتزهدوهم في الدنيا ليتركوها، وترغبوهم في الآخرة ليرغبوها ويطلبوها، وتعلموهم عداوة نفوسهم ليحذروا منها وتنصفوا من أنفسكم إذا ادعوا عليكم فيها، فما أشكل فأمروهم فيه بالصبر لغاية طلب الأمراء وجمعهم عندنا، ويصير تخييره بحسب الحكم فيه من الله ورسوله ، واعلموا يقينا أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، وكونوا عباد الله مع الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واعلموا أيها الأحباب أن القضايا التي كانت من اثني عشر رجب الماضي عام 1300 بقمة ماسة قد صار رفعها مطلقا ما عدا الأمانة والدين ومال اليتيم، وأما التي بعد الاثني عشر رجب الماضي وقبل الفتوح تسمع فيه الدعاوي، وأما قتل النفس ففيه تفصيل في كونه مخير ولي المقتول في أخذ الدية أو القصاص، وأما بعد الفتوح بالنسبة إلى العهد فيتعين فيه القصاص لا غير، فاعملوا بذلك طبق المنشور وكذلك مال الخلع أخذه عموما من الأزواج بعد الدخول بهن والاستمتاع بهن فلا يصح أخذه منهن، فاحكموا فيه بالحكم الذي فصله الله تعالى في القرآن العظيم، واعلموا يا أحبابي ولا تخالفوا، وامتثلوا الأمر وكونوا سامعين طائعين لأمري، ولا تعيروا ولا تكفروا النعمة التي من الإله عليكم بها فقيدوها بالشكر، وتزوج الغنية بعشرة ريال مجيدي أو أنقص، والعزبة بخمسة ريال مجيدي أو أنقص، ومن خالف هذا فعليه الأدب بالضرب والحبس في السجن حتى يتوب أو يموت في سجنه، ومقطوع من أهل زمرتنا، ونحن بريئون منه وهو بريء منا والسلام. (الختم)
وكان مع ذلك لا يغفل طرفة عين عن بث العيون والأرصاد لاستطلاع حركات الحكومة ومعرفة أغراضها، فكان يعرف كل ذلك في حينه معرفة تامة، فلا تحدث حادثة أو تنوي الحكومة نية أو تخطو الجنود المصرية خطوة إلا ويعلم بها هو، وأرسل في أثناء ذلك قواده تبث دعوته في أنحاء السودان، فبعث عثمان دقنة إلى السودان الشرقي يتولى قيادة العصاة هناك، وأرفقه بالمنشورات إلى قبائل السودان الشرقي لتكون عضدا له، وكان عثمان دقنة هذا من تجار الرقيق في سواكن، وكان ناقما على الحكومة.
شكل 10-3: هيكس باشا. (2-1) حملة هيكس باشا
هذه هي الحملة التي زادت الويلات على مصر، وكان من أمر فشلها وهلاكها ما هو أشهر من نار على علم، فيجدر بنا بسط واقعتها وسبب هلاكها، وكيفيته؛ لأن الناس ما زالوا حتى الآن يعجبون لهلاك تلك الحملة وذهابها أدراج الرياح وعدد رجالها أحد عشر ألفا أو تزيد معظمهم من الجنود المنظمة.
جاء هيكس باشا في بادئ الرأي إلى الخرطوم، والحكومة لم تصمم على فتح الأبيض، فأقام هناك مدة، فبلغه أن بضعة آلاف من العصاة البقارة بقيادة الأمير أحمد المكاشف وكيل المهدي هناك فخرج إليهم هيكس وحاربهم عند مرابية بالقرب من جزيرة آبا، فقتل المكاشف وعدد من قواده ورجاله، وفر الباقون وكان لتلك الواقعة تأثير حسن في إرجاع ثقة أهالي سنار والخرطوم إلى الحكومة وقوة جنودها.
فصممت الحكومة على إرسال حملة تفتح الأبيض، فكتب هيكس باشا إلى الحكومة بالقاهرة أنه لا يتحمل تبعة هذه الحملة إلا إذا كانت القيادة إليه وحده، فسلمت له بذلك، ولكنها أرسلت معه علاء الدين باشا حكمدار الخرطوم، فطلب هيكس مددا من الرجال والمال وسار علاء الدين باشا إلى شرقي النيل الأزرق فاستحضر أربعة آلاف جمل، وفي أواخر أوغسطس تمت كل معدات الحملة من أم درمان.
وفي 8 سبتمبر استعرض هيكس باشا جنوده، وفي 9 منه خرجت الحملة من أم درمان قاصدة الدويم وبينهما مائة وعشرة أميال، وكانت تلك الحملة مؤلفة من أربع أرط من الجنود المصرية معظمهم من الذين حاربوا في سبيل الثورة العرابية، وخمس أرط سودانية، وأرطة من الطبجية والخيالة، وكانت الجنود المصرية تحت قيادة سليم بك عوني، والسيد بك عبد القادر، وإبراهيم باشا حيدر ، ورجب بك صديق، والباشبوزق بقيادة خير الدين بك، وعبد العزيز بك، ووالي بك، وملحم بك، ويحيى بك، والطوبجية والسواري بقيادة عباس بك وهبي، وبلغ عدد جنود الحملة أحد عشر ألفا؛ منهم سبعة آلاف من المشاة المصريين، والباقون من الباشبوزوق والخيالة وتوابع الحملة من الجمالة وغيرهم، وفيها 5500 جمل، و500 فرس، وأربعة مدافع كروب، وعشرة مدافع جبلية، وستة من نوع النوردنفلت، وكان فيها من الضباط الإفرنج الكولونيل فركوهار رئيس أركان حرب، والبكباشية سكندروف ووورتر، وماسي، وإيفانس، وغيرهم، ومكاتيو النمس والدالي نيوز، والغرافيك.
وفي 20 سبتمبر وصلت الحملة إلى الدويم، وهناك اجتمعت بعلاء الدين باشا، أما هيكس فكان لا يزال في الخرطوم وقد أرسل تلغرافا إلى القاهرة أنبأ الحكومة بخروج الحملة من الخرطوم، وبين الصعوبة التي ينتظر ملاقاتها في طريقه نظرا لحرارة الإقليم وقلة المياه، وكان في عزمه أن يجعل مسير الحملة من الدويم إلى الأبيض عن طريق باره، وطول هذه الطريق 126 ميلا يقيم في أثنائها محطات فيها قوات عسكرية لحفظ خط الرجوع (خط الاتصال) إلى الدويم، فيفتح أولا بارة يقيم فيها مدة ثم يخرج على الأبيض.
فلما جاء الدويم وانضم إلى الحملة تفاوض هو وعلاء الدين باشا في الأمر، فقال علاء الدين: إنه أرسل أناسا جسوا الأرض، فقالوا: إن طريق بارة قليلة المياه، وإن أحسن طريق للأبيض بمثل هذا الجند الكبير طريق خور أبو جبل والرهد إلى الجنوب، فإن الماء كثير فيها، نعم إن طولها 250 ميلا ولكن مائة منها سهلة، يسير بها الجند بكل راحة والماء كثير، إلا أن المسافة بين الدويم ونورابي - وطولها 90 ميلا - قليلة المياه فأقنعه علاء الدين باشا أن الماء في تلك المسافة يسهل الحصول عليه، وبناء على ذلك قررا أن تسير الحملة عن طريق خور أبو جبل، فوصلوا في 24 سبتمبر إلى شات واستولوا على آبارها، وأنشئوا نقطة عسكرية. وبدأ الجند منذ خروجهم من الدويم يقدرون العواقب الوخيمة وينتظرون البلاء العظيم، وكان سيرهم على شكل مربع يتأهب للقاء العدو، في مقدمته الدليلان فالطلائع فالضباط العظام وأركان الحرب، ثم المربع وهو مؤلف من المشاة المصريين وفي ساقته الخيالة، والجمال، والأحمال، والأثقال، وفي وسط المربع الطوبجية، وقد شبه سلاتين باشا ذلك المربع بغابة من الرءوس والأعناق، إذا أطلق العدو عليها رصاصة يستحيل أن تخطئها كلها.
وزد على ذلك أن الجمال لم تكن تستطيع المرعى بالنظر إلى انحصارها في المربع فجاعت، وأكلت قش أرحالها، وخارت قواها حتى مات كثير منها، وفي 30 سبتمبر وصلت الحملة إلى قرية تبعد 30 ميلا عن الدويم اسمها زريقة.
كل ذلك والحرارة تشتد، واللغط يتعاظم بين الجند، وكلهم خائف من سوء العاقبة ثم حدث نفور بين هيكس وعلاء الدين سببه اختلافهما في الرأي بشأن خطة المسير، فرأى علاء الدين أن النقط العسكرية في خط الاتصال لا حاجة إليها؛ لأنها تقلل عدد الجند، فخالفه هيكس في ذلك؛ لأن قطع ذلك الخط يقطع كل أمل برجوع أحد من رجال الحملة حيا إذا قدر انكسارها في ساحة الحرب على أنهم لم ينشئوا نقطة عسكرية بعد شات.
أما محمد أحمد فحالما علم بمسير حملة هيكس جمع رجاله ودعاهم إلى الجهاد في سبيل الله، وخرج بنفسه وعسكر بقرب شجرة كبيرة بضواحي الأبيض ينتظر وصول الحملة، فاقتدى به خلفاؤه وأمراؤه فخرج كل منهم برجاله وعسكروا هناك، وبنوا الأكواخ والنكول (نوع من العشش).
أما الحملة فما زالت سائرة تسحف سحفا كأنها مثقلة بالقدر المحتوم حتى وصلت عقيلة (إيجلا) في 11 أكتوبر، وفي 14 منه وصلت بحيرة شركلا فتناولت شيئا من مائها وهي لم تزدد إلا يأسا وخوفا، وكانت الحكومة المصرية قد أنبأت هيكس باشا قبل خروجه من الدويم أن ستة آلاف من أهل جبل تاج الله، وبعض الجبانية سينضمون إليه، فكان ينتظر وصولهم بفارغ صبر، فذهب انتظاره عبثا، وقبل أن تصل الحملة بحيرة الرهد بقليل فر منها رجل ألماني اسمه كلوتس من صف الضابطان والتجأ إلى العصاة، ولكنه لم يكن يعرف الطريق فلقيه بعض الدراويش فأرادوا قتله، فأشار إليهم أنه جاء بمهمة، فأرسلوه إلى الأبيض فوقف بين يدي المهدي وأخبره عن الضيق المحدق بالحملة وما هي فيه من اليأس ، فكانت خيانته هذه مساعدا كبيرا على هلاك حملة هيكس، فسر المهدي سرورا لا مزيد عليه، وأسلم كلوتس هذا وسمي مصطفى، وبعث المهدي إلى هيكس ورجاله ينصح لهم أن يسلموا إليه ويؤمنوا بمهدويته فلم ينل منهم جوابا، فضلا عن احتقارهم كتبه واستخدام أوراقها في سبل هاجت غضب المتمهدي.
شكل 10-4: الأفيال في صحاري السودان.
ووصلت الحملة إلى الرهد في 20 أكتوبر، فأقامت هناك 6 أيام شاهدت في أثنائها طلائع الدراويش وشرذمات منهم يهاجمونها، وفي 26 أكتوبر سارت ولم تكد تترك معسكرها حتى احتلته العصاة، فعلم علاء الدين خطأه في إهمال خط الاتصال وقد أصبحوا محاطين بالعدو من كل الجهات، وكان في عزمهم المسير إلى الأبيض عن طريق البركة، ولكن الجواسيس أخبروا هيكس أن العصاة نزلوا البركة ومعهم خلفاء المهدي وأمراؤه بعدتهم ورجالهم فتشاور علاء الدين وهيكس في هل يرجعون إلى الرهد أو يسيرون إلى كشجيل ومنها إلى ملييس فالأبيض؛ لأن خور أبو جبل يتشعب عند الرهد إلى شعبتين: تسير إحداهما إلى البركة، والأخرى إلى كشجيل، فأقر الرأي على المسير إلى كشجيل، فساروا في 3 نوفمبر عشرة أميال بين الغابات والأحراج وقد أخطئوا الطريق، ثم وقفوا وأنشئوا زريبة باتوا فيها إلى الصباح، فاستأنفوا المسير حتى صاروا على مسافة ميلين من شيكان بين كشجيل والبركة، وقد أجهدهم العطش فهجم عليهم شرذمة من العصاة فتبادلوا إطلاق الرصاص وقبضوا على بعض منهم، فعلموا أن الدراويش هناك بكثرة عظيمة، فجمع هيكس باشا كبار رجاله وعقدوا مجلسا تشاوروا فيه فلم يقروا على أمر، وكثر اللغط بين الجند وتسلط الرعب على قلوبهم وأيقنوا بالهلاك، وفي الصباح التالي عول هيكس على المسير تحت رحمة الله فجعل جيشه ثلاث مربعات وسار في طريق وعر كثير الأشجار والصخور، فحصل بينه وبين الدراويش موقعة قتل فيها كثير من رجاله، ثم سار أيضا فلم يمض ميلا حتى هاجموه ثانية في شيكان، وقد رأينا في منشور أرسله المتمهدي إلى عثمان دقنة يخبره بتلك الواقعة ويسمي مكان وقوعها علوية، وكانت تلك الهجمة القاضية لم تبق على تلك الحملة ولم تذر ؛ لأن الدراويش هاجموها من كل جانب حتى صار الجنود المصريون يطلقون الرصاص بعضهم على بعض وهم لا يعلمون، فقتل هيكس وكل قواده وجنده ولم ينج منهم إلا نحو ثلاثمائة رجل أكثرهم من الضعفاء الذين اختبئوا بين الشجر أو تحت جثث القتلى، وفي جملتهم رجل اسمه محمد نور البارودي كان في خدمة هيكس باشا، وهو الذي روى أكثر ما تقدم من مهلك هذه الحملة.
فرجع المهدي وخلفاؤه وقواده إلى البركة، وقد سكروا من خمرة النصر، وتركوا بعض الأمراء يجمعون الأسلاب والغنائم إلى بيت المال، وبعد 15 يوما عاد المهدي إلى الأبيض بالمدافع والذخيرة والأموال التي اكتسبوها من حملة هيكس، وكان دخوله الأبيض باحتفال شائق، ولا ريب أن تغلبه في موقعة شيكان جعل حكومة السودان تحت إخمصه؛ لأن كثيرا من القبائل كانوا يترددون في أمره، وينتظرون حربه مع هيكس باشا، فلما علموا بما كان انضموا إليه وصاروا من أعوانه.
شكل 10-5: سلاتين باشا.
وكان سلاتين بك (سلاتين باشا الآن) إلى ذلك الحين حكمدارا على دارفور، وقد قاسى مشقات جسيمة في مناوأة العصاة وتمردهم، وكان يرجو الفرج على يد حملة هيكس، فلما علم بفشلها لم ير بدا من التسليم، فبعث إلى المهدي بذلك وأن ينفذ إليه بعض أقاربه ليسلم البلاد له، فبعث إليه الأمير محمد خالد، ويكنى «زقل» أميرا على دارفور، وأوصاه بسلاتين خيرا، فوصلت الدراويش دارا ونهبوها، وأرسلوا بعضا من حسانها هدية للمهدي، وجاء سلاتين مخفورا إلى الأبيض وبايع المهدي، وأظهر الإسلام والإيمان بالدعوة، وسمي عبد القادر، وهاك نص أيمان البيعة كما رواه سلاتين باشا:
بسم الله الرحمن الرحيم، بايعنا الله ورسوله على توحيد الله، ولا نشرك بالله شيئا، ولا نسرق، ولا نزني، ولا نأتي ببهتان، ولا نعصاك في معروف، بايعناك على ترك الدنيا والآخرة، ولا نفر من الجهاد.
ويظهر أن فيه تحريفا عن الأصل؛ إذ لا يعقل أن يبايعوه على ترك الدنيا والآخرة معا، وهم إنما يرغبون في دعوته طمعا في الآخرة، فكيف يبايعونه على تركها. والظاهر أن الأصل «ترك الدنيا والتماس الآخرة »، وأقام سلاتين من ذلك الحين ملازما لعبد الله التعايشي يقف عند بابه في جملة الملازمين. (3) السودان الشرقي
وفيما كان هيكس يتجشم الأخطار في قطع الصحاري والقفار ينتظر القدر المقدور، وكان عثمان دقنة ينشر دعوة محمد أحمد في السودان الشرقي، وقد اجتمع حوله أحزاب كبيرة. وقد حدثنا صديق فاضل رافق تلك الحوادث في السودان الشرقي، وعرف خفاياها قال: إن توفيق بك محافظ سواكن إذ ذاك تصرف مع العربان الذين يتولون خفارة الطريق بين سواكن وكسلا تصرفا أوجب نفورهم؛ وذلك أنه ولى عليهم شيخا اسمه محمد الأمين ليكون مسئولا عنهم لدى الحكومة على جاري العادة، وكانوا يكرهون هذا الرجل فالتمسوا من المحافظ أن يبدله بسواه فأبى إلا توليته، فغضبوا جميعا ونفروا من الحكومة، وهم كثار، واتفق مجيء عثمان دقنة بمنشور المهدي فانضموا إليه جميعا فاشتد أزره بهم، ثم انضم إليه غيرهم فسار لمناوأة الحكومة في سواكن وضواحيها فهاجموا سنكات في 5 أوغسطس سنة 1883 ولكنهم عادوا خاسرين، فساروا إلى طوكر وحاصروها، فأرسلت الحكومة محمود طاما باشا قائد حامية السودان الشرقي لإنقاذها، فباغته الدراويش بكل وسيلة، وحصلت مواقع كثيرة في تمانيب وترنكتات وغيرهما فلم تعد منهم بطائل، وما زالت سنكات وطوكر محاصرتين تطلبان المدد، فأعدت الحكومة في أوائل سنة 1884 حملة تحت قيادة باكر باشا، سارت إلى سواكن لفتح الطريق بين سواكن وبربر وطرد العصاة من البلاد الواقعة بينهما، فسارت ومعها نجدة من مصوع وكسلا فلاقاها العصاة في التب بغتة في 2 فبراير فحاربوها، ففشلت وعادت بخفي حنين. كل ذلك وحامية سنكات لا تزال محاصرة وفيها توفيق بك محافظ سواكن المتقدم ذكره، وكان رجلا باسلا شهما، أظهر في حصاره شجاعة لم تعهد إلا بالقليل من الناس، وقد جاء سنكات عرضا وانحصر فيها، وسنكات قرية صغيرة لا تزيد حاميتها على ستين رجلا، وقد ضيق عثمان دقنة السبل عليها وقطع المؤن عنها حتى كاد أهلها يهلكون جوعا، فكتب عثمان إلى توفيق أن يسلم فلا يقتله، فأبى إلا البقاء على ولاء الحكومة، فلما جاء باكر باشا وعاد خائبا، بعث عثمان إليه أن يسلم فيسلم، وأن الأمل بإنقاذه قد انقطع، فلم يجبه إلا بالثبات، ولما رأى توفيق بك أخيرا أن المؤن فقدت، والجند جاعت، وأهل البلد ملت، جمع إليه رجاله وأهل سنكات وشاورهم في الأمر، وحثهم على الثبات على ولاء الحكومة، فقالوا: نحن على ما تريد، فقال: إذ قد نفد زادنا والطريق مقطوع بيننا وبين المدد فلنخرج مستقتلين، فإما أن نسير إلى سواكن، وإما أن يلاقينا العصاة فندافع عن أنفسنا حتى الموت.
فخرجوا في أوائل فبراير سنة 1884 بعد أن هدموا الطوابي وأخربوا المنازل، وما ساروا ميلين حتى لا قاهم عثمان دقنة برجاله وهاجموهم، فقاتل توفيق بك حتى قتل شهيد الأمانة والبسالة ولم ينج من رجاله وأهل قريته إلا نفر قليلون.
وكان ذلك من جملة العوامل لتأييد دعوى المتمهدي ونشر سطوته وخوف الحكومة عاقبة أمره، وبدلا من مواصلة العمل في كبح جماح العصاة واسترجاع ما ملكوه من بلادها أقرت بمشورة الحكومة الإنكليزية على إخلاء ما بقي من السودان في قبضتها وسحب جنودها منها والتخلي عن السودان المصري كله للدراويش، وأصدرت بذلك أمرا بتاريخ 8 يناير سنة 1884 وأنفذت الحكومة الإنكليزية الجنرال غوردون باشا إلى السودان للنظر في أفضل الوسائل لسحب حامية السودان وسكانها من الإفرنج وغيرهم وتثبيت حكومة منتظمة على سواحل البحر الأحمر وغير ذلك، فسار غوردون باشا ومعه الكولونيل ستيوارت كاتم أسراره، فوصل القاهرة فأنبأه السير إفلن بارنغ (اليوم اللورد كرومر) أن الحكومة الإنكليزية قد فوضت إليه إخلاء السودان وإعادة حكم الأمراء الذين كانوا يحكمونها لما فتحها محمد علي باشا، ويقال لهم الملوك، أو أن يولي غيرهم كما يتراءى له.
فسار غوردون عن طريق كروسكو وأبي حمد، فوصل بربر في 9 فبراير سنة 1884، وفي 18 منه وصل الخرطوم فتلقاه أهلها بالإكرام، وكان السودانيون يحبونه ويكرمونه للين جانبه وكرم أخلاقه، ومن الغريب أن يسير غوردون بنفسه بلا جيش إلى بلاد اشتعلت بنار الثورة، ولكنه كان كثير الاتكال على الله، وقد صرح بذلك عند وصوله الخرطوم، فقال: «لم آت لإنقاذ السودان بجيش، ولكني اتكلت على الله، فلا أحارب إلا بسلاح العدل.»
شكل 10-6: غوردون باشا. (4) سقوط الخرطوم ومقتل غوردون
سافر غوردون من القاهرة في 26 يناير سنة 1884 ومعه مساعده الكولونيل ستيوارت قاصدين الخرطوم في عطمور أبي حمد، فبربر، فالخرطوم، ومعهم أوامر عالية تنحصر خلاصتها فيما يأتي: (1)
أن يسحب الموظفين المصريين وعائلاتهم وأموالهم من سائر أنحاء السودان إلى مصر. (2)
أن يقيم مقامهم موظفين من أهل السودان يدبر شئونهم بحكمته كأنه يؤسس دولة جديدة. (3)
أن يجمع كلمة القبائل المجاورة للخرطوم ويحركها على قبائل الهدندوة في السودان الشرقي فيفتح الطريقين بين بربر وسواكن وبربر وكسلا. (4)
أن ينقذ سنار وسائر البلاد الواقعة بين النيلين الأزرق والأبيض (الجزيرة). (5)
أن يرسل خمس بواخر لنقل عائلات الجنود المصرية في مديريات خط الاستواء وبحر الغزال. (6)
أن يدبر طريقة لمن بقي في دارفور أن ينسحبوا إلى مصر عن طريق دنقلا.
هذه كانت مقاصده عند خروجه من مصر، وخلاصتها إخلاء السودان، فلما وصل بربر أراد أن يتلوها على أهلها فمنعه حسين باشا خليفة مدير بربر؛ لأن التصريح بذلك يعجل على بقية نفوذ الحكومة، فأطاعه ولكنه تلاها في المتمة فكانت داعية إلى سرعة سقوط بربر بعد ذلك. وأما غوردون فوصل الخرطوم في 18 فبراير كما تقدم، وفي يوم وصوله جمع أعيان الخرطوم كافة في بناية المديرية وأفهمهم مهمته، ثم خرج إلى سراي الحكمدارية فلاقاه مئات من الناس، وتراموا على يديه ورجليه يقبلونها وهم يقولون: «يا سلطاننا، يا والدنا، يا مخلص كردوفان» ثم أخذ غوردون وستيوارت في تدبير شئون الأحكام فأنشئوا أقلاما مختلفة في الحكمدارية للنظر في قضايا الناس وإنصافهم على اختلاف طبقاتهم. فأخرج دفاتر الحكومة القديمة وفيها قيود لذممات مطلوبة من أصحاب الأطيان خراجا عن أطيانهم، فوضع تلك الدفاتر في باحة عمومية وأوقد فيها النار، ولما اتقدت النيران وتعالى لهيبها استخرج الكرابيج والعصي وسائر أدوات الضرب والصفع التي كان يستخدمها الحكمداريون قبلا، وألقاها في ذلك اللهيب وأهل الخرطوم ينظرون، فكان لذلك تأثير حسن في أذهانهم، ثم أنشأ مجلسا وطنيا مؤلفا من أعيان المدينة، وبعد قليل زار الترسانة والمستشفى، وأخيرا ذهب لتعهد السجن ومعه ستيوارت وكونلجن والمستر بوار قنصل إنكلترا هناك، فرأى فيه حوادث تتفتت لها الأكباد، فضلا عن القذارة، وشاهد بين المسجونين أولادا وشيوخا بعضهم قد ثبتت براءتهم ولا يزالون في السجن، وآخرون سجنوا لتهمة فقضوا ثلاث سنين في السجن قبل أن تثبت عليهم جناية، ورأى هناك امرأة قضت خمس عشرة سنة مسجونة لذنب اقترفته في صباها، فأمر غوردون بإخراج المسجونين كافة، وتنظيف السجن، فلم يأت المساء حتى خرجوا زرافات ووحدانا وهم يطلبون إلى الله تعالى أن يطيل عمره، وقضى أهل الخرطوم تلك الليلة سهارى، فأضاءوا الأنوار الملونة، وأوقدوا المشاعل، وباتوا فرحين مسرورين.
وأراد غوردون أن يمكن محبته من قلوب أهل السودان فخفف الضرائب وأنصف المظلومين، وأبطل كثيرا من العوائد، ثم أصدر منشورا يلغي فيه كل الأوامر الصادرة بشأن إلغاء تجارة الرقيق، وهاك مفاد المنشور:
منشور إلى أهل السودان كافة
اعلموا أن راحتكم هي غاية ما نرجوه، وبما أني أعلم أن إبطال تجارة الرقيق قد ساءكم، وهالكم ما وضعته الحكومة من القصاص على من يتعاطاها، وغير ذلك مما صدر من الأوامر العالية بشأن تأكيد إلغائها، فقد رأيت التماسا لراحتكم أن أبطل كل تلك الأوامر وأمنحكم الحرية التامة، فلا يعترضكم أحد في اتخاذ الرقيق لخدمتكم، والسلام لكم.
غوردون باشا
الخرطوم
ففرح تجار الرقيق لهذا المنشور، ولكنهم استدلوا منه على ضعف الحكومة، وأنها إنما أصدرته بالرغم منها؛ لأنها لم تقو على تنفيذ أوامرها في إبطال تلك التجارة، ثم حول نظره إلى أمر المهدي فأرسل إليه في الأبيض كتابا يطلب فيه إطلاق الأسرى ويوليه كردوفان، وأرفق الكتاب بخلعة نفيسة، فرد محمد أحمد الخلعة وبعث إلى غوردون أن يسلم فيسلم، وأن المهدي لم يقم دعوته طمعا في الولاية.
وكان غوردون باشا في أثناء مسيره إلى الخرطوم قد تدبر أمر مهمته هذه، فرأى أن ترك السودان وشأنها بعد إخلائها تعود على مصر بالوبال، فلا تلبث الثورة أن تنتشر ويزحف الدراويش إلى حدود مصر، فبعث يوم وصوله الخرطوم رسالة برقية إلى الحكومة الإنكليزية يطلب فيها أن تبعث إليه الزبير رحمت باشا حالا، وكان الزبير باشا من أكابر تجار الرقيق في دارفور وبحر الغزال، وعاضد الحكومة وفتح لها دارفور، ثم جاء مصر قبل الحوادث السودانية ليشكرها على رتبة أنعمت بها عليه فلم تأذن له بالعودة إلى بلاده، فظن غوردون باشا أنه إذا أخلى السودان ودبر حكومته جعل الزبير باشا خلفا له عليه؛ خوفا من استفحال أمر المهدي وخروجه على مصر، فأبت الحكومة إرسال الزبير، فشق ذلك عليه كثيرا.
ثم ما لبث أن علم بانتشار دعوة المهدي وانضمام معظم القبائل إليه فأصدر منشورا يتوعد الثائرين بعذاب أليم، وينصح لهم أن يثوبوا إلى طاعة الحكومة وبعث إلى مصر يقول: «إذا شئتم أن تتخلص مصر من عذاب دائم أرسلوا جندا لمقاتلة المهدي وسحق قواته، وهو أمر ميسور لكم الآن، أما إذا دخلت الخرطوم في حوزته فيصعب عليكم قهره، على أنكم ستضطرون إلى ذلك إن عاجلا وإن آجلا التماسا لسكينة القطر المصري، وسيكون ذلك شاقا كثيرا بعد الآن.»
وكان الكولونيل ستيوارت قد سار في مائة رجل بالأعلام البيضاء لمسالمة القبائل القاطنة على النيل الأبيض وتلاوة منشورات غوردون عليهم، فكان كلما بعد عن الخرطوم ازداد نفور الناس عنه حتى صاروا يعترضون مسيره ويحاربونه وأكثرهم من قبيلة البقارة، فعاد إلى الخرطوم فأرسله غوردون ثانية في 2 مارس سنة 84 بمنشورات أخرى فعاد بخفي حنين، وما زالت الثورة تقترب من الخرطوم وضواحيها حتى أحدقت بها من كل الجهات، وفي أثناء ذلك جاءت حملة من الدراويش لحصار الخرطوم فجاء جمع منهم إلى حلفاية شمالي المدينة فانهزمت حاميتها، فجرد غوردون في 16 مارس عليهم ألفي مقاتل بالبنادق وفيهم الباشبوزوق والجند المنظم لاسترجاع حلفاية، فماطلهم الدراويش حتى غدروهم وكسروهم شر كسرة، فعادوا القهقرى إلى الخرطوم وقد قتل منهم جمع كبير، ففشل غوردون لهذه الكسرة وحاكم قواد تلك التجريدة وأكبرهم سعيد باشا وحسن باشا، وكلاهما من أهل السودان، فحكم عليهم بالإعدام لثبوت الخيانة عليهما، فقتلا وقطعت أعضاؤهما.
وفي 25 يونيو سنة 1884 وصلت الأخبار بسقوط بربر والقبض على مديرها وإرساله أسيرا إلى الأبيض وتولى بربر أمير من أمراء الدراويش اسمه محمد الخير، وكان سقوط بربر ضربة قوية على الخرطوم؛ لأنها كانت واسطة الاتصال بينها وبين مصر، فأدرك غوردون صعوبة مركزه وتحقق يقينا أن إنفاذ مهمته لم يعد ممكنا بالحسنى فلا بد من استعمال قوة الجند، فطلب إلى حكومته إرسال حملة لمساعدته، فترددت إنكلترا طويلا قبل الإقرار على الحملة، على أنها أقرت في مايو على وجوب إرسالها، ولكن جنودها لم تبدأ بالمسير إلى السودان إلا في سبتمبر، فتذمر أهل الخرطوم وشكوا إلى غوردون حالهم، وفي جملتهم كل الأجانب المقيمين هناك، فقال لهم: من أراد الذهاب فليذهب، أما أنا فلا أستطيع الخروج إلا بعد إنقاذ الحامية والناس أو أن أموت معهم، ولكنه أشار على ستيوارت أن يسير إلى مصر بمن أراد مرافقته من الأجانب، وعهد إليه إيصال تقاريره اليومية عن أحوال الخرطوم من أول مارس إلى 9 سبتمبر وهو يوم سفر ستيوارت، وظن غوردون أن ذهاب ستيوارت بهذه التقارير إلى مصر يفيد الحملة القادمة لإنقاذه، فركب ستيوارت باخرة وركب معه بعض الإفرنج ورافقته باخرتان، فوصل بربر فضربها ومر بها فعادت الباخرتان وجرت باخرته حتى إذا تجاوزت أبو حمد إلى واد قمر ضايقها الدراويش من البر، ثم جنحت فنزل من فيها فلقيهم الدراويش وقتلوهم وحملوا الأسلاب والأوراق إلى المهدي. كل ذلك وغوردون يستحث الإنكليز ويستنهض هممهم وينذرهم بالخطر القريب، فجاءه خبر هلاك ستيوارت ومن معه قبل خروج الحملة، على أن تلك الحملة لم تصل الخرطوم إلا في 28 يناير سنة 85؛ أي بعد سقوطها ومقتل غوردون بيومين.
فلننظر في حركات الدراويش وإجراءاتهم في أثناء حصار الخرطوم من معسكرهم ملخصا عما رواه سلاتين باشا في كتابه «السيف والنار في السودان»، وما أحكاه غيره من الأسرى الذين رافقوا تلك الحوادث داخل الخرطوم وخارجها.
تركنا المتمهدي وقد عاد ظافرا إلى الأبيض بخيله ورجله، فبعد وصوله إليها أنفذ بعض أمرائه لتأييد سلطته في دارفور وبحر الغزال وما جاورهما، ثم علم ما كان من أمر السودان الشرقي وظفر عثمان دقنة في سنكات وتمانيب والتب وحصار كسلة، وكان قد ولى صهره ولد البصير على الجزيرة ما بين النيلين الأزرق والأبيض فبلغه أنه حارب الجنود المصرية هناك وغلبها، وعلم في أثناء ذلك أن غوردون باشا جاء الخرطوم بلا جند، ثم وصله كتابه يطلب إليه إطلاق الأسرى ويوليه كردوفان فلم يعبأ به وأجابه بلهجة شديدة كما قدمنا.
وتكاثر دعاة المهدي بعد انتصاره على هيكس، وتقاطر الناس إليه قبائل وجماعات قياما بنصرته، وكانوا يعسكرون بخيامهم وإبلهم وخيلهم حول الأبيض، فقلت مياه الأبيض، فخاف المهدي أن يصيبهم جهد فأشار بالانتقال إلى الرهد وفيها الماء غزيرا، فانتقلوا إليها رجالا ونساء وأولادا في أواسط أفريل سنة 1884، بأحمالهم وأثقالهم ودوابهم، وأقاموا هناك والمهدي يقضي نهاره في الصلاة والوعظ والحث على الجهاد، ثم سمع بخروج الجنود المصرية من الخرطوم على أهل الجزيرة، فبعث محمد أبا جرجا أميرا عليها في عدد عظيم من الدراويش على أن يمد أهل الجزيرة ويحاصر الخرطوم، فحصلت بينه وبين جنود الخرطوم مواقع انتصرت في أولها الجنود المصرية ثم عادت العائدة عليهم بعد ذلك كما رأيت. وأرسل المهدي الشيخ محمد الخير أميرا على بربر فسار إليها وحاصرها وفتحها وأرسل مديرها حسين باشا خليفة أسيرا إلى معسكر المهدي في كردوفان، فالتقى بسلاتين باشا وتشاطرا مصيبة الأسر. أما دنقلا فكان مديرها مصطفى بك ياور (ثم صار مصطفى باشا) قد كتب إلى المهدي غير مرة يسلم إليه، فلم يركن هذا إلى تسليمه بل بعث السيد محمد علي وبعض الشائقية ليجسوه فحاربهم وفرق جمعهم، وكان الماجور كتشنر (اللورد كتشنر باشا) قد جاء بمهمة سرية لاستطلاع نوايا مصطفى بك ياور وأحوال السودان فشهد بعض مواقعه مع الدراويش.
وخلاصة الأمر أن حجار السودان ورماله كادت تنطق بصوت واحد: «صدق محمد أحمد بدعواه»، وكان إلى ذلك الحين مقيما في الرهد، فكتب إليه أمراؤه من أنحاء مختلفة أن ينزل برجاله إلى النيل الأبيض، فكان يؤجل مسيره مظهرا الازدراء بقوة أعدائه والاعتداد بقوته، ويستعرض جنوده كل جمعة استعراضا عموميا يحضره هو بنفسه يسمونه (عرضة)، والجيش إذ ذاك ثلاثة أقسام يرأس كلا منها خليفة من خلفائه، ولكن الخليفة عبد الله التعايشي كانت له الرئاسة الكبرى ويلقب «رئيس الجيش»، وفرقته تسمى «الراية الزرقاء»، ينوب عنه في قيادتها أخوه يعقوب التعايشي، وفرقة الخليفة علي ولد الحلو تدعى «الراية الخضراء»، وفرقة الخليفة محمد الشريف تسمى «الراية الحمراء» أو «راية الشرفاء»، وتحت قيادة كل من هذه الرايات الثلاث رايات صغيرة لا يحصيها عد يجتمع حول كل راية منها مئات من الدراويش.
وكيفية الاستعراض عندهم أن يقف أمراء الزرقاء براياتهم صفا واحدا يولون وجوههم المشرق، ويقف أمراء الراية الخضراء صفا آخر يقابل الصف الأول وجها لوجه، ويقف أمراء راية الأشراف صفا آخر يقابل الشمال فيؤلفون مربعا ينقصه ضلع، كأنه باب يدخل به المهدي وحاشيته، فيمر بجانب الصفوف يحييها قائلا: «الله يبارك فيكم.»
فلما انقضى رمضان تلك السنة قال محمد أحمد إنه قد أوحي إليه في الرؤيا (الحضرة) أن ينزل لمحاصرة الخرطوم، فبعث إلى أبي عنقر وكان قد أرسله في مهمة إلى جبل الدير وأوعز إلى كل أمير أن يجمع رجاله للخروج على الخرطوم، فلما تكامل الجمع زحف المهدي برجاله من الرهد في 22 أوغسطس (آب) سنة 1884 في ثلاث فرق سارت كل منها في طريق، أعظمها الفرقة التي فيها المهدي وخلفاؤه فهذه سارت على طريق حملة هيكس السيئة الحظ؛ أي من الرهد فشركلا فالدويم، وكان في هذه الفرقة سلاتين باشا بمعية التعايشي، فلما وصلوا شركلا جاءهم غريب أمسكوه أسيرا فوقف بين يدي التعايشي وسلاتين يترجم بينهما فإذا هو فرنساوي واسمه أوليفيه باين، قال: إنه جاء من قبل دولة فرنسا يعرض مساعدتها على المهدي ليقهر الإنكليز، فأبقاه التعايشي في جملة الأسرى ريثما يقيمون فينظر في أمره، ولكن الرجل مرض من سوء المعاملة واشتدت عليه الحمى فمات في أثناء الطريق قبل أن تصل الحملة إلى الخرطوم.
أما الحملة فوصلت جوار الخرطوم في أواسط أكتوبر سنة 1884 فعسكرت على مسافة يوم منها، وهناك بعث المهدي إلى سلاتين وأمره أن يكتب إلى غوردون يدعوه إلى التسليم ويقول له: إن المهدي حق، وإن عبد القادر (يعني سلاتين) نفسه يكون أول المحامين له، فاستأذن سلاتين المهدي، قائلا: «أخاف إذا كتبت إليه ذلك أن يستغشني، فأرى أن أنصح له بالتسليم للإمام المهدي؛ لأن جنوده مظفرة لا تقوى جنود الخرطوم عليها، وأن أتوسط في أمر تسليمه إليكم.» فاستحسن المهدي الرأي، فذهب سلاتين إلى خيمته وهو لا يصدق أنه سيكتب إلى غوردون، فكتب إليه كتابا طويلا عريضا بالنمساوية؛ (لأنه لا يعرف الإنكليزية جيدا)، شرح فيه حكاية تسليمه دارفور والأحوال التي قضت عليه بذلك، وقال: إن الأسرى المقيمين مع المهدي هم على ولاء الحكومة يسلمون لها ويضربون بسيفها حالما يتاح لهم ذلك، وأوعز إليه أن يخبره عن حاله بالخرطوم ، وأن يكتب إليه كتابا في العربية يطلب فيه مقابلته في أم درمان للنظر في شروط التسليم، وكتب كتابا آخر إلى هنزل قنصل النمسا بمثل هذا المعنى، وجاء بالكتابين إلى المهدي فأمره أن يرسلهما مع أحد خدمه إلى أم درمان، ولم يكد يسير الرسول حتى جاء خيالة من بربر ينبئون المهدي بمصاب ستيوارت ومن كان معه، وجاءوا بالأسلاب وفيها كثير من الأوراق، فبعث المهدي إلى سلاتين ليخبره بما في تلك الكتب، فقلب فيها وقال: إنها كتب خصوصية أرسلها بعض أهل الخرطوم إلى أهلهم في مصر وغيرها. ورأى تقارير غوردون نفسها وعرف خطه فتأسف أسفا لا مزيد عليه، ولكنه أظهر الجلد، فقال له المهدي: «اكتب الآن إلى عمك (يريد غوردون) أن مركبه قد كسر ورجاله قتلوا، وأرسل إليه هذا التقرير تأييدا لذلك؛ فأظنه إذا تحقق الأمر أسرع إلى التسليم.» فكتب سلاتين إليه وإلى القنصل كتابين آخرين وأرسلهما مع خادمه إلى أم درمان، وكان في مكان أم درمان إذ ذاك طابية من طوابي الخرطوم اسمها «طابية أم درمان» أو «طابية رجب بك»، فعاد الخادم من عند القنصل هنزل بجواب مقتضب لم يشف غليلا، فارتاب المهدي بنية سلاتين فأمر بتقييده فأثقلوه بالحديد وحجزوا عليه في خيمة منفردة.
وبعد قليل زحف المهدي برجاله وأحمالهم وأثقالهم ودوابهم فضربوا نقارتهم وساروا حتى أشرفوا على الخرطوم وسلاتين معهم ، فعسكروا هناك تحت راية التعايشي، وسار الأمراء الآخرون يبحثون عن مكان آخر يعسكرون فيه، ثم أمر المهدى أن يحدق جنده بالخرطوم ويشددوا الحصار عليها، فأمر أبا جرجا وولد النجومي أن يحاصراها برجالهما من البر الشرقي للنيل الأبيض عند مكان اسمه كلاكلا وأمر أبا عنقر (أو أبو عنقة) وفضل المولى أن يحاصرا طابية أم درمان على البر الغربي، وما زالوا محاصرين تلك الطابية حتى فتحوها في 15 يناير سنة 1885، وهي أول طابية فتحوها من حصون الخرطوم، ويؤخذ من تقرير كتبه الشيخ المضوي أحد قواد المهدي في ذلك الحصار أن المهدي كان عازما أن يشدد الحصار على الخرطوم حتى تسلم من الجوع كما فعل بالأبيض، وأن رجال ولد النجومي وحدهم بلغوا عشرين ألفا، فربما كانت قوة الدراويش كلها هناك ستين ألفا أو سبعين وأكثر.
فلنعد إلى الخرطوم ولنشرح حالها أثناء الحصار. قلنا: إن غوردون وصل الخرطوم في 18 فبراير سنة 84، ولكنه لم يقض فيها شهرين حتى نفدت النقود من خزينتها فاصطنع نقودا من الورق بفئات متفاوتة يتعامل بها الناس إلى أجل مسمى، وقد شاهدنا كثيرا منها عند وصولنا المتمة سنة 1885، وفي الشكل
10-7
صورة أجداها برسمها الأصلي تماما.
شكل 10-7: نقود غوردون.
على أن ذلك قلما خفف من ضيق أهل الخرطوم ونزلائها؛ فإنهم ما انفكوا يشعرون بالضغط يوما بعد يوم، والحصار يزيدهم تضييقا حتى أصبحوا محاطين بالعدو من كل جهة، وقل زادهم أو نفد وجاعوا، وغوردون يصبرهم ويعدهم بقرب وصول الحملة الإنكليزية لإنقاذهم، ولكنها تأخرت كثيرا فمل الناس الانتظار، واشتد الجوع حتى أكلوا لحوم القطط والكلاب، ومضغوا سعف النخل وجذور الذرة، كل ذلك وهم واثقون بوعد غوردون ولكنهم كادوا يسيئون الظن به أخيرا.
أما الحملة الإنكليزية التي أقروا على إرسالها لإنقاذ غوردون فبرحت مصر في أوائل الخريف وعدد رجالها ستة آلاف من نخبة الجند الإنكليزي وأكثر قوادها من الأشراف، فقد تسابق الإنكليز إلى الانتظام في سلك هذه الحملة؛ لزعمهم أنها عبارة عن «فسحة» على النيل، فلم يصل من رجالها إلى كورتي إلا بعضهم وتفرق الباقون في نقط خط الاتصال، ومن كورتي سارت حملة في عطمور صحراء بيوضة إلى المتمة بقيادة الجنرال ستيوارت، والقصد بها سرعة الوصول إلى الخرطوم، وسارت حملة أخرى على النيل إلى بربر بقيادة الجنرال. وكنا ممن سار برفقة حملة العطمور فشهدنا وقائعها وسمعنا إطلاق مدافعها ورنات قنابلها ورصاصها، وترى تفصيل ذلك في كتابينا «تاريخ مصر الحديث» و«رواية أسير المتمهدي»، فقطعت الحملة جدكول إلى أبي طليح فلاقاها العرب على تلك الآبار فحصلت بين الفريقين واقعة شفت عن انهزام العرب فتعقبهم الإنكليز إلى المتمة، وهناك حصلت واقعة أخرى انهزم بها الدراويش أيضا وعادوا على أعقابهم، وقبيل هذه الواقعة أصيب الجنرال ستيوارت برصاصة في أحشائه ، وأحيلت القيادة إلى السير شارلس ولسن فنزلت الجنود الإنكليزية على ضفاف النيل في مساء 18 يناير سنة 1885 بعد أن قضت 13 يوما في الصحراء، واسم مكان الواقعة أبو كرو، ونزل الجند بعد الواقعة في مكان اسمه القبة والإفرنج حرفوه فجعلوه (جوبات).
وكان غوردون قد أنفذ إليهم أربع بواخر كانت في مياه الخرطوم ليستعينوا بها في الوصول إليه وبعث يقول لهم: إنكم إذا لم تصلوا إلينا في بضعة أيام ذهبنا هباء منثورا، وقد علم السير شارلس بذلك في 21 يناير وكان يحب أن يبادر حالا إلى الخرطوم بدلا من أن يقضي أربعة أيام بجوار المتمة بلا داع، فغادرها في 24 يناير سنة 1885 على باخرتين لم تصلا الخرطوم إلا في 28 منه وكانت قد سقطت وقتل غوردون في 26 منه فعاد السير شارلس كاسف البال ولم يصل المتمة إلا بعد شق الأنفس؛ لأن باخرتيه انكسرتا وأصابه من الخطر ما لا محل لتفصيله هنا.
شكل 10-8: دلالات الأرقام في خريطة الخرطوم: (1) الحكمدارية. (2) السراي. (3) حواصل الحنطة. (4) الترسخانة. (5) القشلاق. (6) طابية بوري. (7) مخازن البارود. (8) قرية توتي. (9) الطابية البحرية. (10) السراي الشرقية.
أما كيفية سقوط الخرطوم فعلى ما يأتي: من تأمل هذه الخارطة (ش
10-8 ) علم أن الخرطوم واقعة موقعا طبيعيا حصينا للغاية؛ فهي محاطة من الشمال والغرب بالنيل ومن الجنوب والغرب بسور منيع، وراءه من الخارج خندق عميق والجند قائمون على السور ليلا ونهارا، وترى بين بنايات الخرطوم وسورها أرضا لا بناء فيها.
وقد ذكرنا أن المهدي حاصر الخرطوم وشدد الحصار عليها لكي تسلم من الجوع، فلم تمض مدة حتى أنبأه جواسيسه أن حملة الإنكليزية قادمة لإنقاذ الخرطوم وغوردون، فبعث إليها جندا لاقاها في أبي طليح تحت قيادة موسى ولد الحلو وأبي صافية فعادت خاسرة، فأرسل جندا آخر إلى أبي كرو بقيادة نور عنقرة فانكسر أيضا كما تقدم، فلما بلغه خبر انكسار رجاله أراد التمويه على أتباعه فأمر بإطلاق مائة قنبلة وقنبلة، وهي إشارة النصر عندهم، فاطمأن الدراويش، ولكن محمد أحمد جمع أمراءه وخلفاءه في جلسة سرية، وقال لهم: إن الحضرة جاءته (أي رأى رؤيا روحية) فأوحت إليه أن يهاجر إلى الأبيض، فاعترضه الأمير محمد عبد الكريم قائلا: «إن الهجرة ميسورة لنا كل حين والطريق إلى الأبيض مطلق لنا، فلنهاجم الخرطوم أولا فإذا امتنعت علينا هاجرنا إلى الأبيض، وإذا فتحناها فلا يقوى الإنكليز ولا غيرهم على أخذها منا.» فاستحسن المهدي رأيه وصبر بضعة أيام وهو يستقصي أخبار الإنكليز وحركاتهم، وفي 25 يناير بلغه قيام الباخرتين من المتمة فأقر الرأي على مهاجمة المدينة في صباح اليوم التالي (يوم الإثنين في 26 يناير سنة 1885) فبعث المهدي إلى القوات المحاصرة يقول: إنه علم بالوحي أن الله جعل أرواح أهل الخرطوم كلها في قبضته.
وفي مساء ذلك اليوم 25 منه قطع المهدي النيل الأبيض من أم درمان، وكل من أراد الجهاد معه ونزل إلى معسكر ولد النجومي في كلاكلا، وتلا هناك خطابا حث رجاله فيه على الجهاد وأوصاهم ألا يقتلوا غوردون باشا، ويقول سلاتين باشا: إن غرضه من ذلك بقاء غوردون أسيرا حتى يفتدي به أحمد عرابي المنفي في سيلان، فلما أتم خطبته عاد ببطانته إلى أم درمان.
وفي الصباح التالي 26 منه الساعة الأولى بعد نصف الليل زحف الدراويش من كلاكلا بقيادة ولد النجومي وانقسموا فرقتين: فرقة تهاجم السور بين النيل الأبيض وباب المسلمية وفرقة تهاجمه من ناحية بوري (انظر شكل
10-8 )، وكان السور بين باب المسلمية والنيل الأبيض قد تهدم بعضه مما يلي النيل لمجاورته أرضا يغمرها ماء النيل في فيضانه ترى حدودها في الخارطة منقطعة، وكان الماء قد انحسر عنه إذ ذاك وتهدم بعضه فتكونت فيه ثغور دللنا عليها بتقطيع السور هناك إلى نقط، فعول الدراويش على أن يدخلوا المدينة من تلك الثغور على أنهم إذا فازوا بالدخول منها عدلوا عن الهجوم من جهة بوري، ودخل القسمان معا من جهة النيل الأبيض.
فزحفوا سكوتا حفاة تحت جناح الليل لا تسمع لهم حركة حتى صاروا عند تلك الثغور فردموا الخندق ووسعوا الثغور وصاحوا صياح الحرب قائلين: «في سبيل الله» ودخلوا يزاحم بعضهم بعضا، وقد غاصوا في الأوحال إلى الركب، فبغتت الحامية فأطلقت بعض الطلقات، وكان فرج باشا على باب المسلمية فما انتبه إلا وقد قضي الأمر ولم تبق فائدة بالدفاع، ففتح الباب وسلم، فانهال الدراويش على المدينة كالصواعق وهم ينادون «للكنيسة ... للسراي»، وأمعنوا في الأهالي المساكين قتلا ونهبا لم يبقوا ولم يذروا. وسار بضعة منهم إلى السراي حيث يقيم غوردون، وكان قد يئس من قدوم الحملة وبات تلك الليلة حوالي نصف الليل، ولم يكد يغمض جفنه حتى سمع إطلاق النار فصعد إلى سطح السراي وأشرف على الأسوار فرأى العرب قد دخلوا السور ولم يعد باليد حيلة، فلبس ثيابه وتقلد سلاحه وهم بالنزول فلاقاه ثلاثة من الدراويش عند أعلى السلم، فسأل أولهم قائلا: «أين سيدك المهدي؟» فأجابه بطعنة قاضية، وضربه آخر بالسيف فخر قتيلا لم يبد دفاعا، ويقال إن قتلته من رجال ولد النجومي، ولم يكن ولد النجومي معهم فجاء بعدئذ فساءه قتله، فأمرهم بجر جثته إلى باحة السراي وأن يقطع رأسه ويحمل إلى المهدي في أم درمان، فحملوه إليه في منديل كبير في الساعة الأولي من النهار، وكان سلاتين مقيدا في خيمته بأم درمان وقد سمع إطلاق المدافع وعلم بهجوم العرب على الخرطوم، ثم سمع بفتحها فوقف حزينا كئيبا، فمر حاملو رأس غوردون به وبينهم رجل اسمه شطا كان يعرفه سلاتين قبلا، فكشف له عن رأس غوردون، وقال: «أليس هذا رأس عمك الكافر؟» كما ترى في الرسم ش
10-9 .
فأثر ذلك المنظر في سلاتين كثيرا، وكان قد هزل جسمه من الأسر والخوف وكاد يغمى عليه، ولكنه تجلد، وقال بصوت ضعيف: «إنه مات في سبيل الدفاع عن واجباته، هنيئا له فقد استراح من متاعبه.» فقال له شطا ضاحكا: «أتمدح الكافر، سوف تلقى ما لقيه قريبا.» فتأمل حال سلاتين إذ ذاك.
شكل 10-9: رأس غوردون يريه الدراويش لسلاتين باشا.
ثم حملوا الرأس إلى المهدي فأظهر كدره لذلك، ولكن سلاتين يظن أن المهدي لو أراد أن يبقي عليه وأوصى رجاله بذلك ما استطاع أحد مخالفة أوامره.
هكذا سقطت الخرطوم عاصمة السودان في أيدي الدراويش وبسقوطها سقط كل أمل بافتتاحها، ولكن المهدي لم يقم فيها بل أقام في أم درمان، وبنى هناك مدينة جعلها عاصمة ملكه من ذلك الحين.
أما الحملة الإنكليزية فإنها انسحبت من المتمة إلى كورتي فأقامت هناك مدة ثم عادت إلى دنقلا فمصر، وسحبت معها كل من أراد مرافقتها من سكان السودان شمالي كورتي وأصبحت السودان من ذلك الحين مملكة المهدي السوداني. (4-1) موت المهدي وخلافة التعايشي
فلما فتحت الخرطوم وعادت الحملة الإنكليزية إلى مصر ازداد الناس وثوقا بدعوى المهدي مع ما شاهدوه من توفيقه في مشروعاته؛ فإنه لم يشهد موقعة إلا انتصر فيها، ولا حاصر مدينة إلا فتحها (تقريبا) وإذا اعتبرت ما لاقت الحملة الإنكليزية القادمة لإنقاذ غوردون من العراقيل والعوائق عجبت لما اتفق لمحمد أحمد هذا من غرائب التوفيق، فاتخذ أشياعه ذلك دليلا على أنه إنما يعمل بوحي من الله، وأيقن هو أنه أصبح المالك المتصرف في السودان من أقصائه إلى أقصائه، وخيل له أنه سيفتح الأمصار ويخضع له الملوك والسلاطين فتنتشر سلطته في الخافقين، على أنه لم يكن يرجو أن يتم ذلك كله على يده، ولكنه كان يقول إنه لن يموت إلا بعد فتح الحرمين وبيت المقدس ثم ينزل الكوفة ويموت فيها، ولكن ساء فأله؛ فإنه لم يكد يؤيد سلطته ويقيم في عاصمته (أم درمان) بضعة أشهر حتى داهمته الوفاة في 21 يونيو سنة 1885 على أثر إصابة شديدة بالحمى التيفوس لم تنجع فيها حيلة، ففارق هذا العالم على عنقريب (سرير سوداني) وحوله خلفاؤه الثلاثة وخاصة أمرائه، منهم أحمد ولد سليمان، ومحمد البصير، وعثمان ولد أحمد، والسيد المكي، فلما شعر المهدي بدنو الأجل قال لمن حوله بصوت منخفض: «إن النبي
صلى الله عليه وسلم
اختار الخليفة عبد الله خليفة الصديق خليفة لي، وهو مني وأنا منه، فأطيعوه ما أطعتموني. أستغفر الله.» ثم تلا الشهادتين وجعل يديه متقاطعتين على صدره وتمطط وأسلم الروح.
ولم يكد يخرج النفس الأخير من أنفاسه حتى تقدم الحضور فبايعوا عبد الله وسموه «خليفة المتمهدي» وكان في جملة من حضر موت المهدي امرأته عائشة ويدعونها «ستنا أم المؤمنين»، فسارت لإبلاغ خبر وفاته إلى نسائه الأخريات وتعزيتهن، وكان الناس قد تجمهروا مئات وألوفا حول المنزل ينتظرون الخبر عن سيدهم ومهديهم، فلما علموا بموته ضجوا وصاحوا، فأوعز إليهم أن البكاء والندب حرام؛ لأن المهدي إنما فارق مقامه في الأرض بمجرد إرادته ليلقى وجه ربه، فغسلوا الجثة ولفوها بالأكفان واحتفروا لها حفرة في تلك الغرفة حيث فارقتها الروح، ودفنوها وجعلوا فوقها بعد ذلك مقاما من الخشب يغشاه ستر أسود، وبنوا فوقه قبة، وسموا ذلك المقام «قبة المهدي»، يزورها الناس للتبرك، واحتفروا بجانب القبة بئرا يستقي الزائرون منها للشرب والوضوء، وحول القبة درابزون من خشب (ش
10-10 ).
وكان سلاتين باشا قد نال العفو من المهدي قبل وفاته، فحلت قيوده وعاد إلى معية التعايشي، فشاهد تلك الحوادث شهادة عين، ووصفها في كتابه «السيف والنار والسودان» وصفا تاما.
شكل 10-10: قبة المهدي وفيها قبره.
فبعد دفن المهدي سار خليفته عبد الله إلى الجامع وخطب في الناس، وأنبأهم بوفاة المهدي، فبكى وبكى الناس، ثم أوصاهم بالطاعة والاتحاد للعمل بأوامره، وبعد الخطبة تقدم الناس لمبايعته، فتلوا صورة المبايعة التي ذكرناها قبل الآن، ولكنه غير العبارة الأولى منها فجعلها: «بايعنا الله ورسول الله ومهدينا وبايعناك على توحيد الله ... إلخ.» (5) أوصاف المهدي
كان طويل القامة، عريض المنكبين، أسمر اللون فاتحه، قوي البنية، وكان أول قيامه بدعوته ربع القامة، فأصبح في أواخر أيامه سمينا ضخما، وكان كبير الرأس، عريض الجبهة، حاد العينين أسودهما، خفيف اللحية أسودها، وعلى خديه آثار الأخاديد العرضية، ثلاثة من كل جانب كسائر الدناقلة أبناء قبيلته، وكان متناسب الأنف والفم، لا ينفك مبتسما فتظهر أسنانه وبين الأماميتين منها فلجة تشبه الثمانية (8) تعد عند السودانيين وغيرهم من المشارقة علامة السعد، ويقال لصاحبها: أفلج، وكان ذلك من جملة ما حبب المهدي إلى النساء وكن يسمينه (أبو فلجة).
وكان يلبس جبة بيضاء قصيرة مضربة، تراها دائما مغسولة نظيفة، مطيبة برائحة خشب الصندل والمسك وعطر الورد، وكان مشهورا بين أتباعه بهذه الرائحة حتى نسبوها إليه فسموها «رائحة المهدي»، وذكر بعضهم خالا كان في خده ادعى أنه من علامات المهدية.
وقد علمت من تدبر ترجمة حاله أنه كان نبيها مدبرا، رضي الخلق، حسن السياسة، ماهرا في التأثير على عواطف الناس، إذا تكلم ظهر للسامعين أن جوارحه كلها تتكلم، فإذا ذكر مآثم بني الإنسان أو وصف النعيم المقبل أو حث على الجهاد بكى وتخشع وأبكى السامعين، ويظهر من مجمل سيرة حياته أنه صبور على البلوى، كاظم للغيظ، مسالم للأحزاب، محسن إليهم، راغب في امتلاك قلوبهم باللطف وحسن الأسلوب، وكان ذلك من أكبر العوامل في نشر دعوته وقيام الناس بنصرته، ولو أمد الله في أجله لكان فتح السودان صعبا على الجنود المصرية؛ نظرا لاستهلاك قواده في سبيل نصرته. أما خليفته فكان على غير خلقه من اللين والدعة والمسالمة إلى حد هاج غيرة الخليفتين الآخرين وغيرهما من الأمراء، فقام الشقاق بين الدراويش، فضعفت عزائمهم، وفسدت أمورهم، وتضعضعت أحوالهم، وسهل الفتح على المصريين. (6) تعاليمه
ذكرنا فيما تقدم ما كان من أعماله الحربية منذ ظهوره إلى وفاته، فنقتصر الآن على ذكر ما أحدثه من التعاليم والتقاليد بين مسلمي السودان: (1)
علم الزهد في الدنيا وملذاتها، ونبذ المجد الدنيوي، فأبطل الرتب والألقاب الرسمية وغير الرسمية، وساوى بين الغني والفقير، وفرض على أتباعه لباسا واحدا يمتازون به ويدل على تزهدهم وهو الجبة المرقعة.
شكل 10-11: دراويش المهدي. (2)
جمع المذاهب الأربعة (المالكي والشافعي والحنفي والحنبلي) ووحدها بتسوية بعض ما بينها من الخلاف وإلغاء البعض الآخر، واختار آيات من القرآن الكريم تتلى كل يوم بعد صلاة الصبح وصلاة العصر سماها «الراتب»، وسهل طرق الوضوء. (3)
حرم الاحتفال بالأعراس احتفالا يدعو إلى النفقة، ومنع شرب الخمر وغيرهما مما يتناولونه في الأعراس، وخفض مهر الزواج فجعله عشرة ريالات وبدلتين للبكر، وخمسة ريالات وبدلتين للثيب، وجازى من يخالف ذلك بسلب أمواله كلها، وأبدل ولائم الأعراس بطعام من التمر واللبن، فتسهلت بذلك وسائل الزيجة على الفقراء، وقد كانت نفقات العرس الباهظة حائلة بينهم وبين الاقتران. (4)
أبطل الرقص واللعب، ومن رقص أو لعب فقصاصه الجلد وأخذ أمواله، وترى تفصيل ذلك في منشور المهدي الذي تقدم نشره. (5)
منع الحج إلى الحرمين خوفا على قواته من التفريق وتعاليمه من الضياع؛ لعلمه أنها تخالف تعاليم أهل الإسلام، ووضع قصاصا على من يشك في دعوته أو يتردد في تنفيذ أوامره أن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى، ويكفي لثبوت الدعوى عليه شهادة شاهدين، وقد يكفي أن يدعي علمه ذلك بالوحي. وتأييدا لدعوته أحرق كل كتاب أو ورقة تخالف هذه التعاليم.
شكل 10-12: نقود المهدي.
وقد ضرب المهدي نقودا باسمه ترى صورة قطعة فضية منها بحجمها الطبيعي (شكل
10-12 )، على أحد وجهيها اسم المدينة التي ضربت فيها «أم درمان» وعند أسفل ذلك تاريخ 1304ه، وهي سنة استقلالهم بالأقطار السودانية، وإلى أعلاها رقم واحد يقصدون به السنة الأولي من سلطانهم، وعلى الوجه الآخر ما يشبه الطغراء، يقرأ منها كلمة «مقبول»، كأنهم يريدون بها أن هذه النقود مقبولة عند حكومتهم، وعند أسفل الطغراء يقرأ سنة 5 ربما يقصدون بها السنة الخامسة من ظهور المهدي أو هجرته. (7) دولة الدراويش
هذا ما كان من أمر محمد أحمد المهدي زعيم هذه الثورة، فقد مات وقلبه عالق بما أوتيه من النصر؛ لأنه غرس غرسا ولم يذق ثمر غرسه، فترك تلك الشجرة وقد آن إثمارها لأقوام اختلفوا على اقتسامها، وتوكئوا على أغصانها حتى كادوا يكسرونها؛ فقد تولى التعايشي الخلافة وهو يخاف مناظرة الخليفتين الآخرين ويخشى أحزابهما، على أن الأعمال الحربية ما زالت في بادئ الرأي سائرة بقوة الاستمرار كما كانت على عهد المهدي.
وكان المهدي قد بعث أمراءه على الأنحاء لبث دعوته وتأييد سلطته وحث الناس للمهاجرة إلى أم درمان، فسعى خالد في دارفور فأتم إخضاعها، وسار أبو عنقر (أو أبو عنقة) إلى كردوفان، وكانت قد سلمت إلى المهدي إلا سكان الجبال الجنوبية منها فأخضع بعضهم وبقي البعض مستقلا. أما ما بقي من السودان الغربي من ضفاف النيل الأبيض إلى حدود وداي فقد دانت للمهدي برمتها.
أما في السودان الشرقي فما زالت سنار وكسلا محاصرتين، وقد دافعت حاميتهما دفاعا حسنا حتي اضطرت إلى التسليم، فلم تنقض سنة 1885 حتى بلغ نفوذ المهدي وسلطته جنوبا إلى لادو من مديرية خط الاستواء، ولم يبق من السودان في حوزة الحكومة المصرية إلا سواكن وحدها.
واتفق في أثناء حصار سنار أن القوة المحاصرة لها كانت تحت قيادة الأمير عبد الكريم وهو من أقارب المهدي، فدافعته حامية سنار فأنفذ التعايشي ولد النجومي وهو من أعظم قواد الدراويش، ففتحها في أوغسطس سنة 1885، فبعث التعايشي إلى عبد الكريم أن يأتي هو ورجاله إلى أم درمان، وكان قد أخذ معه لحصار سنار الجنود السودانية بلواء الخليفة الشريف، وهو من أقارب المهدي أيضا، فلما فتحت سنار على يد ولد النجومي، ثم دعي عبد الكريم إلى أم درمان حمل عبد الكريم ذلك من التعايشي محمل الإهانة، له وذاع على الألسنة إذ ذاك أن عبد الكريم قال لو ضمت إليه رجاله ورجال الخليفة الشريف لأخرج الخلافة من يد التعايشي ودفعها إلى الخليفة الشريف؛ لأنه أولى بها من ذاك. فبلغ ذلك الكلام مسمع التعايشي، فبعث إلى أخيه يعقوب وهو عمدته وقائد جنده وأخبره الخبر، وأوصاه أن يكون الجند على استعداد عند وصول عبد الكريم، فلما وصل عبد الكريم لاقاه التعايشي بالتحية والتهنئة وأثنى على ما بذله في حصار سنار ثم شرفه وبعث إلى الخليفتين وسائر الأشراف (أقارب المهدي) فأدخلهم غرفة داخلية، ولما استتب بهم المقام أمر كاتبه فتلا عليهم منشورا كان قد كتبه المهدي في الأبيض يحرض أتباعه به على طاعة التعايشي.
فلما تمت تلاوة المنشور، قال لهم عبد الله: إن عبد الكريم خائن، فأنكروا ذلك عليه ودافعوا عن صداقته وأمانته، فتظاهر بالعفو عنه، ولكنه اشترط إخراج الجنود السودانية من قيادته إلى قيادة أخيه يعقوب، فقبل الشريف وسائر الأقارب بالرغم منهم ثم أشار التعايشي إلى الخليفة علي ولد الحلو بطرف عينه أن يجددوا المبايعة ويمين الطاعة فوضعوا أيديها على القرآن، وأقسموا أن يسلموا الجنود السودانية وأن يحافظوا على الطاعة، ولا ريب أن الشريف ورجاله فعلوا ذلك بالرغم منهم وفي أنفسهم حزازات يودون لو أنهم يذهبون بحياة التعايشي، وكانت تلك الحادثة أمثولة ذات بال أصبح بها مقاوموه مقصوصي الأجنحة لا يستطيعون حراكا ولكنهم حقدوها عليه، وأخذ كل من الفريقين ينظر إلى الآخر بعين الحذر، على أن الظواهر كانت تدل على اتحاد وارتباط متينين. أما التعايشي فما انفك يدعو الناس من الجهات البعيدة للمهاجرة إلى أم درمان ليعمرها ويحشد فيها قوة عظمى يستعملها عند الحاجة.
وفي أثناء ذلك تعدى بعض السودانيين على الأحباش في بلاد الحبشة، وأخربوا كنيسة من كنائسهم، والتجأ المعتدون إلى قلابات، وهي في بلاد الدراويش مما يلي حدود الحبشة، فحماهم حاكم المدينة، فجاء الأحباش بجند كبير تحت قيادة الرأس عادل وأخربوا البلدة وأحرقوها حتى صارت قفرا يأوي إليها الضباع والذئاب، وساقوا الأولاد والنساء أسارى إلى الحبشة، فبلغ التعايشي ذلك، فكتب إلى يوحنا نجاشي الحبشة إذ ذاك أن يرسل الأسرى ويعين الفدية التي يريدها عنهم، ولكنه بعث أيضا يونس أحد قواده بجند إلى قلابات، وأمره أن يحصنها ويقيم فيها حتى يأتيه أمر آخر، وبعث ولد النجومي إلى دنقلا وأبا جرجا إلى كسلا، وكتب إلى عثمان دقنة يؤمره على السودان الشرقي بين كسلا وسواكن؛ أراد بذلك كله أن يثبت سلطته على تلك الأماكن، وأخذ من الجهة الأخرى ينظم حكومته في أم درمان، ففرض ضريبة سماها «فطرة» تدفع بانقضاء عيد الفطر، لا يعفى من دفعها أحد كبيرا كان أو صغيرا، وأخذ في تنظيم المالية وعهد بذلك كله إلى إبراهيم عدلان فوضع أنواع الضرائب واتخذ كل وسيلة يمكنه اكتساب المال بها وفي جملة ذلك تجارة الرقيق.
وفي أواسط سنة 1886 عاد أبو عنقر إلى أم درمان ومعه الغنائم والأسلاب، فاحتفلوا باستقباله احتفالا عظيما حضره التعايشي وسائر الخلفاء والأمراء وضربت به الطبول وغيرها.
وبعد قليل جاء التعايشي نبأ أن يونس في ضيق، فبعث أبا عنقر يتولى قيادة الدراويش في قلابات، فسار في جنده وأنقذه من ضيقه، وسبب ذلك الضيق أن بعض رجال يونس ادعى أنه عيسى المسيح والتف حوله تلامذة كثيرون، بعضهم مؤمن به والبعض الآخر تبعوه نكاية في يونس لأحقاد بينهم وبينه، فلما وصل أبو عنقر قبض على 11 أميرا ظهر له أنهم تآمروا على قتل يونس، وبعث إلى الخليفة يستشيره في أمرهم فبعث إليه أن يقتلهم، ثم ندم فبعث أن لا يفعل ولكن سبق السيف العزل.
وكان جند أبو عنقة إذ ذاك أكبر جند اجتمع في حوزة الخليفة عبد الله مؤلفا من 15 ألفا من حملة البنادق و45 ألفا من حملة الرماح والنبل وثمانمائة فارس، فجمع أبو عنقر هذه القوة وسار نحو رأس عادل لينتقم منه، فوفق في هذه الحملة على غير انتظار وتغلب على رجال رأس عادل وأخرجهم من محلتهم، واستولى على الخيم والمؤن وكل الأمتعة، وأسر امرأة رأس عادل وابنته وكأنه بهذه الغلبة قد فتح كل مقاطعة أمحرة، فسار توا إلى غندور على أمل أن يلاقي فيها خزائن وأموالا فلم يجد شيئا، فأحرق البلدة وعاد وهو ينهب ويسلب كل ما مر به بطريقه، حتى ساقوا أمامهم قطيعا من نساء الأحباش وأطفالهم سوق الأغنام، فلما وصلوا قلابات بعثوا الأسرى إلى أم درمان، فأخذ الخليفة خمسهم وضموا الباقي إلى بيت المال وقد مات منهم في الطريق مئات من الجوع والتعب، وأصبح الطريق بين قلابات وأبي حراز مملوءا بجثث أولئك المساكين وفي جملتها جثتا ابنة رأس عادل وابنه.
وبعث التعايشي إلى أبي عنقر أن يحصن قلابات؛ لأن الأحباش لا يتقاعدون عن الانتقام، ولكن المنية عاجلت أبا عنقر فمات شابا لم يتجاوز 32 سنة من عمره.
ثم ما لبث النجاشي يوحنا ملك الحبشة أن جند للانتقام من الدراويش على خراب غندر، فحمل بجند كبير على قلابات، وكانت جنود أبي عنقر لا تزال هناك ولم تفقد إلا قائدها الأكبر فتأهبوا للدفاع، فوصل النجاشي وعسكر بالقرب من قلابات فانقسم جنده فرقتين هاجمت المدينة من ناحيتين، فدخلت إحداهما المدينة من أثلام في السور واشتغلت بالنهب والقتل، وبقيت الأخرى تهاجم السور من الخارج وفيها النجاشي، وقد وقف يستحث رجاله ويحرضهم على الدراويش فأصابته رصاصة قتلته، فبعد أن كان النصر للأحباش عادت العائدة عليهم فخافوا وتقهقروا في أثناء الليل، فأصبح الدراويش وهم يحسبون لهجمة الأحباش ألف حساب فإذا بالأرض خالية من الخيم، فبعثوا الجواسيس فعلموا أن النجاشي قتل فتعقبوهم، وكان الأحباش قد عسكروا على مسافة نصف يوم من قلابات فباغتهم الدراويش، ففر الأحباش وتركوا المعسكر غنيمة للدراويش، فوجدوا في جملة الغنائم تاج النجاشي يوحنا مصنوعا من الفضة ومحلى بالذهب وسيفه وكتابا مرسلا إليه من ملكة الإنكليز، فحملوا ذلك غنيمة إلى أم درمان. (8) فتح مصر
ومن أغرب مطامع التعايشي فتح مصر وضمها إلى مملكته على حين أن المهدي نفسه لم يجاهر بذلك صريحا، فلما توفي هذا كتب التعايشي كتابا إلى جلالة السلطان، وآخر إلى سمو الخديوي، وآخر إلى ملكة الإنكليز يطلب إليهم جميعا أن يسلموا له ويذعنوا لسلطانه وأرسل الكتب مع رسل خصوصيين إلى مصر، فعاد الرسل ولم ينالوا جوابا غير الاحتقار والازدراء، فشق ذلك عليه وحقده عليهم.
فلما قدر له الفوز على الأحباش حدثته نفسه أن يجرد على مصر فيفتحها ويقيم نخاسا من البقارة أو التعايشة أميرا يتولى حكومتها أو يأتي هو بجلالة قدره من بيته في أم درمان فينصب عنقريبه في سراي عابدين.
ففي أوائل سنة 1889 استشار بعض رجاله في التجريد على مصر فشوقوا إليه سكناها ووصفوا له قصورها وغياضها وأموالها ونساءها، فما أشبه وصفهم هذا بما وصفها به عمرو بن العاص للخليفة عمر بن الخطاب يوم حثه على فتحها قبل ظهور التعايشي بثلاثة عشر قرنا، فتاقت نفس التعايشي إلى فتح مصر ولم ير بين قواده أولى بهذه المهمة من عبد الرحمن ولد النجومي، وكان من أشد الدراويش بطشا، وأصعبهم مراسا، وأكثرهم استهلاكا في نصرة الدعوة، وكان قبل ظهور المهدي تاجرا بين مصر والسودان قد خبر الأرض وعرف الطرق، فأرسله في حملة أكثرها من قبائل الجعالين والدناقلة وغيرهم ممن جاوروا حدود مصر العليا وخالطوا سكان تلك الأقاليم متظاهرا أن قصده بذلك فتح مصر برجال هم أدرى بها من غيرهم، ولكن الحقيقة أنه لم يجهل الخطر الذي يهدد ذلك المشروع فلم يجعل في تلك الحملة أحدا من أقاربه وأبناء عشيرته ولا من قبائل البقارة وغيرهم من عرب غربي النيل الأبيض؛ لأنهم من حزبه فادخرهم لحين الحاجة. أما الدناقلة والجعالين فأكثرهم من حزب الخليفة محمد الشريف، وقد رأيت ما قام بينه وبين التعايشي وما كان من تغير قلبيهما، فما انفك هذا بعد ذلك يعتبر الشريف عدوا له تحت طي الخفاء، فبعث أحزابه في حملته هذه وفي نيته أنهم إذا فتحوا مصر عاد الفخر له واتسعت مملكته، وإذا انكسروا تقهقروا إلى دنقلا وقد ضعف شأنهم وتخلص هو من دسائسهم.
فجعل دنقلا محط رحال تلك الحملة، وأقام يونس ولد الدغيم أميرا على دنقلا يقيم فيها ويدير شئونها، وولد النجومي يقود الحملة ولا يعمل إلا بمشورة يونس.
واتفق في أثناء تجريد تلك الحملة حادث يدلك على ظلم التعايشي وعسفه فتعلم أن دولته لم تقم إلا لأجل قصير؛ لأن الظلم مرتعه وخيم، والحادثة أن التعايشي أمر جماعة من قبيلة البطاحين أن يرافقوا تلك الحملة وفيهم أحمد ولد جار النبي، والبطاحين قبيلة تسكن شمالي النيل الأزرق بين قبيلة الشكرية والنيل مشهورة بالشجاعة والاستقامة من عهد الحكومة المصرية، وكان التعايشي قد استعمل جماعة كبيرة منهم في دنقلا وبربر فلم يروا في أعماله خيرا، فلما أوعز إليهم أن يرافقوا تلك الحملة أبوا، وفر ولد جار النبي فتعقبه بعض رجال الخليفة فجرح واحدا منهم، فشق ذلك على التعايشي، فأنفذ جماعة قبضوا على البطاحين عن بكرة أبيهم إلا نفرا قليلين تمكنوا من الفرار، فجيء بسبعة وستين منهم بنسائهم وأولادهم فأوعز التعايشي إلى القضاة أن يحكموا عليهم فحكموا أنهم مخالفين، عصاة، فقال: «وما قصاص العاصي» قال القضاة: «قصاصه الموت»، فنصب المشانق، وقسم هؤلاء المنكودي الحظ إلى ثلاثة أقسام: قتل قسما بقطع الرأس، وقسما بالشنق، والقسم الثالث أمر فقطعت أطرافهم، وكان ذلك اليوم يوما مشهودا في أم درمان جاء فيه عبد الله على جواده إلى ساحة السوق وحوله ملازموه وفي جملتهم سلاتين باشا ووقفوا لمشاهدة ذلك المنظر المريع، وكان بعض المحكوم عليهم معلقين بالمشانق أزواجا، وأثلاثا، والبعض الآخر مكتوفي الأيدي جاثين أمام الجلادين، وفيهم من قد قطع رأسه وزهقت روحه، ومن قد أصابه السيف بضربة لم تفصل رأسه، فتململ وتوجع في باطن سره لئلا يقال إنه جبان، وفيهم الجاثي مكتوفا ينتظر مجيء الساعة إلى غير ذلك مما يفتت الأكباد. أما هم فكانوا يلاقون الموت بصدور منشرحة، ومنهم من ينادي بأعلى صوته: «هذا هو يوم العيد عندي فمن لم ير شجاعا يقتل فلينظر إلي»، أما التعايشي فدار بجواده حول تلك الساحة ينزه نظره بذلك المنظر حتى قضي الأمر فعاد بموكبه وحاشيته. (9) عود إلى مصر
فلما أعد التعايشي تلك الحملة بعث كتبا أخرى إلى مصر وفيها الإنذار الأخير، فبقي الرسل مدة في أصوان ثم أعيدوا بلا جواب، فبعث التعايشي رأس النجاشي يوحنا إلى يونس أمير دنقلا على أن يرسله إلى وادي حلفا تهديدا للمصريين، وأمر أن يسير النجومي بحملته على مصر فلا يحرك ساكنا في حلفا، بل يهاجم أصوان فإذا فتحها يقيم فيها حتى تأتيه أوامر أخرى.
فخرج ولد النجومي من دنقلا في مايو سنة 1889 في جيش لا نظام له، والحكومة المصرية عالمة بكل حركة من حله وترحاله، وكان سردار الجيش المصري إذ ذاك الجنرال غرانفل باشا المشهور بالتأني وحسن الروية، فضلا عن الرقة ولين الجانب، فحصن حلفا وأصوان وسائر الحدود، فلما دنت حملة الدراويش من أرجين بجوار حلفا اقتربت شرذمة منهم إلى النيل وولد النجومي لا يعلم بها، فخرجت إليها الحامية المصريون بقيادة وودهاوس باشا فكسروها شر كسرة.
وكان غرانفيل باشا قد خرج من أصوان فبعث إلى ولد النجومي يبين خطر موقفه، وينصح له أن يسلم فيسلم فأبى، فسار السردار بجيش معظمه على البر الغربي للنيل، وبعضه على البر الشرقي؛ لأن الدراويش كانوا قادمين على البر الغربي فجرت بينهم وبين الحاميات مناوشات ليست بذات بال حتى وصلوا توشكي، وهناك حصلت الواقعة التي قضت على تلك الحملة، فقتل قائدها وتشتت شملها، وإليك التفصيل. (9-1) واقعة توشكي
توشكي قرية حقيرة على البر الشرقي وبعضها على البر الغربي للنيل بين كروسكو وحلفا على بضعة أميال من هيكل أبي سمبل شمالا مؤلفة من أعشاش صغيرة من الطوب والقش متفرقة على ضفة النيل في مسافة من الأرض على موازاة النيل يبلغ طولها ثلاثة أميال وعرضها منه إلى الصحراء نحو نصف ميل وفيها بعض النخيل.
وفي البر الغربي مقابل توشكي على بعد أربعة أميال منها جنوبا سلسلة تلال عالية من حجر الغرانيت، تمتد من الضفة غربا نحو ثلاثة أميال في الصحراء، وعند طرف هذه السلسلة وإلى جنوبيها كان معسكر الدراويش بقيادة ولد النجومي، وعلى نحو تلك المسافة شمالا سلسلة أخرى، وبين السلسلتين سهل واسع متصل بالصحراء، وفي هذا السهل جرت الواقعة.
وكان السردار مقيما في توشكي، فبعث طلائعه في صباح 3 أوغسطس سنة 1889 باكرا لاستكشاف معسكر، العدو فعادوا وأخبروا بأن العرب يستعدون للمسير، فخرج السردار لمجرد الاستكشاف فلم يكد يشرف على معسكرهم حتى رآهم هاجمين كالجراد، فبعث إلى الجند في توشكي وكان بعضهم لم يتناول طعاما ولا تهيأ للمسير، فساروا بأسرع من لمح البصر، وهم لم يأكلوا بعد ولا حملوا من الماء إلا شيئا قليلا، فعزم السردار إذ ذاك أن لا يكف عن الدراويش حتى يشتت شملهم في ذلك اليوم، وكان قد علم بما كانوا فيه من الضيق والجوع، وهاك أسماء الأرط التي شهدت تلك الواقعة وهي: الأرطة التاسعة بقيادة البكباشي دن، والثالثة عشرة بقيادة اليوزباشي كمستر ، والطوبجية بقيادة البكباشي رندل، فضلا عن البيادة الراكبين، والأورطة الثانية من البيادة جاءت متأخرة، وقال الذين شهدوا واقعة توشكي أن الأرط السودانية عملت في ذلك اليوم أعمالا عجيبة وبالغوا برغبتهم في الحرب حتى عصوا أوامر قوادهم لما دعوهم إلى الكف عنها، والخلاصة أن الواقعة المشار إليها لم تنقض إلى الساعة الثانية بعد الظهر من ذلك اليوم (3 أوغسطس سنة 1889).
وبلغ عدد قتلى الدراويش 1200 قتيل، وزاد عدد أسراهم على أربعة آلاف وفيهم النساء والأولاد، فضلا عن الأسلاب والأعلام والسيوف والرماح، ولم يقتل من الجيش المصري إلا 25 وجرح 140.
ووجد بين قتلى الدراويش إذ ذاك أعظم أمراء تلك الحملة ما عدا عثمان الأزرق، وعلي ولد سعد ، وحسن النجومي، وميرغني سوار الذهب، وشيخ الأبيض، فقد نجا هؤلاء بنحو ألف وأربعمائة شريد وهم الذين استطاعوا الفرار من تلك الموقعة فقط. أما ولد النجومي فقد قتل وحز رأسه وجيء به إلى السردار.
فكان ذلك النصر نصرا مبينا سر المغفور له الخديوي السابق فبعث إلى السردار يهنئه به لعلمه أنه أمثولة علمت التعايشي ما لم يكن يعلم، أما الذين قتلوا من الجنود المصرية فابتنوا لهم مقاما قرب مكان الواقعة ضموهم إليه، وبنوا فوقه قبرا نقشوا فوقه باللغة العربية حفرا على واجهة القبر كتابة هذا نصها:
شيد هذا الأثر تذكارا لواقعة توشكي التي حصلت في 6 ذي الحجة سنة 1306ه وانهزم فيها جيش العصاة السوداني المرسل تحت إمرة عبد الرحمن ولد النجومي، فتشتتوا بعد قتل أميرهم، وكان الجيش المصري تحت قيادة سعادة السردار غرانفل باشا، وفي هذا القبر دفنت جثث العساكر المصرية الذين استشهدوا بالميدان.
وبعيد الواقعة سار الخديوي السابق في بعض رجال معيته لتفقد أحوال الحدود، فركب إلى مكان تلك الواقعة، ووقف أمام قبر شهدائها يتأمل ما أظهره جنده من البسالة في ذلك القتال، وقد نشرنا رسمه رحمه الله واقفا أمام ذلك القبر وقد أسند رأسه على كفه متأملا (انظر الشكل
6-2 ). (9-2) قحط عظيم
وكان خبر ذلك الانكسار صدمة قوية على الدراويش في أم درمان، فعرفوا قدرهم ووقفوا عند حدهم ، ولكنهم لم يكادوا يتخلصون من عواقب تلك الكسرة حتى داهمهم قحط غلت فيه أثمان الحنطة، وقل الزاد واشتدت وطأة الجوع على الفقراء حتى أكلوا سيور الجلد التي يشدون بها مقاعدهم، فكثر النهب وازداد الضغط، وقد بالغ سلاتين باشا في وصف هذا الجوع وحال الجائعين، ومما حكاه قوله: «خرجت في ليلة مقمرة، وبينما أنا عائد إلى منزلي في منتصف الليل اقتربت من الأمانة (مخازن الأسلحة والذخيرة) فآنست عن بعد شبحا يتحرك على الأرض، فدنوت منه فرأيت ثلاث نسوة عاريات (تقريبا) وقد أرخين شعورهن مجعدة على أكتافهن وجلسن القرفصاء حول جحش صغير ملقى على الأرض ولعله مولود حديثا لم يكد يخرج من جوف أمه حتى سرقنه وجئن به إلى حيث لا يراهن أحد، فشققن جوفه وأخذن يلتهمن أحشاءه، والجحش المسكين لا يزال حيا يتنفس فلما رأيت ذلك المنظر المريع صحت بهن فنظرن إلي وقد حملقن بأعينهن كأنهن أصبن بجنة، وكان بعض الجاعة المتسولين من الفقراء قد لحقوا بي يلتمسون حسنة، فتركوني وهموا باختطاف الفريسة منهن فتركتهم وسرت في طريقي آسفا لتلك الحال.»
وكانت وطأة الجوع في الغالب أشد على المارين بأم درمان والقادمين إليها مما بأهلها حتى اتصلت الحاجة ببعضهم إلى بيع أولادهم بيع الرقيق إنقاذا لهم من الموت جوعا. قال سلاتين: وكانت الجثث ملقاة في الشوارع والمنازل مئات وليس من يدفنها، فأصدر التعايشي منشورا قال فيه: إن كل صاحب منزل مسئول بدفن الجثث التي تشاهد ملقاة قرب منزله، فقلت الجثث عن الشوارع ولكن بعضهم كانوا يحفرون حفرا بقرب المنازل يدفنونها بها تخلصا من مشقة الحمل إلى المدافن، وكانت مياه النيلين الأزرق والأبيض تجري أمام أم درمان حاملة مئات من الجثث فارق أصحابها الحياة على ضفاف النيل أو بالقرب منها، فألقوها أهلهم أو أصحابهم فيه، وخلاصة القول أن الجوع أهلك من الدراويش أضعاف ما أبادته الحروب منذ ظهور المهدي إلى ذلك اليوم، ورافق هذا الضيق جراد جارف أكل ما بقي من الزرع.
على أن التعايشي ما زال يبث دعاته في سائر الأنحاء لتأييد دعوته، وكانت بقية من خط الاستواء لا تزال على ولاء الحكومة بقيادة أمين باشا، فأنفذت ألمانيا حملة بقيادة ستانلي الرحالة الشهير لإنقاذ أمين باشا، فقاست في ذلك مشقات جسيمة تمكنت بعدها من الخروج به وببعض الحامية، فدخلت مديرية خط الاستواء بحوزة الدراويش، ولم يبق للحكومة من السودان المصري إلا سواكن وطوكر. (9-3) خصام بين خلفاء المهدي
أشرنا غير مرة إلى النفور الواقع بين التعايشي ومحمد الشريف؛ لتناظرهما على الخلافة، فالتعايشي تولاها بإرادة المهدي، ويرى الشريف أنه أولى بها بحق القرابة، على أن هذا لولا استبداد التعايشي واحتقاره الأشراف (أقرباء المهدي) ما حدثته نفسه بسوء، ولكنه رآه لا يدع فرصة لا يحط بها من شأنه، فحقد عليه وما انفك ساعيا في ذلك سرا بمساعدة ابني المهدي؛ وهما شابان لا يتجاوز عمر أحدهما عشرين سنة، وكثيرين من الأشراف، فاتحدوا سنة 1889 وعقدوا الخناصر على خلع التعايشي والقبض على أزمة الحكومة، فألفوا لذلك جمعية سرية في أم درمان ضموا إليها جماعة من القائلين بقولهم، وكاتبوا إخوانهم الدناقلة المقيمين في الجزيرة (بين النيلين الأبيض والأزرق) يدعونهم إلى أم درمان للتضافر على ذلك العمل، فجاء منهم جمع كبير، إلا أن أحد أمراء الجعالين وشى بهم إلى التعايشي، وكان قد أقسم الأيمان المعظمة أن لا يبوح بسرهم لأحد غير إخوته وأعز أصدقائه، فأفتى لخيانته هذه بأنه يعتبر التعايشي من أعز أصدقائه، فأخذ هذا في تدبير الوسائل الفعالة لعرقلة مساعي الأشراف، وعلم هؤلاء أيضا أن سرهم قد انكشف فأسرعوا في تنفيذ مشروعهم قبل أن يستعد التعايشي لدفعهم، فاجتمعوا في المنازل المجاورة لقبة المهدي وعاضدهم البحارة وغيرهم ممن اعتبروا تصرف التعايشي في أحكامه مخالفا للشريعة الغراء.
وكان الأشراف قد أعدوا الأسلحة وخبئوها في مكان، فأخرجوها ذات ليلة من مخابئها وفرقوها في رجالهم، ولكنها لم تكن تزيد على 100 بندقية «رمنتون» وشيء من الذخيرة وبعض المدافع، وكان زعيم تلك الحركة أحمد ولد سليمان، فقال للقوم: إن المهدي ظهر له في الرؤيا وأنبأه بفوز الأشراف، ولم يبق من الأشراف أحد إلا تقلد الحسام أو البندقية واستعد للقتال حتى أرامل المهدي أنفسهن؛ فقد كن إلى ذلك العهد محجوزات في منازلهن لا يخرجن ولا يرين أحدا، فخرجن تلك الليلة في جملة المطالبين، وخصوصا «أم المؤمنين» فإنها تقلدت الحسام وتهيأت للحرب.
كل ذلك والخليفة عبد الله في منزله، وقد أوصى ملازميه باليقظة وفرق فيهم العدة والذخيرة، وأمر أن يلازموا بابه لا يبرحوه مطلقا، وبعث ملازميه من الجهادية السود فبثهم في الأسواق ليمنعوا المدد عن الأشراف، ثم أمر برجاله التعايشية ففرق فيهم ما يزيد على ألف بندقية، وأوقفهم في الساحة بين قبة المهدي ومنزله ليكونوا حاجزا بين الأشراف وبينه، وأقام العساكر السود في وسط الجامع ينتظرون أوامر أخرى، وهناك كانت الرماحة والخيالة أيضا تحت قيادة أخيه يعقوب. أما الخليفة علي ولد الحلو فأشيع أنه على دعوة الأشراف قلبيا، فأمره التعايشي أن يقيم في أقصى أم درمان شمالا وقطع كل مواصلة بينه وبينهم، كل ذلك أجراه التعايشي مساء الإثنين، وفي صباح الثلاثاء أحاط بالأشراف إحاطة السوار بالمعصم، وبعث إليهم قاضيه يدعوهم إلى الإذعان ويذكر أولاد المهدي بمنشور والدهم وبما قاله وهو يحتضر، وأنهم إذا كانوا يشكون أمرا فهو يتعهد بدفع كل ضيم عنهم، فأجابوه أنهم يريدون القتال، فرأى من الحكمة أن يجتنب الخصام بقدر الإمكان؛ لاعتقاده أن الحرب إذا بدأت لا تنتهي إلا بخراب أم درمان؛ إذ يغتنم الدراويش تلك الفرصة للسلب والنهب، فبعث إليهم ثانية أن يرجعوا عن عزمهم، فأبوا إلا القتال، ثم أطلقوا بعض الطلقات فأجابهم رجال التعايشي بمثلها، فرأى أن يوسط الخليفة علي ولد حلو في الأمر، فبعث إليه فلما جاء دفع إليه منشورا للأشراف يطلب إليهم الصلح والكف عن العدوان، فكان جوابهم هذه المرة أقرب إلى المسالمة، فقالوا: نريد أن نعرف ما هي شروط الصلح، فأجابهم التعايشي: «ضعوا الشروط أنتم»، وما زالت المخابرة جارية بقية ذلك اليوم وطول ليله إلى الصباح التالي، فانقضت الأزمة وتم الصلح على شروط أهمها: (1)
أن يعفو التعايشي عفوا عاما عن كل المشتركين في تلك الثورة. (2)
أن يجعل لمحمد الشريف عملا يليق بمقامه ويخلي له كرسيا في مجلسه. (3)
أن يرجع له الرايات التي مات أمراؤها في واقعة توشكي لكي ينصبها ويجمع رجالا تحتها. (4)
أن يخصص لأقارب المهدي أموالا تنفق عليهم من بيت المال. (5)
أن يسلم الأشراف كل سلاحهم ويطيعوا أوامر التعايشي إطاعة عمياء. فكتبت هذه الشروط وأمضاها الفريقان، وعادت الأحوال إلى الهدوء ظاهريا، ولكن القلوب ما فتئت على غلها.
الفصل الحادي عشر
عبد الله التعايشي
شكل 11-1: عبد الله التعايشي، (قتل سنة 1900).
ويجدر بنا في هذا المقام الاستطراد إلى ترجمة التعايشي، ووصف أحواله وأحوال السودان قبل فتحها الأخير، فنقول:
هو السيد عبد الله ابن السيد محمد التقي، ويتصل نسبه بعشيرة الحبيرات من قبيلة التعايشة، والتعايشة من قبائل البقارة، والبقارة اسم يطلق على القبائل القاطنة غربي النيل الأبيض، وهم بدو، أكثر اشتغالهم برعاية البقر والنخاسة وتجارة الرقيق، ويقيم التعايشة في الغرب الجنوبي من دارفور.
وكان السيد محمد التقي مشهورا في قبيلته بالتقوى والكرامة والاستقامة، يؤمه المرضى وذوو الأسقام يلتمسون الشفاء بما يتلوه عليهم من الآيات أو يردده من الصلوات أو بما يكتبه من الأحجبة والعقود، وقد ولد له أربعة ذكور وأنثى وهم: عبد الله، ويعقوب، ويوسف، وسماني، وفاطمة، وكان عبد الله ويوسف أقلهم ميلا إلى العلم؛ فلم يحفظا القرآن إلا بعد الجهد الشديد وكثرة المزاولة، وكانا أكثر ميلا إلى النخاسة (اقتناص العبيد)، أما يعقوب وسماني فكانا أقرب إلى الهدوء والسكينة، فحفظا القرآن سريعا، ولازما أباهما يساعدانه في صلاته وسائر أعماله.
واتفق في أثناء حرب الزبير باشا لدارفور أن عائلة السيد محمد التقي هذا كانت في جملة القائمين على الزبير، فوقع عبد الله أسيرا في بعض مواقع شكا، وأراد الزبير قتله فتوسط بعض العلماء في العفو عنه فأبقى عليه، فأراد عبد الله أن يكافئ الزبير على عفوه عنه، فقال له سرا: «رأيت في الحلم أنك المهدي المنتظر وأني أحد أتباعك»، فأجابه الزبير: «لست المهدي، ولكنني رأيت هؤلاء العرب قد قطعوا الطرق على التجارة فجئت لفتحها.»
فلما فتحت دارفور واستقر الأمن فيها نزح التقي وعائلته من وطنهم إلى شكا أقاموا فيها سنتين ثم ساروا منها إلى دار الحمر فالأبيض فدار القمر، ونزلوا أضيافا على شيخ ذلك المكان عساكر أبي كلام بضعة أشهر، وهناك توفي السيد محمد التقي ودفن في شركلة، وقبل مماته أوصى عبد الله ابنه الأكبر أن يلازم بعض مشائخ الدين في وادي النيل مدة ثم يهاجر إلى مكة فيقيم فيها ولا يعود إلى السودان.
فترك عبد الله إخوته عند الشيخ عساكر، وسار قاصدا وادي النيل، فسمع في أثناء الطريق بمحمد أحمد المهدي وما يتحدث به الناس من كرامته مع شهرته في طريقه، فقصده وطلب الانضمام إليه، واتفق أن محمد أحمد كان إذ ذاك في خصام مع أستاذ طريقته أفضى إلى الشحناء، فاغتنم عبد الله تلك الفرصة وخدم محمد أحمد خدما حببته إليه، فأسس محمد أحمد طريقة كان عبد الله من أقدم المشتركين فيها، ورأى تجمع الأحزاب حول محمد أحمد، فقال في نفسه: لعل هذا هو المهدي المنتظر، وكان أهل السودان ينتظرون ظهور المهدي قريبا، وكلما رأوا رجلا يفضلهم عقلا ودراية ظنوه المهدي، فقال عبد الله لمحمد أحمد: «إن كنت المهدي المنتظر قل!» فقال، وجعل عبد الله خليفة له؛ فهو أقدم خلفائه وأول القائمين بنصرته ويده اليمنى في كل أعماله كما قد رأيت في سياق تاريخ المهدي مما لا فائدة من إعادته. (1) صفاته وأخلاقه وأعماله (1-1) وجهه
بلغ التعايشي السنة الخمسين من عمره وهو ربع القامة، أسمر اللون قليلا، على وجهه آثار الجدري، أقنى الأنف، حسن شكل الفم، خفيف الشاربين والعارضين، كثيف العثنون (شعر الذقن)، أشيب الشعر، عربي الملامح، وكانت ملامحه في أوائل أيامه تتخللها طلاقة وبهجة، فأمست في أواخرها وقد غشاها انقباض تنقبض منه النفس ويدل على ما انطوى عليه الرجل من الاستبداد والمكر والدهاء، وهو قصير الشفتين تظهر أسنانه من خلالهما، وخصوصا إذا تكلم فإنها تبرز لامعة بيضاء كأنه يبتسم. (1-2) لباسه
وكان قبل وفاة المهدي يلبس الجبة المرقعة الخاصة بالدراويش، فلما تولى الخلافة جعل جبته من القطن الأبيض الرفيع بلا رقع ، ولكنه خاط بحوافيها شرائط ملونة، وكان يلبس السراويل من القطن أيضا، ويلف عمامة بيضاء حول طاقية من الحرير صنع مكة، ويلقي على كتفيه أحيانا شالا من القطن، وترى في صورته (ش
11-1 ) رسمناها بناء على ما وصفه به سلاتين باشا وغيره ممن شاهدوه؛ لأن الرجل لم يتصور صورة منقولة عنه رأسا.
وكان في بادئ الأمر يحتذي نعالا كنعال سائر الدراويش، ثم أبدلها بالخف والبابوج من جلد ضارب إلى السمرة، فإذا مشى حمل بيساره سيفا جميلا، وبيمينه رمحا صغيرا جميل الشكل من صنع قبيلة الهدندوة يتوكأ عليه كالعصا، وهو لا يمشي إلا محاطا بحلقة من صغار العبيد وأكثرهم من أبناء الأحباش الذين أسروا في المواقع الأخيرة المتقدم ذكرها، وواجباتهم إيصال أوامره إلى من أراد في أم درمان، فإذا بلغ أحدهم أشده انتظم في سلك الملازمين. (1-3) أخلاقه
كان حاد الطبع، مقحام، غضوب، إذا غضب سارع في حكمه وأصر على عناده، لا يسمع نصحا ولا يصغي إلى مشورة، كثير الشكوك، سيء الظن، لا يثق بأحد ولو كان من أقرب أقربائه أو من أهل منزله؛ لاعتقاده أن الإخلاص والأمانة يندر وجودهما. يرتاح إلى الإطراء والتملق، فإذا خاطبه أحد صدر خطابه بذكر محامده، ونسب كل ما حدث من الحسنات إلى حكمته ودرايته وعدله وبسالته وكرمه، فيسمع كل ذلك مصغيا ويزداد عجبا وافتخارا، وهو يثق بمقدرته وثوقا تاما، ويظن نفسه قادرا على كل شيء، فما كان من ذلك فوق استطاعة البشر نسبه إلى قوة إلهية حلت فيه.
ومن أخلاقه الحقد والصرامة، والعنف والانتقام، فيفرح بتكدير الآخرين وخذلانهم. وأسعد يوم عنده يوم يضبط فيه الأموال ويلقي الناس في الأغلال والقيود أو يسوقهم إلى القتل والذبح، فيبعد الولد عن والديه والامرأة عن زوجها ظلما وعدوانا، فكثيرا ما أمر بقتل الألوف من النساء والأولاد الأبرياء. (1-4) مجلسه
ويكلف التعايشي القائمين بخدمته والجالسين في مجلسه تذللا لا تستطيعه نفس الحر، فالداخل عليه يقف أمامه مطرقا ويداه متقاطعتان على صدره ينتظر أمره بالجلوس، والتعايشي جالس في صدر القاعة على عنقريب عليه حصير مصنوع من سعف النخل فوقه فرو من جلد الضأن يرف عن حوافي العنقريب، وقد يتكئ إلى وسادة من القطن، فإذا كان الداخلون عليه أهلا للجلوس في حضرته أشار إليهم فيجلسون على الأرض جلوسهم للصلاة مطرقين ينتظرون ما يلقيه عليهم من الأسئلة، فيجيبون وهم ينظرون إلى الأرض لا يبدون حراكا إلا إذا أمرهم بالانصراف فينصرفون. (1-5) داخليته
ومن الغريب أنه مع استبداده في حكومته وعنفه في تنفيذ أوامره فهو على الضد من ذلك مع أهل منزله، فقد كان يحب ابنه عثمان أكبر أولاده حبا شديدا وينعطف نحوه انعطافا غريبا، وقد بذل كل مرتخص وغال في سبيل تعليمه القرآن والتفسير والحديث وسائر العلوم الإسلامية، فلما بلغ السابعة عشرة أزوجه ابنة عمه يعقوب، وأغضى عن وصية المهدي بإبطال ولائم الأفراح، فنصب الموائد ومد الأبسطة ثمانية أيام حتى لم يبق أحد من أهل أم درمان إلا أم ذلك الاحتفال، ثم أزوجه فتاتين أخريين من أقاربه، وأهداه قطيعا من السراري والجواري، وأوعز إليه صريحا أن لا يقرب امرأة من نساء وادي النيل (الدناقلة)، وزوج ابنته بمحمد بن المهدي، وكان محمد هذا ينوي الاقتران ببعض ذوات قرابته لأنه لا يحب ابنة التعايشي، ولكنه لم يتجرأ على التصريح بذلك؛ لعلمه أن التعايشي يسيء الظن به ويتعرض في أموره تعرض الوصي ويراقبه مراقبة الحرس، فكظم غيظه وصبر على بلواه. (1-6) نساؤه
كان التعايشي قبل فتح أم درمان يقيم في منزل كبير على مقربة من الجامع، ونساؤه الشرعيات أربع، وأما الجواري فعددهن يزيد على الأربعمائة، أكثرهن من الفتيات اللواتي أخذن من والديهن بالأسر بعد الحرب، فهن في اعتباره مما ملكت أيمانه، وفيهن البيضاء والسمراء والحبشية والسوداء، جعلهن أقساما يرأس كل عشرين منهن رئيسة، وعلى كل ثلاثة أو أربعة من هذه الأقسام امرأة حرة هي في الغالب سرية يختارها هو لهذه المهمة، وفي دار الحريم هذه خصيان معظمهم صغار السن وفي جملتهم عشرون خصيا يرأسهم واحد منهم اسمه عبد القيوم. (1-7) طعامه
وكان طعامه في أوائل حكومته قاصرا على العصيدة واللحم المطبوخ والدجاج، ولكنه ما لبث أن صار يتناول الأطعمة المركبة التي يتخذها الأغنياء في مصر وغيرها. (1-8) ملازموه
كان بخدمة التعايشي جند من الملازمين، يقف جماعة منهم في بابه أو يسيرون إلى جانبه إذا ركب، وكان سلاتين باشا واحدا منهم، وأراد التعايشي تعزيز حاشيته فأمر بتجنيد جند لحرسه الخصوصي، فاختار عددا كبيرا من عساكر الجهادية، وأوعز إلى أمراء الغرب (غربي النيل الأبيض) فاختاروا له عددا آخر، وأضاف إلى هذا وهذا جماعة من أحاسن الجعالين وغيرهم، إلا الدناقلة والمصريين فإنه كان لا يثق بهم، فاجتمع من ذلك كله جند عدده 12 ألفا، قسمهم إلى ثلاث فرق: يتولى قيادة الأولى منها ابنه عثمان، ويتولى قيادة الثانية أخوه هارون أبو محمد وهو شاب لم يتجاوز الثامنة عشرة من العمر، ويتولى الفرقة الثالثة رجل حبشي اسمه رابح ربي في منزل التعايشي، وتقسم كل من هذه الفرق إلى أقسام عدد كل منها مائة، يتولى قيادتها ضابط يسمونه «رأس مائة»، على أن ابنه عثمان كان يعتبر في أي حال قائد الملازمين كافة. وراتب الملازم نصف ريال من ريالات الدراويش في الشهر، ويصرف لكل منهم وظيفة من الذرة مقدارها ثمن إردب كل أسبوعين، وواجبات الملازمين المحافظة على شخص التعايشي، وهو لا يغفل عن مراقبة حركاتهم وتعهدهم بنفسه؛ ليتحقق قيامهم في مراكزهم وإخلاصهم في خدمته. (1-9) أعماله
أما واجباته بالنسبة إلى رعاياه فإقامة الصلوات الخمس كل يوم في مسجد أم درمان الأكبر، فيجلس في المحراب بحيث يرى كل من في الجامع، ووراءه ابنه والقضاة وبعض من اختصهم بالتقرب منه، وإلى اليمين واليسار الملازمون، ووراءهم من اليمين أخوه يعقوب وسائر الأمراء، ومن اليسار بعض رجال علي ولد الحلو ثاني خلفاء المهدي، وبعض الجعالين والدناقلة، ووراء هؤلاء مجلس العامة صفوفا، ويبلغ عدد الحضور عادة عدة آلاف، وكان التعايشي كثير التدقيق في حضور الأمراء للصلاة، فإذا تخلف عنها أحد منهم لامه أو حقدها عليه، وإذا منع التعايشي مانع كمرض أو غيره عن إقامة الصلاة ناب عنه بعض قضاته، ولكنه لا يجلس في المحراب، ويشتغل التعايشي ما بين صلاتي العصر والغروب في سماع ما يرد عليه من الأعمال والمداولة بشأنها مع القضاة، ولما كان أميا لا يحسن القراءة ولا الكتابة فيتلو الأوراق عليه بعض كتابه أو كتمة سره وهم الذين يكتبون الأوامر والمنشورات ثم يختمها هو بختمه. (1-10) البريد
والمخابرات بين عاصمة الدراويش وسائر أعمالها بواسطة الهجانة؛ وهم عبارة عن ستين أو سبعين هجينا يتولاها بضعة من الرجال يختارهم التعايشي لحمل أوامره إلى العمال ورؤساء القبائل ويعودون إليه بالأخبار والأجوبة، وقد أشار عليه إبراهيم عدلان أن يرتب البريد ويعين له مواقيت ومحطات فأبى؛ بدعوى أن الهجانة الذين يحملون البريد رأسا ينقلون إليه أخبارا شفاهية هي أثمن عنده من نظام البريد.
شكل 11-2: عبد الله التعايشي يقطع النيل عند أم درمان ويحرض رجاله على القتال. (1-11) ركوبه
وكان التعايشي يركب أحيانا فيخرج بموكبه لتعهد بعض منازله في أطراف المدينة، فينفخ بواق في بوق طويل من قرن الخرتيت اسمه أمبايو له صوت مزعج، فضلا عن أصوات الطبول، فإذا سمع الناس صوت الأمبايو والطبل علموا أن التعايشي خارج من ديوانه فيفتح الناس أبوابهم ويطلون من السطوح والكوى لمشاهدة خليفة مهديهم. فإذا مشى الموكب ركب الخليفة في حلقة الملازمين يتقدمها شرذمات منهم وراءهم جماهير الناس من أهل المدينة بين راكب وماش، ويمشي إلى يسار التعايشي رجل ضخم اسمه أبو ضحكة يساعده في ركوبه وترجله، ويسير أمام التعايشي البواق ينفخ الأمبايو بأمره ووراءه أصحاب النفير العسكري لتبويق الوقوف أو المسير أو غير ذلك حسب أمره، ويمشي وراءهم خدمته الخصوصيون يحملون له الركوة (إبريق من جلد يملأ ماء للوضوء) وفروا للسجود عند الصلاة ورماحا، ويرافق هذه الجماهير الموسيقى العسكرية يضربها خمسون عبدا؛ وهي عبارة عن أبواق من قرون الوعل وطبول مصنوعة من جذوع الشجر مجوفة ومغطاة بالجلد أصواتها تزعج الحواس، وفي أثناء مسير الموكب يلعب بعض الخيالة من الملازمين على ظهور الخيل. (1-12) الاستعراض
وكان يستعرض التعايشي رجاله أربع مرات في السنة: في الأعياد الأربعة: المولد النبوي، والمعراج، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، باحتفال شائق يحضره أهل أم درمان وغيرهم، وكان يستعرضهم قبلا مرة كل أسبوع في يوم الجمعة. (1-13) قواته
وأما قواته ومقدار ما كان عنده من الذخيرة والمئونة قبيل ذهاب دولته فمعظمها من المشاة حملة السيوف والرماح وعددهم 46000، ومن الخيالة 6600، ومن العساكر الجهادية 34350 وغيرهم، وجملة ذلك نحو مائة ألف وخمسة آلاف مقاتل، وعدد الأسلحة 74 مدفعا و40350 بندقية، هذه قوات التعايشي الرسمية، ولكنها كانت تتضاعف بما ينضم إليها من القبائل القائمة بنصرته. (2) حكومة التعايشي وإدارتها وأعمالها
المالية: تسمى المالية عند الدراويش «بيت المال» أو هي بيوت المال، يختص كل بيت منها بنوع من أنواع الدخل والخرج، أهمها خمسة، وهي: (1)
بيت المال العمومي. (2)
بيت مال الملازمين. (3)
بيت مال الخمس للخليفة. (4)
بيت مال ورشة الحربية . (5)
بيت مال ضابطة السوق. (2-1) بيت المال العمومي
هو عبارة عن الخزينة العمومية لمملكة الدراويش، يجمع دخلها من المصادر الآتية: (1)
الزكاة والفطرة. (2)
الأسلاب والغنائم المكتسبة بالحرب. (3)
العشور وهي ما يدفعه التجار ضريبة على بضائعهم (المكس). (4)
ضريبة الصمغ. (5)
ضريبة القوارب. (6)
قروض يعقدها بيت المال مع التجار ولا ينوي دفعها. (7)
ضرائب العبور في النيل من ضفة إلى أخرى (المعديات). (8)
غلة الأرض الواقعة غربي النيل الأبيض وشرقي النيل الأزرق، وهي تمتد جنوبا إلى كركوج وفشودة، وشمالا إلى حجر العسل. (9)
معين يستولي عليه بيت المال العمومي من بيوت المال الأخرى.
وأما نفقات بيت المال العمومي فهي: (1)
نفقات نقل الجيوش ومؤنهم وذخائرهم إلى المديريات والمقاطعات. (2)
أعطيات الجند (رواتب الجهادية). (3)
رواتب المستخدمين. (4)
الصدقات. (2-2) بيت مال الملازمين
ويراد به خزينة الملازمين وهم جند التعايشي الخصوصيين، ومنهم حراسه وياورانه، يجتمع دخل هذه الخزينة من محاصيل أرض الجزيرة «بين النيلين الأبيض والأزرق»، وأما نفقاتها فمحصورة في رواتب الملازمين. (2-3) بيت مال الخمس للخليفة
وهو أشبه شيء بالخزينة الخاصة، ودخله من المصادر الآتية: (1)
معظم ما يفضل في خزائن المديريات بعد نفقاتها المعلومة. (2)
محاصيل الجزائر الواقعة في النيل وفي جملتها جزيرة توتي تجاه الخرطوم، ومحصول أرض الغنيمة ومنها حلفاية وكملين وكانتا قبلا من أملاك الخاصة الخديوية. (3)
عشر البضائع التي ترد من بربر إلى أم درمان. (4)
أثمان العبيد الذين يرسلون من المديريات. (5)
محصول أكثر البواخر والسفن. أما خرج بيت مال الخليفة فمحصور في نفقات منزله الخصوصي. (2-4) بيت مال ورش الحربية
ويشبه خزينة الحربية عندنا، دخله من: (1)
غلة جنائن الخرطوم. (2)
محصول بعض السواقي بجوار الخرطوم. (3)
العاج الوارد من خط الاستواء، وخرجه: (أ)
نفقات البحرية. (ب)
نفقات الترسخانة، ويسمونها بيت الأمانة. (ج)
استخراج ملح البارود وتنقيته. (د)
نفقات معمل الأسلحة. (2-5) بيت مال ضابطة السوق
وهي خزينة الضابطة، دخله من أموال السكيرين والمقامرين التي يحكم التعايشي بضبطها ومن ضريبة الحوانيت، وأما نفقاته فعلى ما يأتي: (1)
رواتب الضابطة من الأنفار والضباط. (2)
نفقات بيت الضيافة وهو ليعقوب أخي عبد الله التعايشي. (3)
نفقات بناء السور الكبير لأم درمان.
هذه هي أقسام المالية من الدخل والخرج، أما المقادير التي تدخل وتخرج فلا تتيسر معرفتها. (3) النقود والتجارة
لما قام المهدي بدعوته ووفق إلى فتح المديريات استولى على خزائنها وأموال أهلها، فكان ينفق مما وصل إلى يديه من ذلك، وهي النقود الدارجة في السودان على عهد الحكومة المصرية، أهمها الريال المجيدي، والريال أبو مدفع، فلما اتسعت مملكته ونفدت تلك الأموال أخذ في ضرب النقود باسمه، أشار عليه بضربها أحمد ولد سليمان، فضرب نقودا فضية شبيهة بالريال المصري، وجنيهات شبيهة بالجنيهات المصرية، ولكنهم لم يكونوا يضبطون المقادير اللازمة من كل معدن منها، وكان الذهب قليلا بين أيديهم فكفوا عن ضرب الجنيه، وأكثروا من ضرب النقود الفضية، فضربوا منها ضربات عديدة تعرف بأسماء خاصة منها «ريال المهدي» وهذا أحسنها كلها، ومنها «مقبول» و«أبو سدر» وكلاهما من ضرب نور القيرافوي، و«أبو كيس» وعليه رسم رمحين متصلين، و«العملة الجديدة»، على أنهم أخذوا ينقصون مقدار الفضة بالنسبة إلى النحاس شيئا فشيئا حتى صارت الفضة إلى النحاس كنسبة 2 إلى 5، مع أنها كانت في بادئ الرأي 7 إلى 1؛ أي إن الريال كان يحتوي سبعة أجزاء من الفضة وجزءا من النحاس، وهو ريال المهدي، فصار يحتوي جزأين من الفضة وخمسة من النحاس، وذلك دليل على فقر السودان وفساد حكومته، على أن دار ضرب النقود كان يتخذها كبار الدراويش تجارة يكتسبون بها أموالا طائلة لأنها تعطي حكرا أو ضمانة، ومن قوانينها أن يرأسها اثنان معا يدفع الواحد منهما ستة آلاف ريال كل شهر، وما يضربانه من النقود يجب أن يكون مقبولا لدى التجار وغيرهم، فإذا اعترض أحد على صحتها أو تمنع عن قبولها فعقابه الجلد أو سلب الأموال، فالريال صار يستبدله تجار أم درمان بثمانية ريالات من العملة الجديدة، ويستبدلون الريال أبو مدفع بخمسة ريالات، فاضطروا ملافاة لما يلحقهم من الخسارة بهذه المعاملة أن يرفعوا أثمان بضائعهم حتى بلغ ثمن شقة البفتة الزرقاء التي يصطنعون منها ثياب النساء ستة ريالات، وكان ثمنها على عهد الحكومة المصرية ثلاثة أرباع الريال، وأصبح رطل السكر (الرطل 144 درهما) بريالين.
ومن الغريب أن غلاء الأثمان قاصر على البضائع الواردة من مصر، أما ما يجلب من السودان فأثمانه بخمسة بالنسبة إلى تلك، فالجمل مثلا يساوي ستين ريالا، والبقرة مائة ريال، وإردب الذرة ستة ريالات، والخروف خمسة ريالات فأكثر.
شكل 11-3: مجلس التعايشي. (4) القضاء
كان القضاء منوطا عندهم بالقضاة، وكبيرهم يسمى «قاضي الإسلام»، وجميعهم آلات صماء بأيدي التعايشي فلا يصدرون حكما إلا كما يوحيه هو إليهم ما خلا القضايا الطفيفة من الأحوال الشخصية وما شاكلها، فقضاة الدراويش بهذا الاعتبار بين جاذبين قويين: ضميرهم والأحكام الشرعية من جهة، وإدارة التعايشي من جهة أخرى، وهاك أسماء قضاة أم درمان عام سنة 1895. (1)
حسين ولد زهرة
من قبيلة الجعالين (2)
سليمان ولد الحجاز
من قبيلة الحجماب (3)
حسين ولد قيسو
من قبيل الحمر (4)
أحمد ولد حمدان
من قبيلة العراقين (5)
عثمان ولد أحمد
من قبيلة البطاحين (6)
عبد القادر ولد أم مريم
وكان قاضي كلاكلا على عهد الحكومة المصرية (7)
محمد ولد المفتي
وهو قاضي المواد الجزئية بين الملازمين
وهناك قضاة آخرون للقبائل الغربية إذا حضروا الجلسة لا يصدرون حكما، بل يبدون رأيهم، وأما شيخ الإسلام فهو حسين ولد زهرة المتقدم ذكره أول القضاة، تلقى الفقه في مدرسة الجامع الأزهر، وهو أعلم أهل السودان كافة مع الميل إلى العدالة، وكثيرا ما أصدر أحكاما تنطبق على مقتضى الشريعة الغراء، وتخالف إرادة التعايشي غير راض عنه تمام الرضى، وقلما يدعوه لحضور الجلسات.
وأساس الأحكام عندهم الشريعة الإسلامية وتعاليم المهدي التي أشرنا إليها في كلامنا عن أوصاف المهدي وتعاليمه، ويزعمون أن هذه التعاليم إنما وضعها المهدي لإحياء ما كاد يندثر من أحكام الشريعة الغراء بالإهمال، وأهم تلك التعاليم الاعتقاد بأن محمد أحمد هو المهدي المنتظر، ومن شك في ذلك فعقابه القتل.
وواجبات قاضي الملازمين الحكم فيما يعرض بين الملازمين أو بينهم وبين عامة الناس، وفي الحالة الثانية فالحق دائما في جانب الملازمين، وهناك قاضيان ملحقان ببيت المال ينظران في القضايا المتعلقة بالأحكام الشرعية من جهة بيع الرقيق وشرائه. وعندهم قاض يقيم في السوق ليحكم في الأمور الطفيفة التي تعرض هناك.
تلك كانت حال حكومة الدراويش سنة 1896 ثم توالى عليها النحس وجندت الحكومتان المصرية والإنكليزية لقهرها، وبعد مواقع عديدة فتحوا أم درمان سنة 1898 وفر التعايشي ورجاله إلى الجبال في كردوفان فتبعوه بعد قليل، وحاربوه سنة 1899 فحاربهم مستهلكا حتى قتل هو وكل من كان معه إلا قليلين التجئوا إلى الفرار، وانقضت بتلك الواقعة دولة الدراويش.
الفصل الثاني عشر
ناصر الدين شاه ملك الفرس
شكل 12-1: ناصر الدين شاه ملك الفرس الأسبق (ولد سنة 1831 وتوفي سنة 1896).
مملكة الفرس من الممالك القديمة التي عاصرت البابليين والمصريين واليونان والرومان، وامتدت سطوتها إلى الخافقين أجيالا متطاولة، وتوالى على سرير ملكها دول متعددة أقربها عهدا منا الأكاسرة، بدأ حكمهم فيها في القرن الثالث للميلاد حتى استخرجها العرب من أيديهم في صدر الإسلام، وما زالت في حوزة العرب إلى سنة 1258م فتولاها التتر إلى سنة 1500م، فأخرجها من أيديهم رجل عربي الأصل اسمه إسماعيل، فتولاها 23 سنة وسمى نفسه الشاه، ثم تولى خلفاؤه بعده وعرفوا بالشاهات، واشتهر بينهم أفراد امتازوا بالحكمة والشجاعة. وآخر عائلة من شاهات الفرس عائلة قاجار أولها آغا محمد خان، تولى الملك سنة 1794 وخلفه ابن أخيه فتح علي شاه سنة 1797 ثم محمد شاه حفيد فتح علي سنة 1835م ثم ابنه ناصر الدين شاه الذي نحن في صدده.
ولد رحمه الله يوم الإثنين 6 صفر سنة 1247 (16 يوليو سنة 1831)، واسم والدته البرنسس وليت، فربي في حجر والده وتولى في صباه ولاية أذربايجان بحياة والده وفي 13 أكتوبر سنة 1848 توفي والده محمد شاه فأفضت السلطة إليه، وهو لم يكد يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، فتولى الأحكام بعقل ودراية مع ميل إلى الإصلاح ومجاراة التمدن الحديث، وكان في أوائل حكمه كثير الاعتماد على مشورة وزيره الأعظم الأمير مرزا طاغي، وكان وزيره هذا رجلا محنكا عاقلا، فكانت له باع طولى في سائر الإصلاحات التي أحدثها الشاه في بلاده وعرف الشاه له ذلك فكافأه بتزويجه أخته، وتلك نعمة قلما نالها وزير، فحسده بعض زملائه فوشوا به إلى الشاه ، فنفاه، وقالوا: بل قتله.
على أن ذلك لم يقف في سبيل أعماله فتابع الإصلاح والأحكام بحكمة وثبات، ولكن موقع بلاد إيران الجغرافي جعلها عرضة لمطامع دولتين من أعظم دول أوروبا، وهما الروسية من الشمال وإنكلترا من الشرق، فملافاة لما يخشاه تقرب من فرنسا فعقد معها سنة 1855 معاهدة صداقة وتجارة، ولما انتشبت حرب القرم التزم الحيادة.
وفي سنة 1856 احتلت جنوده هرات، فشق ذلك على حكومة إنكلترا فجردت عليه جندا هنديا في آخر سنة 1856 واستعرت نار الحرب بضعة أشهر، وانتهت بإخلاء هرات ومعاهدة عقدت بباريس في 4 مارس سنة 1857 يعود النفع بها على إنكلترا، ولم يكد يستريح من مناضلة ذلك العدو الشديد حتى ثارت عليه بعض الولايات المجاورة فحاربها وتغلب عليها وأرسل حملة إلى التركمان وعاد ظافرا غانما.
فلما هدأ باله من الحروب والفتن عمد سنة 1860 إلى الإصلاح فغير نظام الجند، وأدخل الأسلاك التلغرافية إلى بلاده، وأول سلك نصبه احتفل بنصبه بنفسه سنة 1861، وفي سنة 1866 عقد مع إنكلترا عهدا بشأن إنشاء المواصلات التلغرافية بين أوروبا والهند عن طريق الفرس، وأنشأ المدارس والمكاتب ونشط المشروعات الأدبية والعلمية، على أنه لم يخل من أعداء يتربصون له ويغتنمون الفرص للفتك به، ففي سنة 1869 اكتشف على مؤامرة سعى فيها جماعة من رعيته فانتقم منهم انتقاما جاوز به حد الرأفة، وعرض اسمه للوم أمام أوروبا فهاجت خواطرها ولكنها لم تحرك ساكنا.
وفي سنة 1871 أصاب بلاد فارس قحط رافقه الهواء الأصفر والحمى فأصاب الناس جهد شديد، فبلغ عدد الذين ماتوا في أصبهان وحدها 16000.
فلما زالت النكبات وعاد الخصب، عزم ناصر الدين شاه على السياحة في أوروبا فسار في 12 مايو سنة 1873 من طهران شمالا فقطع بحر قزوين إلى أستراخان ومنها إلى موسكو فبطرسبرج فألمانية فبلجيكا فإنكلترا ففرنسا فسويسرا فإيطاليا فسالسبورج ففينا، ثم عاد إلى إيطاليا وسار منها إلى الآستانة ومنها إلى تفليس، ومنها إلى باكو بالعربة، وعاد إلى طهران مسرعا فوصلها في 6 سبتمبر سنة 1873 وشاع عند عودته أنه إنما أسرع لملافاة مؤامرة كانوا يسعون فيها لخلعه فجازى المؤامرين بعصا من حديد.
وفي سنة 1875 ثار الجهادية وتمردوا على الشاه حتى اضطروه لمغادرة طهران، ولكنه ما لبث أن أخمد نارهم وعاد إلى كرسيه، وفي سنة 1878 ساح سياحة أخرى في روسيا، وفي سنة 1880 ثار عليه الأكراد فأبلى فيهم بلاء حسنا فثابوا إلى السكون، وفي سنة 1888 مد أول خط حديدي بين طهران وشاه عبد العظيم على أن السكك الحديدية دخلت بلاد الفرس منذ سنة 1865 وفي أوائل سنة 1889 خرج للسياحة في أوروبا مرة ثالثة فلاقى ترحابا عظيما، وعاد في أواخرها وقضى السنين الأخيرة بالراحة والسكينة مهتما في شئون مملكته وترقية شأن رعيته، وقد أخذ الإيرانيون يشتغلون في إعداد المعدات للاحتفال بالعام الخمسين لملكه ففاجأهم ذلك المصاب بمقتله بغتة.
قتله رجل معتوه في أول مايو سنة 1896 وهو داخل مسجد عبد العظيم ليصلي فأصابت الرصاصة قلبه فمات، وأفضى الملك بعده إلى أكبر أنجاله مظفر الدين شاه.
شكل 12-2: مظفر الدين شاه ملك الفرس السابق. (1) النهضة العلمية الأخيرة في بلاد الفرس (1-1) تمهيد
اشتهر الفرس من قديم الزمان بالعلم والأدب ونبغ منهم الشعراء، والفلاسفة، والحكماء، والأطباء، يوم كانت أوروبا لا تزال محجوبة بظلمات الجاهلية. حتى إذا ظهر الإسلام ودخلت بلاد فارس في حوزته كان الفرس من أكبر العوامل الفعالة في نشأة التمدن الإسلامي.
فلما قضي على الشرق بالتقهقر في الأجيال الأخيرة أصاب بلاد فارس من ذلك ما أصاب الشام ومصر، فانغمست تلك البلاد في حمأة الجهل إلا ما كان من بقايا العلوم القديمة الذائعة على أيدي المشائخ والفقهاء وغيرهم مما لا يلائم مقتضيات العصر الجديد عصر الاختراع والاكتشاف، وتفتخر مصر ويحق لها الفخر بأنها سبقت سائر بلاد المشرق في اقتباس أنوار التمدن ثم نسج الشرقيون على منوالها.
ومما لا يحسن السكوت عنه أن الفضل الأكبر في تأسيس النهضة العلمية في الشرق سواء كان ذلك في مصر أو الشام أو فارس إنما هو للفرنساويين، وأول من غرس بذور التمدن فيه إنما هو رجلهم بل هو رجل العالم وفرد أفراده «نابليون بونابرت» حمل هذا القائد على الشرق يريد اكتساحه كما اكتسحه الإسكندر قبله، لكنه لم يأته بالعدة والسلاح فقط، بل نقل إليه بذور التمدن وأصول المعارف؛ فأرفق حملته الحربية بحملة علمية جمعت نخبة من علماء فرنسا في ذلك الحين، ولم يوفق بونابرت في فتوحه الشرقية فعاد على أعقابه وظلت تلك البذور كامنة حتى نهض من رجال الشرق من أحسن تعهدها وتربيتها فنمت، وكان منها ما كان من نهضة مصر والشام، فالنهضة الأخيرة تبدأ فيهما من آخر القرن الثامن عشر، وقد نمت وازدهرت وأثمرت على يد أرومة العائلة الخديوية المغفور له محمد علي باشا الكبير ومن خلفه من أعقابه الكرام.
أما بلاد فارس فإن الفضل في نهضتها الأخيرة للمغفور له ناصر الدين شاه. (1-2) أساس النهضة
تبدأ هذه النهضة سنة 1270ه/1854م؛ لأن في هذه السنة أرسل المغفور له ناصر الدين شاه أربعين شابا من أدباء الفرس وأهل العصبية برئاسة حسن علي خان أمير نظام من مشاهير قواد الفرس وأهل البيوت الرفيعة. سار أولئك الشبان إلى فرنسا فتلقوا فيها العلوم الحديثة بأنواعها من الطب والرياضيات والطبيعيات، وعادوا إلى بلادهم، وعملوا على نشر تلك العلوم بإنشاء المدارس كما سيجيء. (1-3) المدارس
كانت المدارس في بلاد فارس قبل هذه النهضة على نسق الكتاتيب المصرية القديمة، وربما كان في البلدة الواحدة عدة مدارس، ولكن التعليم كان على الطريقة القديمة يقتصر الخوض فيها على العلوم الدينية وشيء من العقليات والرياضيات والعلوم العربية، وكانت اللغة العربية يومئذ سائدة بعد الفارسية كما هي الآن، فلما عادت البعثة المتقدم ذكرها سنة 1277ه أنشئت المدارس على النمط الحديث في طهران وتبريز، ففي طهران اليوم سبع مدارس كبرى للحكومة، وهي: (1)
مدرسة الطب. (2)
المهندسخانة. (3)
مدرسة الميكانيك. (4)
مدرسة المعادن (الطبيعيات). (5)
مدرسة الصنائع. (6)
مدرسة المبتديان. (7)
التجهيزية.
ويطلق عليها جميعا اسم «دار الفنون».
وفي تبريز مدرسة كبيرة تعلم فيها اللغات الفارسية والعربية والإنكليزية والفرنساوية والروسية وسائر العلوم العصرية، وكل من المدارس المتقدم ذكرها كانت تحت رئاسة عالم فرنساوي، وأكثر أساتذتها ورؤسائها من متخرجي مدارس فرنسا.
وأسس ناصر الدين شاه في مدينة طهران فضلا عما تقدم مدرسة سماها «دار الترجمة» أقامها في قصره وتحت رئاسته لترجمة الكتب العلمية من اللغات الإفرنجية، وكان ينفق عليها من ماله الخاص. (1-4) مدرسة الطب
ومما يحسن ذكره أن الطب كان قبل هذه النهضة على ثلاثة أشكال: الطب الهندي، والطب اليوناني، والطب الفارسي، وكان كل منها يعلم على حدة وله قوانين خاصة. فلما أراد ناصر الدين شاه إنشاء المدرسة الطبية استقدم من فرنسا طبيبا ماهرا اسمه الدكتور طولوزان، كلفه بإنشاء مدرسة طبية كلية على مثال مدرسة باريس، وفرض على كل طالب أن يتعلم الطبين الحديث والقديم، وأمر بترجمة الكتب الطبية من الفرنساوية إلى الفارسية، واستحضر سائر المعدات الطبية من الأدوات والتماثيل ونحوها؛ بحيث يخرج الطالب منها وشهادته مقبولة في سائر الممالك كأنها معطاة من أكبر مدارس فرنسا، وقد توفي مؤسسها الدكتور طولوزان وخلفه غيره، ونبغ من هذه المدرسة جماعة من الأطباء نذكر منهم الدكتور ميرزا علي خان، والميرزا محمد خان، وزين العابدين خان، وغيرهم من نطس الأطباء.
شكل 12-3: أحمد شاه ملك الفرس الحالي.
ولما تولى جلالة مظفر الدين شاه سنة 1886 سار على خطوات المرحوم والده فنشط العلم ووسع الساعين في إنشاء المدارس، فأنشئ منها تحت رعايته ست عشرة مدرسة، بعضها في طهران والبعض الآخر في تبريز وبوشهر وغيرهما، ثم شغلت الأمة بالقيام على الشاه المذكور التماسا للدستور حتى أفضى الأمر إلى خلعه سنة 1909 وتولية أحمد شاه الحالي. (1-5) المطابع
يظهر أن المطابع في إيران أقدم من المدارس الحديثة فيها، وأول مطبعة أنشئت في تبريز سنة 1240ه/1825م سعى في إنشائها عباس ميرزا ولي عهد فتح علي شاه ملك الفرس يومئذ؛ فإنه استدعى اثنين من فحول العلماء، وهما: ميراز صالح شيرازي، وميرزا محمد جعفر التبريزي الشهير بأمير، وأرسلهما إلى موسكو وبطرسبرج فاستحضرا 14 آلة طباعة من الطراز القديم (مكبس) تطبع على الحجر (ليتوغراف) وأسسا دار الطباعة في تبريز باسم الحكومة، وبعد بضع سنين تنازلت لهما الحكومة عنها. ثم أنشئت في طهران مطبعة حروف (تيبوغراف) وأول كتاب طبع فيها القرآن الشريف، ولكن هذه الحروف لم يطل استعمالها أكثر من بضع وعشرين سنة فأهملت وانتشرت المطابع الحجرية في طهران وخراسان وشيراز، ثم عادوا منذ بضع سنين فأنشئوا مطبعة حروف في تبريز تسمى «مطبعة سركاري» سعى في إنشائها محمد علي ميرزا ولي العهد يومئذ، وفي تبريز وطهران فضلا عما تقدم كثير من المطابع الأجنبية الفرنساوية والأرمنية. (1-6) الصحافة الفارسية
أول صحيفة فارسية ظهرت للوجود جريدة «روزنامه» صدرت في تبريز في أواسط القرن الثالث عشر للهجرة، وكانت أسبوعية، ثم جريدة «إيران» الرسمية، وجريدة «رومية» في أذربايجان، و«فرهنك» في أصبهان تحت رعاية السلطان مسعود ميراز، ظل السلطان الشقيق الأكبر للشاه السابق.
وظهرت في أيام مظفر الدين شاه جريدة «تبريز» في تبريز، و«صدى الفرس» بالفرنساوية و«اطلاع»، وشرف» (وهي جريدة مصورة و«خلاصة حوادث» يومية، و«تربيت» في طهران، ثم «شرافت» مصورة، و«ناصري»، و«احتياج»، و«أدب»، و«كمال» في تبريز، وجريدة «رومية» ظهرت في رومية باللغة الكلدانية، ولما أعيد الدستور الفارسي بالأمس ظهرت جرائد كثيرة لا محل لها هنا.
أما الصحافة الفارسية خارج إيران فأولها جريدة «اختر» (الكوكب) صدرت في الآستانة سنة 1291 (1875م) لصاحبها آقا محمد طاهر تبريزي، ظلت تصدر إلى عام 1313 فتعطلت لضعف ألم بصاحبها، ثم صدرت «حكمت» في مصر القاهرة سنة 1310 وهي مجلة سياسية علمية لمنشئها زعيم الدولة الدكتور ميراز محمد مهدي خان التبريزي رئيس الحكماء، وهو من فطاحل علماء إيران، وعليه كان معتمدا في أكثر ما ذكرناه عن النهضة الأخيرة في بلاد الفرس، ولا تزال «حكمت» تصدر بين ظهرانينا مرة كل أسبوع، ثم صدرت جريدة «كوكب ناصري» في بومباي، ثم «حبل المتين» في كلكتة من بلاد الهند سنة 1312 للسيد جلال الدين الكاساتي، ثم ظهرت جريدة «ثريا» في القاهرة سنة 1316 لمنشئها ميراز علي محمد خان، وظهرت منذ بضع سنين جريدة «جهره نما» بالإسكندرية وهي الآن تصدر في القاهرة. والفرس ميالون إلى المطالعة، وكلهم يقرءون العربية لأن تعلم هذه اللغة إلزامي في مدارسهم.
وفي بلاد الفرس جماعة كبيرة من العلماء، وهم على أربعة أصناف: (1)
علماء العلوم الدينية، وهم الفئة الكبرى، ومنهم الفقهاء، وكل اشتغالهم باللسان العربي مطالعة وتأليفا. (2)
الحكماء، ويسمونهم الحكميين نسبة إلى الحكمة؛ أي الفلسفة، وهم كتار ومبتسرون ويكتبون بالعربية والفارسية. (3)
علماء العلوم الحديثة، ومنهم الأطباء والمهندسون وغيرهم، وهم يعرفون العربية والفارسية والفرنساوية وغيرها. (4)
الشعراء، وهم جماعة كبيرة لهم شأن عظيم عند الدولة والملة؛ لأن الشاه وأهل دولته يعظمون شأن الشعراء ويجلون مقامهم، ومنهم شاعر خاص يسمونه «ملك الشعراء» وآخر لولي العهد يسمونه «صدر الشعراء».
وليس في بلاد فارس جمعيات أدبية أو علمية على ما يعلم إلا جمعية نشأت منذ عدة أعوام تسمى «أنجمن دآتس». وفي النجف طائفة كبيرة من علماء الدين عندهم، كان لهم تأثير كبير في إعادة الدستور، وهم الذين تعاقدوا مع ثريا بك مندوب جمعية الاتحاد والترقي العثمانية على الثبات في نصرة الحرية، وهذا رسمهم وهم يتعاقدون (راجع تاريخ الدستور الفارسي في السنة 17 من الهلال).
شكل 12-4: تعاقد علماء النجف وثريا بك. (1-7) نظام الجند
ولا بأس من استطرادنا إلى ذكر نظام الجند الفارسي؛ لأنه من جملة مقتضيات التمدن الحديث. دخل هذا النظام سنة 1228ه/1813م، بدأ بتنظيمه فتح علي شاه، وكان قد سمع بنظام الجند الفرنساوي على ما وضعه بونابرت، فبعث إلى فرنسا استقدم أحد مشاهير قوادها ومعه عشرون ضابطا جعلهم جميعا تحت قيادة ابنه عباس ميراز ولي عهده، وكان يومئذ واليا على أذربايجان، فدربوا الجند على نظام الجند الفرنساوي. ثم تراءى له إبداله بالنظام الإنكليزي، وسمي الجندي «سرباء» أي فادي الرأس. ثم أبدله ناصر الدين شاه بالنظام النمساوي سنة 1292ه/1876م على أثر رحلته المشهورة إلى أوروبا، واختار لجنده ضباطا نمساويين عقد معهم اتفاقا على خمس سنوات، فلما قضوا تلك المدة طابت لهم الإقامة هناك فتجنسوا بالجنسية الفارسية وتوطنوا، ولا يزال هذا نظام جند فارس إلى اليوم.
الفصل الثالث عشر
الأمير عبد الرحمن أمير الأفغان
(1) استقلال أفغانستان
يبدأ تاريخ أفغانستان بالوضوح منذ استيلاء تيمورلنك عليها، وهو القائد المغولي الشهير الذي دوخ آسيا في أواخر القرن الرابع عشر للميلاد، وفتح أفغانستان في جملة فتوحاته وتولاها خلفاؤه بعده، وفي سنة 1501م استخرجها من دولة آل تيمور ظهير الدين محمد القائد المغولي المعروف ببابر، «بابر» في الهندية «النمر»، سمي بذلك لما ظهر من أعماله الدالة على البطش والشجاعة، وهو من سلالة جنكزخان، وفي عروقه شيء من دم تيمورلنك. ظهر هذا القائد في فرغانة بين سمرقند ونهر الهند، وكان أبوه أميرا على فرغانة، فطمع هو في الغزو ففتح كابل، ودوخ بلاد الهند، وأسس فيها دولة مغولية دخلت أفغانستان في حوزتها.
شكل 13-1: الأمير عبد الرحمن خان (ولد سنة 1830 وتوفي سنة 1901).
وما زالت أفغانستان تابعة لدولة بابر حتى ظهر نادر شاه القائد الفارسي الشهير بنابليون الشرق (راجع ترجمته في الهلال 22 سنة 7)، فكان من جملة غزواته أنه فتح قندهار وكابل سنة 1737، واكتسب ثقة الأفغانيين فأحبوه وانتظموا في جنده وفي جملتهم شاب شجاع اسمه أحمد خان الدراني من قبيلة العبادلة، وكان يعرف بأحمد خان العبدالي.
شكل 13-2: تيمورلنك القائد المغولي الشهير.
وظلت أفغانستان في حوزة الفرس عشر سنوات، فلما قتل نادر شاه سنة 1747 اختار الأفغانيون أحمد المذكور أميرا عليهم، فأصبحت أفغانستان مملكة مستقلة وملكها أحمد العبدالي، وقد سموه أحمد شاه، فتولى حكومتها بضعا وعشرين سنة، وفتح بلادا كثيرة أخضعها للأفغان، فأصبحت مملكته تمتد من بحر قزوين غربا إلى حدود الهند شرقا، ومن أشهر حروبه واقعة بني بتان قرب دهلي حارب بها قبائل المهراتة من الهنود الوثنيين في 6 يناير سنة 1761 والمهراتة يومئذ في إبان بطشهم، وقد أعجزوا أعاظم السلاطين التيمورية في الهند حتى طمعوا بنزع السلطة من أيدي المسلمين، وكانت جنود الهند في تلك الواقعة ثمانين ألفا، وجند أحمد شاه ستين ألفا نصفهم من الأفغان، ولم يكن أحمد شاه يعتمد في حروبه على سواهم، فانهزمت المهراتة شر هزيمة ونكل بها الأفغانيون تنكيلا عظيما، فطار صيت أحمد شاه في أقطار الهند وهابه الملوك والأمراء، وانتشرت سطوته هناك ففتح بنجاب وكشمير والسند وما والاها.
ثم بلوجستان ومكران وبلخ وغيرها، واتسعت مملكة الأفغان في أيامه اتساعا عظيما، ونالت ثروة وسطوة لم تبلغ لهما قبله ولا بعده، وأحبه رعاياه وأكرموه حتى لقبوه ببابا، وصار اسمه «أحمد شاه بابا».
شكل 13-3: نادر شاه ، الفاتح الفارسي الشهير.
ولكن الممالك القائمة بقوة سلطانها أو أميرها فقط لا تلبث إذا هو مات أن تسقط حتى يقوم من يقيمها بعده، خلافا للحكومات المؤسسة على النظام والمقيدة بالشورى، فإن موت الملك قلما يؤثر فيها. ومات أحمد شاه سنة 1773 فخلفه ابن له اسمه تيمور، وكانت قصبة المملكة قندهار فجعلها كابل وهي لا تزال قصبة أفغانستان إلى الآن. وكان تيمور هذا حكيما عاقلا فاجتهد في استبقاء ما خلفه أبوه من العز فبقيت المملكة سعيدة طول أيامه، وتوفي بعد عشرين سنة، وخلف 23 ولدا، خلفه منهم ابنه الخامس شاه زمان، وقام النزاع بين الإخوة فتضعضعت المملكة وخرج كثير من الولايات من حوزتها، وصار القواد يختطفونها والأعداء يسطون عليها مما يطول شرحه، حتى أفضى الأمر إلى انقسامها، فاستولى على كابل أحد القواد من قبيلة الباركزائية واسمه دوست محمد (جد عبد الرحمن أمير الأفغان) في أوائل القرن الماضي، وطمحت مطامع نابليون بونابرت في أثناء ذلك إلى أواسط آسيا فبعث الجواسيس إلى أمرائها وملوكها وفي جملتهم شاه الأفغان، فخاف الإنكليز عاقبة تلك الدسائس فبعثوا سفيرا إلى الشاه سنة 1809 لمقاومة دسائس بونابرت، وكان ذلك أول علاقات الإنكليز بالأفغان، ثم سطا الفرس على الأفغان فحاصروا هرات سنة 1837 وتحرك الروس فخاف الإنكليز على أغراضهم، فأرسلوا سفيرا اسمه بارنس ليقيم في كابل، وازدادت العلائق بعد ذلك بين دوست محمد وإنكلترا، وكتبت المعاهدات وإنكلترا تنصره على كل مهاجم أو منازع، وكان دوست محمد شاه هذا حكيما ينظر في شئونه بعين الحكمة والدراية فاستفاد من علائقه الحسنة مع إنكلترا فائدة كبرى.
وتوفي دوست محمد عام 1863 ونذكر من أولاده ثلاثة، وهم: أفضل خان، وأعظم خان، وشير علي خان، وكان هذا أصغرهم، ولكن أباه اختصه بولاية العهد من دونهم فشق ذلك على أخويه، وقام النزاع بين الإخوة وشبت الحروب الداخلية، فكان النصر حليف شير علي خان حتى قبض على أخيه أفضل خان (والد الأمير عبد الرحمن) وألقاه في السجن، وكان عبد الرحمن شابا لا يزيد عمره على العشرين عام، ففر إلى بخارى ثم عاد إلى أفغانستان، وانضم إلى جيش عمه أعظم خان، وحارب معه حتى تمكن من دخول كابل بجيشه ظافرا، ثم طارد شير علي خان وتغلب عليه في مواقع كثيرة.
ثم عاد شير علي ومعه القبائل والأحزاب فأخرج عبد الرحمن من كابل، فأراد الالتجاء إلى الهند فمنعه حاكمها من الدخول إليها فاحتمى بروسيا نكاية بإنكلترا، وأقام عبد الرحمن بين سمرقند وتشقند عشر سنوات، والحكومة الروسية تجري عليه راتبا يزيد على مائة وخمسين جنيها في الشهر. (2) الأمير عبد الرحمن
هو عبد الرحمن خان بن أفضل خان بن دوست محمد خان، ولد عام 1830 ونشأ منذ نعومة أظفاره بين الفتن والحروب بما قام من التنازع على النفوذ في أفغانستان بين الروس والإنكليز. ناهيك بما استحكم من الخصام بين والده أفضل خان، وأعمامه أولاد دوست محمد خان، لكن عبد الرحمن يناضل عن والده نضالا حسنا، واشتهر بالشجاعة والإقدام، ولم تبق بقعة في أفغانستان لم تتلوث أرضها بدماء قتلاه. حتى إذا حمي وطيس الحرب بعد دخول الإنكليز لجأ هو إلى الروسيين وتلك عادة أمراء الأفغان في مثل هذه الأحوال. فأجرى القيصر عليه الرواتب والوظائف حتى كانت سنة 1880 وخلت كرسي الملك في كابل فأقامه الإنكليز عليها على أن يراعي جانبهم .
ثم أخذوا بناصره وعضدوه وبالغوا في تقريبه بالهدايا والرواتب، وفي جملة ذلك راتب مقداره 18000جنيه في العام فضلا عن النياشين والرتب، ولقبوه السير عبد الرحمن خان. وجهزوه بكثير من الأسلحة والمدافع، وجعلوا من مقتضى المعاهدة المبرمة بينهم وبينه أن يمدوه بالمال وينصروه بالرجال عند الحاجة، وأنشئوا له في كابل ترسانة للأسلحة وأمدوه بالعملة والمهندسين، حتى صاروا يعتقدون أنه صنيعهم وخادم مصالحهم. أما هو فلم يكن يعترف بذلك ولا يريد أن يعترف به، بل كان يعتبر نفسه مخالفا لإنكلترا، ويؤيد ذلك أنه أراد أن يرسل سفيرا من قبله يقيم في لندن كما تفعل سائر الدول المستقلة. على أنه كثيرا ما صرح بصداقته لإنكلترا جهارا، ومن جملة ذلك أنه التقى باللورد دوفرين في بندي في ربيع عام 1885 فأعرب الأمير عما في نفسه من الاحترام لجلالة الملكة ورجال حكومتها، وكانوا في وليمة جمعت جما غفيرا من رجال الدولتين، فاستل الأمير عبد الرحمن سيفه من غمده المرصع، ولفظ خطابا قال في ختامه إنه سيقتل عدو إنكلترا بحد ذلك السيف.
ولم يكن جلوسه على كرسي الملك كافيا لتأييد سلطانه فحارب حروبا كثيرة قبل أن استتب الأمر له، من جملتها أن أيوب خان أحد منازعيه ثار في قندهار فأرسل إليه عبد الرحمن جندا عادوا خاسرين، فلم ير بدا من اقتحام الوغى بنفسه فحمل عليه وقهره، ففر أيوب إلى بلاد إيران، وعاد عبد الرحمن وقد سكر بخمر الظفر وحكم رعاياه بعصا من حديد، فنفر الوجهاء منه فساء الظن بهم وخيل له أنهم يتآمرون على خلعه، ولم يهدأ له بال حتى قتل كل من ظنه من أعدائه أو كان وجيها محبوبا يخشى منه على نفوذه. فازداد الناس كرها له ورعبا منه، ولكنهم لم يحركوا ساكنا؛ لما يعلمونه من شدته واستبداده.
على أن ذلك لم يمنع ظهور ثورات أخرى بل ربما كان داعيا لها؛ فإن النازية حاربوه مرارا ولم ينج من مطامعهم إلا بسفك الدماء.
وفي سنة 1888 حاربه ابن عمه إسحاق خان، وكان حاكما في أفغانستان تركستان وسبب حربه أن عبد الرحمن دعاه إلى كابل دعوة ظاهرها حبي، فخاف إسحاق تلك الدعوة؛ لما يعلمه من عاقبة المدعويين قبله فاعتذر عن القدوم، فأعاد الدعوة وتفنن بأساليب التجمل فلم ينخدع إسحاق وظل على عزمه، فاتهمه عبد الرحمن بالعصيان وأنفذ جيشا للقبض عليه فشتته إسحاق وطمع بكابل فحمل عليها، فأسرع عبد الرحمن لملاقاته وحاربه، ففر إسحاق إلى بلاد الروس، وأقام في سمرقند هو وأنصاره تحت رعاية روسيا وحمايتها وهي تنفق عليهم وتبالغ في إكرامهم.
ثم ثار عليه الهرارية بين كابل وهرات، وهم من أهل الشيعة فحاربهم فتعقبوه، ولكنه تغلب عليهم واستتب له الملك ثم أصيب بمرض النقرس، ولا يزال يتردد عليه العام بعد العام حتى ذهب بحياته سنة 1901. (2-1) صفاته وأخلاقه
هو ربعة، ممتلئ الوجه، حاد البصر، متناسب الملامح كما نرى في الرسم. يتكلم الفارسية، والبوسنية، وبعض العربية. قال بعض الذين جالسوه أنه حسن المحاضرة، فصيح الكلام، محتشم صحيح القياس مع مبالغة وإطراء، وتظهر فيه هذه الصفات خصوصا إذا وقف على منبر الخطابة، فإنه يؤثر على سامعيه تأثيرا شديدا، ومن غريب ما يروونه عنه مما يندر في أمراء تلك الأصقاع أنه معتدل المزاج، لا نهم ولا شره، لا يشرب الخمر إلا قليلا، ويكره الأفيون ولا يقبله إلا إذا اشتد به الألم من مرض أو نحوه فيتخذه مسكنا، ولكنه شديد الإعجاب بنفسه، كثير التحدث بما أوتيه من النصر، حتى جعل نفسه قرينا للإسكندر الكبير، فهو يعتقد أنه متصل بهذا الرجل العظيم بحلقات كثيرة تفصل بينهما، لكنها بالية لا يعبأ بها.
ويؤخذ من بعض أحاديثه أنه مطلع على كثير من أخبار الأمم، قوي الذاكرة، وشديد الحذر من الأجانب، فلا يأذن لأحد أن يجتاز بلاده لتجارة أو نحوها إلا في أحوال خصوصية، ولكنه مع ذلك كثير الإكرام للنزيل لا يذخر وسعا في سبيل راحته. (2-2) حكومته
هي ملكية مطلقة، وتقسم مملكته إلى أربع إيالات: كابل، وتركستان، وهرات، وقندهار، وأضاف إليها مقاطعة بدكشان وما يتبعها. يتولى كل ولاة وال يسمونه «حاكما»، وكان يسمى في أيام شير علي خان «نائب» ويتولى القضاء قاض، وبعض المفتين أو المحتسبين وهم الشرطة يجرون على نظامات لو روعيت لم يكن بها بأس.
وأما جنده فقد نظمه شير علي خان سنة 1869 على نظام الجند الأوربي، وكان قد أهمل هذا النظام فأعاده عبد الرحمن، وعنده فضلا عن الجند النظامي عدد كبير من الأهالي، وفيهم الفرسان والمشاة ينجدونه عند الحاجة. أما عدد الجند فلا يمكن تحديده لاختلاف الروايات في شأنه، فقد قدروه سنة 1896 بخمسين ألف ماش تحت السلاح وأربعين كوكبة من الفرسان، وأما سنة 1890 فقد بلغ جند الأفغان 200000 مقاتل، وعنده من الأسلحة النارية ست بطاريات جبلية تجرها البغال، وبطارية تجرها الأفيال، ومراكز الجند في هرات ومزارع الشريف وقندهار وجلال آباد، وتصنع الذخيرة في ترسانة كابل بإدارة بعض الإنكليز، يصنع فيها في كل يوم 10000 فشكة من فشك مارتيني و10000 من فشك سنايدر و15 بندقية، ويصنع فيها مدفعان في كل أسبوع.
شكل 13-4: الأمير عبد الرحمن في أثناء سياحته ببلاد الهند سنة 1885، إلى يمينه دوك كابوت وإلى يساره ماركيز دوفرين.
ومما يذكره الإنكليز من علائقه الحسنة بإنكلترا زيارته الهند سنة 1885 لحضور المجلس الأعلى «دربار» الذي عقد في روال بندي في شمالي الهند الغربية على أثر المؤتمر الذي تشكل يومئذ من روسيا وإنكلترا بشأن الحدود الشمالية لأفغانستان بعد احتلال روسيا لمرو، وقد جرى أمير الأفغان في هذا الأمر على مقتضى مصلحة الإنكليز فأكرموه واحتفلوا باستقباله في روال بندي احتفالا شائقا على النمط الشرقي، وقدموا له سيفا مرصعا، وفي (ش
13-5 ) صورته في أثناء ذلك الاحتفال. (2-3) حياته في بيته
اطلعنا على رسالة للدكتورة هملتن طبيبة بيت الأمير عبد الرحمن نقتطف منها ما يأتي تتمة لما ذكرناه من مناقب هذا الأمير، قالت:
اعتقاده في النساء:
لم أسمعه يتكلم عن زواجه إلا قليلا، وكان ذلك بمناسبة ذكر زواجه الأول الذي تم وله من العمر ثمانية عشر عاما، فقد قال لي: «قد يتزوج الرجل غير مرة لأسباب تدعوه إلى ذلك، ولكن قلبه لا يعرف إلا زوجة واحدة وتلك زوجته الأولى»، وقال لي إنه لكي يكاتب خطيبته الأولى ويراسلها تعلم الكتابة والقراءة؛ فلهذا يجل تذكارها ويقدس أيامها؛ فقد اقتطفت المنون زهرة شبابها في نضرة عمرها، وهي بنت عمه الأمير محمد أعظم خان، وأقول: إنها لو كانت كأفراد العائلة فإنها تستحق الشهرة التي نالتها في اللطف والجمال.
وفي السنوات الأخيرة لم يكن يحفل الأمير بالنساء، ولا يسمح لهن بحضور مجلسه إلا في القليل النادر، وإذا سمح لهن بذلك فإنما يعاملهن كما يعامل الأطفال الصغار لا كما يستحق أن يعامل من في يده تربية الناشئة الجديدة، والحق يقال إن تربية النساء الأبناء ليست موكولة هناك إلى الأمهات؛ إذ لا يكاد يقدر أحد أنجال الأمير على المشي حتى يسلم إلى المعلم يتولى تربيته ويبقى تحت رعايته حتى يصير رجلا، وأتذكر أنني أبديت له استغرابي من هذه الطريقة، فقال: «ليت شعري كيف يكون حال أولادنا لو تركناهم إلى تربية نسائنا؟ وكيف ينشأ الولد الذي يتربى بين أحضان هاته النسوة!» ولما قلت له: إن النساء الإنكليزيات يتولين تربية أبنائهن في زمن الصغر حتى يقدرن على الذهاب إلى المدرسة، تبسم، وقال: «كيف يمكنك أن تقارني بين سيدة أوربية وسيدة شرقية؟!» ولم أقدر على إقناعه بأن نساء الأفغان إذا تعلمن وتربين وأطلقت لهن الحرية، أصبحن كنساء أوروبا؛ لأنه كان يرى أن الزمن لم يأت لهذه الحركة، وأن نساء الأفغان لا يصلن إلى درجة المرأة العربية حتى قال ذات مرة: «أي دليل أظهره نساؤنا على رغبتهن في التعليم أو ميلهن إلى المعارف؟! هل طلبن منك أن تعلميهن شيئا من الأعمال التي تقومين بها؟ ألا يحتقرنك ويرين علمك ومعارفك من سقط المتاع؟! ألا يتحسرن عليك بدلا من أن يغبطنك؟!» فلم أقدر على الجواب، ولكني لا أزال أعتقد أنه لو مهد لهن سبيل التعليم، وأطلقت لهن حرية الفكر، فإنهن يترقين شيئا فشيئا.
شكل 13-5: الأمير عبد الرحمن بلباسه الرسمي.
اعتقاده في الدين:
جمع الأمير عبد الرحمن في صفاته الأخلاق المتضادة؛ فبينما تظنه متمسكا بعادات قومه وعقائد شعبه تراه يبدي لك رأيا أو يبرهن لك قضية لا يصدران إلا عن استقلال فكر وحرية ضمير مع ثبات عليه وتمسك به مهما حاول أحد إقناعه.
وكان كثير الشغف بالمجادلات الدينية، حتى إنه طالما كان يتهمني بأني مشركة لا أعبد إلها واحدا، وكان لا يصغي كثيرا إذا أردت أن أشرح له حقيقة اعتقادي، وأتذكر أني تكدرت من هذه التهمة وظهر على وجهي التأثر الشديد، فقال وهو يبتسم: «خففي عنك وطأة الانقباض أيتها السيدة؛ لأننا إنما ننظر إلى المسألة من وجوه مختلفة، وأرجو أن تضعي هذا الإناء الصيني - وكان بالقرب مني - على المائدة.» ثم قال: «اجلسي أمامي» وسألني: «ماذا ترين من النقش على هذا الإناء؟» فقلت: «إني أرى صورة تنين أخضر فاغر فاه محملق بعينيه وله ذنب طويل.» فأجابني على الفور قائلا: «هذا كلام لا حقيقة له؛ فإن المنقوش على الإناء صورة بحر وأسماك ومغارة تتكسر عليها المياه وتحوم حولها أشباح صغيرة أظنها حشرات أو ما أشبه ذلك، والآن أرجو أن تصغي أيتها الطبيبة وتعلمي أنني لا أمزح، بل إنني حقيقة أرى ما وصفته لك ولا أرى ما ترينه أنت؛ لأنني لا أبصره ولم يقع تحت نظري، فإذا أنا أنكرت وجود البحر والأسماك فهل يقتضي ذلك أن نتشاجر ونتقاتل؟» ولا خلاف؛ فإنني فهمت كل ما أراد أن يعبر عنه، لأن مثل هذا التعبير ظاهر جلي، ولكنني استغربت صدوره منه، وزاد عجبي حينما رأيته بعد ذلك قد اضطجع على كرسي كبير وأسند رأسه على وسادته، ثم قال: «هكذا نحن في هذه الدنيا؛ ننظر إلى الأمور من وجه واحد، ولكن سوف نرى بأعيننا الوجهين في العالم الآخر، بل سوف نعلم أن كل نظر إلى جهة واحدة باطل وخطأ مبين.»
شكل 13-6: حبيب الله خان أمير الأفغان.
قلت: إن الأمير كان ذا شغف بالمجادلات الدينية، إلا أنه كان لا يحب أن يسمح لي تفسيرا عن معتقداتي، وفي ذات يوم أخذ برتقالة وعلقها في سلسلة ساعة ثم طلب مني خيطا من الصوف، وكنت جالسة بالقرب منه أنسج شيئا من القماش، ومع رغبتي في عدم قطع الخيط لم أتأخر عن إجابة طلبه، ثم قال: «والآن أحضري لي خيطا من الحرير وسلكا دقيقا من الحديد»، ثم ربط كل خيط بالبرتقالة وأنا واقفة أنظر إليه ولا أدرك ما يريد، ثم قال: «انظري أيتها الطبيبة، إنني حينما أعلق هذه البرتقالة بأحد هذه الخيوط لا تقع، ولكنها ليست كلها متساوية في القوة؛ فأحد هذه الخيوط أمتن من الآخر، انظري إلى الخيط الصوفي وإلى سلسلتي الذهبية فهما متساويان متبادلان في تأدية المطلوب، وهذا مثال الأديان وقيمتها؛ فبعضها أنقى وأطهر وأعلى، وهو بذلك أمتن سببا وأقوى رابطة، ولكنها كلها تربط الإنسان بالخالق القادر المبدع سبحانه وتعالى، حتى أدنى الأديان وأحطها أنفع من لا شيء، فهذا الخيط الحريري لا يدوم طويلا بل ينقطع حالا، وهذا السلك الحديدي يفلت من البرتقالة كغيره، فتمسكي بدينك؛ فإن الأفضل أن يكون لك دين ولو فيه خطأ من أن لا تديني بشيء.» انتهى. (2-4) نظر الإنكليز إلى عبد الرحمن
قال أحد كتبة الإنكليز يصف علاقة الأمير عبد الرحمن بإنكلترا: «إن علاقة هذا الأمير بنا لا يصح أن نعتبرها مرضية وإن ظهرت لنا كذلك. نعم، إنه يسايرنا في كل ما نرجوه من نفعه ويقابل سفراءنا بالإكرام والتعظيم، وقد أرسل ابنه لزيارتنا في لندن، ولكن القرائن الأخرى تدلنا على أنه كثيرا ما ساير ألد أعدائنا في الهند، ولا أظنه لو وفق في سعيه معهم إلا راميا بصداقتنا عرض الحائط، وغاية ما يقال في هذا الرجل أنه صديق حميم وحليف مفيد للهند طالما كانت حكومة الهند شديدة البطش، وأما إذا ضعفت فإنه من أشد الجيران خطرا عليها، قال: وأما خليفته حبيب الله خان فإننا لا نتوقع منه غير السكينة والمسايرة وهو لا يرى منا إلا كل مساعدة ونصرة.»
الفصل الرابع عشر
حبيب الله خان
هو أكبر أنجال الأمير عبد الرحمن الجديد، تولى الملك بعد وفاة أبيه بمقتضى نظام وضعه أبوه لذلك، وهو الآن في حدود الأربعين من عمره ودلائل الصحة والشباب بادية في صورته. وقد تأتى له أن يتولى نيابة حكومة كابل في حياة أبيه وهو يحارب إسحاق خان سنة 1888، ورأى الأمير بعد رجوعه ما حقق ظنه في ولده حتى عهد إليه مراجعة ما يرد من كتب الولايات فلا يقرؤها هو إلا بعد أن ينظر فيها ابنه، ثم ولاه بيت المال سنة 1897 وعهد إليه القضاء الأعلى.
وكان من رغائب الأمير المتوفى أن يوطد العلائق بين ابنه والأسر الأفغانية الكبرى، فلم ير وسيلة لذلك خيرا من المصاهرة فأزوجه سبع زيجات، ولكن الغرض الذي رمى إليه الوالد بهذا الزواج لا يوازي ما يخشى من الفساد بتكاثر النسل والخصام على الملك، ولم يقتصر الأمير عبد الرحمن على تزويج ابنه، ولكنه أزوج أبناء ابنه المذكور بفتيات اختارهن من العائلات الكبرى المشار إليها.
ومن الأعمال التي تولاها الأمير حبيب الله خان في حياة أبيه نظارة الخارجية فقد كانت المخابرات مع الدول الأوربية على يده، على أن أسرار السياسة كانت منحجبة في صدر عبد الرحمن، والغالب أنه أطلعه عليها قبل موته، وأهمها أن يكون مواليا لإنكلترا حليفا لها، وفي لسان حبيب خان لثغة أو عجمة تعيقه عن الاسترسال في الكلام يظن أبوه أنها نتجت عن سم دسه له بعض الأعداء ولم يمته، ولكنه أضر بنطقه.
الفصل الخامس عشر
تسي هي إمبراطورة الصين
(1) حداثتها
هي من أصل منشوي، والمنشو قبيلة نزحت إلى الصين منذ قرنين ونصف ومنها العائلة المالكة، وكان والد «تسي» في أول أمره في سعة، ثم نكب فخسر ماله، وسيق منكسر الخاطر إلى «كانتون» فأقام فيها ومعه امرأته وابنته «تسي» هذه وابن آخر، وربيت تسي قوية البنية، نشيطة سريعة الحركة؛ لأن النتولا يحبسون أقدامهم في أحذية الحديد كما يفعل سائر أهل الصين، ولعلها اشتغلت في حداثتها بجمع العيدان من الطرق والدروب وقودا لبيت والدها.
شكل 15-1: تسي هي إمبراطورة الصين.
نزح والدها إلى كانتون سنة 1838 وسن ابنته أربع سنوات، فكان ذلك قبل حرب الأفيون التي أذلت إمبراطور الصين، وكسرت نفوس الصينيين، وكان والد تسي يغالب الفقر والفقر يغلبه، فلم ير له مخرجا منه إلا ببيع ابنته، والصينيون إذا أصابهم فقر فرجوا ضيقهم ببيع بناتهم، وهم يرون في ذلك حكمة؛ لأن الفتاة إذا بيعت أمنت الجوع وخصوصا إذا كانت جميلة وينتفع أهلها بثمنها، ويقال إن فتاتنا هي التي اقترحت على والدها أن يبيعها فأبى عليها ذلك في بادئ الرأي؛ لأنه منشوي من أهل الشمال، وبيع البنات شائع بالأكثر بين الصينيين الأصليين في ولايات الجنوب، ولكن الجوع اضطره بعد ذلك إلى بيعها فاشتراها تاجر أعجب بذكائها ونباهتها، ومن غرائب الأمور أنها تعلمت القراءة والكتابة قبل الثامنة من عمرها بمجرد رغبتها، مع صعوبة ذلك في الصين يومئذ حتى على الرجال، وأغرب من ذلك أن بعض كتبة الإنكليز يدعيها لأمته فيزعم أن فيها دما إنكليزيا، وهو من غرائب الادعاء. (2) زواجها بالإمبراطور
ولما بلغت «تسي» بضع عشرة سنة أصبحت في بيت سيدها كإحدى بناته، واتفق لإمبراطور الصين يومئذ «هيان فونغ» أن زوجته لم تلد له أولادا فأعلن رغبته في فتاة يقع اختياره عليها فيتزوجها التماسا للنسل، وعين يوما تحضر فيه الفتيات اللواتي يطمعن في ذلك النصيب، على أن يكون سنهن بين 14 و18 سنة وأن يكون حضورهن في قصر الإمبراطور في بكين.
قالوا: وكانت «تسي» مارة في بعض الشوارع فقرأت منشور الإمبراطور على بعض الجدران، فوجدت سنها يساعدها على ذلك مع كونها منشوية، فخطر لها أن تعرض نفسها في جملة العارضات، وأكبرت ذلك في بادئ الأمر، ولكنها عولت على التجربة فاستشارت سيدها فاستغرب جرأتها، ولكنها أقنعته فسلم وادعى أنها ابنته لعله يصيب خيرا بنجاحها.
وجاء يوم الاستعراض فبلغ عدد المعروضات بضعة آلاف فتاة حاز السبق منهن عشر وفيهن «تسي»، ولما عرضن على الإمبراطور اختارها هي من بينهن فتزوجها وسنها 17 سنة فولدت له بعد ثلاث سنوات ولدا ذكرا هو ولي عهد المملكة سموه «تونغ تشي».
وليس من الغريب في بلاد لجمال النساء سلطان على قلوب ملوكها أن تنال المرأة حظوة في عيني الملك، ولكن الغريب أن هذه الفتاة مع صغر سنها وأنها دخلت على البلاط الإمبراطوري وفيه إمبراطورة قبلها، تمكنت بحسن سياستها ولطافة أسلوبها أن تجتذب قلب ضرتها وقلوب سائر أهل البلاط، وكانت منذ دخلت ذلك القصر تظهر اللطف والأنس لرفيقتها الإمبراطورة، فلما صارت أم ولي العهد لم تغير شيئا من ذلك. (3) الإمبراطور الجديد
وظلت الأحوال في استكانة ووفاق حتى كانت الحوادث المشومة على الصين سنة 1860، يوم أغار عليها الإنكليز والفرنساويون يدا واحدة، فهدموا حصون طاكو وحملوا على بكين، ففر الإمبراطور بامرأتيه وابنه وعمره ست سنوات إلى قصر له يسكنه في أزمنة الصيد في مكان يقال له: «ياهو». أما المهاجمون ففتكوا بالمدينة وأحرقوا قصر الصيف.
وفي السنة التالية توفي هيان فونغ وولي عهده لا يزال في السابعة من عمره، فعهد بالحكومة قبل موته إلى مجلس أعضاؤه أميران من العائلة المالكة، ووزيره «لونغ تشي» وترك العناية بأمر الغلام إلى الإمبراطورتين، واختص الإمبراطورة الأولى بعهد مختوم دفعه إليها وفيه تفويض تام في أمر الغلام وتربيته، ولكنها كتمت ذلك التماسا للوفاق بينها وبين ضرتها. قال الكاتب: «وهذه أول مرة اتفقت فيها سارة وهاجر».
وما لبثت «تسي» أن رأت نفسها إمبراطورة بالاسم فقط وأن الأحكام صائرة إلى قبضة مجلس الوصاية، فأغرت البرنس «كونغ» أخا الإمبراطور المتوفى على مشاركتها في التخلص من ذلك المجلس، فوافقها واتهمهم بتقصير ارتكبوه في جنازة الإمبراطور فقبض عليهم وقتلهم، فخلا الجو للإمبراطورتين في البلاط الملوكي، واستبد البرنس «كونغ» في إدارة شئون المملكة.
مضى على ذلك ثلاث سنوات والبرنس كونغ عمل على رد ما فقدته الصين بالحروب الماضية والثورات المتوالية، فشاع في المملكة أنه الفاعل لما يريد، فخافت «تسي» أن يجره ذلك إلى الاستبداد بالأمر دونها، فأصدرت في 2 أفريل سنة 1865 أمرا بإغلال يديه عن مصالح الحكومة؛ لأنه تعدى الحد الذي وضع له، فأطاع واعتزل، ولكن المملكة لم تكن تستغني عنه فأعادوه بعد خمسة أسابيع إلى كل ما كان فيه إلا رئاسة المجلس.
وفي سنة 1872 أرشد الإمبراطور وآن زواجه فأخذت والدته على نفسها أن تختار له زوجة، فأعلنت غرضها، وتقاطرت الفتيات من أنحاء المملكة يعرضن جمالهن وفي يد كل منهن لوح فيه اسمها وسنها، فإذا مرت بين يدي الإمبراطورة دفعت اللوح إليها، فإذا وقعت منها موقعا حسنا سألتها بعض الأسئلة وإلا أمرت لها بحذاء من الفضة وزنه أوقية وخلت سبيلها.
فالفتيات اللواتي لم يأخذن تلك الهدية مررن ثانية، فاللواتي أخرجن منهن هذه المرة أعطين لفة من الحرير، وفي المرة الثالثة عينت الفتاة التي وقع اختيارها عليها، واسمها «ألوتى»، وهي جميلة عاقلة، وقبل الزواج بثلاثة أيام أرسل الإمبراطور العريس إلى عروسه حلة الملك، ثم بعث إليها أمرا بتسميتها إمبراطورة، وزفت إليه باحتفال لم يسبق له مثيل، مشى فيه الأمراء واستقبلتها حماتها «تسي» في القصر الإمبراطوري بكل رعاية وإكرام.
وكانت «تسي» بعد ذلك لا تظهر لأحد من الوزراء، ولا يراها أحد من الناس، ولكنها كانت تستطلع حركاتهم وتتبع خطواتهم من وراء الحجاب، ولم تظهر للوزراء وجها لوجه إلا بعد أن أدركت العام الستين من عمرها.
وكان البرنس كونغ بعد ما آنسه من حرج مركزه قد احتال في الإيقاع ما بين الإمبراطورتين فلم يفز، وما زالتا في وفاق معا حتى أرشد الإمبراطور الجديد، وتولى عرش الصين فافترقتا على وفاق، فسكنت «تسي» في جناح القصر الغربي وضرتها في الجناح الشرقي، وسميت الأولى الإمبراطورة الغربية، والثانية الإمبراطورة الشرقية.
وأقامتا في سلام إلى سنة 1873 على رواية مراسل كتب إلى بعض الجرائد عام 1888 قال: «بعثت الإمبراطورة الشرقية إلى رصيفتها تطلب إليها الاجتماع في بعض شرفات القصر فاجتمعتا، وبعد السلام والكلام صرحت هذه الإمبراطورة أن من بواعث ذلك الاجتماع أن المهمة التي اجتمعنا لأجلها قد انقضت، وآن زمن الافتراق، وأنها تود من صميم فؤادها أن تتخلص من ثقل التبعة بعد أن وفقتا إلى التضافر على العمل كل ذلك الزمن الطويل بوفاق تام لخير المملكة ومصلحة الإمبراطور الصغير، وأشارت إلى التفويض الشرعي الذي بيدها من زوجها المتوفى، ولم تكن ذكرته قبل ذلك الحين، فاستخرجته حينئذ، وأطلعت رفيقتها عليه ثم أحرقته، وهي تقول: «لم يبق له نفع الآن.» فأثر ذلك الفصل المدهش في «تسي» تأثيرا شديدا، وأبغضت ضرتها من ذلك اليوم.
هذا ما رواه المكاتب، ولكن يظهر أنهما ظلتا في وفاق مدة أخرى؛ ففي سنة 1874 أمر الإمبراطور بخلع البرنس كونغ وابنه لأنهما فاها بما لا يليق، ولكن كونغ عاد إلى منصبه في اليوم التالي بأمر الإمبراطورتين، وما زال فيه إلى سنة 1884 حتى عزلته الإمبراطورة «تسي» نفسها. (4) إمبراطور ثالث
أما الإمبراطور تونغ تشي فإنه مات سنة 1875 وترك زوجته «ألوتى» حاملا، فاتفقت الإمبراطورتان ثانية على العمل، وكان لا بد لهما من انتظار الولادة ليريا إذا كان المولود ذكرا أو أنثى، فإذا كان ذكرا كانت والدته هي الوصية على الملك ولا يبقى لحماتها وضرتها ذكر، وإذا كان أنثى قضت شرائع الصين بأن تتبنى الوالدة صبيا باسم الإمبراطور وتكون مع ذلك هي الوصية عليه.
فرأت «تسي» أنها فاقدة نفوذها في الحالين، فاتفقت مع رصيفتها والبرنس كونغ على حيلة أخرى، وذلك أنهم قبل أن تلد الحامل تبنوا ولدا سنه أربع سنوات، هو ابن «تشون» أصغر إخوة الإمبراطور «هيان فونغ» فأصبحت «ألوتى» في زاوية النسيان، وعادت «تسي» ورفيقتها إلى الوصاية مرة أخرى، فبسطتا أيديهما في الحكومة واستبدتا في أعمال المملكة ومعهما البرنس كونغ.
وعهدتا بتربية الغلام وتثقيفه إلى رجل مشهور بالتعقل والصلاح اسمه «ونغ تونغ شو» وهو الذي غرس فيه الميل إلى قبول الآراء الحديثة، ويقال إن الغلام شب وفيه انعطاف إلى الإمبراطورة الأولى أكثر مما إلى «تسي». ولكن القضاء فصل بينهما، فماتت تلك سنة 1881، وخلا الجو لتسي، وما زال كونغ على الحكومة إلى سنة 1884 فعزلته، وولت مكانه البرنس «تشون» والد الإمبراطور الغلام، ولم يكن تشون كفئا لذلك المنصب العظيم، ولكنها استخدمته آلة، واستعانت في إدارة شئون المملكة بالرجل السياسي الصيني الشهير لي هنغ تشانغ، وفي سنة 1888 آن وقت انتخاب عروس للإمبراطور الجديد، فاستعرضت البنات واختارت له فتاة اسمها «تيت هونالا» ابنة أحد رجال الحكومة.
شكل 15-2: كوانغ سو إمبراطور الصين الحالي.
وفي سنة 1889 جلس الإمبراطور الجديد على كرسي المملكة وسمي «كوانغ سو»، والصين أرقى حالا مما كانت عليه يوم تولاها سلفه، وكانت تسي قد شعرت قبل جلوسه أن النفوذ ذاهب منها، فأرادت حفظ حقوقها فكتبت عهدا اشترطت لنفسها فيه بعض الحقوق في السلطة، وطلبت إلى الإمبراطور أن يمضيه قبل أن يتولى، فأمضاه، فلما تولى أنكر ذلك عليها فاعتبرت إنكاره خيانة، ونشأ النزاع بينهما من ذلك الحين. (5) الإمبراطور كوانغ سو
كان هذا الإمبراطور في حداثته ميالا إلى الصناعة اليدوية والآلات الميكانيكية مع ميل قليل إلى الدروس والمطالعة، ولما تولى الملك أظهر من الجلد على العمل ما يندر مثله في الملوك بالنظر إلى صغر سنه؛ فإنه ينهض من فراشه الساعة 3 ونصف بعد نصف الليل فيتناول فطورا خفيفا، ويستقبل وزراءه من الساعة الرابعة إلى الساعة السادسة، ثم يخرج لإقامة الشعائر الدينية، ويتناول غذاءه الساعة الحادية عشرة، ويتعشى في العصر ويذهب إلى الفراش باكرا جدا.
وهو نحيف البدن، أصفر اللون مع اسمرار، لوزي العينين أسودهما، مرتفع الجبهة منتظمها، مقوس الحاجبين، لطيف الفم بارز الذقن، إذا ابتسم ظهرت أسنانه صفراء مستطيلة غير منتظمة، تلوح على وجهه النباهة يخالطها بعض السويداء، ولعل ذلك ناتج عن انقطاعه إلى العمل الشاق مع تحمله التبعة الكبرى في هذا المنصب العظيم، وكان اعتماده الأكبر على وزيره لي هنغ تشانغ، وكل ما تم من المشروعات المفيدة على يده إنما تم برأي هذا الوزير العظيم.
وفي عام 1896 ظهر شاب اسمه «كانغ يومي» كان أستاذا في كانتون، وكان مغرما بتاريخ بطرس الأكبر قيصر الروس الشهير، فحدثته نفسه أن يصلح الصين كما أصلح بطرس الأكبر روسيا، فرفع إلى الإمبراطور تقريرا في الإصلاح اللازم لمملكته حرضه فيه على نقض عوائد أسلافه وتقاليدهم، وأن يتبع خطوات جيرانه اليابانيين والروسيين في التماس التمدن الحديث، وأن يجمع وزراءه ورجال حكومته إلى الهيكل الذي يصلون فيه ويأخذ عليهم المواثيق والعهود المقدسة بأن يجروا الإصلاح في المملكة، وأن ينقح قوانين الإدارة ويفتح لرعيته سبيلا يرفعون به ظلاماتهم إليه رأسا، وأن يختار لحكومته شبانا أذكياء نشيطين بقطع النظر عن حالهم في دنياهم أو أنسابهم، وأن ينشئ 12 إدارة كسائر الممالك المتمدنة، وبسط له كيفيات الحكومة ووضع الضرائب وغير ذلك مما يطول شرحه.
ودفع هذا التقرير أولا إلى أحد الوزراء، فكان جوابه: «وكيف نغير تقاليد أسلافنا وعاداتهم»، أما الإمبراطور فأعجب بما فيه وعول على العمل به وشرع في تنفيذ ذلك سريعا، ولكنه لسوء حظه لم يكن له ما كان لبطرس الأكبر من القوة والمنعة، وكان في جملة مساعيه أنه أبعد الإمبراطورة «تسي» إلى جزيرة في ساحة القصر، فلما هاج الشعب من صدمة تلك الإصلاحات خابروا الإمبراطورة واتفقوا معها على محاصرة القصر، فحاصروه ثم دخلته «تسي»، وأصدرت سنة 1898 أمرا بإمضاء الإمبراطور يعترف فيه أنه بالنظر لعجزه عن إدارة شئون المملكة قد كلف الإمبراطورة «تسي» أن تنوب عنه فيها، فعادت إلى ولاية الأحكام، وفر رجال الإصلاح وفي مقدمتهم «كانغ يومي»، وظل كوانغ سو محصورا في قصره تصدر الأوامر باسمه وهو لا يعلم بها. أما نصراء الإصلاح فإنهم طافوا في أنحاء المملكة يطعنون في الإمبراطورة واستبدادها، فشق ذلك عليها فأمرت بإعدامهم ووعدت من يأتي برأس زعيمهم «كانغ يومي» بجائزة كبرى.
وقد يخيل للقارئ مما قدمناه أن هذه المرأة مفطورة على الأذى أو أنها وحش بصورة إنسان، ولكن بعض الذين قابلوها ودرسوا أخلاقها يقولون فيها ما يخالف ذلك، ومنهم كاتب إنكليزي قال في عرض كلامه عن فظائعها في القصر الإمبراطوري: «ولكنها بالنظر إلى العالم الخارجي لا تقل شيئا في أخلاقها وسجاياها عن الملكة فيكتوريا.» وهو إطناب كبير وخصوصا من رجل إنكليزي، وذكروا لها حسنات أخرى، على أن بعضهم عدد سيئاتها وبالغ في فظاعتها حتى لم نعد نعرف الحقيقة، والظاهر أنها جمعت إلى قوة العقل كثرة المطامع، والله أعلم.
الفصل السادس عشر
منيليك ملك الحبشة
شكل 16-1: منيليك ملك الحبشة.
الفصل السابع عشر
علي بن حمود سلطان زنجبار
شكل 17-1: علي بن حمود (سلطان زنجبار).
القسم الثالث
القواد والوزراء
الفصل الثامن عشر
سليمان باشا الفرنساوي
(1) تاريخه في أوروبا
ولد في ليون من أعمال فرنسا في أوائل أفريل سنة 1787، وسمي يوسف سيف، وكان أبوه متوسط الحال يتعاطى الصناعة، فلما بلغ يوسف أشده أراد والده أن يستعين به في أعماله، ولكن الغلام كان يشعر بأنه أرفع من ذلك المكان، فضلا عن ميله الفطري إلى الخروج والجولان، فلم يستطع المواظبة فشق ذلك على أبيه، فتوعده إذا لم يثابر على العمل بأن يدخله في سلك الملاحة عقابا له، فلم يكن ذلك إلا موجبا لسروره، فأدخله في مهنة البحرية سنة 1799 وهو لم يتم السنة الثالثة عشرة من عمره، فأعجبه جوب البحار وركوب الأخطار في سفن كانت إلى ذلك العهد تسير بلا بخار، حتى كانت حروب ترافلغار سنة 1805 بين الأسطول الإنكليزي بقيادة الأميرال نلسون الشهير والأساطيل المتحدة لدول فرنسا وإسبانيا تحت قيادة الأميرال فلينوف وأميرالين إسبانيين وكان الفوز للإنكليز، لكن صاحب الترجمة أظهر على صغر سنه أعمالا تدل على استعداده للشئون الحربية وكان المنتظر أن ينال في مقابل ذلك مكافأة تستحق الذكر فاتفق أنه تخاصم وأحد رؤسائه، وكان سيف عنيفا خشنا فجرتهما المعاتبة إلى المضاربة، فبدأ الضابط فضرب سيف ضربة جرحته، فلم يستطع صبرا على ذلك، فهم بالضابط وما زال يضربه حتى قيل: كفى، فقبض عليه وحوكم، فحكم عليه بالإعدام، وهو حكم عسكري لا مرد له.
شكل 18-1: سليمان باشا الفرنساوي مؤسس الجند النظامي المصري (ولد سنة 1787م وتوفي سنة 1860م).
ولكن العناية سخرت له رجلا من الأشراف اسمه الكونت بول دي سيفور، يقال إن سيف كان قد أنقذه من الموت مرة فذكر له هذا الجميل، فلما حكم عليه توسط في أمره فأنقذه وأرسله إلى الجيش الفرنساوي الذي كان إذ ذاك في إيطاليا.
ولما شبت الحرب بين فرنسا والنمسا كان سيف في جملة الأسرى عند النمساويين، وبقي مغتربا عامين حتى إذا كانت حملة نابليون الشهيرة على روسيا سنة 1802 فكان سيف في جملة جندها، وأظهر في أثناء وقائعها الهائلة بسالة أوجبت التفات نابليون الخصوصي حتى أراد أن يقلده نيشان اللجيون دونور، فدعاه إليه بهذا الشأن فآنس منه استخفافا فحنق عليه وحرمه من ذلك الشرف، على أنه ما لبث أن رقي في الرتب العسكرية حتى بلغ رتبة كولونيل (أميرالاي) بعد رجوع تلك الحملة السيئة الحظ.
ثم كانت الوقائع المشهورة التي قضت على رجل فرنسا (نابليون) بالأسر والنفي، فقضي على الكولونيل سيف بالخروج من الجندية والانقطاع إلى التجارة التماسا للتعيش، ولكن أنى للجندي المحارب أن يساوم امرأة أو غلاما على مبيع سلعة فيبح قبل إتمام المبايعة! وخصوصا صاحب الترجمة؛ فقد كان قليل الصبر على مثل ذلك، فأنفت نفسه التجارة ولم يفلح فيها، وسمع في أثناء ذلك أن شاه العجم في حاجة إلى ضباط حاذقين في تدريب الجند فكتب إلى صديقه الكونت دي سيفور المتقدم ذكره يلتمس كتاب توصية منه إلى الشاه، فنصح له الكونت أن يتوجه إلى محمد علي باشا بمصر. (2) تاريخه وأعماله في القطر المصري
فجاء مصر سنة 1819 ومعه كتاب توصية، فأحسن محمد علي باشا مقابلته وكلفه بالبحث في جهات السودان عن معادن فحم الحجر، ولكنه لم يعثر على شيء منه فعاد إلى القاهرة، واتفق وصوله إليها يوم الاحتفال بغلبة الجنود المصرية على الوهابية.
وكان محمد علي باشا لحسن نظره واهتمامه في تأييد دولته ما زال يفكر في سبيل يوسع به ملكه، وتوسيع الملك لا يكون إلا بتعزيز الجند، والجند لا يقوم إلا بالنظام، وكان قد شاهد الجنود الفرنساوية بمصر وأعجبه نظامها، وهو النظام الذي وضعه بونابرت وتمكن به من التغلب على معظم دول الأرض، وكانت الجنود المصرية إلى ذلك العهد لا تزال على النمط القديم لا يعرفون الخطوط ولا المربعات ولا ما شاكل ذلك من النظامات العسكرية، بل كانوا عبارة عن فرق أو وجاقات وفيهم الأرناءوط والإنكشارية والمغاربة ونحوهم، ولكل من هذه الفرق قائد، فإذا نزلوا ساحة الوغى ركب كل جواده واستل حسامه أو بندقيته أو رمحه وهجم على ما يتراءى له.
فرأى محمد علي باشا رحمه الله أن يجعل جنده نظاميا، ففاوض الكولونيل سيف بالأمر فرغبه فيه، فعهد إليه تأليف الجند على هذه الصورة وتدريبه على الحركات العسكرية، فشق ذلك على جماعة الأرناءوط وغيرهم؛ لأن ذلك النظام في اعتبارهم بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، فلم يقبلوا الإذعان ونفروا وتمردوا وتجمهروا حول القلعة يطلبون الرفق بهم، فرأى محمد علي أن يعاملهم بالحسنى، فأجاب ملتمسهم وأغضى عن تعليمهم، ولكنه رأى أن يدخل ذلك النظام بين جماعة الوطنيين لقربهم من الإذعان، فأنشأ مدرسة حربية في الخانكاه قرب المطرية تعلم فيها اللغات والحركات العسكرية، وجعل سراي مراد بك بالجيزة مدرسة للفرسان، وأنشأ مدرسة للطوبجية، ثم أنشأ في القاهرة معامل لسكب المدافع واصطناع سائر حاجيات الجند، وعهد بذلك كله إلى الكولونيل سيف وكان قد أسلم وسمى نفسه سليمان، فصار يعرف باسم سليمان بك الفرنساوي، وأحبه المصريون وأذعنوا له، فنظم جندا نظاميا بلغ عدده 25000 جندي كانوا له عونا في حروبه بالمورة والشام وغيرهما.
ولما كانت حروب المورة المشهورة منذ سنة 1821 أنفذ الباب العالي إلى محمد علي باشا أن يجند جيشا لمحاربة المورة، فأرسل عمارة بقيادة ابنه إبراهيم باشا سنة 1821 وكان سليمان بك من جملة أبطالها، وتمكن ببسالته من الاستيلاء على جزيرة ميسولونغي سنة 1826 ثم عين حاكما لبريوبتزا فساس أمورها، ثم انقضت مشكلة المورة بمداخلة الدول الأوربية، فعادت الجنود المصرية، وعاد سليمان بك ومعه فتاة يونانية على مثل ما كان يفعل أبطال اليونان القدماء.
ولكن هذه الحرب أثقلت كاهل الجندية المصرية، فأعاد محمد علي اهتمامه في إصلاحها ثم كانت الحوادث التي قضت بتجريد الجنود المصرية على عبد الله باشا والي عكا سنة 1731 بقيادة المرحوم إبراهيم باشا، وفوض قيادة الطوبجية إلى سليمان بك، فسارت الحملة إلى الشام في حرب عكا ثم فتحها عنوق فقبض إبراهيم باشا على واليها عبد الله باشا وأرسله إلى الإسكندرية، وأوغل في الشام وسليمان بك ساعده الأيمن في كل المواقع الكبيرة، وكان قائدا لستة آلاف جندي فأنفذ الباب العالي جندا كبيرا لقهر الجند المصري فوكل إبراهيم باشا مقابلة جانب من هذا الجند إلى سليمان بك، وسار هو لمقابلة الباقين فحارب سليمان فرقة كبيرة قرب حمص فتغلب عليها في بيلان ثم في الإسكندرونة ثم في قونية، وكانت قد تعززت بنجدات قوية، فأعجب إبراهيم باشا بشجاعة هذا الرجل ومهارته في الحركات العسكرية، ورقاه إلى رتبة باشا، وكان في عزم المصريين البقاء على الزحف لو لم تتداخل الدول وتقرر الصلح، فعادت الجنود المصرية إلى السكينة، ولكنها ما لبثت أن عادت إلى الحرب لهياج حدث في بيت المقدس، فساروا ومعهم سليمان باشا فأخمدوا الفتنة.
وبعد قليل أصدر محمد علي باشا أمره برجوع سليمان باشا إلى مصر، ثم عادت الحرب في سوريا فعاد إليها إبراهيم باشا، وما زال يحارب بسيف المصريين حتى اقتضت السياسة الأوربية انسحاب الجنود المصرية من سوريا، فرجع سليمان باشا معها إلى مصر وتعين رئيسا عاما للجيش المصري، وما زال فيها عالي الكلمة، مرعي الجانب حتى أراد إبراهيم باشا السفر إلى جبال البيروني للاستجمام فانتدب سليمان باشا لمرافقته فرافقه، وساعده الحظ أن يرى وطنه رأي العين بعد أن غاب عنه أعواما طوالا، ولما شفي إبراهيم باشا من مرضه زار فرنسا ثم لندرة وصاحب الترجمة معه، فسرته تلك الرحلة لأنه تمكن من تفقد الثكنات العسكرية في أكبر عواصم أوروبا، وملاحظة الحركات الحربية، ثم عاد إلى باريس وإبراهيم باشا لا يزال في لندرة، وبرح باريس إلى البلجيك وهولندا، ثم عاد إلى ليون مسقط رأسه فأقام فيها مدة بين أهله وذويه، ثم رجع إلى الإسكندرية فمصر ورفع إلى محمد علي باشا تقريرا بما رآه ولاحظه في أثناء سفره، وعاد إلى الاهتمام في تدريب الجند، وما زال عاملا مجتهدا حتى توفي إبراهيم باشا، فصار الأمر إلى عباس باشا الأول، ثم إلى سعيد باشا، فتوفي صاحب الترجمة على عهده في 11 مارس سنة 1860. (3) صفاته وأخلاقه
كان ربعة، ممتلئ الجسم، قوي العضل، شديد التعلق بالجندية، وكان عنيدا مع ميل إلى خشونة المعيشة العسكرية، ومما يروى عنه من هذا القبيل أن عباس باشا الأول رغب إليه مرة أن يخرج بتلامذة الحربية إلى النزهة ففعل، فلما كان وقت الغذاء أرسل إليه عباس باشا طعاما شهيا متقنا فرفضه، وقال لحامله: «سحقا لهذا الغذاء، ألا يعلم عباس باشا أننا جنود لا نأكل إلا مثل أكل الجنود!» وأصر على إرجاع الطعام بالرغم عن تقدم نجل عباس باشا إليه في قبوله. وله نوادر كثيرة تدل على صلابة طباعه وخشونته، وقد يتوهم بعضهم أن الخشونة والصلابة لازمتان في قيادة الجند، ولكن اللين أولى بها، والجند يطيع رئيسه إذا خشن طاعة الخائف، وأما إذا لان فإنه يطيعه طاعة المحب، وبينهما فرق واضح. أما سليمان باشا مهما قيل في أخلاقه فإنه كان ماهرا في قيادة الجند وتدريبه، وكان طلابا للعلى فتمكن منه بجده واجتهاده.
الفصل التاسع عشر
عمر باشا
شكل 19-1: عمر باشا (ولد سنة 1806 وتوفي سنة 1871).
هو نمساوي الأصل، وكان أبوه ضابطا في الجند النمساوي، ولد له هذا الغلام في بلاسكي على حدود بوسنة غربا سنة 1806 فسماه ميخائيل، وأدخله في المدرسة الحربية في بورن قرب كرستات وحب الجندية موروث فيه، فلم تمض مدة حتى تعين في إحدى فرق الجند النمساوي وارتقى إلى درجة معاون في مساحة الطرق والجسور، وفي الثامنة والعشرين من عمره نزح من وطنه وترك منصبه فيه، وجاء بوسنة العثمانية فاعتنق الدين الإسلامي لسبب لا نعلمه وسمى نفسه عمر، وتولى تعليم أبناء بعض تجار الأتراك هناك، ثم زار الآستانة ومعه تلامذته ففتح له باب التدريس في مدرسة للعسكرية أنشأتها الدولة هناك، وكان ناظر الجهادية يومئذ خسرو باشا، فأنس في ذلك الشاب اقتدارا عسكريا فأضافه إلى أركان حربه وجعله تحت عنايته، وقدمه في مصالح الدولة فأدى خدمات حسنة في إمارات الدانوب، ثم سعى له في وظيفة تعليم في البلاط السلطاني فتعين مدرسا للسلطان عبد المجيد قبل توليه السلطنة، وفي سنة 1839 كان عمر باشا في جملة ضباط الحملة التي أنفذتها الدولة لمحاربة إبراهيم باشا المصري في الشام، وبعد ثلاث سنوات تعين قومندانا عسكريا في إحدى ولايات سوريا.
وفي سنة 1848 أرسلت روسيا جندا لإخماد ثورة المجريين فدخل جندها بلد الفلاخ، فتعين عمر باشا قائدا لجند عثماني أقام هناك للمراقبة، ثم انتدبه الباب العالي لإقماع بعض ولاة البوسنة فأقمعهم وعادوا إلى كنف الدولة، وفي سنة 1853 سار في عشرين ألف جندي لمحاربة رجال الجبل الأسود وإرجاعهم إلى الطاعة ففاز بذلك فوزا عظيما، فانتدبه الباب العالي لقيادة الجند العامة في البلغار، وكان على ضفة الدانوب الأخرى جند الروس بقيادة البرنس غورتستاكوف الشهير، وحدث بين الجندين والقائدين حركات عسكرية ومناورات دلت على مهارة عمر باشا في الجندية حتى بهر البرنس المشار إليه، على أنه ما زال يحاربهم والنصر رفيقه في أكثر المواقع حتى اضطروا إلى الانسحاب عن ضفاف الدانوب، وتعين سنة 1855 في حرب القرم المشهورة فغلب الروسيين في بوباتوريا غلبا صريحا فانتدبته الدولة لإنقاذ الفرس، ولكنها سلمت قبل وصوله.
وبعد الفراغ من الحروب تعين واليا في بغداد، ولكنه ساء الحكومة وأغضب الباب العالي فنفي ثم أعيد في السنة التالية، وفي سنة 1861 انتدبه الباب العالي لإخماد ثورة البوسنة والهرسك ففعل، وهاجم الجبل الأسود وافتتح أعظم مدنه، وفي سنة 1869 تقاعد عن الأعمال العسكرية وقد نال رتبة الوزارة وصار من مشيري الدولة حتى توفي سنة 1871 وقد نال أعظم الرتب العسكرية العثمانية، ونال من روسيا رتبة فارس من صنف القديسة حنة، وكانت له منزلة رفيعة لدى رجال الحرب، ولكنه كان شديد البطش صعب المراس، وذلك شأن رجال العسكرية على الأكثر.
الفصل العشرون
الأمير عبد القادر الجزائري
هو الأمير عبد القادر ناصر الدين ابن الأمير محيي الدين الحسيني
1
يتصل نسبه بالإمام الحسين، ولد في شهر مايو (أيار) عام 1807 في قرية القيطنة التابعة لأيالة وهران في جزائر الغرب، وكان والده من أكابر العلماء العاملين محترما لدى أعيان الجزائر لبسط يده وكرم أخلاقه ودعته.
وقد بذل قصارى جهده في تثقيفه لما آنس فيه من الذكاء والدراية، حتى إنه تمكن بمدة قصيرة من اكتساب جانب عظيم من العلم وحفظ القرآن الشريف حفظا جيدا، واشتهر في السابعة عشرة من عمره بشدة البأس، وقوة البدن، والفروسية، حتى كان يشار إليه بالبنان بين الفرسان لمهارته في ركوب الخيل واللعب على ظهورها، وكان يطارد الخنزير البري في الغابات ويصطاده، على أن ذلك لم يشغله عن القيام بواجباته الدينية.
شكل 20-1: عبد القادر الجزائري (ولد سنة 1807 وتوفي سنة 1888).
وفي نوفمبر من سنة 1825 صحب والده إلى الحرمين لأداء فريضة الحج فمرا بحاشيتهما بالإسكندرية، وزارا القاهرة وفيها المغفور له محمد علي باشا فأكرمهما، ومن القاهرة قصدا الحجاز عن طريق السويس، وعرجا بعد الحج نحو دمشق قضيا فيها زمنا، وسارا منها إلى بغداد لزيارة مقام سيدي عبد القادر الكيلاني فنالا كل رعاية وإكرام، ثم عادا من هناك إلى الحرمين ثانية ومنها إلى وطنهما، فوصلاه في أوائل عام 1828.
ولم يزدد عبد القادر بعد هذا السفر إلا شغفا في العلم، فاعتزل لتحصيله ولازم الخلوة يطالع كتب العلم والفلسفة، فدرس رسائل أفلاطون، وفيثاغورس، وأرسططاليس، وتعمق في درس الفقه، والحديث، والجغرافية، والفلك، والتاريخ، وكتب العقاقير، وجمع مكتبة من أثمن مكاتب تلك الأيام.
وفي عام 1830 استولى الفرنساويون على الجزائر، ونشروا المنشورات الرسمية بامتلاك البلاد واستخراجها من أيدي العثمانيين، فشق ذلك على القبائل العربية القاطنة في تلك الأنحاء وانتفضوا على الفرنساويين، وكان الفرنساويون تحت قيادة الجنرال برمونت وقد بلغوا جبل الأطلس فاضطروا للتقهقر إلى الشطوط، وأخذوا في تحصينها، ثم عادوا فاستولوا على مدينة وهران.
وتسبب عن تداخل الفرنساويين وخروج جانب من تلك البلاد من حوزة الدولة العلية اختلال الأحوال، فسادت الفوضى واجتمع المرابطون ورؤساء القبائل وفي جملتهم الأمير محيي الدين والد صاحب الترجمة، وتشاوروا في الأمر فقر رأيهم على الانضمام إلى سلطان مراكش مولاي عبد الرحمن، فبعثوا إليه بذلك فوافقهم فدخلت الجزائر في سلطانه وخطب الجزائريون له وبايعوه، فغضب الفرنساويون وبعثوا إلى مولاي عبد الرحمن يهددونه بالحرب أو يسحب جنوده من الجزائر، ففضل الانسحاب فاجتمع كبار أهل الجزائر وتفاوضوا في أمرهم فقر رأيهم على أن يقيموا عليهم الأمير محيي الدين سلطانا يرجعون إليه، فذهبوا إلى القيطة (بلدته) وطلبوا إليه قبول اقتراحهم وأرادوا مبايعته فأمسك عن الإجابة، فأصروا عليه وهددوه بالقتل إذا تمنع، فأجابهم على أن تكون تلك السلطة لولده عبد القادر فقبلوا، وكان عبد القادر يحارب الفرنساويين في مكان يقال له: (حصن فيليب) فبعثوا إليه وبايعوه وسنه إذ ذاك 25 سنة فذهب إلى الجامع وصلى وحث الناس على الطاعة والسير بمقتضى الشرع الشريف والاقتداء بالخلفاء الراشدين، وأول شيء باشره جمع كلمة القبائل وضمها بعضها إلى بعض حتى يقووا على مقاومة العدو الأجنبي وإخراجه من بلادهم، وحارب بهم عدة مواقع فاز في بعضها ولا سيما في موقعة وهران، فإنه انتصر فيها انتصارا مبينا، وكانت الجنود الفرنساوية تحت قيادة الجنرال ميشيل، فصار يهابه الفرنساويون ويخشون بطشه.
وكانت فرنسا على رغبتها في التفرد بسلطتها في الجزائر لا تحب المخاطرة بحملة كبيرة من جندها تقهر عبد القادر، فأوعزت إلى الجنرال ميشيل أن يعقد معه معاهدة صلح فخابره بذلك وتمت المعاهدة سنة 1834.
ولما هدأت الأحوال تفرغ عبد القادر لإصلاح شئون داخلية بلاده، وإعداد المعدات الحربية لاعتقاده أن الحرب لا بد من العود إليها، فأنشأ معامل لعمل الأسلحة وصب المدافع واصطناع البارود، ونظم الجند، فاضطر من أجل كل ذلك للنفقات الطائلة، فطالب القبائل بالزكاة عن المواشي فانتقض عليه بعضهم، ولكنه تمكن بحسن درايته من إخضاعهم ولم شعثهم، فاتسعت سلطته وامتد نفوذه، فشق ذلك على الجنرال دي أورلين القائد الفرنساوي إذ ذاك، فبعث إليه أن يلازم حدوده ولا يمد يده إلى خارج وهران، فأجابه أن دائرة سلطانه غير محدودة بمقتضى المعاهدة المار ذكرها، فدارت المداولة بين الفريقين بالمسالمة، ولكن مطالب عبد القادر لم تحز قبولا لدى الفرنساويين، فأضمر لهم الشر وأمر بعض القبائل المقيمة بجوار وهران أن تنزح إلى داخل البلاد، فخاف هؤلاء بطش الفرنساوية وطلبوا حمايتهم، فطلب الأمير إلى الفرنساويين أن لا يحموهم فاستاءوا وأشهروا عليه القتال، وساروا في خمسة آلاف ماش وعدة من الفرسان وبعض المدافع، ولكنهم رأوا من رجاله ما اضطرهم إلى الانسحاب حالا، فعلم الأمير بجهة انسحابهم فسار لملاقاتهم في مضيق وهم لا يعلمون، فلما بلغوا المضيق هجم عليهم برجاله فأبلوا فيهم، ولم يبقوا إلا على نفر منهم.
وكان لهذه الغلبة رنة في باريس، وقام الخطباء يحثون الحكومة على إرسال القوات اللازمة لقتال ذلك الأمير البدوي وقهره، وكان عبد القادر يعرف كل ما يدور في باريس من هذا القبيل؛ لأنه كان يطلع على الجرائد الفرنساوية بواسطة تراجمة يحسنون فهمها، فكان على بينة من مقاصد عدوه.
وفي نوفمبر سنة 1835 قدمت الجنود الفرنساوية إلى وهران لمحاربته فقاتلهم، ولكنه لم يفز فتفرق رجاله فعاد إلى عاصمته (مسكرا)، ونزل في بلد على مقربة منها وهو في حالة اليأس الشديد؛ خوفا من نهوض الفرنساويين عليه، وكانوا معسكرين في مسكرا، فأصبح يوما وقد أخلوها لغير سبب يعلمه، فعاد هو إليها ونزلها فعاد إليه رجاله واشتد أزره وأخذ في مقاصة الذين عصوه.
أما الفرنساويون فاحتلوا تلمسان فلاقاهم أهلها بالترحاب، ولكنهم ضربوا على يهودها ضريبة كبيرة اعتذروا عن دفعها، فأجبروهم فندم هؤلاء على التسليم وصاروا يودون العود إلى عبد القادر، وكان ذلك مما شدد عزم الأمير فجاء وطارد الفرنساويين وأخرجهم من تلمسان.
فغضب الفرنساويون في باريس فبعثوا بالنجدات القوية فحاربها عبد القادر مرارا، ولكنه انكسر في واقعة منها انكسارا رديئا انتقض من أجله العرب عليه، وفي جملة المنتقضين قاض يقال له: «سيدي إبراهيم» كان في نيته خلع عبد القادر والاستيلاء مكانه، فحمي غضب الأمير لتلك الخيانة فجرد سيفه وعلقه بسرج جواده وركب، وأقسم إنه لا يغمد ذلك السيف حتى يقطع رأس ذلك الخائن، فلما بلغ منزله أمر بإحضاره، فأحضروه وهو يرتعش فضربه ضربة قطعت رأسه، فكان لذلك وقع عظيم في قلوب رجال عبد القادر، فاجتمعوا إليه، واستهانوا بالموت في سبيله، فحمل بهم على مواقع الفرنساويين وضايقهم مضايقة عظيمة حتى قلت المؤن لديهم، وقلت الذخائر لديه.
فدارت المخابرة بين الفريقين في أن يتبادلوا التجارة فيبتاع كل من الفريقين ما يحتاج إليه، وتم الاتفاق على ذلك وهدأت الأحوال.
وبعد ذلك بيسير قدم الجنرال بوجيد من جانب حكومة فرنسا إلى وهران يستحث الجند الفرنساوي على القتال حتى يبيد الأمير ورجاله أو يقبل بهذه الشروط وهي: (1)
اعتراف عبد القادر بسيادة فرنسا. (2)
تحديد مملكته إلى نهر الخليف. (3)
أداؤه الجزية لفرنسا.
فعظمت هذه المطالب على عبد القادر، وأجاب أنه لا يحق لفرنسا أن تشترط هذه الشروط وهي ليست المنتصرة في مواقع الحرب معه، وهددها، فشق ذلك على الفرنساويين ولكنهم فضلوا الصلح على الحرب لعلمهم أن عدوهم عنيد باسل.
وبعد المخابرات والأخذ والرد، رأى بوجيد أن الحرب أولى له لأنه لم يستطع التوصل إلى وفاق موافق لدولته، فعرض عساكره فإذا هم لا يستطيعون مناوأة عدوهم فاستأنف المخابرة بشأن الصلح، وطال الجدال بشأنه حتى تم القرار عليه في 20 أيار سنة 1837 فعقدت المعاهدة المعروفة بمعاهدة «التافنا»، وفي جملة بنودها أن لا يسلم الأمير شيئا من شواطئ بلاده لدولة أجنبية إلا بعد مشورة فرنسا، وأن يكون لكل من الأمير وفرنسا قناصل في بلاد الآخر.
ولما ارتاح الأمير من قبيل المعاهدة، وجه انتباهه إلى إصلاح الداخلية وتنظيم مملكته، والاستعداد للحرب؛ لأنه علم لحسن فراسته أن الحرب لا بد من استئنافها، فعصاه بعض القبائل فأخضعهم بالسيف وحسن الدراية، وكان الفرنساويون ينصرونه عند الحاجة، وفي جملة القبائل التي أقلقت راحته بعصيانها قبيلة أرارق، ولكنه ما انفك حتى أذلها وأدخلها تحت لوائه.
ثم ابتنى مدينة دعاها «تقدمة» وجعلها مركزا تجاريا، وأنشأ كثيرا من المعاقل، ونظم جيشا على النمط الإفرنجي الحديث تحت قيادة قواد أوربيين، وأنشأ معامل للمدافع والأسلحة في تلمسان وغيرها، واستخرج المعادن ونشط الصناعة والزراعة والتجارة، وأخذ بناصر العلم فافتتح المدارس حتى في الأحياء الصغيرة، وكان في عزمه إنشاء مدرسة جامعية في تقدمة تجمع بين العلوم الدينية الإسلامية والعلوم الحديثة، وضرب نقودا فضية ونحاسية نقش على أحد وجهيها: «هذه مشيئة الله وعليه توكلت»، وعلى الوجه الآخر: «ضرب في تقدمة السلطان عبد القادر»، وكان شديد السهر والتيقظ على مصالح بلاده حتى كان يتفقدها بنفسه.
ولكن الأقدار لم تسمح باستمرار الأمن؛ لأن الفرنساويين بعد أن استولوا على قسطنطينة أرادوا مد سلطتهم على البلاد الواقعة بجوارها، وكانت في حوزة الأمير فعارضهم بدعوى أن معاهدة التافنا تقضي له بها، فأصروا على عزمهم، وأنكروا عليه الأمر بتحريف كلمة من كلمات المعاهدة، فاستأنف أمره إلى باريس فلم تنصفه الحكومة الفرنساوية، فأخذ على نفسه الدفاع بالقوة، وحصن الأماكن التي عليها الخلاف، وبعث إلى قائد الحملة الفرنساوية، وإلى المسيو تيرس وزير فرنسا الشهير إذ ذاك ينذرهم بأن الإصرار على طلبهم لا يفيدهم إلا سفك الدماء فلم يعبئوا بتهديده، ولكنهم قووا جندهم وأخذوا يتظاهرون بالتأهب للحرب ظنا منهم أنه يخاف عددهم وعددهم فيذعن بدون حرب، وكان الأمر بالعكس؛ فإنه ثبت على عزمه حتى انتشبت الحرب وتقهقر الفرنساويون إلى الشطوط.
فعظم الأمر على الحكومة الفرنساوية، وبعثت بالنجدات القوية، فاشتد أزر الفرنساويين وقاتلوا الأمير بجوار جبال الأطلس وتغلبوا عليه، وكان جنده على النظام الإفرنجي فعدل عنه إلى النظام القديم فقوي على أعدائه، وأعادهم على أعقابهم، وكان يفوز عليهم في كل موقعة، ودامت تلك الوقائع ست سنوات، فتعبت فرنسا منه وهو لم يتعب، فأبدلت قائد الحملة، وبعثت القائد القديم الجنرال بوجيد ومعه الجيوش المجيشة، ولكنه لم يثبت أمام ذلك البطل المغوار.
ولما رأى الأمير أن البلاد أصبحت برمتها ميدانا للحرب ابتنى مدينة نقالة دعاها «الزملة» يلجأ إليها المنهزمون بنسائهم وأولادهم ويقيم فيها الصناع والعمال والخفر، فحيثما انتقل الجند انتقلت تلك المدينة معهم، وهي مؤلفة من خيم جعلها على نظام المدن، فإذا نقلت من مكان إلى آخر يعرف كل واحد خيمته، وأمر رجاله أن لا يقتلوا أسيرا، وأجاز من يأتي بالأسير حيا، وعلم الفرنساويون بالزملة وبما لها من المنفعة للأمير ورجاله فاهتدوا إليها بخيانة بعضهم، وهاجموها فأحرقوا وقتلوا ونهبوا ولم يبقوا عليها، وكانوا قبل ذلك بقليل قد أحرقوا تقدمة المدينة التي ابتناها الأمير لنفسه.
وكان الأمير في أحراج سيرسو فبلغه خبر حريق الزملة وتقدمة فتكدر كدرا لا مزيد عليه؛ لعلمه أن ذلك يقلل من نفوذه ويقود رجاله إلى الفشل، ولكنه أظهر الجلد، وقال لمن حوله: «لا تخافوا ولا تحزنوا؛ لأن إخواننا الذين قتلوا قد مضوا إلى النعيم.» ثم نهض وجدد قوته وألف زملة جديدة، واستنجد حكومة إنكلترا فلم تنجده، ثم استنصر سلطان مراكش فلم ينصره، فاضطر لأن يقوم بأعماله بنفسه وهو ثابت العزم لا يثنيه شيء ولا يخيفه أمر.
ولكن فرنسا أنجدت جندها، وأغرت سلطان مراكش على معاضدتها، فاشتد الأمر على الأمير ووقع في وهدة اليأس، حتى حدثته نفسه بنشر راية الجهاد والمسير برجاله إلى مكة المكرمة تاركا البلاد خرابا لمحتليها، وفيما هو يفكر في ذلك جاءته نجدات عديدة من بعض القبائل، فاشتد عزمه وعاد إلى الحرب، حتى أصبحت الجزائر بجملتها ميدانا للقتال، وما زالت الحال كذلك إلى نهاية سنة 1846 فمل العربان وانحاز جانب منهم إلى سلطان مراكش، فاغتنم الفرنساويون تلك الفرصة وأثاروا المراكشيين وأنهضوهم على الأمير وقتاله، فبعثوا إليه جيوشا حاربته في أماكن مختلفة، وكان الأمير يقاتل بالأمر الممكن لا تثنيه كثرة أعدائه ولا شدتهم، ولكنه استاء من خيانة سلطان مراكش فبعث إليه يذكره بالصداقة القديمة، فأجابه إما أن يسلم نفسه أو أن يرحل إلى براري الجزائر، فكظم الأمير على نفسه وفضل الاعتزال عن الناس على التسليم، فأقام على الصلاة وتلاوة القرآن الشريف.
وفي أواخر سنة 1847 علم بقدوم المراكشيين لغزو زملته، ولم يكن فيها أكثر من خمسة آلاف، والمراكشيون يزيدون على الخمسين ألفا، فخاف الأمير على رجاله وإن لم يكن يعرف الخوف قبلا، فعادت إليه نخوته فهجم ليلا بذلك الجيش القليل، وفرق شمل المراكشيين ثم عادوا واجتمعوا ثانية وهاجموه فطاردهم وظهر عليهم، ولكنه خسر جانبا من رجاله فرأى الانسحاب أفضل له، فرجع إلى الجزائر فوصل مكانا علم بعد وصوله إليه أن الجيش الفرنساوي على مسافة ثلاث ساعات منه، ورأى أن جيشه قد أنهكه السفر والحرب فخشي أن يقع هو وزملته في يد الفرنساوية؛ لأنه لا يستطيع الرجوع والمراكشيون من ورائه يطاردونه، ولكنه عاد فرأى أن يبذل قصارى جهده، فجمع إليه رجاله وخطب فيهم مفصحا عما هم فيه من الضيق، وقال: «أراكم قد وفيتم بما بايعتموني عليه وبذلتم جهدكم في معاضدتي، وأما الحالة الراهنة فتقضي علينا بالتسليم للعدو، وعندي أن التسليم للفرنساوية خير من التسليم للمراكشيين، فما رأيكم؟»
فأجابوه أنهم على رأيه، فنظر إليهم فإذا هم عدة من أحسن الرجال وأشدهم، وقد رافقوه في حروبه خمس عشرة سنة، فشق عليه أن ينتهي جهاده هذا بالتسليم للعدو، ولكنه أذعن لحكم الضرورة قسرا وهو غير خائب؛ لأنه جاهد الجهاد الحسن مدة 15 سنة حتى نفدت الحيلة.
وأراد ليلة 21 دسمبر سنة 1847 كتابة شروط التسليم فلم يستطع؛ لتساقط الأمطار وهبوب العواصف، فبعث اثنين من خاصته دفع إليهما ختمه شاهدا على صدق نيابتهما عنه أمام قائد المعسكر الفرنساوي الجنرال لاموريسير، فذهبا وعرضا الشروط، ومن مقتضاها أن يبارح الأمير بلاده ويسكن في الإسكندرية بمن معه من الرجال والنساء والأولاد أو في مدينة بورصة، فقبل الجنرال الشروط بدون تردد، وسر لانتهاء متاعب فرنسا في حروب هذا الأمير، وأخبر فرنسا بذلك فابتهجت باريس، وهكذا سلم الأمير ولكنهم احتفلوا به عند قدومه المعسكر احتفالا عظيما.
وفي 25 منه سافر الأمير بمن أراد مرافقته من رجاله وعددهم ثمانون على دارعة إلى طولون فقوبلوا بالترحاب، ثم طلبوا إليه التنازل عن اشتراطه السكني في الإسكندرية أو غيرها من المدن العثمانية، وأن يقيم في فرنسا بكل احترام وبكل ما يحتاج إليه من النفقات فأبى، ثم انقلبت حكومة فرنسا من الملكية إلى الجمهورية، وبعد أخذ ورد أجابوه إلى ما أراد، ولكنهم اشترطوا عليه التعهد بعدم الذهاب إلى الجزائر فتعهد بذلك كتابة هو ورجاله في آذار (مارس) سنة 1848 وبات ينتظر الأمر بالذهاب، فورد عليه الجواب على غير المراد، ومفاده أن الجمهورية تعتبره أسيرا كما تركته الحكومة السالفة، وزجوه في السجن مع رجاله، فتكدر الأمير كدرا لا مزيد عليه، ولكنه كان يتأسى في سجنه بالكتابة والتأليف، ورأى رجاله يتذمرون من الأسر، فألح عليهم أن يتركوه ويذهبوا لأنهم غير مكلفين باحتمال الأسر من أجله، فأبوا إلا مرافقته في السراء والضراء، وبقوا في ذلك الأسر إلى أكتوبر سنة 1852.
فقدر الله أن البرنس نابليون كان متجولا في أنحاء المملكة فمر بأبيس حيث كان الأمير مأسورا فزاره ووعده بالإنقاذ، وبعد بضعة أيام أطلق سراحه، ودعاه لزيارته في باريس، فقوبل فيها بالتجلة والإكرام والباريسيون مطلون من الشبابيك والكوى لمشاهدة الأمير البدوي الذي شغل دولة فرنسا 15 سنة بالحروب، ثم دعي لزيارة البرنس نابليون في قصره فسار مع أربعة من أخصائه، وكانت الحفلة حافلة فتكلم الأمير معتذرا عن عدم معرفته العادات الجارية في فرنسا وطلب الإغضاء عما ربما يأتيه مما يخالف ذلك، وتعهد له بعدم الرجوع إلى الجزائر، فشكره البرنس، وبعد الغداء طاف به في القصر وأهداه جوادا عربيا، وبالاختصار إن احتفال البرنس نابليون بالأمير عبد القادر كان عظيما جدا، وبعد مضي شهر في باريس اتفق إجماع الفرنساوية على إرجاع الإمبراطورية، فكان الأمير في جملة المنتخبين، ووقع الانتخاب على البرنس نابليون، ولما تنصب زاره وهنأه، فلاقى منه كل رعاية وأعطاه سيفا مكتوبا عليه: «من الإمبراطور نابليون الثالث إلى الأمير عبد القادر بن محيي الدين.» وفي 21 دسمبر سنة 1851 برح الأمير فرنسا فوصل الآستانة، فاحتفل به سفير فرنسا هناك احتفالا شائقا، وبعد أيام سار إلى بورصة على نية الإقامة فيها، وله نفقات معينة من فرنسا تبلغ أربعة آلاف جنيه سنويا تنفق عليه وعلى رجاله، ولم يطب له المقام هناك فاستأذن بالعود إلى فرنسا، فعاد ومكث فيها مدة ثم عاد إلى بورصة قضى فيها بضعة أسابيع ريثما أعد نفسه ورجاله ومتاعه وبرحها إلى بيروت فوصلها في 24 يونيو (حزيران) سنة 1856 ومنها إلى دمشق، فخرج إلى لقائه جماهير كبيرة بالاحتفاء اللائق رجالا ونساء حتى وصل المحل المعد لإقامته، ثم اتخذ مسكنا له في محل يقال له: «العمارة» في دمشق، وقام فيه، وقد طابت له المعيشة في تلك المدينة الفيحاء إلى آخر أيامه؛ لما لاقى من لطف أهلها وأنسهم، وكان يقضي معظم وقته في المطالعة والصلاة والتأليف لا يخلو مجلسه من العلماء والفضلاء.
وفي سنة 1860 كانت الثورة المشهورة في دمشق، وهي المذبحة التي ذبح فيها المسيحيون، وكان الأمير من أكبر المعارضين لإجرائها، ولما نفدت حيلته في منعها أصر على بذل قصارى جهده في كف الأذى عن المسيحيين.
فلما علم يوم الإثنين في 9 يوليو (تموز) سنة 1860 بابتداء المذبحة تكدر جدا وبعث حالا إلى كل مغربي في دمشق وفرقهم في أحياء المدينة لإنقاذ من يستطيعون إنقاذه من المسيحيين فكانوا يهجمون كالأسود بقلوب لا تهاب الموت، ورءوس قد ثارت فيها الحمية والمروءة فيأتون بمن يستطيعون إنقاذه رجالا ونساء وأولادا إلى دار الأمير، ولما علم النصارى بما عزم عليه الأمير كانوا يفرون إليه من تلقاء أنفسهم ويقيمون في بيته حتى غصت داره فأخذ البيوت المجاورة له وأخلاها وأقام فيها اللائذين به وفي جملتهم قناصل الدول وغيرهم، وكان ينفق عليهم كل ما يحتاجون إليه من الطعام وغيره، وممن عاضده في هذا العمل الخيري العالمان الشريفان: محمود أفندي حمزة، وأخوه أسعد أفندي، رحمهم الله أجمعين.
في ثالث يوم من المذبحة هجم الأكراد الثائرون على بيت الأمير للقبض على النصارى، فدافعهم الأمير ورجاله والشريفان بكل ما في وسعهم فعاد الأكراد خاسرين، ثم إن والي دمشق إذ ذاك وعد النصارى إذا سلموا ودخلوا القلعة أنهم يكونون فيها آمنين من القتل، فاجتمع فيها نحو من خمسة آلاف وكأنه أراد بهم الغدر بعد ذلك بجماعة من الدروز كانوا قادمين للنهب، فخرج إليهم الأمير ورجاله وهددهم بالرصاص فخافوا وكروا على أعقابهم، وبقيت الثورة سبعة أيام متوالية لم يفتر فيها الأمير لحظة عن نصرة المظلومين وإنقاذهم من القتل وتطبيب الجرحى وتعزية الثكالى والأرامل واليتامى.
وكان يقضي أكثر الليالي ساهرا والبندقية في يده حرصا على من هم في حماه، فإذا غلب عليه النعاس أسند رأسه إلى فمها قليلا، وفي 15 يوليو سنة 1860 جاء دمشق وال جديد وعزل القديم وأخذت الأحوال في الهدوء، وقد كان في حمى الأمير من النصارى يوم جاء ذلك الوالي نحو أربعة آلاف نفس وفي القلعة نحو ستة آلاف، وبعد يسير جاء فؤاد باشا لتحري المسألة ومقاصة المعتدين، وهكذا انتهت المذبحة.
أما النصارى فهم كافة مدينون لفضل هذا الرجل العظيم؛ لأنه جاء عملا برهن على عظم نفسه ومروءته وشهامته، وقد نال جزاءه من الدول الأوربية فبعثت إليه بوسامات الشرف ورسائل الثناء وخصوصا الدولة العلية أيدها الله.
ولما هدأت الأحوال عاد إلى السكينة، وعكف على المطالعة والصلاة والتدريس.
وفي سنة 1863 استأذن الإمبراطور في الذهاب إلى الحج فأذن له، فزار الحرمين وقضى فروض الحج كما يجب، وزار الطائف والمدينة المنورة، وكان حيثما حل يلاقي كل رعاية وإكرام، وفي أثناء عوده من الحجاز سنة 1864 مر بالإسكندرية وانتظم في سلك الجمعية الماسونية في 18 يونيو (حزيران) من تلك السنة، وبعد أيام عاد إلى دمشق ، وعكف على ما اعتاده من التدين والصلاة، واشتهر بالتقوى حتى كان الصوفيون يعتبرونه مكاشفا وينزلونه منزلة سيدي محيي الدين بن العربي والشيخ عبد الغني النابلسي، وكان له في قلوب أعيان دمشق منزلة رفيعة جدا، وقد كتب كتبا في التصوف والتوحيد، ولم يترك ملابسه العربية مطلقا، ونظرا لمحافظته على عهوده مع نابليون كان يدعوه صديقه الباسل.
وكانت معيشته في بيته في غاية البساطة مع الترتيب، وما زال معظما مكرما محترما لدى كل من عرفه حتى توفاه الله سنة 1888 في منزله بدمشق، فأسف الناس عليه واستعظموا المصاب فيه وأبنه الكتاب والعلماء ورثته الجرائد في سائر الأقطار، رحمه الله.
الفصل الحادي والعشرون
عثمان باشا الغازي
شكل 21-1: عثمان باشا الغازي (ولد سنة 1832 وتوفي سنة 1900).
هو عثمان نوري باشا القائد العثماني الشهير، ولد في طوقات إحدى مدن سيواس في شمالي آسيا الصغرى. قدم الآستانة صغيرا، وكان شقيقه حسين أفندي أستاذ اللغة العربية في المدرسة الإعدادية هناك فأدخله في تلك المدرسة فتلقى فيها مبادئ العلم، ثم انتظم في سلك المدرسة الحربية فنبغ بين رفاقه، وخرج منها سنة 1853 ضابطا ملازما في فرقة الفرسان (سواري).
ولما انتشبت حرب القرم ألحق بأركان حرب عمر باشا القائد الشهير، وشهد مواقع كثيرة أظهر فيها بسالة استلفتت انتباه رؤسائه، فلما عاد من الحرب ترقى إلى رتبة يوزباشي في الحرس الشاهاني بالآستانة.
وكان عثمان باشا في جملة رجال العسكرية الذين توسطوا في إصلاح شئون الحوادث السورية عام 1860 وهو في رتبة بكباشي، واشتغل سنة 1866 في إخماد ثورة ظهرت في كريد، فارتقى على أثر ذلك إلى رتبة قائمقام، وعاد إلى الآستانة فارتقى هناك إلى رتبة أميرالاي، وترى مما تقدم أنه إنما كان يرتقي على أثر أعمال تؤهله للارتقاء.
وفي سنة 1874 أحرز رتبة لواء، وفي السنة التالية صار فريقا، وتولى قيادة الفيلق الخامس، وخرج لمحاربة الصرب ففاز في كل المواقع وعاد وقد حمل الصربيين على التماس الصلح كما سيأتي، فصدرت الأوامر السنية بترقيته إلى رتبة المشيرية مكافأة له.
وفي سنة 1877 انتشبت الحرب الشهيرة بين الدولة العلية والروس فتولى قيادة 68 طابورا و17 كوكبة و174 مدفعا، وحارب جند الروس في مواقع كثيرة، وفي هذه الحرب نال هذا القائد شهرته الكبرى. (1) حرب الروس
وسبب هذه الحرب أن البوسنة والهرسك في غربي بلاد الروملي تمردتا على الدولة العلية سنة 1875 وامتنع أهلهما عن دفع الرسوم الأميرية، وربما كان سبب ذلك متصلا بمطامع النمسا فيهما، وتفاقم أمر هذه الثورة حتى خيف منها على السلم العام، فاجتمع قناصل الدول العظمي في مستار بالهركس في سبتمبر سنة 1875 وأقروا على تسوية تقضي على الباب العالي ببعض الإصلاح وعلى الثائرين بالامتثال فلم يجد سعيهم نفعا، فأنفذت الدولة العلية جندها لإخماد الثورة بالسيف، فجرت مواقع كثيرة سفكت بها دماء غزيرة، ولكنها لم تقرر النصر لأحد الفريقين.
وتوقفت الحكومة العثمانية في أكتوبر من تلك السنة عن دفع فائدة الدين العمومي، وأصدر الباب العالي بلاغا إلى الدول يعدهن فيه بدفع نصف المطلوب معجلا، واتخاذ الاحتياطات اللازمة لدفع النصف الآخر، ولكنه لم ينجز الوعد، فوضع الكونت أندراسي رئيس وزارة النمسا لائحة طلب بها من الدولة العلية مطاليب إصلاحية صادقت عليها روسيا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا وإنكلترا ورفعوها إلى الباب العالي في 21 يناير سنة 1876 فوعد بإجراء ذلك، ولكن البوسنة والهرسك لم تقبلا لأن الدول لم تشركهما في كيفية التسوية، وفي مارس من تلك السنة عادت الحرب إلى ما كانت عليه.
ووقع في 6 مارس المذكور خصام بين المسيحيين والمسلمين في سالونيك قتل فيه قنصلا فرنسا وألمانيا فاحتج سفيرا هاتين الدولتين في الآستانة على الحكومة العثمانية، فأمر الباب العالي بقتل الجانين، وعوض على عائلتي القتيلين، ووعد بتجنب مثل هذه الحوادث في المستقبل.
ولكن ذلك لم يمنع مطالبة الدول بإجراء الإصلاح، فاجتمع البرنس غورتشاكوف وزير روسيا، والبرنس بسمارك وزير ألمانيا، والكونت أندراسي وزير النمسا في منزل البرنس بسمارك في برلين في 11 مايو عام 1876 واتفقوا على مذكرة وضعها غورتشاكوف يطلب فيها إنفاذ لائحة أندراسي، فأبت إنكلترا المصادقة على هذا الطلب لأنه يقضي باتحاد الدول الست على استخدام السلاح إذا لم يتم ما طلبوه.
وزد على ذلك أن البوسنة والهرسك لم تقبلا بتلك المذكرة فألغيت.
وفي أثناء ذلك الشهر نزل المغفور له السلطان عبد العزيز عن العرش العثماني، وحصل ما حصل من الاضطراب على إثر خلعه، وتولى السلطان عبد الحميد.
وكانت إمارة الصرب منذ ثورة البوسنة والهرسك واقفة وقوف المتحفز للقتال، وكذلك الجبل الأسود فإنه انتصر للهرسك، فأصبح الباب العالي في حرب مع البوسنة والهرسك والصرب والجبل الأسود بدأت في يوليو عام 1876 وقتل فيها كثيرون حتى جرت الدماء سيولا، وكانت الجنود العثمانية تحارب الصرب بقيادة عثمان باشا صاحب الترجمة، ودرويش باشا، وحافظ باشا، وسليمان باشا، وعبد الكريم باشا، وغيرهم، وكان الفوز نصيبهم في معظم المواقع، أما في الجبل الأسود والهرسك فكان الجند العثماني بقيادة مختار باشا وسليم باشا، والبلاد هناك أكثر وعورة فقاسوا فيها عذابا شديدا، وأخيرا تضايق الصربيون فالتمسوا الصلح في سبتمبر عام 1876.
وكانت الثورة قد ظهرت في بلغاريا من مايو السابق، فأرسل الباب العالي بعض الشراكسة والباشبوزق لإخمادها، فارتكبوا في أثناء ذلك فظائع تقشعر من ذكرها الأبدان، دوى صداها في سماء أوروبا، فقام شعب الإنكليز قومة واحدة يطلبون توسط دولتهم في هذه الشئون، فتوسطت والتمست من الباب العالي تحري تلك الفعال ومعاقبة الجانين فوعد ولكنه أبطأ في الإنجاز، وأصدر منشورا يقول فيه إنه سيوقف دفع الدين ريثما تخمد الثورات القائمة في ولاياته، وكان لإنكلترا أكبر حصة في هذا الدين فآل ذلك إلى فتور بينها وبين الدولة العلية.
وعرضت الدول من الجهة الأخرى شروطا للصلح بين الدولة العلية ومحاربيها طال أمد المخابرة بشأنها، وأخيرا رفضها الباب العالي فاعتبر الروس رفضها مهينا لهم لعلاقاتهم الجنسية والدينية بالصرب، فنشأت الضغائن بين الدولتين، وتداولت الدول بشأن الإصلاح فاقترحت روسيا أن تتوسط الدول جميعا يدا واحدة في شئون تركيا، فرفضت فرنسا وإنكلترا والنمسا هذا الاقتراح، فصرحت روسيا بميلها إلى مساعدة الصرب وهو أول ما ظهر في رغبتها في الحرب، فطلب الباب العالي هدنة ستة أشهر، فلم تسمح روسيا إلا بستة أسابيع وأذاعت ذلك بمنشور على الدول العظمى، قالت فيه: إنها إذا لم ينفذ طلبها هذا حملت على تركيا واكتسحتها، فاهتزت أوروبا لذلك التهديد، وأخذت كل دولة تتحفز وتتأهب وخصوصا إنكلترا فإنها استاءت من الروس لأنهم لم يساعدوها على طلب التعويض عن فظائع بلغاريا.
أما روسيا فعبأت الجند في بندار وتفليس، وقد عولت على محاربة الدولة العلية في أوروبا وآسيا معا والدول التي تسعى من الجهة الأخرى في التسوية، وسعيهن ذاهب هدرا وما قدر فقد كان.
وليس من غرضنا البحث فيما دار من المخابرات، ولا ما لعب من الأيدي إذ لا محل له هنا، وإنما المراد أنه لما تقررت الحرب بين الدولتين زحف الروس على بلاد الدولة في أوروبا وآسيا، فزحف 175000 مقاتل بقيادة الغراندوق ميخائيل والجنرال مليكوف نحو بلاد الدولة في آسيا إلى أرمينيا، وقلوب الأرمن مع الروس أيضا.
ولا حاجة بنا إلى الدخول في تفاصيل هذه الحرب، ولكننا نقول بالاختصار إنه كان من نصيب صاحب الترجمة ملاقاة الروس في الروملي، ومعه عبد الكريم باشا، وسليمان باشا، ولم ينقض شهر مايو سنة 1877 حتى احتلت جنود الروس ضفة الطونا (الدانوب) الشمالية من كلفات إلى غلانس، على أن معظمهم كان في جورجيفو مقابل روستجق، والطونا - كما لا يخفى - فاصل بين رومانيا وبلغاريا، وكان عدد الجند العثماني في جنوب ذلك النهر نحو مائتي ألف مقاتل بقيادة عبد الكريم باشا، ومركز المعسكر في شملة على حدود البلقان. ولكنهم احتلوا كل الحصون على ضفة الطونا الجنوبية، وأصبح الموقف حرجا وصرحت الدول بحيادتها، وهدأت الحال شهرين والطونا فاصل بين الجيشين، ثم حاول الروس عبور النهر وعددهم 400000 مقاتل، وفي يونيو من تلك السنة عبروه من أماكن مختلفة، واحتلوا بعض المدن في بلغاريا وزحف البعض الآخر إلى جبال البلقان، وفي طريقهم هذه من الطونا إلى البلقان لقيهم صاحب الترجمة في بلافنا وردهم إلى الوراء في 7 يوليو.
ولكن قائدا روسيا اخترق حدود البلغار في جبال البلقان بشجاعة غريبة فكان لخبر تقدمه هذا وقع موجع في الآستانة، فنقل الباب العالي قيادة الجند من عبد الكريم باشا إلى محمد علي باشا، وهو بروسياني واسمه الأصلي شلوتز، وأصبح الجند العثماني في ساحة الحرب أربع فرق يقودها أربعة من القواد العظام، وهم: عثمان باشا في ويدين على ضفة الطونا في الغرب، ومحمد علي باشا في شملة بالشرق، وكلاهما شمالي جبال البلقان، وأما القائدان الباقيان، وهما: سليمان باشا، ورءوف باشا، فكانا في جنوبي تلك الجبال. (2) حصار بلافنا
وفي 30 يوليو هجم أربعون ألفا من الروسيين على بلافنا وفيها عثمان باشا وخمسة آلاف جندي، فدافع العثمانيون دفاعا حسنا، ولكن الروسيين لكثرتهم وفقوا في أول الأمر للاستيلاء على ذلك المكان الحصين، وكأن صاحب الترجمة نفخ في جنوده روحا حية فانقضوا على الروس انقضاض الصواعق، وصبوا عليهم نارا حامية، فتقهقر الروسيون وعاد العثمانيون إلى حصونهم، فتجدد القتال في اليوم التالي والفوز لا يزال مع العثمانيين، ففر الروس من ساحة الوغى وقد تركوا خمسة آلاف من جندهم بين قتلى وجرحى، وحدث فشل عظيم في معسكرهم.
وفي 6 سبتمبر 1877 عاد الروسيون إلى بلافنا بمدافعهم وبنادقهم، وأطلقوا القنابل على حصونها يومين متواصلين، فاستولوا على تلال في جنوبها في مساء 8 منه، وواصلوا الإطلاق طول الليل واليوم التالي والذي بعده، وفي 11 منه فتحوا حصن كريغتزا بعد جهاد اليأس. أما العثمانيون فتشددوا في اليوم التالي بتشجيع قائدهم الباسل وانقضوا على الروس بقلوب لا تهاب الموت فطردوهم واسترجعوا كل الحصون إلا كريغتزا، وخسر الروس في هذه المعركة سبعة آلاف رجل بين قتيل وجريح، ولما بلغ خبر هذا النصر إلى الآستانة أنعم جلالة السلطان على صاحب الترجمة بالنيشان العثماني المرصع مع لقب «غازي».
وعاد الروسيون مرة ثالثة بقيادة الجنرال تودلين بطل سباستبول فحاصروا بلافنا وصبوا عليها النيران من مدافعهم، وفي 19 أكتوبر فتحوا حصن كريغتزا الثاني بعد أن ارتدوا عنه مرتين، على أن العثمانيين عادوا فاستولوا عليه في تلك الليلة بقوة السلاح، وبنوا سورا آخر داخليا لزيادة المناعة.
ونظر صاحب الترجمة في مركزه الحرج فعلم أنه يحتاج إلى النظام أكثر منه إلى الرجال، فأمر كل من كان معه من الشراكسة والباشبوزق بالخروج من بلافنا، وثبت هو بمن بقي من جنده فيها ثبات الجبال.
وكان الروسيون في أثناء ذلك يحاربون ما يحيط ببلافنا من الحاميات العثمانية، ويطاردونهم حتى خلت تلك البقاع من الجند العثماني، إلا بلافنا فإنها ظلت ممتنعة إلى 10 دسمبر وقد نفدت مئونتها وانقطع عنها المدد، فخرج عثمان باشا من حصنه وهو ينوي أن يخترق صفوف المحاصرين لعله ينجو من حصاره، فسار في مقدمة رجاله، ومشوا جميعا إلى جهة واحدة والروسيون يطلقون عليهم النار وهم لا يبالون، فاخترقوا خطين من خطوط الجند الروسي ولم يبق لنجاتهم إلا خط واحد كادوا يخترقونه لو لم يروا بطلهم عثمان باشا سقط إلى الأرض هو وجواده وقد أصيب برصاصة اخترقت فخذه وأصابت الجواد، فظنوه قتل ففشلوا واضطروا للتسليم، فسلموا أسلحتهم بلا شرط وعددهم أربعون ألفا فضلا عن 20000 بين مريض وجريح، فلما سلم عثمان بعث إليه قائد الروسيين مركبة يركب فيها إلى بلافنا لمداواة جراحه فركب، وهو في الطريق لقيه الغراندوق نيقولا ومعه البرنس شارل أمير رومانيا فأوقفا عربته وسلما عليه مصافحة.
وفي صبيحة اليوم التالي سار صاحب الترجمة يتوكأ على طبيبه الخاص إلى القصر الذي نزل به القيصر إسكندر الثاني ببلافيا، فلما أقبل عثمان وقف له القيصر وسلم عليه وأثنى على بسالته وأمانته، وأعجب بما أبداه من الشجاعة في محاولته الخروج من بين صفوف المدافع والبنادق إلى أن قال: «وهذا سيفك أرده إليك إقرارا ببسالتك وأهليتك، ولك أن تتقلده في بلادي، وهذه مركبتي وهؤلاء حرسي تحت أمرك إذا شئت ركبت، وإن شئت مكثت.»
شكل 21-2: القيصر إسكندر الثاني.
ولا يخفى ما في ذلك من الإكرام الذي لم يصدر من هذا القيصر إلا لما يعتقده من فضل هذا القائد العظيم، ومما يزيد فضله في هذا الحصار أن الذين حاصروا بلافنا يزيد عددهم على 150000 ومعهم 600 مدفع، وقوات هذا الغازي لم تكن أكثر من خمسين ألفا وثمانين مدفعا، وقد رأينا مع ذلك أنه لما يئس من الزاد والذخيرة لم يطلب التسليم وهو داخل الحصون، ولكنه خرج مستقتلا فإما أن يسلم وإما أن يسلم، وكان لسقوط بلافنا دوي عظيم؛ ففرح به الروسيون واستاء العثمانيون. (3) أواخر أيامه
وبعد انقضاء تلك الحرب وعقد شروط الصلح في مارس 1878 عاد عثمان باشا إلى الآستانة وتعين قائدا للحرس الشاهاني، وفي 10 يونيو من تلك السنة عين مشير المابين ثم واليا لجزيرة كريد.
وفي آخر تلك السنة انتدب لوزارة الحربية وتقرب من الحضرة الشاهانية فنال كل التفات ورعاية وتقلب في أحسن مناصب الدولة وأشرفها ونال أشرف وساماتها ووسام كومندور اللجيون دوتور من فرنسا.
ومن غريب ما تقوله الناس على أثر ما ظهر من بسالته في حصار بلافنا أن كل أمة حاولت أن تدعيه لنفسها، فقال الأمريكان: إن الرجل أمريكاني الأصل، وقال الفرنساويون: إنه فرنساوي، وقال غيرهم غير ذلك، ولكنهم تحققوا بعد ذلك أنه تركي لا شك فيه.
وكان صاحب الترجمة في آخر أعوامه مشير المابين الهمايوني وقائد الفيلق الخاص، ولا يجتمع مجلس في سراي يلدز إلا وهو من أعضائه، وإليه النظر في شئون جند المابين وملاحظة كل ما يتعلق بالمابين وكل ما يحدث فيه، وله دائرة خصوصية هناك يقيم فيها وله الكتاب والمأمورون.
ومما ناله من التفات جلالة السلطان أن اثنين من أولاده تزوجا بكريمتي جلالته. ثم أصيب بمرض عز شفاؤه فتوفي في الآستانة في أوائل أفريل 1900 وهو لم يتجاوز الثامنة والستين من عمره، وفي موته خسارة كبرى على الدولة العثمانية؛ لأنه من أعاظم أفرادها.
الفصل الثاني والعشرون
حميد بن محمد المرجبي فاتح الكونغو
شكل 22-1: حميد بن محمد المرجبي فاتح الكونغو.
لم يتعود قراء هذا الزمان الاطلاع على أخبار الهمم العالية، والنفوس الكبيرة، وظهور نوابغ القواد ورجال الدهاء إلا بين أهل العرب، ويعجبهم على الخصوص إذا قرءوا عن قائد أو وزير أو ملك نبغ من بين العامة وتسلم عرش السيادة بجده وسعيه، ولكن بين أهل الشرق اليوم نوابغ لا تقل نفوسهم كبرا ولا هممهم سموا عن أولئك، فقد ينبغون في أواسط آسيا وأفريقيا ويأتون بمعجزات السياسة والدهاء والقيادة ولا نعرف أخبارهم، وإليك ترجمة رجل منهم ولد في الفقر والضنك، وارتقى بهمته وسعيه حتى قاد الألوف وفتح البلاد؛ نعني به حميد بن محمد بن جمعة المرجبي الملقب بتيوتيب فاتح الكونغو بأواسط أفريقيا، وقد بعث إلينا برسمه وترجمة حاله حضرة الشيخ ناصر بن سليمان بن ناصر اللمكي ساكن زنجبار فأثبتناهما مع الثناء على غيرته في نشر مآثر الشرقيين، قال: (1) تمهيد
كانت الأقطار الزنجبارية ملكا للبرتغال كما لا يخفى على ذوي الإلمام بالتاريخ، فلما أراد العرب تخليص هذه الأقطار من يد الإفرنج بقوة سلطانهم سيف بن سلطان اليعربي، جهزوا جيشا من بلاد عمان مؤلفا من قبائل شتى من العرب، وفيهم القبائل المراجية، فبرح هذا الجيش مسقط في سفن شراعية فوصل إلى ممبسة سنة 1665 مسيحية، وهناك جرت بينهم وبين البرتغال وقائع كثيرة قضى الله بعدها بانجلاء البرتغال من تلك الأقطار واستلم العرب أزمة الملك، ولما رجع السلطان إلى مسقط أحب بعض أصحابه الإقامة في تلك الأقطار، فأقاموا وفيهم العائلات من قبائل الحواتم والنباهنة واليعاربة والمراجية، واتخذ كل فريق منهم المناخ الموافق له، ولا تزال هذه القبائل باقية هناك إلى الآن، ولكن رجالها لا يتكلمون إلا اللغة الزنجبارية وإنما حفظوا اسم القبيلة فقط، فالمراجية اختاروا قرية بجنوب دار السلام اسمها مبوماجي مناخا لهم ولا يزالون فيها إلى اليوم.
ثم آل أمر تلك الأقطار مع توالي الزمن إلى الانحطاط حتى جاءها سعيد بن سلطان الأزدي جد العائلة المالكة الآن في زنجبار وعمان، فأخذت في التقدم، وفتحت أبواب التجارة، وجعلت عاصمة المملكة جزيرة زنجبار، ثم رحل إليها العرب من عمان كما رحل إليها قبائل البراري والإفرنج. (2) ترجمة حاله
في هذه الجزيرة ولد صاحب الترجمة، وهو حميد بن محمد بن جمعة المرجبي في سنة 1248ه وقد نشأ في عصر مظلم وبلاد مظلمة، ولم ير بين يديه إلا أقواما لباسهم الجهل وطعامهم الفقر، خالين من كل فضيلة، متردين بكل رذيلة، لا يميزون بين الخير والشر. ولما بلغ السنة الخامسة من العمر اجتهد والده بتعليمه القراءة والكتابة وكتاب الله فأخذ منه بالقسط الأوفر في أقرب وقت، ثم مكث في حالة الفقر عدة سنوات كأنه على الناس إذ كان يشعر في نفسه بشيء يستحثه على طلب العلى، وهو لا يدري بأي وسيلة يسمو إليها، واتفق أن والده سافر إلى داخل البلاد لطلب الرزق وترك ولده في زنجبار، فالولد لم يقر له قرار لأنه رأى في نفسه ضيقا شديدا لم يعلم له سببا، ذلك هو دأب عظماء الرجال يحسون بالكبرياء والعظمة وهم في المهد، فإذا أتيحت لأحدهم الوسائط لقضاء مراده، وجد لذلك طريقا يسهل عليه الأمر، واستعمل الحيلة والمال لبلوغ أربه، ولكن المترجم لم يجد لنيل بغيته طريقا مع مطالبة نفسه بها، وظل كذلك حتى تطرق إلى قلبه اليأس فأخذ في طلب ما يسد رمقه به.
ولما بلغ من العمر اثنتي عشرة سنة اقترض اثني عشر ريالا اشترى بها ملحا سافر به إلى دار السلام، ومنها إلى داخل البلاد للاتجار، ولبث شهورا يتردد في بيع الملح، وقد ذاق حلاوة الجد والاجتهاد، وكانت أسفاره لا تزيد عن مسير يومين أو ثلاثة، ثم طال سفره شيئا فشيئا واطمأن إليه التجار بأموالهم، فاتجر في الثياب والمأكولات والكوتشوك وغيرها حتى اجتمع عنده شيء يسير من المال، ثم بلغه أن والده وصل إلى مدينة تبورة وتزوج بابنة سلطان الأنيموز (قبيلة من الزنوج لا يختتنون، وهم كثيرو العدد)، فشمر عن ساعد الجد، وعزم على اللحاق به في تلك البلاد، فسافر من باجمويو، وبعد مسير ثمانين يوما في البراري والقفار وصل إلى تبورة فوجدها كبيرة، وفيها من العرب نحو خمسمائة نفس، وجملة سكانها أربعون ألفا، ثم واجه السلطان وهو صهر والده، فلقي منه إكراما وأهدى إليه عاجا، وقربه منه فقوي نفوذه لديه وبقي هناك متاجرا.
ثم حصل خلاف بين صهر والده وسلطان آخر من سلاطين الزنوج، فتحاربا مدة، وخرج حميد بن محمد لنجدة صهر والده ببعض الزنوج والمماليك، فدخل بلاد العدو ليلا وأحرقها واستباحها قتلا وسلبا، وجمع الكثير من العاج، واستتب أمره في تلك البلاد حتى صارت ملكا له، وأطاع أهلها أمره، ولما عاد إلى والده منصورا أخذ ما كان معه من العاج، وقفل راجعا إلى زنجبار فحظي بمقابلة سلطانها يومئذ ماجد بن سعيد بن سلطان، ثم باع ما معه من العاج ووفى ما عليه من الديون، وأخذ في تجهيز ما يحتاج إليه في سفره، فلما تم ما أراد تجهيزه عمد إلى السفر. (3) نشأته السياسية
لقي حميد في هذه النشأة من المصاعب والمشاغب ما تشيب له الولدان؛ لأنه كان يسافر إلى مكان لم تطأه أقدام أسلافه، ولكنه لم يتهيب من ذلك بل كان يسافر والسعد حليفه والعناية تساعده والاجتهاد نصيره على المصائب. برح زنجبار ومعه من الثياب والخرز والبارود والرصاص ما قيمته تسعون ألف ريال حتى وصل باجمويو، ثم برحها في سنة 1279 هجرية، وبعد مضي 15 يوما من سفره قطع اللصوص الطريق عليه، وأرادوا نهب ما معه فدافعهم، لكنهم أخذوا بعض أمواله فلم يرهبه ذلك وقد أصابت رجاله الشمس، فمكثوا 5 أيام يشربون بول الدواب، ثم أصابهم طاعون فمات منهم خمسمائة رجل، ولم يجد من يحمل الخمسمائة حمل التي كانوا يحملونها فتركها ومضى إلى حال سبيله، وسار مجدا حتى وصل تبورة وقد أنهكه التعب ومعه نصف أمواله، فتاجر بها سنتين ثم مضى إلى البلاد التي كان قد أخذها قبلا، فوجد سلطانها استنجد بسلطان آخر فحاربهما فانكسر شر انكسار وضل عن الطريق، وتشتت أصحابه من الهزيمة، فوصل تبورة مقهورا مدحورا ثم برحها إلى أوجيجي فربح منها أموالا طائلة، وركب في بحيرة تنكنيكة فوصل إلى الجانب الثاني منها سنة 1274هجرية، فمكث هناك نحو سنة ونصف سنة بين الزنوج، وقد خاف أن يسافر إلى الكونغو لقلة معداته، فعاد إلى أوجيجي ومنها إلى تبورة سنة 1286.
شكل 22-2: الأفيال في أواسط أفريقيا.
وبعد سنة وصلهم الخبر بوفاة سلطان زنجبار ماجد بن سعيد وتعيين أخيه برغش بن سعيد مكانه، فكتب حميد بن محمد لسلطان زنجبار كتابا يهنئه بالملك، ويطلب منه بارودا، ثم سافر لمحاربة السلطان المغتصب للبلاد التي كان قد أخذها، فوصل إليه فوجده متحصنا في مدينته، فحاصره ستة أشهر ولم يقدر عليه، فجمع أصحابه وحفروا قناة حولوا إليها النهر الذي يشرب أهل المدينة منه فانقطع الماء عن المحصورين، فأسلم السلطان نفسه بشرط أن يسلم ماله لحميد بن محمد ويكون خاضعا لأمره، فرضي السلطان، وقويت شوكة حميد وهابه الأهالي فرجع والسلطان معه، وقبل وصوله إلى تبورة جاءه أحد أصحابه بكتاب من سلطان زنجبار برغش بن سعيد يخبره أنه أرسل إليه ألفي رطل من البارود، فلما وصلته عزم على السفر إلى أوجيجي فأخذ أمواله وأرسل العاج إلى تبورة ليبيعوه ويبتاعوا له بثمنه الثياب، فنزل أوجيجي وأقام فيها حتى وصلته البضائع فقطع بحيرة تنكنيكة في أواخر سنة 1287 وسار قاطعا البراري بين همجية الزنوج وأنياب الضواري يتلقى الأهوال مرة بالعطايا وتارة بالسيف، والنصر حليفه والشهرة تتقدمه، فترتعد الملوك خوفا منه، فيصالح المطيعين ويحارب العاصين، ولم يشغله هذا عن البيع والشراء من العاج والثياب. اتجه جنوبا وعاد إلى الشمال الغربي فوصل إلى نهر الكونغو عند المدينة التي يسمونها «ستانلي فولس» ولبث فيها مدة يلتمس الراحة، ولما عزم على السفر في نهر الكونغو بلغه أن أحد سلاطين الزنوج قطع عليه السبيل ليأخذ أمواله فتركها في تلك المدينة، وجهز جيشا من رعاياه ومماليكه قدره 30000 نفس وأمرهم بالسير إلى الشرق فالشمال ليأتوا العدو من ورائه، وجهز جيشا آخر وسيره على شاطئ الكونغو بحذاء قواربه، وعددها 400 قارب، فاستمر السير شهرين كان في خلالها يبيع ويشتري، وبعد هذه المدة التقى به العدو، وكان شديدا عزيز الجانب، والجيش الذي بعثه المترجم في البراري لم يصل بعد، فانكسر حميد شر انكسارة وغنم العدو القوارب، واستولى على شيء كثير من ماله، وبعد 14 يوما من الهزيمة وفد الجيش فعاد به إلى عدوه وهجم عليه فتحارب الفريقان ثلاثة أشهر انجلت عن قتل السلطان واستيلاء حميد بن محمد على أملاكه، وأقام هناك مدة رتب فيها جيشه على أربعة أقسام: قسم مؤلف من 20000 نفس أنفذه في الطريق الذي جاء منه ليصلوا إلى ستانلي فولس ويخبروا أهله وأصحابه بالنصر، ويحفظوا الأموال التي له هناك، ويذهبوا منها إلى الشرق حتى يبلغوا وسط المنيما في مكان عينه لهم، وقسم مثل الأول عدة وعددا سيره من المكان الذي هو فيه من الجنوب الشرقي ليدعو الناس لطاعته، ثم يتحولوا إلى المحل الذي عينه للقسم الأول، وقسم مؤلف من 20000 نفس أمرهم بالبقاء في ذلك المكان وخرج بمن معه وهم 60000 نفس لمحاربة قبائل نيام نيام.
ومن ينظر في هذه السياسة ينذهل لصدورها من رجل لم يتعلم فنون الحرب، ولم يدخل مدرسة حربية، وقد اتخذ نقطا عسكرية لحفظ خطوط الرجعة. أما الجيش الذي كان يقوده بنفسه فوصل إلى قبائل نيام نيام وحاربهم، وانتصر عليهم وأخذ أموالهم وسبى أولادهم، ثم اتجه نحو الشرق فالجنوب فوصل إلى النقطة التي عينها لأصحابه فوجدهم سبقوه، ولم يلق في طريقه هذه المرة حربا فاستتب الأمن وأمنت السبل قليلا، وأدركه العرب من أصحابه وانفتحت طرق التجارة إلى باجمويو فكثرت مداخيل زنجبار.
وقد يقول القارئ كيف يمكن لحميد بن محمد أن يجيش مائة ألف وكيف كان يطعمهم ويكسوهم؟ فنقول: إنه لا محل للدهشة؛ لأن الثوب الذي قيمته فرنك في زنجبار كان يباع هناك في ذلك الزمان بألف رطل من الأرز، ثم إن الأهالي كانوا يحبون متابعته ليغنموا عند انكسار العدو، ولما استتب الأمن عاد بأمواله وبعض مماليكه إلى زنجبار تاركا ولاية الأمر لإخوته وصحبه، وفي عودته هذه عبر بحيرة تنكنيكة في السفن الشراعية، واتصل به في أوجيجي نعي والده محمد بن جمعة، فبكى عليه وحزن لأنه لم يجن شيئا من ثمار أعمال ابنه، ومر على تبورة فوجد أرملة والده وصهره، فأقام عندهما ريثما استراح من عناء السفر، ثم واصل السير حتى دخل دار السلام، وقبل وصوله إليها لقيه في الطريق أخوه من أمه محمد بن مسعود الوردي، وأرسل سلطان زنجبار السيد برغش رجلا يسلم عليه من قبله أو يهنئه بما ناله من النعمة والشهرة وكتب إليه كتابا هذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من برغش بن سعيد إلى حضرة الشيخ الأفخم حميد بن محمد بن جمعة المرجبي سلمه الله تعالى، وبعد السلام عليك، أخبرني المحب ابن مسعود بأنك واصل إلينا قريبا فوجبت علينا التهنئة لك، وأرسلنا هذا الكتاب للسلام عليك، والسلام.
شكل 22-3: الأخطار في أواسط أفريقيا.
وصل حميد بن محمد دار السلام ومعه 70000 رطل من العاج وغيره من أنواع التجارة، فسافر إلى زنجبار بحرا فوصلها في أوائل سنة 1294هجرية، وباع ما كان معه من العاج وغيره، فاجتمع عنده مبلغ 30000 جنيه صافي بلا ديون.
ثم تجهز للسفر فاشترى بضائع كثيرة خرج بها من زنجبار سنة 1296 إلى باجمويو، ومنها إلى داخل البلاد يقتحم الأخطار والمفاوز، وبعد عشرة أشهر وصل البلاد التي اتخذها عاصمة له فوجد الأمر على غير ما كان يعهده؛ إذ شاهد التجارة كثيرة والأرزاق واسعة، والتجار من الإفرنج والهنود والعرب عديدين. أما أهل البلاد فكانوا على ما تركهم من السذاجة والجهل، وكان الأمن متزعزعا فتكبد مشاق جسيمة في محاربتهم، ومضت أيامه في الحروب ولكنها لم تشغله عن التجارة، بل كانت تجارته الرابحة لأنه كان يكسب منها أموالا طائلة غير العاج والعبيد والغنم، وكان جميع ما يحصله يرسله إلى زنجبار لوكيله ويطلب منه البضاعة الصالحة للزنوج.
فلما توفر عنده المال والرقيق عاد إلى زنجبار سنة 300ه وباع ما جلبه من البضائع فيها واشترى ما أراده ثم برحها سنة 1302 قاصدا الجهات الداخلية، ولسنا ذاكرين هنا جميع ما أصابه في طريقه من الحرب والجوع والعطش وما لقيه من اللصوص والوحوش، وإنما نقول: إنه وجد هناك عند وصوله هذه المرة رجلا بلجيكيا قنصلا لدولته، وكان الخطر محدقا به؛ لأنه طلب من سيف بن حميد بن محمد أن يأتيه بجميع العاج الموجود هناك ليكتب عليه اسم الدولة البلجيكية، فقبض عليه سيف وأرسله إلى سردار الجيش راشد بن محمد فحكم عليه بضرب خمسين جلدة وحبس سنتين، ولولا وصول حميد بن محمد في تلك الأيام لنال البلجيكي جزاء شديدا، وكان البلجيكيون قبل ذلك يهاجمون العرب مرارا فيصدهم هؤلاء ويقتلون منهم كثيرين، وربما يسأل القارئ عن الرجال الذين كانوا ينصرون البلجيك؛ إذ كان جميع الزنوج رعايا العرب، فالجواب أن العرب كانت لهم عادة يكرهها الزنوج وهي أنهم كانوا يحملون أولاد الزنوج يبيعونهم في زنجبار، فلما دخل الإفرنج تلك الديار خدعوا الزنوج وزخرفوا لهم القول بأنهم سيحررونهم ويعملون كيت وكيت من الخير، وما زالوا بهم حتى استمالوهم واستعانوا بهم على محاربة العرب. ولم تخف على حميد بن محمد هذه الحيلة فكان دائما يعرض عن محاربة الإفرنج، ويعدهم خيرا، وكان يقول: «دخلت هذه البلاد صغيرا فقيرا، وملكت هذه الرقاب جميعها ولم يكن لدي مال ولا سلاح، فهل أقوى بهم على الإفرنج!»
وكان يكلم أولاده دائما بهذا المعنى، ويحذرهم من غدر الزنوج، ولما باع تجارته هناك رجع إلى زنجبار فوصلها سنة 1304 هجرية فوجد الإنكليز له بالمرصاد، وقد أخبره قنصل الإنكليز بما تم عليه الاتفاق، وأن البلجيك سيدخلون الكونغو، ونصحه بعدم معارضتهم، وأنهم لا يريدون سوى التجارة، وأنه سيكون كسابق أمره مطلق الحرية وتدفع دولة البلجيك له مقابل تجارتها 65 جنيها شهريا فأبى أولا، فقال له قنصل الإنكليز: إن إنكلترا تعهدت بمساعدة البلجيك، وإنه إذا أصر على إبائه فأول شيء تفعله هو منعه عن السفر مرة أخرى.
فلم يجد بدا من القبول، وعندئذ قيل له: إن أي شيء يطلبه من إنكلترا يعطى له، وتتحقق أمانيه فطلب من القنصل تحميل عبيده من باجمويو إلى زنجبار، وكان الإنكليز متشددين في منع بيع الرقيق وتحميله، ولكنهم أذنوا له بذلك لحاجة كانت في نفوسهم، فحمل حميد بن محمد سبعمائة عبد من باجمويو إلى زنجبار، ثم وصلت الأخبار من الكونغو أن البلجيك هجموا على العرب مرارا فصدوا عنهم، وأن العرب أخرجوا جميع الإفرنج من تلك البلاد فلم يبق بها بلجيكي ولا ألماني، وكلما أراد البلجيك المسير إليهم التقوا بهم على ضفاف نهر الكونغو ورموهم بالرصاص، فشق هذا الخبر على الإنكليز، وطلبوا من حميد بن محمد أن يعجل بالسفر إلى الكونغو ومعه المعتمدان الإنكليزي والبلجيكي، فسافروا سنة 1305 في باخرة عن طريق رأس الرجاء الصالح فوصلوا إلى مدينة الكاب ومنها إلى بنتا عند مصب نهر الكونغو، ثم سارت الباخرة في النهر 4 ساعات فوقفت بسبب الشلالات، فركبوا الفلك وساروا بها شهرين حتى وصلوا إلى مدينة ستانلي فولس، ولما أطل العرب على هذه الفلك ورأوا فيها الإفرنج رموهم برصاص البنادق، فأشاروا إليهم أنهم ليسوا محاربين فلم يقبلوا، وأخيرا رمى حميد بن محمد نفسه في النهر فلما رأوه عرفوه وأمسكوا عن إطلاق البنادق، ونزل هو والإفرنج الذين معه وبوأ لهم مكانا وأمنهم، وبواسطته تم الاتفاق بين العرب والإفرنج، وفي غضون ذلك أتتهم الأخبار بوفاة برغش بن سعيد سلطان زنجبار، وارتقاء خليفة بن سعيد سلطانا مكانه، فمكث حميد يتاجر بماله إلى سنة 1307 ثم عقد النية إلى الرجوع إلى زنجبار فسافر، وبعد مسير عشرة أيام أتاه الخبر بوفاة خليفة بن سعيد وولاية علي بن سعيد مكانه، فواصل السير حتى بلغ تبورة، وفيها أصيب بمرض فتأخر هناك، وبعد شهرين وصل إليه ولداه سيف وثابت فوجداه مريضا، فكانا قاصدين الكونغو فأمرهما بالسفر إليها، ومكث هو في تبورة سنة، حتى إذا عوفي من مرضه برحها إلى زنجبار فبلغها سنة 1309 وبعد أن صفا الجو للبلجيك هجموا على العرب مرارا فصدوا عنهم، وطلبوا منهم أن يسافروا جميعا إلى زنجبار فأبوا، ولما أعيت البلجيك الحيلة خدعوا الزنوج وزخرفوا لهم القول فانفضوا عن العرب وانحازوا إلى البلجيك، ثم هجموا على العرب فهزموهم وغنموا أموالهم، وقتل سيف بن حميد، وهرب ثابت أخوه ومحمد بن سعيد وغيره، واستولى البلجيك على أموال حميد بن محمد، ويقدرونها بمائة ألف جنيه، وكان حميد بن محمد يتمثل دائما بقول الشاعر:
ومن يفعل المعروف مع غير أهله
يلاقي كما لاقى مجير ام عامر
حيث ذهبت أمواله، وقتل ولده جزاء إحسانه إلى البلجيك.
وفي سنة 1311 وصلت أخبار الهزيمة إلى زنجبار ووصل ثابت وإخوته وأنفار من العرب إليها، أما بقية أولاد محمد بن سعيد فأسرهم البلجيك وبقوا في أسرهم إلى 1321 حيث أطلقوا سراحهم وسمحوا لهم بالعودة إلى زنجبار فبلغوها في حال يرثى لها، وهكذا انتهت دولة العرب في أفريقيا الوسطى، وتقلص ظل ملكهم منها، وكانت نهاية أمرهم أنهم عاشوا في زنجبار فقراء. (4) لكل أجل كتاب
ولما وصل حميد بن محمد إلى زنجبار سنة 1309 حسب ثروته فوجدها نيفا ومائة ألف جنيه، إلا أن وكيله الذي كان في زنجبار احتال عليه وقدم وأخر في دفاتره فاختلس من تلك الثروة 30000 جنيه، و20000 جنيه كانت في يد هندي أعطيت له للتجارة فذهب ولم يحصل إلا على 4000 و7000 جنيه أعطاها محمد بن خلفان الذي ادعى الشركة في ملكه، وحكمت له محكمة دار السلام بدفع هذا المبلغ، ونحو 16000جنيه دفعت إلى المحامين عنه في دعاويه حينما أراد الدفاع عن نفسه في أمر الشركة وغيرها من الدعاوي، وكان دائما يقول: «ذهب ربع ملكي في أفواه المحامين.»
والذي بقي عنده اشترى به بيوتا وبساتين فعاش من ريعها، وفي سنة 1310 توفي سلطان زنجبار علي بن سعيد، وعين حمد بن ثويني مكانه فنال منه رتبة، وفي سنة 1314 توفي حمد بن ثويني، وهبت ثورة في البلاد فأطلقت الإنكليز القنابل على القصر السلطاني، ثم عين حمود بن محمد بن سعيد سلطانا، وفي سنة 1320 توفي السيد حمود بن حمد فخلفه ابنه علي بن حمود وهو السلطان الحالي أدام الله ملكه.
مضى هذا الزمان وحمد بن حميد بين الدعاوي والشكاوي، وفي شهر ذي الحجة سنة 1322 أصابه مرض الاستسقاء ثم عوفي منه، ولكن صحته بقيت ضعيفة فاشتد به الألم حتى كانت الساعة الخامسة من ليلة الأربعاء عاشر ربيع الثاني (14 يونيو) قبضه الله إليه، وما شاع هذا الخبر حتى توافدت الجموع إلى منزله وفي مقدمتهم قنصل جنرال أمريكا وفيس قنصلها، وتتابعت الجموع، وسار في جنازته أناس كثيرون، وفي الصباح جاء قنصل جنرال الإنكليز، وقنصل الألمان وغيرهما من معتمدي الدول والتجار الأجانب، وأعيان العرب والهنود والزنوج لتعزية أهله، ونقل البرق خبر وفاته إلى العالم المتمدن، فأتت جرائده مملوءة بالكلام عن سيرته.
القسم الرابع
رجال الإدارة والسياسة
الفصل الثالث والعشرون
المعلم جرجس الجوهري
شكل 23-1: المعلم جرجس الجوهري: توفي سنة 1811 (نقلت هذه الصورة بالموتوغراف عن رسم له بباريس ولكنها أخذت من موضع منحرف فظهرت كما نرى).
كان للأقباط في أثناء دولة أمراء المماليك شأن كبير في مصالح الدولة، فنبغ منهم في القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر رجال اشتهروا بالحزم والدراية، ونالوا نفوذا عظيما لدى الأمراء حتى كانت الأمور كلها إليهم، منهم المعلم رزق كاتب علي بك الكبير، والمعلم إبراهيم الجوهري رئيس كتاب الأمير إبراهيم بك، وكان لهما تأثير كبير في تاريخ الأمة القبطية، وقد ذكر الجبرتي أن النصارى اعتز جانبهم في أيامهما بما كان لهما من التأثير على صاحب الأمر والنهي، وجاء في «تاريخ الأمة القبطية» لمؤلفه يعقوب بك نخلة روفيلة تفاصيل مهمة من أخبارهما، ومن هذا الكتاب استخرجنا ترجمة المعلم جرجس هذا، وهو أخو المعلم إبراهيم الجوهري المتقدم ذكره، فلما توفي أخوه قلده إبراهيم بك رئاسة الكتاب كما كان أخوه قبله، ورافق أعمال هذا الأمير إلى آخر أيامه.
وقد جاء ذكره في كتاب الجبرتي بين وفيات عام 1225ه، وهاك نص قوله:
ومات المعلم جرجس الجوهري القبطي، كبير المباشرين بالديار المصرية، وهو أخو المعلم إبراهيم الجوهري، ولما مات أخوه في زمن رئاسة الأمراء المصرية تعين مكانه في الرئاسة على المباشرين والكتبة، وبيده حل الأمور وربطها في جميع الأقاليم المصرية، نافذ الكلمة وافر الحرمة، وتقدم في أيام الفرنسيس فكان رئيس الرؤساء، وكذلك عند مجيء الوزير والعثمانيين، وقدموه وأجلسوه لما يسديه إليهم من الهدايا والرغائب حتى كانوا يسمونه جرجس أفندي، ورأيته يجلس بجانب محمد باشا خسرو بجانب شريف أفندي الدفتردار، ويشرب بحضرتهم الدخان وغيره، ويراعون جانبه ويشاورونه في الأمور، وكان عظيم النفس، ويعطي العطايا، ويفرق على جميع الأعيان عند قدوم شهر رمضان الشموع العسلية والسكر والأرز والكساوي والبن ويعطي ويهب. وبنى عدة بيوت بحارة الونديك والأزبكية وأنشأ دارا كبيرة وهي التي يسكنها الدفتردار الآن، ويعمل فيها الباشا (محمد علي) وابنه (إبراهيم) الدواوين عند قنطرة الدكة، وكان يقف على أبوابه الحجاب والخدم، ولم يزل على حالته حتى ظهر المعلم غالي، وتداخل في هذا الباشا وفتح له الأبواب لأخذ الأموال، والمعلم جرجس يدافع في ذلك، وإذا طلب الباشا طلبا واسعا منه يقول له: هذا لا يتيسر تحصيله، فيأتي المعلم غالي فيسهل له الأمور، ويفتح له أبواب التحصيل ، فضاق خناق المعلم جرجس وحق على نفسه فهرب إلى قبلي، ثم حضر بأمان كما تقدم، وانحط قدره ولازمته الأمراض حتى مات في أواخر شعبان، وانقضى وخلا الجو للمعلم غالي، وتعين بالتقدم، ووافق الباشا في أغراضه الكلية والجزئية، وكل شيء له بداية وله نهاية، والله أعلم. ا.ه.
شكل 23-2: مراد بك أحد أمراء المماليك في أواخر القرن الثامن عشر.
وذكر صاحب تاريخ الأمة القبطية من سبب خوفه وهربه إلى الوجه القبلي:
أنه لما كثرت معارضته لمحمد علي باشا وتوقفه له في تحصيل النقود التي كان في غاية الاحتياج إليها قبض عليه ومن معه من الأقباط بحجة أنه متأخر عليه مبالغ من حساب التزامه، وحجزهم ببيت كتخداه وأحضر المعلم غالي وكان كاتبا عند الألفي (أحد كبار المماليك وعدو محمد علي باشا الألد) وعينه رئيسا مكانه، وكلفه بعمل حساب التزامه عن الخمس سنين الماضية، وبعد سبعة أيام أمر بالإفراج عنه ومن معه على شرط أن يدفع أربعة آلاف وثمانمائة كيس، فقام هو بدفع مبلغ عظيم من هذا المقدار ووزع الباقي على الكتاب والصيارف ما عدا المعلم غالي وشخص آخر يقال له المعلم فلتاؤس؛ لأسباب اختلفت فيها الأقوال نضرب صفحا عن ذكرها، فحصلت له ولهم مضايقات شديدة اضطرته إلى التنازل عن أفخر أملاكه، ولا سيما التي كانت على بركة الأزبكية وقنطرة الدكة، ولم تزل باقية في وقف القصر العالي للآن، ومن ذاك الحين أخذ نجم المعلم جرجس في الأفول ونجم المعلم غالي في الظهور والصعود، فلم يسعه غير الهرب إلى الوجه القبلي حيث كان الأمراء المماليك، ثم نزع محمد علي باشا البلاد التي كانت تحت التزامه وطرحها في المزاد على الراغبين فأخذها القادرون. وفي رواية أنه لم يهرب، بل إن محمد علي باشا نفاه إلى الصعيد، وقبل قيامه إلى الصعيد إما هاربا أو منفيا كما قيل جمع كل حجج أملاكه وسلمها إلى البطركخانة لتنفق من ريعها على أهل بيته فوضعت اليد عليها وبقيت في حوزتها للآن.
وبعد أربع سنين صرح له الباشا أن يعود بأمان إلى القاهرة فوصلها في اليوم الثالث عشر من شهر شوال سنة 1224ه. قال الجبرتي: «ولما حضر ذهب إلى الباشا فقابله وأكرمه ونزل في بيته الذي بحارة الونديك، وفرشه له المعلم غالي وقام له بجميع لوازمه، وذهب الناس مسلمهم ونصرانيهم وعالمهم وجاهلهم للسلام عليه.» وفي سنة 1225ه مات ودفن بمصر العتيقة بدير مارجرجس، ولا يزال قبره موجودا ولكنه قد تخرب وليس من يفكر في إصلاحه. ا.ه.
الفصل الرابع والعشرون
المعلم غالي
توفي سنة 1821
هو من مشاهير رجال الإدارة من الأقباط، نبغ في أوائل أيام محمد علي باشا الكبير. قال صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية: إنه كان في الأصل كاتب الأمير الألفي من أمراء المماليك ثم تركه لسبب غير معلوم، وتعلق بخدمة محمد علي باشا، قال:
وكان على جانب عظيم من الذكاء والنباهة، ويعرف من أين تؤكل الكتف، فلم يظهر للباشا معارضة في أوامره بل كان يساعده على تنفيذ أغراضه بتسهيل الأمر له، ولا سيما فيما يختص بتحصيل الأموال، وقيل: إنه كان يعرف اللغة التركية ويتكلم بها، فأحبه ورفع منزلته، وعول عليه في الأعمال المالية، وركن إليه وعمل برأيه وفكره فيها. ولما قصد محمد علي باشا تأسيس حكومة منتظمة، وكان لا يخفى على المعلم غالي أنه توجد أراض كثيرة يزرعها أصحاب الاقتدار بغير دفع أموال عليها، شرع في مساحة عموم أراضي القطر المصري فأخذ جملة أراض، فربطت عليها الأموال، وبذلك نمت الإيرادات فكانت هذه خدمة وطنية عظيمة قام بها، وقسم أطيان كل بلد إلى حيضان وقبائل، وجعل لكل بلد زماما مخصوصا، وغير ذلك مما لا تخفى فائدته فلا حاجة لإطالة الشرح فيه.
ولما نكب المعلم جرجس الجوهري وأسندت رئاسة الكتاب إليه طلب منه الباشا ألف كيس فوزعها على المباشرين والكتبة وجمعها في أقرب وقت، ولكن كان جمعها بسرعة موجبا لغير ما يتوقعه المعلم غالي، وسببا في جلب الضرر عليه وعلى غيره، فإن الباشا بعد قليل أوقع الحوطة على بيته وبيت المعلم جرجس الطويل، وحنا أخيه، وفرنسيس أخي المعلم غالي، والمعلم فلتاؤس، واثنين آخرين، وأخرجوهم منها بصورة منكرة وسمروا دورهم وأخذوا دفاترهم، فلما حضروا بين يديه، قال لهم: أريد حسابكم بموجب دفاتركم هذه. وأمر بحبسهم إن لم يدفعوا ثلاثين ألف كيس، وبعد أيام أفرج عنهم بواسطة شخص يسمى حسين أفندي الرونامجي على شرط أن يدفعوا سبعة آلاف كيس، فقاموا بدفعها، ولكن لم تمض سبعة شهور حتى قبض عليهم ثانية وحبسهم في القلعة، وختموا على دورهم ثم أنزلوا المعلم غالي والمعلم فلتاؤس في مركب ليسافرا إلى دمياط كمنفيين، وكان على ديوان الجمرك رجل يقال له: المعلم منصور صريمون ومعه كاتبان آخران: يسمى أحدهما بشارة، والآخر رزق الله الصباغ، والبعض يقول: إن الثاني من عائلة المعلم جرجس الجوهري، فأحضر الباشا المعلم منصور وقلده مباشرة الدواوين، ثم سعى الساعون في مصالحة المعلم غالي ورفقائه، فقبل الباشا العفو عنهم والرضا عليهم بشرط أن يدفعوا أربعة وعشرين ألف كيس، ولما حضر المعلم غالي من دمياط طلع إلى القلعة وقابل الباشا فخلع عليه وألبسه فروة سمور، وتنازل له عن أربعة آلاف كيس، وأمر أن ينزلوا به إلى داره وأمامه الجاويشية بالعصي المفضضة، وأعاده إلى الرئاسة كما كان أمام المعلم منصور فجعله كاتبا لابنه إبراهيم باشا.
وتكرر حصول ذلك من الباشا فكان يغضب عليه تارة ويعزله ويقلد غيره من رفقائه، ويرضى عليه أخرى فيرده إلى منصبه بعد دفع مبلغ طائل لا يستطيع القيام به من ماله الخاص فيختص هو بجانب منه، ويوزع الباقي على زملائه وغيرهم من رؤساء الكتبة، فنتج من ذلك أنه داخل بعض رفقائه الغيرة منه فانفكت رابطتهم وتفرقت كلمتهم، وكان هذا غاية مقصد الباشا.
واتفق أن الباشا كان قد توجه إلى الإسكندرية لمهمة واحتاج لنقود فحول على المعلم غالي صرف ستة آلاف كيس كانت باقية عليه، فاعتذر بعدم الاقتدار على أدائها في الحال بدعوى أنها بواق على أربابها وهو ساع في تحصيلها، فلم يقبل هذا العذر منه، وأرسل إلى كتخداه في مصر بالقبض عليه وعلى أخيه فرنسيس وأمينه المدعو المعلم سمعان وسجنهم في القلعة حتى يدفعوا هذا المبلغ، وخاف المعلم جرجس الطويل وحنا أخوه سوء العاقبة، وكان في نفسيهما شيء من جهة المعلم غالي فتحاملا عليه ووسوسا للباشا أنه إذا حوسب يظهر عليه ثلاثون ألف كيس، وتعهدا بأنه إذا فوض لهما عمل حسابه ولم يظهر عليه هذا المقدار فيكونان ملزومين بأدائه للخزينة، فاشتد غضبه عليه وعزله من رئاسة الكتابة وولى آخر مكانه يسمى المعلم منقريوس البتانوني، وضيق عليه في الحبس وأهانه إهانة شديدة وكرر الضرب على أمينه حتى أشرف على الهلاك، وبعد ذلك أفرج عن أخيه وأمينه ليسعيا في التحصيل، أما المعلم غالي فبقي في الحبس مدة، وبعد قليل شرع الباشا في تغيير هيئة الدواوين واستبدالها بأنظم منها بحيث تعود بالفائدة على الخزينة، فرضي على المعلم غالي وأناطه بذلك، فقسم البلاد إلى مديريات وأقسام، والأطيان إلى أحواض وقبائل.
وبعد أن غاب المعلم غالي نحو سنة في الصعيد وهو يشتغل في ذلك عاد إلى مصر وكان المتولي إمارة الصعيد رجلا يدعى محمد بك الدفتردار، فلما قصد المعلم غالي العود إلى مصر زوده بكتاب منه للباشا يمدح فيه نصحه وسعيه في فتح أبواب تحصيل الأموال للخزينة، وأنه ابتكر أشياء وحسابات يتحصل منها مقادير وافرة من المال، فقابله الباشا بالرضا وأثنى عليه ومن ثم اتخذ كاتبا لسره وخصه بمباشرة الأعمال الحسابية التي ابتكرها فكانت يده فوق يد الجميع حتى حكام الأقاليم، واستمر في هذا المنصب الجليل إلى أن قتل سنة 1821م لأسباب لا تزال حقيقتها خافية علينا. وبقيت جثته ملقاة في الخلاء ببعض بلاد مديرية الشرقية يومين إلى أن استأذن أحد الأقباط في رفعها فأخذها ودفنها. ا.ه.
الفصل الخامس والعشرون
علي باشا تيه دلنلي
شكل 25-1: علي باشا تيه دلنلي بطل ألبانيا (ولد سنة 1741 وتوفي 1832).
ألبانيا هي بلاد الأرناءوط يحدها الجبل الأسود من الشمال، وبلاد اليونان من الجنوب، والروملي من الشرق، والبحر الأدرياتيكي من الغرب، وتقسم إلى ثلاثة أقسام: يسمى كل منها بإيالة، وهي: (1)
إيالة أشقودرا في الشمال وقصبتها مدينة اقشودرا. (2)
إيالة يانيا في الجنوب وقصبتها يانيا وبلاد أميروس داخلة في حكمها. (3)
روميليا في الوسط وقصبتها موباستير.
ويقسم الألبانيون باعتبار أصلهم إلى ثلاث قبائل: (1)
قبيلة نجح أو العح ويقطنون في اشقود وما جاورها. (2)
التوسك ويسكنون أواسط ألبانيا في لبرات والباسن غربي موناستير. (3)
الليار وهم أحقر سكان ألبانيا ويقطنون الجبال بين التوسك وحدود أبيروس.
والألبانيون معروفون بقوة الأبدان، ويضرب المثل بشدة بطشهم، ولكنهم لانقسامهم وتنازعهم فيما بينهم لم تتحد كلمتهم ولا تمكنوا من تأسيس الممالك، وما برحوا عرضة لمطامع الدول العظمى من أول عهد العمران، وكانوا مع ذلك يدافعون عن أوطانهم دفاع الأسود فلا يرضخون للسلطة إلا بعد شق الأنفس، فدخلوا أولا في حوزة دولة اليونان حتى إذا مالت شمسها استقلوا ثم طمع فيهم البلغار فحاربهم الألبان وردوهم، فلما ظهرت الدولة العثمانية وفتحت الروملي وجهت أسنتها نحوهم على عهد السلطان محمد الفاتح، وكان على الألبان قائد شهير اسمه جورج كستريوت ويسميه الأتراك إسكندر بك قاد الألبانيين بمهارة وحذق فردوا الأتراك عن بلادهم، ولكنهم دخلوا في حوزة الدولة العلية قهرا سنة 1478 بعد موت إسكندر بك، ولا يزالون حتى الآن على أنهم ما انفكوا منذ أول رضوخهم للدولة يتذمرون ويتمردون فيكلفونها تجنيد الجند لقمع عصيانهم، حتى لقد كان خيرا لها لو تخلت عنهم على أنها استخدمت بعضهم في بعض حروبها، ثم لم ينل الألبان استقلالا بعد ذلك إلا ردحا من الزمن على عهد علي باشا التيه دليلي صاحب الترجمة وإليك ترجمة حاله. (1) علي باشا
ولد هذا الرجل في بلدة دبيلين على نهر فوبوتسا بجوار جبل كليسورا بولاية موناستير، ومنها لقبه بالتركية «تبه أو دبه دلنلي» وهو من قبيلة التوسك، وكان أسلافه من أشرافها ويلقبون ببكوات دبيليني، ويتصل هذا اللقب في أعقابهم بالإرث، ولما كان حصار أهل البندقية لجزيرة كورفو سنة 1716 كان جد علي باشا إذ ذاك في جملة المدافعين عنها، فقتل هناك فورث اللقب ابنه والد علي باشا، ويقول بعض عارفيه: إنه كان رقيق الجانب، محبا للسلام، ونظنه كان ضعيفا فسطا عليه جيرانه وسلبوه أملاكه، فلا نعد ذلك حبا منه للسلام ، بل هو عجز. أما والدته فكانت عظيمة الأنفة، فلم يعجبها تصرف زوجها، وقد توفي وعلي في الرابعة عشرة من العمر، فبذلت جهدها في تربيته على الخشونة وأرضعته حب الانتقام وكره الذين اختلسوا أموال والده، فشب على النهب والسلب والسطو والغزو شأن أكثر شبان ألبانيا، فقضى شبابه الأول في الجبال مع زمرة من أصحابه يصادرون المارة، ويسطون على أعداء والده ويحاربونهم، حتى تمكن من استرجاع بعض أملاكه في دبيليني، ويقال إنه قتل أخاه وسجن والدته، وأن والدته لم تعش بعد سجنه إلا مدة قصيرة.
فلما استرجع أملاكه وصار بيكا، تاقت نفسه إلى السلطة بتوسيع دائرة سلطانه، واتفق أن والي أشقودرا إذ ذاك كان متمردا على الدولة فعرض علي على الباب العالي أن يخرج هو لتسكين الثورة، فأذن له بذلك، فحمل عليه وقتله فكافأته الدولة بحق التمتع بكل أملاكه، وعينته معاونا لدرويند باشا الروملي، وهو لقب يسمى به حامي الطرق ومانع اللصوصية في الجبال.
ولكنه طمع بالمال وحاد عن واجباته، فكان يشارك اللصوص بسرقتهم ويطلق سراحهم، فعلمت الحكومة بذلك فاتهمت رئيسه بالأمر وحاكمته، وحكمت عليه بالإعدام. أما علي فنجا بمساع خصوصية استخدم فيها الأصفر الرنان.
ثم كانت الحرب بين العثمانيين والروس سنة 1787، وكان علي باشا في جملة القواد، فأظهر بسالة شديدة نال عليها إنعاما عظيما، فتعين واليا على تريكالا من تساليا (اليونان) ودرويند الروملي في وقت واحد مع لقب باشا، فلم يمض زمن قصير حتى طهر البلاد من اللصوص بترغيبهم في الخدمة العسكرية، فأدخل في خدمته جماعة كبيرة منهم، فألف تحت لوائه جندا كبيرا، وكانت يانيا متمردة على الدولة فخرج عليها بجنده فأخضعها سنة 1778 وأصلح أحوالها، فلما رأت الدولة منه ذلك ثبتته على كرسيها وسمي من ذلك الحين «والي يانيا» وهو اللقب الذي ما زال يعرف به إلى اليوم.
فلما رأى نفسه حاكما وأنه توصل إلى الحكومة بعدته ورجاله، حدثته نفسه أن يوسع دائرة سلطانه، فجعل ينتحل أسبابا يسطو بها على جيرانه كما فعل محمد علي باشا لما تولى مصر، وقد يرى القارئ مشابهة في ترجمة حياة هذين الرجلين من بعض الوجوه، وسنأتي على إيضاح ذلك فيما يلي.
فسطا علي باشا على حدود اليونان، ففتح غربي شماليها، وهي المقاطعة التي كانت تسمى ليفاديا، وطمع في جبال سوليوتس في الجنوب الغربي من أبيروس، وحاربهم طويلا فلم يخضعوا فضيق عليهم إلى سنة 1803 فقبلوا بإخلاء جبالهم والمهاجرة إلى جزيرة كورفو، فعاهدهم على ذلك ولكنهم لم يكادوا يخرجون حتى لقيهم رجاله وذبحوهم غدرا.
وعلم علي باشا أن مطامعه هذه لا تسلم من عقاب الدولة إلا إذا تحصن وأكثر من العدة، فاتفق سنة 1797 أن الفرنساويين استولوا على البندقية، وكان كلما سمع ببسالتهم ونهضتهم أظهر إعجابه ولمح أنه يريد المسير على خطواتهم ولكنه يحتاج إلى الحصون والمعاقل، فخابر بونابرت إذ ذاك بالأمر، فبعث إليه مهندسين بنوا له حصون يانيا التي لا تزال باقية إلى هذه الغاية، فضلا عن حصونها الطبيعية، وكان عدد سكان تلك المدينة إذ ذاك 35000 بين مسيحيين ومسلمين وبوهيميين.
ولم يمض قليل حتى فشل نابليون في مصر، فاغتنم علي باشا تلك الفرصة واستخرج بريفيزا عند خليج أوطا من أيدي الفرنساويين، ثم نال مصادقة السلطان على ما فتحه من البلاد، فأصبحت مملكته شاملة كل ألبانيا من الجبل الأسود إلى أبيروس، ولم تأت سنة 1817 حتى انضم اليها أبيروس وبعض تساليا والجزء الغربي من شمالي اليونان، وتولى أحد أولاده حكومة المورا فأصبح سلطانه واسعا، واتضحت مطامعه لدى الباب العالي فلم تر الدولة طمأنينة إلا بقتله، وكان قد بلغ الثمانين من عمره، فلم تجد سبيلا إلى ذلك وهو يتظاهر بموالاتها مع الاستعداد للدفاع، فلم تسمح العناية ببقاء دولته كما سمحت ببقاء دولة محمد علي في وادي النيل، فاتفق أن ضابطا من جنده انتظم في جند الآستانة فغضب علي باشا، وبعث إليه من يقتله سنة 1820 فشق ذلك على الباب العالي فبعث إلى سائر ولاة الدولة في تركيا وأوروبا أن يزحفوا عليه، فلم ينالوا منه مأربا لمناعة يانيا بالحصون، فلم ير الباب العالي بدا من العدول إلى السياسة، فبعث إليه خورشيد باشا أول سنة 1822 أن يسلم فينال العفو السلطاني، فأذعن الشيخ تخلصا من الحروب، وفي 5 فبراير سنة 1822 دعا خورشيد باشا عليا إليه ليسلمه الخط الشريف الناطق بالعفو عنه، فجاء وهو لا يدري ما نصب له، فدخل عليه وجلسا برهة يتحادثان، ثم مد خورشيد يده فاستخرج الفرمان المؤذن بقتله ودفعه إليه، فلما رآه علي أجفل واعترض ودافع عن نفسه دفاعا شديدا ولكن الكثرة غلبته فقتلوه وأرسلوا رأسه إلى الآستانة، وانقضت دولته بعد حكومة بضع وثلاثين سنة. (2) علي باشا ومحمد علي باشا
لا يقرأ المطالع ترجمة علي باشا إلا ويتذكر سيرة رجل مصر المغفور له محمد علي باشا؛ لمشابهة بينهما في غرضهما الأساسي وهو تأسيس الدول، فقد سعى كل منهما إلى تأسيس دولة يستقل بها تمثلا بمن سبقه أو عاصره من الرجال العظام، والمثل الأول لديهم بونابرت الذي كان معاصرا لهم وارتقى بإقدامه وشجاعته وتدبيره من أدنى رتب الضباط إلى أسمى رتب الملوك، فكان قدوة رجال في الإقدام ومثال القواد العظام. وطبيعي أن ظهور مثل هذا الرجل ينبه أذهان معاصريه إلى الاقتداء به فضلا عن النهضة العمومية التي نشأت في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن على أثر الحروب وإشراق شمس العلوم، وما نتج عنها من الاكتشافات والاختراعات، فتحركت الهمم وثارت الأفكار، وكان ذلك بمنزلة الاحتكاك للأذهان فظهرت القوى الكامنة في الناس على اختلاف مراتبهم وأصقاعهم، فنبغ من نبغ ومات من مات عملا بناموس الارتقاء العام.
وكان في جملة من ثارت قواهم، وظهرت مواهبهم العسكرية علي باشا في ألبانيا، ومحمد علي باشا في مصر وكلاهما من ولاة الدولة العلية، فسعيا سعيا متشابها يلتمسان غرضا متشابها، فانتهى بأحدهما إلى الانقضاء، وبالآخر إلى البقاء، فبعد أن بلغ علي باشا أوج سعده واستقل تقريبا بألبانيا وبعض ملحقاتها سقط وامحى أثره، وظل محمد علي باشا سائرا في خطته، وأسس دولة يتوارث الحكومة فيها أعقابه من بعده (تحت رعاية الدولة العلية)، فما هي الأسباب التي قضت بزوال الدولة الأولى وبقاء الثانية؟
يلوح لنا أن السبب الأول في ذلك: اختلاف الرجلين في الأخلاق الغريزية؛ فقد كان علي باشا شجاعا شديد البطش كبير المطامع طلابا للعلى، ولكنه لم يكن عادلا حسن السياسة لين العريكة مثل محمد علي؛ يدلك على ذلك معاملته لأهالي سوليوتس المتقدم ذكرهم، وفتكه بأهل كارديكي من ولايته، وذلك أنه علم بأن بعضهم ذكر والدته بالسوء فأعمل السيف فيهم، وذبح منهم مذبحة هائلة، على حين أن محمد لم يترك وسيلة في استرضاء المصريين، واستجلاب طاعتهم بالبذل، وإجراء العدل، ونشر العلوم، وضبط الإدارة.
وقد يعترض على محمد علي بذبحه المماليك غيلة في القلعة، ولكنه فعل ذلك مضطرا استبقاء لسلطته وتنفيذا لأوامر الباب العالي السرية. أما علي باشا فإنه فضلا عن تنبيه ذهن الباب العالي لمطامعه مد يده إلى كرامة عاصمة الدولة فقتل أحد ضباط الجند العثماني في وسط الآستانة كما تقدم، وفي ذلك من ضعف السياسة ما فيه. أما محمد علي فكان عونا للدولة العثمانية في كثير من حروبها؛ فدوخ لها الوهابيين، وأعانها في إخماد ثورة اليونان وإن لم ينجح.
ثانيا: أن محمد علي باشا استعان في تأييد حكومته بمصر ونشرها إلى ما يجاورها بواسطة أولاده، فقد حارب الوهابيين بقيادة ابنه طوسون، وحارب الشام والمورة بقيادة ابنه إبراهيم القائد العظيم، وأخضع السودان بابنه إسماعيل، وأيد سلطانه فيها كلها بحسن سياسته مع الدولة العلية، والمحافظة على علاقته بها بالحسنى.
ثالثا: أن المصريين فضلا عن قربهم من الطاعة وسهولة حكومته، فقد سبق محمد علي قبل ولايته وطبع على أذهانهم صورة حسنة من عدله وكرمه حتى حملهم على أن يطلبوا ولايته من الباب العالي رأسا، فلما تولاهم أحسن معاملتهم ورقى شئونهم وحافظ على رضاهم، فلم يأت عملا يوجب نفورهم، وحافظ مع ذلك على رضاء جنده القديم من الألبانيين وغيرهم الذين كانوا له عونا في ارتقاء أريكة الملك، حتى إذا أراد تنظيم جند جديد ورأى منهم تمردا اقتصر على تنظيم ذلك الجند من أهالي البلاد الأصليين بلا مقاومة وأضمر للمتمردين من رجاله وسيلة يتخلص بها منهم، فأنفذهم لفتح السودان على أن يفتحوها أو يبيدوا فيها وهم لا يشعرون، وفي ذلك من الدهاء والسياسة ما لا يخفى على اللبيب. أما علي باشا فقد كان مطمعه في الولاية محصورا فيما يرجوه من النفع المؤقت، وزد على ذلك أن الألبان قوم يصعب التسلط عليهم؛ لما تقدم من خشونة طباعهم وصعوبة مراسهم.
رابعا: أن مصر نظرا لبعدها عن مركز الخلافة كانت أقرب للاستقلال الإداري من ألبانيا؛ لأن هذه في الروملي قريبة من الآستانة، وكان الألبانيون أنفسهم كثيرا ما يتجندون في خدمة الدولة العلية مأجورين، فلم يكونوا قلبا واحدا مع واليهم، فلما قتل لم يبدوا مقاومة. ناهيك بغنى هذا القطر وما بذله محمد علي من المساعي الخيرية في تحسين الزراعة وتنشيط التجارة والصناعة، ففتح المعامل ونظم الجند ونشط العلم فدرت مصر ذهبا وفضة، فلقي أهلها رغدا وعيشا هنيئا أنساهم ما كانوا يقاسونه من البلاء على عهد المماليك، ولم يتأت لعلي باشا أن يفعل شيئا من ذلك ، ولعل طبيعة البلاد الخشنة من جهة، وانطباعه على السلب والنهب من جهة أخرى كانا من أكبر العقبات في سبيل الإصلاح.
خامسا: أن مساعي محمد علي في الولاية إنما كانت تحت ظل مصلحة الدولة، وفتح ما فتحه من البلاد باسمها، فلم يأت عملا يوجب الضغينة عليه منها إلا في حربه في الشام، فلما سئل الرجوع عنها أذعن، وتوسطت بعض الدول فجعلت لكل من الجانبين حدودا رضي بها الفريقان، ونال على أثر ذلك الامتيازات المعلومة.
سادسا وأخيرا: أن علي باشا هذا انخدع باقتراح خورشيد باشا انخداعا آل إلى قتاله وانقراض حكومته مما لا نظن محمد علي ينخدع به لو كان في مكانه؛ يدلنا على ذلك أنه لما كان قائدا لفرقة الألبانيين قبل أن يخطر بباله أمر الولاية، وتأخرت فرقته عن نجدة عساكر خسرو باشا في حرب المماليك، أراد خسرو الفتك به غيلة وطلب مقابلته سرا في منتصف الليل، فأدرك محمد علي بذكائه ودهائه أنه إنما يريد به شرا فلم يقبل دعوته، بل كان ذلك سببا قويا في سعيه إلى الولاية.
الفصل السادس والعشرون
بوغوص بك
شكل 26-1: بوغوص بك (ولد سنة 1768 وتوفي سنة 1844).
هو بوغوص بك يوسفيان، ولد في أزمير سنة 1768 وتثقف في مدارسها حتى برع في اللغات الأرمنية والتركية واليونانية والإيطالية والفرنساوية تكلما وكتابة، وتعاطى في أوائل شبابه التجارة عملا بمشورة أبيه، ثم تعين مترجما في قنصلية إنكلترا.
وفي سنة 1790 توفي والده، فقضت عليه الأحوال أن يأتي رشيد بالقطر المصري، فجاء وتعين في بعض مصالح الكمرك ثم انتقل إلى كمرك الإسكندرية، حتى إذا كانت الحملة الفرنساوية عام 1798 بقيادة نابليون بونابرت هاجر بوغوص إلى وطنه، ولما انسحب الفرنساويون سنة 1801 عاد إلى الإسكندرية.
وكان كمرك الإسكندرية إذ ذاك يحتكر بالمزايدة، ففي سنة 1810 انتهى المزاد عنده على أن يدفع خمسين كيسا في العام، والكيس يساوي خمسمائة غرش، وكان محمد علي قد تولى عرش الحكومة المصرية، فلما دنا انقضاء مدة الاحتكار استدعاه إليه لتجديد الشروط، وكان محمد علي على بينة من مقدار دخل الكمارك، فلما اجتمع به طلب منه خمسمائة كيس في العام لمدة خمس سنوات، فلم يقبل بوغوص في بادئ الرأي خوف الخسارة، فتعهد محمد علي إذا قل دخل الكمرك عن 500 كيس في السنة أتم له المبلغ من جيبه، وإذا زاد على ذلك قسم الربح بينه وبين الحكومة المصرية، فقبل بوغوص بك بذلك؛ لعلمه أن محمد علي لا يقدم على هذا الأمر إلا وهو ينوي للإسكندرية خيرا، وبالواقع أنه احتفر الترعة المحمودية فتسهلت وسائل النقل، وعظمت تجارة الإسكندرية فربح بوغوص أرباحا حسنة اقتسمها هو ومحمد علي، فأصبح شريكا للحكومة المصرية، وكان محمد علي قد جعل فوق يد بوغوص كاتبا يراقب حساباته، فوشى به سنة 1813 بأنه قبض مبلغا لم يدونه في دفاتره، فاستدعاه محمد علي إليه وكان يومئذ في دمياط وحاكمه، فأثبت الواشي دعواه بالحساب، فأمر محمد علي بإعدام بوغوص، فساقوه إلى السجن على أن يقتلوه في صباح الغد، وتولى الاحتفاظ به تلك الليلة رئيس حرس الباشا وهو كردي الأصل، وكان لبوغوص فضل عظيم عليه لأنه أنقذه مرة من القتل فعول هذا على مكافأته بالمثل.
فلما أمره محمد علي بإعدامه ساقه إلى منزله في دهبية على النيل، وجاء في الصباح التالي إلى السراي، فلما رآه محمد علي سأله عن بوغوص، فأجابه بقوله: «أطال الله بقاء سمو مولاي»، ففهم محمد علي على أنه قتله فلم يعد يذكره قط.
واتفق بعد بضعة أيام أن محمد علي قدم القاهرة لتعهد شئون حكومته فسمع باختلال أحوال الولاية، وكانت التقارير ترد عليه من الكشاف (المديرين) تناقض بعضها بعضا، فشق ذلك عليه وتذكر بوغوص لأنه كان عمدته في حل هذه المشاكل.
فصاح بأعلى صوته قائلا «من لنا ببوغوص الآن! كيف أني قتلته!» وكان رئيس حرسه حاضرا، فامتقع لونه واضطرب، فأدرك محمد علي ذلك، فقال له والغضب ظاهر على وجهه: «ادعه حالا» فخاف الكردي خوفا شديدا، واصطكت ركبتاه فترامى على قدمي الباشا فرفسه محمد علي برجله، ولم يزد على قوله: «ادعه إلي»، فجاءه به وبوغوص يرتعد خوفا ورهبة. أما الباشا فلم يبد ملاحظة ، ولكنه استشاره في حل المشكلة التي وقع فيها فتناول بوغوص الأوراق فتلاها وحل رموزها، واستطلع ما بطن منها وما ظهر، فأصدر محمد علي حكمه فيها طبقا لمشورة بوغوص، ولما انفضت الجلسة وانصرف الكتبة دعاه للطعام معه فتناولاه ولما هم بوغوص بالانصراف، قال له محمد علي: «قد تناولت الخبز والملح معك ونسيت ما مضى، فاذهب إلى الإسكندرية بسلام.» فالتمس بوغوص منه أن يعفو عن رئيس الحرس، فعفا عنه على شرط أن لا يرى وجهه بعد ذلك، فأخذه بوغوص معه وأسكنه في أهله زمنا طويلا ثم أراد النزوع إلى وطنه، فجهزه بمال يكفي لمعيشته بالرخاء والنعيم كل حياته.
وأصبح بوغوص بك من ذلك الحين موضع ثقة محمد علي ومرجع مشورته ولم تبق ثمة حاجة إلى تجديد شروط احتكار كمرك الإسكندرية، وأصبح بوغوص بك من موظفي الحكومة المصرية بلا راتب معين، فكان يستولي على ما أراده من دخل الكمارك بلا حساب على أن محمد علي لم ير منه طمعا ولا إسرافا، فرقاه إلى رتبة فريق مع لقب بك، وأطلق له التصرف في كل أعماله. ولما نظم محمد علي حكومته، وأنشأ فيها النظارات ولاه نظارة الخارجية والتجارة، فقضى في ذلك المنصب نحوا من عشرين سنة ومحمد علي يعتمد عليه اعتمادا تاما في كل ما يتعلق بعلاقاته السياسية والتجارية مع الدول الأخرى، وكانت كل محاصيل القطر المصري تمر تحت يده كأنه ناظر المالية، ونظم له أقلام الحسابات فاكتسب صداقة محمد علي فضلا عن ثقته.
وتوفي بوغوص بك في الإسكندرية أول عام 1844 عن 76 عاما، وكان محمد علي يومئذ في القاهرة فحزن حزنا شديدا، فأصدر أمره أن يحتفلوا بجنازته على نفقة الحكومة، فدفنوه في كنيسة الأرمن الغريغورية في الإسكندرية، ولم يكن من أقاربه في مصر يومئذ إلا نوبار باشا، وكانت سنه 19 سنة فخدمه في أثناء مرضه.
وكان محمد علي لما سافر إلى السودان عام 1839 لتفقد أحوالها سلم إلى بوغوص بك أوراقا مختومة على بياض لاستخدامها فيما يقتضي إصداره من الأوامر أو المنشورات سريعا، فبعد انقضاء مدة الحداد فتحوا صناديقه فوجدوا تلك الأوراق لا تزال كما كانت عليه، ومعها جواهر ومصاغ كان محمد علي قد عهد إليه بها قبل سفره، ويدل ذلك على أمانته وإخلاصه في خدمته.
وكان ربعة مع ميل إلى القصر، قوي البنية، يتقلد العمامة ويلبس القفطان والجبة، لا يختار من ألوان الألبسة إلا المظلمة، ولم يلبس الطربوش قط، ولم يخلف بوغوص أولادا، فورثه أخوه بدروس يوسفيان، وكان يقيم في تريستا ولم يعش بعده إلا قليلا.
الفصل السابع والعشرون
مصطفي رشيد باشا
شكل 27-1: مصطفي رشيد باشا (ولد سنة 1215ه وتوفي سنة 1274ه).
هو الوزير الخطير والسياسي العثماني الشهير، المعروف بحبه لوطنه وحسن خدماته لدولته وأمته، ابن مصطفى أفندي روزنامه جي الأوقاف الهمايونيو، ولد سنة 1215ه بالآستانة العلية وتهذب على أيدي والديه إلى سن الشبوبية، فأدخل بقلم مكتوبجي الباب العالي، وكان يختلس الفرص ويذهب إلى المساجد لتناول العلوم العربية عن أئمتها.
وكان رؤساؤه يحبونه لاستعداده ودرايته فترقى بمدة وجيزة، وصار من الكتاب الممتازين في القلم المذكور، ونال فوق ذلك رتبة رئاسة التعليم ولم تكن تعطى لحديث السن مثله، وكان على صغره يفصل المشاكل المهمة فصلا يقصر عنه الشيوخ، فكان يسمع مدحه وتنشيطه من الرؤساء فيزداد همة ونشاطا، وكان برتو باشا الشهير من جملة من قدر مزيته واقتداره.
ولما ارتقى إلى درجة باش خليفة (باشكاتب) أرسلته الدولة العلية إلى المورة برفقة الأودو الهمايوني تحت قيادة خسرو باشا، فابتدأ من ذلك الحين يصرف ذهنه إلى استطلاع أسباب تلك الحادثة، وما يضمن رجوع النفوذ العثماني.
وبعد رجوعه من المورة أرسل إلى القطر المصري مرتين برفقة برتو باشا على عهد المغفور له محمد علي باشا، فأظهر من الدراية في حل المشاكل ما اشتهر بين الخاص والعام.
ولما تبوأ السلطان عبد المجيد خان كرسي السلطنة كان المشار إليه بمأمورية آمدي الديوان الهمايوني، وكانت المذاكرات جارية بمجلس الوكلاء (الوزراء) إذ ذاك بشأن إصلاح شئون الدولة؛ لوقوعها في ارتباك عظيم بمسألة المورة واستقلال اليونان وإلغاء أجواق الإنكشارية ومحاربة روسيا، وكان السلطان حريصا على أمته وصيانة ممالكه حتى كان يود إصلاح ذلك كله دفعة واحدة، ولكن مقاصد الوزراء إذ ذاك متباينة متضادة مثل ما كانت أحوال الولايات، ولما لم ينتج من تلك المذاكرات نتيجة فعالة ضاق السلطان ذرعا، فجاء يوما بغتة إلى الباب العالي ودعا الوكلاء إليه وكان من جملتهم رشيد بك صاحب الترجمة.
فأخذ السلطان في تلك الجلسة يبين الخطر العظيم المحيط بالدولة من جميع أطرافها، وطلب إلى الوكلاء إبداء آرائهم في تخليص الممالك والأمة، فلم يكن جوابهم إلا التأوه والتأسف، فأثر ذلك برشيد بك تأثيرا، فوقف وصرح برأيه بكل احترام وأدب ووعد بأن يقدم رأيه خطا للأعتاب السلطانية، وهكذا فعل؛ فإنه قدم لائحة كانت السبب الوحيد لخلاص الأمة والمملكة من تلك الوهدة المخطرة، ونال بسببها الشهرة العظمى، فوجهت إليه رتبة الوزارة مع لقب باشا، ثم أرسل سفيرا إلى باريس ولندرة لحل مسألة مصر وهو لم يتجاوز الثلاثين من العمر، وزد على ذلك أنه كان يجهل اللغات الغربية فأرسل برفقته ترجمان يسمى المسيو كور. ولكنه رأى أن لا بد له من دراسة لغة أوربية، فتعلم الفرنساوية وطالع بواسطتها نظامات المماليك وأسباب نجاحها وثباتها، وكان ينظر إلى تلك الممالك نظرة وإلى حال دولته نظرة أخرى، ويقابل بين الحالتين توصلا إلى دواء يشفي الدولة مما كانت فيه من الأمراض العضالة.
وكان الغربيون ينظرون إلى الشرق نظر الاحتقار؛ لما كان يتصل إليهم من المبالغات بشأنه، فكان صاحب الترجمة يبذل جهده لتكذيب تلك الأراجيف بالدليل والقياس استجلابا لحسن ظنهم بالدولة العلية، وكان الملك جورج (ملك إنكلترا إذ ذاك) يصغي إلى كلامه حتى اقتنع منه بأن المحافظة على قوام الدولة العلية ووقاية ملكها يعودان بالنفع على سائر ممالك أوروبا، فانعقدت المعاهدة المسماة (بروتوكول لندرة) ومن مقتضاها التخلي لمحمد علي باشا عن ولايتي مصر وعكا طول حياته، ولكن محمد علي باشا لم يوافق على ذلك، فاضطرت دولة إنكلترا إذ ذاك أن ترسل سفنها الحربية إلى تلك الأمصار، وكانت النتيجة احتراق السفن الحربية المصرية أمام بيروت، وإخراج عساكرها من البلاد السورية وإعادة البلاد التي افتتحها إلى الدولة العلية، وحصر ولاية محمد علي باشا بالقطر المصري مدة حياته، ثم يتوارثها أكبر أولاده بموجب الشروط المذكورة بالفرمانات الهمايونيو، وترى ذلك مفصلا في كتابنا تاريخ مصر الحديث.
وكانت دول أوروبا حينئذ تنظر إلى الدولة العلية نظرها إلى المغتصب، ولم تكن تصادق على تملكها ولا تعد الدولة العلية من جمعية الدول الأوربية، وربما كان ذلك ناتجا عن إهمال عمال الدولة وما تمكن من الخلل في داخليتها حتى شغلهم عن علاقاتها الخارجية.
وكان السلطان عبد المجيد خان قد تحقق صداقة رشيد باشا فصار يعتمد عليه الاعتماد التام، فاتخذه مستشارا خاصا، وفي سنة 1256ه قام على الكرسي العالي بالنيابة عن جلالته في ميدان الكلخانة، وقرأ الخط الشاهاني المعلن المساواة بين سائر أصناف العثمانيين، فاعتقدت الدول الأوربية فلاح الدولة العلية بذلك وابتدأت تثق بالباب العالي كل الوثوق، وكان هذا الخط الشريف صورة من لوائح صاحب الترجمة قد أفرغت بقالب رسمي.
وعلم أيضا أن قلة الرجال المقتدرين يقف عثرة في طريق الإصلاح، فأخذ يرقي أصحاب اللياقة والاقتدار من شبان الوطن إلى أعلى المراتب بمدة قليلة، وفي جملة من ترقى على يده فؤاد باشا وعالي باشا وأحمد توفيق باشا الذين اشتهروا بخدماتهم للدولة العلية.
ولما وجهت إليه الصدارة العظمى كانت الأحوال وخيمة جدا - كما اتضح مما تقدم - فأخذ بإصلاح الأمور الملكية والعسكرية، فأسس سفارات دائمة في برلين وباريز وفيانه ولندرة، فكان يطلع بواسطتها على الحقائق السياسية في حينها، ويتخذ الاحتياطات اللازمة والتدابير المصيبة لصيانة حقوق الدولة والملة، وإن ما ناله من التوفيق في مسألة إعادة المجرمين التي ظهرت بعد الاختلال الكبير في المجر سنة 1849 كان نتيجة ما اتخذه من المسلك القويم في طرق السياسة، وبرهانا على فرط حميته وغيرته؛ وتفصيل ذلك أنه لما ضيقت روسيا والنمسا على المجرمين التجأ جماعة منهم إلى حدود المملكة العثمانية، فطلبت الدولتان المشار إليهما وهددتاها بالحرب إذا خالفت طلبهما، فأصدر رشيد باشا لهما ردا وفقه على الحقوق الدولية وصان شرف الدولة، وكان السلطان يؤيد كل ما يقوله أو يعمله ، ومن جملة كلام جلالته بهذه المسألة، قوله: «ومن المحال أن أسلم هؤلاء المساكين وقد التجئوا إلى باب سلطنتي السنية، وهذا ما تقتضيه الحمية والعدالة.» وقد اختار الحرب على تسليمهم، فعلمتا أن الدولة ساهرة على حقوقها وشرفها بهمة وزيرها رشيد باشا فأذعنتا إلى أن يتلافى الأمر بالمخابرات السياسية والقانون الدولي وتحققتا أن التهديد لا يفيدهما شيئا.
وتقلب رشيد باشا في مناصب متعددة على مقتضى الأحوال، فتقلد منصب الصدارة ست مرات، ونظارة الخارجية أربعا، وتقلد سفارات متعددة، وتعين واليا لأدرنة مرة واحدة، وكان الفوز مرافقا له في كل أمر شرع فيه، وأول جريدة عثمانية نشرت في الآستانة «تقويم وقائع» كان هو مؤسسها، وقد أسس أيضا نظارة المعارف ومجلس المعارف ونظامنامه المعارف وسالنامه الدولة والمكاتب الرشدية وغيرها من عوامل الارتقاء.
واتفق في أيامه ظهور مسألة القدس، وهي الاختلاف الذي حصل بين الكاثوليك والأرثوذكس بحق التصرف في الكنيسة الشرقية، وتداخلت روسيا في أمره وأرسلت «منشيقوف» الشهير إلى الآستانة ليبلغ الدولة العلية مطاليب الدولة الروسية الباهظة، فاتخذ رشيد باشا الاحتياطات اللازمة، فأودع المسألة حالا إلى مؤتمر فيانه، وطلب تسويتها وفقا لقانوني الدول والملل، فأصدر المؤتمر لائحة إلى الدولتين، فقبلتها الروسية ولم تقبلها الدولة العلية لاشتمالها على شروط تحتاج إلى التعديل، فطلبت تعديلها وإجراء المذاكرات بذلك، فصرحت الدول الأوربية بأنها لا تستطيع معاضدة الدولة العلية، وإذا لم تقبل بالشروط المذكورة فالمسئولية تعود عليها إذا آلات الحال إلى حرب.
فنهض رشيد باشا حينئذ بهمة وغيرة فائقتين، وجمع الوكلاء والوزراء والعلماء والأمراء والمأمورين والأعيان في الباب العالي بموجب إرادة سنية، وشرح المسألة وأبان لهم أن بعض مواد تلك اللائحة مخل بحقوق الدولة العلية، وأن الدولة الروسية لم تقبل تلك الشروط إلا رغبة بمواد فيها قابلة للتأول، ثم أخذ رأيهم ودارت المذاكرات بذلك، فأعلنت الدولة العلية الحرب على دولة روسيا سنة 1269ه، وكان رشيد باشا عالما بقصور الدولة عن مناهضة الروس إذ ذاك، ولكنه رأى قبول الشروط أكثر ضررا من الحرب فاختار أهون الشرين، ولم تمض برهة على ذلك حتى تأكدت فرنسا وإنكلترا وسردينيا أن الدولة الروسية قد تجاوزت الحد، فأعلن عليها الحرب وأوقفنها، وكانت نتيجة تلك الحرب الاعتراف بحقوق الدولة العلية، وإدخالها في عداد الدول الأوربية سنة 1273ه وهذا ما كان يتمناه رشيد باشا، ويسهر الليل والنهار لأجله، وهي خدمة تكفي لتخليد ذكره إلى الأبد.
وكان رحمه الله طويل الباع في الكتابة، والأوراق المحفوظة الآن بخطه في الباب العالي دليل واضح على ذلك.
وفي سنة 1274ه وافاه الأجل فلباه، وأودع حسرة في قلوب العثمانيين كافة، ولم يزل العثمانيون يذكرون اسمه بكل احترام وإكرام.
الفصل الثامن والعشرون
فؤاد باشا
شكل 28-1: فؤاد باشا السياسي العثماني الشهير (ولد سنة 1230ه وتوفي سنة 1285ه).
ولد في الآستانة سنة 1230ه، ووالده عزت ملا بن كيجه زاده أحد الشعراء والعلماء في زمانه. سلك فؤاد باشا في عهد شبيبته المسلك العلمي ثم دخل المكتب الطبي الذي أسسه السلطان محمود الثاني في سراي غلطة، وحصل فيه العلوم الطبية بنسبة زمانه واستعداده وارتقى لرتبة قائمقام، وعند ذهاب طاهر باشا بن جنكل واليا لولاية طرابلس الغرب تعين فؤاد (أفندي) طبيبا للآلاي في معيته.
وفي سنة 1253 كان مصطفى رشيد باشا في نظارة الخارجية، وتوسم في صاحب الترجمة مستقبلا عظيما في السياسة فحرضه على ترك الطب، فتركه وتعين مترجما في الباب العالي. ثم صار مترجما أول للديوان الهمايوني، وفي سنة 1254ه سافر رشيد باشا إلى لندرة سفيرا مؤقتا، فاصطحب فؤاد أفندي كاتبا أول للسفارة المذكورة، وبقي المشار إليه في لندرة ثلاث سنوات ثم عزل إلى الآستانة، وبقي فيها سنتين معتزلا.
ولما تعين رشيد باشا سفيرا في باريس للمرة الخامسة، تعين فؤاد أفندي سفيرا مؤقتا لإسبانيا والبرتغال، وبقي فيها سنتين، وبعد عودته للآستانة نال الرتبة الثانية المتمايزة، وتعين ترجمانا للديوان الهمايوني في شهر جمادى الآخر من سنة 1261، وفي ربيع أول سنة 1263 أحسن إليه بالرتبة الأولى من الصنف الأول، وتعين في (ديوان آمدي همايون) أي ديوان الاستقبال الهمايوني.
وفي سنة 1265ه أرسل إلى عاصمة الفلاخ والبغدان بمأمورية مخصوصة، فقام بها حق القيام، وبرهن على ما فطر عليه من الاقتدار الباهر ، فأرسل من هناك إلى بطرسبرج سفيرا، وفي أثناء وجوده في بطرسبرج عين مستشارا للصدارة العظمى وأعطيت له رتبة يالا في محرم سنة 1268.
وهذه أول خطوة خطاها نحو مرامي الشهرة البعيدة والمجد الباذخ، ثم أرسل إلى مصر بمأمورية مخصوصة بتعليمات من رشيد باشا فتكلل سعيه بالنجاح، وحصل على رضاء السلطان عبد المجيد ورشيد باشا ومدحه على إجراءاته، وولاه السلطان نظارة الخارجية مكافأة له، وكان فؤاد أفندي إلى هذا التاريخ مدينا بما أحرزه من التقدم إلى رشيد باشا وغريس نعمته، لكنه بعد ذلك حالف رشيد باشا في مسلكه السياسي، ووطد أركان إقباله بالاتحاد مع عالي باشا تارة، والانفراد بنفسه تارة أخرى.
وكان المنتظر من فؤاد باشا تعضيد رشيد باشا ومضافرته في كبح من يعارضه في ترقية الأمة والوطن لا مخالفته والتهالك وراء الرفعة والإقبال، وحب ترقية الأمة الذي كان فؤاد باشا مفطورا عليه يقضي عليه بذلك.
وفي محاربة القرم أرسل إلى يانية لتأديب أشقياء اليونان فتمكن من إعادة الأمن لتلك الجهات في ستة أشهر، وفي سنة 1271 وجهت إليه رتبة الوزارة.
وفي سنة 1856 تعين مندوبا لمؤتمر باريس المنعقد لعمل معاهدة السنة المذكورة، وكان ناظرا للخارجية في ذلك التاريخ ورافق عالي باشا بصفته مرخص ثان. ا.ه.
هذا ما رواه أبو الضياء من ترجمة هذا الرجل في كتابه «نمونه وأدبيات».
شكل 28-2: الماركيز دفرين.
وفي سنة 1276ه/1860 حدثت الحوادث الشهيرة في بلاد الشام، فاهتمت أوروبا بشئون المسيحيين فيها، وكان البادئ بذلك الاهتمام فرنسا فخابرت إنكلترا واتفقتا على تكليف الباب العالي بتشكيل لجنة دولية من مندوب عثماني ومندوبين من سائر الدول العظمى تسير إلى سوريا للبحث عن أسباب تلك الفتن ومعاقبة مسببها وتقرير الخطة التي تضمن الأمن في المستقبل، وأن يرفعوا بذلك تقريرا إلى الباب العالي، فتشكلت اللجنة المشار إليها، وأعضاؤها هم:
فؤاد باشا
من قبل الدولة العلية
اللورد دفرين
من قبل إنكلترا
الموسيو بيكلار
من قبل فرنسا
الموسيو نوفيكوف
من قبل روسيا
الموسيو ويكبيكر
من قبل أوستريا
الموسيو ريفوس
من قبل بروسيا
واجتمعت اللجنة اجتماعها الأول في بيروت في 5 نوفمبر سنة 1860، ثم واصلت الاجتماع خمسة أشهر متوالية، دارت في أثنائها المداولات للقيام بالمهمة التي تألفت اللجنة لأجلها، وأهمها: (1)
إعادة النظام والأمن. (2)
إرجاع المسيحيين المهاجرين إلى قراهم وبلادهم. (3)
تقدير ما لحقهم من الخسائر وتعويضها عليهم. (4)
تعيين الأشخاص الذين سببوا تلك الثورة ومقاصتهم. (5)
الاتفاق على حكومة تضمن للبنانيين أرواحهم وأموالهم وراحتهم.
وقد طال البحث في تفاصيل هذه الشئون واحتدم الجدال، خصوصا بين فؤاد باشا المندوب العثماني واللورد دفرين المندوب الإنكليزي، وكلاهما من أعظم رجال السياسة.
فكتبت القوائم بأسماء المنكوبين حسب قراهم ومقاطعاتهم، ودفعت لهم مساعدة وقتية، فأصاب كل واحد منهم نحو عشرة غروش مصرية، وفرقوا فيهم الدقيق والأقمشة، وأنشئوا المستشفيات لجرحاهم ومرضاهم ونحو ذلك مما يخفف مصائبهم وقتيا.
فلما سد الناس رمقهم عادت اللجنة إلى البحث عن مقدار التعويضات اللازمة، فقدروا خسائر اللبنانيين وحدها بثلاثة ملايين جنيه، وشخصت اللجنة إلى دمشق للنظر فيما لحق تلك المدينة أيضا فقدروا خسارتها بمليون جنيه، فرجعت اللجنة إلى بيروت لإعادة النظر في هذه الشئون فجعلوا خسائر دمشق 700000 جنيه فقط، وقرروا أن يجمع هذا المال من مسلمي الولاية ثم والت اللجنة اجتماعاتها والآراء مضطربة، وفي اجتماعها الخامس عشر صرح فؤاد باشا أن مسألة التعويضات أصبحت من خصائص الآستانة، وللباب العالي وحده الحق في ذلك، فأرادت اللجنة مقاومته والاعتراض على قوله فلم تفلح، وبعد مخابرات طويلة تقرر أن تكون تعويضات دمشق 350000 جنيه فقط تدفع تدريجيا، وطال الجدال أيضا في المسائل الأخرى مثل معاقبة الجانين ومحاكمتهم، وأظهر اللورد دفرين ورفقاؤه ثباتا كثيرا، ولكن فؤاد باشا تغلب عليهم وأجرى ما رآه أضمن لمصلحة دولته وأحفظ لاستقلالها، والدول الأوربية تراه مجحفا بحقوق المسيحيين هناك.
وكان في جملة مطالبهم سرعة تنفيذ القصاص على الدروز الذين ثبتت الجناية عليهم، ولكن فؤاد باشا تغلب على سياستهم في ذلك، وأجل القصاص وغير أوجه المسألة وخفف الجريمة، فانتهت تلك المهمة إلى ما هو مشهور من أمرها، وقد تغلب فيها رأي فؤاد باشا بوجه الإجمال.
وفي سياحة السلطان عبد العزيز إلى أوروبا ألحق فؤاد باشا بمعيته؛ لأنه كان ناظرا للخارجية، وتعين وكيلا لعالي باشا الصدر عند سفره إلى كريد ولبث فيها مدة سنة، وأصيب فؤاد باشا في أواخر حياته بمرض في القلب، اشتدت وطأته عليه حتى ألزمه أطباء فرنسا الذهاب إلى «نيس»، فذهب إليها وتوفى فيها سنة 1285 وعمره خمسون سنة، وتقلد صاحب الترجمة منصب الخارجية خمس مرات، ثلاث منها في عصر السلطان عبد المجيد، واثنتان في عهد السلطان عبد العزيز والسرعسكرية، وتعين رئيسا للمجلس العالي (مجلس والا) وكان فؤاد باشا في صدارته الأولى يوقع على الأوامر بختم محفور عليه عبارة «الوزير الأعظم محمد فؤاد»، وفي صدارته الثانية انضمت له السرعسكرية وأحسنت إليه الذات الشاهانية بعنوان «ياور أكرم مقبل صادق».
ولفؤاد باشا شهرة طائرة في عالم السياسة، ويذكرون له وصية إصلاحية لم نقف عليها كلها.
الفصل التاسع والعشرون
محمد شريف باشا
شكل 29-1: محمد شريف باشا (ولد سنة 1823 وتوفي سنة 1887م).
هو الوزير الخطير الجامع بين العلم والسياسة والفضل والرئاسة والشهير بين أقرانه الوزراء بالغيرة على الوطن المصري غيرة خالصة من كل شائبة كما سيتضح لك من سيرة حياته رحمه الله.
ولد في القاهرة في سنة 1823 من عائلة تركية الأصل عريقة في الحسب والنسب، وكان والده قد جاء الديار المصرية في أيام المغفور له محمد علي باشا بمنصب قاضي القضاة، فأقام فيها زمنا ثم عاد إلى الآستانة حتى أذن ساكن الجنان السلطان محمود الثاني نقاد الرجال بتقليده منصب القضاء في الحجاز، فمر في طريقه بمصر أقام فيها أياما وولده صاحب الترجمة معه وسنه إذ ذاك بضع سنين، وكان محمد علي باشا رحمه الله لحسن فراسته ينتقد الرجال بمجرد النظر إليهم، فلما رأى الغلام تنبأ بعظم مواهبه وفرط ذكائه فاستبقاه عنده، وجعله كأحد أولاده فأدخله المدرسة العسكرية التي أنشأها في الخانكاه بضواحي القاهرة وجعل فيها أولاده وأولاد الأمراء والأعيان، وبعد أن درس فيها مدة بعثه محمد علي باشا في الرسالة المصرية التي كان يبعث بها إلى أوروبا للتخرج في العلوم، وكانت تلك الرسالة مؤلفة من ثلاثة وأربعين تلميذا، أرسلوا إلى المدرسة المعدة لأبناء مصر في باريس، وكان في جملة تلك الرسالة محمد سعيد باشا ابن محمد علي والي مصر، وإسماعيل باشا الخديوي الأسبق، وغيرهما من أبناء العائلة الخديوية، وعلي باشا شريف، وعلي باشا مبارك، ومراد حلمي باشا، وعلي باشا إبراهيم، وغيرهم من أبناء الأعيان والوجهاء.
وكان صاحب الترجمة رحمه الله ميالا ميلا طبيعيا إلى العلوم العسكرية والحركات الحربية، ولا سيما في إبان شبيبته، فاختار تعلمها؛ لأن التعلم كان في تلك الرسالة اختياريا فأدخلته الحكومة مدرسة سان سير المعدة لتعليم الضباط العسكرية سنة 1843، وبعد سنتين أتم دروسها وامتاز عن رفاقه، فانتقل منها إلى مدرسة تطبيق العلوم العسكرية، قضى فيها سنتين أظهر فيهما كل ما دل على النجابة والذكاء، فانتظم في الجند الفرنساوي للتمرن عملا بمقتضى قوانين تلك المدرسة حتى توفي المغفور له إبراهيم باشا ووالده محمد علي باشا سنة 1849م فلما تولى المرحوم عباس باشا حلمي الأول استرجع الرسالة المصرية فرجع صاحب الترجمة وقد نال رتبة يوزباشي أركان حرب في الجيش الفرنساوي، وألحق بالجيش المصري ولقب من الحين بالفرنساوي، وما زال معروفا به بين عامة المصريين بشريف باشا الفرنساوي إلى هذه الغاية.
وكان أعظم قواد الجنود المصرية إذ ذاك سليمان باشا الفرنساوي (راجع ترجمته) فلما رجع صاحب الترجمة من فرنسا كما تقدم ألحق بأركان حرب سليمان باشا وتقرب منه حتى تمكنت علائق المودة بينهما كثيرا، وبقي في الجيش المصري إلى سنة 1852، فلما رأى أنه لم يرتق عن رتبته التي جاء بها من فرنسا اعتزل العسكرية، ودخل في خدمة البرنس حليم باشا بوظيفة كاتب يده إلى سنة 1853، فلما توفي المرحوم عباس باشا الأول استقدمه خلفه سعيد باشا، وأنعم عليه بما كان يستحقه من الالتفات، ورقاه إلى رتبة أميرالاي لحرسه الخصوصي، وبعد سنتين منحه رتبة لوا. أما علاقته مع سليمان باشا فكانت لا تزال ودية حتى تصاهرا، فتزوج صاحب الترجمة بابنة سليمان باشا، وأخذت مواهبه بالظهور من ذلك الحين فاشتهر بالحزم والعفة والاستقامة، فرأى المرحوم سعيد باشا أن الإدارة أحوج إليه من العسكرية فعينه ناظرا للخارجية سنة 1857، فلما توفي سعيد باشا سنة 1863 خلفه إسماعيل باشا فعينه ناظرا للداخلية مع بقائه على الخارجية؛ نظرا لما كان له من المنزلة الرفيعة في عينيه، فقام بما عهد إليه أحسن قيام، وأظهر من الغيرة الوطنية والإخلاص في خدمة الديار المصرية ما زاد مولاه ثقة فيه حتى ولاه سنة 1865 النيابة الخديوية أثناء غيابه في الآستانة العلية.
ولما عاد إسماعيل باشا من الآستانة قلده نظارة المعارف مع نظارة الخارجية، ثم رئاسة مجلسه الخصوصي سنة 1867 ثم مناصب أخرى، حتى لم يبق منصب من المناصب المصرية الرفيعة إلا تقلده بين داخلية وخارجية وحقانية ورئاسة مجلس النظار وغيرها في أيامه وأيام الخديوي السابق المرحوم محمد توفيق باشا.
وكان صاحب الترجمة معروفا بين الأهالي بالوطنية الخالصة، حتى إن الأحزاب العرابية الذين قاموا بالدعوة الوطنية، ولم يثقوا بأحد من وزراء مصر تقريبا، ولم يرضوا سواه لتولي رئاسة مجلس النظار يوم حادثة عابدين الشهيرة، وقد تردد زمنا في قبولها؛ لما كانت فيه البلاد من الاضطراب، ولكنه قبل بها غيرة على الأمن العام، وهو الذي أسس مجلس النواب المصري مراعاة للأمر الخديوي ولرغبة الأحزاب الوطنية إذ ذاك، ولما اشتدت الأزمة العرابية تنحى عن الوزارة ثم عاد إليها بعد تدمير الإسكندرية، وبقي فيها إلى عام 1884 فتنحى عنها ولم يعد يتولاها ولا سواها من مناصب الحكومة.
وتنحيه هذا جاء مؤيدا لإخلاصه للوطن المصري، وصدق طويته وعزة نفسه، وسببه أن المتمهدي السوداني كان قد استفحل أمره في الأقطار السودانية البعيدة وافتتح كردوفان ودارفور، وتهدد الخرطوم، وكانت الحكومة المصرية قد بعثت حملة هيكس باشا وبادت عن آخرها، فأشارت الحكومة الإنكليزية بإخلاء السودان وتركها للعصاة، فلم يقبل شريف باشا بتلك المشورة بدعوى أن السودان كلفت الحكومة المصرية مالا ورجالا منذ افتتحها محمد علي باشا إلى ذلك الحين، وهي مصدر ثروة تجاري للقطر المصري فضلا عما يتهدد مصر من الخطر بسبب إخلائها إلى غير ذلك من الأدلة القاطعة، ولكن الإنكليز أصروا على مشورتهم، وطالت المخابرات بين مصر ولندرة وهو لم يتحول عن رأيه، ولما رأى من الحكومة المصرية ميلا لموافقة الحكومة الإنكليزية تنحى عن الوزارة حتى لا يكون هو المؤذن بإخلاء تلك الأقطار، ولكي لا يجري عملا غير مطابق لما يناجيه به ضميره.
ومن تتبع الحوادث المصرية السودانية من وزارة شريف باشا الأخيرة إلى الآن يتحقق صواب رأيه، وأفضلية استبقاء الأصقاع السودانية تحت كنف الحكومة المصرية، ولكن حكم القضاء ونفذ المقدر.
وبقي رحمه الله معتزلا الأعمال الإدارية منقطعا إلى الدرس والمطالعة حتى أصيب بداء الكبد في أوائل سنة 1887م، فأشار عليه الأطباء بتغيير الهواء، فسافر إلى الأقطار الأوربية، ولم يكد يصل مدينة غرانس من أعمال النمسا حتى فاجأه المنون، فتوفاه الله عن 64 عاما، ولما بلغ الحكومة الخديوية أمرت بإقفال الدواوين يوما كاملا حدادا عليه، وبعث رئيس النظار رسالة برقية إلى ابن الفقيد يقول فيها: «إننا أسفنا على الفقيد بقدر حبنا له.»
وجيء بجثته إلى القاهرة في 27 أفريل (نيسان) من تلك السنة، ودفن بالتجلة والإكرام والناس يتأسفون على فقده ويستمطرون عليه الرحمة والرضوان.
وكان شريف باشا حسن الخلق والخلق، مهيبا جليلا، ممتلئ البدن، طويل القامة، تظهر في عينيه وجبينه ملامح الذكاء وحدة الذهن، وكان متمكنا من أكثر العلوم العصرية وخصوصا علم الفلك، حليم الطبع لين العريكة، وقد أجمع المصريون على ولائه ونال إنعام الحكومة الخديوية والحضرة الشاهانية، وسائر الدول العظام من الرتب والنياشين ما تتحلى به صدور الرجال، وتفتخر بنيله كرام الأنام رحمه الله وتغمده برحمته ورضوانه.
الفصل الثلاثون
رستم باشا
شكل 30-1: رستم باشا (ولد سنة 1806م وتوفي سنة 1895).
هو الوزير العثماني الشهير سفير الدولة العلية في لندرة مؤخرا، وأصله إيطالي، ولد سنة 1806 من عائلة كرواتية عريقة في الحسب والنسب، ولكنه انتظم في خدمة الدولة العلية، وتخلق بأخلاق رجالها وأتقن لغتهم فضلا عن لغته ولغات أخرى كما فعل كثير من خدمة الدولة العلية من الأوربيين، وكانوا غالبا إذا انتظموا في سلك خدمتها اعتنقوا الإسلام. أما رستم باشا فبقي على مذهب آبائه وهو النصرانية، وكان منذ نعومة أظفاره جريئا مقداما حاد الذهن ذكيا، فما لبث أن انتظم في خدمتها حتى أخذ يرتقي ويتقلب في المناصب حتى تعين سفيرا للدولة العلية في إيطاليا على عهد ملكها فيكتور عمانوئيل الثاني، وما زال في ذلك المنصب إلى سنة 1873 فاستقدمه الباب العالي ليتولى متصرفية لبنان.
وكان الجبل قد حال بين أحكامه والعدل نفوذ ذوي الوجاهة والرئاسة وخصوصا طائفة الأكليروس، وكان رستم باشا لحزمه وصرامته يتوخى القسط ولا يقبل الوساطة، فشق ذلك على بعض جماعة الأكليروس، وحاولوا استخدام نفوذهم فلم يروا منه إلا البقاء على عزمه، فنتج عن ذلك نفور بينه وبين جماعة منهم، وتمكن النفور حتى آل إلى حكمه على المطران بطرس البستاني بالنفي إلى القدس سنة 1879 بواسطة قنصل فرنسا لنفور موقت كان بينهما، والمطران المشار إليه من ذوي الرأي والوجاهة والكلمة النافذة في الطائفة المارونية، فتزعزعت أركان لبنان، واشتدت الأزمة، فعادت فرنسا النظر في الأمر، فتحققت خطأ قنصلها فعزلته، ووافقت الدولة العلية على إعادة المطران إلى كرسيه، على أن هذا الحادث كان عبرة لسائر الأحزاب والعصب في لبنان، فسارت الأحكام على ما يرام من العدالة والقسط وساد الأمن وعرف كل ذي حق حقه.
ويقول المدافعون عن المطران بطرس: إن سبب النفرة بينه وبين رستم باشا ذود المطران عن حقوق منحتها الدولة العلية لمواطنيه، فأغرى رستم باشا أن تقويض نظام لبنان وإثقال كاهله بضرائب جديدة يكسبانه رضاء الباب العالي، ولعلمه أنه لا يستطيع التسلط على أعضاء الإدارة والمطران على يمينه سعى في إبعاده.
وبقي رستم باشا في ولايته هذه عشر سنوات، ولا يزال أهل الشام كافة وخصوصا أهل لبنان يتذكرون حكمه وعدالته، وقد شهد عقلاؤهم على اختلاف أغراضهم ونزعاتهم أن ولايته على لبنان خطت به خطوة كبرى نحو الإصلاح والتمدن، وفي سنة 1883 عند انتهاء المدة المعينة لحكمه أبدل بالمرحوم واصه باشا، فتوفي سنة 1892 فخلفه دولتلو نعوم باشا، ثم أبدل سنة 1902 بمظفر باشا.
أما رستم باشا فتعين سفيرا للدولة العلية في لندرة، وهي أخطر سفاراتها، وذلك دليل على ثقة الدولة به، وما زال هناك حتى توفاه الله سنة 1895 وله من العمر زهاء تسعين سنة ولم يخلف عقبا.
وكان ربعا نحيفا، سريع الحركة، حاد العينين والذهن، صارما حرا، وقد نال بسبب ذلك شهرة كبرى لدى رجال أوروبا حتى صرح اللورد سالسبوري وهو يذكر وفاته، أن بموته ماتت رجال الدولة العثمانية، كأنه يريد أنه فريد في الدولة، وهو قول لا يخلو من المبالغة، ولكنه يدل على منزلة هذا الرجل عند قهارمة السياسة في أوروبا.
الفصل الحادي والثلاثون
نوبار باشا
شكل 31-1: نوبار باشا أحد وزراء مصر العظام (ولد سنة 1825 وتوفي سنة 1899).
امتازت مصر عن سائر ممالك الأرض بتعدد الجنسيات، واختلاط أهلها بسائر أصناف الناس، وقد خدم حكومتها رجال من أمم شتى وفيهم الفرنساويون والإنكليز والألمان وغيرهم من أمم أوروبا، والأتراك والأرناءوط والأرمن والشركس والسوريون وغيرهم من رعايا الدولة العلية.
وقد تناوب رئاسة وزارتها من أول عهد العائلة الخديوية إلى أمد غير بعيد ثلاثة من كبار الوزراء؛ اثنان تركيان هما: المرحوم شريف باشا، وصاحب الدولة رياض باشا، وواحد أرمني هو نوبار باشا صاحب الترجمة، وقد اشتهر الأرمن بالإقدام وعلو الهمة والذكاء والثبات، وقضت عليهم بيئتهم بالاغتراب، وتجشم الأسفار التماسا للرزق بعرق الجبين والصبر والمواظبة، فلم يعدموا حيثما حلوا نصيبا حسنا من ثمار أتعابهم، فنبغ بينهم رجال اشتهروا بالسياسة، وآخرون بالثروة، ومنهم في الآستانة جماعة كبيرة من أهل اليسار، وجاء بعضهم مصر على عهد المغفور له محمد علي باشا، فتولوا أعظم المناصب الإدارية وخدموا الحكومة المصرية خدمات تستحق الاعتبار، أشهرهم بوغوص بك، وأرتين بك، ونوبار باشا.
ولد نوبار باشا في أزمير من أعمال آسيا الصغرى سنة 1825، وتلقى العلم في مدارس سويسرا ثم فرنسا، فخرج من المدرسة وهو في السابعة عشرة من عمره، ونفسه تتطلب المعالي، فقدم الديار المصرية سنة 1841، وقد حبب إليه الإقامة فيها بوغوص بك وكان ناظرا للتجارة والأمور الخارجية فيها على عهد المغفور له محمد علي باشا، وكان من ذوي قرابته فقدمه إلى محمد علي فعينه سكرتيرا للأمور الأجنبية، ثم صار سنة 1844 سكرتيرا ثانيا، ومترجما في مجلس محمد علي، ولم يمض قليل حتى ظهرت نجابته، وعرف قدره فارتقى إلى رتبة سكرتير أول ومترجم للمغفور له إبراهيم باشا، ولما شخص هذا القائد العظيم إلى أوروبا لتبديل الهواء سنة 1845 سار نوبار في معيته، وشهد ما لاقاه إبراهيم هناك من الحفاوة والإكرام.
وفي سنة 1848 توفي محمد علي وإبراهيم، وارتقى عباس باشا الأول إلى منصة الأحكام، فأدخل نوبار في خدمته كما كان عند عمه إبراهيم، ورقاه إلى الرتبة الثانية مع لقب بك، وحدث خلاف يتعلق بحقوق ورثة الأريكة المصرية فأنفذه عباس باشا إلى لندرة سنة 1850 لإثبات تلك الحقوق، فعاد منها ظافرا، فعرف عباس باشا له ذلك، فلم يصبر على مكافأته فسماه وزيرا وهو في فينا، وما زال في هذا المنصب حتى توفي هذا الوالي سنة 1854 وتولى عمه سعيد، فأسرع هذا إلى خلعه، ولم تمض سنتان حتى استقدمه وعهد إليه إنشاء مصلحة تتولى شئون البضائع الصادرة إلى الهند، فقام بتلك المهمة قياما دل على ذكائه وحكمته.
فلما تولى إسماعيل باشا الخديوي الأسبق سنة 1863 انتدبه للمسير إلى الآستانة لهذا الشأن، وللمفاوضة بأمور أخرى هامة، فلما عاد أنعم عليه إسماعيل باشا بالرتبة المتمايزة، وبعد قليل نال رتبة اللواء من السلطان عبد العزيز أثناء مروره بالإسكندرية في سياحته إلى أوروبا، ولم يزدد إسماعيل باشا إلا ثقة في نوبار واعتمادا عليه، فلما نشأت مشكلة قنال السويس بين الحكومة المصرية وشركة القنال سنة 1864 عهد إليه السعي في حلها فسوى ذلك على أسلوب رضي به الفريقان، فعينه إسماعيل باشا عند عودته ناظرا للأشغال العمومية. وفي سنة 1866 وكل إليه وزارة الخارجية.
وفي السنة التالية دارت المخابرات بين الباب العالي وإسماعيل باشا بشأن وراثة الحكم، وكانت لا تزال في أكبر أعضاء العائلة وإسماعيل يريد حصرها في نسله، فأنفذ نوبار باشا إلى الآستانة لتسوية ذلك، فعاد إليه بالفرمان القاضي بترقيته إلى رتبة الخديوية مع توسيع دائرة استقلاله، وحصر الحكومة في نسله.
وفي تلك السنة شخص نوبار باشا إلى أوروبا مندوبا مفوضا من إسماعيل باشا لمخابرة الدول العظمى في إنشاء محاكم مختلطة تقوم مقام المحاكم القنصلية التي كانت مرجع محاكمة الأجانب في ذلك الحين فقضى في سعيه هذا سبع سنوات يتردد في أثنائها بين ممالك أوروبا، ويفاوض عظماءهما وملوكها والخزينة المصرية مفتوحة بين يديه، فأنفق أموالا طائلة، ولكنه عاد مظفرا غانما، وكان قد عهد إليه سنة 1867 أيضا النيابة عن الحكومة المصرية في مؤتمر النقود في باريس فحضره.
ولما قضى مهمته في إنشاء المحاكم المختلطة عام 1874 اعتزل الأعمال مدة ثم عاد إليها.
وأصاب مصر في أثناء ذلك أزمة مالية مما تراكم عليها من الديون لما أتاه إسماعيل من النفقات في سبيل عمارة القاهرة وغيرها كما هو مشهور، حتى أفضى الأمر إلى مراقبة الدول والسعي في غل يديه وضبط الميزانية والاقتصاد فيها، ورأت الدول أن تقيد حكومته بالشورى، فاقترحت عليه تشكيل مجلس النظار على ما هو عليه الآن، فلم ير إسماعيل خيرا من نوبار لتشكيل ذلك المجلس، فاستقدمه إليه وكلفه بذلك سنة 1878، فألفه وجعل في جملة أعضائه عضوين أجنبيين: أحدهما إنكليزي، وهو المستر ولسن، والآخر فرنساوي، وهو المسيو دي بليفير يراقبان سير الأعمال بالنيابة عن إنكلترا وفرنسا، ولكن ذلك لم يكن ليرضي إسماعيل باشا، فلم تمض على تلك الوزارة الشورية سبعة أشهر حتى حلها إسماعيل فحدثت ثورة عسكرية نسبها إلى الوزيرين الأجنبيين، وحمل نوبار على خلعهما ليلقي تبعة الأمر عليه، فاستعفى نوبار، وكان ما كان على أثر ذلك من تداخل الدول في خلع الخديوي، فصدر الأمر الشاهاني في 26 يونيو سنة 1879 بخلع إسماعيل باشا وتولية نجله المغفور له توفيق باشا الخديوي السابق، وسافر نوبار باشا من مصر، على أنه كان يتردد إليها حينا بعد آخر، فحدثت الثورة العرابية وعقبتها الحوادث السودانية، فظهر المهدي وفتح كردوفان، ونوبار باشا معتزل الأعمال مشتغل بأحواله الشخصية، ثم استفحل أمر المهدي وأشارت إنكلترا إلى الحكومة المصرية سنة 1884 بإخلاء السودان والتخلي عنه للدراويش، وكانت الوزارة المصرية إذ ذاك برئاسة المرحوم الطيب الذكر شريف باشا، فلم يوافق إنكلترا على مشورتها فألحت عليه ففضل الاستقالة على ركوب ذلك الخطأ، فاستقدم الخديوي نوبار باشا وعهد إليه بتشكيل وزارة جديدة فشكلها وتولى هو أيضا نظارة الخارجية، ووافق إنكلترا على إخلاء السودان، وما زال في ذلك المنصب إلى 7 يونيو سنة 1888 فاستقال منه، وانقطع إلى خصوصياته حتى أصابه المرض الأخير فسافر إلى أوروبا للاستفتاء، فأدركه القدر المحتوم هناك، فنقلت جثته إلى مصر، ودفنت فيها بما لاق بمقامه من الإكرام والوقار.
فترى مما تقدم أن صاحب الترجمة خدم الحكومة المصرية خدمات ذات بال، فعاصر كل ولاتها من محمد علي باشا إلى الخديوي الحالي عباس باشا الثاني، وهو يعمل بنشاط وحكمة، فلم يقم فيها مشروع عظيم إلا كانت له فيه باع طولى، وقد نال من رتب الدولة العلية إلى رتبة المشيرية، وحاز نياشين شتى منها: نيشان أوفيسيه دي لجيون دونور من الحكومة الفرنساوية وغير ذلك.
وكان رحمه الله ذكيا حازما، حسن السياسة، لين العريكة، وقد أحرز ثروة طائلة، وهو يعد من أغنى سكان وادي النيل، وكان كريما غيورا على مصلحة أبناء جلدته، فنال الأرمن في أيام وزارته مساعدات كثيرة بذل لهم فيها المال الكثير.
الفصل الثاني والثلاثون
جواد باشا
شكل 32-1: جواد باشا (ولد سنة 1267ه وتوفي سنة 1318ه).
هو نجل المرحوم مصطفى عاصم بك من أعضاء دار الشورى العسكرية المعروف بقبا أغاجلي، وأصله من بلدة قرا حصار، ولد صاحب الترجمة في دمشق الشام سنة 1265 (رومية) الموافق 1267 للهجرة، فسماه والده «أحمد جواد» ليدل جمله على سنة ولادته، وتلقى مبادئ العلم في مدارس بورصه وأتمه في الآستانة، ونال الشهادة العسكرية الرسمية، وأتقن اللغتين التركية والفرنساوية مع مبادئ اللسان العربي.
فخرج من المدرسة وفيه ميل شديد إلى خدمة العلم، فألف كتابين: أحدهما «المعلومات الكافية في الممالك العثمانية»، والآخر «تاريخ عسكري عثماني»، ثم أنشأ مجلة سماها «بادكار» أي «تذكار» أصدر منها 24 عددا فقط، وترجم رسالة في علم الهيئة إلى اللغة التركية سماها «سما» وأخرى في تطبيق الصناعة على الكيمياء وأخرى في المباحث الرياضية الدقيقة، وشرع في تأليف تاريخ مطول للدولة العثمانية، لكنه مات قبل إتمامه.
فترى مما تقدم أن الفقيد فطر على حب العلم، فجعل الاشتغال فيه باكورة أعماله، ولكن الأحوال قضت عليه بعد ذلك بالتحول إلى السياسة والإدارة، فانتظم في خدمة الحضرة الشاهانية وارتقى فيها حتى صار من القرناء برتبة بكباشي سنة 1289ه، ثم عين أستاذا للرياضيات في المكتب الهندسي الملكي، ثم مأمورا في الفيلق الخامس في دمشق الشام مسقط رأسه، ويذكرون من مآثره في تلك الخدمة أنه بنى ثكنة عسكرية في جبل الدروز، فكوفئ بزيادة راتبه، وما زال في ذلك الفيلق حتى انتشبت الحرب في السرب فنقل إلى جند الطونة رئيسا لأركان حرب عزيز باشا، وهناك ارتقى إلى رتبة قائمقام سنة 1293ه، ثم صار رئيسا لأركان حرب نجيب باشا، ثم ارتقى إلى رتبة أميرالاي، وتنقل في عدة قومندانيات تولى رئاسة أركان حربها في تلك الأثناء، وشهد مواقع ستان كوي وفانساوي، وعين بعد عقد الصلح مندوبا ثانيا لتحديد تخوم السرب بمكافأة شهرية مقدارها 2500 غرش فوق راتبه الأصلي ثم صار مندوبا أول، ولما انتهت مهمة الحدود أنعم عليه ملك السرب بنيشان طاقوا من الدرجة الثالثة.
شكل 32-2: مختار باشا الغازي.
ولما توجه المشير مختار باشا الغازي لتحديد تخوم اليونان صحبه جواد باشا، ثم تعين على تخوم الروس من جهة الأناضول، وانتهى أخيرا إلى تخوم بايزيد، وأحسنت عليه الدولة العلية إذ ذاك بالنيشان العثماني الثالث، وأهداه القيصر نيشان القديسة حنة من الدرجة الثانية.
وما زال يرتقي من منصب إلى آخر في الآستانة وفي الجبل الأسود وتتوالى عليه الأنعام والنياشين والرتب حتى صار سنة 1306ه فريقا، وكان عضوا في لجنة التفتيش العسكري فانتقل إلى رئاسة أركان حرب جزيرة كريد، ثم صار وكيلا لها، ثم تعين واليا على كريد وأحسن إليه بالميدالية الذهبية، وفي سنة 1308ه ارتقى إلى رتبة المشيرية، وصار راتبه 32500 وفي السنة التالية وجه إليه مسند الصدارة العظمى، وأنعم عليه بالنيشان المرصع العثماني ولقب بياور أكرم، ثم أهدي إليه النيشان المجيدي المرصع وتقلد ميدالية اللياقة الذهبية فنيشان الافتخار المرصع فمدالية الصنائع النفيسة فنيشان الامتياز المرصع.
وتوالت عليه الوسامات من الدول الأجنبية غير ما تقدم، فنال من ملك السرب نيشان طاقوا من الدرجة الأولى، ومن حضرة البابا نيشان بي نوف الأول، ومن إمبراطور ألمانيا نيشان النسر الأحمر المرصع، ومن جمهورية فرنسا نيشان اللجيون دونور الأول، ومن شاه إيران نيشان شير خورشيد المرصع، ومن ملكة إسبانيا نيشان الصليب الأول، فضلا عن ميداليات الجمعيات العلمية وغيرها.
وفي أواخر سنة 1312 فصل من الصدارة العظمى، وتقلب في مناصب مختلفة في كريد وانتدب سنة 1314 لاستقبال إمبراطور ألمانيا أثناء زيارته فلسطين، وتعين على أثر ذلك مشيرا للفيلق الهمايوني الخامس بدمشق، وما زال في هذا المنصب حتى اعتل مزاجه فانتقل إلى الآستانة قضى فيها بضعة أيام ثم وافاه الأجل المحتوم.
الفصل الثالث والثلاثون
أحمد عرابي المصري
شكل 33-1: أحمد عرابي المصري (ولد سنة 1257ه ونفي سنة 1300ه وعاد من منفاه سنة 1319ه).
نشرنا ترجمة هذا الرجل مرارا في تاريخ مصر الحديث وفي الهلال، ثم كتب هو إلينا ترجمة حياته بخط يده فآثرنا نشرها دون سواها، ومن أراد زيادة التفصيل فليراجع الحوادث العرابية في كتابنا تاريخ مصر الحديث، وفي أهلة السنة الخامسة والسنة التاسعة، وأما ما يقوله أحمد عرابي عن نفسه فهو:
نشأتي الأولى:
ولدت في 7 صفر سنة 1257ه من أبوين شريفين من ذرية العارف بالله السيد صالح البلاسي البطائحي ومقامه الشريف بقرية فاقوس بمديرية الشرقية، وهو أول من قدم إلى بلاد مصر من بلاد البطائح بالعراق في أواسط القرن السابع للهجرة، وهو من ذرية الإمام علي الرضا ابن الإمام موسى الكاظم من سلالة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة الزهراء البتول بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، واسم والدي محمد عرابي ابن السيد محمد وفي ابن السيد محمد غنيم ابن السيد إبراهيم ابن السيد عبد الله إلى آخر السلسلة الشريفة، واسم والدتي فاطمة بنت السيد سليمان ابن السيد زيد، تجتمع مع والدي في جدي الثالث عشر المسمى إبراهيم مقلد رحمه الله تعالى، ومولدي كان بقرية هرية رزنة بمديرية الشرقية على ميلين من شرقي بندر الزقازيق، وهي بلدة قديمة جدا من ضواحي مدينة بوباسطة كرسي مملكة العائلة 22 من زمن شيشاق بن نمرود التي يقال لها الآن «تل بسطة». وعشيرتي فيها نحو ربع تعدادها، وكان والدي رحمه الله تعالى شيخا عليها إلى أن توفي في شهر شعبان سنة 1264ه في زمن الهواء الأصفر عن ثلاث نسوة وأربعة أولاد وست بنات. وكنت ثاني أولاده الذكور، وسني 8 سنوات، وترك لنا 74 فدانا ولو شاء لاستكثر من الأطيان الزراعية، ولكنه كان رحمه الله تعالى يراعي صالح أبناء عمومته؛ حيث إن أطيان القرية كغيرها كانت مكلفة بأسماء المشائخ يوزعونها بمعرفتهم على أهل بلادهم بحسب الاحتياج إلى عهد المغفور له عباس باشا الأول، وهو أول من كلف الأطيان بأسماء الأفراد وألزمهم بدفع خراجها، وما زاد عنهم يترك للميري ويسمونه المتروك، وكان والدي عليه سحائب الرحمة والرضوان عالما فاضلا تقيا نقيا، أقام بالجامع الأزهر 20 سنة تلقى فيها الفقه والحديث والتفسير، وبرع في كثير من العلوم النقلية والعقلية على كثير من المشائخ كشيخ الإسلام القويسني - رحمه الله تعالى - وغيره من العلماء الأطهار، ولما آلت إليه وظيفة الشياخة على عشيرته جدد عمارة المسجد المنسوب إلى عشيرته بالقرية المذكورة، وفيه أربعة أعمدة من الحجر الصوان القديم ومنبر من الخشب عجيب الصنعة، وأنشأ بجوار المسجد مكتبا لتعليم القرآن الشريف، وجعل له فقيها صالحا عالما يسمى الشيخ نجم من سلالة السيد العزازي، وألزم الأهالي بتعليم أولادهم، وكان رحمه الله يشدد عليهم في ذلك حتى صار نحو نصف تعداد الناحية المذكورة يحسنون القراءة والكتابة، وكل منهم يعرف واجباته الدينية، ومنهم نحو مائة وخمسين فقيها عالما، ومنهم المرحوم الشيخ محمد حسين الهراوي من علماء الجامع الأزهر، والشيخ العارف بالله إبراهيم المصيلحي، نفع الله به المسلمين، فلما بلغ سني 5 سنوات أرسلني والدي إلى المكتب المذكور، فأقمت فيه ثلاثة أعوام ختمت فيها القرآن الشريف وعمره إذ ذاك ثماني سنين، وبضعة شهور فلما توفي والدي كفلني أخي الأكبر المرحوم السيد محمد عرابي الذي توفي في 25 شعبان سنة 1318 رحمه الله تعالى، وأخذت عنه مبادئ علم الحساب وتحسين الخط مع ملاحظة بعض أشغال الزراعة، ثم بدا لي المجاورة في الأزهر حين بلغت اثني عشر عاما، فكنت أجود القرآن على أقاربي وأهل بلدي نهارا، وأتوجه إلى بيت عمتي ليلا، وتلقيت شيئا قليلا من الفقه والنحو، وبعد سنتين رجعت إلى بلدي.
سعيد باشا:
وكان المرحوم سعيد باشا عليه سحائب الرحمة والرضوان قد تولى الحكومة الخديوية في 15 شوال سنة 1270، وأمر بدخول أولاد مشائخ البلاد وأقاربهم في العسكرية، فدخلت من ضمنهم وانتظمت في سلك الأورطة السعيدية المصرية بقناطر فم البحر في شهر ربيع أول عام 1271، وجعلت فيها وكيل بلوك أمين من أول يوم صار انتظامي في سلك العسكرية بعد امتحاني بحضور إبراهيم بك أمير الآلاي وحسن أفندي الألفي حكيم الآلاي، ثم ترقيت إلى رتبة بلوك أمين في شهر رجب من السنة المذكورة بعد إعادة الامتحان مع الطالبين لذلك من غير واسطة أحد غير الجد والاجتهاد، وبعد عام نظرت فرأيت بعض الباشجاوشية المصريين ترقى إلى رتبة الملازم الثاني، وعلمت أن البلوك أمين لا يرتقي إلا إلى رتبة الصول قول أغاسي وفيها يفنى عمره، فجزعت من ذلك وذهبت إلى أمير الآلاي وطلبت منه ترتيبي في رتبة جاويش في أورطة كانت أفرزت لإرسالها إلى مدينة المنصورة، فسألني الأميرالاي المذكور عن سبب ذلك؛ حيث إن راتب الجاويش أقل 10 غروش من راتب البلوك أمين وإن كانت الرتبتان متساويتين، فأفصحت له عما خالج فكري وأني إذا صرت جاويشا سهل علي الحصول على رتبة الباشجاويش ثم الانتقال إلى رتبة ضابط، فعجب لذلك الخاطر وأمر في الحال بجعلي جاويشا، فمكثت في هذه الرتبة سنتين، وفي تلك المدة حبب إلي الاعتزال عن الناس والاشتغال بدراسة قوانين العسكرية مع التدبير في معانيها حتى أتقنت قانون الداخلية، وقوانين تعليم النفر والبلوك والأورطة وبعض فصول من تعليم الآلاي، وفي أوائل عام 1274 أمر سعادة راتب باشا بجمع الصف ضباط فاجتمعنا حوله في فسحة قصر النيل وبلغنا إرادة المرحوم سعيد باشا وقال: إن أفندينا بلغه أنكم تقولون فيما بينكم كيف يصير ترقي الصف ضباط الجدد، وتأخير من هو أقدم منهم في الرتب، وأنه أمر أن لا يترقى أحد بعد الآن إلا بعد الامتحان علما وعملا ، فمن فاق أقرانه في الامتحان ترقى إلى الرتبة التي يستحقها ولو لم يلبث في رتبته الأولى غير شهر واحد، فمن أراد منكم الامتحان فليتقدم إلى الأمام. فعند ذلك تقدمت أمام سعادته، وأحجم الآخرون خوفا وهلعا ظنا منهم أنه يريد معاقبة من يتظاهر بذلك، ولما كرر عليهم الطلب خرج آخر وآخر حتى بلغ عدد الراغبين في الامتحان نحو 30 شخصا، فصار امتحانهم بحضوره تحت رئاسة المرحوم إسماعيل باشا الفريق، فكنت أول فائز في الامتحان، ثم صار جميع الضباط والصف ضباط بمعرفة سعادة راتب باشا الذي كان وقتئذ أميرالاي، وصار طلبي أمام الجميع، ووضع في صدري نيشان الباشجاويش وأعلن ترقيتي إلى هذه الرتبة، وبعد عام؛ أي في أول عام 1275 صار امتحان الباشجاويشة بحضور سعادة راتب باشا أيضا والمرحوم إسماعيل سليم باشا الفريق، فكنت الفائز الأول وترقيت إلى رتبة الملازم ثاني التي كنت أدأب في الحصول عليها منذ البدء ، ثم بعد سبعة أشهر صار امتحان الضباط في القصر العالي فكنت أول فائز فيه، وكتب اسمي في أول جدول الامتحان، ولما عرض الجدول على ساكن الجنان سعيد باشا أمر بإعادة امتحاني وانتدب لذلك المرحوم سليمان باشا الفرنساوي رئيس رجال العسكرية، فطلبت ثانيا إلى الامتحان، وكان يوما مشهودا، وبعد الامتحان التمس سليمان باشا المشار إليه خروج الخديوي المرحوم إلى ميدان الإمام الشافعي رضي الله عنه، وهناك يصير امتحاني في الميدان بأورطة من العساكر بحضرته الخديوية، فسأله الخديوي عما يقصده بذلك، فقال: إنه مستحق لرتبة الميرالاي؛ لأن الذين ترقوا إلى هذه الرتبة من المدارس الحربية لم يقروا في أجوبتهم مثله، فقال الخديوي - رحمه الله تعالى - لا يمكن ذلك، فقال له: يحسن إليه على الأقل برتبة بكباشي، فأبى عليه ذلك، وقال: يلزم أنه يتدرج في كل رتبة ليعرف واجباتها، وأحسن إلي برتبة ملازم أول، وأمر باعتبار جدول هذا الامتحان وأن يكون الترقي على مقتضاه بدون تجديد امتحان لمدة مجهولة، وقبل مضي شهرين أحسن علي برتبة يوزباشي، والتحقت بمعيته، وفي أوائل سنة 1276 ترقيت إلى رتبة صاغقول أغاسي في بني سويف.
وبعد العودة إلى مصر صار ختان المرحوم الطيب الذكر طوسن باشا النجل الوحيد للمرحوم سعيد باشا، فأولم المرحوم الخديوي وليمة شائقة، دعا إليها جميع أعضاء العائلة الخديوية في قبة عظيمة حضرها جميع الضباط والذوات وغيرهم من الأجانب، وبعد الطعام انتصب الخديوي رحمه الله تعالى قائما، وقال خطبة ارتجالية ذكر فيها: «أن من أمعن النظر في تاريخ بلادنا هذه وتوالي حوادثها المحزنة لا يسعه غير الأسف والتعجب، كيف توالت الأمم الأجنبية على أهلها، وهم يظلمون سكانها، كالكلدانيين والفرس قبل الإسلام والترك والأكراد والشركس وغيرهم بعد الإسلام، وكلهم يفسدون ولا يصلحون، وإني عزمت على تثقيف أبناء البلاد وتهذيبهم وترقيتهم حتى تكون حكومة البلاد بأيديهم بصفة كوني مصريا منهم، وبالله الاستعانة.» فوقع هذا الخطاب على من حضر من غير المصريين وقوع الصواعق، وتهللت وجوه المصريين وشكروا ودعوا، وانقضت الحفلة، ثم في أواخر سنة 1276 ترقيت إلى رتبة بكباشي ، وفي أوائل عام 1277 أحسن إلي برتبة القائمقام الرفيعة كما أحسن بها إلى السيد محمد باشا النادي وعلى المرحوم راشد باشا راقب الذي استشهد بحرب الحبشة في عام 1293 وعلى المرحوم عثمان باشا رفقي الذي صار ناظرا للجهادية قبل الثورة الوطنية، فكنا أربعة قائمقامات: اثنين مصريين واثنين شركسيين، وكل منا استلم قيادة آلاي بيادة، وفي السنة المذكورة سافرت بمعية المرحوم سعيد باشا إلى المدينة المنورة - على ساكنها أفضل الصلاة وأتم السلام - برتبة القائمقام كما ذكرتم ذلك في كتابكم «تاريخ مصر الحديث».
وفي عام 1278 رأى سعيد باشا أن الحكومة سقطت في دين يبلغ مقداره 6 ملايين جنيه مصري، وذلك يساوي إيراد الحكومة في ذاك الوقت سنة كاملة تقريبا، وكان ذلك المبلغ ثمن أسلحة ومهمات حربية وملبوسات وذخائر عسكرية موصى عليها في معامل أوروبا، وردت بعد وفاته رحمه الله تعالى، فأمر برفت جميع الآلايات وأبقى أورطة واحدة كان فيها يوزباشي سعادة مصطفى فهمي باشا رئيس النظار الآن وعلي فهمي باشا الذي نفي معنا إلى سيلان، وأمر باستيداع الضباط بالمحافظات والمديريات على حسب رغبتهم، ومن له بلد يتوجه إلى بلده ويصرف لهم نصف مرتباتهم في مدة استيداعهم، وأمر أن تضاف مرتباتهم على الأطيان مؤقتا ريثما يتم تسديد الدين. فخص الفدان الواحد 50 فضة؛ أي غرش واحد وربع، وقد حصل ذلك فعلا، ثم صار بيع الخيول ومأكولات العساكر ومفروشاتها وكانت من البوسطى وغيرها، وكذا الفضيات الموجودة في خزائن الأمتعة والمسافرخنات وكذا الفوريقات الموجودة في جميع القطر المصري، والأطيان المتروكة في كل المديريات، كل ذلك رجاء تسديد الدين.
وفي أوائل عام 1279 سافر المرحوم سعيد باشا إلى أوروبا لمعالجة نفسه من داء السرطان، وكان بمعيته المرحوم محمد علي باشا الحكيم المصري الذي استشهد في حرب الحبشة عام 1293، فصدر أمره الكريم إلى قائمقام خديوي فخامة إسماعيل باشا الخديو الأسبق بطلب جميع الضباط المصريين من بلادهم، وإقامتهم في قصر النيل ومداومتهم على التدريس في القوانين العسكرية، يقول فيه: «إن الضباط الوطنيين المترقين من تحت السلاح قد اشتغلوا بملازمة نسائهم وتركوا دروسهم، ولو تركناهم على هذا الحال الذي لا يئول عليهم منه إلا بالوبال لفقدوا العافية والنظر، وصاروا عبرة لمن يعتبر، وبما أننا نحن الذين ربيناهم ورقيناهم وأظهرناهم فلا يصح لنا تركهم في هذا الحال الذي ذكرناه، فقد اقتضت إرادتنا جمعهم من بلادهم وعدم تمكنهم من نسائهم حتى ولا بالنظر إليهن بالعين، والتشديد عليهم بمداومة التدريس ليلا ونهارا في قصر النيل.» وبناء على هذه الإرادة صار اجتماعنا في قصر النيل، وفي ربيع الأول انتدبت لفرز الصف ضباط في الوجه القبلي، وتعين معي حكيما للفرز المرحوم سالم باشا سالم الحكيم، وكان برتبة قائمقام أيضا.
وفي 27 رجب من تلك السنة توفي المرحوم سعيد باشا، ودفن في الإسكندرية بالمدفن المجاور لمسجد النبي دانيال - عليه السلام - بعد عودته من أوروبا، وجلس على الأريكة الخديوية ابن أخيه إسماعيل باشا الخديو الأسبق وصار ترتيب الآلايات، فكان ترتيبي قائمقام 6 جي آلاي بيادة، وأما سعادة نادي باشا فتعين على آلاي جميع ضباطه من المصريين المترقين من زمن سعيد باشا، وأرسل إلى السودان. وحاصل الأمر أني دخلت العسكرية نفرا بسيطا في أوائل سنة 1271 وبلغت رتبة القائمقام في أواخر عام 1277 بجدي واجتهادي وسهر الليل والنهار على حد قول القائل: «ومن طلب العلى سهر الليالي»، ونجح كثير من تلامذتي نجاحا تاما حتى كانوا في مقدمة جميع الضابطان في الامتحانات العمومية، وكان السبب في هذا الاجتهاد الغريب الذي فاقوا به المتخرجين من المدارس الحربية وكان أغلبهم أميين، رغبة المرحوم سعيد باشا في تقدم أبناء الوطن ومساواتهم لغيرهم كما ذكر، ومحبته لهم وانعطافه إليهم، ومعاملته للجميع بالعدل والمساواة مع تفقد أحوالهم ومراعاة سيرهم، وحسن سلوكهم كأنهم أولاده، وكفى بالأمر الصادر منه وهو في بلاد أوروبا في حقهم المذكور آنفا برهانا صادقا على حسن معاملته للوطنيين، كأنه كان وصية منه عليهم لمن يخلفه، وهذا هو الذي أوغل علينا صدور إخواننا من الترك والشركس وغيرهم، ولقد قال لي مرة رحمه الله تعالى وأنا برتبة قائمقام: «إن جميع الناس عادوني حتى أهلي رجالا ونساء بسبب مساواتكم بغيركم، فحققوا أملي فيكم.» فأجبته: ولكن الله سبحانه وتعالى يرضى عنك، والأمة المصرية ترضى عنك بمراعاتك للحق والإنصاف. هذا وبسبب عدله وقناعته أثرت البلاد في زمنه وأخصبت الأرض، وانتعشت الأمة حتى صار الرجل المزارع بعمل يده يحصل له فوق 20 جنيها في السنة، وهذا ما حفظ مصر من الإفلاس في مدة خلفه الذي بلغ دين الحكومة في زمنه مائة ألف ألف وألف ألف جنيه كما هو مدون في بطون الدفاتر.
شكل 33-2: أحمد عرابي وابنه في حديقته في سيلان.
نشأتي الثانية:
ولما تولى الخديوية المرحوم إسماعيل باشا وأمر بإنشاء 6 آلايات بيادة كنت قائمقام في الآلاي السادس، وكان المرحوم خسرو باشا أميرالاي على الآلاي الثاني ثم ترقى إلى رتبة لوا باشا، وكان رحمه الله متعصبا لأبناء جنسه تعصبا أعمى، وترتب قومندانا على الآلاي 5 و6، ولما وجدني وطنيا قحا عظم عليه وجودي في الآلاي، وسعى في رفتي من الآلالي لأجل إخلاء محل لترقية أحد أبناء المماليك مصطفى أفندي سليم ابن سليم بك المشهور بالحجازي، ولأجل هذه الغاية صار يترقب الفرص للإيقاع بي إلى أن صدر أمر الجهادية بامتحان الضباط لأجل استكمال النقصان. وبعد أن صار الامتحان، وتحررت العرايض للمستحقين، وختم عليها من أرباب الامتحان، وكنت من أعضاء مجلس الامتحان تحت رئاسة الباشا المذكور، أرسل لي عريضة أحد الملازمين اسمه سيد أحمد أفندي، وطلب أخذ اسمي من عريضته والختم على عريضة ضابط آخر من أورطة مصطفى أفندي سليم البكباشي؛ لكونه دائما يباشر خدمة منزل البكباشي المذكور، فشق علي هذا الأمر وتوجهت إلى منزل اللواء باشا، وأخبرته أن يعفيني من الختم على عريضة من لا يستحق، فقال: لا بد من الختم لأجل خاطر البكباشي المذكور، فقلت: إن هذا ظلم لا أفعله، وإذا كنت تراعي خاطر البكباشي في الظلم، فأولى لك أن تراعي خاطر رئيسه في العدل، وذكرته بعاقبة هذا الأمر إذا تشكى المظلوم إلى ديوان الجهادية وطلب امتحانه مع الآخر كما حصل مثل ذلك في زمن المرحوم سعيد باشا، وصار عزل جميع أعضاء مجلس الامتحان مع رئيسهم بسبب ظلم نفر مستحق رتبة أونباشي، وهي أدنى رتب الصف ضباط، ثم ذكرته بعاقبة الظلم غدا بين يدي العزيز الجبار، فحنق لذلك حنقا شديدا، وذهب إلى ناظر الجهادية المرحوم إسماعيل باشا سليم، وأخبره أني لا أطيع له أمرا ولا أعبأ بأوامر ديوان الجهادية، وناظر الجهادية عرض للخديو الأسبق بذلك ثم صدر الأمر برفتي من الجهادية بالقول أني قوي الرأس شرس الأخلاق (وما بي والله من شراسة، ولكن جبلني الله سبحانه على حب العدل والإنصاف وكره الظلم والاعتساف)، فترتب على ذلك رفتي من الخدمة وحرماني من المائتي فدان التي صدر أمر الخديوي بالإحسان بها على كل من القائمقامات الجهادية عقيب مناورة عسكرية حضرها الخديوي، وكنت من ضمن من حضرها، وكان أصدر إرادة سنية للمديريات بوجه بحري بتسليم تلك الأطيان إلى المنعم بها عليهم، فصدرت إرادة سنية ثانية بتوقيف التنسليم فيما يخصني وقد حصل، ولكن الله ليس بغافل عما يعمل الظالمون، فانتقم بعدله ممن ظلم من غير إمهال، وذلك أنه صدر أمر الخديوي في الأسبوع الذي رفت فيه بإلغاء الآلاي 5 و6 أي اللواء الثالث، وأرسل خسرو باشا إلى السودان، وأصيب حسين باشا الطوبجي بالفالج، ومحمد بك أمين القبرصلي بالفالج أيضا حتى ماتا، وأمين بك رئيس قلم تركي بديوان الجهادية انتحر بعد تكبيله في الحديد، وإرساله إلى السودان، وهكذا كل من اشترك في هذه المظلمة أصيب بقارعة عظيمة. وأما مصطفى سليم المذكور فقد رفت أيضا، وأقام في بيته مرفوتا نحو عشر سنين حتى أذله الله، وأما إسماعيل سليم باشا ناظر الجهادية فإنه مات في حرب كريد، ولكن ليس شهيدا بل مات بسبب أكله من فريك القمح، فانعقدت أمعاؤه وقضى نحبه وجيء بجثته إلى مصر، ودفن فيها سامحه الله تعالى، وفي شهر ربيع أول عام 1283 عرضت للخديو بواقعة الحال، والتمست إنصافه فصدر أمره في 16 رمضان عام 1283 نمرة 16 وهاك صورته:
ديوان جهادية ناظري سعادتلو باشا حضرتلري.
6 جي بيادة سابق قائمقامي أحمد عرابي بكك إشبو عرضحال منظورم أولدى خطاسني عفو إيتمش أولد يغمدن حله مناسب خدمه ظهورنده استخدام إيتدير لمسى حقنده إيجابتي إجراء إيلمكز إيجون أشبو أمرم إصدار قلتدئ.
وحيث إن ناظر الجهادية المذكور كان مساعدا لخسرو باشا كرهت الخدمة في العسكرية، وطلبت إحالتي على ديوان المالية، وفي التاريخ المذكور صار تعييني محافظا على بحر مويس وجزء من البحر الأعظم بمديرية الشرقية زمن فيضان النيل بمعرفة المرحوم الشهيد المخنوق في خرائب دنقلة إسماعيل باشا صديق، وبعد انقضاء زمن النيل من غير أن يحدث أدنى ضرر في مديرية الشرقية كما حصل من الغرق بقطع نادر وقطع بطرة وغيرها ترتبت مأمورا لتشهيل بناء قناطر فم الإسماعيلية بقصر النيل وتشهيل قطع الأحجار في معامل طرة، والدقيقة بالعباسية والجبل الأحمر بالبساتين، وشحنها بالمراكب إلى القناطر المذكورة وإلى سد فم الرياح في شبرا وإلى القناطر الخيرية وإلى جميع مديريات الوجه البحري، وتشهيل مراكب النقل وتفريغها بقناطر الإسماعيلية وسد الرياح في شبرا، وكان عملا شاقا جدا من غير مراعاة الحكومة لأسباب التسهيل، فكنت أتنقل في كل يوم إلى المحلات المذكورة على ظهر فرسي أو حماري حتى جاء سنة 1285 فانتدبت لتشهيل بناء كبري قشيشة العظيم بمديرية بني سويف، وكبري الرقة بمديرية الجيزة ، وكبري أبو راضي على سكة حديد الفيوم، وبعد تمام تلك الأشغال كوفئ غيري بخمسة آلاف جنيه مصري لكوني وفرت عن طلب المقاولين من الأجانب 25000 جنيه مصري، ثم أحيل إلى عهدتي تمديد سكة الحديد من محطة المنيا إلى محطة مللوي، وبعد نهوها تصادف جعل المرحوم قاسم باشا فتحي ناظر الجهادية، وكان يعرف قدر أعمالي واقتداري، فطلبني وكلفني الانتظام في سلك العسكرية ثانية، فأجبته إلى ذلك وترتبت قائمقام في 3 جي آلاي بيادة في أوائل سنة 1287 وفي سنة 1288 انتقلت إلى رئاسة 2 جي آلاي بيادة، ولكن برتبة القائمقام، وفي أواخر سنة 1290 توجهت بالآلاي المذكور برا إلى رشيد للإقامة فيها وفي 24 شعبان سنة 1292 انتدبت إلى ترتيب عساكر محافظين للقلاع الحجازية من أهالي تلك الجهات، وإرسال العساكر النظامية المصرية إلى مصر، فتوجهت إليها وحيدا فريدا على مصاريف نفسي من أول يوم من شهر رمضان حتى وصلت إلى قلعة نخل ، ورتبت لها العساكر اللازمة للمحافظة عليها، وجعلت فيها مكتبا لتعليم أبنائهم القراءة والكتابة، ثم ذهبت إلى قلاع العقبة والمويلح والوجه، وأجريت فيها كما أجريت في قلعة نخل، وأرسلت العساكر النظامية إلى مصر، ثم عدت قافلا بحرا إلى بندر القصير ثم برا إلى قنا وبحرا إلى أسيوط وبرا إلى مصر، ولما عرضت انتهاء مهمتي على ناظر الجهادية فخامة صاحب الدولة حسين باشا كامل، قال لي: إني لاعتمادي عليك ووثوقي بك قد عينتك مأمورا للحملة الحبشية فاستعد لذلك بعد عشرة أيام، فانتخبت من أعتمد عليهم من الضباط والكتبة، وسافرنا جميعا إلى مصوع، وبعد انتهاء تلك الحرب المشئومة عدت إلى مصر، فأمرني دولة المشار إليه أن أعود إلى السويس لتشهيل المحضرين من مصوع وزيلع، وإرسال الذخائر اللازمة لتلك الجهات بدل المرحوم علي غالب باشا، حيث إنه تعين مديرا لمديرية الدقهلية فذهبت إليها، وبعد انتهاء تلك المأمورية أيضا عدت إلى الآلاي الذي بعهدتي برشيد، وفي أوائل سنة 1296 صدر لنا الأمر بحضور الآلايات الموجودة برشيد إلى مدينة القاهرة، وتسليم الأسلحة والمهمات وإرسال العساكر إلى بلادهم فحضرنا، وكنا ثلاثة آلايات وسلمنا المهمات في يوم وصولنا، وفي اليوم الثاني صباحا ذهبت إلى منزل سعادة محمد نادي باشا، وكان أميرالاي أحد الآلايات المحضرة من رشيد حينذاك، فما نشعر إلا وأحد الضباط اسمه أحمد أفندي نجم حضر، وأخبرنا أن تلامذة الحربية وبعض الضباط أحاطوا بالمالية، فجاءت العساكر من 1 جي آلاي وضربت عليهم بالسلاح، فاندهشنا لهذا الخبر المريع، وأرسلنا غيره من الضباط ليستكشف الأمر ويأتينا بالحقيقة، فذهب وعاد وأخبرنا بما صار، وبعد يومين صار طلبي وطلب نادي باشا بطرف سر تشريفاتي خديو سعادة عبد القادر باشا حلمي، فذهبنا إليه في بيته فأخبرنا: «أن الخديوي بلغه أنكما وعلي بك الروبي قد أغريتم التلامذة والضباط على حصر المالية، وأنه سيجري تحقيق ذلك، فإن ثبت هذا عليكم صارت مجازاتكم بأشد الجزاء.» وصار يهددنا تارة ويوعدنا بالسلامة تارة أخرى، فأجبناه بقولنا: «يا سبحان الله! إننا حضرنا أمس من رشيد، وكنا مشغولين بتسليم الأسلحة والمهمات بمخازن العسكرية وصرف العساكر إلى بلادهم، فكيف يتصور أننا نغري تلامذة الحربية والضباط ونحن لسنا موجودين بالقاهرة، ولا كان أحد من ضباط عساكرنا موجودا في هذه الحركة أصلا، على أن هذا العمل الخارج عن حد التعقل يلزم تدبيره وترتيبه من قبل إجراءاته بمدة!» فضحك؛ لأنه يعلم أن تلك الحركة كانت بإيعاز الخديو نفسه وعمل جاهين باشا جنج؛ لأجل التخلص من نظارة ويلسن المختلطة، وأيضا صار طلب المرحوم علي بك الروبي بطرف مأمور الضبطية محمود سامي باشا البارودي، وبلغه تلك التهديدات بعينها والافتراءات الظاهرة فتنصل منها، وبعد ذلك صار تشكيل مجلس عسكري فوق العادة تحت رئاسة رئيس أركان الحرب أسطون باشا الأمريكي، وعضوية سعادة أفلاطون باشا، والمرحوم مرعشلي باشا، وجميعهم يعرفون الحقيقة كما يعرفون آباءهم، ولكن المسألة خرجت عن مركزها المعين، ثم بعد ذلك صار طلب الضباط والمتهمين من رتبة بكباشي فما فوقها بسراي عابدين، وقام الخديوي يطيب خواطرنا ويوعدنا بخير ولكن ...
أمور يضحك السفهاء منها
ويبكي من عواقبها اللبيب
هكذا قلت لسعادة محمد باشا النادي، والمرحوم علي باشا الروبي المتهمين معي في مسألة الإحاطة بديوان المالية، وفي ذلك الاجتماع صار جعلنا نحن الثلاثة من ضمن الياوران الذين بمعيته - عجبا وألف عجب - لكن بعد أسبوع انخلع علي الروبي من العسكرية، وتعين رئيسا لمجلس المنصورة، وأبعد نادي باشا بآلايه الجديد إلى الإسكندرية، ثم صار طلبي إلى ديوان المالية فذهبت إلى ناظرها المرحوم راغب باشا، فأخبروني أن أهالي جرجا وأسيوط ومديريات الوجه القبلي قد انتخبوني أمينا من طرفهم في تسليم 700 ألف إردب قمح وشعير وفول إلى بنك قطاوي، وبيجة وأجيون بإسكندرية لسداد ما عليهم من الديون، والله أعلم أن الأمر غير ذلك، وأنا أعلم أيضا ... ومع ذلك توجهت إلى الإسكندرية وأديت تلك المأمورية التي حقيقتها سلفة نصف مليون تنتوا أخذتها الحكومة لتسديد بعض الأقساط من أرباح الدين المصري. وفي 7 رجب سنة 1296 صار خلع المرحوم إسماعيل باشا وتولية المرحوم توفيق باشا، وشاهدت الاحتفال بتوديع الخديوي المخلوع بحق حين إنزاله في السفينة من أسكلة سكة الحديد منفيا إلى بلاد إيطاليا، كما أنزل منها عمه حليم باشا منفيا إلى القسطنطينية، فانظر إلى آثار قدرة الله تعالى، واعلم أنه يكال لك بالكيل الذي تكيل به، وعلى هذا انتهت مدة ولاية إسماعيل باشا كما علمت ولم أنل منه رتبة ولا نيشانا ولا اختصني بجارية من جواريه، ولا أصبت منه خيرا قط، ولا أقسمت على الدفاع عنه كما ذكرتم، ولا خدمت بمعيته أصلا، ولا انتهرني أبدا، ولا صحت حول سرايه، ولا قال عني ما ذكرت أن صوتي أكثر قعقعة أو قرقعة من الطبل وأقل نفعا منه، وقد تحملت مدة ولايته بكل صبر وثبات جأش على تحمل الظلم والاستبداد بل الاستعباد، ومكثت برتبة القائمقام 19 سنة وأنا أنظر إلى اليوزباشية والملازمين الذين كانوا تحت إدارتي، وقد صار بعضهم أميرالاي، وبعضهم أمير لواء، وبعضهم أمير الأمراء أعني باشوات وفرقاء وانهمرت عليهم سحب الإنعامات والإحسانات فاقتطعوا الإقطاعات الواسعة، وأخذوا القصور العالية، وأغدقت عليهم الخيرات، وهم يعلمون قوتي واستعدادي، ولقد اجتهد صاحب الدولة حسين كامل باشا عم الحضرة الفخيمة الخديوية إذ ذاك في ترقيتي إلى رتبة أميرالاي، ولكن لم يقبل منه ، وأخيرا قال لي: «إني بذلت ما في وسعي في طلب ترقيتك، ولكن قيل لي: إنك من رجال سعيد باشا.» فعجبت لذلك، وقلت له: إني من رجال الوطن، وبلدي اسمها هرية رزنة بمديرية الشرقية، ولست مملوكا لأحد، فطيب خاطري ولاطفني وقال لي: «لا تفتر همتك، وسأواصل السعي في إنصافك» فشكرت له، وخرجت وأنا أشعر بأني لا أنال خيرا في مدة أبيه، وكنت أتوسم كل خير في المرحوم توفيق باشا، ولكن من اعتمد على غير الله سبحانه وتعالى أخلاه الله منه؛ لأنه سبحانه غيور على عباده المؤمنين.
شكل 33-3: أحمد عرابي أمام منزله في سيلان.
خاتمة أمري:
ولما تولى المرحوم توفيق باشا مسند الخديوية، وحضر إلى الإسكندرية أحسن علي برتبة أميرالاي على الآلاي الرابع، فتوجهت إلى رأس التين وقدمت تشكراتي وامتناني إلى حضرته الكريمة ودعوت له بخير، ثم جعلت من ضمن ياوران الخديوي، ولما صار المرحوم عثمان رفقي باشا الشركسي ناظر الجهادية في وزارة مصطفى رياض باشا واستبدوا بالإدارة: لا يسأل كل من النظار عما يفعل في إدارته، واستخفوا بأمر الخديوي كل الاستخفاف وخصوصا عثمان رفقي لجهله وعجبه، خيلت له نفسه أن يمنع ترقية المصريين من العساكر العامل في الآلايات والاكتفاء بما يستخرج من المدارس الحربية، وصدرت أوامره بذلك، ثم أردفها بإحالة عبد العال حلمي بك أميرالاي السودان على ديوان الجهادية ليكون معاونا، وكان عمره إذ ذاك أربعين سنة ليس إلا، ورتب بدله خورشيد نعمان بك من جنسه على الآلاي المذكور، وكان سنه فوق الستين وهو ضعيف لا يقدر على الحركة العسكرية، وبرفت أحمد بك عبد الغفار قائمقام السواري وترتيب شاكر بك طمازة من جنسه بدله وهو طاعن في السن، ثم ختمت تلك الأوامر وصار قيدها بدفاتر الجهادية، وكنت لا أعلم بشيء من ذلك أصلا، وإنما دعيت إلى وليمة وسماع تلاوة القرآن الشريف بمنزل المرحوم نجم الدين باشا لمناسبة عودته من أداء فريضة الحج الشريف، وكان ذلك ليلة 14 صفر سنة 1298 ولما وصلت إلى منزل الداعي وجدته غاصا بالذوات العسكرية وغيرهم، فجلست بجوار المرحوم نجيب بك وهو رجل كردي الأصل، وبجانبه المرحوم إسماعيل كامل باشا الفريق، وهو شركسي الأصل، ولكنه يتظاهر بحب العدل والإنصاف، فأخبر نجيب بك بما صار، وأنه نصح ناظر الجهادية بالإعراض عن هذا الإجحاف فلم يصغ لقوله، ولذا فهو ساخط ومضطرب، ثم أوعز إليه أن يخبرني بما سمع منه، فأخبرني نجيب بك بحقيقة الحال همسا في أذني، فقلت لإسماعيل باشا كامل: «أحق هذا؟» فقال: «نعم، وأعطيت الأوامر إلى الكتبة للإجراء على مقتضاها.» فقلت له: «إن تلك لقمة كبيرة لا يقوى ناظر الجهادية عثمان رفقي على هضمها.» وبعد تناول طعام المأدبة حضر لي أحد الضباط، وأخبرني بأن كثيرا من الضباط ينتظرونني بمنزلي، وفيهم عبد العال بك حلمي وعلي بك فهمي، فأسرعت إليهم وهم في هياج عظيم، وقد بلغهم صدور أوامر ناظر الجهادية قبل إرسالها إليهم، فلما رأوني أخبروني بما سمعته من المرحوم إسماعيل باشا كامل ، فقلت لهم: «قد سمعت من غيركم، فماذا تريدون؟» فقالوا: «إنه ليس ذلك فقط، بل إنه قد كثر اجتماع الشراكسة بمنزل خسرو باشا الفريق صغيرا وكبيرا، وهم يتذاكرون في تاريخ دولة المماليك في كل ليلة بحضور عثمان رفقي باشا ويلعنون حزبك، ويقولون: قد حان الوقت لرد بضاعتنا، وأنهم لا يغلبون من قلة، وظنوا أنهم قادرون على استخلاص مصر وامتلاكها كما فعل أولئك المماليك.» وقد تحققوا ذلك ممن يوثق بخبره، فقلت لهم: «وماذا تريدون إذن؟» فقالوا: «إنما جئناك لأخذ رأيك فيما دهمنا من الخطب العظيم.» فقلت لهم: «أرى أن تطيبوا نفوسكم، وتهدئوا روعكم، وتعتمدوا على رؤسائكم، وتفوضوا لهم النظر في مصالحكم، وهم ينتخبون لهم رئيسا منهم يثقون به كل الوثوق، ويطيعون أمره ويحفظونه بمعاضدتكم.» فقالوا كلهم: «قد فوضنا إليك هذا الأمر، وليس فينا من هو أحق به وأقدر عليه منك.» فقلت لهم: «لا، انظروا غيري وأنا أسمع له وأطع وأنصح له جهدي» فقالوا: «لا نبغي غيرك ولا نثق إلا بك.» فقلت: «ارجعوا لأنفسكم فإن هذا أمر عصيب لا يسع الحكومة إلا قتل من يقوم به أو يدعو إليه.» فقالوا : «نحن نفديك ونفدي الوطن بأرواحنا.» فقلت لهم: «أقسموا لي على ذلك.» فأقسموا. وفي الحال كتبت عريضة إلى دولة رئيس النظار رياض باشا مقتضاها الشكوى من تعصب عثمان رفقي لجنسه والإجحاف بحقوق الوطنيين، والتمست فيها تشكيل مجلس نواب من نبهاء الأمة المصرية تنفيذا للأمر الخديوي الصادر إبان توليته. ثانيا: إبلاغ الجيش إلى ثمانية عشر ألفا تطبيقا لمنطوق الفرمان السلطاني. ثالثا: تعديل القوانين العسكرية بحيث تكون كافلة للمساواة بين جميع أصناف الموظفين بصرف النظر عن الأجناس والأديان والمذاهب. رابعا: تعيين ناظر الجهادية من أبناء البلاد على حسب القوانين العسكرية التي بأيدينا. ثم تلوت العريضة هذه على مسامع الجميع، فوافقوا كلهم عليها، فأمضيتها بإمضائي وختمتها بختمي، وختم عليها أيضا علي فهمي بك أميرالاي الحرس الخديوي، وعبد العال بك أميرالاي السودان، ولما تم ذلك صار ترتيب ما يلزم لحفظ الذات الخديوية وحفظ أعضاء العائلة الخديوية، وحفظ الوزراء والأمراء الوطنيين إذا حدث أي حادث من الضباط الشراكسة الطامعين في التغلب على البلاد مع ترتيب اللازم لحفظ البيوت المالية وبيوت التجار من الأجانب والوطنيين من مطامع الرعاع، وحفظنا أيضا من بطش الحكومة إذا أرادت الإيقاع بنا، وارفض الاجتماع على ذلك، وما دعانا إلى طلب إنشاء مجلس نواب للأمة ينظر في صوالحها ومصالحها إلا ما حل بالمرحوم إسماعيل صديق باشا الحائز لرتبة المشيرية التي من لوازمها حفظ صاحبها ولو باستعمال السلاح في عهد الخديوي الأسبق إسماعيل باشا بسبب كلمة حق قالها، وما حل بحضرة السيد حسن موسى العقاد بسبب كلمة عدل أراد بها مساواة الأهالي الذين دفعوا للحكومة سبعة عشر مليون 17000000 من الجنيهات المصرية باسم المقابلة، و5000000 أخرى باسم السهام بالأجانب أصحاب الديون وما حصل لكثير من القتل والخنق في السجون بغير حق ولا تحقيق، بل بمجرد ظلم وإجحاف واستعلاء على الناس بالقهر والجبروت بما تأباه النفوس الشريفة، وفي ضحوة الغد ذهبت إلى ديوان الداخلية، وقدمت العريضة المذكورة إلى دولة رئيس النظار، فقال لنا: «سأنظر في هذا الأمر، وأتكلم مع ناظر الجهادية.» وبعد يومين ذهبت إلى بيت الرئيس المذكور ومعي الأميران المذكوران، فلما تمثلنا بين يديه وسألناه عما تم في هذا الأمر، فقال: «إن هذا الطلب مهلك، وهو أشد خطرا من العرض الذي قدمه أحمد أفندي قني الذي أرسل بسببه إلى السودان.» (وتحرير الخبر أن أحمد أفندي قني هذا كان كاتبا بديوان المالية، وكان طلب المساواة مع خدمة الديوان المذكور لظلم حاق به، فكان جزاؤه إرساله إلى مقبرة الأبرياء من المصريين بالسودان.) فأجبته: «بأننا لم نطلب إلا حقا وعدلا، وليس في طلب الحق من خطر، على أننا نعتبرك أبا للمصريين، فما هذا التعريض، وما هذا التهديد!» فقال: إنه ليس في البلاد من هو أهل لمجلس النواب، فقلت له: «عجبا! إنك مصري وباقي النظار مصريون والخديو أيضا مصري، أتظن أن مصر ولدتكم ثم أعقمت؟! لا، بل فيها العلماء والفضلاء والنبهاء والبلغاء، وعلى فرض أنه ليس فيها من يليق كما ظننت، أفلا يمكن إنشاء مجلس يستمد معارفكم ويكون كمدرسة ابتدائية، وبعد خمسة أعوام يتخرج منها رجال يخدمون الوطن بصائب فكرهم، ويعضدون الحكومة في مشروعاتها الوطنية!» فانبهر لذلك، وقال لنا: «سننظر بدقة في طلباتكم هذه.» فانصرفنا على ذلك. ولما كان يوم غرة ربيع الأول سنة 1298 انعقد مجلس تحت رياسة الخديوي بعابدين، حضره جميع الباشوات المستخدمين والمتقاعدين وكلهم من الترك والشراكسة إلا قليلا من الأوربيين، وقرروا فيه لزوم توقيف الثلاثة أمراء الآلايات الذين أمضوا على العريضة المتقدمة الذكر، ثم إجراء محاكمتهم في مجلس مخصوص مختلط من رجال الجهادية، فقال رئيس النظار رياض باشا: «إني أرى أنه إذا صار توقيف الميرالايات المذكورين يلزم أيضا توقيف ناظر الجهادية؛ لأن في عدم توقيفه مثلهم خطرا عظيما، وذلك لما رأيته فيهم من الجراءة»، فلم يوافق المرحوم الخديوي على ذلك، وتعهد ناظر الجهادية المذكور بأنه ضامن لأخذنا بسهولة، وفي الحال دعي المرحوم أحمد خيري باشا الشركسي، وكان مهر دار الحضرة الخديوية وصاحب الرأي النافذ، فحضر وتلا بالمجلس المذكور أمرا فحواه «أن هؤلاء الثلاثة أمراء: أحمد عرابي وعلي فهمي وعبد العال حلمي مفسدون في الأرض، وأنه يقتضى توقيفهم من الخدمة ومحاكمتهم على إفسادهم، ومجازاتهم بأشد أنواع الجزاء في مجلس عسكري فوق العادة تحت رياسة ناظر الجهادية، ويكون من أعضائه أسطون باشا رئيس أركان الحرب (وهو أمريكي) وناظر المدارس الحربية أرفي باشا (وهو فرنساوي).» فوقع الخديوي عليه، وسلمه إلى ناظر الجهادية عثمان رفقي باشا، وارفض المجلس بعد ذلك، وفي المساء أرسل ناظر الجهادية لكل منا تذكرة يدعونا فيها للحضور إلى ديوان الجهادية بقصر النيل في غد يوم 2 شوال سنة 1298 لنشهد الاحتفال بزفاف شقيقة الحضرة الخديوية المرحومة جميلة هانم، وكان وقت زفافها لم يحن بعد، فتيقنا أنه يريد خدعتنا والبطش بنا، فالتجأنا إلى جانب الحق سبحانه وتعالى وأخذنا حذرنا ثم أعددنا ما يلزم لنجاتنا إذا اقتضت الحال ذلك، وحين حلول الوقت المعين ذهبنا إلى ديوان الجهادية فوجدناه غاصا بجمع الشراكسة من رتبة الفريق إلى رتبة الملازم الثاني، وجميع شبانهم بأيديهم الطبنجات ذوات 6 طلقات مملؤة بالخراتيش، وكلهم في فرح ومرح، ولا فرح هناك ولا زفاف، فلما حضرنا دعينا للحضور أمام مجلس الهلاك فأجبنا طائعين، وتلي الأمر الخديوي الآنف ذكره، ثم أمرنا بتسليم سيوفنا فأطعنا على هذا التسليم وما يعقبه من السجن، وهو مخالف للفظ الحكم بالتوقيف، ثم تعين بحضرتنا من يستلم إمرة الآلايات، وساقونا إلى السجن في قاعة بقصر النيل، فممرنا بين صفين من الشراكسة المسلحين، وبعد إقفال باب السجن جاء خسرو باشا، وكان رجلا صلفا جاهلا فوقف خارج السجن، وقال: «إيه زنبيل لي همفلر»؛ يعني فلاحين شغالين بالمقاطف، ولما أقفل علينا باب الغرفة قال علي فهمي بك أحدنا: «والله لا نجاة لنا من الموت، وأولادنا صغار.» وجزع جزعا شديدا، فأردت تثبيته، وقلت له متمثلا بقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:
ولرب نازلة يضيق بها الفتى
ذرعا وعند الله منها المخرج
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكان يظنها لا تفرج
فلا وأبيك ما كان إلا هنيهة حتى جاءت أورطتان من آلاي الحرس الخديوي بقيادة الشهم الهمام محمد أفندي عبيد البكباشي وأحدقوا بديوان الجهادية، ثم أسرع بعض الضباط والصف ضباط وفتحوا الأبواب وأخرجونا من السجن، وقد فر ناظر الجهادية الغشوم هاربا، وكذا رجال المجلس وغيرهم من المجتمعين، ولما فرج الله علينا أسرعت إلى العساكر وحذرتهم وأنذرتهم، وقلت لهم: «لا تمدوا أيديكم بسوء إلى أحد من الجراكسة، فإنهم موالينا وإخواننا استأثروا بأنفسهم علينا، ونريد الإنصاف والمساواة معهم ليس إلا.» ثم نظرت فوجدت بجانبي المرحوم إسماعيل باشا؛ أنفت نفسه أن يفر مع الفارين فأخذته بيدي وضممته إلى صدري أمام العساكر، وقلت: «هذا جركسي كما تعلمون، ولكنه أخي، حرام علي دمه وماله وعرضه، وكذلك غيره من الجراكسة.» فانصرفوا بانتظام على بركة الله، ثم سرنا جميعا إلى قشلاق عابدين وكانت الأورطة الأولى من الحرس الخديوي حكمدارية البكباشي المرحوم أحمد أفندي فرج واقفة أمام سراي الخديوي لحفظها منها، عسى أن يطرأ من الأمور كما أمرت بذلك من قبل أميرالاي الحرس علي فهمي بك، ولما تم وجود عساكر الآلاي المذكور أمر أمير الآلاي العساكر بحمل أسلحتهم بحركة «سلام دور» وعزفت الموسيقة بالسلام الخديوي، ونادوا جميعا: «يعش الخديوي» ثلاثا، وذلك كان إشارة وإعلانا للقوم بأننا على إخلاصنا للحضرة الخديوية، وكان جميع الذوات الذين كانوا بديوان الجهادية التجئوا إلى حمى الحضرة الخديوية، ثم إنهم تشاوروا فيما بينهم فقال أسطون باشا الأمريكي: هذا عصيان ظاهر، والواجب حصر القشلاق المذكور بالطوبجية وآلايات البيادة، ويطلب من هذا الآلاي تسليم الثلاثة أمراء، فإن أبوا تضرب عليهم المدافع وتمطر عليهم البنادق نارا حامية حتى يضطروا إلى التسليم. فاستحسن الجميع ذلك الرأي الأمريكي، ولكن ابتدره المرحوم إسماعيل كامل باشا المذكور آنفا، وقال: «أنا أعتقد اتفاق جميع أصناف العساكر على رأي واحد، فلا يجدي هذا الرأي نفعا.» وفي أثناء مفاوضتهم حضر آلاي السودان من طرة، وانضم إلى آلاي الحرس ثم عزفت الموسيقة بالسلام الخديوي وهتفوا جميعا: «أفندمز جوق يشا»، وأنا العاجز الضعيف كتبت إلى وكيل فرنسا السياسي في مصر الكونت «دورنج» من غير أن يكون لي به ولا بغيره من قناصل الدول الأوربية سابق معرفة ولا مقابلة ألتمس منه مخابرة باقي قناصل الدول بما حصل بيننا وبين حكومتنا من الخلاف، وأطلب منهم التوسط في إصلاح ذات البين، ثم بتنا على ذلك، وفي صباح الغد حضر لنا المرحوم أحمد خيري باشا مهردار الخديوي ومعه محمود سامي باشا ناظر الأوقاف من قبل الخديوي، وقال لنا: «ماذا تريدون؟» فقلنا: «العدل والمساواة.» قالا: «ثم ماذا؟» قلنا: «استبدال ناظر الجهادية برجل وطني، وتشكيل مجلس نواب للأمة ينظر في مصالحها وصوالحها، وتعديل قوانين العسكرية، وإبلاغ الجيش إلى ثمانية عشر ألفا ونحن على طاعتنا للحضرة الخديوية.» فذهبا إلى الخديوي ثم رجعا، وقالا: «قد عزل عثمان رفقي فمن الذي تريدونه ناظرا للجهادية؟» قلنا: «الذي يختاره الخديوي من الوطنيين.» فذهبا، وعادا ثانية وقالا: «إن الخديوي يقول: اختاروا أنتم من ترضونه حتى لا يحصل منه مثل ما حصل من عثمان رفقي.» فقلنا: «قد اخترنا هذا: محمود سامي باشا، وهو من أولاد المماليك الأول، ولكنه صدق معنا ولم يقصد الغدر بنا.» ثم صدرت الأوامر الخديوية بإعادة كل منا إلى آلايه، وعزل عثمان رفقي وصار تولية محمود سامي على نظارة الجهادية مع نظارة الأوقاف، وأخذ في سن القوانين العادلة، وتعديل القوانين الأصلية وتنقيحها.
ثم لما شاعت الأراجيف الكاذبة في أوروبا بخروج العساكر المصرية عن الطاعة، حضر من الحكومة العثمانية وفد برياسة المشير علي نظامي باشا، وبمعيته أحمد راتب باشا والي الحجاز الآن لتحقيق أمر العصيان، فرده الخديوي قائلا: إن عساكري على طاعتي، وأن ليس ثم عصيان، وبعد ذلك اجتهدت الحكومة في غدرنا، وأخذنا على غرة أو بحيلة من ضروب الحيل، ولما لم يوافقها ناظر الجهادية محمود سامي باشا على نواياها صار عزله بتذكرة من رياض باشا رئيس النظار، وتشدد عليه بأن لا يجتمع بنا ولا يقيم بالعاصمة، وتعين بدله داود باشا يكن وهو عديل الخديوي، ولكنه رجل جاهل أحمق مشئوم، فأسرع بإصدار أوامر لا يستطاع قبولها، فردت إليه ونفرت القلوب منه، فكتبت له في 9 سبتمبر سنة 1881 بأننا سنحضر بجميع العساكر الموجودين في القاهرة إلى ساحة عابدين؛ لعرض طلباتنا على فخامة الحضرة الخديوية في الساعة الرابعة بعد الظهر من يوم الجمعة الموافق 9 سبتمبر سنة 1881، وكلفته عرض ذلك على الحضرة الخديوية، ثم كتبت إلى جميع قناصل الدول بذلك، وأعلنتهم بحفظ جميع رعاياهم فلا خوف عليهم ولا على أموالهم، وفي الوقت المعين اجتمعت الآلايات البيادة والسواري والطوبجية في رحبة عابدين، وكان ما هو مسطر في بطون التواريخ، وهو إسقاط الوزارة وترتيب مجلس النواب، وإبلاغ الجيش إلى القدر المحدد بالفرمان السلطاني، وقد حبانا المرحوم الخديوي بإجابة تلك الطلبات العادلة، وقد تعرض لنا المستر كوكسن قنصل إنكلترا بالإسكندرية حين ذاك وهددنا فلم نعبأ بتهديده لاعتمادي على صدق عزيمتي وطهارة ذمتي، ثم صار استدعاء المرحوم شريف باشا من الإسكندرية، وتعيينه رئيسا للوزارة على حسب اختيارنا له، وتعين محمود سامي باشا ناظرا للجهادية ثانية، وقد توقف شريف باشا في قبوله 7 أيام ثم رضي بعد ذلك، وصار توظيفي وكيلا للجهادية، وفي تلك النظارة صارت الامتحانات، وترقى كثير من الباشوات وأمراء الآلايات والقائمقامية وغيرهم من جميع الرتب، واستكملت الآلايات، وأنشئت القوانين العادلة، وتعدلت الرواتب والماهيات بنسبة كل رتبة إلى ما دونها، وصرفت الحقوق الموقوفة من زمن مديد، وأنشئ مجلس النواب وجعل رئيسه أبو سلطان باشا، وعم العدل واستقامت الأمور، وحين ذاك عرضت علي رتبة لواء (باشا) فرفضتها؛ لئلا يقال إني إنما اشتغل لمصلحتي فقط، وبقيت في رتبة الميرالاي مدة وكالتي للجهادية، وأما رفقاي عبد العال حلمي وعلي فهمي فقد تشرفا برتبة الباشوية الرفيعة، ثم إن مجلس النواب قرر في لائحته الأساسية أن يكون لهم الحق في نظر ميزانية الحكومة، ومعرفة كيفية إيرادها ومصروفها بشرط عدم الخروج عن دائرة التعهدات الدولية وقانون التصفية، فلم يجبهم المرحوم شريف باشا لذلك؛ لأنه - سامحه الله - أخذ رأي السير مالت وكيل إنكلترا السياسي في مصر وقنصل فرنسا أيضا، فأشاروا عليه بعدم قبول لائحة المجلس، فأصر مجلس النواب على الطلب في تنفيذ لائحتهم فلم يوافقهم، وقدم استعفاءه واستعفت هيئة نظارته، ثم تشكلت هيئة جديدة تولى رئاستها محمود سامي باشا، وجعل من رجالها حسن باشا الشريعي - رحمه الله تعالى - والمرحوم سليمان باشا أباظه، والمرحوم عبد الله باشا فكري، والمرحوم محمود باشا فهمي، وسعادة مصطفى باشا فهمي رئيس الوزارة المصرية الآن. وجعلوني أيضا ناظرا للجهادية لأجل اطمئنان خاطر العسكرية الذين لا يأمنون غيري في ذاك الوقت، فقبلت ذلك، ثم أحسن علي برتبة لواء باشا من لندن المرحوم الخديوي توفيق باشا، وكنت لا أريد، ولكن قالوا: إنه لا يليق أن يكون ناظر الجهادية برتبة أميرالاي وفي نظارته اللواءات والفرقاء، فقبلتها للضرورة وشكرت للحضرة الخديوية وقد انتظمت الأمور وهدأت الأحوال، وصارت العساكر في أمن من الغدر، ولكن أوروبا لا يروق في نظرها انتظام حكومات الشرق، فأقلقوا حكومة الدولة العلية، فأرسلت وفدا مندوبا من طرفها تحت رئاسة المشير المرخص درويش باشا؛ لتحقيق ما يقال من العصيان، فجاء درويش باشا وبحث في الأمر وكتب للحضرة السلطانية بأن العساكر على الطاعة، وكذلك كتب المرحوم الخديوي بالحقيقة، فأرسلت الحضرة السلطانية إلى الحضرة الخديوية أربعمائة نيشان من أنواع مختلفة للإحسان بها على المستحقين من ضباط العساكر، وأحسن علي بنيشان الدرجة الأولى المجيدي، وحضر بوابور مخصوص يحمله سعادة سليم بك ياور الحضرة السلطانية، فأبيت استلام النيشان المذكور إلا من يد مولاي الخديوي، ثم كتبت تلغرافا إلى المابين الهمايوني برفع تشكراتي الخيرية للحضرة المقدسة السلطانية، وتشرفت تلغرافيا بقبول تشكراتي لدى جلالة السلطان الأعظم وحصول المحظوظية لدى جلالته. كذا قيل بالتلغراف.
شكل 33-4: أحمد عرابي وحفيده إلى جانبه.
وفي شهر مايو سنة 1882 جاءت الأساطيل الحربية الإنكليزية والفرنساوية إلى ثغر الإسكندرية، وتقدمت للحكومة المصرية لائحة مشتركة من دولتي فرنسا وإنكلترا مجحفة باستقلال الحكومة المصرية وحقوق الدولة العلية، وتقدمت نسخة منها للخديوي، فرفضها مجلس النظار وقبلها الخديوي، فاستعفت النظارة من وظائفها، وهاجت الأفكار العمومية وطاشت العقول الزكية، واجتمع مجلس النواب وجميع قناصل الدول حولي كعرف الضبع يطلبون مني حفظ الأمن والراحة العمومية، فقلت لهم: لا قدرة لي على ذلك لأني قد استعفيت، فذهب وفد من مجلس النواب، وطلب من الخديوي إعادتي إلى نظارة الجهادية حفظا للنظام والراحة، فصدر الأمر الخديوي بإعادتي إلى النظارة المذكورة، ثم دعيت إلى الحضرة الخديوية فوجدت عنده جميع قناصل الدول ما عدا وكيل إنكلترا السياسي، وبحضرته درويش باشا المندوب السلطاني، فأخذ علي تعهد بحفظ رعايا الدول الأجنبية، وصار إعلان جميع مصالح الحكومة بذلك.
وفي 11 يونيو سنة 1882 حدثت حادثة إسكندرية المشئومة بتدبير ذوي الغايات لأجل تشويه أعمالي في نظر أوروبا، وخدش تعهدي بالحفظ والأمن العمومي، فأسرعت بإرسال العسكر إلى الإسكندرية حتى ملئت شوارعها بالعساكر، وانتهت الفتنة التي ابتدأ بها أحد المالطية من التبعة الإنكليزية مع أحد حمارة الإسكندرية بإيعاز وتعليم، ثم صار الشروع في تحقيقها في مجلس مختلط تحت رئاسة ذي الفقار باشا محافظ الثغر، ومن الغريب العجيب أنه لم يبحث أصلا في الدماء التي سفكت، بل كان البحث قاصرا على مقدار البضائع التي انتهبها الرعاع ليس إلا، وبعد ذلك تشكلت الوزارة بمعرفة الخديوي تحت رئاسة المرحوم الطيب الذكر راغب باشا، وكنت من رجالها أيضا، ثم انتقل الخديوي ودرويش باشا إلى الإسكندرية، وفي يوم 11 يوليو سنة 1882 وردت إفادة إلى قومندان عساكر الإسكندرية من طرف أميرال الأسطول الانجليزي، يقول فيها: إنه جاري تهديد العمارة الإنكليزية بترميم القلاع والاستحكامات، وإنه يطلب تخريب القلاع وهدمها بأيدي العساكر المصرية وإلا ضرب الإسكندرية وخرب المدينة ودمرها، فعقد لذلك مجلس تحت رئاسة الخديوي حضره درويش باشا المندوب العثماني وقدري بك من رجال الوفد المذكور، وجميع النظار وكبار الذوات المتقاعدين، وبعد المذاكرة أجمعوا على رفض هذا الطلب والاستعداد للحرب، ولكن لا يبدأ بها إلا بعد إطلاق ثلاث قنابل من الأسطول الإنكليزي حتى لا نكون نحن البادئين بالحرب، فأعطيت الأوامر بذلك.
وعند إشراق يوم 12 يوليو بدأت مراكب الإنكليز بالضرب على مدينة الإسكندرية وجميع سواحلها، وانتشب القتال بين مصر والحكومة الإنكليزية، وأما الأسطول الفرنساوي فاعتزل جانبا كالمتفرج، وضربت الطوابي حتى تهدمت استحكاماتها، وفي أثناء الحرب خرج سكان المدينة مهاجرين منها خوفا وهلعا، وفي اليوم الثامن انهزمت العساكر فرجعت إلى كفر الدوار، واتخذت خطا دفاعيا وتراجع المنهزمون إلي، وفي 14 يوليو أرسلت القطار الخديوي لاستحضار الخديوي ومعيته ومن معه من النظار، ولما وصلت القطارات إلى سراي الرمل لركوب الحضرة الخديوية ورجوعه إلى عاصمة بلاده أبى أن يعود، وأسرع في الذهاب إلى رأس التين بعائلته ومن بمعيته، وانحاز إلى العدو المحارب لبلاده، واستدام الحرب إلى أن قدر الله تعالى شأنه بالخذلان العظيم في التل الكبير كما هو معلوم للجميع، وتم الأمر بنفينا إلى مدينة سيلان، وخرجنا من مصر في يوم 16 صفر الخير سنة 1300 على قطار مخصوص إلى السويس، وفي سبعة عشر منه بارحنا الثغر المذكور على مركب إنكليزي اسمه «مرتوطة». وفي أول شهر ربيع الأول خرجنا من السفينة إلى ثغر «كولومب» ومكثنا بها تسع عشرة سنة، إلى أن تشرفت جزيرة سيلان بزيارة كريم الشيم عظم الرأفة والحنو الدوق «كرنوال ويورك» ولي عهد الحكومة الإنكليزية، وتشرفت بزيارة سموه في مدينة كندي، وتفضل علي بالسؤال عن حالي وما أقاسيه من تباريح الغربة وذل النفي، فقلت لسموه الإمبراطوري: إني أعتبر تشريف سموه إلى هذه الجزيرة وتشريفي بإقبال سموه علي سببا عظيما لإنالتي نعمة الحرية، والعود إلى وطني العزيز من لدن مولاي الخديوي عباس باشا الثاني، فقال لي: وهل تعرفه؟ فقلت: نعم، وقبلت يد سموه مذ كان في سن 10 أعوام، فوعدني خيرا، فشكرت ودعوت ثم أحسن علي بسيجارة ملوكية قبلتها أدبا لحفظها تذكارا للطف سموه، ولم أحرقها بنار، وفي 6 صفر الخير سنة 1319 صدرت الإرادة الخديوية بالرخصة لي بالعود إلى مصر والإقامة فيها. وإني أرجو من مكارم سمو مولاي الخديوي عباس باشا تمام رضاه، وقد أعرضت لسموه العالي تشكراتي ودعواتي الخيرية الصادرة من صميم الفؤاد وإخلاص النية، وقد تفضل حفظه الله سبحانه وتعالى بحملي وعائلتي إلى مصر على مصاريف حكومته الخديوية، فأرجو من الله أن يوفقني لما يحبه ويرضاه، هذا وإني أبرأ إلى الله من حولي وقوتي في كل ما ذكرته أو فعلته، وأنى يكون للمخلوق العاجز الضعيف مثلي من قوة يدافع بها إرادة أوروبا وقوة إنكلترا العظمى فضلا عن بطش حكومة مصر الاستبدادية القادرة، وموافقة جلالة السلطان الأعظم على الإعلان بعصياني في جورنال الجوائب، وانحياز حاكم البلاد إلى المحارب لبلاده، وإنما كان ما كان بقضاء الله وقدره، ولا راد لقضائه وقدره، وليس لي فيه إلا مجرد الكسب الاختياري الذي أثاب أو أعاقب عليه، ولم يخطر ببالي أصلا الاقتداء بالفاتحين والمتغلبين كما ذكرتم، ولا بتأليف دولة عربية كما أرجف المرجفون؛ لأني أرى ذلك ضياعا للإسلام عن بكرة أبيه وخروجا عن طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وآله، والبرهان على ذلك ارتفاع صوتي بالمحافظة على حياة المرحوم الخديوي السابق كمحافظتي على نفسي بكرة وعشيا، مع احترام أعضاء عائلته الكريمة، يشهد لي بذلك ما هو واضح بدفتر الأخبار اليومية المحفوظ بالديوان الخديوي وإرادته الخديوية الصادرة إلى مجلس التحقيق بعد الخذلان العظيم بالتل الكبير، وسجننا مع جميع رجال العسكرية وأعيان البلاد وحكامها وعلمائها وقضاتها وتجارها، مما هو معلوم لدى الجميع وغني عن البيان. والله الذي لا إله إلا هو فالق الحب، وبارئ النسمة، إني ما خدمت بذلك دولة إنكلترا ولا فرنسا ولا كنت آلة لدولة ما، ولا للخديوي الأسبق المرحوم إسماعيل باشا، ولا للمرحوم حليم باشا، ولا أوصي إلي بمساعدة الدولة العلية من عرش عظمتها. وإنما كنت أجتهد في حفظ استقلال بلادي مع نيل الحرية والعدل والمساواة لأهل بلادي المساكين، وأنا خادم لهم، وناديت سرا وإعلانا بتأييدها وتأييدات الذات الخديوية، ولكن المقادير الإلهية غالية، فانعكست المرئيات وتوالت الصعوبات لنفاذ ما هو كائن في علمه أولا سبحانه وتعالى، وإني والله لا أكره شركسيا، ولا روسيا لذاته، وإنما أكره الأعمال المغايرة للعدالة والإنسانية والآداب الشريفة، وأحب العدل والمساواة بين جميع بني الإنسان، والحمد لله أولا وآخرا والشكر لله وللحضرة الفخيمة الخديوية التي منحتني نعمة العود إلى وطني العزيز؛ لأحظى برؤية ذاته الكريمة، ورؤية أبناء وطني الكرام قبل أن أفارق هذه الحياة الدنيا، والحساب على الله.
خادم وطنه العزيز
مخلصكم
أحمد عرابي الحسيني المصري
الفصل الرابع والثلاثون
لي هونغ تشانغ
شكل 34-1: لي هونغ تشانغ الوزير الصيني الشهير (ولد سنة 1823 وتوفي سنة 1901). (1) ترجمة حاله
ولد لي هونغ تشانغ في بلدة «سوي تشو» من مقاطعة «نجان هواي» في شرق الصين في 16 فبراير سنة 1823، وفي سنة 1849 نال رتبة «هان لين» وهي من رتب الشرف عند الصينيين. وفي السنة التالية مات إمبراطور الصين «تاو كوانغ» وكان محبا للإصلاح، وقد اشتغل في أواخر أيامه بإدخال الصنائع الإفرنجية إلى بلاده حتى كادت تزهو وتنمو، فلما مات خلفه ابنه «هيانغ فونغ» وكان ضعيف الرأي معتسفا، فعمل على هدم ما بناه أبوه، فشق ذلك على بعض رجال النفوذ، وهاج الشعب الصيني وطلبوا خلع الإمبراطور وطرد التتر من بلادهم، ورأس العصاة رجل اسمه «تيان تيه» كان قد تثقف على يد بعض الإفرنج وتعلم مبادئ الديانة المسيحية فنهض نهضة دينية، وزعم أنه معيد عبادة «تشانغ تي». وجعل يعلم التعاليم والشرائع مما استخرجه من التوراة، وادعى أنه سلطان أهل الأرض قاطبة، وسمي أتباعه «ناي ينغ»؛ أي أمراء السلام، وكان الإنكليز يومئذ ناقمين على الصينيين لاختلاف سياسي، فخابر «تان تيه» الإنكليز وعرض عليهم المساواة بالتي هي أحسن.
وكان «لي هونغ تشانغ» في تلك الأثناء من حزب الإمبراطور وعمل على مساعدته وإصلاح ما فسد من أموره، وطالت ثورة «تاي بنغ» 14 سنة، وانتهت أخيرا على يد صاحب الترجمة لحسن سياسته، فانتحر زعيم الثورة وقبض الإمبراطور على سائر قوادها، وقتلهم سنة 1864، وكان لي هونغ تشانغ في أثناء ذلك قد تقلب في مناصب عديدة، فتولى قضاء مقاطعة «تشي كيانغ» ثم حكومة «كيانغ سو» سنة 1861، فلما قدم الجنرال غوردون سنة 1863 إلى «كيانغ سو» لمطاردة العصاة كان صاحب الترجمة عونا له في إخراجهم من تلك المقاطعة. فانقضت الثورة سنة 1864 وكان الإمبراطور هيانغ فونغ قد توفي سنة 1862 وخلفه ابنه «تونغ تشي» فعرف هذا الإمبراطور له فضله فخلع عليه الجاكت الصفراء، وقلده ريشة الطاووس، وهما شعار الأشراف، فأصبح لي هونغ تشانغ شريفا من الدرجة الثالثة، يتوارث أعقابه ذلك الشرف من بعده، وفي سنة 1866 تعين حاكما عاما لمقاطعة «ليانغ كيانغ» وفي أثناء ذلك ثار المسلمون في المقاطعات الجنوبية بقيادة قائد منهم اسمه السلطان سليمان، وحاولوا خلع نير الصين والاستقلال، فحاربهم الإمبراطور حربا عنيفة استعان بها برأي لي هونغ تشانغ وقيادته فانفثأت نار هذه الثورة سنة 1873 فتناول السلطان سليمان السم فرارا من الوقوع في الأسر.
وكان فوز «لي هونغ تشانغ» في هذه الحرب سببا في ارتقائه إلى ولاية مقاطعة تشيلي أرقى مقاطعات الصين، لأن بكين واقعة فيها، وأصبح من ذلك الحين محل ثقة الإمبراطور وسائر أهل البلاط، فتقلب بعد ذلك في عدة مناصب رفيعة، فتعين مستشارا أعظم للإمبراطور ومندوبا ساميا في الأمور الخارجية، ومديرا عاما للقوات البحرية في الثغور، وناظرا للتجارة في الشمال، وقائدا عاما لجند الصين في مقاطعات الشمال. ولما انتشبت الحرب بين الصين واليابان ثم أرادت الصين المخابرة بأمر الصلح لم تر خيرا منه للتوسط في ذلك، فانتدبته سنة 1895 لمخابرات اليابان كما انتدبته بعد ذلك لمخابرة دول أوروبا.
وفي سنة 1896 بعد انقضاء حرب اليابان رحل إلى أوروبا رحلة تحدث بها الناس زمنا طويلا، ولم تبق جريدة من جرائد العالم لم تذكر تلك السياحة أو تصف «لي هونغ تشانغ» وتعدد مناقبه وأخلاقه، فنشروا في ذلك المقالات الضافية وكلهم مجمعون على منزلة الرجل من التعقل والحكمة والدراية، على أن بعضهم بالغ في غرابة ما ظهر من عاداته مما يخالف عوائد الإفرنج هناك، فذكر أحدهم في بعض الجرائد أن أحد رجال السياسة أهدى «لي هونغ تشانغ» كلبا من جنس «البولدوك» المشهور بسمنه، واكتناز لحمه، فلما قابله في اليوم التالي سأله إذا كان مسرورا من ذلك الكلب، فأجابه: «إنه سمين لكن لحمه مالح وقاس»، فعلم صاحبنا أن رجل الصين ذبح الكلب وأكله.
وكتب بعضهم إلى جريدة الستاندرد يصف فيها أخلاق هذا السياسي من حيث المقابلات الرسمية، قال: إذا جاءه رجل في أمر استعجله في بيان غرضه وهو يصغي لسماع ما يقوله مخاطبه، فإذا أطال الكلام أظهر رغبته في قطع الحديث بإشارة يعرفها الذين عاشروه - وهي أنه يرفع فنجان الشاي إلى شفتيه - ومعنى ذلك «أني مسرور بمقابلتكم، لكنني لا أحب تعويقكم أكثر من ذلك.» وفي حديثه مع الأجانب من الإفرنج كثيرا ما كان يظهر الفظاظة والاستبداد في الرأي، وكلما لان له جليسه زاد هو قسوة، فإذا رأى القسوة من جليسه لان هو، فكأنه من هذا القبيل يتشبه بما نقلوه عن معاوية بن أبي سفيان داهية الإسلام؛ إذ قال: «إني لا أضع سيفي حيث يكفيني لساني، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت.» فقيل له: «وكيف ذلك يا أمير المؤمنين؟» قال: «كنت إذا شدوها أرخيتها، وإذا أرخوها شددتها.»
ويكرم لي هونغ تشانغ زائريه بالسيكارة والخمر، وأما هو فلا يدخن غير الشبق (الغليون) وله خادم خاص لإصلاحه، وقد يتناول كأسا من المرق أو الأرروط بين يدي زائريه، ولا يعد ذلك مخالفا لآداب المجالسة، وربما انصب بعض المرق على لحيته أو صدرته فلا يلتفت هو إلى ذلك؛ لأن بجانبه خادما بيده منشفة يمسح بها ما انصب، على أنه لم يكن أكولا، ولم يشرب الخمر إلا نادرا، ولم يتعاط الأفيون مطلقا.
الفصل الخامس والثلاثون
الماركيز إيتو
شكل 35-1: الماركيز إيتو أكبر سياسيي اليابان (ولد سنة 1841). (1) ترجمته
اسمه هيروبومي إيتو ولد في ولاية تشوشو من أعمال اليابان سنة 1841 وتلقى العلم فيها على قدر ما كانت تسمح به حالة تلك الأيام، فلما تجاوز العشرين من عمره تاقت نفسه إلى اكتساب العلوم العالية، وكانت ذكرى أوروبا ترن في أذنيه، فجاء إنكلترا سنة 1863 فاطلع على علومها وتفقد أسباب تمدنها فأضاف معارف الغرب إلى معارف الشرق، واتخذ من المزيج قوة أهلته لأكبر المناصب، فكان هذا الرجل أكبر وسيلة ساعدت أمة اليابان على النهوض تلك النهضة التي أدهشت العالم وبهرت العقول.
وأخذ منذ عاد إلى بلاده يتدرج في المناصب حتى بلغ أعلاها جميعا، فتولى سنة 1868 حكمدارية هيوجو، وكانت في حال تدعو إلى وال ذي دراية في السياسة الخارجية فلم يروا أليق منه لذلك، ولكنه لم يلبث سنة في هذا المنصب حتى رأت الحكومة أنها تحتاج إليه في إصلاح المالية، فولته وكالة نظارة المالية، وشخص في السنة التالية (1870) إلى أميركا قضى فيها سنة يدرس نقودها وما يتعلق بها، فلما عاد إلى منصبه ظهرت نتائج أبحاثه في سرعة تقدمه، فترقى سنة 1873 إلى رتبة الوزارة، وتولى نظارة الأشغال العمومية، ومنزلته ترتفع في عيني الإمبراطور يوما عن يوم فلم تدخل سنة 1885 حتى عهد إليه بتشكيل الوزارة، فتولى رئاسة النظار ثلاث سنوات متوالية، ثم اعتزل هذا المنصب وتنقل في مناصب أخرى بخدمة الإمبراطور، فكان تارة رئيس الخاصة وطورا صاحب الختم، وآونة رئيس مجلس الشرفاء، وأنعم عليه الإمبراطور بلقب كونت.
وعاد سنة 1892 إلى الوزارة وما زال فيها إلى سنة 1896 وجرت الحرب بين اليابان والصين في تلك الأثناء، فأبان فيها من الدهاء والحزم ما خلد له الذكر الجميل. فلما انقضت الحرب كافأه الإمبراطور بلقب ماركيز، ثم عاد إلى الوزارة ثالثة سنة 1898 ورابعة سنة 1900 ولكنه لم يمكث في كليهما إلا بضعة أشهر، ثم اقتضت صحته ومصالح بلاده انتقاله إلى أوروبا، وهذه هي سلسلة المناصب التي تولاها على وجه الاختصار.
الشورى:
نرى من سرعة ارتقاء هذا الرجل في مناصب الدولة أنه ذو مواهب سامية ؛ غير أن المواهب السامية لا تقتضي الإتيان بالمنافع الكبرى حتما إلا إذا تمهدت لها الأحوال وكان صاحب المواهب راغبا في الإصلاح. أما إيتو فإنه وفق إلى خدم جزيلة يندر أن تتأتى لرجل وخصوصا في الشرق، وسبب نجاحه أنه لم يشرع في عمل قبل أن يدرسه ويفحصه، وقد سار إلى أوروبا وأميركا غير مرة لهذه الغاية، ومن أهم تلك الأعمال أنه أدخل الشورى في الحكومة اليابانية، فبعد أن كانت حكومة مطلقة وقول الملك فيها شريعة المملكة جعلها شوروية، ولا يخفى ما يحول دون ذلك من المشقة في أمة كان يزعم المتمدنون أنها من الأمم الخاملة.
بدأ بتأسيس الشورى سنة 1883 فوضع لها اللوائح، وطال به أمر التنقيح والتعديل لغرابة هذا النظام عندهم حتى تقرر رسميا سنة 1889.
وخلاصة نظام الحكومة اليابانية أن الإمبراطور هو رأس المملكة، وله سلطة الإجراء بمساعدة مجلس شوراه، وهم مسؤلون بين يديه عن أعمالهم وهو يوليهم ويعزلهم، وهناك أيضا مجلس خاص يبحث في المسائل الهامة المتعلقة بالمملكة مما يعرضه الإمبراطور. وللإمبراطور أن يشهر الحرب ويدعو إلى السلم ويعقد المعاهدات، وفي اليابان مجلس للأعيان ومجلس للنواب فلا يسن الإمبراطور قانونا إلا بمصادقتهما.
الجند:
ومن أعماله أيضا أنه أصلح الجندية اليابانية في البر والبحر، وبذل في سبيل ذلك العناية الكبرى، ولولا هذا الإصلاح ما استطاعت اليابان أن تتغلب على الصين في حروبها سنة 1892 وللماركيز إيتو لائحة في بناء السفن لا يزال العمل جاريا بها، وقد جعلت أسطول اليابان من أمنع الأساطيل.
الإمبراطور:
والسر في نجاح مشروعاته وإخراجها من القوة إلى الفعل إنما هو ثقة الإمبراطور فيه وانقياده له، ولولا ذلك لذهب سعي الماركيز هباء منثورا، ولكنه تسلط على رأي الإمبراطور تسلطا عجيبا، وهان عليه اقناعه فيما يشرع فيه من الإصلاح، ولا ينكر ما للإمبراطور من الفضل في ذلك، وخلاصة القول أن الله رضي عن اليابان فمنحها وزيرا حكيما، وسلطانا سامعا، فلم تمض عليها ثلاثون عاما حتى انتقلت من مصاف الأمم الخاملة إلى أرقى مدارج المدنية. (2) عيشته الخصوصية
يقيم الماركيز إيتو في عزبة له اسمها «أويسو» قرب مدينة طوكيو، وهو يحب الرياضة البدنية كثيرا، ولكنه يفرط فيها حتى تتوالى عليه النزلات الشعبية، قد وخطه الشيب، ولكنه يخضب شاربيه ولحيته.
وهو يلبس اعتياديا اللباس الإفرنجي وفوقه القباء الكبير المزرر من الأمام كما نراه في الرسم، وعلى رأسه طاقية إفرنجية، وهو يحسن التكلم بالإنكليزية، وإذا خاطبته وذكرت نهضة اليابان الأخيرة تنسمت من مجمل كلامه إعجابا بما كان له من الباع الطولى في ذلك.
ومن أخلاقه التي يجب أن تكون مثالا لكل شرقي - سواء كان من رجال السياسة أو العلم أو لأي فرد من أفراد الناس - أنه مع رغبته في اقتباس عوامل التمدن الحديث والاقتداء بآداب المتمدنين وترغيب مواطنيه في اقتباسها لم يكن يقبل عادة إفرنجية، ولا عملا إفرنجيا إلا بعد أن يلبسه حلة يابانية محافظة على جامعة الوطن، واحتراما لعوائد البلاد وشعائر أهلها، فهان عليه نشر ما أراد نشره من الأمور النافعة ولم يحط من منزلة أمته، فما أجدره أن يكون مثالا لأناس بين ظهرانينا نراهم إذا اقتبسوا عادة إفرنجية بالغوا في المحافظة على أصلها أكثر من محافظة أصحابها عليها، وإن يكن في بعض تفاصيلها ما يخالف الآداب الشرقية.
القسم الخامس
رجال الأعمال وأهل البر والإصلاح
الفصل السادس والثلاثون
كيرلس الرابع
شكل 36-1: كيرلس الرابع بطريرك الأقباط الأرثوذكسيين العاشر بعد المائة.
هو أحد رجال الإصلاح الذين يفتخر تاريخ الأمة القبطية بذكرهم؛ نظرا لما له من الأيدي البيضاء في إصلاح الكنيسة القبطية في هذا القرن، وقد آثرنا شرح ترجمة حاله إقرارا بفضله أسوة بأمثاله من أعاظم الرجال نقلا عن أصدق المصادر وفي جملتها ما سمعناه من أفواه جماعة ممن عاشروه ورأوا أعماله رأي العين.
ولد هذا الرجل سنة 1532 قبطية (1806م) في قرية الصوامعة الشرقية من مديرية جرجا في مصر العليا، وكان اسمه داود، وكان والده مزارعا معروفا بين قومه بالسذاجة وسلامة النية وكان أميا لا يعرف القراءة، ولكنه لم يغفل عن تربية ولديه، وهما: داود - المتقدم ذكره - ويوسف وهو أصغرهما، فعني في تعليمهما فتعلما القراءة والكتابة في اللغتين العربية والقبطية ومبادئ الحساب.
فلما أكمل داود تعلمه على قدر ما سمحت به مدارس تلك الأيام عكف على معاضدة والده في أعماله الزراعية، فكان يقضي يومه بين المزارع والغياض في الأعمال الخشنة، فنما جسمه وتشددت عضلاته. أما أخوه فاختار الكتابة والحسابة، فكان يقضي معظم يومه جالسا في الديوان عاملا فكرته، مجهدا عقله، فنما ضعيفا نحيفا خلافا لداود الذي لما بلغ أشده اختلط بالعربان المجاورين لقريته، وتعلم منهم ركوب الخيل حتى صار يراكبهم ويسابقهم ويرافقهم في أسفارهم في الجبال والبراري والصحاري، وألف كثيرا من طرق الصحراء حتى إنه لم يحتج إلى دليل يرشده إلى طرق الدير عندما أراد الترهب.
وقلما نعلم عن حالة صاحب الترجمة فبل انخراطه في سلك الرهبنة، وإنما علمنا أنه لم يكن يهمه شيء من أعمال هذه الدنيا، ولم يكترث بعمل من الأعمال العالمية، كأن العناية حفظته لخدمة لا يقوم بأعبائها إلا نفر قليلون من بني الإنسان، فلما بلغ الثانية والعشرين من عمره برح بيت أبيه، وفارق أصحابه وخلانه وقصد دير القديس أنطونيوس في الجبل الشرقي لمجرد الترهيب والانقطاع للعبادة وخدمة الله، فوصله بعد مسيرة ثلاثة أيام، وترهب على يد القس أثناسيوس القلوصني رئيس ذلك الدير، ولم يلبث هناك مدة حتى اشتهر بين رفقائه الرهبان بالذكاء والورع ودماثة الأخلاق والهمة والنشاط، فكان الرئيس إذا غادر الدير لغرض له في العزبة أو مكان آخر يعهد بتدبير الدير لداود دون سواه لما رأى فيه من الأهلية وحسن التدبير والغيرة على مصلحة الدير والمواظبة على مطالعة الكتب المفيدة حتى رآه يجمع إخوانه الرهبان في ساعات الفراغ، ويقرأ عليهم ويشرح لهم ويحثهم على المطالعة. وبعد دخوله الدير بسنتين توفي القس أثناسيوس المشار إليه، فأجمع الرهبان كافة على إسناد منصب رئاسة الدير إليه، فاستحضره الأنبا بطرس بطريرك الأقباط إذ ذاك وثبته في ذلك المنصب ودعا له وباركه، فانصرف القس داود إلى مقر وظيفته في بوش بمديرية بني سويف، وشرع في مباشرة المهام التي عهدت إليه بهمة ونشاط ودراية، وكان على كثرة تجواله لقضاء مهام الدير المتعددة في البلاد المختلفة لا يهمل شيئا من لوازم الدير في الجبل في أوقاتها حتى لا يتخذ الرهبان تأخرها ذريعة لمغادرة الدير والتجول في البلاد من جهة أخرى مما يخالف عهود الرهبنة؛ إذ كان في اعتقاده أن الراهب لا يجب أن يبرح ديره إلا إذا دعاه رئيسه إلى ذلك، فإذا خالف أحد الرهبان هذا الأمر كان يتظاهر القس داود بالإغضاء عنه ثم يعمل على إجباره بحسن السياسة على إيثار البقاء في الدير على الخروج منه، وما زال ذلك اعتقاده في الرهبنة إلى آخر أيامه، حتى إنه لما صار بطريركا أصدر منشورا يقضي بملازمة الرهبان الديور، وأن لا يخرجوا منها إلا بإذن منه، ولم يبق في العزبة في بوش إلا الرهبان الذين لا غنى عنهم في الأعمال الزراعية ومتعلقاتها، ومن أقواله من هذا القبيل: «إن من يختار ثوب الرهبنة فقد مات عن الدنيا، ودفن في الدير فلا يخرج الميت من قبره، والرئيس الذي يؤذن للراهب في الخروج من ديره فقد أخرج ميتا من قبره.»
ومما يذكر من آثاره في أثناء إقامته في بوش رئيسا للدير أنه خصص مكانا في العزبة جمع إليه ما كان هناك من الكتب وضم إليها بعضا آخر من كتب الدير، وكان يجمع الرهبان إليه في ساعات الفراغ ويستحثهم على المطالعة والمفاوضة في المواضيع الدينية، والأدبية، والتاريخية، وأنشأ مدرسة لتعليم شبان بوش الأقباط اللغة العربية بفروعها واللغة القبطية، واعتنى هو في تعلم النحو والصرف فاكتسب منهما ما يكفي لضبط القراءة والكتابة. وبالجملة فقد كان نورا تنبعث منه أشعة الفضيلة، والقدوة الحسنة في سائر مديرية بني سويف، وأجمع أهلها على اختلاف المذاهب على حبه واحترامه ومشاورته في مهامهم.
وحدث في أثناء ذلك خلاف بين الأنبا سلامة مطران الحبشة وإكليرسهم، وسببه أن المطران سلامة لما تولى أسقفية الحبشة رأى الشعب وإكليرسهم هناك على ما هو مخالف لروح الكتاب، واستغرب تساهل أسلافه المطارنة في هذا الأمر وسكوتهم عنه، فأراد ردعهم وإهداءهم إلى الطريق الحق، فغضبوا وأصروا على اعتقادهم بدعوى أنه اعتقاد أجدادهم ولا يريدون الجنوح إلى سواه، فلما يئس من ردعهم بالبراهين الدينية هددهم بالسلطة الكنائسية، فشكوه للبطريرك الأنبا بطرس - المتقدم ذكره - وكان مشهورا بالحلم والوداعة والتقوى، فكتب إلى المطران سلامة يحرضه على معاملة الرعية بالرفق واللين وتجنب كل ما يئول إلى الشقاق، فلما قرأ هذا الكتاب شق عليه ما نسب إليه فيه من القسوة والحدة ولو تلميحا، فكتب إلى البطريرك يبرئ نفسه من تلك التهم، وقد شرح المسألة شرحا وافيا وقال في آخر الكتاب: إن موضوع الخلاف ليس عالميا حتى يتساهل فيه، وطاعة الله أولى من طاعة الناس. فلما تناول البطريرك الكتاب سر لثبات المطران وإخلاصه، وكان يرجو أن تنفرج تلك الأزمة على يده، ثم علم بتفاقم الخطب لتداخل بعض رجال الحكومة هناك ومقاومتهم له، فخاف العاقبة فلم ير بدا من ملافاة الأمر بالحزم، فبعث القسيس داود وأسر إليه حقيقة الواقع، وأظهر له أسفه مما حصل، وأنه يخشى وقوع الانشقاق في الطائفة بسبب ذلك، وأنه لشيخوخته لا يستطيع الذهاب إلى الحبشة بنفسه لتسوية الخلاف؛ ولذلك فإنه لم ير من يليق لهذه المهمة أفضل منه، وعهد إليه بالمسير نائبا عنه لما يعهد فيه من الدراية والحكمة والعزيمة، فأذعن القسيس لأمره، ولكنه طلب إليه أن يصرح لكاهن آخر بمرافقته ليكون له عونا في ذلك، فأذن له فاصطحب راهبا اسمه القس برسوم الراهب (ثم صار الأنبا يوأنس أسقف المنوفية)، فسار القس داود أولا إلى بوش يتأهب للمسير، وفي اليوم المعين سارا بكتاب من البطريرك للمطران وآخر إلى القسوس وسائر الشعب الحبشي، ولما ودعاه، قال البطريرك للقس داود على مسمع من الناس: «إنك إذا أديت هذه المهمة على وجه مرض تنال فيه نصيبا صالحا عند عودتك مكافأة لك.» وقال آخرون: إنه وعده بمنصب مطران عند رجوعه، فسار على بركة الرحمن سنة 1567 قبطية 1851م وقد أحسن بمرافقة الأنبا يوأنس؛ لأنه جدير بثقته وأهل لمثل ذلك المسعى الخيري.
وفي يوم 28 برمهات سنة 1568 الموافق 1852م توفي البطريرك إلى رحمة الله في أثناء غياب القس داود بعد أن أقام في كرسي الكرازة المرقسية نيفا وأربعين عاما، وكان رجلا كاملا أسف الناس على فقده.
وبعد وفاته بقليل جاء العاصمة أساقفة الوجه البحري والوجه القبلي لكي يتحدوا مع الشعب في انتخاب من يقوم مقامه، وفي اجتماعهم الأول في دار البطريركية كان اسم القس داود في جملة المرشحين لذلك المنصب، فاعترض بعضهم على انتخابه؛ لأنهم لا يعلمون من أمر حياته شيئا بدعوى أنهم سمعوا بخروجه من بلاد الحبشة منذ مدة ولم يعودوا يعلمون ما كان من أمره، وألحوا في انتخاب سواه فارفضت هذه الجلسة ولم يتم الانتخاب، ومن غريب الاتفاق أنه قبل حلول ميقات الجلسة الثانية ورد من القس داود كتاب لبعض أصدقائه ينبئه بوصوله حدود مصر، وأنه سيكون في القاهرة بعد قليل فسر منتخبوه بذلك، فلما التأمت الجلسة صرحوا بكتابه وطلبوا انتخابه، فطلب بعضهم انتخاب الأنبا يوساب أسقف أخميم إذ ذاك وأوقفه جماعة من الحضور، فاعترض منتخبو القس داود على ذلك، وارفضت الجلسة بلا نتيجة، فأخذ حزب القس داود في كتابة تزكية باسمه وقع عليها كثير من أبناء الطائفة؛ لكي يكون شاهدا لرضاء الجمهور عن انتخابه، وكان في جملة أحزابه تادرس شلبي وتادرس عريان وبرسوم واصف وحنا عبيد ويوسف نصر الله وحنين حنس وأخوه أسطفانوس حنس ورفائيل الطوخي وحنا القسيس وبطرس نخلة وإبراهيم لطف الله ويوسف مفتاح وتادرس سيدهم، وجميعهم من أعيان الطائفة ووجهائها، وكان من أشد الناس اهتماما في ذلك حنا أفندي جريس وإبراهيم أفندي خليل.
وبقي النزاع مدة وصل في أثنائها القس داود إلى القاهرة فسرت أحزابه وتقاطروا للسلام عليه، وكانت مدة غيابه هذه المرة نحو ثمانية عشر شهرا.
فلما رأت أحزاب أسقف أخميم ميل الجمهور إلى انتخاب القس داود عولوا على تنفيذ مآربهم بالحيلة، بأن يجتمعوا ذات ليلة ويسيموا الأسقف بطريركا، فإذا أصبح الناس رأوا السهم قد نفذ، وادعى بعض الراغبين في ذلك أنه تحصل على أمر شفاهي من المغفور له عباس باشا الأول برسم الأسقف بطريركا، ولكنهم لم يستطيعوا كتم تواطئهم، فعلمت أحزاب القس بذلك فجاءوهم في الوقت الذي عينوه لذلك، وأخرجوهم من الكنيسة بالقوة وأقفلوا الأبواب وسلموا المفتاح لرجل حبشي اسمه سلطان كان في البطريركية مع جماعة من أبناء وطنه، وكان يدعي أنه من عائلة النجاشي ملك الحبشة، ثم اجتمعوا وعرضوا للحكومة يشكون سوء تصرف بعض الأساقفة في هذا الأمر، وألحوا في انتخاب القسيس لرضاء الشعب عنه بشهادة التزكية التي كتبوها عنه، فأحالت الحكومة تسوية الأمر على الأنبا كبريل ورتبيت الأرمن إذ ذاك، فأخفق سعيه لتمسك كل من الفريقين برأيه وغرضه، ومن الغريب أن تلك المقاومة لم يكن لها أساس حقيقي سوى حب السيادة ونفوذ الكلمة؛ غير أن حزب القس داود كانوا على بينة مما دعوا إليه لأنهم كانوا يعلمون صفات ذلك الرجل، وأنه لائق بذلك المنصب لما عرف به من شدة الميل إلى إصلاح الطائفة، وسعة اطلاعه وحسن درايته، وأما المتشيعون لغيره فكانوا يظنون أنه يكفي لرئيس الطائفة والقابض على أزمتها أن يكون حسن السيرة ورعا تقيا وقد يلتمس لهم في ذلك بعض العذر لأنهم لم يكونوا يعرفون للبطريرك عملا غير الصلاة، والفصل في بعض القضايا الجزئية كتأييد الصلح بين رجل وامرأته أو ما شاكل، أما مصلحة الأمة العمومية فلم يكونوا يفقهون لها معنى.
ولما خابت مساعيهم جعلوا يختلقون على القس داود أقاويل وأراجيف لا أصل لها، فادعى عليه بعضهم أنه تزوج في الحبشة وله ولدان في قيد الحياة، وكان المختلق لهذه الأكذوبة قسيسا حبشيا جاء مصر لضغينة بينه وبين القس داود بسبب ما ذهب القس إلى الحبشة من أجله، وكان في عزم ذلك الحبشي أن يشي به إلى البطريرك، فلما رأى البطريرك قد توفي والشعب قائما على القس داود اختلق عليه تلك الأكذوبة واتهمه بالمداخلة في أمور السياسة في الحبشة مما يشبه خيانة الحكومة المصرية، ولكن حبل الكذب قصير، فما لبثت هذه التقولات زمنا حتى ظهر فسادها ظهور الشمس لذي عينين، وكان عباس باشا قد تغير عليه بسبب ما نسب إليه من المداخلات السياسية فلما تحقق الخبر اعتقد صدق طويته.
وما زال الخلاف والنزاع قائما بهذا الشأن نحو عشرة أشهر انتهت بواسطة وتربيت الأرمن بتعيين القس داود مطرانا على مصر ثم إذا اتضح من أعماله أنه لائق بالبطريركية تقلدها فتنصب مطرانا في 10 برمودة سنة 1569 قبطية 1853م وأخذ من ذلك الحين في مباشرة أعماله وإدارة البطرخانة، وأظهر من الأهلية والهمة والغيرة ما استدر الثناء عليه من القاصي والداني، وأول أمر باشره بعد رسمه مطرانا بناء مدرسة للأقباط بجوار البطرخانة، وهي أول مدرسة أقيمت لهذه الطائفة، فاشترى عدة منازل، وأقام على أنقاضها مدرسة ذاع صيتها وفاح أريجها في سائر الديار المصرية وغيرها.
وكان بناء هذه المدرسة ونجاحها من موجبات إجماع الجميع على محبته حتى انتخبوه بطريركا في ليلة الأحد 11 بئونة سنة 1570 قبطية الموافق 1854م بحضور جميع الأساقفة ما عدا أسقفي أخميم وأبي تيج، ولقبوه أنبا كيرلس الرابع.
فلما أصبح مستقلا في عمله شرع في إخراج مقاصده من حيز الفكر إلى الفعل فأتم بناء المدرسة، وأحضر لها الأساتذة الماهرين، وكان يقبل التلامذة فيها ويصف لهم الكتب والأدوات المدرسية مجانا، وكان يباشر التعليم بنفسه، فلا يمر عليه يوم لا يتفقد فيه حالتها مرة أو غير مرة ، ولزيادة الاعتناء بها اتخذ له محلا فيها، فإذا أتى إليه زائر من الأجانب أو غيره من ذوي المعرفة باللغات والعلوم وطرق التعليم كلفه بزيارة المكاتب، وفحص التلامذة، وإبداء ملاحظته فيما يعود إلى تحسين حالتها وتسهيل طرق التعليم فيها. وكثيرا ما كان يطيل الإقامة في المكتب مصغيا لما يلقيه الأستاذ على الطلبة، ثم يقول مخاطبا التلامذة قبل خروجه: «قد استفدت معكم اليوم فائدة لم أكن أعرفها قبلا.» وكان أحيانا يلقي على التلامذة عبارات أدبية وتاريخية مما يناسب سنهم وإدراكهم، وقد جعل تعليم اللغة القبطية جبريا، وكان يلاحظ سير دروسها بنفسه.
ولما رتب مدرسة الأزبكية وارتاح باله من جهتها ورأى أن بعض الطلبة يأتون إليها من جهات بعيدة مثل حارة السقايين أشفق عليهم وأنشأ مدرسة وكنيسة هناك، ولم يكن بها من قبل كنيسة، وناط المرحوم حنا أفندي القسيس بملاحظتها وتقديم ما يلزم لها من المعدات والأدوات، وكان حنا أفندي هذا من أفاضل القوم الغيورين، ولم يكتف جناب البطريرك بذلك، بل كان يزورها ويفحص حالتها مرة في كل أسبوعين على الأقل، هذا فضلا عن تكليفه معلمها الأول بتعريفه عن حالتها وكيفية سيرها أول فأول.
ولكن مع كل التسهيلات التي أجراها رحمه الله وعدم تكليف الوالدين شيئا لم يزد عدد التلامذة في أيامه بمدرسة الأزبكية على مائة وخمسين تلميذا مع أنه لم يكن بمصر واسطة لتعليم أبناء الأمة القبطية غير هذه المدرسة، وكثيرا ما كان يحمل الوالدين على إحضار أولادهم إلى المدرسة جبرا، ولكنهم مع ذلك كانوا يفضلون وجود أولادهم بمكاتب العرفان القذرة الرديئة الهواء، وكان معظم هؤلاء التلامذة من أبناء وجهاء القوم ومعتبريهم؛ ولذا كان يعاملهم أحسن معاملة ويحث الأساتذة على تربيتهم التربية الحسنة، وبذل الجهد في توسيع عقولهم وتثقيف أذهانهم بالنصائح الأدبية والروايات الحكمية كما كان يفعل هو بنفسه في أكثر الأحيان.
وعهد إلى أحد قسوس كنيسة الأزبكية المسمى القمس تكلا المشهود له بإتقان فن الموسيقى والألحان الكنائسية أن ينتخب من بين تلامذة المدرسة الشمامسة عددا معلوما من ذوي الأصوات الحسنة، وناطه بتعليمهم التراتيل الكنائسية بطريقة مضبوطة، وجعل لهم ملابس مخصوصة على طراز جديد لطيف يلبسونها في أثناء وجودهم في الكنيسة في أيام الآحاد والأعياد والمواسم، فنتج عن هذا التحسين الظاهري فائدتان: إحداهما إظهار مزايا المدارس وترغيب الأهالي في وضع أولادهم بها، والثانية مواظبتهم على الحضور إلى الكنيسة وهم منشرحو الصدر من سماع التراتيل. وهاك ما قاله إبراهيم أفندي الطبيب في كتابه المسمى «مصباح الساري ونزهة القاري» المطبوع في بيروت سنة 1273ه في أثناء كلامه عن مصر ومدارسها، قال:
وفي حارة الأقباط مدرسة عظيمة يعلمون فيها اللسان القبطي القديم والتركي والإيطالي والفرنساوي والإنكليزي والعربي، وهم يقبلون فيها من جميع الطوائف، وينفقون على التلاميذ من مال المدرسة، وهذه بناها البطريرك كيرلس القبطي وأنفق عليها نحو ستمائة ألف قرش، وكل هذا بخلاف ما نعهده في بلادنا من الإكليرس وأوجه الشعب.
ولم يمض زمن حتى خرج من هاتين المدرستين عدة تلامذة، واتفق حدوث مصلحة السكة الحديدية بالديار المصرية فانتظموا في خدمتها وانتشروا في جميع محطاتها، وكانوا يؤدون أعمالهم باللغة الإنكليزية وبعضهم استخدم في البنوكة وعند التجار لمعرفتهم اللغة الطليانية، وقد عرف جناب إسماعيل باشا الخديوي الأسبق مقدار هذه الخدمة الوطنية فاستدعى إليه الأنبا ديمتريوس البطريرك خلف السعيد الذكر الأنبا كيرلس، وأظهر ارتياحه للخدمة الوطنية التي قامت بها المدارس القبطية؛ لأن معظم مستخدمي السكة الحديد المصرية من تلامذتها، وأنعم عليه بألف وخمسمائة فدان ليتساعد بإيراداتها على توسيع نطاق المدارس، ورتب لها أيضا مائتي جنيه مصري سنويا، ولكن هذه منعت عنها فيما بعد بسبب عسر المالية واضطرار الحكومة للاقتصاد.
ووجه نظره إلى تحسين حالة إدارة البطركخانة، فأنشأ لها ديوانا وعين له المستخدمين الأكفاء، وقسم الإدارة إلى قسمين: قسم يختص بالأوقاف والمكاتبات الرسمية وغيرها، وقسم يختص بالأعمال الدينية والشرعية، وخص إبراهيم أفندي خليل بالقسم الأول، وأحد القسوس ومطران مصر بالقسم الثاني، وكلاهما تحت ملاحظاته الشخصية، ورأى أن أعمال الأوقاف جارية بطريقة غير منتظمة، وكان بعضها ضائعا ولم يعرف الضائع منها والموجود، فأمر بإنشاء سجل لحصر جميع الأوقاف به من واقع الحجج، واستخدم لهذا العمل عمالا اشتغلوا به زمنا حتى أتموه على الوجه الذي كان يريده، وأنشأ أيضا مطبعة وبعث يستحضر أدواتها من أوروبا على يد المرحوم الخواجا رفلة عبيد السوري الأرثوذكسي، وقبل إحضارها اختار من أبناء الأمة القبطية أربعة من شبانها النجباء، ورتب لهم رواتب شهرية وملابس سنوية تصرف لهم في أوقاتها من الدار البطركية، وتحصل على أمر من المرحوم سعيد باشا بقبولهم في مطبعة بولاق الأميرية ليعلموا صناعة الطباعة إذ لم يكن في القطر المصري إذ ذاك مطبعة غيرها.
ومما يدلك على شدة احترامه للعلم ورغبته في نشره وتنشيطه أنه لما أنبأه الخواجا رفلة عبيد - المتقدم ذكره - بوصول أدوات المطبعة إلى الإسكندرية، وكان البطريرك في الدير بالجبل بعث إلى وكيل البطركخانة بمصر يأمره باستقبال تلك الأدوات عند وصولها القاهرة باحتفال رسمي يقوم فيه الشمامسة بالملابس الرسمية المختصة بالخدمة الكنائسية يرتلون التراتيل الروحية، وكان لاستقبال تلك المطبعة احتفال تحدث الناس به زمنا لغرابته، غير أن التقادير لم تفسح له بالأجل حتى يتم المعدات ويباشر العمل بنفسه، فتولى أمرها بعده المرحوم رزق بك جرجس وطبع فيها عدة كتب دينية وأدبية، ثم صارت المطبعة تحت يد أخيه الخواجه إبراهيم جرجس وعرفت بمطبعة الوطن.
وفي أواخر شهر مسرى سنة 1572 قبطية 1856م بعثه المغفور له سعيد باشا بمهمة سياسية إلى الحبشة فذهب وقلبه عالق بالمدارس، فأوصى المرحوم المعلم برسوم واصف بإدارة البطركخانة والمدارس، وطالت مدة غيابه في الحبشة فقلق الناس خوفا عليه، ثم سمعوا أنه قام من جهة الخرطوم مع اثنين من خاصة ثيودور ملك الحبشة، فاطمأن الناس واستبشروا بنجاح مهمته، وفي 7 أمشير سنة 1574 وصل القاهرة فاستقبلوه باحتفال يليق به حتى غصت الشوارع بالناس، ولا سيما جهات الأزبكية، وما وصل البطركخانة حتى تهافت الناس عليه يقبلون يديه ويتبركون به، وأعدوا له زينة فاخرة في المدرسة والبطركخانة، ولما انتهت الزينة عاد هو إلى مباشرة أعماله في بناء الكنيسة واحتفل بتأسيسها احتفالا عظيما جدا، حضره جميع رؤساء الطوائف وأعيان البلاد ورجال الحكومة يوم الخميس 29 برمودة سنة 1575 (22 أفريل (نيسان) سنة 1859).
وفي ليلة الأربعاء 23 طوبة سنة 1577 قبطية 1851م توفي إلى رحمة الله، وحزن لفقده كل من عرفه أو سمع عنه، ولا سيما الطائفة القبطية لأنها خسرت بفقده خسارة جسيمة جدا، وكانت مدة توليه البطريركية سبع سنوات.
وكان البطريرك كرلس الرابع طويل القامة، ممتلئ الجسم، قوي البنية، صحيح الأعضاء، أسمر اللون، حاد النظر والذهن، كبير الرأس عريض الجبهة، كثيف اللحية أسودها، طلق الوجه واللسان، سريع الإقدام على ما ينويه، كثير الأمثال في حديثه، فقلما يلقي عبارة لا يسندها إلى مثل، وكان عالي الهمة، وديعا فطنا، سديد الرأي، قريب الرضا سريع العفو، لا يشرب الخمر، كثير الاحترام للرهبنة، محافظا على أصولها، وكان شديد الكره لمقابلة النساء وجمع المال، لا يحب الاستبداد في رأيه ولو كان مصيبا، وكان كلفا بمخالطة العلماء ومجالسة الفضلاء ومكالمتهم ومناظرتهم، ولم يكن يستنكف من الإقرار بغلطه إذا اتضح له. ومن أفضل ما اتصف به رحمه الله حبه لرعيته، وسهره على مصلحتهم، ورفع كل ما يوجب النفرة بينهم، والسعي في كل ما فيه تهذيب الشبان بإنشاء المدارس وتسهيل طرق التعليم.
ومن أعماله الحميدة أن القسس كانوا قبل زمانه يعيشون على حسنات الطائفة وصدقاتها، فرتب هو لهم رواتب شهرية تصرف لهم من البطركخانة، ورغبة في رفعة منزلتهم وحفظ مقاماتهم أصدر منشورا يقضي بأن الراتب لا يصرف إلا لمن يعرف خدمة القداس باللغة القبطية معرفة جيدة.
وعند عودته من الحبشة رتب للقسس ميقاتا يجتمعون فيه كل سبت في المدرسة يتباحثون في أمور دينية، وكان هو يحضر معهم يناقشهم ويشرح لهم واجبات القسوس وآدابهم وما يكسبهم مقاما رفيعا بين الناس، وكان في نيته أن يعقب ذلك بتأسيس مدرسة إكليريكية فلم تمهله منيته، وفتح في آخر أيامه مدارس للبنات ولكنها لم تثبت.
وكان كثير التيقظ لإصلاح ما يقع من النفور بين أولاده أو بين الرجال ونسائهم، على أنه كان يكره مواجهة النساء حتى إنه لم يكن يقابل والدته إلا نادرا.
وكانت العادة في الزيجة أن يعقد القسيس بين الشاب والشابة عقدا يدعونه «عقد تمليك» قبل الإكليل بمدة، غير أن هذا العقد لا يقبل الحل أو هو بمنزلة عقد الزيجة، فأصدر البطريرك منشورا بجعل ذلك العقد «عقد صلح وسلام»، حتى إذا عرض لأحد الطرفين ما يمنع إتمام الاقتران يمكن حله، وهذا لا يزال جاريا في الطائفة إلى الآن، وكانت العادة أن يزوجوا البنات صغيرات جدا فأمر أن لا يتم عقد الزواج على الفتاة إلا إذا تجاوزت الأربع عشرة سنة من العمر، وجعل الاعتراف قبل الإكليل فرضا واجبا على العروسين؛ حتى لا يحصل ما يكره أحد الفريقين بسبب ما كان من التحجب بين الرجال والنساء في تلك الأيام، وأمر أن لا يعقد القسس إكليلا إلا بعد استئذان البطركخانة حتى يسجل ذلك في دفاترها، والبطركخانة لا تؤذن بالإكليل إلا بعد الاطلاع على محضر الاتفاق بحيث لا يكون ما يمنع الاقتران.
ولشدة رغبته في تعليم أبناء طائفته ورفعة منزلتهم استأذن المغفور له سعيد باشا أن يدخل تلامذة مدرسته في مدرسة الطب وغيرها من المدارس الأميرية بصفة رسمية.
وخلاصة القول أنه كان قدوة البطاركة، وعنوان رجال الفضل، ولو أمهلته المنية بضع سنين أخرى لجاء من الأعمال العظيمة بأضعاف ما جاءه، ولكنها عاجلته فلم يتول كرسي الكرازة المرقسية إلا سبع سنين، عمل في أثنائها أعمالا لا يعملها غيره بأضعاف تلك المدة.
الفصل السابع والثلاثون
الشيخ محمد عبده
(1) ترجمة حياته (1-1) نشأته الأولى
نشأ الفقيد في قرية صغيرة (محلة نصر) من أبوين فقيرين، فلم يمنعه ذلك من الارتقاء بجده واستعداده حتى بلغ منصب الإفتاء وأصبح علما في الشرق وقطبا من أقطاب الدهر سينقش اسمه على صفحات الأيام، ويبقى ذكره ما بقي الإسلام.
شكل 37-1: الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية(ولد سنة 1258 وتوفي سنة 1323ه/1905م).
ولد عام 1258ه وأبوه يتعاطى الفلاحة، وقد أدخل فيها أولاده إلا محمدا؛ لأنه توسم فيه الذكاء فأراد أن يجعله من الفقهاء، فأدخله كتاب القرية تردد إليه حينا، ثم أرسله إلى الجامع الأحمدي في طنطا أقام فيه ثلاث سنوات، ثم نقله إلى الجامع الأزهر فقضى فيه عامين لم يستفد فيهما شيئا، وهو ينسب ذلك بالأكثر إلى فساد طريقة التعليم.
ثم انتبه لنفسه ولم ير بدا من تلقي العلم، فاستنبط لنفسه أسلوبا في المطالعة، وأعمل فكرته في تفهم ما يقرؤه، فاستلذ العلم واستغرق في طلبه فأحرز منه جانبا كبيرا على ما يستطاع إدراكه بتلك الطريقة.
واتفق أن ورد على مصر سنة 1288ه/1871م السيد جمال الدين الأفغاني فيلسوف الإسلام، وصاحب الترجمة لا يزال في الأزهر وقد أدرك الثلاثين من عمره، وتولى جمال الدين تعليم المنطق والفلسفة فانخرط الفقيد في سلك تلامذته مع جماعة من نوابغ المصريين تخرجوا على جمال الدين، فخرجوا لا يشق لهم غبار كأن الرجل نفخ فيهم من روحه، ففتحوا أعينهم وإذا هم في ظلمة وقد جاءهم النور، فاقتبسوا منه - فضلا عن العلم والفلسفة - روحا حية أرتهم حالهم كما هي؛ إذ تمزقت عن عقولهم حجب الأوهام فنشطوا للعمل في الكتابة، فأنشئوا الفصول الأدبية والحكمية والدينية، وكان صاحب الترجمة ألصق الجميع به، وأقربهم إلى طبعه، وأقدرهم على مباراته، فلما قضي على جمال الدين بالإبعاد من هذه الديار، قال يوم وداعه لبعض خاصته: «قد تركت لكم الشيخ محمد عبده، وكفي به لمصر عالما.»
شكل 37-2: جمال الدين الأفغاني.
وتقلب الفقيد في بعض المناصب العلمية بين تدريس في المدارس الأميرية، وتحرير في الوقائع المصرية، وكتابة في الدوائر الرسمية. حتى كانت الحوادث العرابية فحمله أصحابها على السير معهم وهو ينصح لهم أن لا يفعلوا وينذرهم بسوء العاقبة. ولما استفحل أمر العرابيين اختلط الحابل بالنابل، وسيق الناس بتيار الثورة وهم لا يعلمون مصيرهم، فدخل الإنكليز مصر والشيخ محمد عبده في جملة الذين قبض عليهم وحوكموا، فحكم عليه بالنفي؛ لأنه أفتى بعزل توفيق باشا الخديوي السابق، فاختار الإقامة في سوريا فرحب به السوريون، وأعجبوا بعلمه وفضله، فأقام هناك ست سنوات، فاغتنموا إقامته بينهم، وعهدوا إليه بالتدريس في بعض مدارسهم.
وانتقل من سوريا إلى باريس فالتقى فيها بأستاذه وصديقه جمال الدين، وكانا قد تواعدا على اللقاء هناك، فأنشآ جريدة العروة الوثقى وكتابتها منوطة بالشيخ، فكانت لها رنة شديدة في العالم الإسلامي، ولكنها لم تعش طويلا، وتمكن الشيخ في أثناء إقامته بباريس من الاطلاع على أحوال التمدن الحديث، وقرأ اللغة الفرنساوية على نفسه حتى أصبح قادرا على المطالعة فيها، ثم سعى بعضهم في إصدار العفو عنه فعاد إلى مصر، فولاه الخديوي السابق القضاء، وظهرت مناقبه ومواهبه فعين مستشارا في محكمة الاستئناف، وسمي عضوا في مجلس إدارة الأزهر، وعين أخيرا مفتيا للديار المصرية سنة 1317ه وما زال في هذا المنصب حتى توفاه الله في 11 يوليو 1905 ولم يعقب ذكرا يبقي به اسمه، ولكنه خلف آثارا يخلد بها ذكره. (2) مناقبه وأعماله
كان ربع القامة، أسمر اللون، قوي البنية، حاد النظر، فصيح اللسان، قوي العارضة، متوقد الفؤاد، بليغ العبارة، حاضر الذهن، سريع الخاطر، قوي الحافظة، وقد ساعده على إحراز ما أحرزه من العلوم الكثيرة الدينية والعقلية والفلسفية والمنطقية والطبيعية، وتلقى اللغة الفرنساوية وهو في حدود الكهولة في بضعة أشهر، وكان شديد الغيرة على وطنه حريصا على رفع شأن ملته، وذاع ذلك عنه في العالم الإسلامي، فكاتبه المسلمون من أربعة أقطار المسكونة يستفتونه ويستفيدون من علمه، وهو لا يرد طالبا ولا يقصر في واجب.
ناهيك بما عهد إليه من المشروعات الوطنية، فقد كان القوم لا يقدمون على عمل كبير إلا رأسوه عليه أو استشاروه فيه، فرأس الجمعية الخيرية الإسلامية، وألف شركة طبع الكتب العربية، وشارك مجلس شورى القوانين في مباحثه، وآخر ما عهد إليه تنظيم مدرسة يتخرج فيها قضاة الشريعة ومحاموها، فضلا عما اشتغل فيه من التأليف والتصنيف، وما كان يستشار فيه من الأمور الهامة في القضاء أو الإدارة بالمصالح العامة والخاصة، وبالجملة فقد كان كنز فوائد للقريب والبعيد بين إفتاء ومشورة، وإحسان وكتابة، ومداولة ووعظ، وخطابة ومباحثة، ومناظرة واستنهاض، وتحريض وتنشيط، وغير ذلك. (3) إصلاح الإسلام
على أن عظمته الحقيقية لا تتوقف على ما تقدم من أعماله الخيرية أو العلمية أو القضائية، وإنما هي تقوم بمشروعه الإصلاحي الذي لا يتصدى لمثله إلا أفراد لا يقوم منهم في الأمة الواحدة مهما طال عمرها إلا بضعة قليلة ، وهذا ما أردنا بسطه على الخصوص في هذه العجالة. (3-1) العظمة الحقيقية
تختلف العظمة شكلا وأثرا باختلاف السبيل الذي يسعى صاحبها فيه أو الغرض الذي يرمي إليه، فمنهم العظيم في السياسة أو الحرب أو العلم أو الدين، ومن العظماء من يوفق إلى إتمام عمله، ومنهم من يرجع بصفقة الخاسر من نصف الطريق أو ربعه أو عشره، على أن أكثر العظماء إنما يأتون العظائم لمجرد الرغبة في الشهرة الواسعة، ويغلب أن يكون ذلك في رجال الحرب، وهؤلاء تنحصر ثمار أعمالهم في أنفسهم أو أهلهم أو أمتهم، على أنهم لا يستطيعون نفعا لأنفسهم إلا بضر الآخرين، اعتبر ذلك في سير كبار الفاتحين كالإسكندر وبونابرت وغيرهما، فكم سفكوا في سبيل عظمتهم من الدماء أو ارتكبوا من المحرمات، وكان النفع عائدا على أنفسهم أو أمتهم ولم يطل مكثه فيهم إلا قليلا.
وأما رجال العلم فعظمتهم تقوم بما ينيرون به الأذهان من الأصول العلمية، أو يكتشفونه من أسباب الأمراض والوقاية منها، أو يضعونه من النظامات والقوانين أو غير ذلك، ونفعهم يشمل القريب والبعيد، الرفيع والوضيع، ولا يسفكون في سبيل نشره دما ولا يرتكبون محرما، وهو باق ما بقي الإنسان وينمو بنمو المدنية.
وأما رجال الدين ومن جرى مجراهم من واضعي الشرائع والأحكام فتأثيرهم أوسع دائرة وأعم شمولا؛ لأنه يتناول البشر على اختلاف طبقاتهم وأجناسهم، رجالا ونساء، كبارا وصغارا، وعليهم يتوقف نظام الاجتماع وآدابه وأخلاق الناس وعاداتهم وعلائقهم بعضهم ببعض، وعلماء الدين فئتان:
الفئة الأولى:
واضعوا الشرائع كالأنبياء أو من في معناهم ممن ينسبون أعمالهم إلى ما وراء الطبيعة.
والفئة الثانية:
المصلحون الذين يصلحون الدين بعد فساده؛ لأن الدين إذا مر عليه بضعة قرون فسد وتغير شكله وانقلب وضعه تبعا لمطامع الذين يتولون شئونه، فتفسد الأمة وينحط شأنها حتى يقوم من يصلحه ويعيده إلى رونقه.
ووضع الأديان عمل شاق قل من يفوز به، والإصلاح الديني لا يقل مشقة عنه، وربما كان إدخال دين جديد أيسر من إصلاح دين قديم؛ فالديانة المسيحية لم تكلف البشر في قيامها من الدماء أكثر مما كلفتهم في إصلاحها، على أن ما يضيعه رجال الدين في نشره من الدماء، يعوضونه بسرعة انتشاره؛ اعتبر ذلك في الفرق بين النصرانية والإسلام في قيامهما، ويقال نحو ذلك في الإصلاح؛ فقد طلبه وسعى فيه غير واحد من رجال النصرانية، فلم يتفق منهم إلى إصلاح كبير غير لوثير؛ لأن أهل السياسة نصروه، ولا بد من استعداد الأذهان لقبول الإصلاح وتهيئة الأسباب الأخرى، فكم نهض من المصلحين بالسيف فغلبوا على أمورهم وذهب سعيهم عبثا، وأقربهم عهدا منا صاحب مذهب الوهابية في نجد؛ فقد استفحل أمره في أوائل القرن الماضي، وأراد في الإسلام نحو ما أراده لوثير في النصرانية فلم يوفق إلى غرضه؛ لأن الجنود المصرية غلبته وفلت عزيمته. أما المصلحون بالموعظة الحسنة والتعليم فعملهم بطيء، ولكنه أرسخ في الأذهان، وأصبر على كوارث الحدثان، والشيخ محمد عبده واحد منهم. (3-2) هو وجمال الدين
نشأ الشيخ المفتي نير البصيرة، حر الضمير، وربي في الإسلام وتعلم علومه، فشب غيورا عليه، ثم اطلع على علوم الأمم الراقية من أهل هذا التمدن، ودرس تاريخ الاجتماع ونواميس العمران، فرأى الإسلام في حاجة إلى نهضة ترفع شأنه وتجمع كلمته، واتفق اجتماعه بالسيد جمال الدين الأفغاني، فأخذ عنه الفلسفة والمنطق والحكمة المشرقية، وكان جمال الدين غيورا على الإسلام راغبا في جمع كلمته ورفع شأنه، فتوافقا في الغاية، ولكنهما اختلفا في الوسيلة؛ لأن جمال الدين سعى في ذلك من طريق السياسة، فأراد جمع شتات المسلمين في أربعة أقطار العالم تحت ظل دولة إسلامية واحدة، وقد بذل في هذا المسعى جهده، وانقطع عن العالم من أجله فلم يتخذ زوجة ولا التمس كسبا، وإنما جعل همه السعي إلى تلك الغاية فلم يوفق إلى غرضه لأسباب عمرانية طبيعية لا محل لذكرها. وكان الشيخ محمد عبده رفيقه في كثير من مساعيه، واطلع على دخائل أموره، وعرف أسباب حبوطه، فعلم أن جمع كلمة المسلمين ورفع شأنهم من طريق السياسة لا يتيسر الوصول إليه، فسعى فيه من طريق العلم، فجعل همه رفع منار الإسلام، وجمع كلمة المسلمين بالتعليم والتهذيب وتقريبهم من أسباب المدنية الحديثة؛ ليستطيعوا مجاراة الأمم الراقية في هذا العصر، ورأى ذلك لا يتأتى إلا بتنقية الدين مما اعتوره من الشوائب التي طرأت عليه بتوالي العصور وتغلب الدول واختلاف أغراض أصحابها وأئمتها، كما أصاب النصرانية في القرون المتوسطة؛ إذ تمسك الناس بالعرض وتركوا الجوهر، واستغرقوا في الأوهام ونبذوا الحقائق، والسبيل الوحيد لمغالبة الأوهام والخرافات إنما هو العلم الصحيح على ما بلغ إليه في هذا العهد، وعلم الفقيد رحمه الله أن محور العلوم الإسلامية اليوم مصر، ومركز العلم بمصر أو في العالم الإسلامي كافة «الجامع الأزهر» فرأى أنه إذا أصلح الأزهر فقد أصلح الإسلام، فسعى جهده في ذلك فاعترضه أناس من أهل المراتب يفضلون بقاء القديم على قدمه، واستنصروا العامة عليه، وغرسوا في أذهانهم أن المفتي ذاهب بالمسلمين إلى مهاوي الضلال والبدع، فلم يهمه قولهم؛ لعلمه أن ذلك نصيب أمثاله من قديم الزمان، على أنه لم ينجح في إصلاح الأزهر إلا قليلا، ولكنه وضع الأساس، ولا بد من رجوع الأمة إلى تأييد هذه النهضة ولو بعد حين، فيكون الفضل له في تأسيسها.
على أن الجانب الأعظم من علماء المسلمين وخاصتهم يرون رأيه في إصلاح الدين ورجاله، وبما سبقه كثيرون منهم إلى الشعور بحاجة الإسلام إلى ذلك، ولا سيما المتخرجين بالعلوم العصرية من الناشئة المصرية، ولكنهم لم يجسروا على التصريح بأفكارهم في غير المجتمعات الخصوصية؛ لئلا ينسبهم الناس إلى المروق من الدين، فلما جاهر محمد عبده برأيه، وافقوه وصاروا من مريديه، ونصروه بألسنتهم وأقلامهم؛ فحاجة الإسلام إلى الإصلاح ليس هو أول من انتبه إليها، ولكنه أول من جاهر بها، كما أن لوثير المصلح المسيحي ليس أول من انتبه لحاجة النصرانية إلى الإصلاح، ولكنه أول من جاهد في سبيلها، وقد فاز بجهاده لقيام السياسة بنصرته. وأما مصلح الإسلام فكانت السياسة ضده، وإنما حمله على تلك المجاهرة حرية ضميره، وجسارته الأدبية، ومنصبه الرفيع في الإفتاء. (3-3) الإسلام والمدنية
فلما صرح الشيخ محمد عبده بحاجة الإسلام إلى الإصلاح، انقسم المسلمون إلى فئتين: فئة ترى بقاء القديم على قدمه، وهم حزب المحافظين، وفئة ترى حل القيود القديمة وإطلاق حرية الفكر، والرجوع إلى الصحيح من قواعد الدين، ونبذ ما خالطه من الاعتقادات الدخيلة، وكان رحمه الله زعيم هذه الفئة يناضل عن مبادئها بلسانه وقلمه وبكل جارحة من جوارحه، وكانت مساعيه من هذا القبيل ترمي إلى غرضين رئيسيين: الأول تنقية الدين الإسلامي من الشوائب التي طرأت عليه، والثاني تقريب المسلمين من أهل التمدن الحديث ليستفيدوا من ثمار مدنيته علميا وصناعيا وتجاريا وسياسيا، فأهل العصبية الإسلامية يرون هذا التقريب مغايرا لما يرجونه من استقلال المسلمين بالجامعة السياسية؛ لأن مجاراة أهل التمدن الحديث بأسباب مدنيتهم وتسهيل الاختلاط بهم يضعف عصبية الإسلام على زعمهم، ويبعث على تشتيت عناصره فيستحيل جمعها في ظل دولة واحدة . ولكن الشيخ المفتي كان يرى ذلك الاجتماع السياسي مستحيلا في هذه الحال، فلم يشأ أن يضيع وقته سدى كما أضاعه أستاذه وصديقه جمال الدين، وأن يخسر فائدة تقرب المسلمين من أسباب هذا التمدن، فسعى في ذلك بما نشره من فتاويه المتعلقة بالربا، والموقوذة، ولبس القبعة، ونحو ذلك مما يقرب المسلمين من الأمم الأخرى ويسهل أسباب التجارة. (3-4) تنقية الدين
وأما تنقية الدين الإسلامي من الشوائب الطارئة عليه فأساس سعيه فيها أنه أطلق فكرة الحرية في تفسير القرآن، ولم يتقيد بما قاله القدماء أو وضعوه من القواعد التي يحرم الأئمة تبديل شيء منها، فرأى أن يحل نفسه من هذه القيود، ويفسر القرآن على ما يوافق روح هذا العصر، فيجعل أقواله وآراءه فيه موافقة لقواعد العلم الصحيح المبني على المشاهدة والاختبار، ولنواميس العمران على ما بلغ إليه هذا العلم إلى الآن مع مطابقته لأحكام العقل وأصول الدين، كما فعل النصارى في تفسير الكتاب المقدس بعد ثبوت مذاهب العلم الجديد، وهو أوعر مسلكا في الإسلام لارتباط الدين بالسياسة فيه، والقرآن أساس الدين والدنيا عندهم فيعلقون على تفسيره أهمية كبرى؛ لأنه مرجع الفقه وغيره من الأحكام الشرعية والسياسية؛ ولذلك رأى أهل السنة تقييده بأقوال الأئمة الأربعة، وخالفهم الشيعة باستبقاء باب الاجتهاد مفتوحا، فلا يرون بأسا في العدول عن تفسير إلى آخر بشروط يشترطونها في مفسريهم، وهم يعرفون عندهم بالأئمة المجتهدين. (3-5) التفسير
وقد توالى على تفسير القرآن أحوال تختلف باختلاف العصور من الإسلام إلى الآن ترجع إلى أربعة أعصر:
الأول العصر الشفاهي:
وهو ينحصر في أيام النبي وأصحابه، فقد كانوا عند ظهور الدعوة كلما تليت عليهم سورة أو آية فهموها وأدركوا معانيها بمفرداتها وتراكيبها؛ لأنها بلسانهم وعلى أساليب بلاغتهم، ولأن أكثرها قيلت في أحوال كانت القرائن تسهل فهمها، وإذا أشكل عليهم شيء منها سألوا النبي فيفسره لهم، وكان التفسير مختصرا بسيطا لسذاجة الدولة الإسلامية يومئذ.
ثانيا العصر التقليدي:
ونريد به عصر التابعين أو حواليه، وكانت الدولة الإسلامية قد أخذت في النمو والارتقاء فاحتاجوا إلى التوسع في التفسير، وكان أكثرهم أميين فإذا أعجزهم تفسير بعض الآيات سألوا عنها من أسلم من أهل الكتاب، ولا سيما اليهود المقيمين في اليمن، وكانوا قد أسلموا وظلوا على ما كان عندهم من التقاليد المتناقلة شفاها أو كتابة مما لا تعلق له بالأحكام الشرعية.
ثالثا العصر الفلسفي المنطقي:
ونريد به تدوين التفسير وضبطه بالقياس الفلسفي والحكم المنطقي بعد أن اختلط المسلمون بأهل العلم القديم في الشام والعراق وفارس واطلعوا على علوم القدماء وفلسفة اليونان والهند، ونقلوا ذلك إلى لسانهم واستخرجوا منه علم الكلام، وكان العرب قد وضعوا العلوم اللسانية، وضبطوا معاني الألفاظ، وأساليب التعبير، فنظروا في التفاسير السابقة نظر الناقد ومحصوها وضبطوها بالقياس العقلي بالاعتماد على قواعد المنطق بما تقتضيه الفلسفة اليونانية القديمة على نحو ما فعله لاهوتيو النصارى قبل ذلك.
رابعا العصر العلمي:
الذي نحن فيه، وهو عصر الفلسفة الجديدة المبنية على العلم الطبيعي الثابت بالمشاهدة والاختبار، ويمتاز عن العصر السابق بإطلاق حرية الفكر من قيود التقليد القديمة التي أغلت ألسنة أسلافنا وأقلامهم، وأوقفت مجاري التمدن أجيالا متطاولة. فالشيخ المفتي رحمه الله أراد أن ينقل التفسير إلى روح هذا العصر فيفسر القرآن بما يطابق أحكام العقل، ويحل الإسلام من قيود التقليد، فسار في هذا الطريق شوطا بعيدا فألقى على طلبة الأزهر خطبا كثيرة في التفسير، نشرت في مجلة المنار وطبع بعضها على حدة، وكان لها تأثير حسن في نفوس العقلاء، ولو مد الله في أجله لأتم هذا العمل، ولكنه قضى آسفا خائفا ولسان حاله يردد هذين البيتين - وقد قيل إنهما من قصيدة نظمها في أثناء مرضه - وهما:
ولست أبالي أن يقال محمد
أبل أو اكتظت عليه المآتم
ولكن دينا قد أردت صلاحه
أحاذر أن تقضي عليه العمائم
على أنه خلف جماعة من تلامذته ومريديه أكثرهم من أهل العلم وأرباب الأقلام، وفيهم نخبة كتاب المسلمين وشعرائهم في هذا العصر، وأكثرهم مجاهرة بنصرته وإذاعة لآرائه رصيفنا السيد رشيد رضا صاحب المنار الإسلامي.
والشيخ محمد عبده زعيم نهضة إصلاحية لا خوف منها على الدماء أو الأرواح، وأكثر نهضات الأمم في سبيل إصلاحها لا تخلو من إهراق الدماء، فهو رجل عظيم يجدر بالمسلمين أن يبكوه، وأن يقتفوا آثاره في التوفيق بين الإسلام والمدنية الحاضرة، وتنقيته مما ألم به بتوالي الأزمان، وذلك ميسور لمن أطلق فكره من قيود التقليد، واسترشد بما يهديه إليه العقل الصحيح بالإسناد إلى العلم الصحيح. على أننا نرجو أن لا تعدم هذه النهضة من يخلف الإمام الفقيد في الانتصار لها والعمل بها، والله على كل شيء قدير.
الفصل الثامن والثلاثون
مصطفى باشا كامل
(1) مصطفى كامل والنهضة السياسية
شكل 38-1: مصطفي كامل صاحب اللواء (ولد سنة 1874 وتوفي سنة 1908).
شاهد المصريون في 10 فبراير سنة 1908 ما لم يشاهدوا مثله من قبل. شاهدوا حزنا على مصطفى باشا صاحب اللواء، عم القطر المصري من أقصاه إلى أقصاه، وانتشر في سائر العالم الإسلامي، وسمع دويه في أوروبا والشرق الأقصى مما لم يسمع بمثله في وادي النيل. توفي صاحب اللواء في أصل ذلك اليوم ودفن في أصيل اليوم التالي، فمشي في جنازته عشرات الألوف، واشترك في المصاب أهل القطر على اختلاف طبقاتهم وأعمارهم. فرثاه الشعراء، وأبنه الخطباء، وبكته الصحف، وقضت أياما في نشر ما يرد عليها من رسائل التعزية نثرا ونظما، وأقيمت له المآتم في أنحاء القطر، فلم يبق جمعية خيرية أو أدبية أو ناد علمي أو مدرسة وطنية للذكور أو الإناث في القاهرة والإسكندرية أو في الأرياف إلا عقدت جلسة لتأبين ذلك الفقيد، حتى الجمعية الماسونية فقد احتفل بعض محافلها بتأبينه، وبعضهم أقام حفلات تأبين في الأزبكية غير ما بعثوا به من تلغرافات التعزية إلى إدارة اللواء من الأفراد والجماعات، كالجمعيات والمشيخات والمدارس، وتبرع كثيرون عن نفسه للجمعيات الخيرية ونحوها، وغير ما جاء من رسائل التعزية من إنكلترا وفرنسا وغيرهما ومن أطراف الهند، ونشرت التلغرافات العمومية والصحف الإفرنجية نعيه، وتكلمت عنه، وتألفت في القاهرة لجنة لإقامة تمثال يحيا به ذكره، والناس يبذلون المال في هذا السبيل، وعينوا يوم 20 مارس التالي للاحتفال بتأبينه بجانب ضريحه بقرافة الإمام، فمن كان هذا وقع مصابه في النفوس جدير بأن ننظر ترجمة حاله، وندرس أخلاقه وأعماله، ونبين منزلته من التاريخ، ونقدم الكلام بفذلكة في تاريخ النهضة السياسية المصرية فنقول: (1-1) النهضة السياسية المصرية
فتح العرب مصر في صدر الإسلام، فأصبح النفوذ فيها للفاتحين وأعظم مناصب الدولة في أيديهم، فتغلب العنصر العربي على سائر العناصر، ثم دخلت في حوزة الأكراد (الأيوبيين)، فالشراكسة (المماليك)، فالأتراك (العثمانيين)، فكان النفوذ ينتقل من أمة إلى أخرى حسب أدوار حكمها، على أن العنصر الشركسي ظل متسلطا في أثناء حكم الدولة العلية بمصر؛ لأنها ولتهم الأحكام تحت رعايتها، ومنهم أمراء المماليك والسناجق وبعض الجند، فأصبح العنصر العربي وهم المصريون الوطنيون أضعف سائر العناصر.
فقضى المصريون أجيالا راضين بما قسم لهم، وكان الجهل ضاربا أطنابه فيهم لاشتغال حكامهم بالحروب والخصومة عن ترقية شأن رعاياهم، حتى أذن الله أن يتولى حكومتهم المغفور له محمد علي باشا الكبير، فاقتضت سياسته ومقاصده إحياء معالم اللغة العربية، فأنشأ المدارس وفتح المعامل وسهل دخول الأجانب إلى هذه البلاد، وأرسل بعض شبانها إلى أوروبا لتلقي العلوم واقتباس حسنات التمدن الحديث. فاستنارت أذهان المصريين وفتحوا أعينهم، ففقهوا لما ضاع من حقوقهم، ولكنهم لم يطالبوا به لضغط حكامهم على أفكارهم بقوة الاستمرار؛ إذ لا يتأتى لهم أن ينتقلوا بغتة من الضغط الشديد تحت الأمراء المماليك إلى الحرية التامة تحت حكومة العائلة المحمدية العلوية، فتوالى على حكومة مصر محمد علي، فإبراهيم، فعباس، والمصريون ساكتون، فلما أفضت الولاية إلى سعيد باشا سنة 1854 طلع على المصريين فجر الوطنية؛ لأنه كان يعد نفسه مصريا، فأخذ يبث روح الوطنية في جنده إذ لم يكن للعامة ساعد يرجى ولا سطوة تخشى، وجاهر بوطنيته في حفلة اختتان نجله طوسون بحضور العائلة الخديوية وضباط الجيش وجماعة من الأجانب، فوقف وارتجل خطبة، قال فيها: «إن من أمعن النظر في تاريخ بلادنا هذه، وتوالي حوادثها المحزنة لا يسعه إلا الأسف والتعجب؛ حيث تتوالى الأمم الأجنبية على أهلها، ويظلمون سكانها؛ كالكلدانيين والفرس قبل الإسلام والترك والأكراد والشركس وغيرهم بعد الإسلام، وكلهم يفسدون ولا يصلحون، وقد عزمت على تثقيف أبناء البلاد وتهذيبهم وترقيتهم؛ حتى تكون حكومة البلاد بأيديهم بصفة كوني مصريا منهم، وبالله الاستعانة.»
فكان لقوله وقع شديد على السامعين، وفيهم أحمد عرابي باشا، وهو يومئذ صاغقول أغاسي، وكان جريئا فازداد جرأة واتسعت مطامعه، وانبثت روح الوطنية في سائر الضباط، وارتقوا في رتب الجندية وأكثرهم غير متعلمين، وإنما رقاهم سعيد باشا تنشيطا للوطنية، فشق ذلك على الضباط الشراكسة والأتراك، وأوغرت صدورهم على الوطنيين، ووجدوا على سعيد باشا فأحس بجفائهم وتذمرهم فلم يبال، وربما ذكر ذلك للوطنيين تحريضا لهم على الثبات.
النهضة العسكرية
فلما أفضت الولاية إلى إسماعيل سنة 1863 تبدلت الأحوال لأنه كان على غير رأي سلفه في أمر الوطنيين، وقد بذل قصارى جهده في استقدام الأجانب إلى بلاده بما أنشأه من وسائل الرفاه وتسهيل التجارة، وكان مع ذلك يعنى بتعليم الوطنيين وإرسال الإرساليات إلى أوروبا، فازداد المصريون معرفة لحقوقهم. ولكن الخديوي إسماعيل كان يرى من حسن السياسة أن يضغط عليهم، ويقيد أفكارهم ويطلق العنان للأجانب على اختلاف أجناسهم وخصوصا الشراكسة، فكظم المصريون ما في نفوسهم أعواما، على أنهم ظلوا يتهامسون به فيما بينهم، ولم يكن حديثهم حيثما اجتمعوا إلا التشاكي مما يقاسونه من الضغط مع خروج معظم مصالح البلاد من أيديهم إلى الأجانب.
وكان أكثرهم تشكيا جماعة الجهادية لظهور الإجحاف فيهم أكثر مما بسواهم لأن القوة العسكرية كانت مؤلفة من المصريين والشراكسة وغيرهم، ولم يكن المصريون ينالون من الرتب إلا إمارة الآلايات فما دونها بخلاف الشراكسة، فقد كانت الألوية والفرقاء منهم والسلطة والنفوذ في أيديهم، وكلما شاهدوا من المصريين تذمرا زادوهم تضييقا، فإذا اقتضت الأحوال تجنيد حملة إلى السودان أو غيرها من بلاد الشقاء جندوا إليها المصريين، وبقي الشراكسة يتمتعون بنفوذهم ورفاهيتهم في القاهرة والإسكندرية، فلم يكن ذلك إلا ليزيد الوطنيين حقدا أو غيظا، ولما لم يستطيعوا التصريح بشكواهم جهارا ألفوا الجمعيات السرية يهمسون فيها بما في ضمائرهم سرا.
ثم أفضت الخديوية المصرية إلى المغفور له الخديوي توفيق باشا، وكان رحمه الله محبا للوطن المصري راغبا في ترقية أبنائه؛ لأنه تربى تربية وطنية محضة، وكان حر الضمير فنظر في شكوى الوطنيين فرفع الضغط عنهم واعترف بما لهم، وهي فضيلة جديرة بكل حاكم، ولكنها جاءت المصريين إذ ذاك على غير استعداد، فبينما هم تحت الضغط الشديد والنار كامنة في صدورهم إذ رفع الضغط بغتة، فاتقدت نيران الثورة وانتشرت في سائر أنحاء القطر.
هذا هو الطور الأول من النهضة السياسية الحديثة، والعامل فيه كما رأيت إطلاق الحرية فجأة بعد طول الضغط، وقد قام بها الجند وجاراهم الأهالي، وأكثر هؤلاء لا يدركون ماذا يعملون وإن كانوا يرجون بذلك التخلص من امتياز الأجانب، وكان زعماء الجند أكثرهم من غير المتعلمين فلم يحسنوا التصرف في تلك الحركة، فبعد أن كانت نهضة وطنية سياسية تحولت إلى ثورة عسكرية آلت إلى الاحتلال الإنكليزي وأمره معلوم.
فلما ذهبت دهشة الحرب انتبه عقلاء الأمة فوجدوا أنفسهم قد نجوا من شر، ووقعوا في شرين؛ لاعتقادهم أنهم سفكوا دماءهم، وبذلوا أموالهم للتخلص من شر الشراكسة وهم يختلفون عنهم جنسا ويشتركون معهم في الدين، فإذا هم قد دخلوا في سيطرة دولة أجنبية تختلف عنهم جنسا ودينا، ونبغ على أثر تلك الثورة جماعة من رجال الفكر والحرية عملا بسنة العمران على أثر كل حركة أهلية، وكان بعضهم قد مالئوا عرابي وحوكموا ونفوا، ثم عادوا وقد زادتهم الغربة خبرة وعبرة، ورأوا الاحتلال قد توطدت دعائمه فرضخوا له، وهم يعللون أنفسهم بجلائه قياما بالوعد، على أن بعضهم يئس من الجلاء فتقرب من عميد الاحتلال واستعان به على خدمة مصالح الأمة، والبعض الآخر خدمها بنشر المبادئ الاجتماعية لترقية النفوس وتربية الأخلاق الحسنة، وعمل آخرون على بث المبادئ الإصلاحية في نفوس المسلمين ومحاربة البدع ونحوها مما يباعد بين المسلمين وسواهم.
أما الأمة على إجمالها فما زالت تئن تحت نير الاحتلال، وتتشكى همسا في الأندية الخصوصية أو المجالس العائلية لا يسمع لها صوت، والصحافة مقيدة يومئذ بقانون المطبوعات، إلا من كتب في جريدة إفرنجية لا سلطة للقانون عليها، وكان أكثر الأجانب تظاهرا بتقبيح الاحتلال الفرنساويون.
ولما توفي المرحوم توفيق باشا وخلفه سمو الخديوي الحالي تجددت آمال الأمة بانقلاب سياسي يرفع ذلك النير عن رقابهم، وطبيعي أن يكون الجناب العالي أكثر الناس رغبة في الجلاء، ولم يخف ذلك على المصريين فزادوا تعلقا بعرشه، وأحس الإنكليز بذلك فاستيقظوا، وساعدتهم الأحوال على البقاء فبالغوا في استخدام نفوذهم، وأساء بعضهم معاملة المصريين فازدادوا كرها للاحتلال وتعلقا بالخديوي كأولاد يستغيثون بوالدهم من غريب نزل في دارهم يحاول امتلاكها، ولنفس هذا السبب توجهت الآمال إلى الآستانة، وأكثر المصريون من ذكر الخليفة وسيادته على المسلمين وقلما كانوا يفعلون ذلك من قبل.
النهضة المدرسية
واقتضت سياسة إنكلترا في أثناء ذلك إطلاق حرية المطبوعات، ونبغ جماعة من الكتاب والمحررين تدرجوا في استقلال الفكر إلى نشر مساوئ الاحتلال، فحدثت نهضة سياسية صحافية انقسمت الصحف فيها إلى حزبين: حزب يعرف بجرائد الاحتلال يمتدح أعمال المحتلين، وحزب يعرف بالجرائد الوطنية ينتقدها، وعميد إنكلترا يطلع على ما يقولون ولا يكلفهم السكوت، وكانت الجرائد الوطنية تعبر عن إحساس الوطنيين، وتطعن في جرائد الاحتلال، لا يخرجون من ذلك عن المناقشة، وقل فيهم من جاهر بطلب الجلاء، ونشأ في أثناء ذلك طبقة من الشبان تخرجوا في المدارس المصرية وتفقهوا في أوروبا، وتشرب بعضهم كره إنكلترا من معاشرة الفرنساويين، وفرنسا من ذلك الحين خصم إنكلترا تساعد كل من يقوم عليها. وزعماء هذه الطبقة من الناشئة المصرية طلبة الحقوق؛ لما يتعوده طلاب هذا الفن من استقلال الفكر، والرضوخ للصواب، والتمسك بأهداب الحق، فتألف من الناشئة المصرية حزب جاهر بمقاومة الاحتلال، وانضم إليه سائر طلبة المدارس العالية، وهم في الغالب من أبناء الخاصة، ويعدون بالآلاف منتشرون في أنحاء القطر المصري، فبثوا تلك الأفكار في أهلهم وجيرانهم وهم سواد الأمة، فتكاثر الناقمون على الاحتلال، وهي نهضة سياسية مدرسية تختلف عن التي تقدمتها بقوة الحجة والاقتدار على المطالبة بالإقناع، وهي الطائفة التي نصرت مصطفى كامل وهو من طلبة الحقوق. (2) مصطفي كامل (2-1) ترجمة حاله
ولد في القاهرة من أبوين مصريين في 14 أوغسطس سنة 1874، وكان والده علي أفندي محمد مهندسا من جهة الصليبة، اشتهر بين معارفه وجيرانه بطيب العنصر، وحسن الخلق، ووالدته من جهة المحجر بالقاهرة، ولما بلغ السادسة من عمره أتاه والده بمدرس لقنه القراءة والكتابة، ثم أدخله مدرسة عباس باشا الأول، وقبل إتمام دروسه الابتدائية توفي والده، فانتقل إلى مدرسة القربية وعمره 12 سنة فأتم دروسه الابتدائية فيها، وظهر ذكاؤه بامتيازه على سائر الرفاق، فنال جائزة الامتحان الأولى بين يدي المغفور له الخديوي السابق سنة 1887، ثم انتقل إلى المدرسة التجهيزية فقضى فيها أربع سنين نال في نهايتها شهادة البكالوريا، وكان من النابغين، واشتهر باستقلال الفكر وصراحة القول من ذلك الحين، وانتبه المرحوم علي باشا مبارك ناظر المعارف يومئذ لفصاحته وقوة عارضته، فقال له مرة: «إنك أمرؤ القيس، وستصير عظيما.» وأخبرنا أحد رفاقه في تلك المدرسة أن المرحوم علي باشا مبارك اختصه بجنيه يتناوله كل شهر مدة إقامته في المدرسة ودون اسمه في كشف ماهيات المعلمين، واضطر مصطفى لنقش خاتم يختم به الكشف على اصطلاحهم، وهو أول عهده بالأختام.
وكان في أثناء إقامته بالمدرسة التجهيزية موضوع إعجاب الأساتذة والتلامذة جميعا، لما امتاز به من حسن الإلقاء وفصاحة اللسان، ولم يكن ناظر المعارف أقل منهم إعجابا به ، فكان ينشطه ويدعوه إلى منزله ويناقشه في المسائل العلمية أو الاجتماعية ويقدمه إلى جلسائه من العلماء والوزراء والكل يعجبون به ويتوقعون له مستقبلا مجيدا، فلما أتم دروسه التجهيزية سنة 1889 دخل مدرسة الحقوق الخديوية على أن يعد نفسه لصناعة المحاماة، لأنها أحوج المهن إلى الخطابة، ورأى في وقته متسعا فالتحق بمدرسة الحقوق الفرنساوية أيضا، فكان يتلقى العلم بالمدرستين حتى نال الكفاية منه، فذهب إلى طولوز بفرنسا أدى فيها الامتحان ونال الشهادة وهو في التاسعة عشرة من عمره.
وتنبه خاطره وهو يدرس الحقوق إلى المسائل السياسية، ومدارها على مصر والاحتلال، وهو وطني حريص على وطنيته مستقل الفكر، شديد الثقة بنفسه، وقد تشرب من أساتذته الفرنساويين الاستهانة بإنكلترا والوثوق بفرنسا، فأصبح همه إنقاذ مصر من الاحتلال، وكان عضوا عاملا في عدة جمعيات أدبية يخطب فيها ويباحث، وأكثر بحثه في مصر والاحتلال والجلاء، وكان يتردد على الجرائد الوطنية ليكتب هذه المواضيع، ولقي إصغاء وتنشيطا فألف رواية فتح الأندلس التمثيلية، وكتابا في حياة الأمم والرق عند الرومان، وألف بعد ذلك كتاب المسألة الشرقية وغيره، وكلها ترمي إلى تحبيب الاستقلال إلى المصريين وإحياء الشعور الوطني فيهم، فالتف حوله جماعة من المريدين والمعجبين وأكثرهم من رفاقه في المدرسة، ومن يرى رأيهم من تلامذة المدارس العالية، فأنشأ لهم مجلة شهرية سماها المدرسة يبث فيها آراءه وأفكاره.
واتفق في أثناء ذلك رجوع المرحوم عبد الله نديم خطيب العرابيين إلى مصر سنة 1892 وسمع بمصطفى كامل فقربه منه، واقتبس صاحب الترجمة بعض أساليبه، واطلع على دخائل الحوادث الماضية وتبين أسباب الفشل، فأصبح قادرا على تجنبها وزاد رغبة في إنقاذ مصر من سلطة الأجانب، ولا يكون ذلك إلا بالالتفاف حول أمير البلاد فاستنبط فكرة الاحتفال بعيد الجلوس الخديوي، فحرض رفاقه التلامذة على ذلك، فاحتفلوا به في الأزبكية في 8 يناير سنة 1893، فقربته المعية، ورضي عنه الجناب العالي، وفي ذلك الاحتفال صرح مصطفى كامل للمرة الأولى بانتقاد حالة الحكومة، ودعا المصريين إلى مطالبة الإنكليز بالجلاء عن بلادهم قياما بوعودهم، وكان في جملة الحضور ناظر مدرسة الحقوق فاستدعى مصطفى إليه في الغد، وعاتبه على تصريحه، فأجابه أنه مصري وله الحق أن يبحث بشئون مصر، وشدد لهجته فرفع الناظر أمره إلى نظارة المعارف، فأصدرت أمرا بمنع التلامذة من الاشتراك في مثل ذلك ومن مكاتبة الصحف، فاعتبر مصطفى هذا الأمر موجها إليه فازداد تمسكا برأيه، وتضاعفت همته على إخراجه إلى حيز العمل.
وجاء مصر في ذلك الحين الموسيو دلونكل وهو فرنساوي كثير التظاهر بالغيرة على المصريين، وكان في مصر يومئذ حزب وطني تألف بطبيعة الحال من أوائل عهد الاحتلال، ولم يكن حزبا منظما له رئيس ونائب وأمين وكاتب مثل أحزاب هذه الأيام، ولكنه ضم نخبة النبهاء والوجهاء الذين يكرهون الاحتلال وينتقدون أعمال الإنكليز إما رغبة في استقلال مصر أو نقمة لذهاب نفوذهم، ولهذا الحزب فضل على أكثر الصحف الوطنية التي نشأت في أوائل الاحتلال؛ لأنهم كانوا يساعدونها ماديا وأدبيا تحت طي الخفاء للاستعانة بها على جرائد الاحتلال، وكان مصطفى كامل طبعا من جملة ذلك الحزب، وكان دلونكل يحضر مجتمعات الوطنيين ويستحثهم على الثبات، فالتقى هناك بصاحب الترجمة وأعجب بذكائه وفصاحته، فرغبه في السفر إلى فرنسا للتبحر في الحقوق، فسافر إلى باريس آخر سنة 1893 وأعجبته حرية القوم وموافقتهم إياه في انتقاد الإنكليز، فعرف كثيرين من رجال السياسة والصحافة فيها، وفي 8 يناير سنة 1894 احتفل بعيد الجلوس الخديوي هناك احتفالا شهده أكثر المقيمين في باريس من المصريين، وهم من التلامذة المرسلين لتلقي العلم على نفقة الحكومة المصرية، فألقى مصطفى فيهم خطابا استحثهم فيه على الثبات في طلب الجلاء، فوافقوه وتواطئوا على استنجاد فرنسا في ذلك الطلب على أن تكون حجتهم وعد إنكلترا الذي صرحت به عام الاحتلال، وبلغ ذلك نظارة المعارف المصرية فأخرجت المشتركين في ذلك العمل من عداد الإرسالية.
وعاد مصطفى في أواسط السنة التالية إلى مصر، وتعاطى المحاماة أشهرا فرآها أضيق من أن تسع مطامعه وفي صدره غرض أصبح جزءا من وجدانه، ولم يكتف بما كان ينشره في الجرائد، فعول على إلقاء الخطب السياسية في المنتديات العمومية، فألقى خطبته الأولى في الإسكندرية ونشرتها الجرائد، فرأى فيها الناس من شدة اللهجة على الاحتلال وطلب الجلاء ما لم يعهدوه من قبل، فأعجبوا بالشاب وشاركوه في إحساسه وفيهم من يرى ذلك الطلب بعيد المنال، ولكن الإنسان يلتذ بالانتقاد على غالبه، فأطروه ونشطوه فازداد رغبة في الخطابة والصحافة، ولذت له الشهرة ووطن النفس على الاستهلاك في طلب الجلاء، وجعل ذلك وجهته وكعبة آماله ومدار أعماله، وهو يعلم عجزه عن تلك الأمنية بنفسه وأهله فرأى أن يستعين بفرنسا وقد جرأه على ذلك ما آنسه في رحلته الأولى من الحفاوة وما سمعه من التأمين والترغيب على عادة الفرنساويين من الانقياد إلى الوجدان، فكف عن صناعته، وانقطع للمطالبة بالجلاء، فشخص سنة 1895 إلى باريس ومعه رسم كبير يمثل مصر والاحتلال الإنكليزي بشكل يرمز عن توسل المصريين إلى فرنسا أن تساعدهم كما ساعدت الأميركان واليونان والبلجيكيين والإيطاليان في نيل حريتهم.
رفع هذا الرسم إلى مجلس النواب الفرنساوي في 4 يونيو من تلك السنة، ومعه عريضة قدمها باسمه ينوب فيها عن مصر في استنجاد ذلك المجلس على الإنكليز، وكان لهذا العمل دوي في فرنسا فضلا عن مصر، وتحدث الناس يومئذ بجرأة هذا الشاب وعلو همته وإقدامه وهو إلى ذلك الحين لم يتجاوز الحادية والعشرين من عمره، فلم يأت هذا المسعى بالنتيجة المطلوبة ولكن الفرنساويين رحبوا بالخطيب المصري، وتقاطر إليه كتاب الصحف يقابلونه وينشرون آراءه في جرائدهم، وتسابق القوم يدعونه إلى إلقاء الخطب في أنديتهم، وكلها ترمي إلى الغرض عينه، وأول خطبة سياسية ألقاها على الإفرنج في طولوز صدرها بتاريخ الاحتلال وعهوده وفصل أحوال النظارات المصرية وسيطرة الإنكليز فيها، وبالغ في استئثارهم بالوظائف والنفوذ واحتقارهم الأهالي، وأخذ يبرهن أن وجود الإنكليز بمصر يخالف كل المعاهدات، وأن إخراجهم منها يوافق مصالح دول أوروبا كافة، ثم ألقى خطبا أخرى وراسل الجرائد وكاتب الوزراء وكلها ترجع إلى انتقاد الاحتلال وطلب الجلاء. أشهرها خطاب بعث به إلى المستر غلادستون من باريس يسأله رأيه في مسألة مصر والاحتلال، فأجابه غلادستون جوابا جاء في جملته قوله : «إننا يجب أن نترك مصر بعد أن نتم فيها - بكل شرف، وفي فائدة مصر نفسها - العمل الذي من أجله دخلناها»، و«إن زمن الجلاء على ما أعلم قد وافى منذ سنين.»
فلا عجب بعد اعتراف أعظم رجال إنكلترا بموافاة زمن الجلاء إذا رأينا مصطفي كامل يزداد ثباتا في دعوته، فرجع إلى مصر في أوائل سنة 1895 وقضى بضع سنوات وهو يخطب ويكتب ويكاتب ويناضل، وكأنه خاف أن تضيق الصحف عن خطبه ومراسلاته، فأنشأ جريدة اللواء اليومية لنشر آرائه السياسية سنة 1899 وهي الآن في سنتها الثانية عشرة، وصوتها في الدفاع عن مصر والمصريين من أعلى الأصوات.
ولما تم الاتفاق بين إنكلترا وفرنسا بشأن مصر والمغرب الأقصى، ولم ينل مصطفى من فرنسا غير المواعيد وجه احتجاجه إلى المراجع الأصلية، إما إلى رجال السياسة بإنكلترا رأسا أو إلى جرائدهم، وسافر إلى بلاد الإنكليز لهذه الغاية، ثم رأى ذلك لا يفي بمراده ولا يحيط بمدى صوته فأنشأ اللوائين الإنكليزي والفرنساوي لينشر فيهما أقواله عن مطالب مصر حتى يصل النداء إلى إنكلترا وسائر أوروبا، وألف لهما شركة مساهمة هي أول مساهمة تألفت لإنشاء الجرائد في هذه البلاد، وذهب بنفسه إلى إنكلترا واستقدم المحررين.
فطار صيته في الآفاق، وأصبح اسمه مرادفا لاحتجاج مصر على إنكلترا، وهو في خلال ذلك لا يضيع فرصة لا يحتج بها، ومن أشهر مواضيع احتجاجه مسألة دنشواي، فقد كان في مقدمة المنادين بظلم الحكومة على أهلها واستكتب الأهلين عرائض لالتماس العفو وقع عليها 12500 من المصريين ورفعها إلى الجناب العالي، وكان في أثناء ذلك يخدم مصلحة الدولة العلية من طرق كثيرة، فأنعم عليه السلطان بالرتب والألقاب حتى بلغ الرتبة الأولى من الصنف الثاني، والنيشان المجيدي الثاني. وتعلقت به قلوب المصريين، وتعشقوه بما لم يسبق له مثيل، فلما تشكل الحزب الوطني في العام الماضي انتخبوه رئيسا له طول حياته، ولكنه رحمه الله كان قصير الحياة، فتوفي في العاشر من فبراير سنة 1908 وهو في الرابعة والثلاثين من عمره. فانتخبوا مكانه رفيقه في جهاده محمد بك فريد رئيسا للحزب، ومديرا للألوية الثلاثة. (2-2) صفاته وأعماله
كان رحمه الله متوسط القامة، قمحي اللون، سريع الحركة، جريئا مقداما، فصيح اللهجة، قوي العارضة، شديد الثقة بنفسه، واسع الآمال، طموحا للعلى، مستقل الفكر، صريح القول، وكان عصبي المزاج، والعصبي يغلب فيه الذكاء وحدة الذهن وسرعة الخاطر، وكانت هذه الطبائع ظاهرة في الفقيد ظهورا واضحا؛ إذ كثيرا ما كنا نراه في أثناء نضاله يكاد يغلب على رأيه لما يظهر لنا من حجة خصمه، فما هو إلا أن يصدر اللواء في اليوم التالي فنراه قد تدرع بدفاع أيده بشواهد تاريخية انتبه لها، وكانت تساعده على ذلك قوة الحافظة.
وكان فيه من طبائع العصبيين سرعة الانفعال، وسريعو الانفعال يغلب فيهم التقلب في الرأي ولم يكن كذلك، ولكنه كان شديد الوطأة على مخالفيه ولو كانوا من أساتذته أو أقرب الناس إليه، وسرعة الانفعال مع هذه الشدة قد يبعثان على الفشل في الأعمال العظمى، لأنها تفتقر إلى التساهل والكظم والصبر على المكاره، فالفقيد سد هذا النقص بجرأته وعلو همته وثقته بنفسه، فكان إذا نهض لأمر اقتحمه اقتحام الأسد فريسته، وجاهد في سبيله بيده ولسانه وجنانه، لا يعجزه السفر ولا يبالي بالتعب، فقضى زهرة شبابه يتنقل من قارة إلى قارة ومن عاصمة إلى عاصمة لا يتحول عن منبر عربي حتى يعلو منبرا إفرنجيا، إذا كتب رأيت الحماسة تتجلى بين سطوره، وإذا خطب انقض كالصاعقة أو انهال كالسيل، وإذا توهم في أحد وقوفا في طريقه ناهضه وبارزه لا يبالي بمنصبه أو مقامه، وكان لا يهاب عظيما، ولا يراعي خليلا ولا نزيلا، ولا سيما في أوائل أدواره، وهذا هو سبب ما كان يبدو في بعض أقواله يومئذ من التعريض بالنزلاء أو الدخلاء لاعتقاده أنهم يخالفون مصلحة مصر. وفهم القوم يومئذ أنه يعني بالدخلاء السوريين، فعاتبوه، فصرح أنه إنما يعني فئة منهم يعتقد أنها تكره مصلحة مصر، فلم يبق لهم حجة عليه؛ لأن القائل أولى بتفسير أقواله، وقد يعذر على تعريضه بالسوريين إذا ساء الظن بهم، فقد مر بهم أعوام في أواسط الاحتلال لم يقم كاتب يدعي الدفاع عن مصلحة مصر إلا حمل عليهم واتهمهم بالعداوة تصريحا أو تلميحا وهم ساكتون دائبون على أعمالهم حتى تحقق العقلاء بتوالي الأعوام أن السوري لا يقل غيرة على مصلحة مصر من أخيه المصري، وأن السوريين طائفة ذات شأن في المجتمع المصري، فعاد الفريقان إلى التحاب والتقارب، وكان الفقيد في مقدمة أولئك العقلاء.
وكان رحمه الله نزيه النفس عفيف الإزار، صادق اللهجة، طاهر الجيب، لا يلذ له من أحوال الحياة غير التفكير في الغاية التي وقف قواه عليها وهي خدمة بلاده بأشرف السبل وأنفعها، وكان يعتقد أن الاستقلال أول خطوة يجب السير بها، ويعني بالاستقلال خروج الإنكليز من مصر بمساعدة دول أوروبا ورجوعها إلى ما كانت عليه قبله. واستجمع قواه في هذا السبيل فسافر وكتب وخطب وجادل وناقش لهذا الغرض. وكان يرى مصلحة مصر مرتبطة بمصلحة الإسلام على العموم، فكان شديد المدافعة عنه كثير السعي في نصرته، ومن أقصى أمانيه أن يكون نصير المسلمين في أربعة أقطار الأرض، وقد أطلعنا بعض الأصدقاء على كتاب من بعض رجال ابن الرشيد يؤخذ منه أن الفقيد سعى منذ بضع سنوات في السفر إلى نجد لملاقاة ذلك الزعيم هناك، وقرأنا في تأبين بعض مريديه أنه كان ينوي استئذان جلالة السلطان في أن يكون خطيب المسلمين في المدينة يوم وصول السكة الحديدية إليها، وأنه كان يهيئ أسباب الرحيل إلى اليابان لحضور معرضها ونقل نتائج الأفكار الكبيرة لربط العلائق مع الشعب الياباني، على أن يمر في أثناء طوافه ببلاد الهند ليرى أحوال النهضة الإسلامية هناك. كل ذلك يدل على كبر نفس هذا الرجل وسعة مطامعه، فهل كان مخلصا في سعيه حسن القصد بما يقوله؟ فإذا ثبت أنه كذلك حق للمصريين أن يبكوه ويعظموه وإن لم يروا ثمر عمله؛ لأن الأعمال بالنيات، وإلا فلا فضل له، ويظهر لنا من تدبر أعماله أنه كان مخلصا؛ وإليك الدليل: (1)
ثباته في المبدأ الذي قام في نفسه منذ كان تلميذا لا يسمع صوته إلا رفاقه حتى صار خطيب المحافل ومتكلم القوم وزعيم الحزب الوطني وصاحب الألوية الثلاثة، له دعوة واحدة كانت تتجلى في مطالبه إذا كتب أو خطب أو ناقش أو باحث بين الأصدقاء أو الأعداء بالعربية أو الإفرنجية على سواء. (2)
انقطاعه لهذه الدعوة وتفانيه في سبيلها حتى شغلته عن سائر مطالب الحياة وملاذ الشباب، فلم يتزوج ولا جلس لشرب أو لهو ولا التفت إلى جمال أو طرب. لا يلذ له غير التحدث بالوطن أو الاستقلال أو الجلاء، وقد يتبادر إلى الذهن أنه فعل ذلك طمعا بالمال، وهذا باطل؛ لأن الرزق من القلم أضيق من شقه، ويقول آخرون: إن غرضه الشهرة الواسعة، وقد نال منها ما لم ينله سواه من أهل هذا الجيل حتى تناقلت ذكره صحف العالم الإفرنجي وحدها 115000 مرة في أثناء جهاده فضلا عن جرائد الشرق الأقصى والأدنى، وعرف اسمه كثيرون لا يعرفون اسم أعظم رجال مصر. ولكن طلب الشهرة في سبيل المصلحة العامة ليس من المعائب، بل هو من أكبر دعائم العمران، وطلاب الشهرة أعظم رجال العالم. (3)
إجماع الذين عاشروه من رفاقه وأصدقائه على حبه واعتقاد الإخلاص فيه فضلا عن الآخرين مما لا يتأتى لغير المخلصين؛ لأن الانسان إذا سعى في مشروع عمومي طمعا بمال أو جاه لا تلبث حقيقة حاله أن تنكشف لعشرائه الأقربين أو شركائه في عمله فينفضون من حوله، كما أصاب كثيرين من زعماء الأحزاب في العالم القديم والحديث، ففسدت نيات أصحابهم، وذهبت مساعيهم أدراج الرياح، وقد يبقى مع الزعيم المنافق أناس يداجونه ويداجيهم التماسا للكسب، ولكن أصحاب مصطفى كامل ثبتوا في ولائه حيا وميتا وهم يستهلكون في سبيل نصرته، وفيهم جماعة من نخبة العقلاء والفضلاء ومعظمهم أكبر منه سنا وأوفر مالا وأعرض جاها، وبعضهم أغزر منه علما، وقد نصروه بعقولهم وأموالهم وقلوبهم ولم يستنكفوا من تصدره في مجالسهم ولا داخلهم الحسد من رئاسته عليهم. (2-3) هل هو رجل عظيم؟
يختلف الحكم في عظمة الرجال باختلاف الأمم والأجيال، فبعضهم يقيسون العظمة بكبر المطامع وسعة الفتوح أو بكثرة الأموال، وبعضهم يقيسونها بمقدار النفع الذي يترتب على ظهور ذلك العظيم، فمن الفرنساويين من يعد بونابرت أكبر رجال فرنسا لكثرة فتوحه وكبر مطامعه، وبعضهم يقدم باستور عليه؛ لأنه خدم الإنسانية باكتشافاته المكروبية، وآخرون يفضلون رجال الدين والشارعين، وعندنا أن الرجل العظيم إنما يكون عظيما بما يخلفه من الإعجاب والأثر الحسن في نفوس معاصريه؛ إذ قد يكون عظيما بنفسه ولا يوافق لإتمام عمله فيؤسس لمن يأتي بعده، وعلى هذا القياس نعد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده عظيمين؛ لأن الأول من مؤسسي النهضة السياسية، والثاني من مؤسسي النهضة الدينية الإصلاحية، وعلى هذا القياس أيضا نعد مصطفى كامل عظيما؛ لأنه أحيا في الأمة المصرية جامعة الوطن وهو القائل: «لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا.» وعلم المصريين المجاهرة بطلب حقوقهم، وأسمع دول أوروبا أصواتهم، فهو من أكبر مؤسسي النهضة السياسية المصرية، ولم يأت جمال الدين الأفغاني عملا لا يستطيع مصطفى كامل مثله وأعظم منه لو بلغ إلى مثل سنه. ألم يواقف أعظم دول الأرض حتى عرض نفسه للنفي أو الطرد؟ وقد تفانى في خدمة مبدئه حتى مات شهيدا في ريعان شبابه.
على أن ذلك لا يمنعنا من انتقاد أعماله؛ لأن العصمة لله وحده، ولكل أمرئ رأيه. والذي نراه في الفقيد رحمه الله كان متطرفا في آرائه يعادي من ينتقدها أو يخالفه فيها، وإذا حمل على خصمه بالغ في الغض من فضله، وقد ينكر حسناته ولو كانت ظاهرة كالشمس، وكان مغاليا في استسهال مطالبه؛ لأنه طلب الاستقلال العاجل وقرائن الأحوال تشهد أن ذلك الطلب سابق لأوانه. أو لعله تعمد التطرف جريا على سياسة المتطرفين
Radical
من أحزاب الأمم المتمدنة الذين يطلبون البعيد فإذا لم ينالوه نالوا بعضه، ومن ثمار هذه السياسة في مصر نهوض المعتدلين وتجرؤ الخائفين من أرباب الصحف على طلب الإصلاحات الممكنة، ومن ثمار سياسة التطرف أيضا سرعة نمو الشعور الوطني لما في تلك السياسة من الحماسة المثيرة للإحساس والحاملة على التضافر والتعاون.
على أننا نرى أنه لو وجه تلك الهمة الشماء أو بعضها لاستدرار الأموال وإنشاء المدارس العالية، لكان ذلك أقرب إلى الغرض المقصود من سعيه؛ بدليل أنه إنما قام بمؤازرة أبناء تلك المدارس، ولولاهم لم يستطع عملا يذكر، فكلما زاد عددهم زاد مشروعه قوة وثباتا وتهيأت الأمة أن تحكم نفسها، فإذا طلب الاستقلال بعد ذلك لا يجد المحتلون حجة للبقاء، ولم يكن يعجزه إنشاء عدة كليات كبرى بما فطر عليه من قوة العارضة وعلو الهمة، وبما له من المكانة في نفوس الأغنياء، ولا ننكر ما للفقيد من الأيادي البيضاء في نصرة التعليم والتربية، ولكننا في حاجة إلى أكثر من ذلك كثيرا.
إن الفقيد أحيا الشعور الوطني بحماسته وجرأته، وجاءه الموت السريع في إبان جهاده فذهب شهيدا، وعرف المصريون له ذلك فاتحدوا في البكاء عليه وتعاونوا في تعظيمه وتكريمه، فظهر الشعور الوطني بعد موته أكثر مما كان ظاهرا في حياته. فنتقدم إلى الساعين في مصلحة الأمة من مريديه وغيرهم أن يؤيدوا هذا الشعور بتعميم التعليم العالي ليكون اجتماع الأمة عن تعقل وروية، وذلك أدعى إلى الغرض المراد والسلام.
الفصل التاسع والثلاثون
سليم صيدناوي
المراد عندنا من نشر تراجم العظماء إما تدوين أعمالهم ليبقى ذكرهم إقرارا بفضلهم وإعجابا بمواهبهم، أو نشر تلك الأعمال للاعتبار بسير أصحابها قدوة لسواهم، أو للسببين جميعا، فترجمة بونابرت والإسكندر ومعاوية وبسمارك وغلادستون يراد بها تخليد أعمال أولئك العظماء والإعجاب بما أتوه من الأعمال العظمى، وترجمة كولمبوس مكتشف أميركا، وباستور مكتشف المكروب، وغونمبرج مخترع الطباعة وغيرهم من أصحاب الفضل على المجتمع الإنساني يراد بها على الغالب تدوين أفضالهم على صفحات التاريخ، وأما تراجم دزرائيلي وبالسي وسليني وروتشيلد وغيرهم من رجال النشاط والاجتهاد الذين ولدوا فقراء واكتسبوا الثروة أو العلم أو الصناعة بجدهم ونشاطهم فيراد بها - فضلا عن تخليد ذكرهم - الاقتداء بأعمالهم، وكلما اقتربت سير هؤلاء من حاجات القراء زادت الفائدة من نشر تراجمهم، فترجمة رجال السياسة أو الإدارة أو الحرب لا تفيدنا شيئا فيما نرجوه من التقدم في أعمالنا. وأما رجال العلم أو التجارة أو الصناعة إذا كانوا قد نالوا ما نالوه من الثروة أو الجاه بجدهم وأمانتهم فترجمة حالهم فيها قدوة حسنة للشبيبة من أبناء هذا الجيل، ودرهم قدوة خير من قنطار تعليم.
شكل 39-1: سليم صيدناوي صاحب أكبر محل تجاري في مصر (ولد سنة 1856 وتوفي سنة 1908).
وقد جرت العادة أن يقتصر أرباب الأقلام عندنا على ترجمة العلماء أو القواد أو رجال السياسة، ونحن أشد احتياجا إلى ترجمة التجار العصاميين الذين أثروا بالطرق القانونية الموافقة لشروط النجاح؛ لأن التجارة أهم مصادر الارتزاق في بلادنا، ومن الأوهام الشائعة «أن الثروة لا تنال بطريق الحلال، وأن الإنسان الأمين المستقيم يعيش فقيرا ويموت معوزا وإنما يثرى الكاذبون أهل الحيل والنفاق.» ولهم في ذلك أقوال وأشعار وأمثال، وهو عذر الذين يفشلون في سعيهم مع رغبتهم في العمل وسهرهم واستقامتهم، فينسبون فشلهم على صدقهم وسلامة نيتهم، وهم إنما فشلوا لافتقارهم إلى بعض معدات النجاح كالذكاء أو المعرفة أو الثبات أو نحو ذلك؛ لأن الاستقامة وحدها لا تكفي، ولو رافقها السعي والسهر، وإليك أهم ما يحتاج إليه الإنسان من شروط النجاح على العموم:
شروط النجاح (1)
المعرفة: أول ما يحتاج إليه طالب النجاح في هذه الحياة أن يكون متقنا لعمل من الأعمال الصناعية أو التجارية أو الزراعية أو القلمية، كأن يكون نجارا ماهرا أو تاجرا محنكا في أصناف التجارة، أو عارفا الحساب التجاري، أو مزارعا يعرف أصول الزراعة علما وعملا، أو عالما بفن من الفنون القلمية، أو متقنا مهنة من المهن العلمية كالطب أو المحاماة أو الترجمة أو الإنشاء أو نحو ذلك، ويكفي أن يعرف مهنة واحدة معرفة جيدة لا أن يعرف غير واحدة معرفة ناقصة؛ فإن المكثر لا يتقن، والنجاح يحتاج إلى إتقان. (2)
حسن الاختيار: وهو أن يحسن الإنسان اختيار المهنة الملائمة لمواهبه ويضعها في المكان الموافقة له، فلا يتعاطى الصناعة وهو مفطور على التجارة، ولا يشتغل بالعلم إذا لم تتوفر فيه المواد اللازمة له، ولا يتعاطى عملا حيث لا يرجى له رواج، كأن يتجر بالأقمشة السميكة في البلاد الحارة، أو ينشئ معملا لمصنوعات لا تروج في تلك البلاد، أو أنها تكلف أكثر مما تكلفه إذا حملت إليها من الخارج، أو نحو ذلك مما لا يمكن حصره وإنما يتكفل بتمييزه الذوق السليم. (3)
الثبات: كثيرا ما يفشل العامل ولو توفرت فيه المعرفة اللازمة وحسن الاختيار، ويغلب أن يكون سبب فشله استعجاله في استثمار عمله، فإذا لم يذق ثمر سعيه عاجلا عدل عنه وشكا سوء حظه أو نقم على الزمان لأنه لا يساعد غير الجهال، وقد يأتي بالشواهد القريبة عن أناس أفلحوا وهم أقل منه معرفة، وقد فاته أنهم إنما أفلحوا بالثبات أو بغيره من الأسباب التي لم تتوفر فيه وهي لازمة للنجاح. (4)
الاستقامة: من الأمثال الشائعة على ألسنة صغار الباعة أن هذا الزمان لا ينفق فيه غير النفاق، ولا يروج فيه غير الغش، وهم يقولون ذلك في كل زمان، وهو غير الواقع؛ لأن الاستقامة والأمانة من أهم شروط النجاح، ولا سيما في هذا العصر: عصر الحق والحرية، وما نجاح الكاذبين إلا إلى حين، على أن الاستقامة لا تفيد شيئا؛ لأن المستقيم إذا جردته من المعرفة والثبات كان كالعجماوات؛ لأنها سليمة القلب لا تعرف الغش ويندر أن تسرق أو تخدع، وإنما يشترط في الاستقامة أن تكون دعامة للمعرفة لا أن تكون هي رأس مال العامل وحدها. (5)
الاجتهاد: قد تتوفر في الرجل المعرفة والاستقامة والثبات وحسن الاختيار ولا يصيب إلا نجاحا قليلا؛ لكثرة المناظرين له في مهنته أو لأسباب أخرى فلا يتم نجاحه إلا بالجد والسهر، وقد يكون الرجل متوسط الذكاء والمعرفة فيعوض جده عن ذلك النقص. (6)
مراقبة الفرص: إن اغتنام الفرص من أكبر أسباب النجاح، وهي على الغالب أهم وسائل الإثراء؛ إذ قد تسنح للإنسان فرصة إذا تنبه لها واغتنمها أغنته عن سعي كثير أو فتحت له بابا للكسب الطائل الذي لا يتوقعه من عمله الاعتيادي. (7)
أسلوب المعاملة: هذا سر عظيم من أسرار النجاح؛ إذ قد يكون الإنسان متقنا ثابتا مستقيما مجدا ساهرا ولا يصيب نجاحا كبيرا؛ لأنه لا يحسن معاملة الناس أو أنه اتخذ في معاملتهم أسلوبا لا يرضيهم، وينبغي لطالب النجاح أن يتحلى بالأخلاق الرضية مع خفة الروح، ورقة الطبع، ودقة الشعور، فإننا نعرف غير واحد من أشهر المتقنين لأعمالهم وقد فشلوا لأنهم لم يحسنوا الأسلوب في المعاملة، وكثيرا ما يتوقف نجاح المرء على حسن أخلاقه أكثر مما على حدة ذهنه وذكائه.
فسليم صيدناوي الذي نحن في صدد ترجمته ولد فقيرا، ونال ثروة طائلة وشهرة واسعة بجده واستقامته وثباته وحسن أسلوبه على ما تراه فيما يلي: (1) ترجمة حاله
ولد سليم في دمشق سنة 1856 من عائلة معروفة هناك، وكان أبوه المرحوم يوسف صيدناوي سمسارا تجاريا، فربي في حضن والديه وتلقن مبادئ القراءة والكتابة على قدر ما تسمح به أحوال تلك الأيام، فقد كانوا إذا أتقن أحدهم القراءة في المزامير أو الأناجيل وعرف شيئا من الحساب قالوا : «إنه ختم علمه»، وكان والده كثير التفكير في مستقبل بنيه، ويرى أن الشاب لا يأمن الفقر ما لم يتعلم صناعة من الصنائع الضرورية، فأدخل سليما في محل خياطة إفرنجية، وكانت حديثة العهد في سوريا يومئذ، فتعلمها وما زال يشتغل بها حتى انتقل إلى مصر سنة 1879.
وكان أخوه سمعان وهو أصغر منه بسنتين قد أتى مصر سنة 1877 وفيه ميل إلى التجارة من صغره، فخدم وهو في دمشق في محل تجاري نحو ثلاث سنوات مع رغبة أبيه في تعليمه الصناعة؛ عملا بالمبدأ الذي قدمناه، وقد علمه صناعة الحياكة، لكنه كان أكثر ميلا إلى التجارة، وجاء مصر سنة 1877 بلا رأس مال فلقي فيها عمه المرحوم نقولا صيدناوي، وكان تاجرا في الحمزاوي يبيع الحرائر والخردوات، فخدم عنده ونفسه لا تطاوعه على البقاء في الخدمة، واتفق بعد خمسة أشهر من خدمته عند عمه أن تاجرا سوريا اسمه إلياس جهامي توفي عن أولاد قاصرين، وله محل تجاري في الحمزاوي أراد الأوصياء تصفيته، فاغتنم سمعان هذه الفرصة وتصدى لتصفيته فسلموه إليه، وعمل في أثناء التصفية على استخدام بعض ما يقبضه من ثمن المبيع في ابتياع بعض الأصناف وتصريفها مع سائر البضائع، على أن يكون له نصف ربحها وللمحل النصف الآخر، ولما قارب الفراغ من التصفية بلغت تلك الأرباح 285 جنيها نصفها له، فاتفق مع الأوصياء على استبقائها كلها بيده، وأن يدفع عن النصف الآخر وعن ثمن بضائع باقية في المحل قيمتها 140 جنيها فائدة قانونية، فكان رأس مال ذلك المحل نحو 500 جنيه ثلثها دين على سمعان يدفع فائدة 200 غرش كل شهر.
فصرف سمعان عنايته في طلب النجاح بالطرق الحلال، وكان سبب نجاحه على الأكثر أنه اهتدى بتفكيره وسهره إلى المصدر الأصلي للبضائع التي كان يبيعها في محله وهي الحرائر والمناديل، وكان تجار القاهرة يستوردونها من الآستانة، فعرف هو أن تجار الآستانة يستجلبونها من أوروبا، فاستجلبها من هناك رأسا وباعها بأرخص مما كان غيره يبيعها، فراجت تجارته واتسع شغله.
فلما قدم سليم إلى مصر كان سمعان في محله المشار إليه ، فاشتغل سليم أولا بالخياطة من طريق التجارة، فاشترك مع الخواجه متري صالحاني في محل للخياطة والتجارة، وحصة سليم من رأس المال دفعها أخوه، وبعد قليل احترق المحل وذهب رأس المال كله، وكان بين سليم وسمعان تآلف وتحاب فوق تآلف الإخوة، كأنهما شخص واحد، وكان للمرحوم سليم انعطاف على أخيه منذ الصغر، فلما احترق المحل أغضى سمعان عن تلك الخسارة، وشارك أخاه في الباقي معه، ففتحا حانوتا في الموسكي عند مدخل شارع منصور باشا لا تزيد مساحته على أربعة أمتار مربعة، أقام فيه سليم وظل سمعان في الحمزاوي، وعقدا الشركة رسميا باسم «سليم وسمعان صيدناوي» سنة 1879 أي منذ 31 سنة، وأخذا في العمل بنشاط وأمانة وهما عازبان يقيمان في غرفة بوكالة يعقوب بك بالحمزاوي ليس فيها من الأثاث إلا سرير ينام عليه أحدهما، ومقعد ينام عليه الآخر، ويأكلان في مطعم بغاية ما يكون من البساطة والاقتصاد، وقد سمعناهما يذكران ذلك بعد أن بلغا ما بلغاه من بسطة الجاه، وسعة الثروة، لا يرون في ذكره حطة ولا صغارا. (1-1) أساس النجاح
وأساس نجاحهما بعد الشركة حادث يشبه ما يروى عن نجاح بيت روتشيلد يدل على ثمار الأمانة والاستقامة، وذلك أن سليما وهو في حانوته المشار إليه أتته خادمة من قصر البرنس مصطفى فاضل باشا، وابتاعت منه ثوبي دانتيلا بستة عشر غرشا (تعريفة) وفهمت أنه يعني 16 غرشا صاغا، فدفعت المبلغ ومضت وهو لم ينتبه لمقدار ما دفعته لاشتغاله بسواها، ثم عد النقود فرأى المرأة دفعت ضعفي ما طلب منها، ولم يكن يعرف مكانها، فجاءت في اليوم التالي لتبتاع ثوبين آخرين وبيدها 16 غرشا أخرى، فأخبرها أن الثمن 8 غروش وهي القيمة التي بقيت لها بالأمس، وأعطاها الثوبين ولم يأخذ منها شيئا، فدهشت المرأة لهذه الأمانة، وهي نادرة الوقوع، لا سيما في معاملة الأغنياء؛ لطمع الناس بأموالهم، وقصت ذلك على سيدتها فشاع خبر تلك الحادثة في بيوت الوجهاء من الأمراء وأقاربهم، فرغبوا جميعا في معاملة ذلك التاجر المستقيم، وكان سليم يعرف شيئا من التركية سهل عليه معاملتهم، وما زالوا يزدادون ثقة بأمانته كل يوم حتى أصبحوا لا يبتاعون فرشا أو ثيابا أو قماشا إلا بمشورته أو على يده.
فاشتهر بالأمانة والاستقامة بين الأغنياء، فزادت مكاسبه، وضاق ذلك الحانوت عليه فانتقل سنة 1881 إلى حانوت أكبر منه في الموسكي أيضا يطل على الخليج، ثم وسعوه من داخله بعد ذلك، وهو شطر محلهم الحالي، وفيه أصناف السجاد والفرش، ولما أخذا ذلك المحل اجتمع الإخوان للتعاون على العمل، وظل محل الحمزاوي لهما، وما زالت أشغالهما تتسع ورأس مالهما يكبر، وكلما ضاق المحل وسعاه حتى لم يبق سبيل إلى توسيعه، فأخذا محلا تجاهه جعلاه المحل المركزي وفيه الكتاب والحساب.
ومما يعد خطوة كبرى في طريق النجاح اعتمادهم في المسواق على أوروبا. بدءوا بذلك سنة 1885 في فرصة عرضت لهما؛ وذلك أن المرحوم سليما أصيب بانحراف في صحته فوصفت له الأطباء الاستشفاء بأوروبا، فاغتنم وجوده هناك وخابر المعامل التي تشتغل بأصناف تجارته، ورأى فرقا كبيرا بالأثمان فعاملها رأسا، فصار ذلك قاعدة في المسواق كل عام، وانقسم الشغل بين الأخوين فتولى سليم المسواق والحسابات وانفرد سمعان بتنظيم إدارة البيع، وما زالا في تقدم، والشغل ينمو ويتسع ويتفرع حتى أصبح محلهم في القاهرة أعظم محل تجاري في الشرق، عدد عماله يناهز 150 عاملا من الباعة والكتاب غير المستخدمين الصغار وغير مستخدميهم في أطيانهم وعقاراتهم وأعمالهم الأخرى، فضلا عن محلاتهم الفرعية في منشستر وليون وباريس والإسكندرية وغيرها، وغير البنك الذي أنشأه قبل وفاته شركة مساهمة باسم «بنك صيدناوي وظريفة ونحاس وشركاهم»، وأنعم عليهما الجناب العالي بالرتبة الثانية مع لقب بك، وفي ذلك العام جعلا محلهما التجاري بالقاهرة شركة مساهمة اسمها «سليم وسمعان صيدناوي ليمتد»، وظلت شركتهما الأصلية في العقار والطين باسم «سليم وسمعان صيدناوي» أما ثروتهم فنحو ثمانمائة ألف جنيه، ثلثاها عقار وأطيان والثلث الآخر في التجارة.
حساب الحق أو العشور
قد رأيت أنهما أسسا شركتهما على الاستقامة والأمانة، وقد سيجاها بالإحسان على أسلوب جعلا الإحسان فيه فرضا عليهما لا يتوقعان عليه أجرا؛ وذلك أنهما تعاهدا منذ تأسيس الشركة - وهما في ذلك الحانوت الصغير - أن يخصصا خمسة في المائة من الربح تفرق على الفقراء على سبيل الزكاة، فأصبحا يجردان المحل في كل سنة، فإذا عرفا الربح أخرجا خمسة في المائة منه للإحسان، وسميا هذا المال «الحق أو العشور» تنفق في سبيل البر، وما زال ذلك دأبهما إلى الآن، وقد زادت أموال العشور بزيادة أرباحهما ففتحا لها حسابا خاصا في دفاتر خاصة وربما بلغ مقدارها الآن نحو 2000 جنيه في العام تنفق في إعالة الفقراء لا يفرقان في ذلك بين المسلم والمسيحي واليهودي وغيره، للكساء أو الطعام أو المأوى أو بتزويج العذارى اللواتي يحول الفقر دون زواجهن، فكم من عائلة سترها إحسانهما، وكم من بيوت أمست لولاهما خرابا، يفعلان ذلك ولا يعدانه إحسانا، وإذا أردت التنويه بذكره تجاهلا، وقد ينكرانه، ولكن الحق يأبى إلا الظهور، فلا عجب إذا رأيت آثار إحسانها ظاهرة في الجمعيات والعائلات والمستشفيات والمدارس والكنائس، وهي أمثولة للأغنياء يحسن تحذيها والعمل بها، فإن المحسنين بينهم قليلون، وإذا عملوا برا نفخوا بالبوق وضربوا بالطبل وأشاعوا ذلك على صفحات الجرائد التماسا لحسن الأحدوثة. (2) صفاته وأخلاقه
كان سليم رحمه الله ربع القامة، ممتلئ الجسم، مخلص الطوية، صادق اللهجة، لا يحلف ولا يخلف، وكان واسع الصدر، طويل الأناة، شديد الميل إلى المسالمة والتساهل، صبورا على العمل، شديد المحافظة على الوقت، كثير الرغبة في مواساة الحزانى، وإعالة المساكين، فإذا احتضر والد وعلم قبل موته أن سليم صيدناوي سيكون وصيا على أولاده مات قرير العين مطمئن الخاطر؛ ولذلك كثرت الوصايات إليه وهو لا يبالي بما ينفقه في سبيلها من الوقت أو الصحة، فضلا عن أعماله في خدمة أوقاف الطائفة الكاثوليكية، وعن توسطه في حل المشاكل بين الشركاء أو الأقرباء أو الأصدقاء.
ومع كثرة شواغله كان كثير الائتناس بأهله، لا يبرح بيته، زاهرا مشرقا بقرينته وهي ابنة عمه نقولا صيدناوي الذي تقدم ذكره في صدر هذه المقالة بما فطرت عليه من الذكاء واللطف والتعقل وحب المطالعة، فلم تكن تذخر وسعا في سبيل راحته، فإذا أوى إلى منزله خففت عنه متاعب الحياة بلطفها وحسن أسلوبها، كما ينبغي أن تكون المرأة الفاضلة، ويعمد هو إلى ملاعبة أولاده أو أولاد أخيه ومداعبتهم فيذهب تعبه وتتجدد قواه، فيزداد نشاطا على العمل. (3) العبرة والموعظة
نحن في مقام ترجمة المرحوم سليم صيدناوي، ولكننا لم نر بدا من الكلام عن أخيه أيضا لارتباطهما في العمل وتعاونهما على الخير. أما العبرة بما تقدم فهي أن نجاح هذين الأخوين حجة دامغة على أن الاستقامة والصدق ضروريان للنجاح، ولا يكون مأمونا إن لم يتعهده أصحابه بالإحسان زكاة أو صدقة، فتزداد المكاسب وينجو صاحبها من غوائل الحسد؛ ليس لأن الحسد يضر المحسودين، ولكن الإنسان إذا ارتقى بأي باب من أبواب العمل كثر حساده ومنتقدوه، وكلما كبرت نفسه كثر الطاعنون فيه، ومن الناس من لا يهمه ما يقال عنه، وإنما يهمه أن تزيد ثروته أحبه الناس أو أبغضوه، ومنهم من لا يهمه الكسب بقدر ما يهمه حب الناس، فهؤلاء يتلافون الطعن والحسد بالإحسان والتواضع والتلطف، وقد يكون إحسانهم عن إحساس ديني التماسا للثواب، وكلا السببين الآخرين حسن نافع؛ لأن النتيجة منهما إعالة الضعفاء وعمل الخير، وأما الذين يقتصر همهم على جمع المال لا يبالون بما يقال عنهم فإنهم نمو غريب في جسم الاجتماع ينمو بامتصاص غذائه ويعود بالضرر عليه.
أما الصيدناويان فإنهما أفضل مثال لما ينبغي أن يكون عليه رجال الثروة وأهل الجاه، وهما مع ثروتهما وجاههما يتوخيان البساطة في أساليب معاشهما ويبذلان الألوف في إعالة الفقراء، وهما مثال في الجد والنشاط، يشتغلان من الصباح إلى ما بعد العشاء شغلا شاقا يعرفه كل من زار محلهما ورأى حركة العمل فيه.
ومن أسباب نجاحهما غير ما تقدم من الأمانة والنشاط واغتنام الفرص حسن الاختيار؛ فقد اختارا العمل، واقتسماه على حسب استعداد كل منهما: سليم للمسواق والإدارة والحسابات، وسمعان لإدارة البيع، ومن تلك الأسباب أيضا الثبات؛ فقد ثبتا في شغل واحد ثلاثين سنة، وهو الاتجار بالحرير والخردوات لم يتحولا عنه، وإنما وسعوه بما يلائم أن يكون ملحقا به، ومنها أسلوب المعاملة، وهما مشهوران باللطف والتواضع، فلا يخرج الشاري ولا البائع من محلهما إلا راضيا.
الفصل الأربعون
قاسم أمين
شكل 40-1: قاسم أمين نصير المرأة المسلمة والداعي إلى إصلاح العائلة (ولد سنة 1865 وتوفي سنة 1908).
أصيب الإسلام في أوائل هذا القرن بفقد غير واحد من كبار رجاله ونوابغ عماله، نخص بالذكر اثنين من دعاة الإصلاح الاجتماعي أو الديني، أحدهما الشيخ محمد عبده زعيم النهضة الإصلاحية الإسلامية في هذا العصر، والثاني قاسم بك أمين نصير المرأة المسلمة والداعي إلى إصلاح العائلة، وقد مات كلاهما وبينهما ثلاث سنين، فخسرنا بذلك خسارة لا يعرف مقدارها إلا الذين يعلمون افتقار الشرق إلى ذلك الإصلاح، ولا سيما العائلة فإنها قوام الأمة، وقوام العائلة المرأة، فلا تصلح الأمة إلا بإصلاحها. (1) المرأة العربية قبل الإسلام وبعده
تبين لنا من أبحاثنا في «تاريخ العرب قبل الإسلام» الذي صدر ملحقا للهلال أن المرأة العربية كان لها مقام رفيع في التمدن العربي القديم، فتعاطت الكتابة وتولت الإدارة وعانت سائر أعمال الرجال في الألف الثالث قبل الميلاد؛ أي منذ أكثر من 4000 سنة، وعرفنا دولا عربية في أعالي الحجاز لا يتولى الملك فيها إلا النساء. ناهيك بما تناقله العرب من أخبار بلقيس صاحبة اليمن والزباء (زينوبيا ) صاحبة تدمر. عدا اللواتي اشتهرن في أثناء الجاهلية من العرافات والكواهن، ولا يتولى الكهانة إلا الممتازون بالعقل والتدبير بعد أن ينالوا المقام الرفيع ويحرزوا العلم الواسع. ويقال بالإجمال: إن المرأة في الجاهلية كان لها شأن وإرادة وأنفة ورأي وحزم، ونبغ غير واحدة منهن قبيل الإسلام وفي أوائله بالسياسة والحرب والأدب والشعر والتجارة والصناعة على أثر ما حصل من النهضة في النفوس والعقول يومئذ، فاشتهر جماعة منهن بمناقب رفيعة تضرب بها الأمثال، وممن اشتهرن بالحزم والرأي خديجة بنت خويلد زوج النبي، وأسماء بنت أبي بكر، وسكينة بنت الحسين وغيرهن
1
ظلت المرأة العربية على أنفتها وعزة نفسها وسمو منزلتها في أيام الراشدين، وزاد توسعها في طلب المعرفة إذ اتسع المجال للعقول والمواهب، فنبغت غير واحدة بالشعر والأدب، وأتت بعضهن أعمالا يعجز عنها كبار الرجال، فلما أفضت الدولة إلى بني أمية في أواسط القرن الأول للهجرة، أصاب المرأة العربية صدمة قوية غيرت كثيرا من طبائعها؛ لتكاثر الجواري والغلمان في دور الأمراء، وانغماس بعض الخلفاء في الترف والقصف، وانتشار الغناء والمسكر، وتكاثر المخنثين في المدن وتوسطهم بين الرجال والنساء بالباطل.
ولما استبحر عمران المسلمين في العصر العباسي زادوا انغماسا في القصف واللهو والخلاعة، وفسدت النية بين الرجل وامرأته، وهو صاحب الذنب؛ لأنه بدد شعائره وأمياله بين عدة نساء فقلت ثقة امرأته به، ولم ينضج التمدن في ذلك العصر حتى تنوسيت المرأة العربية وذهبت حريتها وغيرتها وانحطت نفسها وذهبت أنفتها واستقلال فكرها، فاحتقرها الرجل وساء الظن بها، وصار يعاشرها على غل وسوء رأي، يقفل عليها الأبواب والنوافذ، وأصبح الطعن في طباعها وسوء سريرتها شائعا على ألسنة الناس حتى ألفوا فيها الروايات والقصص، ونظموا بها الشعر وتفننوا في وضع الجمل الحكمية، والعبارات البليغة في تحذير الناس من المرأة وعدم الوثوق بها. هذه قصة ألف ليلة وليلة تمثل حال المرأة في الأعصر الإسلامية الوسطى بعد شيوع التسري وانغماس المسلمين في الترف. وأما الأشعار فإليك ما قاله أبو العلاء المعري:
إذا بلغ الوليد لديك عشرا
فلا يدخل على الحرم الوليد
وإن خالفتني وأضعت نصحي
فأنت وإن رزقت حجا بليد
ألا إن النساء حبال غي
بهن يضيع الشرف التليد
وأصبح الكاتب إذا أراد تعزية صديق على فقد بنت له قال ما قاله أبو بكر الخوارزمي إذ كتب إلى رئيس بهراه يعزيه ببنته وهو قوله:
ولولا ما ذكرته من سترها، ووقفت عليه من غرائب أمرها، لكنت إلى التهنئة أقرب إلى التعزية، فإن ستر العورات من الحسنات، ودفن البنات من المكرمات، ونحن في زمان إذا قدم أحدنا فيح الحرمة، فقد استكمل النعمة، وإذا زف كريمة إلى القبر، فقد بلغ أمنيته من الصهر
قال الشاعر:
ولم أر نعمة شملت كريما
كنعمة عورة سترت بقبر
وقال آخر:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا
والموت أكرم نزال على الحرم
وقال آخر:
وددت بنيتي ووددت أني
وضعت بنيتي في لحد قبر
وقال آخر:
ومن غاية المجد والمكرمات
بقاء البنين وموت البنات
وقال آخر:
سميتها إذ ولدت تموت
والقبر صهر ضامن زميت
هذا مثال من آراء أدباء المسلمين وشعرائهم في المرأة بين القرنين الرابع والخامس للهجرة، وقد زادت حطة وصغارا في الأجيال الإسلامية الوسطى تبعا للتقهقر العام، وبلغت غاية ذلك في القرون الأخيرة قبل النهضة، وقد تساوت في ذلك الانحطاط المرأة المسلمة وغير المسلمة من نساء الشرق الإسلامي على الإجمال والناس سكوت؛ لأن القرائح جامدة، والنفوس ميتة بما تولى الناس من فساد الأحكام وتفشي الجهل.
فلما أخذ القوم بأطراف التمدن الحديث، واستنارت العقول بالعلم انتبه العقلاء إلى المرأة، وعمدوا إلى النظر في تحسين حالها ورفع شأنها، بدأ بذلك المسيحيون لكثرة اختلاطهم بأصحاب هذا التمدن، وقد أصابوا منه حظا وافرا؛ إذ ليس في تقاليدهم أو عقائدهم ما يمنع حريتها، ثم أخذ عقلاء المسلمين يفكرون في حال المرأة المسلمة ويشعرون بحاجتها إلى الإصلاح؛ لعلمهم أن الأمة يتوقف إصلاحها على إصلاح المرأة. فطفقوا يتهامسون في ذلك تهيبا من مقاومة تيار العامة الذين يعدون التضييق على المرأة من حقوق الرجل.
ثم أخذ بعضهم يتظاهرون بنصرتها، وأنشئت المدارس لتعليمها، وظهر القائلون بوجوب إصلاحها، وليس بينهم من تصدى للمجاهرة بذلك على الملأ بالكتابة والخطابة؛ لأن الشجاعة الأدبية كانت قليلة بيننا، وأسبق المسلمين إلى طلب الإفراج عن المرأة في هذا العصر الأتراك في الآستانة؛ لكثرة اختلاطهم بالأجانب، وسبقهم في الاطلاع على أسباب التمدن الحديث، ولذلك كان كتابهم أسبق إلى المجاهرة بوجوب رفع الحجاب، وأول من فعل ذلك من العرب هناك الشيخ أحمد فارس صاحب الجوائب.
أما في مصر فما زال العقلاء يتهامسون في هذا الموضوع وفي غيره مما يشعرون بحاجتهم إليه من الإصلاح الاجتماعي أو الديني حتى صرح الشيخ محمد عبده بآرائه فلاقى ما لاقاه من المعارضة والنقمة، وكانت وجهته الإصلاح الإسلامي على العموم بحل قيود التقاليد، وتحكيم العقل في التفسير والتأويل إلى ما فيه ترقية شئون المسلمين، فكثر مريدوه والمؤمنون على أقواله وإن قل المجاهرون بذلك على المنابر أو في الصحف. ومن أولئك القليلون فقيد الأمس قاسم بك أمين؛ فإنه أخذ على عاتقه القيام بأهم أسباب الإصلاح المطلوب، نعني تحرير المرأة. تصدى لذلك بشجاعة يندر مثلها. (2) الشجاعة الأدبية
الشجاعة الأدبية أن يقول الإنسان اعتقاده، ولو كان فيه ما يسيء الكبراء أو يهيج عليه العامة مما يئول إلى الخطر على حياته أو مصلحته، وأصحاب هذه المنقبة قليلون، ولا سيما في الشرق بعد ما توالى على أهله من أصناف الذل والخسف. وأما في إبان تمدنه فقد اشتهر من رجاله جماعة نضرب الأمثال بشجاعتهم الأدبية لسيادة العدل ونزوع ولاة الأمور إلى نصرة الحق، والضرب على أيدي الظالمين، فلم يكن الناس يخافون أن يقولوا ما يعتقدون حتى كان الرجل من العامة ربما انتقد الخليفة أو الأمير في وجهه لا يخشى بأسا، وقد تعود المسلمون ذلك من زمن الراشدين، فلما أفضت الدولة إلى بني أمية وعمدوا إلى الدهاء والشدة في تأييد سلطانهم أمسكوا على الناس حريتهم، ومع ذلك فقد نبغ غير واحد بذلوا حياتهم في سبيل شجاعتهم كما أصاب أبا ذر الغفاري، وحجر بن عدي الكندي، وسعيد بن حبير وغيرهم، ولا تقتصر تلك الشجاعة على المسائل السياسية أو الدينية، بل هي لازمة في العلم والأدب فقد عرض غاليليو حياته للخطر لمخالفة الأولين في قولهم عن ثبوت الأرض.
والإنسان من فطرته حر الفكر، يدلك على ذلك ما يبدو في كلام الأطفال من الصراحة والحرية، ولكن تربيته على الخوف والحذر وتضييق الفكر منذ الصغر بالخرافات والأوهام تقيدان العقل حتى يعجز صاحبه عن التفكير إلا على القالب الذي صب عقله فيه، فعلى طالب الإصلاح قبل أن يحل لسانه من خوف العقاب أن يحل فكره من قيود التقليد، هذه هي الخطوة الأولى نحو الشجاعة الأدبية، وجمهور العامة مقيدو الفكر لا تتمشى أفكارهم إلا على الخطة التي رسمتها عاداتهم، فتبدو آراؤهم مسبوكة في القوالب التي اقتضتها تربيتهم أو معتقداتهم، فقبل أن نطالبهم بحرية القول أو الشجاعة الأدبية يجب علينا أن نعلمهم «حرية الفكر»؛ أي نجعلهم ينظرون فيما يعرض لهم من المسائل بعين العقل لا بعين الغرض، وأن يبحثوا عن الحقيقة المجردة بقطع النظر عما غرس في أذهانهم مما يخالفها فيحكموا عقولهم وليس عاداتهم ومعتقداتهم، ذلك ما يعبرون عنه باستقلال الفكر.
فمتى أطلق الرجل فكره من قيود الغرض أو التقليد بقي عليه أن يصرح بما يرشده إليه عقله إذ قد يكون في تصريحه ما يسوء سواه أو يعود عليه بالضرر، فيمسك عنه خوفا أو مسايرة فيسكت، وقد يتمادى في جر المنفعة لنفسه فيقول عكس ما يعتقده التماسا لرضى الآخرين، ونرى أمثلة من ذلك شائعة بيننا لهذا العهد.
فالناس من هذا القبيل ثلاث طوائف: طائفة غلبت عليها الأوهام وقيدتها التقاليد، فلا تنظر في الأمور إلا بعين الغرض وبما تقتضيه تلك القيود، فلا يلام أصحابها إلا على الجهل، وطائفة حلت أفكارها من تلك القيود ونظرت في الأمور بعين العقل فظهر لأصحابها في شئون العامة خلل يقتضي إصلاحا، فمنهم من يسكت عن إبداء رأيه خوفا من غضب الجمهور أو مراعاة لرئيس أو صديق، وهي جبانة وضعف، ومنهم من لا يكتفي بالسكوت عن الحق بل يجاري تيار الجهلاء فيقول عكس ما يعتقد، وهو النفاق والرياء، ومنهم من يقول ما يعتقده بشجاعة وصراحة لا يبالي بما قد يلحقه بسبب ذلك من الضرر، وهي الشجاعة الأدبية وأصحابها هم رجال الفضل على المجتمع الإنساني ومنهم كبار المصلحين والشارعين، وليس المصلح أو الشارع إلا رجلا دعا الناس إلى غير ما ألفوه أو تعودوه من الإصلاح الديني أو الاجتماعي وضحى نفسه أو مصلحته في هذا السبيل، وصاحب الترجمة من أولئك المصلحين. (3) ترجمة حاله
كان أبوه أمين بك ابن أمير من أمراء الأكراد أخذ رهينة في الآستانة على أثر خلاف وقع بين الدولة العلية والأكراد، ثم جاء إلى مصر على عهد إسماعيل باشا، وانتظم في الجيش المصري ورقي فيه إلى رتبة أميرالاي، وتزوج بكريمة أحمد بك خطاب أخي إبراهيم باشا خطاب، فولدت له أولادا أكبرهم قاسم صاحب الترجمة.
وليس في ترجمة قاسم أمين ما نراه في تراجم رجال الحرب أو السياسة من الحوادث العديدة، فقد ربي كما يربو أمثاله من أولاد الوجهاء، وتثقف في مدارس الحكومة المصرية، وكان ممتازا في صغره بالذكاء وحدة الذهن، ولما أكمل دروسه كان في جملة الذين اختارتهم الحكومة للإرسال إلى أوروبا يتعلمون بنفقتها على جاري العادة في ذلك الحين، فدرس الحقوق في فرنسا وعاد إلى مصر سنة 1885 فتعين وكيلا للنائب العمومي في محكمة مصر المختلطة، وما زال يرتقي حتى صار مستشارا في الاستئناف، وكان في كل أعماله مثال الأمانة والنشاط واستقلال الفكر حتى توفاه الله بالسكتة في 21 أفريل الماضي وهو في الثالثة والأربعين من عمره. (4) صفاته وأعماله
كان رحمه الله ربع القامة، أسمر اللون، كثير التفكير، قليل الكلام، وكان حر الفكر، صادق اللجة، وقد زاده التبحر في القوانين والنظر في أقوال الفلاسفة الاجتماعيين استقلالا في الفكر، وصراحة في القول؛ لأن القضاء يعود صاحبه التمسك بالحق وإجلال قدر الحقيقة، وممارسة القضاة الأحكام، وتعودهم إذعان الناس لأقوالهم بلا مراجعة يزيدهم جرأة لإبداء آرائهم في كل مسألة تعرض عليهم؛ ولذلك رأيت المحاباة والرياء نادرين فيهم.
وكان كبير النفس، شديد الحرص على كرامتها؛ ولذلك رأيناه محبا لأمته راغبا في رفع منزلتها؛ لأن حب الأمة من حب الذات، ولا يحب أمته إلا الذي يحب كرامة نفسه، ومن يتغالى في خدمة أمته فإنما يفعل ذلك حبا بنفسه.
واطلع قاسم على أحوال الأمم الراقية في أثناء إقامته بأوروبا، فتمنى أن تكون أمته مثلها، فنظر في أسباب الرقي فرآها كثيرة لا يمكن تناولها دفعة واحدة، ولا يتيسر تناول شيء منها قبل إصلاح العائلة، لأن الأمة تكون كما تكون العائلة، والعائلة تكون كما تريد المرأة، فوجه عنايته إلى إصلاح المرأة المسلمة، وليس هو أول من رأى ذلك أو فكر فيه كما قلنا، ولكنه كان حازما مقداما لا يكتفي بالقول والتذمر أو الاستسلام على عادة أكثر المفكرين بيننا، ومنهم طائفة لا يقلون تعقلا وسدادا عن المفكرين في العالم المتمدن، ولكنهم يقولون ولا يفعلون، وهي آفة المشارقة. أما قاسم أمين فكان فعالا إذا اقتنع بصواب فكر أخرجه إلى حيز العمل، فلما عرف الطريق المؤدي إلى إصلاح أمته بادر إلى مباشرته وهو يعلم ما يعتور مشروعه من العقبات، وما سيلقاه من مقاومة تيار الرأي العام؛ لأن إصلاح المرأة يقتضي منحها الحرية، ويتناول تقبيح الحجاب والنهي عن الطلاق وتعدد الزوجات مما يعده العامة من قبيل العقائد الدينية وهو ليس من الدين في شيء، فاضطر أن يبين ذلك في أثناء بحثه، وبعد إعمال الفكرة ألف كتابه «تحرير المرأة»، واسمه ينم على منزلة المرأة المسلمة في اعتباره، فهو يعدها مستعبدة، وقد أخذ على نفسه أن يحررها، وعلم أن الناس سيكبرون قوله، وينكرون عليه مشروعه، حتى المرأة؛ لأنها ألفت الذل وتعودت أن تعتبر نفسها من أدوات المنزل، فلم يكن يتوقع أن يرى ثمرة سعيه في حياته، فرضي أن يضع الأساس لسواه، فصدر كتابه المشار إليه بقوله:
وغاية ما أريد هو أن أستلفت الذهن إلى موضوع قل المفكرون فيه، لا أن أضع كتابا يوفي الكلام في شأن المرأة ومكانتها من الوجود الإنساني، وقد يوضع مثل هذا الكتاب بعد سنين متى نبتت هذه البذرة الصغيرة، ونما نباتها في أذهان أولادنا، وظهرت ثمراتها، وعملوا على اقتطافها والانتفاع بها .
ثم بين حاجة المرأة المصرية أو المسلمة إلى الإصلاح موجها كلامه إلى الخاصة والعقلاء، فأورد فصلا في «إن حال المرأة في الهيئة الاجتماعية يتبع حال الآداب في الأمة»، لا يقرؤه قارئ إلا توسم من خلال سطوره الحماسة، ونصرة الحقيقة، وصدق اللهجة، فقد افتتح كلامه بقوله:
إني أدعو كل محب للحقيقة أن يبحث معي في حالة النساء المصريات، وأنا على يقين أنه يصل وحده إلى النتيجة التي وصلت إليها، وهي ضرورة الإصلاح فيها، هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت في خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها، حتى إذا تجردت عن كل ما كان يختلط بها من الخطأ استولت على مكان عظيم من موضوع الفكر مني، وزاحمت غيرها وتغلبت عليه، وصارت تشغلني بورودها، وتنبهني إلى مزاياها، وتذكرني بالحاجة إليها، فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر.
ثم أخذ يبحث في علاقة المرأة بالأمة، ويورد الأدلة والبراهين التاريخية والاجتماعية ويستنهض الهمم، ويستحث القرائح على العمل بعبارات ملؤها الحماسة والإخلاص، وقال:
ولا يركن إلى حب السكينة إلا أقوام على شاكلتنا، فقد أهملنا خدمة عقولنا حتى أصبحت كالأرض البائرة التي لا يصلح فيها نبات، وحتى مال الكسل بنا إلى معاداة كل فكر صالح مما يعده أهل الوقت حديثا غير مألوف، سواء كان من السنن الصالحة الأولى، أو قضت به المصالح في الأزمنة.
وكثيرا ما يكتفي الكسول وضعيف القوى في الجدل بأن يقذف بكلمة باطلة على حق ظاهر يريد أن يدفعه، فيقول: تلك بدعة في الإسلام، وما يرمي بهذه الكلمة إلا حبا بالتخلص من مشقة الفهم أو الخروج من عناء العمل في البحث أو الإجراء. كأن الله خلق المسلمين من طينة خاصة بهم، وأقالهم من أحكام النواميس الطبيعية التي يخضع لسلطانها النوع الإنساني وسائر المخلوقات الحية.
سيقول قوم إن ما أنشره اليوم بدعة، فأقول: نعم، إني أتيت ببدعة، ولكنها ليست في الإسلام بل في العوائد وطرق المعاملة التي يحمد طلب الكمال فيها.
وأفاض في بسط الموضوع وتأييده فأفرد فصلا لتربية المرأة، وهو يعتقد أنها مساوية للرجل لا تختلف عنه إلا بما يستدعيه اختلافها في الصنف، وأن تعليمها العلوم الطبيعية والعقلية والأدبية يساعدها على القيام بواجباتها المنزلية وترقية نفوس أبنائها، وقسم الكلام في التربية إلى التربية بالنسبة إلى الوظيفة الاجتماعية وبالنسبة إلى الوظيفة العائلية، ثم تكلم في الحجاب، وكان قد ألف كتابا بالفرنساوية قبل «تحرير المرأة» رد به على كتاب الدوك داركور الذي طعن فيه على المصريين، وقبح أخلاقهم وعاداتهم، واختصر قاسم في دفاعه عن الحجاب هناك فأفاض هنا في حقيقة الحجاب من الوجهة الدينية ومن الوجهة الاجتماعية، واستأنف الكلام في «المرأة والأمة» وبين ارتباطهما في فصل طويل.
وختم كلامه بفصل في «العائلة» وتوسع في الكلام على الزواج وشروطه، وبين أن الشريعة الإسلامية تأمر بحسن المعاملة، وتنهى عن تعدد الزوجات وتقبح الطلاق؛ مسندا أقواله إلى القرآن والحديث والقواعد الاجتماعية والأحكام العقلية، وفي كل فقرة دليل على صراحة فكره وصدق لهجته وتفانيه في خدمة أمته، ومع ذلك فلم يكد يظهر كتابه وتتناقله الأيدي حتى تصدى لتخطئة أقوام جاهروا بالسخط على صاحبه بين منتقد وهازئ، إما تمسكا بالقديم أو مجاراة لإحساس العامة لارتباط ذلك بمصالحهم وطرق معائشهم. وفيهم من فعل ذلك عن اعتقاد خالص، ولكن بعضهم تجاوز حد الانتقاد إلى الاستهزاء والقول الهراء، فاتهمه بعضهم بالمروق من الدين، وآخرون بالخروج عن الآداب، وزعم غيرهم أنه يرمي إلى قلب الهيئة الاجتماعية المصرية وممالأة الإنكليز على ضياع البلاد.
أما هو فأغضى عن ذلك كله ورجع إلى الموضوع فزاده بسطا بكتاب آخر سماه «المرأة الجديدة» تكلم فيه عن «المرأة في حكم التاريخ» من أقدم أزمنته إلى الآن في الأمم القديمة والحديثة تأييدا لرأيه في وجوب تحريرها ورفع شأنها، وفي «الواجب على المرأة لنفسها» وفصول في «الواجب على المرأة لعائلتها» و«التربية والحجاب».
ولم يكتف بطلب تحرير المرأة، لكنه وضع لحريتها حدودا، وبين ما يجب عليها وما يحق لها، ووضع للطلاق نظاما جعله نموذجا تنسج الحكومة على منواله إذا شاءت تحرير المرأة، وأعطاها حقها الشرعي والمدني، فقيد إرادة الرجل في الطلاق بحكم القاضي أو المأذون بعد أن يرشد الزوج إلى ما جاء في الكتاب والسنة من كره الطلاق عند الله وينصحه ويبين له تبعة عمله، وإذا أبى الإصغاء وسط حكما من أهله وحكما من أهلها للإصلاح بينهما، فإذا لم يفلح في ذلك كله أذن بالطلاق، ولا يخفى ما في ذلك من تدارك الأضرار التي تصيب العائلات بتسرع البعض في تنفيذ طلب الطلاق، وقد يكون طلبه عن غضب مؤقت فإذا ثاب إليه رشده ندم على ما فرط منه.
ظهرت كتابات قاسم في هذا الشأن من تسع سنوات، فشغلت الألسنة والأقلام عاما أو عامين تنبهت فيهما العقول وثارت الخواطر، وقام الناس وقعدوا، وقد لاقى من العقلاء إعجابا كثيرا فنصره بعضهم بألسنتهم وأقلامهم، وسكت الآخرون مجاراة للعامة ونصرائهم، وأكثر مجاهرة في نصرته وأخذا بيده زميلنا إبراهيم بك رمزي فإنه أنشأ يومئذ مجلة سماها «المرأة في الإسلام» جعلها وقفا على هذا المشروع، ظهرت سنة ثم احتجبت، ثم سكت الناس لا عن إهمال أو إغفال، ولكنها فترة الحضانة ريثما تتكيف عقول الأمة لقبول تلك الآراء، كالتلقيح بالجواهر النافعة فإنه يحدث عند دخوله البدن تهييجا، وقد يولد صديدا ثم يسكن في الظاهر ويعمل عمله رويدا رويدا. وقد أخذت نتائج ذلك السعي تظهر برغبة الناس في تعليم بناتهم وإنشاء المدارس لهذه الغاية. وهذا من أدلة تسرب فكر قاسم بالتدريج.
ستتوالى الأجيال وتمر السنون قبل أن تتحرر المرأة المسلمة، لكنها ستتحرر وترتقي وتتولى الأعمال الهامة، وترفع شأن العائلة كما كانت سالفاتها في جزيرة العرب منذ آلاف السنين، فإذا بلغت إلى ذلك الرقي تذكر أنه كان صاحب الفضل عليها، ويعظم ذكره فيبقى اسمه منقوشا بحروف من نور على تاريخ الاجتماع الشرقي في التمدن الحديث. (5) أعماله في غير تحرير المرأة
قد تمر القرون والناس على ما ساقتهم إليه الفطرة في طلب المعاش لا يفقهون معنى الحياة ولا الاجتماع حتى تتمخض الطبيعة فتلد من أبنائها أفرادا ينهضون بالأمة إلى ما يظنون فيه خيرها، هؤلاء هم أقطاب العالم ودعائم الهيئة الاجتماعية، فمنهم من يرى ثمرة سعيه وينال الفخر بحياته، ومنهم من يراها خلفاؤه ويطوبونه بعد موته.
وصاحب الترجمة واحد من هؤلاء؛ لم يجن ثمر سعيه، ولكن معاصريه عرفوا فضله واعترفوا بما طبع عليه من سعة العقل وسداد الرأي، والرغبة في خدمة الأمة، فعهدوا إليه، بأعز المشروعات لديهم؛ نعني إنشاء «الجامعة»، فولوه رئاسة اللجنة، فلم يذخر وسعا في سبيلها إلى آخر ساعة في حياته.
ذكرنا للفقيد فضله في نصرة المرأة، لأنه أظهر أعماله الاجتماعية، ولكنه كان راغبا في سائر سبل الإصلاح، يطلبها من أبوابها القانونية مع تطبيقها على القواعد الاجتماعية الصحيحة، لا يغريه إطراء ولا يخيفه صياح، ولا يستغرب نقمة الناس وتخوفهم من كل جديد، وكان يشير إلى ذلك في أثناء أقواله ويحتاط له ويدفعه، وله في الإصلاح على إجماله مقالات كان ينشرها في المؤيد، عنوانها: «أسباب ونتائج وأخلاق ومواعظ» لم يذكر فيها اسمه، وكان لها وقع حسن.
وله أقوال مأثورة وجمل يتناقلها الناس عنه ويتخذونها قاعدة أو مثلا، نشرتها إدارة الجريدة في كتاب سمته: «كلمات لقاسم بك أمين» هو عبارة عن مختارات أفكاره أو مذكراته، وفيه حكم فلسفية اجتماعية، وشذرات علمية يجدر بالأدباء الاطلاع عليها والتمثل بها، وهذه أمثلة منها:
إن الذي مدحك بما ليس فيك إنما هو مخاطب غيرك.
إذا استشارك عدوك فأخلص له النصيحة؛ لأنه باستشارتك قد خرج من عداوتك ودخل في مودتك.
تعصب أهل الدين وغرور أهل العلم هما منشأ الخلاف الظاهر بين الدين والعلم، وليس بصحيح أنه يوجد بينهما خلاف حقيقي لا في الحال ولا في الاستقبال، ما دام موضوع العلم هو معرفة الحقائق المؤسسة على الاستقراء، فمهما كثرت معارف الإنسان لا تملأ كل فكر، بعد كل اكتشاف يتحققه العلم يبحث عن اكتشاف آخر، وفي نهاية كل مسألة نحلها تظهر مسألة جديدة تطالبه بحلها. الآن وغدا يشتغل عقل الإنسان بالعلم أي بمعرفة الحوادث الثابتة، ولا يمنعه ذلك من التفكير في المجهول الذي يحيط بها من كل طرف، هذا المجهول الذي لا قرار له ولا حد لا في الزمان ولا في المكان هو دائرة اختصاص الدين.
إن كان في الوجود إنسان يستحق أن يحسد على نعمته فهو العاشق.
من اختباري لأرباب الأفكار الذين اختلطت بهم يظهر لي أن الحمية عندهم سطحية لا تذكيها نار تتوقد في القلب، حمية ألفاظ متى انتشرت عادت هباء لا تترك أثرا بعدها.
لا أدري ما هي غاية الكتاب الذين إذا أرادوا التعبير عن اختراع جديد يجهدون أنفسهم في البحث عن كلمة عربية تقابل الكلمة الأجنبية المصطلح عليها، كاستعمالهم مثلا كلمة السيارة بدلا من كلمة الأوتوموبيل. إن كان القصد تقريب المعنى إلى الذهن فالكلمة الأجنبية التي اعتادها الناس تقوم بالوظيفة المطلوبة منها على وجه أتم من الكلمة العربية، وإن كان قصدهم إثبات أن اللغة العربية لا تحتاج إلى اللغات الأخرى فقد كلفوا أنفسهم أمرا مستحيلا؛ إذ لم يوجد ولن توجد لغة مستقلة عن غيرها مكتفية بنفسها.
لا تكمل أخلاق المرء إلا إذا استوى عنده مدح الناس وذمهم إياه (انتهت أقواله).
وجملة القول أن قاسم أمين من المصلحين العظام الذين يحفظ التاريخ ذكرهم، وتزداد منزلتهم رفعة وفضلهم ظهورا بتوالي الأجيال، وفضله يشمل العالم الإسلامي على الإجمال بنصرته للمرأة المسلمة، وله فضل خاص على القطر المصري بما نشره بين المصريين من النصائح الخاصة بهم، وبما كان له من القدوة الحسنة بين زملائه وأصدقائه وغيرهم. لأنه خدم القضاء 23 سنة كان فيها مثال النزاهة واستقلال الفكر، والشجاعة الأدبية، لا يراعي في الحق صداقة ولا قرابة ولا مقاما.
الفصل الحادي والأربعون
بشارة الخوري
شكل 41-1: بشارة الخوري المحسن السوري الشهير (ولد سنة 1838 وتوفي سنة 1898).
الأغنياء كثيرون في الأرض، ولكن المحسنين منهم قليلون، وأقل من هؤلاء من جمع منهم بين الغنى والإحسان والتقوى، والمرحوم بشارة الخوري قد أضاف إلى هذه الفضائل حسنات يندر اجتماعها في رجل واحد كالدعة، واللطف، وحب السلام، والشهامة، والغيرة، وحسن الطوية، فضلا عن النشاط والسهر على العمل، والعصامية، فإنه جمع ما جمعه من المال بجده واجتهاده كما يتضح ذلك من ترجمة حاله.
ولد رحمه الله في عكاء سنة 1838 من أسرة كريمة نشأت على التقوى والبر، فربي في الفضيلة منذ نعومة أظفاره، ثم حدث في سوريا ما حمل تلك العائلة على المهاجرة إلى القطر المصري، فنزلت الإسكندرية وكان صاحب الترجمة لا يزال غلاما، وقد أحسن القراءة والكتابة فمال إلى التجارة، فعمل في بعض المحلات التجارية بصفة كاتب، فلم تمض مدة حتى اكتسب شهرة بين التجار بالاستقامة فتهافتوا على استخدامه.
ولكنه أبى إلا الاستقلال بالعمل لحسابه فافتتح محلا لنفسه، فاكتسب ثقة الناس واستمال قلوبهم بحسن معاملته، حتى صار مثلا بالصدق والاستقامة، وطبيعي أن من كانت له خصاله لا بد من نجاحه، فربح أموالا طائلة واتسعت ثروته بما اكتسبه من مقاولات عقدها مع الحكومة المصرية، فغلبت عليه القناعة، ومال إلى الراحة والتفرغ إلى المبرات ، فاعتزل التجارة ونزح إلى بيروت، ولم يفتر منذ إقامته هناك عن بذل الأموال في سبيل المشروعات الخيرية والأدبية، وانتظم في جمعية القديس منصور ثم تولى رئاستها، وهي من أعظم الجمعيات الخيرية في بيروت، ثم تولى رئاسة الجمعية الخيرية للروم الكاثوليك هناك نحو 15 سنة، ولم تقتصر حسناته على سوريا وجمعياتها ومدارسها، لكنها بلغت إلى وادي النيل، فبذل الأموال الطائلة في تنشيط المشروعات الخيرية على اختلاف مواضيعها بقطع النظر عن المذاهب والطوائف، ومما يذكر من حسناته المأثورة أنه لما احترقت الإسكندرية سنة 1882 أثناء الثورة العرابية كان للمترجم في الإسكندرية مخازن مملوءة بالأرزاق فلم تمسها النار مع أنها التهمت كل ما جاورها، فعد الناس ذلك نعمة خصوصية نالها هذا الرجل لتقواه وحسن نيته، فلما أخذ مهاجرو المصريين بالعود إلى بلادهم وقد أصابهم ضنك مما تحملوا من تلك الثورة، فتح صاحب الترجمة يده بالبذل والعطاء، وفوض إلى بعض الأصدقاء الإنفاق على سفر أولئك المهاجرين من جيبه الخاص، وتظاهر أنه إنما ينفق من أموال المحسنين، وبلغ مقدار ما أنفقه في ذلك العام 2500 جنيه.
ومما يروى عنه رحمه الله أنه لما أراد الاقتران قصد بعض مدارس البنات في بيروت، فالتمس من الرئيسة أن ترشده إلى أتقى تلميذاتها بقطع النظر عن حالها من الجمال أو المال أو غير ذلك مما يبحث عنه شبان هذا العصر، فأرشدته إلى أتقاهن، فتزوجها وعاش معها بالسلام والوفاق، وولدت له أولادا رباهم بخوف الله وغرس في قلوبهم حب الفضيلة، وقضى أيامه ساعيا في إلقاء السلام بين أهل الخصام، يضرب المثل بإحسانه وحسن سريرته حتى توفاه الله في بيروت.
الفصل الثاني والأربعون
السيد عبد الرحمن الكواكبي
شكل 42-1: السيد عبد الرحمن الكواكبي (ولد سنة 1265ه وتوفي سنة 1320ه).
العظمة والشهرة صديقتان يغلب أن تتصاحبا، فلا تكون إحداهما بدون الأخرى، ولكنهما كثيرا ما تفترقان فتكون العظمة بلا شهرة، والشهرة بلا عظمة، فترى بين أهل الشهرة الواسعة من إذا لقيتهم وسبرت غورهم رأيتهم كالطبل يدوي صوته إلى بعيد وجوفه فارغ، وأنهم إنما نالوا تلك الشهرة بما طبعوا عليه من الميل إلى نشر محامدهم في الصحف ليقرأها الناس ويتحدثوا بها، وقد ينفقون المال ويتحدون أوعر أسباب السعي في هذا السبيل، وترى بينهم من لا محمدة له فينتحل محامد غيره أو تكون له حبة منها فيجعلها قبة، فإذا نشر ذلك عنه في صحيفة أو نشرة أو كتاب حمله وطاف به في الأهل والأصدقاء يترنم بقراءته عليهم، ويتلذذ بما يلقى من آيات الإعجاب، وخصوصا في هذه البلاد، بلاد المجاملة التي يزداد فيها المغرور غرورا إذ لا يسمع من الناس إلا إطراء وإعجابا، ولو كانت حاله تدعو إلى التقريع والتعنيف، ويعدون ذلك من آداب الحديث.
فما كل شهير عظيم، ولا عظيم شهير، فكم بين ظهرانينا من رجال توفرت فيهم شروط العظمة، ولو رافقتها الأسباب لأتوا بالأمور العظام، وقد تظهر مواهبهم من خلال أعمالهم وإن ضاقت دائرة العمل، ولكنهم لرغبتهم عن الشهرة لا يعرف أسماءهم إلا القليلون، فإذا أصابهم سوء أذاع مريدوهم أخبارهم وتحدثوا بأفضالهم.
ومن هذا القبيل المرحوم السيد عبد الرحمن الكواكبي الحلبي، فقد جاء مصر سنة 1318ه وأقام في قلب العاصمة، ومع سعة علمه وغزارة مادته لم يسمع بذكره أحد، ولا عرفه إلا الأصدقاء والأخصاء، وهناك أناس يقصرون عن إدراك بعض منزلته علما وفضلا ، ولكنهم لا تطأ أقدامهم مصر حتى تتناقل الصحف أخبارهم بما ينشرونه فيها من نفثات أقلامهم أو ثمار قرائحهم، وقد لا تكون تلك الثمار شهية، وإنما يعمدون إلى نشرها رغبة في الشهرة. فالكواكبي رحمه الله لم يكن من أولئك، ولكن همه كان منصرفا إلى خدمة الوطن، ونشر المبادئ الصحيحة فيه بالتأليف والتلقين بعد أن قضى معظم العمر في خدمة الحكومة العثمانية في حلب، وقاسى أمورا صعابا من وشايات ذوي الأغراض، فلم يلق تربة تصلح لغرس مبادئه، فجاء مصر ونشر بعض كتبه، فعاجله الأجل فمضى ومضت معه أمانيه، وهي شبيهة بأماني المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني، وقد استهلك في سبيلها كما استهلك ذاك من قبله. (1) ترجمته
آل الكواكبي أسرة قديمة في حلب هاجر إليها أجدادهم منذ أربعة قرون، ولهم شهرة واسعة ومقام رفيع في حلب والآستانة. يرجعون بأنسابهم إلى السيد إبراهيم الصفوي أحد أمراء أردبيل العظماء، ولهم آثار مشهورة، منها المدرسة الكواكبية في حلب، ونبغ منهم جماعة كبيرة من العلماء ورجال الإدارة، ومنهم فقيد الأمس السيد عبد الرحمن، وقد ولد في حلب سنة 1265ه، وأبوه الشيخ أحمد الكواكبي أحد مدرسي الجامع الأموي الكبير.
تلقى السيد عبد الرحمن مبادئ العلم في بعض المدارس الأهلية، ودرس العلوم الشرعية في المدرسة الكواكبية، وأتقن العربية والتركية وبعض الفارسية، ووقف على العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحديثة، وكان ميالا من حداثته إلى صناعة القلم، فاشتغل في تحرير جريدة «فرات» التي كانت تصدر في حلب باسم الحكومة وهو في السابعة والعشرين من عمره. حررها خمس سنوات، وأنشأ في أثناء ذلك جريدة سماها «الشهباء» واشتغل بخدمة الحكومة، فتقلب في عدة مناصب علمية وإدارية وحقوقية، وأهل النقد يذكرون فضله في كل واحدة منها كبيرها وصغيرها؛ لأن اقتدار الرجل يظهر في الصغائر كما يظهر في الكبائر، وكان حب الإصلاح وحرية القول والفكر باديتين في كل عمل من أعماله، فلم يرق ذلك لبعض أرباب المناصب العليا فوشوا به، فتعمدت الحكومة حبسه ثم جردوه من أملاكه، فلم يقلل ذلك شيئا من علو همته ، فغادر الوطن وطلب بلاد الله، فجاء مصر ثم خرج منها سائحا فطاف زنجبار والحبشة وأكثر شطوط شرق آسيا وغربيها ثم رجع إلى مصر.
ومما يذكر له ونأسف لضياع ثماره أنه رحل رحلة لم يسبقه أحد إليها ويندر أن يستطيعها أحد غيره، وذلك أنه أوغل في أواسط جزيرة العرب فأقام على متون الجمال نيفا وثلاثين يوما، فقطع صحراء الدهناء في اليمن، ولا ندري ما استطلعه من الآثار التاريخية أو الفوائد الاجتماعية، فعسى أن يكون ذلك محفوظا في جملة متخلفاته. وتحول من هذه الرحلة إلى الهند، فشرقي أفريقيا أيضا وعاد إلى مصر وكان أجله ينتظره فيها.
كان الكواكبي واسع الصدر، طويل الأناة، معتدلا في كل شيء، وكان عطوفا على الضعفاء حتى سماه الحلبيون «أبا الضعفاء»، وجاء في الرائد المصري أنه كان له في بلده مكتب للمحاماة يصرف فيه معظم نهاره لرؤية مصالح الناس، ويبعث إلى المحاكم من يأمنهم من أصحابه ليدافعوا عن المظلومين والمستضعفين.
وكان واسع الاطلاع في تاريخ المشرق على العموم، وتاريخ الممالك العثمانية على الخصوص، وله ولع في علم العمران، وألف كتبا لم ينشر منها إلا كتاب «طبائع الاستبداد» وهو فريد في بابه، قرظناه في الهلال، وكتاب «أم القرى»، ومع تمسكه بالإسلامية والمطالبة بحقوقها والاستهلاك في سبيل نصرتها، فقد كان بعيدا عن التعصب يستأنس بمجلسه المسلم والمسيحي واليهودي على السواء؛ لأنه كان يرى رابطة الوطن فوق كل رابطة.
ومن يقرأ ترجمة الكواكبي والأفغاني وغيرهما من رجال هذه النهضة ويدرس أعمالهم والأحوال المحيطة بهم يعترف بفضلهم في نصرة الحقيقة وتأييد الحق والحرية.
تابع رجال الإدارة والسياسة
الفصل الثالث والأربعون
مدحت باشا
(1) نشأته الأولى
ولد مدحت باشا
1
في الآستانة سنة 1822 ووالده الحاج علي أفندي أصله من روستشوك. نشأ مدحت في حجر أبيه، ولم يتلق من العلم في صباه إلا المبادئ الأولية، وكان يتنقل مع أبيه ويقيم حيثما أقام حتى استقر في الآستانة سنة 1836 وشب هناك وفيه ذكاء وهمة. وأهل الهمم والمطامع في ذلك العهد كانت تتوجه رغائبهم إلى خدمة الحكومة، فألحق مدحت أولا بسكرتارية الصدارة العظمى في الآستانة، وتنقل منها إلى مناصب مختلفة في الولايات، فأقام في دمشق سنتين ثم عاد إلى الآستانة سنة 1844 وبرحها إلى قونية سكرتيرا لمجلس تألف تحت رئاسة سامي بكير باشا، وارتقى سنة 1849 إلى سكرتير ثاني لمجلس الولاية، وفي سنة 1851 صار سكرتيرا أول له.
شكل 43-1: مدحت باشا، أبو الأحرار (ولد سنة 1822 وتوفي سنة 1883).
واتفق أن قبرصلي محمد باشا قائد جند الشام أساء التصرف في بعض الشئون المتعلقة بالأموال غير الأميرية في دمشق وحلب فاقتضت الحال انتداب من يتحرى الأسباب، ويحكم بما يتراءى له، فانتدبوا مدحت فسافر، وبعد ستة أشهر عاد وقد نظم مسألة الجمارك هناك ورد إلى خزينة الدولة 150000 ليرة عثمانية، وأثبت اشتراك القائد المشار إليه في الاضطرابات التي حصلت وأشار بعزله ، وأظهر مدحت في قضاء هذه المهمة ذكاء واقتدارا استلفتا انتباه الصدر الأعظم رشيد باشا، فولاه منصبا هاما في المجلس العالي فبقي في ذلك المنصب أثناء صدارة رشيد باشا وعالي باشا ورفعت باشا، وفي هذا المنصب عرف دخائل الأمور، واطلع على المخابرات المهمة التي دارت بين رفعت باشا وهو وزير للخارجية والبرنس منتشكوف مندوب قيصر الروس قبل حرب القرم.
وفي سنة 1854 أفضت الصدارة إلى قبرصلي محمد باشا الذي كان مدحت قد أشار بعزله عن الشام، فأراد الانتقام لنفسه من ذلك الشاب الجريء، فعهد إليه حل أعقد المسائل السياسية وأدقها يومئذ، وهي مسألة البلقان، وكانت ثائرة وقد تكاثرت فيها العصابات المتمردة، فوكل إليه تسكين الثورة وتنقية البلاد من العصابات، فذهب في هذه المهمة ونجح فيها نجاحا باهرا، ولما عاد من سفرته كان رشيد باشا قد رجع إلى الصدارة، ودارت المداولة بينه وبين عالي باشا بشأن منح الولايات العثمانية استقلالا إداريا
Decentralisation
وأخذ في وضع القوانين اللازمة لذلك، فقدم مدحت تقريره عن مهمته فأعجب الصدر الأعظم باقتداره، فعقد له على أهم ولايات الطونة (بلغاريا) على أن يجرب فيها الاستقلال الإداري، فحدث تغيير فجائي في الوزارة حال دون كل إصلاح.
وتعين بعد مدة قصيرة مندوبا خصوصيا لتفتيش ولايتي أيدن وسيلسترية؛ لأنهما كانتا قد تمردتا على الدولة فقضى تلك المهمة كما قضى مهمة سوريا من قبل، واطلع بذلك على مواضع الضعف في نظام الولايات، ورأى الخلل السائد فشكا الولاة فسعوا لدى الباب العالي في تبرئة أنفسهم، فأمر السلطان عبد المجيد يومئذ بإعادة النظر، وخاف العقلاء أن يتغلب الباطل، فرفع خير الدين أفندي أحد العلماء المشهورين في الآستانة تقريرا أيد به أقوال مدحت.
وتوفي رشيد باشا سنة 1858 وخلفه عالي باشا فأعطى مدحت إجازة ستة أشهر يقضيها سائحا في أوروبا يتفقد أحوال دولها ويدرس نظام بعض الإدارات الأوربية، فسافر وهو في السادسة والثلاثين من عمره، فزار باريس ولندن وفينا وبروكسل، وامتاز بين رجال الدولة من ذلك الحين بمهارته الخصوصية في تدبير شئون الولايات، فلا تحدث ثورة أو اضطراب أو خلل في ولاية ويحتاجون إلى من يصلحها إلا انتدبوه لذلك.
فانتدب مرة أخرى لتدبير شئون بلغاريا، وكان أهلها المسيحيون قد خافوا على حياتهم وأموالهم فأخذوا يهجرونها بعائلاتهم وأموالهم والجند لا يستطيع منعهم، فعهد بذلك إلى مدحت ومنح رتبة الوزارة (1861) فسافر وفي عزمه أن يصلح الأمور بالمسالمة، فحالما وصل إلى بلغاريا بعث إلى أعيان البلاد وجمعهم في مؤتمر عرضوا فيه شكواهم، فطلب إليهم أن يشتركوا معه في إصلاح الحالة، وكانت تشكياتهم ترجع إلى أمرين رئيسيين:
الأول:
خلو البلاد من وسائل النقل والمخابرات التي تساعد الأهالي، ولا سيما المزارعين على نقل حاصلاتهم وتصريفها.
والثاني:
شيوع اللصوصية والعصابات المتمردة حتى أصبح الناس لا يأمنون على أرواحهم ولا أموالهم.
ولهذين السببين فضل البلغاريون الهجرة إلى بلاد السرب؛ لأنها أقرب إلى الأمن، فرأى مدحت أنهم محقون في شكواهم فأخذ يبحث مع أولئك الأعيان في سبل الإصلاح، وأشار عليهم أن يستخدموا نفوذهم أولا في إيقاف الناس عن المهاجرة، وعاهدهم على إصلاحات وافقوه عليها، وقد بر بوعده فأعاد الجند إلى معسكراتهم وأخذ في تنظيم الطريق الأعظم بين نيس وصوفيا وفروعه الكثيرة، وبذل جهده في مطاردة العصابات وأنشأ الجسور وغيرها، وبالجملة لم يغادر أمنية يحلم بها البلغاريون إلا حققها لهم، وأقام نقطا عسكرية على الحدود تمنع تعدي السربيين، فلما تمت هذه الإصلاحات عادت العائلات البلغارية من مهاجرها إلى مواطنها، وأدخلت إصلاحات كثيرة أثرت في أخلاق القوم وعاداتهم، وألف فرقة الجندرمة، ونظم تحصيل الضرائب، ومنع الاضطهادات الدينية، وأنشأ المدارس والمستشفيات للبلغاريين بلا تمييز بين أديانهم أو طبقاتهم، فاستتب الأمن وتعاقد القوم على السعي في مصلحة بلادهم. (2) تنظيمه أعمال البلقان
إن ما أدخله مدحت باشا من الإصلاح في بلغاريا وفي أيدن وسليسترية وقع وقعا حسنا لدى الباب العالي في صدارة فؤاد وعالي خليفتي رشيد باشا، فاستقدماه إلى الآستانة سنة 1864 للمداولة في نظام جديد يضعونه للولايات وقوانين يجري عليها الولاة، فأعدوا ذلك النظام وقرروا أن يعهد إلى مدحت بتنفيذه في ولايات سيلسترية وأيدن ونيش على أن تتحد كلها باسم ولاية الطونة (1865) رغم مقاومة حزب التقهقر بإيعاز سروري أفندي، ولهذا الرجل شأن في الحكم على مدحت سيأتي ذكره.
وخلاصة النظام المشار إليه قسمة الولايات إلى سبعة سناجق، ويقسم السنجق إلى أقضية، والقضاء إلى نواحي، وفي كل ولاية مجالس خصوصية لوضع الأموال الأميرية وجمعها، وتولى مدحت هذه الولاية على هذا الطراز، وألغى السخرة ومهد 2000 كيلومتر من الطرق وبنى 1400 جسر، وأنشأ سفنا تجري في الطونة (الدانوب) عليها العلم العثماني، وأبطل اللصوصية، ونظم جندرمة، وأنشأ مصارف وطنية لتسليف فقراء المزارعين.
وقاعدة هذا النظام اشتراك الأهالي في تدبير شئون بلدهم مع الحكومة في تقدير الأملاك وتعيين خراجها فلا يحصل فيها حيف، فباتت تلك الولاية بسعادة استلفتت أنظار أهل الآستانة إلى مدحت، فجاءته التهاني من المابين والباب العالي، وصدرت الأوامر إلى سائر الولاة في المملكة العثمانية أن يجعلوا نظامات ولاياتهم مثل نظام مدحت في ولاية الطونة، فتوسم الناس مستقبلا مجيدا لهذه الدولة.
وانتبه مدحت أيضا إلى أمر ذي بال كان سببا في أكثر متاعب الدولة في البلقان، وذلك أن بعض البلغاريين كانوا يرسلون أبناءهم للتخرج في جامعات أودسا أو خركوف أو كيف وكلها في بلاد الروس، فكانوا يتشربون حب الجنس السلافي، ويعودون لبث تلك الروح في الأهالي فيثيرون التعصب الجنسي أو الديني ، فيعود ذلك بالقلاقل والمتاعب على الدولة، فارتأى مدحت أن يتلافى ذلك بإنشاء المدارس العالية في الولاية نفسها بحيث يغني الناس عن إرسال أبنائهم إلى الخارج، فضلا عن تألف الشبان على اختلاف مذاهبهم إذا شبوا في مدرسة واحدة، وتربوا تربية واحدة، ورفع بذلك لائحة للباب العالي وقسم النفقات اللازمة لهذا العمل إلى نصفين: النصف يؤخذ من فضلات الخراج في الولاية، والنصف الآخر يكتتب به الأهالي.
فلما وصلت هذه اللائحة إلى الآستانة علم بها إغناتيف سفير روسيا هناك، فقاومها بكل قوته لأنها تخالف الترتيب الذي رتبه الروس لتحويل قلوب البلغاريين عن دولتهم، وبذل جهده في إيغار صدر السلطان عبد العزيز على مدحت فأوهمه أن الخطة التي يتحداها في الولايات تنافي سيادة الخليفة المطلقة، وتأول إلى تشتت شمل المملكة العثمانية باستقلال كل ولاية بشئونها، فلم يصغ السلطان لوشايته في بادئ الرأي، لكنه وفق إلى غلطة وقعت في لائحة نشرها مدحت في الجريدة الرسمية يطلب فيها تعيين أعضاء مجلس الأهالي المشتركين مع الحكومة في تدبير شئون الولاية، فسماهم «نواب»، ولم يغفل إغناتيف عن تنبيه ذهن السلطان إلى ذلك، فاقتنع بسوء عاقبة تلك البدع، وأبى المصادقة على طلب مدحت تجنبا للنفقة، ولم يذكر السبب الحقيقي.
فذهبت أعمال مدحت في سبيل الإصلاح أدراج الرياح، وأيد أصحاب إغناتيف غرضه باستنهاض بعض العصابات في البلقان للتعديات ونحوها، فما أحس مدحت إلا وقد ظهرت عصابات فتكت بالمسلمين، وقتلت أطفالا من الرعاة، فنهض المسلمون لمثل هذا العمل في المسيحيين، فركب مدحت بنفسه وقبض على بعض المتمردين من النصارى فوجد باستنطاقهم أنهم رسل من جمعية السلاف في بوخارست وفي كشنو، فحكم المجلس على الرؤساء بالإعدام، وعلى الآخرين بأحكام أخرى، فانفضت الثورة وعادت السكينة، على أن جرائد أوروبا شددت النكير على تصرف القضاء العثماني في هذا السبيل، وعدوا أحكامه بربرية ونسبوها إلى مدحت، فبرأ نفسه، لكنهم لم يعدموا وسيلة أخرى لنكايته، وذلك أنه سمع برسل سرية قادمة من غلائز إلى بلغراد لدس الدسائس وإعداد مشاكل جديدة فقبض عليهم على ظهر باخرة نمساوية عند روستشوك وبعث صورتهم إلى قنصل النمسا، وطلب إليه أن يأذن بفحص تذاكرهم وأخذت الضابطة العثمانية في تفتيشهم ومعها مندوب من القنصلاتو النمسوية، فأطلق أحد الرسل مسدسا على الضابطة في قاعة السفينة، فأجابهم العثمانيون، والتحم الفريقان وانجلت الواقعة أخيرا عن القبض على أولئك الدساسين وقد جرحوا جراحا بليغة.
فكان لهذه الحادثة دوي في أوروبا، واتخذ إغناتيف ذلك ذريعة لطلب إقالة مدحت فلم يفلح، فأخذوا يسعون في قتله سرا، فأطلق عليه أحدهم في روستشوك رصاصة أخطأته، وحاول سربي قتله ففشل، ولما قبض عليه وسئل عن سبب عمله، قال: إن اثنين من كبار السرب أغروه على ذلك فحوكم الرجل وعوقب.
وبعد هذه الحوادث بقليل (1868) استدعي مدحت إلى الآستانة ليتولى رئاسة مجلس أنشئوه حديثا فأتاها، ولكن وقع اختلاف في الرأي بينه وبين عالي باشا الصدر الأعظم في بعض الشئون فاعتزل مدحت باشا الرئاسة على أن يتولى ولاية بغداد سنة 1869. (3) إصلاحاته في ولاية بغداد
شخص مدحت إلى بغداد فوجد فيها من المشاكل غير ما في ولاية الطوفة أعني مسألة التجنيد، وكانت من المشاكل الصعبة؛ لأن القبائل العربية التابعة لولاية بغداد لم تكن ترضخ لحكم التجنيد، وكانت يومئذ قد تمردت على الدولة حتى عجزت عن إخضاعها لتفرق الكلمة بين والي بغداد ومشير جندها، ولم يكن إخضاعها ممكنا إلا إذا كانت القوتان العسكرية والإدارية في يد واحدة، فأخذ مدحت على نفسه الجمع بين القوتين، وعزم على إخضاع الثائرين بالقوة، ولم يكلفه ذلك إلا الحزم والشدة، فأذعن الثائرون صاغرين بسرعة أدهشت الباب العالي فسماه مشير الفيلق السادس ووالي بغداد.
وكان الولاة قبله يقاسون في تحصيل الضرائب من أولئك العرب عذابا شديدا، فتحدى الشدة في تحصيلها بقوة الجند وقد أفلح، ولكنه أعمل فكرته في حال أولئك البدو فوجد إذلالهم بالقوة يفضي إلى تجديد التمرد، فرأى أن يتخذ في إخضاعهم طرقا أخرى فعمل على تغيير نظام ملكية الأرضين فيهم؛ وذلك أن الفلاح العربي كان يدفع للحكومة أجرة الأرض التي يستثمرها وثلاثة أرباع غلتها، وفي ذلك حيف عليه، فقسم مدحت الأرض إلى قطع عرضها للبيع بشروط سهلة، فلم تمض مدة يسيرة حتى ذاق ثمر ذلك العمل إذ تكاثر دخل الحكومة، وقل تمرد العربان، وزادت غلة الأرض فزادت حركة الأعمال الأخرى، وكان من نتائج ذلك تسيير السفن في دجلة والفرات وتسهيل المواصلات بين المدن القائمة على ضفافهما.
وكانت إدارة السفن هناك بيد شركة إنكليزية تشتغل بين بغداد والبصرة، فألف مدحت شركة عثمانية، ورمم السفن القديمة، وأوصى على سواها واختزن لها الفحم في مسقط وعدن وبندر عباس وبو شهر، وكانت هذه السفن أول سفن عثمانية عبرت قنال السويس إلى الآستانة، فرأى مدحت نجاح ذلك العمل فوسعه، وأوصل تلك البواخر شمالا إلى آخر ما يستطاع من شواطئ النهرين فعمر كثير من البقاع واتسعت الأرض المزروعة، وعزم على ردم البقاع التي كان قد أغرقها الفيضان، فعلقت الآمال أن يعود العراق إلى خصبه في الدولة العباسية.
وأنشأ مدحت خط ترمواي بين بغداد والكاظمية طوله سبعة كيلومترات، وابتنى معملا للنسج تام الأدوات، وأنشأ المدارس في كل قضاء، وشاد المستشفيات والملاجئ، فتكاثرت البيوت المالية كالمصارف ونحوها، وأنشأ مطبعة تطبع فيها جريدة الزوراء الرسمية، وشكل مجالس بلدية في أهم المدن، واكتشفوا في أثناء ولايته منجما للبترول فسهل الانتفاع به، فتقدم العراق على يده تقدما مدهشا، وقدم شاه الفرس سنة 1870 لزيارة النجف وكربلاء مزار الشيعة، فاغتنم مدحت تلك الزيارة وقرر أشياء كانت محل نظر بين الدولتين وفي جملتها تعديات الأكراد على ما يمرون به في طريقهم على تركيا، فاتفقت الدولتان على إنشاء نقط عسكرية عند الحدود على نحو ما فعل عند حدود السرب من قبل. وبلغه أن في بعض مزارات الشيعة بنجد كثيرا من الجواهر والتحف اجتمعت هناك من هدايا الهنود والفرس ولا فائدة من اختزانها، فأشار مدحت باستخراجها وبيعها وهي تساوي نحو 1300000 ليرة عثمانية على أن تصرف في إنشاء خط حديدي بين حدود إيران وبغداد أو بإقامة المستشفيات والمدارس وغيرها، فأبى علماء الشيعة عليه ذلك، فأغفل المشروع.
وجملة القول: لم يذخر مدحت وسيلة لإحياء العراق اقتصاديا وإداريا وأدبيا فضلا عن تحسن العلائق مع الأمم المجاورة. من ذلك أنه حمل مشائخ الكويت على الاعتراف برعاية الدولة العثمانية بعد أن امتنع ذلك على سلفه نامق باشا، والكويت تبعد عدة أميال من البصرة على شاطئ نجد، وهي فرضة تجارية تحكمها أسرة الصباح وأصلهم من نجد، لا يداخل في شئونهم أحد، وهم يتعاطون التجارة البحرية مع شواطئ الهند وفارس وأفريقيا، واحتكروا مغاوص اللؤلؤ في البحرين، وكانوا ينصبون على سفنهم علما خاصا بهم، وربما نصبوا علما هولنديا إنكليزيا لغرض من الأغراض، فما زال مدحت يخابرهم بالحسنى حتى قبلوا برفع العلم العثماني على شرط الاستقلال بإدارتهم وسائر شئونهم الداخلية، فأصبحت الكويت من ذلك الحين سنجقا من سناجق ولاية بغداد، وفعل نحو ذلك بنجد وغيرها والبحرين مما يطول بنا بسطه، وفي كل عمل منه دليل على علو همة مدحت باشا، ورغبته في تأييد الدولة العثمانية.
فزادت واردات العراق وتعددت السفن العثمانية التي تمخر في تلك البحار، ولم يكن للدولة هناك قبل فتح قنال السويس إلا دارعتان قد أفسدهما الإهمال فأصلحهما في بمباي، وأضاف إليهما سبعا أخر وعشرا لسلك الأنهر، ووسع مرفأ البصرة، فاعترفت له الدولة بالفضل بكتاب جاءه من الصدر الأعظم عالي باشا مؤرخا سنة 1871 يثني فيه على همته لتسهيل طريق الحرمين، وأرسل إليه السلطان سيفا مرصعا وقد نقش عليه كلمة «نجد».
واتفق في أثناء ذلك أن الآستانة تبدلت أحوالها بموت رجليها فؤاد وعالي وبينهما ثلاثة أشهر، وكانا زعيمي الإصلاح؛ ينصران مدحت في مطاليبه واقتراحاته، فاتفقت وفاتهما على أثر عودة السلطان عبد العزيز من سياحته في أوروبا، ولم تكسبه تلك السياحة شيئا من رغبة ملوك أوروبا في الأحكام الدستورية والرجوع إلى الشورى، لكنها أكسبته التصريح بما كان يخالج ذهنه من كره المشيرين من الوزراء، وعاد إلى تكليف الماثلين بين يديه بما كان يكلفهم به أجداده القدماء، وتوسع من الجهة الأخرى في النفقات الباهظة على الدولة وعلى نفسه، فأمر بابتناء الدوارع وإنشاء القصور الرخامية على شاطئ البوسفور وهو لا يقدر للنفقات عاقبة، ووافقه على ذلك الصدر الأعظم نديم باشا تملقا له والتماسا للنفوذ عنده، ففسدت الأحوال وتبدلت النيات، وامتد ذلك طبعا إلى الولايات، ولما قلت الأموال في خزائن الآستانة بعثوا يطلبونها من الولايات ويلحون في طلبها ولو ظلموا الأهالي في تحصيل الأموال مضاعفة، فآل ذلك طبعا إلى إيقاف المشروعات النافعة فيها، فضاق مدحت ذرعا عن احتمال ذلك، فاستقال من ولاية بغداد ورحل إلى الآستانة.
وعلم حال وصوله إليها أن الإرادة صدرت بتعيينه واليا على أدرنة، فعد ذلك نفيا لا ولاية، فطلب مواجهة السلطان فأذن له، وانطلق لسانه في تلك المقابلة فأفاض بما يكنه ضميره من الانتقاد على الحكومة وبين ضعف الدولة والخطر المحدق بها، فأثرت أقواله في السلطان حتى عزل الصدر الأعظم نديم باشا وولى مدحت مكانه سنة 1873 فوجد حوله أعوانا نشيطين أهل نزاهة منهم رشدي باشا الشرواني وجميل باشا وصادق باشا، فشرع قبل كل شيء بتنظيم المالية وهو عمل شاق لاختلال الحسابات وسوء إدارتها وكثرة التلاعب فيها.
فأخذ في تحقيق كل حادثة، ومن جملة ذلك مبلغ 100000 جنيه خرجت من الخزينة ولم يعرف مصيرها، ثم ثبت أنها دخلت على الصدر السابق نديم باشا، فطولب بها رسميا بين يدي المجلس فادعى أنه إنما أخذها ليدفعها إلى القصر السلطاني، ثم سعى نديم بمساعدة والدة سلطانة وأصدقائها في المابين حتى أفسدوا نية السلطان على مدحت فأمر بنفيه إلى أدرنة ومنها إلى طرابزون، وعاد نديم إلى نفوذه، فانقسم رجال الدولة إلى حزبين: أحدهما مدحت ومريدوه الأحرار وفيهم جماعة كبيرة من العلماء وكل الشبيبة العاقلة في الآستانة والولايات، والحزب الآخر نديم ووالدة سلطانة ورجال المابين، ومن أكبر أنصار هذا الحزب إغناتيف سفير روسيا بالآستانة وكان له نفوذ في المابين، ومما جعل السلطان ينفي مدحت أيضا تصديه لنقد أعمال جرت على يد سلفه، وفيها خسارة على الخزينة، ومن جملتها امتياز سكة حديدية أعطي للبارون هرش أفسد مدحت العقد به. (4) خلع عبد العزيز
غاب مدحت عن الآستانة بضعة أشهر قضاها في سلانيك ثم عاد إلى الآستانة، وتولى فيها وزارة العدلية ورئاسة مجلس الشورى ، لكنه اضطر إلى الاستقالة لأنه رأى الوزارة سائرة على طريق يؤدي إلى خراب الدولة، وقد بين ذلك بكتاب بعث به إلى سكرتير السلطان (الباشكاتب) في شوال سنة 1291/سنة 1874 واعتزل الأعمال ولجأ إلى منزل له بجوار الآستانة أقام فيها يترصد تبدل الأحوال فلم يرها تزداد إلا فسادا وخللا، وكثر تبديل الصدور، فلا يقيم الصدر منهم إلا بضعة أشهر، وممن تناوبوا الصدارة في ذلك العهد محمد رشدي باشا وأسعد باشا، ولم يستطيعوا إصلاحا، ولم يرض بالحالة كما هي إلا محمود نديم باشا، فتولى الصدارة والمالية في ضيق لا مثيل له، ومع أن الدولة لم تكن دخلت في الدين الأهلي إلا منذ عشرين سنة، فقد هددها الإفلاس وشعر بذلك الخطر أصدقاء الدولة من الدول الأخرى، وصرحوا به على منابرهم، وأشار بعضهم بالمداخلة في شئونها، فخاف عقلاء الأمة عاقبة هذا التصريح.
شكل 43-2: السلطان عبد العزيز.
وحدث في صدارة أسعد باشا مناوشة على حدود الجبل الأسود آلت بالإهمال إلى فتنة أو ثورة عامة، وكان أسعد باشا حسن النية، لكنه ضعيف الرأي ساء التصرف، وأظهر الضعف لدى الدول فزادت الثورة سعيرا، وتوسطت روسيا والنمسا فأقيل أسعد وخلفه نديم باشا سنة 1875، ولم يستطع هذا إخماد الثورة، فما زالت تنتشر حتى بلغت حدود البلغار، وأحس البرنس ميلان صاحب السرب بضعف الدولة فطلب أن تتحول إمارته إلى مملكة، وأخذ يهيئ معدات الحرب عند الحاجة وفعل ذلك نحو الهرسك، وفي أوائل السنة التالية تضاعف الخطب بثورة البلغار وكان الجنرال إغناتيف لا يترك فرصة في أثناء ذلك لم يغتنمها لتمشية أغراضه، فتفاقم الخطب وساد الاضطراب في المملكة العثمانية، وأصبح العقلاء ينظرون إلى هذه الحالة نظرة اليأس، فدخل ربيع سنة 1876 وبلغاريا والجبل الأسود والهرسك تتقد بنيران الثورة والسرب قد تهيأت للحرب بقيادة ضباط من الإفرنج، وهمت رومانيا بأن تقتدي بها، والصدر الأعظم يصغي إلى دسائس إغناتيف فينقلها إلى السلطان، وهذا لا هم له إلا الانغماس في ملذاته، والدول الأوربية من الجهة الأخرى فتحت المسألة الشرقية وطلبت الاجتماع للنظر فيها، وأخذت المذكرات والمفكرات تتساقط على المابين كتساقط المطر، ولم تكن تلك الاحتجاجات الخارجية أقل خطرا على الدولة من الاضطرابات الداخلية.
شكل 43-3: رشدي باشا.
ففي هذه الظلمات المدلهمة انبثق نور ضعيف من منزل مدحت باشا مجتمع عقلاء الأحرار. وكان مدحت في أثناء تلك الاضطرابات يفكر في وسيلة لإنقاذ الدولة، وقد لقي سفير إنكلترا وأسر إليه رأيه في جعل الحكومة العثمانية دستورية؛ لأنها إذا ظلت سائرة على هذه الخطة ذهبت إلى الدمار لا محالة، وأظهر أمله أن إنكلترا تأخذ بيده في تأييد هذا الطلب، وأنه إنما يقتدي بها في هذا النظام لأنها أم الدول الدستورية، فأجابه السفير جوابا مبهما لكنه شجعه على عادة رجال السياسة في مثل هذه الحال. وعقب هذه المحادثة تجمهر العلماء (الصفتاء) وتصديهم للبرنس يوسف عز الدين ابن السلطان في طريقه إلى نظارة الحربية، وتقدموا إليه إبلاغ والده أن الشعب يطلب عزل محمود نديم الصدر الأعظم وحسن فهمي أفندي شيخ الإسلام، فأجاب السلطان هذا الطلب فعزلهما وولى محمد رشدي باشا للصدارة، وحسن خير الله أفندي للمشيخة، وكان رشدي شيخا طاعنا في السن، وأكثر مدحت من التردد إليه ففهم القوم أن هذه الصدارة سيديرها مدحت فاستبشروا، ولكن فرحهم لم يطل لأن السلطان عين في فروع الإدارة أناسا من الطاقم القديم، والناس لا يزدادون بذلك إلا طلبا للدستور على لسان العلماء، وأذاعوا على رءوس الملأ أن تعاليم القرآن تأمر بالشورى ومن خالفها لا تجب طاعته، فأصبح مركز السلطان في خطر وما زالوا حتى خلعوه. (5) كيف خلعوه
والعامل الرئيسي في خلعه حسين عوني باشا وزير الحربية، وكان جنديا شجاعا وهماما حازما شديد الغيرة على دولته مع حدة في مزاجه ومضاء في عزيمته، وكان قد تولى أرقى المناصب العسكرية ثم نفاه السلطان عبد العزيز من الآستانة، وكان يكره محمود نديم ويخافه، ولم يكن يدرك حقيقة الحكومة الدستورية كما أدركها صديقه مدحت، ولكنه كان كثير الاعتماد على آرائه، وتبادل الوزراء الأفكار فأقروا على خلع السلطان ولكي يكون خلعه شرعيا استفتوا شيخ الإسلام حسن خير الله أفندي، فأفتاهم بالخلع وهذه صورة الفتوى:
إذا كان زيد الذي هو أمير المؤمنين مختل الشعور، وليس له إلمام في الأمور السياسية، وما برح ينفق الأموال الميرية في مصارفه النفسانية، في درجة لا طاقة للملك والملة على تحملها، وقد أخل بالأمور الدينية والدنيوية وشوشها وخرب الملك والملة، وكان بقاؤه مضرا بها، فهل يصح خلعه؟ الجواب: يصح.
كاتبه الفقير حسن خير الله
فلما حصل الوزراء على هذه الفتوى أسرعوا في تنفيذ قرارهم، وقام بتدبير ذلك عوني ورشدي ومدحت، واختلف مدحت وعوني في أسلوب الخلع، فكان مدحت يرى أن تصادق الأمة على الخلع أولا، وأما عوني فكان يرى أن الخلع يجب أن يكون حالا على عادة العسكرية في سائر أحكامها، فأشار مدحت أن يجتمع العلماء وأعيان إسطانبول في مسجد نور عثمانية يبدون أسف الأمة، ويطلبون إبدال النظام الحالي، فوافقه على هذا الرأي أكثر الوزراء وعينوا لتنفيذ القرار يوم 31 مايو، وكادوا يعملون به، لكن طرأ أمر أوجب الرجوع إلى رأي عوني، وذلك أن امرأة من نساء يلدز أتت مدحت في 30 من الشهر المذكور، وأخبرته أن مؤامرتهم كادت تنكشف للسلطان، فخاف مدحت العاقبة إذا لم يبادر إلى العمل وتحقق قول المرأة؛ لأن السلطان دعا عوني باشا إليه مرتين في ذلك النهار مع أنه ادعى المرض فلم يقبل السلطان عذره، فأقر الوزراء على المبادرة في تلك الليلة إلى خلعه، ففي منتصف ليل ذلك اليوم خرج رشدي ومدحت وبين يدي كل منهما خادم يحمل فانوسا، والليلة ممطرة حتى أتيا سركجي فركبا قاربا إلى باشا ليماني حيث يقيم عوني باشا على البوسفور، وكان عوني في انتظارهما على أحر من الجمر، فتفاوضوا وافترقوا وذهب عوني نحو سراي طولما بغجه وسار رشدي ومدحت إلى السرعسكرية، وكانوا قد قرروا أن يجتمع كبار الموظفين الملكيين والعسكريين في ساحة السرعسكرية ينتظرون مجيء السلطان مراد. وكان عوني مكلفا باستقدامه، وأنهم عند وصوله يبايعونه وينادون باسمه سلطانا، وأن يشعلوا نارا على برج السرعسكرية يعلم منها أهل الأسطول في البحر بتنصيب السلطان الجديد فتطلق الدارعة (أحمد باشا) المدافع إيذانا بذلك.
فمشى عوني إلى السراي حيث التقى بسليمان باشا أحد مشيري الجند، وكانا قد تواعدا ليعاونا على تدبير أمر الخلع، وكان سليمان من أقرب أعوان عوني وأنجد أنصار مدحت، وكانت الجنود المقيمة في طاش قشلة وغيرها قد تلقت الأوامر من رديف باشا قومندان فيلق الآستانة أن تكون على الأهبة لمنع أي اقتراب من جهة البر، وكان الأسطول بقيادة ناظر البحرية نفسه قيصرلي أحمد باشا، وقد أعطى الأوامر بقطع الطريق عن القصر من جهة البحر، واصطحب سليمان نخبة من رجاله الذين يثق بأمانتهم وبسالتهم تحت قيادة الضباط أحمد بك وبدري بك ورفعت بك، وبعد أن رتب هذا الترتيب توجه إلى قصر البرنس مراد، وكان مراد عالما بما أعدوه وعزموا عليه، لكنه لم يعلم بتقديم الميعاد المضروب، فلما جاء سليمان في تلك الليلة وطلب إليه أن يخرج معه إلى عوني وأنه ينتظره بباب القصر ليرافقه إلى السرعسكرية حسب الموعد ظن في الأمر دسيسة، على أنه ما لبث أن تحقق الواقع فأطاعهما وسار معهما في طريق السرعسكرية.
أما سليمان فتقدمهما لإتمام المهمة الكبرى التي لا بد منها قبل كل شيء، وهي تبليغ السلطان عبد العزيز الخلع، فلما أتى القصر السلطاني (طولما بغجه) اعترضه الخدم فأجابهم أنه يطلب مقابلة السلطان لأمر هام، فأخذوه إليه، فبلغه سليمان ما جاء من أجله، وقرأ عليه الفتوى بخلعه فغضب السلطان وانتهر سليمان، ولكنه ما عتم أن سمع المدافع تطلق من الدارعة (أحمد باشا) فتحقق وقوع القضاء وأدرك حقيقة مركزه، وسلم نفسه لسليمان فأبلغه أنه مكلف بنقله من سراي طولما بغجه إلى سراي طوب قبو ليقيم فيها.
وعند ذلك نودي بالسلطان مراد سلطانا، فأقر الوزارة كما هي، وأضاف إلى حاشيته الخصوصية كمال بك وأبا الضيا بك، وكلاهما من كبار أنصار الحرية والدستور، وبوجودهما في الحاشية يأمن الوزراء من الدسائس التي تعود المفسدون نقلها إلى السلطان.
وطبيعي أن الأحرار لم يدبروا هذا التدبير إلا وقد أخذوا على السلطان مراد المواثيق أن يعلن الدستور الذي أعده مدحت ورفاقه، فكادت تتحقق آمال الأحرار، ولكن حال دون تلك الأمنية عارض أوقفها دهرا طويلا، وذلك أن عوني باشا لحظ في السلطان مراد في الليلة نفسها التي رافقه فيها من قصره أنه مضطرب وأصابته نوبة عصبية، وبعد الاحتفال بمبايعته في أثناء رجوعه إلى سراي طولما بغجه زادت فيه الأعراض العصبية، وكان معه مدحت باشا، فرأى من الحكمة أن لا يفارقه، فمكث معه ثلاثة أيام، واستشار الأطباء فأشاروا بعلاج وحمية، ولم يكبروا العلة، فاتفق في أثناء ذلك حادثتان أزعجتا السلطان وزادتا علته، وهما: (6) موت عبد العزيز
الأولى موت عبد العزيز: وذلك أن هذا السلطان أقام بعد خلعه خمسة أيام، وفي صباح 5 يونيو طلب من خادمه الخصوصي فخري بك مقراضا ليقلم أظافره ويصلح لحيته، فتردد حينا في إجابة طلبه ثم عرض الأمر على والدة سلطانة فأمرت أن يعطى المقراض الذي يطلبه. واتفق بعد حين أن بعض الحاشية أشرفن من إحدى النوافذ على المكان الذي كان عبد العزيز فيه فرأينه جالسا على كرسي وظهره محول ورأسه مدلى إلى الأمام فأسرعن إلى الباب فلم يستطعن فتحه وظنن سوءا، فأنبأن والدته فأمرت بخلع الباب، فدخلوا فرأوا عبد العزيز ميتا وقد نزف دمه من جرحين في ذراعيه، ورأوا المقراض بجانبه الأيسر كأنه استخدمه بيمناه لقطع أوعية اليد اليسرى، ثم أراد استخدامه باليسرى لقطع أوعية اليد اليمني فلم تسعفه قواه أن يتم العمل جيدا.
فاستقدموا الأطباء حالا فأثبتوا أنه ميت، وخاف الوزراء العاقبة فأمروا بلجنة من الأطباء تتولى فحص الجثة، فاجتمع 17 من أمهر أطباء الآستانة فأقروا بالإجماع أن الموت إنما كان بالانتحار ولا يمكن أن يكون بسواه، وكتبوا بذلك شهادة مؤرخة في 4 يونيو سنة 1876، ثم دفنت الجثة في مقام السلطان محمود بعد غسلها، فلما بلغ السلطان مراد خبر هذه الفاجعة أثرت على أعصابه تأثيرا كبيرا. (7) واقعة حسن الشركسي
ثم وقعت حادثة حسن الشركسي فأتمت عليه، وكان حسن هذا من ياوران عبد العزيز، وأراد عوني إبعاده فأمره بالسفر إلى بغداد ليلحق بجندها فأبى، وأخذ يشيع اتهام عوني بقتل السلطان كما اتهم بخلعه ، فأمر عوني بالقبض عليه وسجنه، فأرسل حسن بعد يومين يقول إنه مستعد لإطاعة أوامره بالسفر إلى بغداد، لكنه يستأذنه في البقاء بضعة أيام في الآستانة ليتأهب للرحيل، فأذن له، ففي يوم 15 يونيو وهو اليوم المعين لسفره ذهب إلى بيت عوني وطلب مقابلته بإلحاح، فقالوا: إنه سار إلى منزل مدحت باشا للاجتماع بسائر الوزراء، فذهب إلى إسطانبول فنزل في مطعم تناول فيه بعض الخمر، ثم تحول إلى منزل مدحت في طوخان طاش فوصله نحو الساعة العاشرة، وقد اجتمع الوزراء وهم عشرة ومعهم شريف مكة وقد هموا بافتتاح الجلسة.
شكل 43-4: حسن الشركسي.
دخل حسن الدار كما يدخل صاحب المنزل إلى منزله، فسأله الحرس عما يريده، فقال إنه مسافر في الغد إلى بغداد، وعنده أمور هامة يريد عرضها على السرعسكر عوني باشا قبل سفره، فأجابه الحارس أن ذلك لا يتأتى إلا بعد انفضاض الجلسة، فوقف حسن ريثما غافل الحرس، ووثب على السلم وتسلقه ليدخل إلى قاعة الجلسة، فمنعه خادم مدحت، ونادى خادم عوني باشا ليشتكي هذا الشركسي لرئيسه، فصعد الخادم لمقابلة عوني وتبعه حسن ليتحقق مجلس كل من الوزراء، ولم ينتظر الإذن فدخل وسلم سلاما عسكريا ثم أشار إلى عوني أن لا ينتقل من مكانه، وأطلق عليه المسدس فأصاب صدره، فتناثر الوزراء فرارا من القتل، ولجئوا إلى غرفة أخرى، إلا ناظر البحرية فإنه حاول أن يقبض على ذراع حسن فأفلت منه وجرحه جروحا كثيرة في يديه ومنكبيه، وكان عوني لا يزال فيه رمق، فنهض يطلب السلم فأدركه حسن وطعنه طعنات عديدة، وعاد إلى القاعة وخاطب الصدر الأعظم وهو في الحجرة الأخرى قائلا: «إني أحتاج إلى قيصرلي، سلمه إلي فلا أؤذيك بشيء.» فلم يجبه، فلما يئس ولم يظهر له أحد، جمع أبسطة القاعة وكراسيها وأوقد فيها النار فأدركه رجل من رجال مدحت باشا اسمه أحمد آغا، وطعنه في قفاه طعنة مميتة، فأطلق عليه حسن المسدس في عينيه فأماته وأطلق رصاصة أيضا على ناظر الخارجية. قضى حسن في هذه المعركة نصف ساعة أجرى فيها مذبحة ، وهو فرد وهم جماعة، وعاش إلى اليوم التالي، واعترف أنه إنما جاء لينتقم من عوني باشا، وأنه يأسف لمقتل رشيد وزير الخارجية، فحكموا عليه بالإعدام فمات قبل تنفيذ الحكم. (8) خلع السلطان مراد وتولية عبد الحميد
فلما بلغت هذه الواقعة إلى السلطان مراد زاد اضطراب عقله وبعد أن كان الأطباء يرجون قرب شفائه رأوه بعيدا عنه، فانقسم رجال الدولة بالنظر إلى هذا الحال إلى قسمين: قسم يرى استبقاء السلطان مراد وانتظار شفائه وهم الصدر الأعظم محمد رشدي ومدحت وأكثر زملائهم، والقسم الآخر أشاروا بخلعه وتولية من يخلفه، وزعماء هذا الحزب داماد محمود جلال الدين باشا صهر السلطان ورديف باشا مشير فيلق الآستانة، ومشيران آخران ممن يرغبون في الرجوع إلى الحال القديم، فقد كانوا أصحاب النفوذ فيه، والدستور لا يوافق مطامعهم ولا هم يفهمون معنى الدولة والأمة، وكان هذا الداماد مجردا من العلم كثير الحب لذاته، يكره الإصلاح لأنه يرفع أناسا كانوا دونه، وإنما رفعته عنهم المصاهرة، فهؤلاء وغيرهم سعوا جهدهم في خلع مراد لعلة المرض، وقد ساعدهم الشرع على ذلك، وتداخل السفراء وألحوا في تسوية الحالة الحاضرة؛ لأنهم لا يأمنون على مصالح دولهم والدولة في هذا الاضطراب، وأشاروا بخلع مراد وتولية عبد الحميد. وسعى الداماد في إثارة خواطر أهل الآستانة لتأييد هذا الطلب، وأن الحاكم اليوم على الأمة ليس السلطان خليفة الرسول وإنما هو مدحت باشا ورشدي باشا، فلم يبق بد من خلع مراد، ولكن مدحت ورفاقه رأوا أن يأخذوا المواثيق على السلطان الجديد قبل مبايعته، فقرروا أن يذهب مدحت بنفسه إلى موصلو أوغلو حيث يقيم البرنس عبد الحميد أفندي ويستطلعه رأيه في الإصلاح الذي أخذوا في إدخاله من حيث الدستور وغيره، حتى إذا خالفهم في ذلك عرضوه على أخيه رشاد أفندي، وقد قام باستطلاع رأي رشاد في هذا الشأن امرأة مدحت بطريقة سرية.
أما الشروط التي عرضوها على البرنس عبد الحميد إذا تولى السلطة فهي: (1)
أن يعلن الدستور حالا. (2)
أن لا يستشير في أعمال الدولة إلا مشيريه المسئولين. (3)
أن يعين ضيا بك وكمال بك سكرتيرين خصوصيين للسلطان مع سعد الله بك رئيس السكرتيرية (الباشكاتب).
فأجاب مطالبهم بكل رضا، ووعد بأكثر منها وأن يوسع النظام الدستوري إلى أكثر مما يطلبون، وقال إنه يتخلى عن العرش حالما يشفى أخوه مراد من المرض.
فعاد مدحت إلى إسطانبول وبلغ الوزراء نتيجة زيارته، فأقروا على خلع مراد وتولية عبد الحميد، ولم يكن لهم بد من فتوى الخلع فاستصدروها من خير الله أفندي شيخ الإسلام، فخلعوا مرادا وولوا السلطان عبد الحميد الحالي في أول سبتمبر سنة 1876. (9) جلوس السلطان عبد الحميد وتعيين أعوانه
جلس السلطان عبد الحميد على العرش العثماني في أول سبتمبر سنة 1876 واحتفلوا ببيعته احتفالا شائقا في سراي طولما بغجه حضره الوزراء والقناصل ورجال الدولة والأعيان، ولما بايعوه خاطبهم قائلا: «اشكر لكم تهانئكم، ولا أشتهي شيئا غير تقدم مملكتنا وراحة رعايانا، وسترون من أعمالنا ما يؤيد وعودنا بالإصلاح، فعلى رعايانا أن يقوموا من الجهة الأخرى بما عليهم.» وخطب في وزرائه خطابا حثهم به على الاتحاد في الرأي والعمل، وبعد ثلاثة أيام احتفلوا بتقليده سيف عثمان في مسجد أيوب بقرن الذهب على جاري عادتهم في تنصيب السلاطين، ثم عاد إلى قصر طوب قبو حيث ألبسوه البردة وسلموه العلم النبوي، ويذكرون أن رشدي باشا الصدر الأعظم، قال لرفاقه ساعة خروجهم من طولما بغجه: «أظننا تسرعنا بخلع مراد، فعسى أن لا يحدث ما يبعث على الندم.»
وأول عمل باشره جلالته أنه عين الداماد محمود جلال الدين باشا قائدا عاما للجند (سرعسكر)، وعين سعيد باشا (الإنكليزي) رئيسا للياوران، فلم يعارضه أحد في ذلك، كأن تعيينهما من حقوق السلطان، ولم يعلق مدحت باشا على تعيينهما أهمية، وإنما اهتم على الخصوص بتسمية سكرتيرية السلطان؛ لأن تقربهم منه يجعل لهم نفوذا كبيرا لا يقل عن نفوذ الصدر الأعظم.
وقد كان ينبغي له أن لا يستخف بمنصب السرعسكرية ولا يقبل أن يعين له إلا واحد من أهل ثقته، وقد علم بالاختبار أن خلع عبد العزيز لم يكن ممكنا لو لم يكن السرعسكر عوني باشا في جملة القائلين به والساعين فيه، فهل غفل مدحت عن ذلك أو تغافل؟ أو لعله أحسن الظن في مساعي أهل المابين، وحسن الظن في مثل هذه الحال من ضعف الرأي.
وقد يعترض بأن تعيين السرعسكر من حقوق السلطان، فكان الأجمل بمدحت أن يجعل من ضمن الشروط التي اشترطها على جلالته في مقابلته الأخيرة قبل المبايعة أن يكون السرعسكر فلانا، كما اشترط أن يعين كمال بك وضيا بك سكرتيرين وسعد الله بك رئيس السكرتيرية (باشكاتب)، وهم من خيرة الأحرار.
على أن اشتراطه هذا لم يأت بفائدة؛ لأن السلطان وعده بتعيينهم ولم يف، فلما قابل جلالته بعد المبايعة أخبره أنه عين للباشكاتبية سعيد بك، وهو من رجال محمود نديم الصدر الذي تقدم ذكره، فاعترض مدحت واحتج ونصح فلم يجد ذلك نفعا فأغضى، ولو أصر لانقلب وجه المسألة، وربما فاز فيولي في تلك المناصب أحرارا يؤيدون الدستور. فبإغضائه هذا جعل أهم مراجع النفوذ في قبضة رجال من حزب التقهقر، وقد كانت دسائسهم فاتحة عصر الاستبداد الذي انقضى بالأمس، وظهر للناس بعد انقضائه أن السياسة الخرقاء التي اتبعها جلالة السلطان في مقاومة الأحرار إنما كانت بدسائس أولئك المقربين وأمثالهم.
فأغروه أولا على التخلص من مدحت زعيم ذلك الحزب ولا خوف عليه؛ لأن الجند في قبضته وقائده طوع إشارته، لكنه لم يشأ أن يفعل ذلك مصادرة فعمد إلى سياسة المقاومة بالمطل والتسويف فجعل يتباطأ في إجابه مطاليب الصدارة ويعترض على أعمالها، فبدأ بالاعتراض على الفرمان الذي نصه مدحت وعرضه على جلالته ليخاطب الوزارة به، وهو عبارة عن خطة سياستة بالدستور، فنقحه السلطان وحذف كثيرا من مواده الهامة كما بينا ذلك في مقالتنا «الانقلاب السياسي العثماني» في الهلال الأول من السنة 17، فقبل مدحت بذلك التبديل اعتمادا على أن إعلان الدستور واجتماع مجلس المبعوثان يعوضان تلك الخسارة. (10) تعديل البند 113 من القانون الأساسي
على أنه لم يكد يفكر في ذلك حتى جاءه في 23 نوفمبر سنة 1876 كتاب من السلطان بخط يده يقول فيه «إنه مع ما يرجوه من الراحة والسعادة لشعبه بالنظام الدستوري الجديد فهو يطلب أن تكون حقوق السلاطين أيضا مضمونة فيه؛ ولذلك فهو يرى عرض القانون الأساسي على مجلس الوزراء لتنقيحه.» فأجابه مدحت: «إن هذا القانون قد يكون في حاجة إلى التنقيح، ولكن عرضه على المجلس لتنقيحه يستغرق زمنا لا يسمح به حال الدولة؛ لأن المضايق الحرجة التي وقعت فيها تدعو إلى المبادرة في نشر الإصلاحات وتسكين الخواطر إرضاء للدول التي تهددنا بعقد المؤتمر الدولي الذي قررت عقده في الآستانة حتى أصبحنا وليس لنا إلا أحد وجهين: إما أن نعلن القانون الأساسي وننشر الإصلاحات قبل عقد المؤتمر فلا يبقى للدول حجة علينا، أو أن نؤخر إعلانه فينعقد المؤتمر ويقرر المراقبة على أعمالنا، فإذا تأجل عقد مجلس المبعوثان لا يبقى لنا بد من الدخول في وصاية الدول.»
فلما رأي أهل المابين قوة حجته في هذه المسألة أتوه من طرق أخرى، وذلك أنهم وافقوه على وجوب السرعة في إعلان الدستور، لكنهم اشترطوا تعديلا في البند (113) المتعلق بظهور التمرد أو الخلل في بعض الولايات، فقد جاء في البند المذكور «إنه يحق للحكومة أن تعلن الإدارة العرفية مؤقتا؛ أي تبطل القوانين والنظامات.» فطلبوا أن يضاف إليه هذه الفقرة: «إن الذين يثبت بواسطة تحقيقات الضابطة الصحيحة أنهم سبب في اختلال أمنية الحكومة فللحضرة السلطانية وحدها الحق أن تخرجهم من الممالك المحروسة وتبعدهم عنها.»
فقبل مدحت هذا التعديل رغبة في سرعة العمل؛ ولأن التعديل المشار إليه يتعلق بالولايات، ولم يخطر بباله أنه سيجري عليه هو نفسه؛ لأنه كان قد احتاط لهذا الأمر بالمواد 31 و32 و33 وفحواها أن الوكلاء أو الوزراء لا يعزلون إلا بعد المحاكمة بالمجالس، وهذه نقطة أخرى يلام مدحت على تساهله فيها لأنها كانت علة نفيه.
وبنفيه تزعزع حزب الأحرار. (11) إعلان القانون الأساسي
ولكن السلطان لم يذخر وسعا في تقريب مدحت وترقيته، فلما استقال رشدي باشا من الصدارة لشيخوخته في 19 دسمبر سنة 1876 انتدب مدحت باشا لذلك المنصب، فكان أول شيء أجراه عند ذلك تعجيل إعلان القانون الأساسي، وعقد مجلس المبعوثان لئلا تسيء الدول الظن بالدولة وتقلب لها ظهر المجن، وقد لاقى مقاومة شديدة من المتملقين ومن جملتهم جودت باشا وزير العدلية، ففي الجلسة الأولى التي عقدت للوكلاء في بيت الداماد محمود، اقترح جودت باشا تأخير إعلان الدستور إلى أجل غير مسمى؛ «إذ لم يبق حاجة إليه بعد أن أفضت أزمة السلطنة إلى جلالة السلطان.» فغضب مدحت لذلك الاقتراح غضبا عظيما، وألح في وجوب إعلانه بلا تأخير، وهددهم إذا لم يفعلوا، وقد أفاد تهديده، فلو اتبع هذه الشدة فيما تقدم لغلب الحق على الباطل.
على أن الاختلاف بين مدحت ورجال المابين لم يكن قاصرا على مسألة الدستور، لكنهم خالفوه في أمور كثيرة. منها مقاومتهم في تعيين ولاة مسيحيين وإدخال غير المسلمين في المدارس الحربية، ومنها إصرارهم على تعيين غالب باشا وزيرا للمالية، ونفي ضيا بك صاحب الاستقلال. أما تعيين الولاة من المسيحيين فقد ذهب مدحت إلى التعجيل فيه إرضاء للدول التي ستجتمع في المؤتمر فيكون تعيينهم حجة للدولة في إدخال الإصلاح، فأجاب السلطان «إنا لا نعرف رأي عامة المسلمين في التغيير الذي سيدخل على الدولة بالدستور؛ فتعيين ولاة من المسيحيين ربما هاج خواطرهم وآل إلى ما لا تحمد عقباه.» وبعد أخذ ورد أجلوا الإقرار على ذلك كله إلى ما بعد اجتماع المؤتمر على أن يبادروا إلى إعلان الدستور وانتخاب نواب الأمة.
فأعلن الدستور رسميا في 24 دسمبر سنة 1876، وتلا سعيد باشا (الباشكاتب) الفرمان بإعلانه في حضور الصدر الأعظم مدحت وكبار رجال الدولة والعلماء وغيرهم، ثم تقدم سعيد المذكور وسلم صورة القانون الأساسي إلى مدحت بعد أن قبلها، وتفرق منها نسخ على الحاضرين، وخطب مدحت خطابا مآله قبول الدستور وقانونه، ثم صلى المفتي وأطلقت مائة مدفع ومدفع، فعلم الناس أن الدستور قد أعلن، فتهافت الكبراء وفي مقدمتهم شيخ الإسلام خير الله أفندي والعلماء ورجال الدين من النصارى مع بطاركتهم والوزراء وغيرهم يرفعون إلى مدحت التهاني على فوزه بإعلان الدستور وكانوا يصيحون: «يحيا السلطان ومدحت»، وانهالت عليه الرسائل البرقية من الولايات وغيرها والكل فرحون مستبشرون إلا سراي بشكطاش فإنها لم تحرك ساكنا؛ لأن جلالة السلطان كان يشكو انحرافا.
وفي اليوم التالي خف مدحت لزيارة بطريرك الروم، وهي المرة الأولى منذ الفتح العثماني زار فيها الصدر الأعظم بطريرك الروم، وإنما أراد بذلك إقناع الدول أن النصارى مشاركون للمسلمين في الدستور، واحتفل اليونان بزيارته فخطب فيهم وأجابه البطريرك بما يدل على الائتلاف والولاء. (12) مؤتمر الآستانة
ومن غريب الاتفاق أن اليوم الذي تعين لعقد المؤتمر هو نفس اليوم الذي أعلن فيه الدستور (23 دسمبر) فاجتمع المؤتمر في ذلك اليوم للمداولة مع مندوبي الدولة فيما ينبغي اتخاذه من الوسائل لتسكين الأحوال في الولاية العثمانية بأوروبا، ولم يكد يعلن افتتاح الجلسة حتى دوت أصوات المدافع عن إعلان الدستور، فنهض صفوت باشا أحد مندوبي الدولة في ذلك المؤتمر، وقال: «أيها السادة إن ما تسمعونه إنما هو إشارة إلى إعلان الدستور الضامن لما تطلبونه، فلا حاجة إلى المباحثة.» فوجم الحضور هنيهة ثم تكلم إغناتيف معتمد روسيا فطلب الرجوع إلى مدار البحث، فعادوا إليه، فطلب استقلال بلغاريا بأحكامها، وأن يتعين عليها وال مسيحي، فتباحتوا واتفقوا على أن تكون بلغاريا ممتازة بأحكامها، وبحثوا مثل ذلك في شئون الهرسك والبوسنة وغيرهما مما لا محل له هنا، وأقروا على لائحة عرضها إغناتيف على الباب العالي للمصادقة عليها، فشكل مدحت مجلسا عاليا مؤلفا من الوزراء والمشيرين وكبار رجال الدولة والرؤساء الروحانيين من كل الطوائف، وعرض عليهم اللائحة، وأخبرهم أن ردها يئول إلى الحرب فتباحثوا وتحمسوا وأبوا إلا ردها، فردها مدحت وانفض المؤتمر، وبفضه اضطربت العلائق بين أوروبا والباب العالي. (13) نفي مدحت باشا
ولم يكد ينفض المؤتمر حتى عاد رجال المابين إلى متابعة ما كانوا فيه من معاكسة رجال الإصلاح، فاستأنفوا البحث في إدخال المسيحيين المدارس الحربية، وعزل غالب باشا ناظر المالية، وكان مدحت يرى عزله لاعتقاده عجزه عن القيام بهذا المنصب، فرضي السلطان بعزله، لكنه اشترط أن يجعل عضوا في مجلس الأعيان، فطلب مدحت أن تفحص أوراقه، وتراجع حسابات أعماله، وكتب أخيرا إلى المابين كتابا بين فيه عدم لياقة غالب لهذا المنصب، ثم تحول إلى البحث في مسألة المدارس، وكان يعتقد - واعتقاده صواب - أن مسألة الإصلاح في المملكة العثمانية لا يمكن حلها إلا بتوحيد العناصر على اختلاف الطوائف والنحل، ولا يكون ذلك إلا إذا نشأ شبانهم في مدارس واحدة، وتربوا تربية واحدة، فأراد أن يبدأ مشروعه هذا بالمدارس الحربية فطلب إدخال غير المسلمين فيها لينشأ منهم ضباط غير مسلمين يشتركون مع إخوانهم المسلمين في خدمة الأمة، فأجيب بالمدافعة والمماطلة والمعارضة، وطال الأخذ والرد بين الصدارة والمابين، أو بين مدحت وباشكاتب المابين بالنيابة عن السلطان، وأخيرا كتب مدحت إلى جلالة السلطان كتابا شديد اللهجة جاء في جملته:
إني شديد الاحترام لشخص جلالتكم، أما من حيث القوانين والشرع فعلي يا مولاي أن أعصى كل أمر يصدر منكم إذا كان مخالفا لمصلحة الأمة، وإلا فإني أتحمل مسئولية أنوء تحت أثقالها، وأخاف صوت ضميري؛ لأني تعهدت بأن تكون أعمالي مطابقة لمصلحة الوطن ورفاهيته ...
إلى أن قال:
مضت تسعة أيام منذ عرضت على جلالتكم مشروعات لا غنى عنها لسعادة الأمة وصيانة الدولة، فلم تصادقوا عليها؛ مما يئول إلى خراب لم نكد ننجو من مخالبه إلا بشق النفس.
بعث مدحت كتابه ومكث في منزله ثلاثة أيام، فوجد أهل المابين مندوحة للتخلص من هذا العدو القوي، فأوفد إليه السلطان صفوت باشا ناظر الخارجية أن يأتي فأبى إلا أن يصادق السلطان أولا على مشاريعه فبعث إليه سعيد باشا (الإنكليزي) فأكد له أنه إذا أتى السراي فالإرادة تصدر حالا بالمصادقة على مطاليبه، فوثق مدحت بقوله وركب معه، وما عتم أن لحظ وهو في الطريق أن الشوارع غاصة بالجند، وخصوصا حول منزله في نيشان طاش، ولم يكن يعلم أن الباخرة «عز الدين» في مرسى طولما بغجه منذ بضعة أيام لتحمل أبا الأحرار إلى منفاه، وهب أنه علم بذلك حينئذ فلم يكن علمه لينفعه لفوات الفرصة، فبحال وصوله لسراي طولما بغجه استمهلوه ريثما تصدر الأوامر السلطانية لمقابلته، فجلس في غرفة الانتظار، وإذا هو برئيس الياوران جاءه، وأخذ منه ختم الدولة وساقه توا إلى الباخرة عز الدين، وكانت على أهبة السفر، فأقلعت ومع ربانها أوامر مختومة لا يجوز فتحها إلا بعد 24 ساعة، ثم فتحها فإذا فيها أن يحمل مدحت باشا إلى المحل الذي يختاره من سواحل أوروبا، فأنزل في برنديزي بإيطاليا.
ولا يخفى ما كان من تأثير هذا النفي على الأحرار في الآستانة، لكن أهل المابين لم يقدموا على نفي زعيم الأحرار وأبي الدستور، وإلا قد مهدوا السبيل واحتاطوا لما يخشى وقوعه، وكانت حجتهم في نفي مدحت أن: «وجوده يسبب اختلال أمنية الحكومة»، فللسلطان الحق بنفيه كما جاء في المادة 113 من القانون الأساسي، وكان في الآستانة عصابة من أهل الوجاهة لا يرون وجود مدحت نفسه ضروريا لتأييد الدستور ونشر الإصلاح، وكانوا يعتقدون أن السلطان مخلص في إجراءاته، وإنما يريد بها سلامة الدولة وسعادة الأمة، وتمكن هذا الاعتقاد من نفوسهم لما رأوه نفى مدحت وظل محافظا على دستوره، وأمر بعقد مجلس المبعوثان، وإنما فعل ذلك تسكينا لخواطر الأمة أو بالحري لخواطر الأحرار مريدي مدحت وأنصاره، وكانت الانتخابات جارية فتعجلها لفتح البرلمان في أول مارس سنة 1877 ولم يتم عدد الأعضاء الكافي لعقده إلا في 4 منه، فاحتفلوا بافتتاحه في سراي طولما بغجه بحضور السلطان نفسه، ولم يطل عمره إلا سنة وبعض السنة. (14) مدحت في منفاه
وكانت الدول في أثناء ذلك تنظر في رفض الدولة العثمانية لقرارات المؤتمر - المتقدم ذكره - وكن يتوقعن إصلاح الأحوال بإعلان الدستور، فلما نفي مدحت سبق إلى أذهانهن سوء الظن، ولا سيما روسيا فإنها عادت إلى العدوان، وأعلنت الدولة العثمانية بذلك في 24 أفريل سنة 1877، فساعد الإعلان على تغلب حزب المابين، فلم يتقرب منه غير الذين يوافقون على سياسته، وضعف حزب الدستور بعد نفي صاحبه.
انتشبت الحرب بين روسيا والدولة ومدحت منفي في أوروبا، فلم يذخر وسعا في مصلحة دولته ولا سيما في لندن، وكتب إلى الباب العالي أنه سعى في عقد صلح يحجب الدماء وطلب مصادقته فلم يجبه على ذلك؛ لأن كفة الحرب كانت لا تزال راجحة في جانب الدولة. ثم ما لبث الروس أن اخترقوا البلقان وأقبلوا على الآستانة، فجدد مدحت الهمة في الدفاع عن حقوق بلاده لدى الدول والباب العالي بالمكاتبات، فوسوس بعضهم لجلالة السلطان أن تصدر مدحت باسم الدولة لدى دول أوروبا يخشى منه فعمل على استقدامه إلى الآستانة، فكتب إليه رئيس التشريفات الشاهانية كتابا سريا يبثه فيه شعور السلطان معه بما يقاسيه في غربته، وأن جلالته بكى لما بلغه خبر عذابه، وأنه أمر له بألف جنيه ينفقها في مرافقه المستعجلة، ولا يعلم أحد بها، وطلب إليه أن يعلمه كيف ينبغي أن يرسل هذا المبلغ إليه، فأجابه مدحت بالرفض، وأظهر تفانيه في خدمة دولته ووطنه، فدعاه للقدوم إلى الآستانة لأن بعده عنها يوجب الهواجس وسوء الظن، وما زال به حتى أقنعه بالمجيء رغم نصيحة أصدقائه أن لا يفعل.
فسافر، ولكنه فضل النزول في كريد ليمكث فيها بعيدا عن الدسائس، وأدرك من مجاري الأحوال أن سياسة المابين تقضي بإبعاد رجال الأعمال عن الآستانة واستخدام الضعفاء، فقبل السلطان اقتراحه وبعث إليه عائلته إلى كنديا في سبتمبر سنة 1878، فاحتفل الكريديون بمدحت وعرفوا قدره على اختلاف طوائفهم، وأطلقت الدوارع الراسية في مياهها المدافع لأجله، فنقل ذلك إلى السلطان فأوجس خيفة، وكان في عزمه أن يعقد له على كريد فعقد له عليها، وبعد شهرين جاءه تلغراف من الباب العالي بتعيينه واليا على سوريا، فأطاع وركب إليها مع أهله على الباخرة «فوائد»، حتى أتى بيروت وسافر منها إلى دمشق مركز الولاية يومئذ. (15) ولايته على سوريا
ولم ينس السوريون أعمال مدحت في أثناء تلك الولاية، وكانت شهرته في مساعيه الحرة قد بلغت إلى مسامعهم، فلما وصل إليهم احتفلوا به احتفالا عظيما، وقد حقق أمانيهم بما أدخله من الإصلاح فيها نحو ما فعل في العراق من قبل، فأنشأ مدرسة للصنائع والفنون، وأخرى للأيتام، وأيد الأمن فبات الناس في راحة وعدل، وفتح الشوارع في المدن ومهد الطرق بين القرى والبلاد لتسهيل الانتقال، وأنشأ خطا للترامواي بين مدينة طرابلس الشام والمينا، وقد نجحت نجاحا باهرا، ولا ينسى أهل دمشق كيف أنشأ لهم الشارع الأعظم. وأهم ما كان من تأثير ولايته أنه جمع العناصر المختلفة، وألف بين قلوبهم على اختلاف المذاهب والأجناس على شكل لم يسبق له مثيل في تلك البلاد. وأطلق حرية المطبوعات ونشط الكتاب والأدباء والشعراء فتألفت الجمعيات السياسية والعلمية.
وفي أيامه ظهرت القصيدة السينية المشهورة التي مطلعها «دع مجلس الغيد الأوانس»، وفيها تحريض للعرب أن يطلبوا الاستقلال كما فعل أهل الجبل الأسود، وكان السوريون إذا لقوا مدحت في محفل صاحوا ليحيا مدحت باشا، وهو لا يحاذر المجاهرة بانتقاد المابين، وربما تغنى بما تم على يده من الخلع والتنصيب، فساء السلطان الظن بمقاصده، وزاد حذره من أغراضه، وأصبح يخاف أن تنتظم أحوال سوريا وتجتمع كلمة أهلها فتخرج من يده ، فأصبح إذا عرضت عليه مشروعات مدحت أجل المصادقة عليها أو رفضها، وأوحى إلى مشير الفيلق الخامس في الشام أن يكون على حذر منه، فأصبح المشير ينظر إليه نظر الرقيب، وتباعدت القلوب بينهما، وتضايق مدحت من ذلك فعزم على الاستقالة، وبعد مخابرات طويلة خير الباب العالي فيها بين قبول استعفائه أو المصادقة على مشروعاته فكانوا يماطلونه ويدافعونه مع حاجتهم إلى آرائه يومئذ في أثناء تمرد الدروز في حوران، وقد خدم الدولة في إخماد ذلك العصيان خدمة حسنة بإعادة الأمن إلى تلك البلاد مع المحافظة على شرف الدولة ونفوذها، ولما فرغ من هذا الواجب لم يعد يصبر على مضايقة الباب العالي ومعارضته بما يعمله، فاستقال بحجة شيخوخته وضعفه فأبت الحكومة إعفاءه، ولكنها نقلته من ولاية سوريا إلى ولاية أزمير سنة 1880. (16) ولايته على أزمير
إن ولاية أزمير هي ولاية آيدين وعاصمتها مدينة أزمير، وكانت في خلل واضطراب مثل سائر الولايات في ذلك العهد، بل هي من أكثرها اضطرابا بالنظر إلى تكاثر أهل الدعارة واللصوص وقطاع الطرق فيها، ولم يجهل مدحت أن مشروعاته في إصلاح هذه الولاية ستصادف ما كانت تصادفه مشروعاته لإصلاح سوريا، لكنه أطاع الأمر وقبل المنصب وانتقل إلى أزمير، وفكر في تسكين الخواطر وإعادة الأمن، وكان فيها فرقة من الجاندرمة فوجدها غير كافية لحفظ النظام، فأنشأ الضابطة على النسق الأوربي ولم يكن لها وجود في تركيا من قبل، وأخذ في العمل جهد طاقته والسلطان يزداد فيه سوء ظن ويخافه، فزين له مشيروه ورجال خاصته أن يتخلص منه ويريح فكره من أخطاره، ولم يجدوا شراكا يأخذونه بها إلا مسألة السلطان عبد العزيز فأحيوها، ورغم ما أثبته الأطباء في تقاريرهم عن موت ذلك السلطان بالانتحار ادعى رجال المابين أنه مات مقتولا، وأن قتلته هم حسين عوني باشا الذي قتله حسن الشركسي في بيت مدحت سنة 1876 والد أمادان محمود باشا ونوري باشا وأنه اشترك معهم أيضا مدحت باشا ورشدي باشا وخير الله أفندي شيخ الإسلام.
فلما اعتقد السلطان هذا القول أمر بالقبض على الدامادين محمود ونوري، ونشرت الصحف عود قضية عبد العزيز إلى التحقيق، وتزلف بعض كتابها إلى المابين فألح بالقبض على كل من اشترك في مسألة عبد العزيز أو شهدها، فقبض علي رشدي باشا زميل مدحت وحكم عليه بالنفي ليقضي شيخوخته في منغيسيا من ولاية آيدين، وحكم على خير الله بالنفي إلى مكة، وأبعد سائر من بقي من الأحرار في الآستانة، ولم يبق حول السلطان إلا المتملقون الذين أخذوا بناصره أو حرضوه على إفساد أمر الأحرار والتضييق عليهم، وفيهم جماعة كانوا يتظاهرون بالحرية ثم انقلبوا طمعا في الدنيا. (17) القبض على مدحت
وكان مدحت باشا يومئذ في أزمير وجاءه النبأ أنه متهم وأن حياته في خطر، فأجاب أصدقاءه الذين أنبئوه أنه لا يجد في ضميره ما يوجب القلق؛ لاعتقاده براءته لدى القضاء. أما السلطان فعمد إلى المبادرة بالقبض على مدحت فجأة، فأنفذ اللواء حلمي باشا والأميرالاي رضا بك (ثم صار رضا باشا سرعسكر) مع جماعة من الضباط والضابطان للقيام بهذه المهمة، فوصلوا أزمير على غرة والناس لا يفهمون سبب مجيئهم. أما مدحت فجاءه النذير بأمرهم فبث عليهم العيون يراقبون حركاتهم فتحقق أنهم جاءوا بأوامر من يلدز للقبض عليه. عرف ذلك من أحد رجال الضابطة التي أنشأها في أزمير كان قد تنكر بلباس تاجر ونزل في الفندق الذي نزل فيه حلمي باشا، وعاشره وتقرب إليه حتى وثق به، واعترف له أنه جاء للقبض على مدحت وأنه ينتظر أوامر أخرى، فبادر مدحت إلى الاحتياط، ففتح في قصره بابا سريا يؤدي إلى الشاطئ، وأعد هناك سفينة لشركة إنكليزية تنقله إلى حيث يشاء.
ففي مساء أحد الأيام جاء جاسوس مدحت المشار إليه، وأخبره أن حلمي باشا دعي إلى مكتب التلغراف على عجل، ولما عاد تسلح وذهب إلى القشلاق، وكان سبب ذلك أن حلمي باشا تلقى الأوامر بقتل مدحت وذبح عائلته، ولم يكن يستطيع ذلك إلا إذا كان له من يواطئه عليه من أهل بيت مدحت، وكان قد عرف خادما من أهل ذلك البيت اسمه نذير، فاتفق معه أنه حالما يرى الجند قادمين إلى القصر يطلق عليهم طلقا ناريا من مسدس فيكون ذلك حجة لهم في الهجوم والقتل، ويؤكدون وقوع هذه المواطأة بما ناله نذير هذا من الحظوى في المابين بعد نفي مدحت.
فلما علم مدحت بدنو الخطر أعمل فكرته بترو وأطلع أهل بيته على الأمر، وأوصاهم ألا يبدوا حراكا، وأخبرهم عزمه على الخروج من تركيا بحرا من ذلك الباب السري والالتجاء إلى أوروبا، ففي نصف الليل أطلقت الثكنة العسكرية ثلاثة مدافع هي علامة الحريق عندهم، فأدرك مدحت أنهم فعلوا ذلك ليصرفوا أذهان الناس عن أغراضهم الحقيقية، فعمد إلى الخطة التي كان رسمها للفرار، فخرج مع سكرتيره من ذلك الباب السري يطلب الشاطئ، ولم يبعد بضع خطوات حتى رأى الجنود قائمة على المرفأ تحرسه، فركب مركبة وسار إلى قنصلاتو إنكلترا فوجد قنصلها غائبا فتحول إلى قنصلاتو فرنسا وطلب حمايتها فآوته.
أما حلمي باشا فإنه أتى برجاله إلى قصر مدحت بحجة أنه جاء يستفتيه في أمر الحريق الذي شب في المدينة، فأجابه أهل المنزل أنه خرج الساعة فظنهم يخدعونه، فأمر رجاله فكسروا الأبواب ودخلوا البيت عنوة حتى فتحوا غرف الحريم للبحث عنه، وكان الخادم نذير جالسا على مقعد والمسدس في يده، فهم أن يقوم بمهمته ويطلقه فهجم عليه خادم آخر عارف بغرضه واستخرج المسدس من يده بالقوة وسقط ميتا من التأثر، ولم يترك الجند مكانا لم يفتشوا فيه عن مدحت حتى سرير الطفل، فلما رأت امرأة مدحت باشا تطاول القوم إلى هذا الحد، خاطبت حلمي باشا قائلة: «أرجع رجالك عن منزلنا وإلا فإني أفتح النوافذ وأستنجد الأمة عليهم.» فخاف حلمي تهديدها؛ لأنه أمر أن يعمل عمله بدون أن يشعر أحد به، فصرف رجاله إلا جماعة منهم استبقاهم معه وخرج. علم أن مدحت في قنصلاتو فرنسا فذهب إلى هناك، وسد عليه منافذ الطرق من كل ناحية حتى يقبضوا عليه إذا خرج أينما كانت وجهته، وكان قنصل فرنسا الموسيو بليسيه قد أنبأ سفير فرنسا بالآستانة بما جرى، وبعث مدحت إلى قناصل الدول العظمى في أزمير يدعوهم إلى الاجتماع في قنصلاتو فرنسا فجاءوا وقص عليهم الخطر الذي يحدق به، وطلب إليهم أن يوسطوا دولهم لدى الباب العالي، وأنه لا يطلب منهم عفوا ولا رحمة وإنما يطلب إذا كان متهما أن يحكم جهارا في محكمة قانونية قضاتها نزيهون، فجرت المخابرات التلغرافية وأخذت الدول المواثيق والعهود على ذلك، فلم يبق لمدحت بد من السفر إلى الآستانة للمحاكمة، وبعد أيام جاء اليخت السلطاني، فحملوه عليه إلى الآستانة، وأنزله السلطان في كشك مالطة في يلدز ريثما تتألف المحكمة لمحاكمته. (18) محاكمته والحكم عليه
وأخذوا في استنطاقه، وبعد الفراغ من ذلك عقدوا جلسة في سراي يلدز حضرها السلطان من وراء الستار، ولم يحضرها إلا السفراء وبعض مكاتبي الصحف الإفرنجية، مع أن الشرط أن تكون المحاكمة في جلسة جهارية، وكان القضاة خمسة: ثلاثة مسلمين، واثنين مسيحيين برئاسة سروري أفندي أحد العلماء، وقد تقدم ذكره في مكان آخر من هذه الترجمة، وكان في جملة المتهمين مع مدحت الدامادان محمود باشا ونوري باشا وعلي بك ونجيب بك وفخري بك الجزائرلي وبعض الخدم.
ولما فتحت الجلسة قرئت ورقة الاتهام، وفحواها: «إنه بعد خلع عبد العزيز ببضعة أيام تواطأ الدامادان نوري باشا ومحمود باشا مع اثنين من المصارعين، وأحد حرس السراي على قتل السلطان المخلوع، ووعدهم براتب قدره ثلاثة جنيهات عثمانية لكل واحد في الشهر مكافأة على هذه الخدمة، فقتلوا السلطان بمساعدة فخري بك أحد الحجاب، وأن علي بك ونجيب بك أدخلا القتلة إلى غرفة عبد العزيز، وأنه كان في الآستانة يومئذ لجنة مؤلفة من مدحت ورشدي وعوني وشيخ الإسلام خير الله، والداماد محمود لم يكن يصدر أمر أو يجري حادث ما لم تصادق هي عليه، فلا بد أن يكون القتل قد حصل بعلمهم؛ ولذلك كان مدحت مشتركا في ارتكاب تلك الجريمة.»
وبعد تلاوة ورقة الاتهام أخذ القضاة يسألون المتهمين أسئلة مختلفة وهم يدافعون عن أنفسهم، وتوالت جلسات هذه المحاكمة بين 23 يونيو و29 منه، وانتهت بالحكم على مدحت ومحمود ونوري وآخرين بالإعدام، وكانت أخبار هذه المحاكمة تنقل يوميا بالتلغراف إلى صحف أوروبا، ولم يستطع المكاتبون انتقادها؛ لأن رسائلهم كانت تمر على المراقب قبل إرسالها، يشهد بذلك رسالة مكاتب التيمس المؤرخة في أول سنة 1881 بعد صدور الحكم، فقد صدرها بقوله إنه لم ينتقد أعمال القضاة في رسائله السابقة خوفا من المراقبة، ثم أفاض في النقد، ومآله أن المحاكمة كانت مهيأة، وأنها جرت على رغائب أهل المابين فأكثروا من الشهود وفي جملتهم شاهد لم يذكر اسمه في قائمة الشهود، ولم يكن يجوز سماع شهادته، واسمه رفعت أفندي، شهد أنه سمع مدحت يقول في دمشق إنهم إنما قتلوا عبد العزيز لئلا يعود إلى السلطة ويقتل الوزراء الذين خلعوه، وفي جملة انتقادات مكاتب التيمس أن المتهمين لم يكن يتيسر لهم المفاوضة مع المحامين الموكلين في الدفاع عنهم، وأن مدحت لم يتداول مع محاميه إلا مرتين، وغير ذلك مما يطول شرحه، وهو مفصل في رسالة التيمس المشار إليها، ثم توسطت الدول في الحكم فأبدل بالنفي، وعين لكل واحد منفاه. (19) مدحت في منفاه إلى مقتله
أما مدحت فتعين منفاه في الطائف بقرب مكة، ومعه الدامادان محمود ونوري، فحمل مع رفاقه في باخرة أنزلته في جدة، فالتقى هناك بصديقه خير الله أفندي شيخ الإسلام المنفي إلى مكة كما تقدم. أما عائلة مدحت فظلت في أزمير تنتظر ما يأتي به القدر. ففي السنة الثالثة من منفى رجلها جاءهم منه كتاب مؤرخ جمادى الآخرة سنة 1301 يقول فيه إنه مصاب بخراج في كتفه اليمنى شديد الألم - وظهر بعد ذلك أنه الجمرة (فرخ جمر) - وأن طبيبه غلام غير محنك، وذكر ما يقاسيه من العذاب بجهل الطبيب، وما اتخذه رفاقه من الوسائط لراحته مع يأسه من الشفاء، وذكر طعامهم، فقال: إنه عبارة عن طبق شوربا لثمانية أشخاص وطبق ورق الفجل ونحوه، وذكر في كتاب آخر أن الخراج تتحسن حالته، لكنه يشعر بالضعف، وقال في كتاب آخر: إنه ربما كان آخر كتبه إليهم؛ لأنه لحظ أن القوم عاملون على التخلص منه بواسطة السم، وأنه يقاسي العذاب من شدة التيقظ لنفسه؛ لأنه محاط بأقوام أشرار لا يبالي أحدهم من يقتل ولا كيف يقتل، وذكر على الخصوص أحدهم بكير الشركسي رفيق حسن الشركسي الذي قتل عوني باشا قديما، وختم كتابه بالدعاء بحفظ العائلة، والكتاب مؤرخ في 24 سبتمبر سنة 1882.
فلما وصل الكتاب إلى امرأته عرضته على سفير إنكلترا في الآستانة فوعدها ببذل الجهد، واجتهد اللورد دفرين بالبحث عن صحة مدحت بواسطة ترجمان قنصلاتو فرنسا في جدة، فأجاب بعد البحث على يد شريف مكة أن صحته حسنة، وتوفي في أثناء ذلك الداماد نوري باشا مجنونا.
وفي 26 أفريل سنة 1883 كان مدحت راقدا في غرفته، فدخلها بضعة رجال فقبضوا عليه وعلى رفيقه الداماد محمود وقتلوهما خنقا، وكتب بذلك خير الله أفندي تقريرا مطولا نشر في تاريخ مدحت الذي ألفه ابنه علي حيدر، ولم ينج خير الله من القتل إلا خوفا من نقمة العلماء على الدولة لصبغته الدينية.
وجاء في تقريره المشار إليه أسماء الأشخاص الذين اشتركوا في ذلك القتل، وهم تسعة قتلوا مدحت و11 قتلوا محمودا، وهذه أسماء قتلة مدحت: اليوزباشي إبراهيم الشركسي، والضابط الصغير نوري، أصله من كوما أحمد جاويش، والأنفار قندرجي إسماعيل، وأحمد، ومحمد وكلاهما من كوتاهية، ورجب، وعثمان من قراحصار، وإسماعيل البربري. وأما الذين قتلوا محمد الداماد فهم: الضابط الصغير مميش أصالة من سبارطة، ومحمد وحسن جاويش من قوتاهية، وسليمان جاويش، ومحمد الأونباشي، وعثمان البلطاجي، وأحمد، وعلي الروملي، ومصطفى بربر.
ويقال إنهم بعد أن قتلوا مدحت أرادوا أن يثبتوا صدق خدمتهم للمابين، فأرسلوا الجمجمة في علبة عنونوها إلى يلدز في الآستانة، وذكروا أنها تحتوي عاجا يابانيا، وأدوات صناعية لجلالة السلطان فلم تفتح إلا هناك.
وكان مدحت كما رأيت من سياق سيرته ذكي الفؤاد، حاد المزاج، حرا، حازما، هماما، مستقل الفكر جسورا يحب وطنه ودولته، ويتفانى في مصلحتهما، وكان مخلص النية في أقواله وأعماله، شديد الرغبة في الإصلاح، يكره الاستبداد ولا يبالي بما يلاقيه في سبيل مقاومته؛ يدلك على ذلك أنه ذهب ضحية في هذا السبيل، ولكنه كان قليل الدهاء، يحسن الظن في الناس حتى في أعدائه، ولم يكن كتوما إلى الدرجة التي تقتضيها حاله لما يحيط به من أرباب الدسائس؛ ولذلك رأيته انخدع في مواقف بيناها في أثناء الكلام عنه، فلو كان أكثر دهاء في تفكيره، وأقل حدة في مزاجه، وأسوأ ظنا في أعدائه وأكتم لأسراره لما انتهت حياته بالكيفية التي ذكرناها، فذهب رحمه الله شهيد الحرية والدستور، فلما حدث الانقلاب الأخير وفاز الأحرار اعترفوا بفضله وسموه أباهم وصاحب دستورهم، وسيبقى ذكره ما بقي التاريخ.
الفصل الرابع والأربعون
بطرس باشا غالي
(1) نشأته المدرسية
هو أكبر أنجال المرحوم غالي بك نيروز، ولد في القاهرة سنة 1847 ووافق نشوءه نهضة تعليمية ظهرت في الطائفة القبطية على يد المرحوم الأنبا كيرلس الرابع المتوفى سنة 1861 بعد أن أسس المدارس القبطية في الأزبكية وحارة السقايين. دخل صاحب الترجمة مدرسة حارة السقايين فنبغ بين أقرانه، وكان البطريرك المشار إليه يتعهد المدارس بنفسه ويراقب سيرها، فلحظ في الفقيد ذكاء واجتهادا ممتازين، فتحدث فيما يرجوه من مستقبله، ويذكرون أن أستاذه في اللغة الفرنساوية كان المرحوم مصطفى بك رضوان، فلما صار صاحب الترجمة وكيلا للحقانية عينه رئيسا لمحكمة المنصورة.
شكل 44-1: بطرس باشا غالي (ولد سنة 1847 وتوفي سنة 1910).
قضى بطرس ثماني سنوات في مدرسة حارة السقايين، ثم انتقل إلى مدرسة البرنس فاضل باشا (أبي الأحرار العثمانيين)، وكان والده غالي بك يشتغل في دائرة البرنس المذكور، فأتقن فيها اللغتين العربية والفرنساوية، وتعلم الفارسية والتركية، وفي تلك المدرسة ظهرت رغبته في العلم وتلذذه بالدرس، فقد حدثنا بعض الذين عاشروه في صباه أنه كان يقضي ليله ساهرا لا يمل المطالعة، حتى شكا بعضهم ذلك إلى أبيه خوفا على صحته. وقد ساعده على إتقان اللغات التي تعلمها أنه كان قوي الذاكرة يحفظ الصفحة والصفحات بعد تلاوتها. ذكروا أن معلم الفرنساوية فرض على الصف مرة حفظ ثماني صفحات من الأجرومية فتذمروا من طول الأمثولة وفي جملتهم بطرس، لكنه جرب حفظها فاستسهله، فحفظ ما بقي من الكتاب، ولما جاء التلاميذ للتسميع في اليوم التالي اعتذر الجميع بطول الأمثولة إلا هو فسمع الدرس وسائر ما بقي من الكتاب، فأثنى الأستاذ على ذكائه واجتهاده.
ومن أدلة رغبته في العلم أنه وهو يتعلم الفارسية والتركية في المدرسة المذكورة لم يكن يرتوي من شرح المعلم، فاتخذ أستاذا فيهما من أهل خان الخليلي، كان يدفع له أجرته مما يجمعه من البارات التي كان أبوه يعطيه إياها ليتفكه بها، وقد أتقن هاتين اللغتين، وما زال إلى أواخر أيامه يردد بعض الأبيات الفارسية التي حفظها في صباه، أما التركية فأحسنها جيدا، وخرج من هذه المدرسة وهو يعرف أربع لغات، ثم تعلم الإنكليزية والإيطالية والقبطية، ولم يكن يحتاج في درس اللغة إلا إلى الإرادة، فإذا أراد وعزم فثباته وذكاؤه يضمنان سرعة اكتسابه ذلك اللسان، وحكي لنا عن سبب تعلمه اللغة القبطية أن بعض المستشرقين لقيه في بعض سياحاته بأوروبا وكلمه بالقبطية فأجابه جوابا ضعيفا؛ لأنه لم يكن يحسنها، ووعده أن يكاتبه بها بعد عودته إلى مصر ببضعة أشهر، وقد فعل. (2) دخوله في عالم العمل
خرج من المدرسة فكان أول عمل تعاطاه التعليم في مدرسة حارة السقايين براتب قدره سبعمائة غرش، وكان ناظر المدرسة يومئذ يعقوب بك نخلة رفيلة، ولكنه لم يمكث طويلا في تلك المهنة لأن مطامعه كانت أوسع من ذلك كثيرا، فعمد إلى الاستزادة من العلم الذي يؤهله للعلى، وكانت الحكومة المصرية يومئذ تهتم في إخراج المترجمين لمصالحها، وقد أنشأت مدرسة الترجمة للمرحوم رفاعة بك ونبغ منها طبقة حسنة من المترجمين، فلازمها بطرس سنتين أتقن في خلالهما ما كان يعرفه.
واتفق أن مجلس تجار الإسكندرية أراد توسيع دائرته فاحتاج إلى كتبة ومترجمين، فتقدم بطرس في جملة الطالبين للامتحان، فنال قصب السبق فتعين كاتبا، ولكنه ما زال يرتقي ويحرز ثقة رؤسائه حتى صار رئيس كتاب المجلس، وله فيه القول الفصل، وهو في ذلك المنصب نظرت قضية في المجلس المذكور لأحد صنائع المرحوم إسماعيل باشا المفتش، وصدر الحكم ضده فادعى الرجل أن بطرس أضاع حقه بإفشاء بعض أسرار المصلحة، وأبلغ ذلك إلى مولاه المفتش، فأبلغ المفتش ذلك إلى ناظر الداخلية يومئذ شريف باشا، وكانت مجالس التجار تابعة لها، فدعاه الناظر إليه بحضرة المفتش، وسأله عن التهمة فتنصل منها، وقص الحقيقة بحرية واستقلال فكر، فلم يعجب المفتش تنصله، فأخذ يكلم شريف باشا بالتركية طعنا فيه، فرد عليه بتلك اللغة ردا بليغا أدهش الرجلين، وحكما ببراءته وأعجبا ببراعته.
ولما تأسست المحاكم المختلطة جعلوها نظارة مستقلة سموها نظارة الحقانية برئاسة شريف باشا، وكان قد عرف اقتدار صاحب الترجمة فولاه رئاسة كتابها سنة 1874 فأخذت مواهبه تظهر من ذلك الحين، فاشتغل مع المرحوم قدري بك في ترجمة قوانين المحاكم وأكثرها يعمل به إلى اليوم.
ولما ارتابت الدولتان إنكلترا وفرنسا في مالية مصر، وعينتا مندوبين لتصفية ديونها شكلوا مجلسا من كبار رجال المالية وفيه رياض باشا نائبا عن الحكومة المصرية، وعينوا بطرس مساعدا، ثم تبدلت الأحوال فصار رياض باشا رئيس المجلس وبطرس وكيلا في الدفاع عن مصالح الحكومة، وقد أتاه هذا المنصب على غير استعداد؛ إذ لم يكن له إلمام في الشئون المالية، ولكنه عول على نفسه، وأكب على دراسة الموضوع فقضى ليلتين وهو يفكر فيه ويدرسه حتى تمكن من خاطره، فوضع تقريرا ومذكرة عن الضرائب والأطيان كأنه درس الموضوع من عدة أعوام، وقد طبعا باللغتين الفرنساوية والعربية، وعول عليهما أكثر الذين كتبوا في مالية مصر وأطيانها بعده، ويقال إن السير ريفرس ولسن مندوب إنكلترا في ذلك العمل لما رأى اقتدار صاحب الترجمة، قال له: «إنك ستكون ناظرا للمالية يوما ما.» ومنحته الحكومة الرتبة الثانية، والرتب يومئذ عزيزة جدا. ولكنه أصيب على أثر ذلك بحمى تيفوسية شديدة حتى يئس الأطباء من شفائه.
وبعد الانقلاب الذي خلع فيه إسماعيل وخلفه المغفور له توفيق باشا عين صاحب الترجمة (بطرس بك غالي) وكيلا لنظارة الحقانية، ولما تشكلت وزارة شريف باشا في أثناء الثورة العرابية عهدت إليه سكرتيرية مجلس النظار مدة، ثم استقل بوكالة الحقانية وأنعم عليه برتبة ميرميران الرفيعة سنة 1882، وهو أول من حازها من الأقباط.
ومن الخدم التي يؤثرونها له في أثناء الثورة العرابية أن العرابيين بعد أن فروا من التل الكبير وأتوا القاهرة عقدوا مجلسا للمفاوضة في ماذا يفعلون، ودعوا إليهم كبار الرجال من الأمراء العسكرية والملكية، وشاوروهم فيما ينبغي عمله، فكان رأي بطرس باشا التسليم للخديوي والرجوع عن العصيان، وكتبوا بذلك عريضة عهدوا إلى صاحب الترجمة ومحمد رءوف باشا بإيصالها إلى أصحاب الشأن في الإسكندرية، فذهبا نائبين عن الأمة المصرية في تقديم الطاعة للحضرة الخديوية.
وظل وكيلا لنظارة الحقانية عدة سنين بعد الاحتلال، وفي سنة 1893 رقي إلى منصب الوزارة فتعين ناظرا للمالية في وزارة رياض باشا، ثم انتخب ناظرا للخارجية سنة 1895 في وزارة مصطفى فهمي باشا، وظهرت مواهبه هنا بحل المشكلات التي تعرض لناظر الخارجية؛ نظرا لكثرة علائق مصر مع الدول من حيث المالية والسياسة وغيرهما، وقد شهد له اللورد كرومر بالاقتدار على حل المشكلات غير مرة، وما زال في هذا المنصب حتى سقطت الوزارة الفهمية فوقع الاختيار عليه لتشكيل وزارة جديدة، فشكلها في 10 نوفمبر سنة 1908 وتولى رئاستها مع نظارة الخارجية، وهو أكبر منصب يرجوه ابن النيل. وفي عهد وزارته همت الحكومة بتوسيع اختصاصات مجلس شورى القوانين، فقررت اشتراك الأمة في النظر بمشروعاتها بعرضها على المجلس، ويحضر الوزراء للمناقشة فيها وأشياء أخرى، وقد انتقدوا عليه بعض أعمال الحكومة التي تمت في عهد وزارته مما يرونه مغايرا لمصلحة مصر أو مخالفا للشعور الوطني، ولكنه أتاه وهو يعتقد نفعه لمصر لأنها وطنه وهو شديد الغيرة عليها، أو أنه لم ير بدا منه، وما زال عاملا مجدا حتى قتل في 20 فبراير سنة 1910، وقاتله شاب اسمه ناصف الورداني أطلق عليه أربع رصاصات من مسدسه في باحة نظارة الخارجية وهو يهم أن يركب عربته، وقد قبض على الجاني واعترف بالجناية بلا تهيب، وقال إنه قتله لأنه أمضى اتفاقية السودان وترأس محكمة دنشواي، وأعاد قانون المطبوعات، وقاوم الجمعية العمومية، ورضي بمشروع القناة. وقد حوكم القاتل وحكم عليه بالإعدام. (3) مناقبه وأخلاقه
قد تبين مما ذكرناه من ترجمة حياته أنه كان عالي الهمة، كبير المطامع، ذكي الفؤاد، قوي الحافظة، شديد العارضة، وكان قوي البنية، ربع القامة، ممتلئ الجسم، ونظرا لثباته وقوة عزيمته لم يكن يصعب عليه عمل، فارتقى من بين العامة إلى أسمى المناصب المصرية بعد الإمارة بجده وقوة عقله وثباته، فيصح أن يكون مثالا لطلاب العلى، وكان واسع الاطلاع في أهم مناهج الحكومة المصرية في المالية والقضاء والسياسة؛ فضلا عن معرفته اللغات فإنه أتقن منها العربية والفرنساوية والإنكليزية والإيطالية والتركية، ويعرف أيضا القبطية والفارسية وبعض الألمانية.
وكان مستقل الفكر يكره الدالة والوساطة، وينظر إلى حقائق الأشياء دون أعراضها. ومما يروى عن تقديره الأشياء حق قدرها أنه لما أخذت الحكومة في إنشاء المحاكم الأهلية، وكان هو وكيلا للحقانية احتاجت الحكومة إلى موظفين لتلك المحاكم، فأعلنت ذلك وتقدم طلاب الخدمة بالعرائض ولكل منهم وسيط من الكبراء على جاري العادة في ذلك العهد؛ إذ كان للدالة والوساطة شأن عظيم، واستخرج كتاب الحقانية أسماء الطالبين في كشف شبه جدول دونوا فيه اسم كل طالب، وذكروا إلى جانبه اسم الكبير الذي توسط له أو أوصى به، ورفعوا ذلك الكشف إليه فقرأه، فرأى اسم أحد الطالبين في آخر الكشف وليس له وسيط، وكان قد تحقق بالفعل أنه كفء للعمل فنقل اسمه إلى أعلى الكشف، وكتب بجانب اسمه في محل اسم الوسيط لسائر الطالبين: «وسيطه الله » يريد أن لا وسيط له غير الله، وقد نال الوظيفة.
وكان واسع الاطلاع في أحكام الشريعة الإسلامية، وقد شهد له أئمتها بالتبحر فيها، وكان لا يزال إلى الأمس يترأس كومسيون المجالس المختلطة، والأولى بذلك رسميا ناظر الحقانية، وكان دقيقا في إنجاز ما عليه لا يبالي بالتعب أو السهر، وكان لحسن أسلوبه ونفوذ كلمته وقوة حجته يكلفونه التوسط في حل ما يعرض من سوء التفاهم بين العناصر المختلفة أو القوات المضادة في هذا القطر؛ فضلا عما يدخل في واجباته من التوسط بين مصر والدول الأخرى وهو ناظر الخارجية، ومما يذكر من مأثره في حل المشكلات أنه اغتنم ذهابه بمعية الجناب العالي إلى الآستانة سنة 1905 وتشرف بالمثول لدى جلالة السلطان وجرى الحديث بينهما بالتركية فحل مسألة دير السلطان بالقدس.
وكان للجناب العالي ثقة فيه يعول عليه في الأمور الهامة؛ ولذلك كان أسف سموه عليه كبيرا حتى تنازل لزيارته وهو مريض في المستشفى، ثم شرف بيته بعد الوفاة لتعزية أبنائه وأخيه، وهذا التفات لم يسمع بمثله في مصر.
وكان يميل إلى المطالعة في ساعات الفراغ، وأكثر مطالعاته في التاريخ، وفيه ميل إلى المواضيع الفلسفية النظرية، وفي داره مكتبة نفيسة، وكان يطالع الصحف كل يوم بسرعة غريبة. (تم الجزء الأول)
الجزء الأول: أركان النهضة العلمية
1 - الدكتور كلوت بك
2 - الشيخ ناصيف اليازجي
3 - رفاعة بك رافع الطهطاوي
4 - بطرس البستاني
5 - علي باشا مبارك1
6 - الدكتور كرنيليوس فانديك
7 - السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني
8 - أحمد خان
الجزء الثاني: المنشئون وكتاب الجرائد
9 - أديب إسحاق
10 - أحمد فارس الشدياق
11 - محمد نامق كمال بك
12 - سليم بك تقلا
13 - السيد عبد الله نديم
14 - إبراهيم بك المويلحي
15 - الشيخ إبراهيم اليازجي
16 - خليل خوري
17 - رزق الله حسون الحلبي
الجزء الثالث: سائر رجال العلم والأدب
18 - محمد علي باشا الحكيم
19 - مارييت باشا
20 - السيد صالح مجدي بك
21 - سليم بسترس
22 - محمود باشا الفلكي
23 - نوفل نعمة الله نوفل الطرابلسي
24 - الدكتور ميخائيل مشاقة
25 - الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري
26 - شفيق بك منصور
27 - الشيخ يوسف الأسير
28 - الشيخ إبراهيم الأحدب
29 - أحمد جودت باشا
30 - محمد مختار باشا المصري
31 - الشهاب الآلوسي
32 - محمود حمزة الحسيني
33 - أمين شميل
34 - الشيخ محمد العباسي المهدي1
35 - أمين باشا فكري
36 - الدكتور دري باشا
37 - السيد إقليميس يوسف داود
38 - مارون النقاش
39 - ناصيف المعلوف
40 - سليم دي نوفل
41 - محمد بيرم
42 - نقولا توما
43 - حسن باشا محمود
44 - جميل المدور
45 - المطران يوسف الدبس
46 - سليم مخائيل شحادة1
47 - الدكتور يوحنا ورتبات
48 - الدكتور جورج بوست
الجزء الرابع: الشعراء
49 - الشيخ أمين الجندي الحمصي
50 - المعلم بطرس كرامة
51 - عبد الباقي العمري (شاعر العراق)
52 - فرنسيس فتح الله مراش
53 - السيد عبد الغفار الأخرس
54 - الحاج عمر الأنسي
55 - الشيخ خليل اليازجي
56 - عبد الله باشا فكري
57 - أسعد طراد
58 - المعلم ناجي
59 - إلياس صالح
60 - الشيخ نجيب الحداد
61 - محمود باشا سامي البارودي
62 - عبده الحمولي
الجزء الأول: أركان النهضة العلمية
1 - الدكتور كلوت بك
2 - الشيخ ناصيف اليازجي
3 - رفاعة بك رافع الطهطاوي
4 - بطرس البستاني
5 - علي باشا مبارك1
6 - الدكتور كرنيليوس فانديك
7 - السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني
8 - أحمد خان
الجزء الثاني: المنشئون وكتاب الجرائد
9 - أديب إسحاق
10 - أحمد فارس الشدياق
11 - محمد نامق كمال بك
12 - سليم بك تقلا
13 - السيد عبد الله نديم
14 - إبراهيم بك المويلحي
15 - الشيخ إبراهيم اليازجي
16 - خليل خوري
17 - رزق الله حسون الحلبي
الجزء الثالث: سائر رجال العلم والأدب
18 - محمد علي باشا الحكيم
19 - مارييت باشا
20 - السيد صالح مجدي بك
21 - سليم بسترس
22 - محمود باشا الفلكي
23 - نوفل نعمة الله نوفل الطرابلسي
24 - الدكتور ميخائيل مشاقة
25 - الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري
26 - شفيق بك منصور
27 - الشيخ يوسف الأسير
28 - الشيخ إبراهيم الأحدب
29 - أحمد جودت باشا
30 - محمد مختار باشا المصري
31 - الشهاب الآلوسي
32 - محمود حمزة الحسيني
33 - أمين شميل
34 - الشيخ محمد العباسي المهدي1
35 - أمين باشا فكري
36 - الدكتور دري باشا
37 - السيد إقليميس يوسف داود
38 - مارون النقاش
39 - ناصيف المعلوف
40 - سليم دي نوفل
41 - محمد بيرم
42 - نقولا توما
43 - حسن باشا محمود
44 - جميل المدور
45 - المطران يوسف الدبس
46 - سليم مخائيل شحادة1
47 - الدكتور يوحنا ورتبات
48 - الدكتور جورج بوست
الجزء الرابع: الشعراء
49 - الشيخ أمين الجندي الحمصي
50 - المعلم بطرس كرامة
51 - عبد الباقي العمري (شاعر العراق)
52 - فرنسيس فتح الله مراش
53 - السيد عبد الغفار الأخرس
54 - الحاج عمر الأنسي
55 - الشيخ خليل اليازجي
56 - عبد الله باشا فكري
57 - أسعد طراد
58 - المعلم ناجي
59 - إلياس صالح
60 - الشيخ نجيب الحداد
61 - محمود باشا سامي البارودي
62 - عبده الحمولي
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الثاني)
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الثاني)
تأليف
جرجي زيدان
الجزء
أركان النهضة العلمية
الفصل الأول
الدكتور كلوت بك
مؤسس الإصلاحات الطبية في الديار المصرية
الطب القديم
كانت مصر إلى آخر القرن الثامن عشر في حوزة الأمراء المماليك، ولا يخفى عليك ما كان من أمرهم في دولتهم، وإماتة العلم والصناعة واستنزاف أموال الناس، حتى لقد كان القطر يئن من شدة عتوهم، فلم يكن للعلم باب يدخل فيه أو تربة ينمو فيها؛ وخصوصا علم الطب، فإنه كان من جملة العلوم الدائرة.
وكان الأطباء في الغالب من جالية بلاد المغرب؛ يطببون بالحجامة والكي والفصد ، وغير ذلك مما لا يزال جاريا في أماكن كثيرة من هذه الديار، وغيرها من بلاد المشرق.
أما المدارس الطبية فلم يكن لها صورة في أذهان أولئك الحكام أو رعاياهم، على أن بعض هؤلاء الأطباء المغاربة كانوا يلقون دروسا من تلقاء أنفسهم على من يرغب في تلك الصناعة من أهل البلاد أو غيرهم، وكان الغالب في إلقائها في البيمارستان المنصوري بالنحاسين، أو في أروقة الجامع الأزهر، أو في بيوت أولئك الأطباء، وأما كتب التعليم فكانت مما كتب في الأعصر الإسلامية القديمة؛ كعصر العباسيين أو الفاطميين أو غيرهما؛ ولذلك كان طب القرن الثامن عشر طب القرون الأولى في صدر الإسلام، أو هو طب قدماء اليونان والرومان؛ كأبقراط وجالينوس؛ لأن المسلمين أخذوا الطب عنهم.
وما زالت حال الطب في هذه الديار على ما تقدم إلى زمن الحملة الفرنساوية التي أغار بها نابوليون بونابرت على هذا القطر السعيد سنة 1798م، فدخلت الجنود الفرنساوية مصر وأوغلوا في مدنها، وكان في جملة تلك الحملة جماعة من العلماء الذين اشتهروا في العلم، ولا تزال أسماؤهم مشهورة في سائر أنحاء العالم، جاء بهم بونابرت إتماما لمعدات الاستعمار؛ ظنا منه بطول مكثه واستعماره الديار المصرية.
وقد بحثت هذه الجمعية في الآثار المصرية وتربة البلاد، وحللوها، ودرسوا طبائع الحيوان والنبات فيها، وكان في عزمهم أن ينشروا لواء العلم بين أهلها، لو لم تفاجئهم طوارئ الحدثان بالانسحاب إلى ديارهم بعد ثلاث سنوات من احتلالهم (سنة 1801م)، ولم يتموا شيئا مما كانوا شرعوا فيه في الإدارة أو العلم أو الصناعة، ولكنهم تركوا آثارا من التمدن الحديث كانت بمنزلة جراثيم ضعيفة لو طال الأمد عليها كامنة لعفت آثارها وبادت، ولكن الله قيض لها رجل الإصلاح والحزم المغفور له محمد علي باشا؛ فبعد أن قبض على أزمة الإدارة والسياسة، ودانت له الرقاب؛ أخذ في تنظيم الأحوال وإحياء المعالم المصرية؛ أراد بذلك أن ينشئ دولة عربية، وقد علم أن الوسيلة الوحيدة لنجاح الأمة إنما هي العلم والصناعة وحسن الإدارة.
أما حسن الإدارة فكان هو الكافل لها مع من كان حوله من ذوي شوراه من المصريين وغيرهم، وأما العلم فعلم أنه لا مندوحة له عن استخراجه من معدنه، فبعث الوفود إلى أوروبا يستقدمون رجال العلم والصناعة، وأرسل جماعة من أذكياء شبان هذا القطر إلى أوروبا؛ يتلقون العلوم عن أهلها؛ حتى يعودوا ويبثوها بين أبناء جلدتهم، وكان ذلك أول الإرساليات العلمية.
كلوت بك
وكان في جملة من استخدمهم للإصلاح العلمي النطاسي الشهير الدكتور كلوت بك، صاحب الترجمة، استقدمه من أوروبا بقصد تطبيب الجيش؛ منعا لتفشي الأمراض فيه، وهو فرنساوي الجنس والنزعة، واسمه الأصلي أنطون برطلمي كلوت، ولد في غرينوبل بفرنسا سنة 1793م من أبوين فقيرين، وربي في شظف من العيش وضيق ذات اليد، على أن ملامح النجابة كانت تلوح على وجهه، ومواهبه الطبية تتجلى في أعماله منذ كان صبيا؛ لأنه كان على صغره ولعا بتشريح الحشرات ودرس طبائعها.
وتوفي والده سنة 1801م بعد أن نزح إلى برينول، وكان له صديق اسمه الدكتور سابيه، فلما عاين ما في الغلام من المواهب على حاله من الفقر جعله مساعدا له، يرافقه في أعماله الطبية، ويتمرن في الجراحة، وكان كلوت يطالع ذلك العلم بنفسه ساعات الفراغ، حتى قرأ كتاب الجراحة تأليف (لافه)، ثم رأى أن برينول - لصغرها - لا تفي بما تجنح إليه نفسه، ولا تروي مطامعه، فنزح إلى مرسيليا رغم إرادة والدته التي كانت كثيرة التعلق بولدها؛ هذا لأنه كان وحيدا لها، ولكنه أصر على عزمه، وضغط على عواطفه؛ طلبا للعلى وسعيا وراء العلم، وهو لا يملك إلا بعض الدريهمات وشيئا من الثياب، على أنه لم يلاق في مرسيليا إلا الخيبة، فحدثته نفسه أن يسافر في سفينة جراحا لبحارتها، ويتحمل مشاق الأسفار وأخطارها سدا لعوزه وهو في التاسعة عشرة من سنه، فلم يقبله ربانها، وكان ذلك لحسن حظ المترجم؛ لأن السفينة غرقت في ذلك السفر.
الدكتور كلوت بك 1793-1868م.
فاضطره العوز لتعاطي مهنة الحلاقة، فصار يختلف إلى حلاق يعالج بالفصد والجراحة الصغرى، ثم عاد إلى بلده مرغما، ودخل في المستشفى بعد عناء وتكرار الالتماس، وأكب على الدرس والمطالعة حتى نبغ بين أقرانه، ولكن الفقر كان لا يزال ضاربا أطنابه بين يديه.
وفي سنة 1817م أتم دروسه، وعين طبيبا صحيا، وكان قد درس العلوم بنفسه وأتقن اللغة اللاتينية على أحد القسوس، ونال رتبة بكلوريوس في العلوم (بكلوريا)، وفي سنة 1820م نال شهادة الدكتورية بعد شق الأنفس ومعاناة البلاء، ولكنه أصبح قابضا على ما يؤهله للعمل والتعيش، فعاد إلى مرسيليا وعين طبيبا ثانيا بمستشفى الصدقة، ومستشارا جراحيا بمستشفى الأيتام، فنم به بعض ذوي الحسد فأقيل من منصبه، ولكنه لم يسع في الانتقام، بل تضاعفت همته في العمل؛ أراد بذلك أن يبرهن على عدم اكتراثه بالسعاية والوشاية، وأنه إنما ينال الشهرة والسعادة بالسعي والاجتهاد، فكتب كتابا في استعمال آلات الولادة في الأحوال الخطيرة، حتى صار دكتورا في فن الجراحة، وذاع صيته في مرسيليا، وكان ذلك كافيا لرغم أنف حسوده.
وفي سنة 1825م اجتمع إليه المسيو تورنو، وكان تاجرا فرنساويا من نزالة مصر، بعث به المغفور له محمد علي باشا لاختيار من يليق بمنصب طبيب لجيشه، فحبب إليه المسير إلى مصر في ذلك المنصب، فقدم على طيب خاطر، فرأى أمامه بابا واسعا للعمل؛ لما قد علم من حاجة البلاد إلى الإصلاح الطبي، فأخذ يعمل ليله ونهاره مفكرا في الوسائل المؤدية إلى المراد.
وكان محمد علي باشا يركن إليه، ويثق برأيه، ويجيب مطاليبه، فأسس - أولا - مجلسا صحيا؛ ليستعين بأعضائه على الإجراء والتنفيذ، وبث الوصايا الصحية، فرتبه على مثال المجالس الصحية الفرنساوية، ولإتمام النظام العسكري أنشأ المستشفيات العسكرية، ومصلحة الصحة البحرية. ولا يخفى أن المستشفيات تحتاج إلى عملة من الأطباء والتومرجية وغيرهم، ولم يكن في مصر شيء من ذلك، فاضطر أن يعلم كلا من هؤلاء واجباته؛ من التطبيب وملاحظة المرضى، وغير ذلك.
وأشهر المستشفيات التي بنيت بناء على إشارته مستشفى أبي زعبل، وهي قرية على مسافة أربعة فراسخ من القاهرة، وكانت مقر الجند، وأنشأ في المستشفى بستانا للبنات، وفي نحو سنة 1828م أسس المدرسة الطبية في تلك القرية أيضا؛ وأراد بذلك أن لا يقتصر الطب على الجيش، بل يتعلمه أبناء البلاد؛ حتى يفيدوا أبناء جلدتهم بتطبيبهم وتعليمهم، وكان في السنين الأولى من تأسيس هذه المدرسة هو وحده الذي يلقي الدروس بواسطة المترجمين؛ تسهيلا لفهمهما، فترجمت كتب عديدة إذ ذاك، وفي جملتها قاموس نستين الطبي، وغيره من كتب الطب والجراحة والعلوم الطبيعية.
ومما كان عقبة في طريق التشريح العملي أن تشريح جثث الموتى كان أمرا منكرا في عيون المشارقة، فبذل كلوت جهده حتى أبيح له التشريح سرا، على أن ذلك لم ينجه من غضب الأهالي عليه، حتى إن أحدهم جاءه يريد قتله خلسة بخنجر، ولكنه لم يفز.
وفي سنة 1832م سار الدكتور كلوت بك في 12 تلميذا من تلامذة مدرسته هذه لامتحانهم في باريس، فامتحنتهم الجمعية العلمية الطبية، فحازوا استحسانها، وأظهروا كل نجابة وذكاء وبراعة؛ وهاك أسماء هؤلاء التلامذة:
أحمد الرشيدي
مصطفى السبكي
حسن الرشيدي
محمد الشباسي
محمد منصور
محمد السكري
إبراهيم النبراوي
محمد الشافعي
حسين الهيهاوي
أحمد بخيت
عيسوي النحراوي
محمد علي البقلي
وقد كان نجاح هؤلاء المصريين في امتحانهم موجبا لسرور أستاذهم كلوت بك سرورا زائدا؛ لأنهم سيكونون له عونا في نشر الفوائد الطبية والوصايا الصحية في هذه الديار.
وفي سنة 1838م نقلت المدرسة الطبية من أبي زعبل إلى القاهرة، وهي المعروفة بمدرسة قصر العيني، ثم أنشأ فيها فرعا لدرس فن القبالة، يتعلمها النساء ؛ لعلمه أن عوائد المشارقة لا تسمح بولادة النساء على يد أطباء من الرجال، وأنشأ لهن مستشفى خاصا بهن، وكان لهذه الخدمة فائدة عظمى؛ خصوصا لأن النساء - لمبالغتهن في التحجب - لا يؤذن للطبيب بمساعدتهن في الولادة، ولا الكشف عليهن في تشخيص بعض الأمراض، فكم كان يموت منهن لنقص المعالجة! أما بعد مدرسة القوابل فصارت القابلة (الداية) تقوم بأعمال الطبيب في معالجة النساء، فكم شفت أنفسا، وكم أنقذت أناسا من الموت بإذن الله!
ثم رأى - تعميما للفوائد الصحية - أن ينشئ أماكن للاستشارة الطبية بالقاهرة والإسكندرية، ففعل وجعل في كل استشارة أجزاخانة، وأنشأ أماكن كثيرة لمعالجة المرضى؛ كالمستشفيات وغيرها في المدن الكبيرة في القطر، وأدخل تطعيم الجدري للأطفال والغلمان، ولم يكن متداولا قبل ذلك بمصر، فأوقف انتشار ذلك الوباء، وكان يموت بسببه قبل ذلك ألوف كل سنة، وقد ظهرت نتائج إجراءات الدكتور كلوت بك الصحية في ازدياد عدد سكان القطر إلى أضعاف ما كانوا عليه.
وأظهر الدكتور كلوت سنة 1830م من الهمة في دفع داء الكوليرا ومعالجة المصابين ما يشهد له به التاريخ، وقد عرف له ذلك محمد علي باشا، فأنعم عليه على أثر ذلك برتبة «بك»، وهي رتبة لم يكن ينالها إلا نفر قليل، وكلوت أول من نالها من الأوروبيين على ما نعلم؛ وأنعمت عليه الحكومة الفرنساوية أيضا برتبة ليجيون دونور.
وفي سنة 1835م ظهر الطاعون بالقاهرة، فخاف الأطباء واعتزلوا في بيوتهم خوفا من العدوى، إلا الدكتور كلوت بك وثلاثة من زملائه، فإنهم ثابروا على خدمة المرضى ومعالجتهم، وقد رأى صاحب الترجمة أن هذا الداء غير معد بمجرد الدنو من المرضى ومعالجتهم، وقد طعم نفسه بالصديد الجدري، المعروف بالمادة الفحمية.
وكان لخدمته هذه وقع حسن في عيون محمد علي باشا وسائر من عرفه، فبعد انقضاء تلك الأزمة أنعم عليه محمد علي باشا برتبة (جنرال)، وكتب إليه بذلك يقول: «لقد تقلدت بصنيعك هذا قلادة الفخر؛ فقد جعلتك لذلك جنرالا.» وأنعمت عليه الدولة الفرنساوية برتبة أوفيسيه دي لاليجيون دونور، وأهدته سائر الدول الأخرى نياشين بطبقات مختلفة ؛ إقرارا بخدمته لها في معالجة رعاياها أثناء ذلك الوباء.
وفي سنة 1840 سار إلى فرنسا، وعرض كتابين من تأليفه؛ أحدهما يشتمل على أعماله في مصر، والثاني في الحوادث الوبائية، ولما سار المرحوم إبراهيم باشا في حملته إلى الشام رافقه صاحب الترجمة، فزار أكثر مدن الشام، والتقى في بيت الدين بالأمير بشير الشهابي، فالتمس منه هذا أن يتوسط له لدى عزيز مصر في إدخال نفر من اللبنانيين مدرسة قصر العيني؛ لدراسة صناعة الطب على نفقة الحكومة المصرية، فأجاب ملتمسه ثم عاد إلى مصر.
وما زال عاملا بنشاط وغيرة حتى توفي محمد علي باشا ثم إبراهيم باشا، وتولى عباس باشا الأول سنة 1849م، فاستأذنه الدكتور كلوت بك بالذهاب إلى مرسيليا، وبقي هناك حتى تولى سعيد باشا سنة 1856، فعاد كلوت بك إلى مصر وسنه 63 سنة، والظاهر أنه رحل إلى مرسيليا في عهد عباس باشا الأول؛ لوحشة بينهما، فاستشار سعيد باشا في من يليق لتولي إدارة المدرسة الطبية، فاختار له خمسة من نوابغ الأطباء؛ وهم: كلوتشي بك، وفيجري بك، وبرجير بك، وشافعي بك، ومحمد علي بك، فتبادلوا رئاسة المدرسة الطبية والمستشفيات زمنا.
أما كلوت بك فإنه عاد إلى باريس في سنة 1851م، ونشر نبذة تتعلق بالحجور الصحية، فأنعمت عليه الحكومة الفرنساوية برتبة كومندور دي لاليجيون دونور، ومما ناله من علامات الشرف أيضا لقب (كونت روماني)، لقبه به بابا رومية لخدمة قام بها نحو المسيحيين، وهو لقب يعطى لمن لا يقبل الرشوة، وفي سنة 1860م سافر إلى مرسيليا، وتوفي فيها في 28 أغسطس سنة 1868م.
وكان الدكتور كلوت بك لين العريكة، حسن الطوية، محبا لأبناء وطنه، محافظا على كرامة ديانته، راغبا في العمل، نشيطا، غيورا، متقنا لمهنته، مخلصا في خدمة الإنسانية، نزيها عن الأغراض الشخصية؛ ولذلك فقد تسابقت الدول إلى إهدائه النياشين والرتب، وقد أهدى ولده تمثاله إلى مدرسة الطب سنة 1894م، فنصبوه بمشهد حافل من الوجهاء والعلماء والأطباء، يتقدمهم ناظر المعارف بالنيابة عن الحكومة الخديوية.
وألف صاحب الترجمة - فضلا عن المواضيع الطبية - كتابا عن مصر في مجلدين، طبع سنة 1840م بالفرنساوية، صدره برسم محمد علي باشا، ووصف فيه مصر إداريا وزراعيا واجتماعيا على اختلاف الأزمان، وأفاض في تاريخها الطبيعي، وتقويمها بما فيها من السكان وعددهم، واختلاف أجناسهم وآدابهم وعوائدهم، ونظر في مصر نظرا دقيقا من حيث تجارتها وصناعتها وعلومها وجندها، وأعمالها في الري وحفر الترع، وما يشاهد من آثارها، إلى غير ذلك مما يعجز عن مثله سواه.
وخلاصة القول أن الدكتور كلوت بك ممن يخلد ذكرهم في التاريخ المصري مدى الدهور.
الفصل الثاني
الشيخ ناصيف اليازجي
1800-1871م.
ترجمته
هو الشاعر المطبوع، واللغوي المدقق، والنحوي المحقق، أحد أركان النهضة اللغوية في بلاد الشام، ابن عبد الله بن ناصيف بن جنبلاط بن سعد اليازجي، اللبناني المولد، الحمصي الأصل، هاجر جده سعد المذكور من حمص مع جماعة من ذويه نحو سنة 1690م؛ لحيف لحقهم في تلك الديار، فتوطن أناس منهم في ساحل لبنان في الجهة المعروفة بالغرب، وآخرون في وادي التيم، وتفرق بعضهم في مواطن أخرى، ولا تزال بقية أسرتهم في حمص ونواحيها، وهم عشيرة كبيرة من ذوي الوجاهة واليسار.
وكان مولد صاحب الترجمة في قرية كفر شيما، من قرى الساحل المذكور، في 25 مارس سنة 1800م، وكانت وسائل التعليم إذ ذاك محصورة في جماعة الإكليروس، فتلقى القراءة البسيطة على يدي القس متى من قرية بيت شباب، وكان والده من الأطباء المشهورين في وقته على مذهب ابن سيناء، وكان مع ذلك أديبا شاعرا، إلا أنه كان قلما يتعاطى النظم؛ لقلة الدواعي إليه إذ ذاك، ومن شعره أبيات قرظ بها ديوان الخوري حنانيا المنير أحد شعراء ذلك العصر، لم يحفظ منها إلا بيتان رواهما لنا حضرة حفيده اللغوي الشهير الشيخ إبراهيم اليازجي صاحب مجلة الضياء، وقد اعتمدنا عليه في تحقيق أكثر ما أثبتناه في هذه الترجمة؛ أما البيتان فهما قوله في مطلع ذلك التقريظ:
عش بالهنا والخير والرضوان
يا من عنيت بنظم ذا الديوان
إني لقد طالعته فوجدته
نظما فريدا ما له من ثان
فنشأ ولده على الميل إلى الأدب والشعر، وأقبل على الدرس والمطالعة بنفسه، وتصفح ما تصل إليه يده من كتب النحو واللغة ودواوين الشعراء، ونظم الشعر وهو في العاشرة من عمره، ومن نظمه في الصبا قوله:
ولما تثنى وهو ريان معطف
يميل على سفح العقيق ويخطر
تذكرت أغصان الرياض يهزها
نسيم الصبا والشبه بالشبه يذكر
ومن ذلك قوله أيضا:
كف عني لا أبا لك
قد تبينا محالك
وعرفناك وإلا
فمتى نعرف حالك
قد مضى لي بك عصر
حاملا فيه ملالك
حسب قلبي منك جور
كاد منه يتهالك
وكفانا ما احتملنا
منك فاستدع احتمالك
سنرى النادم منا
ويسيء الله فالك
ولما لم تكن الكتب لذلك العهد ميسورة - لقلة المطبوع منها - إذ لم يكن في البلاد السورية ولا المصرية إلا مطابع نادرة قلما كانت تشتغل بطبع الكتب العلمية؛ كان جل معتمده على كتب يستعيرها من بعض الأديار والمكاتب القديمة، فمنها ما يقرأها مرة فيحفظ زبدتها، ومنها ما ينسخها بخطه، ولا يزال كثير من تلك الكتب باقيا إلى اليوم محفوظا عند أسرته، وهي جميلة الخط على القاعدة الفارسية، وبعضها يبلغ عدة مئات من الصفحات.
وقد بلغ من كل علم من علوم العربية لبابه، ودرس أشهر مصنفاته، وله في جميعها تآليف مشهورة، هي اليوم عمدة التدريس في أكثر المدارس المسيحية، وله ثلاثة دواوين شعرية تعد من عيون الشعر، كثير منها محفوظ على الألسنة؛ ولا سيما الأبيات الحكمية منها، وهي في شعره أكثر من أن تحصى.
وله المقامات المشهورة باسم مجمع البحرين، وهي ستون مقامة أودعها من فنون الإنشاء وصناعات البديع ومن غريب اللغة وألفاظها المنتقاة وأمثال العرب والآيات الشريفة؛ ما دل على طول باعه وغزارة محفوظه، وذلك فضلا عما أودعها من المسائل العلمية في كل فن، وما ضمن شرحها من تواريخ العرب وأنسابهم ووقائعهم.
ثم إنه لما بلغ أشده اتصل بالأمير بشير الشهابي الشهير (راجع ترجمته في الجزء الأول من هذا الكتاب)، فقربه إليه وجعله كاتبا ليده، فلبث في خدمته اثنتي عشرة سنة، ولما كانت سنة 1840م - وهي السنة التي خرج فيها الأمير بشير من البلاد الشامية - انتقل صاحب الترجمة بأهل بيته إلى بيروت، فأقام بها وتفرغ للمطالعة والتأليف والتدريس ونظم الشعر ومراسلة الأدباء، حتى لهج بذكره القطران؛ الشامي والمصري.
الشيخ ناصيف اليازجي وامرأته وأولاده سنة 1864م.
الصف الأول:
وردة، سارة، إبراهيم (سنة 1906م)، فارس (سنة 1865م)، عبد الله (سنة 1894م).
الصف الثاني:
مريم (سنة 1900م)، حنة، صابات امرأة الشيخ (سنة 1881م)، الشيخ ناصيف (سنة 1871م)، حبيب (سنة 1870م)، نصار (سنة 1876م).
الصف الثالث:
أسين، راحيل (سنة 1879)، خليل (سنة 1889).
وكانت تتوارد إليه ركائب الزائرين من كل صقع وفيهم العلماء والوزراء، وفي جملة من زاره منهم محمد عزت باشا أحد قواد الجنود السلطانية، فمدحه بأبيات ارتجالية، يقول في مطلعها:
أعطى محمد عزة من فضله
شرفا لساحتنا بوطأة نعله
ومنها يقول:
يا زائرا بيتي أراك فتنته
فعليك بيت غيره من مثله
أجللته عني فصرت أهابه
حتى كأني لم أكن من أهله
وأقبل أكابر الشعراء من جميع الأنحاء العربية على مراسلته، ومدحوه بما دل على وفور فضله وعلو كعبه في الشعر والأدب، ومما قال فيه الشيخ عبد الباقي العمري البغدادي، حين وقف على النبذة الأولى من ديوانه:
على نبذة من شعر ناصيف ذي الفضل
وقفت ومني العين في موضع الرجل
وطأطأت إجلالا لها رأس شامخ
لأخمصه هام العلى موطئ النعل
وهي قصيدة طويلة يقول منها:
إذا أنكرت دعواه في الشعر فتية
أقام عليها شاهد العقل والنقل
وإن رام شعري أن يباري شعره
يقول شعوري إنني عنك في شغل
وقرظ هذه النبذة أيضا الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري بقصيدة مطلعها:
هكذا تنسق اللآلي وتنضد
هكذا تجمع المعاني وتحشد
هكذا هكذا الكلام كلام
صيغ درا بفكرة تتوقد
ومن هذه القصيدة يقول:
ما سمعنا بمثله عيسويا
يتحدى بمثل معجز أحمد
ألمعي لكنه عيسوي
كان أولى بفضل دين محمد
ومما قال فيه الشيخ إبراهيم الأحدب الطرابلسي:
ورا معانيه يصلي الورى
إذا جرى الفرسان يوم الرهان
صرح بأن الفضل أمسى له
ودع أحاديث فل أو فلان
وكفى بهذا القدر شاهدا على منزلته في عيون جلة العلماء من أهل عصره، وهي أول مرة مدح فيها مسيحي بمثل هذا الكلام، وأجمع مثل هذه الطبقة على إطرائه وتفضيله، ومن رام الوقوف على سائر أقوالهم فيه فليطالع ذلك في مجموعة هذه المراسلات المسماة بفاكهة الندماء.
ثم إنه ما زال عاكفا على التعليم والتصنيف والنظم والنثر حتى أصيب بمرض عضال سنة 1869م، فانفلج فالجا نصفيا عطل شطره الأيسر، فلزم داره، ولكنه ما برح ينظم الشعر ويتلقى السائلين والمستفيدين، إلى أن فاجأه القدر بوفاة بكره المرحوم الشيخ حبيب، فوقع ذلك الحادث عليه وقوع الصاعقة، ولم يعش بعد ذلك إلا أربعين يوما، وكان قد بدأ بنظم قصيدة يرثيه بها، ثم غلب عليه الحزن حتى لم يعد يملك عنان قريحته؛ ومما نظم في هذه القصيدة قوله:
ذهب الحبيب فيا حشاشة ذوبي
أسفا عليه ويا دموع أجيبي
ربيته للبين حتى جاءه
في جنح ليل خاطفا كالذيب
يا أيها الأم الحزينة أجملي
صبرا فإن الصبر خير طبيب
إني وقفت على جوانب قبره
أسقي ثراه بمدمعي المصبوب
ولقد كتبت له على صفحاته
يا لوعتي من ذلك المكتوب
لك يا ضريح محبة وكرامة
عندي لأنك قد حويت حبيبي
وهي آخر ما نظمه، وبعد أيام عاودته السكتة الدماغية فمات فجأة، وكانت وفاته في 8 شباط (فبراير) سنة 1871م بعدما لزمه الداء ما يقرب من سنتين، فعظم خطبه عند كل من عرف فضله أو سمع بذكره، وكان له مأتم حافل شهده الكبراء والعظماء من بيروت ولبنان، ومشى في جنازته ما ينيف عن عشرة آلاف نفس.
وولد له 12 ولدا ورثوا ذكاءه وسرعة خاطره، ولم يخلفه منهم في خدمة اللغة وآدابها إلا الشيخ إبراهيم صاحب الضياء.
صفاته
وكان (رحمه الله) معتدل القامة فوق الربعة، أسمر اللون حنطيه، أسود الشعر، أجش الصوت، مهيبا، وقورا، شهما، كاملا، متواضعا، متأنيا في حديثه، قليل الضحك، عفيف اللسان، لم تسمع له كلمة بذيئة قط؛ لا في حديثه ولا في كتابته، ولم يهج أحدا ولا هجاه أحد في زمانه، غير بيتين قالهما على سبيل الفكاهة في بخيل؛ وهما:
قد قال قوم إن خبزك حامض
والبعض أثبت بالحلاوة حكمه
كذب الجميع بزعمهم في طعمه
من ذاقه يوما ليعرف طعمه
وكان إذا ذكر أحد أمامه بسوء أطرق وأغضى كأنه لا يسمع، وكان ودودا مخلصا، سريع الفهم، قوي الذاكرة، متسع المدارك، إذا حدث أخذ بمجامع القلوب لكثرة رواياته ونكاته، وكان يروي القصة بتواريخها وأسماء أصحابها وأسماء بلدانهم، ولم يكن على شيء من التأنق في اللفظ، ولكن حديثه كان كأبسط أهل وقته.
ومن غريب ذاكرته أنه كان إذا نظم الشعر لا يكتبه بيتا بيتا، ولكنه كان ينظم الأبيات ثم يكتبها، حتى إنه في مدة اعتلاله نظم مرة ثمانية عشر بيتا ثم أملاها دفعة واحدة، وقد ألف إحدى مقاماته، وهي المقامة اليمامية، على ظهر الفرس، وكان مسافرا بأهل بيته من بيروت إلى بحمدون سنة 1853 بقصد الاصطياف، فلما انتهى إليها أخذ قرطاسا فعلقها، وكان يحفظ القرآن بتمامه، ويعي من الشعر شيئا كثيرا؛ ولا سيما شعر المتنبي؛ لشدة إعجابه به، وكان يقول: كأن المتنبي يمشي في الجو وسائر الشعراء يمشون على الأرض.
شعره
أما شعره فهو النهاية في السلاسة والانسجام وحسن اختيار الألفاظ والتراكيب، فضلا عما له من المعاني المبتكرة، والإكثار من الحكمة، وضرب الأمثال، ومع قلة رغبته في الغزل فإن الغزل القليل الذي له في منتهى الرقة، مثل قوله:
يا ناحل الأعطاف معشوقا ترى
أتلوم مثلي عاشقا أن ينحلا
حاولت سفك دمي بعينك ثانيا
هيهات قد سفكته عيني أولا
وقوله:
حواك وقد حللت بكل قلب
فؤاد لم يحل به سواك
نزلت به على طلل تفانى
ولست بمن على طلل تباكى
أطعت العاذلين بقتل صب
يريد القتل لكن عن رضاكا
تعز كرامة ويهون ذلا
فتأنف أن يقول دمي فداكا
وقوله:
أخاف إذا أشار براحتيه
لعلمي أن روحي في يديه
ويخفق عند نظرته فؤادي
لأن سواده من مقلتيه
وقوله:
إن كان يلبس ما أفاد تجملا
فبياض هذا الجيد تلبسه الحلى
وإذا تزينت العيون بكحلها
فلقد نراه بمقلتيك تكحلا
يا ناحل الأعطاف معشوقا ترى
أتلوم مثلي عاشقا أن ينحلا
وقوله - وهو مما نظمه في صباه:
ألوى علي فضمني وضممته
وصدورنا بصدورنا لم تعلم
أهوي عليه وفي عفة يوسف
حتى يميل وفيه عفة مريم
ومن نظمه في المديح قصيدة مدح بها أسعد باشا قائد جيش البلاد العربية، قال فيها:
إذا قام من تحت السرادق راكبا
أقام عجاجا فوقه كالسرادق
ولما رأينا كيف تنقض خيله
علمنا بها كيف انقضاض الصواعق
تفارق أطراف البلاد خيوله
وأصواتها في قلبها لم تفارق
وله في الحكم شيء كثير، منه قصيدة جرت أبياتها مجرى الأمثال، مطلعها:
لعمرك ليس فوق الأرض باق
ولا مما قضاه الله واق
ومنها:
أضل الناس في الدنيا سبيلا
محب بات منها في وثاق
وأخسر ما يضيع العمر فيه
فضول المال تجمع للرفاق
ومنها:
ألا يا جامع الأموال هلا
جمعت لها زمانا لافتراق
رأيتك تطلب الإبحار جهلا
وأنت تكاد تغرق في السواقي
إذا أحرزت مال الأرض طرا
فما لك فوق عيشك من تراق
أتأكل كل يوم ألف كبش
وتلبس ألف طاق فوق طاق
فضول المال ذاهبة جزافا
كماء صب في كأس دهاق
وله من قصيدة:
متى ترى الكلب في أيام دولته
فاجعل لرجليك أطواقا من الزرد
واعلم بأن عليك العار تلبسه
من عضة الكلب لا من عضة الأسد
وله في صناعة التاريخ الشعري اليد الطولى والتفنن الغريب، ولم يحدث حادث هام في أواسط القرن الماضي يستحق حفظ تاريخ حدوثه إلا نظم الشيخ اليازجي أبياتا في تاريخه، ومن أشهر ما نظمه في هذا الباب بيتان قالهما في فتح عكاء، يتضمنان 28 تاريخا، وبيتان آخران نظمهما في السلطان عبد العزيز، وله من هذا القبيل قصيدة هنأ بها إبراهيم باشا المصري بفتح عكا، ضمن كل بيت منها تاريخين لسنة 1248ه، يقول في مطلعها:
الزهر تبسم نورا عن أقاحيها
إذا بكى من سحاب الفجر باكيها
ومع التزامه التاريخ فيها لا ترى تكلفا في تركيبها مطلقا.
ومن مديحها قوله:
كل البلايا من الدنيا متى نزلت
بنا فنيران إبراهيم تطفيها
نار ونور متى قال النزال له
والجود هات يدا لم يلق ثانيها
وله قصيدة من هذا النوع في مدح السلطان عبد العزيز، وقد أمر له بالإنفاق على طبع بعض كتبه من الخزينة الخاصة، مطلعها:
قف بالمطايا على اتحاد ذي سلم
وقل سلام على من دام في الخيم
ومن مخترعاته في فن النظم عاطل العاطل؛ وهو أن تكون أحرف الكلمة خالية من النقط، وإذا تهجأت اسم الحروف كان هجاؤه أيضا خاليا من النقط، وهذه الأحرف ثمانية فقط؛ وهي الحاء والدال والراء والصاد والطاء واللام والهاء والواو، وقد نظم من هذا الجناس أربعة أبيات في مقاماته مجمع البحرين، وهي هذه:
حول در حل ورد
هل له للحر ورد
لحصور حلو وصل
ورده للصحو طرد
وله حول وطول
وله صد ورد
دهره حر صدور
هل له لله حد
وقد نظم من جناس ما لا يستحيل بالانعكاس أربعة عشر بيتا، وهي أيضا في مقاماته، ولم يسمع بهذا المقدار لشاعر قبله، ونظم بيتين طردهما مديح وعكسهما هجاء، وهذا من مبتكراته، وهما في المقامات أيضا، وله فيها غير ذلك من الفنون مما نستغني عن سرده بشهرتها.
مؤلفاته
وأما مؤلفاته - سوى ما تقدم ذكره من دواوينه ومقاماته - فمعظمها من الكتب المدرسية لتلقي العلوم الأدبية، وقد سلك فيها؛ ولا سيما في الصرف والنحو، مسلكا تدريجيا يناسب حالة الطالب في كل سن؛ فمنها المختصر الذي لا اختصار بعده؛ كالرسالة المسماة بالجوهر الفرد، وقد جمع فيها الصرف والنحو في ست صفحات؛ ومنها المطول الذي أتى فيه على أشهر أقوال المصنفين في هذين العلمين، مع الإحاطة بجميع قواعدهما، وتعليل أحكامها؛ كالأرجوزتين اللتين سمى إحداهما الجمانة في علم الصرف، والأخرى جوف الفرا في علم النحو، تشتملان على ما يزيد عن ألف وخمسمائة بيت، وكل واحدة منهما مشروحة بقلمه شرحا مستوفيا، وله بين ذلك تآليف أخر منها بالنثر، وهي فصل الخطاب في الصرف والنحو أيضا، وهو جامع لأصول هذين العلمين، وقد وقع إجماع المدرسين على أنه أفضل متن وضع فيهما، وقد جمع فيه بين الإحاطة والاختصار، حتى لا يمكن أن يحذف منه كلمة ولا يزاد عليه كلمة.
وفي طبقته وعلى أسلوبه عقد الجمان في علم البيان، ونقطة الدائرة في العروض والقوافي، وقطب الصناعة في المنطق، وهذه الكتب الأربعة مشروحة بقلمه.
ومن ذلك أرجوزتان مختصرتان في الصرف والنحو، مشروحتان بقلمه أيضا، سمى الأولى لمحة الطرف في أصول الصرف، والثانية الباب في أصول الإعراب، ومختصر آخر في النحو سماه طوق الحمامة، وهو نثر. وله في البيان أرجوزة مختصرة سماها الطراز المعلم، وأرجوزة أخرى في النطق سماها التذكرة، وشرح كلا منهما شرحا موجزا، وله أرجوزة مطولة في فن العروض والقافية ، وهذه شرحها ولده المرحوم الشيخ حبيب، وهذه التآليف كلها مطبوعة.
ومن مؤلفاته التي لم تطبع، رسالة في التوجيهات النحوية، سماها عمود الصبح، انتهى فيها إلى المفعول فيه، ولم يفسح له في الأجل لإتمامها، وأرجوزة مختصرة في الطب القديم سماها الحجر الكريم، وشرحها بقلمه، ومعجم في أعضاء الإنسان والصفات التي على أفعل سماه بجمع الشتات في الأسماء والصفات، وشرح لبديعيته سماه القطوف الدانية، استوفى فيه جميع الجناسات والأنواع البديعية.
وكان قد شرع في وضع شرح لديوان المتنبي، وكان يعلق عليه الحين بعد الحين بما يعن له من التفاسير؛ ولا سيما للأبيات الغامضة، فأتمه من بعده ولده الشيخ إبراهيم وسماه العرف الطيب في ديوان أبي الطيب، وقد طبع هذا الشرح سنة 1882م.
الفصل الثالث
رفاعة بك رافع الطهطاوي
هو السيد رفاعة بك بن بدوي بن علي بن محمد بن علي بن رافع، ويلحقون نسبهم بمحمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن فاطمة الزهراء.
ولد في طهطا بمديرية جرجا من صعيد مصر، ويؤخذ مما كتبه عن نفسه في رحلته - التي سيأتي ذكرها - أن أجداده كانوا من ذوي اليسار، وأخنى الدهر عليهم وقعد بهم كما هو شأنه في بني الزمان، فلما ولد المترجم كانت عائلته في عسر، فسار به والده إلى منشأة النيدة بالقرب من مدينة جرجا، وأقام بين قوم كرام يقال لهم بيت أبي قطنة، من أهل اليسار والمجد، فأقاما هناك مدة ثم نزحا إلى قنا، ولبثا بها حتى ترعرع الغلام، فأخذ يقرأ القرآن، ثم نقل إلى فرشوط، وأخيرا عاد إلى طهطا وكان قد حفظ القرآن، وقرأ كثيرا من المتون المتداولة على أخواله، وفيهم جماعة كبيرة من العلماء الأفاضل؛ كالشيخ عبد الصمد الأنصاري، والشيخ أبي الحسن الأنصاري، والشيخ فراج الأنصاري، وغيرهم.
ثم توفي والده، فجاء رفاعة إلى القاهرة وانتظم في سلك الطلبة بالجامع الأزهر سنة 1223ه، وجاهد في المطالعة والدرس جهادا حسنا حتى نال من العلم شيئا كثيرا، ولم تمض عليه بضع سنين حتى صار من طبقة العلماء الأعلام في الفقه واللغة والحديث وسائر علوم المعقول، وكان في جملة من تلقى العلم عليهم من العلماء الشيخ حسن العطار، المتوفى سنة 1250ه، شيخ الجامع الأزهر، فأحب صاحب الترجمة وميزه عن سائر أقرانه التلامذة، وخصه بالتقرب منه؛ لما آنس فيه من الذكاء والاجتهاد، فكان يتردد إلى منزل الشيخ يأخذ عنه بعض العلوم، أو يستشيره في أمر، أو ما شاكل ذلك.
رفاعة بك رافع الطهطاوي 1216-1290ه.
وقضى صاحب الترجمة بمجاورة الأزهر زهاء ثماني سنوات، وكان - كما قدمنا - في عسر، وكانت والدته تنفق عليه مما تبيعه من بقايا حليها ومصاغها، فلما أتم دروسه تعين سنة 1240ه إماما في بعض آلايات الجند براتب يساعده على القيام بأود حياته.
وكان ذلك العصر زاهيا بالمغفور له محمد علي باشا مؤسس العائلة الخديوية الكريمة، وكان (رحمه الله) آخذا في مشروعاته تعزيزا لشأن هذا القطر السعيد، وفي جملتها نشر العلوم، فأحب إرسال جماعة من شبان هذا القطر إلى أوروبا لتلقي العلوم الحديثة؛ ليكونوا له أعوانا في فتح المدارس، وبث تلك العلوم في أبناء البلاد، فأمر بتعيين صاحب الترجمة إماما لهم للوعظ والصلاة، فسارت الإرسالية المشار إليها من مصر سنة 1241ه، وهي أول إرسالية مصرية إلى فرنسا، فتاقت نفس المترجم إلى علوم المغرب، فعكف على درس اللغة الفرنساوية من تلقاء نفسه؛ رغبة منه في تحصيل العلوم بها، أو نقله منها إلى العربية لعله يتخلص من مهنة الإمامة.
وكان معظم درسه اللغة بنفسه، فلم يتقن التلفظ بها، ولكنه تمكن من فهم معانيها فهما جيدا، وأخذ يطالع العلوم الحديثة، فأتقن التاريخ والجغرافيا وعلوما أخرى، وكان ميالا إلى التأليف والترجمة، فترجم وهو في باريس كتابا سماه «قلائد المفاخر في غرائب عوائد الأوائل والأواخر»، وغيره، فبلغ المغفور له محمد علي باشا ما أظهره السيد رفاعة من النباهة والرغبة في العلم من تلقاء نفسه، فسر به سرورا عظيما واستبشر بطالعه.
وفي سنة 1247ه عاد (رحمه الله) إلى الديار المصرية بعد أن نال الشهادات الناطقة بدرجته من العلم والفضل، فولاه محمد علي منصب الترجمة في المدرسة الطبية التي كان أنشأها سنة 1242ه في قرية أبي زعبل قرب القاهرة برئاسة كلوت بك الشهير، وكان متوليا رئاسة الترجمة بها قبله المرحوم يوحنا عنحوري، من أبناء سورية، وله فيها خدمات جليلة، وشهد لصاحب الترجمة بقصب السبق فولوه الترجمة، وعمل على خدمة البلاد؛ ولا سيما وأن عارفي اللغات الأجنبية إذ ذاك كانوا يعدون على الأصابع. ومما يعد له فضلا جزيلا أنه أول من باشر إنشاء جريدة عربية في سائر المشرق، وهي «الوقائع المصرية»؛ فإنها أنشئت بمساعيه ومساعدته سنة 1248ه، ولا تزال إلى الآن وهي الجريدة الرسمية المصرية.
وفي سنة 1249ه انتقل من مدرسة أبي زعبل إلى مدرسة الطوبجية في طرا؛ لترجمة الكتب الهندسية والفنون العسكرية، وفي سنة 1251ه افتتح المغفور له عزيز مصر مدرسة للألسن الأجنبية، وعهد بإدارتها إلى صاحب الترجمة، وسميت - عند فتحها - مدرسة الترجمة، فقام الشيخ رفاعة إذ ذاك حق القيام بإدارة هذه المدرسة، واختار لها التلامذة من مدارس الأرياف بسائر جهات القطر، فبلغ عدد تلامذتها في أول الأمر خمسين تلميذا، ثم زاد حتى صار 250، وكان في أبي زعبل مدرسة تجهيزية للطب فنقلت إلى جهات الأزبكية، فعهدت إدارتها إليه فضلا عن مدرسة الألسن ومدارس أخرى فرعية، منها مدرسة للفقه والشريعة، وأخرى للمحاسبة، وأخرى للإدارة والأحكام الإفرنجية.
وفي سنة 1258ه تشكل قلم الترجمة من أول فرقة خرجت من مدرسة الألسن، وبعد سنة ونصف من تشكيله نال رتبة قائمقام، وكان قد نال ما يتقدمها من الرتب تدريجيا في أوقات متتابعة، وفي سنة 1262ه نال رتبة أميرالاي، فصار يدعى رفاعة بك بدلا من الشيخ رفاعة.
وما زال رفاعة بك ناظرا لمدرسة الألسن حتى أقفلت على عهد المغفور له عباس باشا الأول، فأمر بإرساله إلى السودان لنظارة مدرسة الخرطوم، وما زال هناك حتى توفي عباس باشا المشار إليه سنة 1270ه، وتولى المرحوم سعيد باشا، فعاد يشكر الله على نجاته من تلك الأقطار، فمثل بين يدي سعيد باشا، فعهد إليه سنة 1281ه وكالة مدرسة الحربية بجهات الصليبة، تحت رئاسة المرحوم سليمان باشا الفرنساوي، وبعد قليل أنشئت مدرسة الحربية بالقلعة، فأحيلت إليه نظارتها مع نظارة قلم الترجمة ومدرسة المحاسبة والهندسة الملكية والتفتيش والمعمارجية، وعند ذلك نال الرتبة الممايزة.
وفي سنة 1277ه ألغيت كل هذه المدارس، فبقي رفاعة بك بغير منصب إلى سنة 1280ه، فأعيد إلى نظارة قلم الترجمة وتعين عضوا من قومسيون المدارس، وتولى إدارة جريدة «روضة المدارس» مع مثابرته على التأليف.
وما زال قائما بهذه المهام حتى توفاه الله سنة 1290ه بداء النزلة المثانية، وله من العمر 75 سنة، وقد ملأ الديار المصرية من المترجمين والأساتذة والمهندسين وغيرهم، ممن استفادوا من مؤلفاته وتعاليمه، وقد اطلعنا على كتاب خطي اسمه «حلية الزمن بمناقب خادم الوطن»، تأليف صالح بك مجدي، عدد فيه مناقب صاحب الترجمة، وعنه أخذنا معظم ما ذكرناه هنا، وقد ذكر فيه أيضا عددا كبيرا من الذين أخذوا العلم عنه ونبغوا واشتهروا، وذكر مناصبهم ووظائفهم وأعمالهم مما لا محل لذكره هنا.
وكان (رحمه الله) قصير القامة، واسع الجبين، متناسب الأعضاء، أسمر اللون، حازما، مقداما، على ذكاء وحدة، وهذا ما نهض به من حضيض العسر إلى مراتب المجد والفخر، حتى أصبح ممن يشار إليهم بالبنان، ويقتدي بأعمالهم بنو الإنسان.
وكان في أوائل حياته، إلى أن عاد من الديار الإفرنجية، يلبس اللباس العربي الخاص من الجبة والعمامة والقفطان - كما ترى رسمه في صدر هذه المقالة - ثم بدله باللباس الإفرنجي المشهور.
نختم ترجمة حاله بذكر مؤلفاته الواحد بعد الآخر، مع وصفها بقدر الإمكان: (1)
خلاصة الإبريز والديوان النفيس: وهو رحلته إلى فرنسا، ذكر فيه ما شاهده من العادات، والأخلاق، والأزياء، وآثار التمدن الحديث، وكل ما يتعلق بذلك، وقد حازت من القبول لدى المغفور له محمد علي باشا، حتى أمر أن تتلى في قصوره، ثم أمر بطبعها وتفريقها في الدواوين وبين الوجهاء والأعيان. (2)
التعريبات الشافية لمريد الجغرافية: وهو مجلد ضخم ترجمه من الفرنساوية إلى العربية لتدريس الجغرافية في المدارس المصرية، وقد طبع غير مرة في مجلد كبير. (3)
جغرافية ملطبرون: وهو كتاب مؤلف من عدة مجلدات كبيرة، يبحث في الجغرافية بحثا تاريخيا مطولا، ترجم منه المؤلف أربعة مجلدات كبيرة طبعت في مطبعة بولاق، ويظهر من مطالعتها أنه ترجمها على عجل، والواقع يؤيد ذلك؛ لأننا علمنا أنه ترجم مجلدا منها في ستين يوما سنة 1265ه. (4)
كتاب قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر: ترجمه في باريس - وقد تقدم ذكره. (5)
كتاب المرشد الأمين في تربية البنات والبنين: وهو مجلد واحد ألفه للتعليم في مدرسة البنات. (6)
كتاب التحفة المكتبية في النحو: ألفه لتعليم قواعد النحو في المدارس الابتدائية، مطبوع طبع حجر. (7)
مواقع الأفلاك في أخبار تليماك: وهو تعريب وقائع تليماك الفرنساوية، ترجمه يوم كان في الخرطوم - مع بعض التصرف - وهو مطبوع في بيروت. (8)
مباهج الألباب المصرية في مناهج الألباب العصرية: وهو بحث عن آداب العصر وسياسته وصنائعه وعلومه وفنونه، ومطبوع بمطبعة بولاق الأميرية. (9)
مختصر معاهد التنصيص: وهو اختصار المعاهد مع بعض الزيادات إلى الأصل، ولم يطبع. (10)
المذاهب الأربعة: وهو بحث في المذاهب الأربعة، ألفه أثناء رئاسته لمدرسة الألسن. (11)
شرح لامية العرب. (12)
القانون المدني الإفرنجي. مطبوع. (13)
كتاب توفيق الجليل وتوثيق بني إسماعيل: وهو تاريخ لمصر، طبع ونشر. (14)
كتاب هندسة ساسير: ترجمه من الفرنساوية إلى العربية، وقد طبع ببولاق. (15)
رسالة في الطب لم تطبع. (16)
جمال الأجرومية: وهو منظومة سهلة في الأجرومية (مطبوعة). (17)
نهاية الإيجاز في سيرة ساكن الحجاز: وهو آخر مؤلفاته، طبع في روضة المدارس بمطبعة المدارس الملكية.
وله (رحمه الله) غير ما تقدم ذكره من المآثر العلمية بين منظومات ورسائل ومقالات؛ شيء كثير لم يطبع، وقد وقفنا على بعضه. وأما خدماته في التعليم والتهذيب فغنية عن البيان، ويقال بالإجمال إن رفاعة بك رافع خدم خدمة كبرى في نشر العلوم الحديثة بنقلها إلى اللغة العربية، وتسهيل تناول اللغات الأجنبية بمدرسة الألسن وقلم الترجمة وغيرهما.
الفصل الرابع
بطرس البستاني
في إقليم الخروب، من قضاء الشوف في جبل لبنان، قرية صغيرة على مسافة ثلاث ساعات من دير القمر، وثلاث ساعات ونصف من صيدا، وسبع ساعات من بيروت، يقال لها الدبية، عدد سكانها خمسمائة نفس من طائفة الموارنة، وقليل من البروستانت، نشأ فيها غير واحد من مشاهير اللبنانيين، جميعهم من آل البستاني؛ أشهرهم المرحوم المطران عبد الله البستاني، والمطران بطرس البستاني، والمعلم بطرس البستاني، صاحب الترجمة، وقد اقتطفنا ترجمة حياته مما كتبته جرائد الشام على إثر وفاته، وأثبتته دائرة المعارف في جزئها السابع، ومما عرفناه بنفسنا من آثار اجتهاده وفضله.
تاريخ حياته
هو بطرس بن بولس بن عبد الله بن كرم بن شديد بن أبي شديد بن محفوظ بن أبي محفوظ البستاني، من أعيان الطائفة المارونية، ولد في الدبية عام 1819م في عهد إمارة الأمير بشير الشهابي الكبير في جبل لبنان، وظهرت عليه مخائل النجابة والذكاء منذ نعومة أظفاره، فأخذ في تلقي مبادئ العربية والسريانية على المرحوم الخوري مخائيل البستاني، وكان المرحوم المطران عبد الله البستاني إذ ذاك مطرانا على صور وصيدا، وكان يقيم في بيت الدين، فنمى إليه أن هذا الغلام وغلاما آخر يدعى شبلي ابن الخوري يوسف البستاني (المطران بطرس البستاني بعدئذ) قد تفردا بالذكاء والفطنة والاجتهاد بين أقرانهما، فاستقدمهما إليه، ثم بعث بهما إلى مدرسة عين ورقة بلبنان، فقضيا فيها عشر سنوات حتى أتقنا آداب اللغة العربية مما تيسر الحصول عليه إذ ذاك؛ كقواعد اللغة والمنطق والتاريخ والحساب والجغرافيا، وتناولا اللغات السريانية واللاتينية والإيطالية، وتلقيا الفلسفة واللاهوت الأدبي والنظري ومبادئ الحق القانوني.
بطرس البستاني 1819-1883م.
وكان صاحب الترجمة قد بلغ العشرين من سنه، فأراد غبطة بطريرك الطائفة المارونية إذ ذاك إرساله مع رفيقه إلى رومية للتبحر في العلوم الدينية، وكان والده قد توفي فعارضت والدته في إبعاده، فتعين مدرسا في مدرسة عين ورقة مشمولا بأنظار البطريرك، وكان البطريرك يعهد إليه قضاء بعض المصالح إلى سنة 1840م، وكانت حال الجبل في اضطراب لما كان في نفس الدولة العلية على الأمير بشير وإبراهيم باشا، وكانت الدول الإفرنجية قد بعثت مراكبها إلى سواحل سورية تعين الباب العالي على إخراج إبراهيم باشا منها، وكان صاحب الترجمة قد درس اللغة الإنكليزية في بيروت أثناء إقامته بمدرسة عين ورقة وبعدها، فاستخدمه الإنكليز للترجمة، وكان دعاة المذهب الإنجيلي من الأميركان قد أخذوا في الإقامة ببيروت للتعليم ونشر مذهبهم، فتعرف إلى بعضهم، وجعل يختلف إليهم يعلمهم اللغة العربية، ويعرب لهم بعض الكتب، حتى تمكنت علائق المودة بينه وبينهم، ووافقهم على مذهبهم.
وفي سنة 1846م عزم أستاذنا الخطير المرحوم الدكتور فانديك على إنشاء مدرسة عبية، فاستعان بصاحب الترجمة في إنشائها، فتولى التعليم فيها عامين ألف في أثنائهما كتابا مطولا في علم الحساب، سماه كشف الحجاب، طبع مرارا عديدة، وذاع استعماله في سائر مدارس سورية.
ثم قدم بيروت وتولى منصب الترجمة في قنصلية أميركا مع مباشرة التأليف والترجمة والوعظ والخطابة، ودرس - في أثناء ذلك أو قبيله - اللغتين العبرانية واليونانية، وكان المرحوم الدكتور عالي سميث الأميركاني قد باشر ترجمة التوراة إلى العربية، فاستعان بصاحب الترجمة على ترجمتها، ولكن الأجل عاجل الدكتور سميث فأتم الترجمة المرحوم فانديك، وهي الترجمة الأميركانية المشهورة، أما المعلم بطرس فإنه شرع في تأليف قاموسه محيط المحيط.
وفي سنة 1860م نشر نشرة سماها نفير سورية، وهي أول نشرة عربية ظهرت في سورية، وإذا جاز لنا أن نسميها جريدة؛ فالبستاني أول من أنشأ جريدة عربية غير رسمية بين قراء اللغة العربية.
وفي عام 1863م أنشأ في بيروت مدرسة عالية سماها «المدرسة الوطنية»، أسسها على الحرية الدينية ومبدأ الجامعة الوطنية العثمانية، فتقاطر إليها الطلبة من سائر أنحاء الشام ومصر والآستانة وبلاد اليونان والعراق وغيرها، فذاع صيتها في الآفاق، وظهر فضلها على رءوس الأشهاد، فأنعمت عليه الحضرة السلطانية بنيشان عال؛ تنشيطا له ومكافأة لخدمته، وقد تولى ولده المرحوم سليم البستاني نيابة رئاسة المدرسة، وكان متضلعا في العلوم الحديثة، فكان يدرس التاريخ والطبيعيات والصف الأول في اللغة الإنكليزية، وكان والده (رحمه الله) يلقي على التلامذة الخطب والمواعظ مرتين في الأسبوع.
وفي سنة 1869م فرغ من تأليف قاموسه محيط المحيط، وقد أخذه عن أشهر متون اللغة؛ ولا سيما الفيروزآبادي وصحاح الجوهري، ولكنه يمتاز عنها كلها بما يأتي: (1)
أنه رتبه على حروف المعجم باعتبار الحرف الأول من الثلاثي المجرد. (2)
جمع فيه كثيرا من الألفاظ العامية وفسرها بالألفاظ الفصحى. (3)
أنه أوضح كثيرا من أصول الألفاظ الأعجمية كان أصلها مجهولا أو مهملا. (4)
أنه أدخل فيه كثيرا من المصطلحات التي حدثت في اللغة بحدوث العلوم الحديثة المنقولة عن اللغات الأعجمية، فضلا عن بسط عبارته وسهولتها.
فجاء كتابا وافيا بغرض طلاب اللغة العربية، تفهمه العامة وترضى به الخاصة، طبعه في مجلدين كبيرين، واستخرج منه مختصرا سماه قطر المحيط، أصغر منه حجما، خصصه لتلامذة المدارس، فشاع استعمال الكتابين في سائر أنحاء سورية وغيرهما، فلما تم طبعهما رفع نسخة من محيط المحيط إلى حضرة الشاهانية، ونسخة إلى الصدارة العظمى، وأخرى إلى نظارة المعارف بالآستانة، فوقع عمله هذا موقع الاستحسان، فأجازته الحضرة السلطانية بالجائزة الأولى التي ينالها المؤلفون، وهي مائتان وخمسون ليرة عثمانية، وأنعمت عليه بالنيشان المجيدي من الدرجة الثالثة - وترى في صدر هذه الترجمة رسم البستاني، والنيشان المشار إليه معلق في أعلى صدره.
وفي أول عام 1870م أنشأ مجلة علمية أدبية سياسية سماها الجنان، وعهد بإدارتها وإنشائها في بادئ الأمر إلى نجله المرحوم سليم البستاني، وفي أواسط ذلك العام استعان ابنه سليما في إنشاء صحيفة سياسية سمياها الجنة؛ فهي من أقدم الجرائد السياسية العربية ببلاد الشام، ثم أصدر جريدة الجنينة، وتولى تحريرها ابن عمه سليمان أفندي البستاني ناظم الإلياذة، والجرائد الثلاث المشار إليها لا تصدر الآن.
ووعد في آخر قاموسه بتأليف قاموس للأعلام؛ أي: مشاهير الناس، ولكنه رأى - بعدئذ - أن يتوسع في مشروعه هذا، فعول على تأليف قاموس شامل لسائر العلوم على اختلاف مواضيعها وأزمانها، فشرع فيه عام 1875م يعاونه به ولده سليم وبعض الكتاب، وسماه «دائرة المعارف»، وهو كتاب فريد لم ينسج على منواله في اللغة العربية، فأصدر منه (رحمه الله) ستة مجلدات، وتوفي وهو في بدء السابع، فأتم السابع والثامن ابنه المرحوم سليم، ولكنه توفي قبل الشروع في التاسع، فأصدر أبناؤه الباقون الجزء التاسع بمعاضدة ابن عمهم سليمان أفندي البستاني، ثم حالت موانع أدت إلى إيقاف العمل في بيروت، ومضت على ذلك بضع سنوات إلى أن قدم القاهرة سليمان أفندي - المشار إليه - وأخذ في إتمام الدائرة مع ابني عمه نجيب أفندي ونسيب أفندي البستاني، فصدر الجزء العاشر ثم الحادي عشر.
وكانت وفاته في أول أيار (مايو) سنة 1883م فجأة بعلة في القلب، فطار خبر منعاه في البلاد، فاهتزت له أنحاء سورية؛ لأن بفقده فقد الوطن السوري ركنا من أقوى أركانه في نهضته الأخيرة، فبكاه الأهل والأصدقاء، وأبنه الخطباء والعلماء، ورثاه الكتاب والشعراء.
مآثره وأعماله
نبغ البستاني في سورية والعلم لا يزال طفلا في مهده، فأخذ في التعليم والتهذيب علما وعملا، فألف الكتب وأنشأ المدارس والجرائد، فهو أول من أنشأ مجلة علمية، وجريدة سياسية، ومدرسة وطنية، وأول من أقدم على المشروعات الأدبية بعزم ثابت، فألف الكتب وسهل طبعها ونشرها.
وأشهر مؤلفاته: دائرة المعارف، ومحيط المحيط، وقطر المحيط، وكشف الحجاب، ومسك الدفاتر، ومفتاح المصباح في الصرف والنحو، وكتب أخرى ورسائل عديدة للتثقيف والتهذيب، فضلا عن ترجمة الكتب الدينية والأدبية، وأنشأ ثلاث جرائد: الجنان، والجنة، والجنينة.
ومن مشروعاته: المدرسة الوطنية، وقد رأس مدرسة الأحد في بيروت خمس عشر سنة، وترجم لها عدة رسائل دينية، دعا فيها إلى تربية الأولاد والإمساك عن المسكرات، وسن قانونا للمدرسة الداوودية التي أنشأها المرحوم داود باشا، وكان كثير الحث على تعليم النساء، وهو أول من خطب في هذا الموضوع بالشرق، وله خطب كثيرة تلاها على منابر بيروت وفي جمعياتها، ومقالات جمة نشرها في جرائده، كلها فوائد، وقد وصفنا كتبه في أثناء ترجمة حياته.
صفاته وأخلاقه
كان ربعة، ممتلئ الجسم سمينا، قوي البنية، ولولا ذلك ما استطاع القيام بما عني به من المشروعات العقلية والإدارية، وكان حازما نشيطا، لا يفتر عن التفكر في مشروع يشرع فيه أو عمل يعمله لخدمة وطنه، فإذا بدأ بعمل أكب عليه بكليته مواصلا العمل للقيام به، وكانوا إذا افتقدوه ليلا أو نهارا عثروا عليه في مكتبه بين كتبه وأوراقه.
وكان ثابت الجنان، قادرا على الأعمال، لا يأخذه ملل ولا ضجر مع ما يعترض المشروعات العلمية والأدبية في بلادنا من العقبات مما يثبط العزيمة ويضعف العزم؛ وخصوصا في أيامه؛ فقد نبغ في عصر لم تتوافر فيه معدات الطبع والنشر، ولا اعتاد فيه الناس مطالعة الجرائد والإقبال على المؤلفات، ومع ذلك فإنه عمل أعمالا يقصر عن القيام بها عدة من الرجال الأقوياء؛ فكان يؤلف ويعلم ويترجم، ويدير أعماله ويكاتب عماله وأصدقاءه، ويضبط حساباته ويدير مدرسته علما وعملا، ناهيك بما كان يقوم به من المساعدات الأدبية لمن يقصده من المستشيرين والمستعينين، فيقضي حاجاتهم، ويحضر اجتماعات الجمعيات، ويقدم الخطب والمواعظ، وهو مع ذلك يستقبل الزائرين بوجه باش، فلا يرجع أحدهم من بين يديه إلا شاكرا حامدا معجبا بلطفه وغيرته.
وكان مخلص الطوية، دمث الأخلاق، لين العريكة، صادق النية، محبا لوطنه ودولته، كريم الخلق، بعيدا عن التعصب، كارها للتملق والرياء، وكان سخيا على المشروعات الأدبية، بسيط المعشر، حسن المحاضرة، يسترضي جليسه شابا كان أو شيخا، ويخاطب كلا بما يناسب ذوقه وأخلاقه، وكان يعتقد أن المصالح العامة أساس كل تقدم، فيبذل جهده في تأييدها متخذا الصدق شعارا والنشاط عمادا.
وكان مع ذلك رفيع الجناب، وقورا محترما، لم يجالسه أحد إلا خرج وفي نفسه انعطاف إليه، وفي قلبه احترام له، فكان حيثما ذكر اسمه قرن بالمدح والثناء والتجلة والوقار، فنال مقاما رفيعا في نفوس ذوي الوجاهة والمقامات الرفيعة وأهل الفضل على اختلاف مذاهبهم ونزعاتهم، وكان من أشدهم صداقة له أستاذنا الخطير المرحوم الدكتور كرنيليوس فانديك؛ فقد ساكنه وآكله وشاربه زمنا طويلا كانا معا أخوين متصافيين - ونعم الأخوان - فلما توفي صاحب الترجمة رثاه الأستاذ بلسان الصديق، وبكاه بدموع الأخ الشقيق، ومما قاله وقد وقف لتأبينه في الكنيسة:
إن لم يكن في نقد الرجال يد
انظر إلى الموت كيف الموت ينتقد
يدور في الأرض حول الناس ملتمسا
كريم قوم ولا يرضى الذي يجد
إني لمظلوم بوقوفي هنا اليوم خطيبا؛ لأن المقام الذي يليق بي وأرغب فيه إنما هو أن أقوم في وسطكم باكيا نائحا على أخي وحبيبي الذي خطف من بيننا خطفا، بل هو معلمي وأستاذي ورفيقي ، فكم أحيينا من الليالي معا في الدرس والمطالعة والتأليف وحلاوة المعاشر الصادرة عن اتحاد المقاصد والأغراض، فكيف أقف فوق جثته خطيبا ولا أركع بجانبه حزينا كئيبا.
ومما يدل على منزلته الرفيعة بين أهل الأدب والفضل، أنه لما وقع القضاء ومات البستاني تسابق الخطباء والعلماء إلى تأبينه ورثائه، فملأت الجرائد أعمدتها رثاء، وسودت صفحاتها حزنا، ووقف الخطباء على ضريحه يرددون ذكراه، ويذكرون مآثره وآثاره، وهاك ما قاله في تأبينه المرحوم أديب إسحاق، إذ وقف على قبره والناس وقوف خشوع، وكنا في جملة السامعين، فانتصب الأديب (رحمه الله) وقد امتقع لونه وابتلت عيناه وأخذ يقول:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر
وليس لعين لم يفض ماؤها عذر
إن هذا المصاب مصاب جسيم، إن هذا الخطب خطب عميم، إنها لمصيبة وطنية يقل في مثلها بذل الدموع، إنها لنائبة عمومية لا يكثر في نظيرها تمزيق الضلوع؛ أجل، إن المصيبة فيك مصيبة الوطن يا من أنفقت العمر في خدمته مقدما مجتهدا صابرا متجلدا متعففا مستقيما، فلا بدع أن تبكيك العيون، ولا غرو أن تنفطر لفقدك القلوب، أولم تكن فينا مثال الفضل والاجتهاد، ونموذج البراعة والأدب، وعنوان التجلد والثبات في خدمة العلم، بذلت في هذه الخدمة شبابك، ووقفت على هذا السبيل أتعابك، وجعلت العلم غايتك القصوى من دنياك، فكان لروحك روحا، وكنت لذاته قواما.
فأي أثر أدبي رأيناه ولم تكن أنت البادئ به والداعي إليه، وأي مشروع مفيد شهدناه ولم تكن أنت الشارع فيه أو المعين عليه، أولست أول من خط على صفحات القلوب ورسم على صحف الجنان: «حب الوطن من الإيمان»، وأول من أقدم على المشروعات الجسيمة العلمية بهمة، لا تخاف المصاعب والعقاب، ولا تألف إلا صدق العزيمة والثبات.
بأي آثارك لا تذكر، وبأيها إذا ذكرت لا تشكر، وأي عين ترى أعمال يديك ولا تفيض دمعا، بل دما، حزنا عليك، وما الذي نذكره من آثار اجتهادك في استمرار ارتيادك ولا نجده عظيما، أمواظبتك على خدمة العلم والأدب أربعين عاما أو تزيد، أم تآليفك وتصانيفك الغنية بشهرتها عن الوصف، أمحيط محيطك أم قطر محيطك، أم مدرستك الوطنية التي ملأت بها الوطن أنوارا، ورفعت فيها للأدب الصحيح منارا، أم جنانك التي غرست فيها أغصانا من العرفان من كل فاكهة زوجان، أم جنتك الزاهرة الدانية القطوف، أم دائرة المعارف التي ... كدنا نخاف أن تدور الدائرة عليها لولا الأمل فيمن أبقيت لها خلفا كريما يحقق رجاء المحبين، ويتم الأمنية ويحقق الرجاء فيكون به للوطن عزاء.
في الأثر المأثور يا سادتي «من علمني حرفا كنت له عبدا»، فمن منا لم يعلمه هذا الفقيد حروفا، من منا لم يستفد منه فوائد صنوفا؛ من تصانيفه في كل فن، من مدرسته الوطنية، من جرائده الزاهرة، من آثار معارفه في كل موضوع، ومن منا لم يدفع الملل في أوقات الفراغ، ويغلب الضجر في ساعات الراحة، وينزه الفكر بعد تعب الأشغال، بتلاوة ما كان فقيدنا يحيي لإنشائه الليالي الطوال؛ فكيف لا نرثيه، وكيف لا نبكيه، وكيف لا نستعظم المصيبة فيه!
أي هذا الراقد تحت ظلال الرحمة والرضوان، لقد عشت سعيدا مفيدا، وقضيت حميدا فقيدا، وإن كان عموم الأسف وشمول الحزن مما يبرد ثرى ويجلب غفرانا، فقد جادتك سحب الرضوان والغفران مسوقة إلى ثراك من كل مكان مستمطرة على ضريحك بكل لسان:
نم سعيدا يا من قضيت فقيدا
بجميل قدمت بين يديك
أنت أحسنت في الحياة إلينا
أحسن الله في الممات إليك.
الفصل الخامس
علي باشا مبارك1
ولد في قرية برنبال الجديدة من مديرية الدقهلية سنة 1239ه، واسم والده الشيخ مبارك بن مبارك بن سليمان بن إبراهيم الروجي، وابتدأ في تعلم القراءة والكتابة على رجل من أهل القرية أعمى، ثم نزحت العائلة إلى ناحية الحماديين فلم يطب لهم المقام فيها، فارتحلوا إلى عرب السماعنة بالشرقية، ولم يكن عندهم فقهاء ، فأنزلوا والد صاحب الترجمة منزل الإكرام، وصار مرجعهم إليه في الأمور الدينية؛ لأنه كان صالحا تقيا متفقها، فاعتنى بتربية ولده بنفسه، ثم عهد تعليمه إلى معلم اسمه الشيخ أبو خضر في مكان قرب برنبال، لا يذهب إلى والده إلا كل يوم جمعة، فختم القرآن بسنتين، ولكنه ترك معلمه لكثرة ضربه له وجعل يقرأ على والده.
على أن كثرة أشغال الشيخ مبارك حملت صاحب الترجمة على اللهو واللعب حتى نسي ما كان قد تعلمه، فأشفق والده عليه؛ لئلا يعيش بغير تعلم، فأراد إجباره على العود إلى معلمه فأبى خوف ضربه، فتوسط له أشقاؤه لدى والده، فسأله عما يريد تعلمه، ففضل العدول عن الفقه ورغب في الكتابة؛ لما كان يرى من حسن زي الكتاب وهيبتهم، وكان لوالده صديق يتعاطى الكتابة في القسم بناحية الأخيوة، فعهد إليه تعليمه، فأنس علي به وألفه حتى اختلط بعائلته، فرأى حالته الداخلية غير ما كان يراه منه في الظاهر، واتفق أنه سأله مرة كم يجمع الواحد والواحد، فأجابه «اثنين»، فضربه بمقلاة البن فشج رأسه، وكان ذلك في محضر من الناس، فشق ذلك على علي، فغادره وسار إلى والده يشكوه إليه، فنقم عليه والده ففر من البيت إلى المطرية جهة المنزلة ملتجئا إلى خالة له هناك.
واتفق انتشار الوباء (الكوليرا) إذ ذاك، فأصيب به في الطريق، فحمله بعضهم إلى بيته في قرية صان الحجر، وعالجه حتى شفي، وادعى أنه يتيم الأب والأم، ولكن والده وأخاه كانا ساعيين في التفتيش عنه، فلما رآهما في تلك القرية طلب الفرار، ولكنهما أمسكاه بعد ذلك وحملاه على العود إلى التعليم، فسلمه والده إلى كاتب آخر، فلم يلبث معه إلا قليلا ثم عاد إلى القراءة على والده، فجعله مساعدا لأحد الكتاب في القسم، ولم يكن يدفع إليه الراتب المعين له، وقدره خمسون قرشا، فاتفق أنه أرسل يوما لقبض حاصل بعض القرى، فقبضه وأبقى معه من المقبوض استحقاقه من الراتب وأرسل الباقي، فغضب عليه الكاتب حتى إذا اتفق جمع أنفار العسكرية وشى به إلى المنوط به جمعهم، فأمسكوه وألقوه في السجن، فتوسط له والده أمام عزيز مصر إذ ذاك محمد علي باشا فأطلقوا سراحه.
علي باشا مبارك 1239ه-1311ه.
ثم سعى له بعضهم في أن يكون كاتبا لدى مأمور زراعة القطن في أبي كبير، فحضر بين يدي المأمور؛ واسمه عنبر أفندي، فإذا هو حبشي اللون، لكنه سمح الوجه، ورأى المشايخ والحكام وقوفا بين يديه، فتأخر حتى انصرفوا ثم دخل عليه، وقبل يده، فخاطبه بكلام رقيق عربي فصيح، والتمس خدمته عنده على أن يدفع إليه 75 قرشا شهريا مع كفاءته من العيش، فسر علي بذلك، ولكنه عجب لحال هذا المأمور المخالفة لسواد وجهه؛ لاعتقاده أن الحكام لا يكونون إلا من الأتراك.
وما زال يتحرى الأسباب التي جعلت ذلك العبد حاكما حتى علم أخيرا أنه معلم في مدرسة قصر العيني، وأن تلك المدرسة تعلم الخط والحساب واللغة التركية، فسأل إذا كان يجوز للفلاحين الانتظام فيها، فقيل له إنما يدخلها من ساعدته الوسائط، فاتقدت في قلبه نار الغيرة، ومال بكليته إلى الدخول في تلك المدرسة على بعدها عن مقره وقلة وسائطه، فاستأذن رئيسه يوما مدعيا الذهاب إلى بيت أبيه، فأذن له فغادر البلدة، والتقى في قرية بني عياض بطريقه بتلامذة مدرسة الخانقاه، فأراد أن يدخلها؛ لعلمه أن تلامذة قصر العيني إنما ينتخبونهم من هذه المدرسة، فأجبره والده أن لا يفعل، واختطفه قهرا وحمله إلى بيته، وعهد إليه رعاية الماشية، ولكن ذلك لم يحوله عن عزمه، ففر ذات ليلة حتى جاء المدرسة، ودخلها ولم يخرج منها ليلا ولا نهارا؛ خوفا من أن يلقاه والده فيختطفه ويرجع به إلى البيت.
ولم يكن والده يكره تعليمه، ولكنه يود بقاءه قريبا منه، ثم جاء بعد ذلك ناظر تلك المدرسة لانتخاب أنجب التلامذة وإدخالهم في مدرسة قصر العيني - ولم تكن فيها دراسة الطب بعد - فكان علي من المنتخبين؛ لذكائه وفطنته، فدخل تلك المدرسة سنة 1251ه، وسنه 12 سنة فقط.
وكانت معاملة التلامذة هناك سيئة ومهينة جدا، والطعام تافها قبيحا، فأوقع صاحب الترجمة في مرض الجرب، واشتد عليه ، فعلم والده بذلك فأراد استخراجه من المدرسة بالحيلة؛ لأنهم لم يأذنوا له بإخراجه، فلم يرض علي، بل فضل البقاء في المدرسة؛ رغبة في إتمام علمه، فقبله والده وودعه وهما باكيان.
وفي السنة التالية سنة 1252ه نقه من مرضه وعاد إلى دروسه، ولكن محمد علي باشا أمر بأن تجعل مدرسة قصر العيني لتعليم صناعة الطب، فنقل تلامذة العلم منها إلى مدرسة أبي زعبل، وكانت العلوم الرياضية لديه إلى ذلك الحين كالطلاسم لا يفهم لها معنى؛ لتعقدها وسوء طرق تدريسها، فاعتنى ناظر تلك المدرسة المرحوم إبراهيم بك رأفت بإلقاء تلك الدروس بنفسه، يشرحها للتلامذة بأبسط عبارة - قال صاحب الترجمة: «وكانت طريقته هذه باب الفتوح علي.»
وأخذ علي من ذلك الحين يذوق لذة العلم على أنواعه، ثم انتخب فيمن انتخب لمدرسة المهندسخانة، فدرس فيها خمس سنوات.
وفي سنة 1260ه عزم المغفور له محمد علي باشا على إرسال أنجاله إلى فرنسا للتعلم، فانتخب علي في جملة تلك الإرسالية، فأقاموا في باريس سنتين ثم أرسل بعضهم - وفي جملتهم هو - إلى متس، وقد تقلد كل منهم رتبة الملازم، فأقاموا في هذه أيضا سنتين، درسوا فيها فن الحرب وما يتعلق به.
ثم لما توفي المغفور له محمد علي باشا وتولى عباس باشا استقدم الإرسالية إلى مصر، وأنعم على صاحب الترجمة ورفاقه برتبة يوزباشي، وألحق هو بالجيش المصري، وقائده إذ ذاك سليمان باشا الفرنساوي الشهير، ثم انتدبه المغفور له عباس باشا الأول ليكون في لجنة الامتحانات التي عينها لامتحان مهندسي الأرياف، فقام بتلك المهمة حق القيام.
وفي سنة 1266ه أوعز إليه عباس باشا أن ينظم أسلوبا للمدارس مع الاقتصاد بالنفقة، فنظمه وقدمه إليه، فأعجبه وأنعم عليه بمقابل ذلك برتبة أميرالاي، ولكنه طلب إليه أن يتولى نظارة تلك المدارس بنفسه، فاهتم بذلك أشد الاهتمام، ولم يكتف بالإدارة، ولكنه كان يؤلف بعض الكتب اللازمة للتدريس، وأتى إلى المدرسة بمطبعة حجر لطبع الكتب، وكان يراقب سير المدارس جيدا من النظافة والترتيب وطرق التعليم، وألف في العمارة كتابا للتعليم (لم يطبع).
وما زالت الحال كذلك حتى تولى المغفور له سعيد باشا، فوشي إليه به، ففصله من نظارة المدارس، وبعث به في الحملة التي سارت لمحاربة روسيا مع الدولة العلية سنة 1270ه، فسافر وقاسى أهوالا كثيرة، وعاد سالما ، وعند عودته كان في جملة من أخلي سبيلهم من العسكرية، فعاد إلى مسكن حقير أوى إليه لا يملك شيئا، ولم يلتفت إليه أحد ممن كانوا له أصدقاء وقت الرخاء.
مكث سنين في هذه الحال حتى أنف المناصب والرتب، وألف العزلة والسكنى بعيدا عن الناس، وعزم على العود إلى بلدته، وفيما هو في ذلك صدر الأمر بفرز ضباط الجهادية لانتقاء الصالحين منهم للخدمة، فكان هو من المختارين، فتقلد منصب معاون في نظارة الجهادية، ثم تعين وكيلا لمجلس التجار، ثم مفتشا لنصف الوجه القبلي، ثم أقيل من هذه المناصب وتبرع بتعليم الضباط والصف ضباط القراءة والكتابة والهندسة، وفي أثناء ذلك ألف كتابا في الهندسة سماه «تقريب الهندسة»، وكتابا آخر في الاستحكامات، وآخر سماه تذكرة المهندسين.
ثم رفت فضاقت ذات يده، حتى عزم على معاطاة التجارة، فاشترى جانبا من الكتب كانت الحكومة عرضتها للمبيع بأثمان بخسة، فاشتراها وباعها، فربح منها ربحا حسنا، ولكنه ما زال قانطا مما كانت تطمح إليه أنظاره من المناصب بسبب تغير سعيد باشا عليه بما وشي به إليه - كما قدمناه - فلما توفي سعيد باشا سنة 1279ه وخلفه الخديوي الأسبق إسماعيل باشا، تجددت آماله، وألحقه إسماعيل باشا بمعيته، ثم عينه في نظارة القناطر الخيرية، وكانت لا تزال في حاجة إلى المهندسين، فأجرى فيها عدة إجراءات.
وفي سنة 1282ه بعث به للنيابة عن الحكومة الخديوية في المجلس الذي تشكل لتقدير الأراضي التي هي حق شركة خليج السويس، على مقتضى القرار المحكوم به من إمبراطور فرنسا، فقام بتلك المأمورية حق القيام، فأحسن إليه برتبة المتمايز، وأنعمت عليه الدولة الفرنساوية أثناء ذلك برتبة (أوفيسيه ليجون دونور).
وفي سنة 1284ه عهدت إليه وكالة ديوان المدارس، ثم انتدبه الخديوي للسفر إلى باريس في مهمة مالية، فاستفاد من سفره هذا فوائد جمة، واجتلى أهم المتاحف والآثار والمدارس، وبعد عودته بقليل أنعم عليه برتبة ميرميران، وأحيلت إلى عهدته إدارة السكك الحديدية المصرية، وإدارة ديوان المدارس، وديوان الأشغال العمومية، ونظارة الأوقاف، مع بقائه على نظارة القناطر الخيرية، ولا يخفى ما يقتضي للقيام بكل هذه الأعمال من الهمة والنشاط والقدرة، فكان يعمل ليله ونهاره حتى لا تفوته فائتة، وفي أثناء ذلك سعى في نقل المدارس من العباسية إلى درب الجماميز في القاهرة، حيث لا تزال إلى اليوم، وأسس الكتبخانة الخديوية، وهي أيضا هناك إلى هذه الغاية، وأنشأ كثيرا من المدارس الأميرية المنظمة في البنادر الكبيرة بالوجهين القبلي والبحري، وأنشأ مدرسة دار العلوم، يتخرج فيها المعلمون ويتعلمون طرق التعليم والعلوم العالية، ومعرضا للآلات الطبيعية وغيرها من أدوات العلوم الرياضية؛ لكي يتمرن عليها التلامذة فتكون معارفهم مبنية على المشاهدة والاختبار، ووجه التفاته إلى الأوقاف، فأصلح كثيرا فيها، ودبر أملاكها ورتب حساباتها.
وأما أعماله مما يتعلق بديوان الأشغال فكثيرة؛ منها تنظيم شوارع القاهرة وتوسيعها كما هي الآن، ومن الشوارع التي فتحت على يده شارع محمد علي وميدانه، وشوارع الأزبكية وميدانها، وما يحيط بعابدين من الشوارع ونحوها، وباب اللوق، وكانت جهات الفجالة والإسماعيلية تلالا وآكاما قذرة فأنعم بها الخديوي الأسبق على الناس فمهدوها، وبنوا فيها القصور والحدائق حتى صارت كما نراها الآن.
وفي عهده بني كوبري قصر النيل الباذخ المتين، وتنظمت الجزيرة، وأنشئت فيها الشوارع المحفوفة بالأشجار، وجلبت المياه إلى القاهرة بواسطة الشركة، وأنشئ كثير من الجسور والترع في جهات القطر؛ كترعة الإبراهيمية والإسماعيلية، وفي عهد توليه الأشغال أيضا تم فتح قنال السويس رسميا، ودعي الملوك لحضور الاحتفال بذلك، فكانت الأعمال اللازمة للقيام بمعدات ذلك الاحتفال منوطة به، فأهدي إليه بعد الاحتفال نيشان غران كوردون من النمسا، ونيشان كوماندور من فرنسا، والغران كوردون من بروسيا.
وبقيت عهدة تلك الإدارة بيده إلى سنة 1288ه، ثم فصل عنها لخلاف حدث بينه وبين ناظر المالية إذ ذاك، وتعين ناظرا للمكاتب الأهلية، ثم استقل ديوان الأشغال فتعين وكيلا له، ثم تعين في مناصب أخرى حتى سنة 1877م، عندما ترتب مجلس النظار وصارت إدارة أعمال الحكومة منوطة به، فتألف المجلس تحت رئاسة نوبار باشا، وتعين صاحب الترجمة ناظرا على المعارف والأوقاف، فبذل جهده في توسيع نطاق المعارف، فأنشأ مدارس كثيرة في الوجه البحري، حتى كانت حادثة تذمر الجهادية، ثم سقوط الوزارة النوبارية، وتألفت وزارة أخرى لم تدم طويلا لانفصال الخديوي الأسبق وتولي المرحوم الخديوي السابق، وفي مدته هذه أيضا أجرى إصلاحات كثيرة؛ وخصوصا في الري.
وعقب تولي المغفور له الخديوي السابق الحادثة العرابية، وكان فيها صاحب الترجمة من المحافظين على ولاء الجناب الخديوي، وطالما حث الناس على الرضوخ والإذعان ولم تنجح مساعيه، فلما انقضت تلك الأزمة بالاحتلال الإنكليزي وتشكلت الوزارة، تقلد هو نظارة الأشغال، ونال رتبة روملي بيكلر بيكي سنة 1882م، وعاد إلى اهتمامه في الري وما يتعلق به من بناء الجسور والحيضان وحفر الترع وتوزيع الماء، وفي أواخر تلك السنة سقطت تلك الوزارة وتنصبت الوزارة النوبارية وبقيت إلى سنة 1888م، ثم استعفت وقامت الوزارة الرياضية، فعهدت فيها نظارة المعارف إلى صاحب الترجمة، فأجرى في المعارف هذه المرة أيضا إصلاحات جمة، ثم اعتزل الأعمال، وما زال حتى توفاه الله.
مؤلفاته
لصاحب الترجمة مؤلفات مفيدة تقدم ذكر بعضها، وأشهر ما بقي منها كتاب «الخطط التوفيقية»، طبع بمصر في عشرين جزءا، وهو تكملة لخطط المقريزي ومؤلف على مثالها، ومنها كتاب علم الدين، وهو عبارة عن رواية أدبية عمرانية في عدة أجزاء.
الفصل السادس
الدكتور كرنيليوس فانديك
ترجمة حياته
ولد الدكتور فانديك في قرية كندرهوك، من أعمال ولاية نيويورك بأميركا، في 13 أغسطس (آب) سنة 1818م، ووالداه هولانديا الأصل، من عائلة هاجرت إلى أميركا منذ مائتي سنة، وولد لهما سبعة بنين هو أصغرهم، وسمياه كرنيليوس، فتلقى مبادئ العلم في مولده، فظهرت عليه مخائل النجابة والذكاء، وأتقن اللغتين اليونانية واللاتينية، فضلا عن اللغتين الإنكليزية والهولاندية اللتين رضعهما مع اللبن.
الدكتور كرنيليوس فانديك 1818م-1895م.
وحاز قصب السبق على رفاقه - وكلهم أكبر منه سنا - وكان والده يتعاطى مهنة الطب في تلك القرية، وله فيها صيدلية (أجزاخانة) فكان كرنيليوس يعمل ساعات الفراغ في صيدلية والده، وهو مع ذلك مغرم بالعلم عامل على اكتسابه بكليته، حتى جمع من تلقاء نفسه منبتة فيها كل النباتات البرية التي تنمو في تلك النواحي، وتعلم تجفيفها وتقسيمها وترتيبها بنفسه على نظام لينيوس، وسماها بأسمائها وهو صبي صغير، فكان ذلك دليل على ميله الفطري إلى العلم.
ثم أخنى الدهر على والده، فنكب بحادثة أذهبت كل ماله؛ ذلك أنه كفل صديقا له على مال، فحان زمن الدفع فغدر الصديق، فاضطر هو إلى دفع المال، فاستغرق كل ما كان يملكه من متاع وعقار، فأصبح صفر اليدين، ولم يعد في وسعه تعليم أولاده في المدارس العالية.
أما صاحب الترجمة فكان - لشدة ميله إلى العلم - لا يفتر لحظة عن تدبير الوسائل للحصول على الكتب وهو في البيت؛ إما بالاستعارة، أو بالاستئجار بدريهمات يجمعها بشق الأنفس، أو أن يحفظ مضمونها بالسماع، وكثيرا ما كان يتزلف إلى بعض أصحاب الكتب التماسا لمطالعة كتبهم، وكان في تلك القرية طبيب كريم الأخلاق، في داره مكتبة، فلما آنس في الغلام ذلك الاجتهاد أخذته الحمية ودعاه إليه، وأباح له مطالعة كل ما يريده من الكتب، فأكب على المطالعة يغترف العلم اعتراف الظمآن للماء الزلال، وكان في تلك المكتبة كتاب في علم الحيوان للعالم كيفيه الشهير، فدرسه حتى تفهمه جيدا، ثم درس بنفسه كل ما تيسر له الوصول إليه من حيوان بلاده.
ولم يبلغ الثامنة عشرة من عمره حتى بلغ من العلم مبلغا حسنا، وصار يلقي خطبا في فن الكيمياء على صف البنات، ولا يستغرب بلوغ مثله هذا المقدار من العلم، ولكن الغريب أنه ناله بالرغم من ضيق ذات يده وقلة وسائل التعليم، ثم عكف على دراسة الطب على والده، وكان قد أتقن فن الصيدلة علما وعملا، فرأى بعض ذوي قرباه ما خصه الله به من المواهب الثمينة، فخافوا أن يحول الفقر بينه وبين خدماته لبني الإنسان، فأدخلوه مدرسة سبرنكفيلد، ثم مدرسة فيلادلفيا، وهناك نال الدبلوما الطبية مع لقب دكتور، وكانت مساعدة هؤلاء له أساسا لأفضال هذا الرجل العظيم على بلادنا - جزاهم الله خيرا.
ثم اختاره مجمع المرسلين الأميركانيين مرسلا وطبيبا للديار السورية، ففارق الأهل والوطن وهو في الحادية والعشرين من عمره ، وجاء مدينة بيروت فوصلها في 2 أفريل (نيسان) سنة 1840م، وكان في بيروت عند وصوله حجر صحي على واردات أوروبا، فأقام في الحجر (الكرنتينا) أربعين يوما، حفظ في أثنائها مائتي كلمة من اللغة العربية، ولم تطل مدة إقامته في بيروت فأوعز إليه أن يسير إلى القدس لتطبيب عائلات بعض المرسلين، ثم عاد إلى بيروت وشرع في تعلم اللغة العربية، فتعرف بالمرحوم المعلم بطرس البستاني، وكانا عزبين فأقاما معا في غرفة واحدة، وائتلف قلباهما وتمكنت بينهما ربط المودة، وما برحت الصداقة بينهما متينة يتحدث بها أهل الشام حتى الآن.
ونذكر أننا شهدنا الصلاة على المرحوم البستاني يوم وفاته وقد طلب من الدكتور فان ديك تأبينه، فوقف وقد تلعثم لسانه وارتعشت شفتاه، وخنقته العبرات ولم يقو على الكلام، ما خلا قوله: «يا صديقي ورفيق صباي»، كررها مرارا بصوت ممتزج بالبكاء فأبكى كل من حضر.
فتناول مبادئ القراءة العربية أولا من إلياس فوار البيروتي، ثم قرأ على أبي بشارة طنوس الحداد الكفرشيمي، وأخذ شيئا عن صديقه البستاني، ثم أتقن الفنون العربية على الشيخ ناصيف اليازجي والشيخ يوسف الأسير، فبرع فيها حتى صار من المعدودين في معرفتها، وحفظ أشعارها وأمثالها وشواهدها ومفرداتها وكل علومها، وأتقن التلفظ بها إتقانا لم يسبقه إليه أحد قبله من جالية الإفرنج على اختلاف أصولهم ولغاتهم، فإذا نطق لا تميز نطقه عن نطق أهل الشام مطلقا، فضلا عما وعاه في حافظته من الأمثال الفصيحة والعامية، حتى صار يضرب المثل بضربه الأمثال، وأتقن أيضا اللغة العبرانية والسريانية.
وفي خريف سنة 1842م انتقل إلى عيتات بلبنان، واقترن هناك بالسيدة جوليا بنت المستر بطرس آبت قنصل إنكلترا في بيروت، المشهورة بلطفها وحسن أخلاقها - وفي الصفحة رسماهما بعيد الزفاف سنة 1852م.
وكان اقترانه هذا عونا كبيرا له على إتقان اللغة العامية وحفظ أمثالها؛ فقد كان لقرينته خادمة تدعى أسماء، كانت نابغة في حفظ الأمثال العامية أشبه بقاموس حي لها، فكان الدكتور يأخذ عنها الأمثال والألفاظ العامية ويحفظها، حتى تمكن منها - كما تقدم.
قرينته.
ومما حكاه لنا أعرف الناس بأحواله، أنه لم يكن في منزله عند زفافه إلا ستة كراسي قش، وثلاث حلل، ومائدتان من خشب غير مدهون، وكانون من طين، غير أن ذلك كله لم يحط من منزلته، ولا قلل شيئا من قدر خدماته.
ثم انتقل من عيتات إلى قرية عبيه، وهناك أنشأ مدرسة عبيه الشهيرة بمعاضدة صديقه البستاني، وكانت اللغة العربية قليلة الكتب التعليمية في الفنون الحديثة، فأخذ في تأليف الكتب اللازمة للتدريس، فألف كتابا في الجغرافية، وآخر في الجبر والمقابلة، وآخر في الهندسة، وآخر في اللوغرثمات والمثلثات البسيطة والكروية، وسلك البحار والطبيعيات، ومعظم هذه الكتب مطبوع.
وبعد أن قضى في عبيه أربع سنوات بالتدريس والتأليف دعاه مجمع المرسلين إلى صيدا، وعهد بمدرسة عبيه إلى المرحوم سمعان كلهون، المشهور بالفضل والاستقامة والتقوى، وبقي الدكتور فانديك مع صديقه الدكتور طمسن في صيدا وتوابعها معلما واعظا ومبشرا جائلا من مكان إلى مكان، حتى توفي المرحوم عالي سميث سنة 1857م، فانتدب الدكتور فانديك لترجمة التوراة والإنجيل مكانه.
وعالي سميث المذكور من أفاضل المرسلين الأميركانيين، وكان قد باشر ترجمة الكتاب من اللغتين الأصليتين بمعاونة المعلم بطرس البستاني، وأتم ترجمة سفر التكوين وسفر الخروج إلا الإصحاح الأخير منه، وراجعهما وصححهما وترجم أسفارا أخرى لم يراجعها، فلما انتدب الدكتور فانديك مكانه أبقى السفرين الأولين على حالهما، وترجم وراجع ما بقي، وعانى في غضون الترجمة أتعابا جزيلة في التفتيش عن أصل كل لفظة باللغات الأصلية وتطبيقها على العربية، ما جعل الترجمة الأميركانية كما وصفناها في كلامنا على ترجمات التوراة في السنة الثانية من الهلال، وتولى مع الترجمة إدارة المطبعة الأميركانية المشهورة، وحسن فيها وزاد الحركات على الحروف، حتى صارت من أحسن مطابع المشرق وأشهرها، وأتم الترجمة سنة 1864م، وبعثه مجمع المرسلين إلى الولايات المتحدة سنة 1865م ليتولى أمر طبعها وتصفيح صحائفها بالكهربائية هناك، فأقام في الولايات المتحدة سنتين حتى أتم هذا العمل، وعاد إلى سورية سنة 1867م.
وكان أثناء إقامته في أميركا هذه المرة يدرس العبرانية في مدرسة يونيون اللاهوتية، وكثيرا ما كان الطلبة يعافون درس هذه اللغة ويأبون الحضور في ساعة تدريسها؛ لصعوبتها وعدم مناسبة أسلوب إلقائها، أما هو فغير أسلوب التدريس، وجعل يعلمهم إياها كلغة حية، فصار الطالب يجد في درسها معنى ولذة، ويرغب في تحصيلها، فتقاطر الطلبة إلى صفه وتكاثر عددهم، فلما رأت عمدة المدرسة ذلك عرضت عليه أن يبقى أستاذا للعبرانية فيها، وعينت له راتبا كبيرا، فاعتذر عن قبوله قائلا: «قد تركت قلبي في سورية، فلا لذة لي إلا بالعودة إليها.»
وتم في تلك الأثناء إنشاء المدرسة الكلية السورية في بيروت على نفقة جماعة من أهل البر في الولايات المتحدة بأميركا، فعرضت عليه عمدة تلك المدرسة الكبرى في أميركا أن يكون أستاذا فيها، فأجابها إلى ذلك، ثم طلبت إليه أن يعين راتبه السنوي بنفسه، فكتب 800 ريال مع أن راتب أصغر أساتذتها لا يقل عن 1500 ريال؛ وإنما فعل ذلك حبا بخير البلاد ونفع أهلها.
ولما وصل بيروت باشر تأسيس المدرسة الكلية الطبية مع صديقه الدكتور يوحنا ورتبات، ووضعا وحدهما نظاما لدروسها، وشرعا في التعليم لا يحاسبان على أتعاب، ولا ينظران إلى مكافأة أو مدح. ولما رأى الدكتور فانديك أن المدرسة تفتقر إلى أستاذ يدرس الكيمياء فيها أقبل من فوره على تدريسها، وهو إنما عين أستاذا لعلم الباثولوجيا لا لغيره.
ولم يكن في المدرسة - حينئذ - من أدوات الكيمياء إلا قضيب من زجاج وقنينة عتيقة، فأنفق مائتي ليرة إنكليزية من ماله لاستحضار ما يلزم من الأدوات، وألف كتابه المشهور في مبادئ الكيمياء لتدريس التلامذة، وطبعه على نفقته وهو يعلم أنه لا يسترجع نفقات طبعه قبل مماته، وما زال يدرس هذا الفن ست سنوات متوالية ينفق على لوازم التدريس من جيبه، وعينت عمدة المدرسة أستاذا للكيمياء، فجاء وبقي سنتين يتعلم العربية ويقبض أجرته، والدكتور فانديك يدرس مكانه مجانا؛ حبا بمصلحة المدرسة وخير أبناء البلاد، ولما تولج أستاذ الكيمياء أشغاله ترك الدكتور فان ديك للمدرسة كل ما أنفقه عليها، ولم يأخذ مقابله إلا مائة ليرة إنكليزية.
ولم يقتصر الأستاذ على ذلك، ولكنه تولج منصبا ثالثا لتعليم علم الفلك؛ لأن المدرسة لم يكن في وسعها القيام بنفقة تدريسه، فتبرع هو بتدريس هذا الفن مجانا، وألف كتابا له وطبعه على نفقته أيضا، كما طبع كتاب الأنساب والمثلثات والمساحة والقطوع المخروطية وسلك البحار.
ولم يكن في المدرسة آلات فلكية يعتد بها، فما لبثت أن شرعت في بناء مرصدها حتى ابتاع له آلات بقيمة سبعمائة ليرة إنكليزية من ماله الخاص، وأثثه وفرش فيه على نفقته، واشتهر ذلك المرصد باسمه في المشارق والمغارب، ولما خلفه معاونه في تدريس علم الفلك الوصفي ألف كتابا في الفلك العملي، وجعل يعلم به الطلبة على الآلات، وكان - مع تدريسه الباثولوجيا والكيمياء والفلك - يتولى إدارة المطبعة الأميركانية، فينتقد ما يطبع فيها من الكتب، ويهتم بتأليف النشرة الأسبوعية، ويطبب في المستشفى البروسياني، وكان المرضى يتقاطرون عليه أفواجا أفواجا حتى بلغ عددهم الألوف في السنة، فضلا عن تأليف الكتب العلمية والطبية والدرس والمطالعة والامتحانات العلمية وحضور الجمعيات النافعة ومراسلة العلماء في سائر أقطار الأرض، مما يعجز جماعة من الرجال عن القيام به.
وفيما هو لاه بأشغال التأليف والتدريس والرصد والمراسلات العلمية عما سواها من مطامع البشر، نكبت المدرسة الكلية بحادث شوه تاريخها، ولا نريد ذكره؛ لأن فيه إثارة الأحقاد وتكدير العواطف، ولكننا نقول - بالإجمال - إن الدكتور فانديك أظهر في ذلك الحادث شهامة وغيرة وشرفا ومروءة تذكر له مدى الدهر؛ لأنه ضحى مصلحته الخصوصية انتصارا للحق والعدل، فاعتزل عن المدرسة محتملا آلام فراقها وملام ذوي الأغراض؛ محافظة على مبادئه، فعوضته المدرسة عما ترك في مرصدها خمسمائة ليرة إنكليزية دفعتها له أقساطا.
وما زال يطبب في المستشفى البروسياني على جاري عادته حتى سعى البعض في صد فؤاده عن بني الوطن، فترك المستشفى على غير رضى منه، لكنه إنما تركه ليحيي في الوجود مستشفى مار جرجس لطائفة الروم الأرثوذكسيين، فكان له في تأسيسه وإنشائه أياد تذكر، وما زال يطبب المرضى فيه ويبذل ما في وسعه في تنشيطه أدبيا وماديا إلى أواخر أيامه، والطائفة الأرثوذكسية لا تنسى فضله في ذلك.
وفي 2 أفريل سنة 1890م احتفل أهل سورية بمرور خمسين عاما على إقامته بينهم، فأقاموا له يوبيلا شاركهم فيه أفاضل المشارقة في مصر والعراق وغيرهما بالاكتتاب، وتقاطرت عليه الرسائل والقصائد وكتب التهنئة من وجهاء سورية وأمرائها وجمعياتها وبطاركتها وأساقفتها ومجامعها، على اختلاف المذاهب والنحل، وملأت جرائد القطرين السوري والمصري أعمدتها بذكر مآثره وأفضاله وأعماله، ولولا ضيق المقام لجئنا ببعض ما قيل فيه، ولكن ذلك مجموع في كتاب مطبوع على حدة بمطبعة الأميركان ببيروت، من أراد التفصيل فليطالعه.
اليوبيل الخمسيني
لما دنى اليوم الثاني من أفريل سنة 1890م، وهو اليوم الذي وطئت به قدم الدكتور أرض الشام منذ خمسين عاما، اجتمعت فئة من وجوه بيروت على اختلاف مذاهبهم وألفوا لجنة تجمع ما تيسر من المال لتبذله في تقديم هدية لحضرته؛ دليلا على إقرارهم بفضله، واعترافهم بمقدار خدماته.
الدكتور فانديك بلباسه الشرقي.
وقبل مباشرة العمل سارت اللجنة إلى دولة الوالي إذ ذاك (عزيز باشا) واستأذنته، فنشطها كثيرا، ومما قاله لها: «يسرني أن أرى السوريين يعترفون بالجميل ويقدرون خدم الرجال حق قدرها، وهو دليل على تمدنهم ورقة عواطفهم، ولا ريب أن سيدنا ومولانا الخليفة الأعظم يشترك مع رعيته الأمينة في مكافأة الرجل الذي خدم الإنسانية في بلاد جلالته خمسين عاما.»
فعادت اللجنة وقد اشتد عزمها، وباشرت العمل بالاكتتاب، فآنست من السوريين وغيرهم رغبة شديدة في تنشيط مشروعها، وأنعم جلالة السلطان الأعظم في أثناء ذلك على الدكتور بالنيشان المجيدي من الرتبة الثالثة؛ مشاركة لرعيته في إكرامه، وما زالت اللجنة تكاتب الجهات وتنشر أعمالها في الجرائد والمجلات حتى جاء يوم اليوبيل فإذا في صندوقها خمسمائة ليرة، فتفاوضت في ماذا تعمل بها، واستشارت دولة الوالي، فأجمع الرأي على أن تقدم إليه نقدا، على شريطة أن لا يبذلها في سبيل الخير كعادته، بل يبقيها في يده بالوجه الذي يختاره؛ علامة دائمة لما عند أهل الوطن من الشكر والمحبة له.
ولما كان صبح الأربعاء 2 أفريل (نيسان) سنة 1890م سار أعضاء اللجنة إلى دار الأستاذ للقيام بفروض التهنئة وتقديم الهدية، فإذا بتلك الدار قد غصت بالوفود من المهنئين على اختلاف الأديان والنحل، والدكتور وقرينته جالسان في صدر القاعة يقابلان المهنئين بما جبلا عليه من اللطف والأنس، فدخل أعضاء اللجنة وقدموا له عريضة مكتوبة على رق غزال، تتضمن إحساسات السوريين نحوه وإقرارهم بفضله، وتلاها الرئيس؛ وهاك نصها:
أيها السيد الجليل الفاضل:
روت عنك أخبار المعالي محاسنا
كفت بلسان الحال عن السن الحمد
لما علم السوريون بلوغكم نهاية السنة الخمسين منذ حضوركم إلى سورية، وعرفوا أنكم شغلتموها بخدمة الوطن؛ رأوا مما توجبه خدمة الإنسانية إشعاركم بما في أفئدتهم من عواطف الشكر على ما لكم من الأيدي البيضاء عندهم في كل هاتيك السنين، ولم يفتهم أنكم منذ وطئتم أرضهم نهجتم المنهج السوري حتى صرتم كأحد أبناء سورية، وشربتم حبها، ورغبتم في نفعها، وجعلتم غاية حياتكم إفادة سكانها، فألفتم كثيرا من مفيدات الكتب على اختلاف صنوفها، من أدبية وعلمية وطبية، وسعيتم في تشييد صروح العلم ونوادي الخير، وعلمتم الفقراء والمرضى؛ فنشأ من مساعيكم وأتعابكم عظيم الفوائد لشبان هذا القطر، وقد صار كثيرون من تلامذتكم فيه كهولا، وشارككم بعضهم في الشيخوخة، وهم جميعا موقنون أنه ما حملكم على ذلك سوى حب الإنسانية بخلوص أثبتته شواهد السنين.
وعلى ما ذكر، اختاروا لجنة تنوب عنهم في التهنئة لكم بإدراككم هذا اليوم الموافق ليوم دخولكم سورية في سنة 1840م، وفي التصريح بأطيب الثناء عليكم لما سبق بيانه من مناقبكم ومآثركم، وفي سؤال المثيب الكريم أن يطيل بقاكم ويجعل سائر أيامكم زمن راحة وسلام، وتقديم هدية منهم على اختلاف الملل والمذاهب، وهي وإن تكن أمرا يسيرا لا تقتصر عن أن تكون آية ما في قلوبهم من خالص الشكر لجنابكم؛ وفي الختام نسأله (تعالى) أن لا يضيع لكم أجرا، وأن يجزيكم خير الجزاء، آمين.
فأجابهم الدكتور والدموع تتلألأ في عينيه من الفرح قائلا:
ليس لدي ألفاظ تعرب عما في قلبي، فالأجدر بي قبول إكرامكم بالسكوت الأبكم، وهو شاهد لا تحتاج شهادته إلى تزكية، ومن أقوى حاسياتي اليوم أني لم أفعل شيئا يستحق من حضراتكم كل هذا الالتفات، وإذا كان الله (سبحانه وتعالى) قد فسح في أجلي حتى أقضي في هذه الديار 50 سنة، فلست أرى أن ادعي لنفسي جميلا، على أني أصرح قدام الله والناس أني أقمت بين أهل الشرق بكل نية صافية، ولم أقصد غير نفع جيلي وترقيته، وتخفيف الأثقال على قدر الاستطاعة، وهذا من فضل الله يؤتيه من يشاء.
إلى أن قال:
فأقدم لحضراتكم الشكر الجزيل من صميم القلب، وأرجو أن تنوبوا عني في إبلاغ شكري وامتناني لكل من شارككم في هذا الاكرام؛ ولا سيما أصحاب الجرائد الذين سعوا في المعونة على ما أجريتموه؛ أي من الجرائد المصرية: الأهرام والمقتطف والشفاء واللطائف والمقطم، أما الجرائد السورية، أعني: لسان الحال وبيروت والثمرات والصفاء والمصباح والتقدم؛ فلا أتجاسر أن أتفوه من جهتها؛ لأن (القاق في الجوزة) جزاكم وإياهم الله عني كل خير في الدنيا والآخرة، وأدام لنا مليكا رتعنا تحت ظله بالأمن والسلام.
ثم نهض جماعة من العلماء والشعراء وأرباب المناصب العالية وغيرهم من وجهاء البلاد، وتلوا القصائد والخطب في تهنئة حضرته وتقديم الهدايا؛ ومن جملة ما قدم إليه منها صورته بالفوتوغرافية مرسومة كبيرة على صفيحة من البلور، يحيط بها برواز شرقي جميل، ومكتبة ثمينة مصنوعة من خشب الجوز، وفيها تآليفه مجلدة تجليدا متقنا، قدمها إليه المرسلون الأميركان في سورية، وطاقم قهوة فضي قدمته عمدة مستشفى ماري جرجس للروم الأرثوذكس، وكتاب فوتوغرافي (ألبوم) من عمدة المستشفى البروسياني، وغير ذلك.
أعماله ومؤلفاته
قضى الأستاذ العلامة (رحمه الله) نيفا وخمسا وخمسين عاما في سورية، وهو (كما وصفته جمعية الروم الأرثوذكس) لا تنفتح في الصبح عيناه إلا عن لائذ بجنابه، ولا تسير في النهار قدماه إلا إلى معونة أعدائه وأصحابه، ولا يغلق في المساء بابه إلا على منصرف مرتض واقف في بابه، ولا يأوي في ليلته غرفته إلا لينكب على مكتوباته وكتابه؛ حياة امتلأت بطاعة الحداثة، ونشاط الصبا، ومروءة الفتوة، وإقدام الشباب ، ومقدرة الكهولة، وحكمة الشيخوخة، وهي في كل أدوارها ذكاء وفطنة ، ودرس ومعرفة، وعلم وعمل، واستفادة وإفادة، وعبادة الله، وحب للقريب وخدمة للإنسانية.
وزد على ذلك قيامه بتنشيط المشروعات العلمية والأدبية، فلم تقم جمعية علمية أو أدبية إلا كان هو المنشط في إمشائها، ولا أنشئت مدرسة إلا كانت له يد بيضاء فيها، وهكذا قل عن المستشفيات والكنائس، ولا يقتصر في مساعدته على التنشيط الأدبي، ولكنه يجود بالبذل والعطاء والخدمة الشخصية علما وعملا، لا ينظر في كل ذلك إلى مذهب دون آخر، أو طائفة دون أخرى، فهذا مستشفى القديس جاورجيوس للطائفة الكاثوليكية ببيروت، فإن الدكتور أول من فتح جيبه لتنشيطه، وقضى بضعة عشر عاما يطبب مرضاه، ويخفف أسقامهم، ويلطف أحزانهم برقته وإيناسه، وهذه الجمعية السورية لا يذكر اسمها إلا مقرونا باسمه؛ فإنها أول جمعية تأسست في بلاد الشام، وهو الواضع لأساسها؛ اسأل جمعية شمس البر والمجمع العلمي الشرقي، اسأل المجامع الدينية الإنجيلية، ناهيك بما أفاده بعظاته وخطبه ومراسلاته، بل ما قولك بما آثره بقدرته، فإن من يجاوره أو يعاشره لا تلبث أن تراه قد اكتسب شيئا من أخلاقه وهو لا يدري، فيعكف على اكتساب العلم وخدمة الوطن.
مما نذكره له ونعده خدمة كبرى إيعازه إلى أحد منشئي المقتطف أن ينقل كتاب سر النجاح إلى اللسان العربي، فإن نشر هذا الكتاب النفيس بين قرائها أثر تأثيرا كبيرا في بعثة العلم والعمل بينهم؛ لأنه كتاب لم يكتب علماء الأخلاق والأعمال على مثاله، ولا ريب عندنا أنه كان سببا كبيرا في إنهاض الذين قرأوه؛ وخصوصا الشبان، فإن مطالعة ما فيه من سير رجال العلم والعمل تثير في أنفس الأحرار رغبة في الاقتداء بهم والنسج على منوالهم، على أن في سيرة أستاذنا (رحمه الله) ما يغني عن مطالعة ذلك الكتاب.
ومن أعماله أنه كان أكبر مساعد في تأسيس المدرسة الكلية السورية والمرصد الفلكي والمتريولوجي، وكان دعامة أعمال المرسلين الأميركانيين في سورية، ومن أقوى أركانهم في نشر تعاليمهم وبث روح العلم والعمل بغير أن يمس كرامة طائفة من الطوائف، إلا ما قد سيق إليه سوقا مما يعد من قبيل المناظرة أو المسابقة؛ وهذا هو سبب إجماع الناس على اختلاف طوائفهم على احترامه وحبه.
أما مؤلفاته فتشمل أهم العلوم الحديثة، وهو أول من نشر تلك العلوم بالعربية في سورية، فألف فيها وأجاد، فضلا عما كان ينشره من قلمه في النشرة الأسبوعية، ومما صححه أو ترجمه من الكتب الدينية؛ وخصوصا التوراة، وأما مؤلفاته المطبوعة فهي: (1)
الباثولوجية الداخلية الخاصة. وتبحث في مبادئ الطب البشري النظري والعملي، في مجلد ضخم. (2)
محيط الدائرة في العروض والقوافي. (3)
المرآة الوضية في الكرة الأرضية، طبعت غير مرة. (4)
الروضة الزهرية في الأصول الجبرية. (5)
الأصول الهندسية. (6)
التشخيص الطبيعي. (7)
الأنساب والمثلثات المستوية والكروية ومساحة السطوح والأجسام والأراضي وسلك الأبحر. (8)
أصول الكيمياء. (9)
رسالة الجدري للرازي، مع ملحق بقلم الدكتور. (10)
أصول الهيئة في علم الفلك. (11)
محاسن القبة الزرقاء. (12)
النقش في الحجر، في تسعة مجلدات صغيرة، كل منها يبحث في علم من العلوم الحديثة؛ كالفلسفة الطبيعية والكيمياء والجغرافية الطبيعية والنبات والفلك والجيولوجيا وغيرها؛ يراد بها تعليم هذه العلوم في المدارس العالية، أو نشرها بين الذين شبوا وتعاطوا التجارة أو الصناعة ولم يدرسوا شيئا منها. (13)
النفائس لتلامذة المدارس. (14)
قصة شونبرج وبركا، وهما دينيان.
صفاته وأخلاقه
كان ربع القامة مع ميل إلى القصر، خفيف العضل، سريع الحركة، وقد أمسى في أواخر أيامه شيخا هرما طويل اللحية والشاربين أشيبهما، خفيف الشعر، ولكنه ما انفك على شيخوخته، طلق المحيا باشه، وديعا، لطيف الحديث، رقيق الجانب، لطيف المعشر، أو كما قيل فيه: قد جمع إلى حكمة الشيخوخة مقدرة الكهولة وإقدام الشباب ومروءة الفتوة ونشاط الصبا وطاعة الحداثة.
ومن أخلاقه حسن الطوية، والإخلاص في عمله، وهو السبب الرئيسي فيما ناله من الشهرة وملكه من قلوب السوريين. وفي اعتقادنا أن المرء لا يفوز في عمله ولا يجمع الناس على مدحه إلا إذا أخلص النية في خدمتهم، ولا يفلح المراءون.
ومنها اقتداره على العمل، وقد علمت - مما تقدم - أنه عمل أعمالا لا يستطيعها جماعة من الرجال، وكان ذلك من أكبر أسباب نجاح الإرسالية الأميركانية في بلاد الشام؛ فإنها قامت بأربعة من أفاضلهم، امتاز كل منهم بصفات لا بد منها في قيام مشروعهم؛ وهم: عالي سميث، ووليم طمسن، وسمعان كلهون، والدكتور فانديك، فامتاز الأول بالتأني والتدقيق، والثاني بالسياسة والتدبير، والثالث بالتقوى والورع. وامتاز أستاذنا (رحمه الله) بالعلم والعمل، وكان يحب كل العلوم؛ وخصوصا علم الفلك.
ومنها حرية الضمير قولا وعملا؛ فهو أبعد الناس عن المدالسة والمواربة، لا يحتمل الحق ولا يطيق الإجحاف، ومن أقرب الأدلة على ذلك أنه ترك المدرسة الكلية واحتمل ضيم فراقها، وأنكر ذاته وتنازل عن مصلحته الخصوصية إذعانا لحرية ضميره؛ فإنه لم يستطع المشاركة في الحكم على شبان لم يطلبوا إلا العدل والحق، ومن هذا القبيل حدة طبعه في شبوبيته، وحر الضمير يغلب أن يكون حاد الطبع؛ لعدم صبره على المدالسة والمماطلة، ومن قبيل ذلك أيضا استنكافه من المدح، وتحاشيه كل ما تشم منه رائحة الفخر.
ومنها الإقدام والإنجاز؛ فإنك لا تكاد تلتمس منه أمرا حتى تراه قد باشره حالا، وهي خلة لا بد منها في قيام الأعمال ونجاح المشروعات؛ فالأستاذ (رحمه الله) كان مقصدا للطلاب وملجأ للسائلين والمستفيدين، لا يخلو منزله من مستشير أو مستفيد أو ملتمس، فضلا عن مراسلات الأدباء ومكاتبات تلامذته المتفرقين في أربعة أقطار المسكونة.
ومن أكره الأمور لديه التأجيل؛ فهو لا يؤجل إلى الغد ما يستطيع عمله اليوم، ويبكر في عمله فيستيقظ باكرا، ويقضي طول نهاره عاملا، وقد قال إنه اعتاد ذلك منذ صباه؛ لأن والدته غرست في ذهنه «أن من استيقظ باكرا ساق عمله أمامه، ومن استيقظ متأخرا ساقه عمله.»
ومنها رباطة الجأش؛ فهو لا يهاب الأهوال، وقد ربى أنجاله على ذلك، فكان يرسل أولاده للصيد أو ركوب الخيل منفردا وهو حوالي العاشرة من عمره، وقد يبعث به إلى بلد آخر ليلا ولا يخاف عليه شرا، فإذا لامته والدتهم على ذلك أجابها: «أتريدين أن يشب أولادك على الجبن والضعف؟» وكان في شبوبته يحب الخيل ويقتني الجياد منها.
ومنها أنه كان مغرما بأمرين:
الأول:
أشغاله وتآليفه.
والثاني:
أهله وأولاده.
ولم يكن يحب الدعوات إلى الأفراح، ولا يأنس باللهو والطرب.
ومنها النفور من الدين؛ فهو يكره الدين كرها شديدا، وقد بالغ في ذلك حتى كان لا يلبس لباسا قبل أن يدفع ثمنه، وقد سمعناه مرة يلوم خياطه؛ لأنه أرسل الثوب إليه ولم يرسل من يقبض ثمنه، قائلا: «ألعلك تريد أن لا ألبس هذه البدلة!» ومن أمثاله: «الحلاقة بالفاس ولا جميل الناس.»
ومنها حبه للأمثال العامية والفصحى؛ فلا يرد في حديثه معنى إلا أيده بمثل عامي، ولا تسأله عن لفظ فصيح إلا أورد عليه شعرا، فسئل كيف حفظ ذلك، فقال إنه اقتبسه من المرحوم الشيخ ناصيف اليازجي.
ومن أهم أوصافه تخلقه بأخلاق المشارقة، والتزيي بزيهم، واكتساب عوائدهم في الطعام والشراب واللباس، وكان أثناء إقامته في عبيه يلبس اللباس السوري الخاص بالأمراء في ذلك العهد، وهو السراويل من البفتا البيضا (العنبركيس)، والمنطقة الحريرية الطرابلسية، وكبران من الجوخ الأزرق عليه تطريز بالقبطان الأسود، وعلى رأسه طربوش مغربي ذو زر طويل (شرابة).
فكان إذا مشى أو ركب تحسبه من الأمراء، ولكنه اضطر إلى العدول عنه إلى اللباس الإفرنجي كرها؛ وسبب ذلك أنه دعي مرة لتطبيب أحد وجهاء عبيه، فركب وسار بركابه خادم ذلك الوجيه، فاتفق في أثناء عودته الشروع في الثورة التي حصلت قبل حادثة 1860م بين النصارى والدروز، فرآه بعض الدروز بذلك اللباس فظنوه من أمراء بني شهاب فهموا بقتله، ولم ينج من بين أيديهم إلا بعد الجهد، وعول من ذلك الحين على اللباس الإفرنجي.
على أنه ما انفك ميالا إلى لباس المشارقة؛ فيلبس في منزله طربوشا من المخمل الأسود أو الأزرق مطرزا بالقصب، تتدلى منه شرابة من القصب، ويلتف بعباءة واسعة كما تراه في الرسم وهو يدخن النارجيلاء في منزله أمام غرفة المطالعة، وقد تخلق بأخلاق المشارقة، وأحب أهل المشرق، فالسوريون على اختلاف طوائفهم ومشاربهم يعتبرونه أبا لهم، أما هو فقد برهن على حبه لهم ببذل عمره وصحته في خدمتهم، وما كسبه من أغنيائهم أنفقه على فقرائهم؛ فخدم الفئتين جسدا ونفسا وعقلا.
وكان تقيا حسن العقيدة، عن روية وحسن نظر لا عن تسليم وسذاجة، ومن أثمن ما نطق به وصيته لنجله المستر إدوار أثناء زيارته له في أواخر أيامه؛ وهي: «احذر أن يخدعك أحد فيسلبك اعتقادك في مبادئ الديانة المسيحية؛ فإنها الركن الوحيد الذي يمكننا الاعتماد عليه في مصائبنا وأمراضنا وشيخوختنا، أما ما وراء تلك المبادئ مما هو موضوع اختلاف اللاهوتيين فكله إبهام وظلمة.»
الفصل السابع
السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني
قد تمر القرون وتتوالى الأجيال والناس على ما ساقتهم إليه الحاجة من شئون معائشهم لا يفقهون غثها من ثمينها، ولا يدركون مبدأها ولا مصيرها، حتى تتمخض الطبيعة فتلد من أبنائها أفرادا يميطون عن أسرارها اللثام، فيرى الناس من ورائه شرائع ونواميس كانوا عنها غافلين؛ أولئك هم أقطاب العلم وأنوار العالم، ومنهم الفلاسفة الطبيعيون الذين مزقوا أستار الجهل وكشفوا غوامض الطبيعة، فمهدوا سبل الاختراع والاكتشاف، ومنهم الفلاسفة العقليون الذين استطلعوا أسرار الحكمة المستترة وراء تلك النواميس، وبينوا ما أودعه الخالق في خليقته من القواعد العقلية والروابط الأدبية.
ولكن الطبيعة لا تجود بواحد من أولئك الأفراد إلا كل بضعة قرون، فيسير الناس على خطواته أجيالا، حتى إذا كادوا يرجعون إلى غيهم جادت عليهم بآخر ينفث فيهم روحا حية فيهبون من رقادهم، ويعودون إلى رشدهم ريثما يأتيهم ثالث.
هكذا كان شأن العالم من بدء عمرانه، ومن أولئك الفلاسفة سقراط وأفلاطون ومن تقدمهم، وجاء بعدهم من فلاسفة اليونان والرومان والفرس والعرب وغيرهم من علماء المعقول والمنقول ممن لا نزال نستضيء بنبراسهم.
ولكن لله في خلقه حكمة لا تدركها العقول؛ فقد ينبغ في بعض الأجيال أفراد توافرت فيهم قوى الفلاسفة ومواهب رجال الأعمال، فتحيط بهم بيئات لا تصلح لنماء ما يغرسون، فيذهب سعيهم هباء منثورا.
ولما كان الإنسان لا يقدر العمل إلا بنسبة ما يترتب عليه من الفائدة، كان نصيب كثيرين من عظماء الأرض جهل الناس حق قدرهم، وأغفل التاريخ ذكرهم كما هو شأننا بفقيد الشرق الفيلسوف الخطيب السيد جمال الدين الأفغاني (رحمه الله)؛ فقد نشأ قطبا من أقطاب الفلسفة، وعاش ركنا من أركان السياسة، ولكنه مات ولم يتم عملا ولا ألف كتابا، على أن ذلك لا يحط من مقامه، وقد رأينا أعظم فلاسفة اليونان (سقراط) مات ولم يدون شيئا من كلامه، ولكن تلامذته حفظوا فلسفته ودونوها فتوارثتها الأجيال خلفا عن سلف، فعسى أن لا نحرم من مريدي الأستاذ وتلامذته من يفعل مثل ذلك.
ترجمة حاله
هو السيد محمد جمال الدين بن السيد صفتر، ولد في بيت شرف وعلم بقرية أسعد أباد من قرى كنر من أعمال كابل ببلاد الأفغان سنة 1254ه/1839م، ويتصل نسبه بالسيد علي الترمذي المحدث المشهور، ويرتقي إلى الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب. وآل هذا البيت عشيرة كبيرة تقيم في خطة كنر، ولها منزلة عليا في قلوب الأفغانيين لحرمة نسبها، وكانت تملك جزءا من أرض الأفغان حتى سلب الملك منها دوست محمد خان، جد الأمير عبد الرحمن، وأمر بنقل والد السيد جمال الدين وبعض أعمامه إلى مدينة كابل، وجمال الدين لا يزال في الثامنة من عمره، فعني والده في تربيته وتثقيفه، فتلقى مبادئ العلوم العربية والتاريخ وعلوم الشريعة من تفسير وحديث وفقه وأصول وكلام وتصوف والعلوم العقلية من منطق وحكمة عملية سياسية ومنزلية وتهذيبية وحكمة نظرية طبيعية وإلهية والعلوم الرياضية من حساب وهندسة وجبر وهيئة أفلاك ونظريات الطب والتشريح، وكانت ملامح النجابة والذكاء ظاهرة فيه منذ نعومة أظفاره، فأتم هذا كله وهو في الثامنة عشرة من عمره.
السيد جمال الدين الحسيني الأفغاني.
ثم عرض له سفر إلى بلاد الهند فأقام بها سنة وبضعة أشهر، ينظر في بعض العلوم الرياضية على الطريقة الإفرنجية الحديثة، وقدم بعد ذلك إلى الأقطار الحجازية؛ لأداء فريضة الحج، فقضى سنة ينتقل من بلد إلى آخر حتى وافى مكة المكرمة في سنة 1273ه/1857م، فوقف على كثير من عادات الأمم التي مر بها في سياحته، ثم رجع إلى بلاده وانتظم في سلك رجال الحكومة على عهد الأمير دوست محمد خان المتقدم ذكره، ولما زحف هذا الأمير إلى هراة ليفتحها ويملكها على سلطان أحمد شاه صهره وابن عمه؛ سار السيد جمال الدين معه في جيشه، ولازمه مدة الحصار، إلى أن توفي الأمير وفتحت المدينة بعد معاناة الحصار زمنا طويلا.
وتقلد الإمارة ولي عهدها شير علي خان سنة 1280ه/1864م، وأشار عليه وزيره محمد رفيق خان أن يقبض على إخوته ويعتقلهم، فإن لم يفعل سعوا بالناس إلى الفتنة وألبوهم للفساد طلبا للاستبداد بالإمارة، وكان في جيش هراة من إخوة الأمير ثلاثة؛ محمد أعظم، ومحمد أسلم، ومحمد أمين؛ فانتصر السيد جمال الدين لمحمد أعظم، فلما أحسوا بتدبير الأمير ومشورة الوزير أسرعوا إلى الفرار، وتفرقوا في الولايات، فذهب كل منهم إلى ولايته التي كان يليها من قبل أبيه، وطاشت بهم الفتن، واشتعلت نيران الحروب الداخلية.
وبعد مجادلات عنيفة عظم أمر محمد أعظم وابن أخيه عبد الرحمن، وتغلبا على عاصمة المملكة، وأنقذا محمد أفضل والد عبد الرحمن من سجن قزنة، وسمياه أميرا على أفغانستان، ثم أدركه الموت بعد سنة، وقام على الإمارة بعده شقيقه محمد أعظم خان، فارتفعت منزلة جمال الدين عنده فأحله محل الوزير الأول، وعظمت ثقته به، فكان يلجأ لرأيه في العظائم وما دونها، وكادت تخلص حكومة الأفغان لمحمد أعظم بتدبير السيد جمال الدين لولا سوء ظن الأمير بالأغلب من ذوي قرابته، مما حمله على تفويض مهمات الأعمال إلى أبنائه الأحداث وهم خلو من التجربة عراة من الحنكة، فساق الطيش أحدهم - وكان حاكما في قندهار - على منازلة شير علي في هراة، ولم يكن له من الملك سواها، وظن الفتى أنه يظفر فينال عند أبيه حظوة فيرفعه على سائر إخوته، فلما تلاقى مع جيش عمه دفعته الجرأة على الانفراد عن جيشه في مائتي جندي اخترق بها صفوف أعدائه، فأوقع الرعب في قلوبهم وكادوا ينهزمون لولا ما التفت يعقوب خان قائد شير علي فوجد ذلك الغلام منقطعا عن جيشه، فكر عليه وأخذه أسيرا، فتشتت جند قندهار وقوي الأمل عند شير علي فحمل على قندهار واستولى عليها.
وعادت الحرب إلى شبابها، وعضد الإنكليز شير علي وبذلوا له قناطير من الذهب، ففرقها في الرؤساء والعاملين لمحمد أعظم، فبيعت أمانات ونقضت عهود وجددت خيانات، وبعد حروب هائلة تغلب شير علي وانهزم محمد أعظم وابن أخيه عبد الرحمن، فذهب عبد الرحمن إلى بخارى، وذهب محمد أعظم إلى بلاد إيران، ومات بعد أشهر في مدينة نيسابور.
أما السيد جمال الدين فبقي في كابل لم يمسسه الأمير بسوء؛ احتراما لعشيرته، وخوف انتقاض العامة عليه حمية لآل البيت النبوي، إلا أنه لم ينصرف عن الاحتيال للغدر به والانتقام منه بوجه يلتبس على الناس حقه بباطله، ولهذا رأى السيد جمال الدين خيرا له أن يفارق بلاد الأفغان، فاستأذن للحج فأذن له على شرط أن لا يمر ببلاد إيران كي لا يلتقي فيها بمحمد أعظم - وكان لم يمت بعد - فارتحل على طريق الهند سنة 1285ه/1869م بعد هزيمة محمد أعظم بثلاثة أشهر، فلما وصل إلى التخوم الهندية تلقته حكومة الهند بحفاوة وإجلال، إلا أنها لم تسمح له بطول الإقامة في بلادها، ولا أذنت للعلماء في الاجتماع عليه إلا تحت مراقبة رجالها، فلم يقم هناك إلا شهرا، ثم سيرته من سواحل الهند في أحد مراكبها إلى السويس، فجاء مصر وأقام بها نحو أربعين يوما تردد فيها على الجامع الأزهر، وخالطه كثير من طلبة العلم السوريين، ومالوا إليه كل الميل، وسألوه أن يقرأ لهم شرح الإظهار، فقرأ لهم بعضا منه في بيته، ثم تحول عن الحجاز عزمه، وتعجل بالسفر إلى الآستانة.
وبعد أيام من وصوله الآستانة قابل الصدر الأعظم عالي باشا، فنزل منه منزلة الكرامة، وعرف له الصدر فضله، وأقبل عليه بما لم يسبق لمثله، وهو مع ذلك بزيه الأفغاني من القباء والكساء والعمامة العجراء، وحومت عليه - لفضله - قلوب الأمراء والوزراء، وعلا ذكره بينهم، وتناقلوا الثناء على علمه وأدبه وهو غريب عن أزيائهم ولغتهم وعاداتهم، ولم تمض ستة أشهر حتى سمي عضوا في مجلس المعارف، فأدى حق الاستقامة في آرائه، ولكنه أشار إلى طرق لتعميم المعارف لم يوافقه عليها رفقاؤه، وبينها ما ساء شيخ الإسلام إذ ذاك؛ لأنها كانت تمس شيئا من رزقه، فأرصد له العنت حتى كان رمضان سنة 1287ه/1871م، فرغب إليه مدير دار الفنون أن يلقي فيها خطابا للحث على الصناعات، فاعتذر إليه بضعفه في اللغة التركية، فألح عليه فأنشأ خطابا طويلا كتبه قبل إلقائه وعرضه على نخبة من أصحاب المناصب العالية، فاستحسنوه.
فلما كان اليوم المعين لاستماع الخطاب تسارع الناس إلى دار الفنون، واحتفل له جم غفير من رجال الحكومة وأعيان أهل العلم وأرباب الجرائد، وحضر في الجمع معظم الوزراء، فصعد السيد جمال الدين على منبر الخطابة وألقى ما كان أعده ببلاغة سحرت عقول السامعين، فأنكر مشائخ العلم شيئا من آرائه، واتصل الأمر بشيخ الإسلام وكان متغيرا عليه - كما علمت - فالتمس من الدولة إبعاده عن الآستانة، فصدر له الأمر بالجلاء عنها بضعة أشهر حتى تسكن الخواطر ويهدأ الاضطراب ثم يعود إن شاء، ففارقها وحمله بعض من كان معه على التحول إلى مصر، فجاء إليها في أول المحرم سنة 1288ه/22 مارس 1871م.
قدم السيد جمال الدين إلى مصر على قصد التفرج بما يراه من مناظرها ومظاهرها، ولم تكن له عزيمة على الإقامة بها حتى لاقى صاحب الدولة رياض باشا، فاستمالته مساعيه إلى المقام، وأجرت عليه الحكومة راتبا مقداره ألف قرش مصري كل شهر نزلا أكرمته به لا في مقابل عمل، واهتدى إليه بعد الإقامة كثير من طلبة العلم، واستوروا زنده فأورى، واستفاضوا بحره ففاض درا، وحملوه على التدريس فقرأ من الكتب العالية في فنون الكلام الأعلى، والحكمة النظرية من طبيعة وعقلية، وفي علم الهيئة الفلكية، وعلم التصوف، وعلم أصول الفقه الإسلامي، وكانت مدرسته بيته، فعظم أمره في نفوس طلاب العلوم، واستجزلوا فوائد الأخذ عنه وأعجبوا بعلمه وأدبه، وانطلقت الألسن بالثناء عليه، وانتشر صيته في الدار المصرية.
ثم وجه عنايته لتمزيق حجب الأوهام عن أنوار العقول، فنشطت لذلك ألباب واستضاءت بصائر، وحمل تلامذته على العمل في الكتابة وإنشاء الفصول الأدبية والحكمية والدينية، فاشتغلوا على نظره وبرعوا، وتقدم فن الكتابة في مصر بسعيه، وكان القادرون على الإجادة في المواضيع المختلفة قليلين.
فنبغ من تلامذته في القطر المصري كتبة لا يشق غبارهم ولا يوطأ مضمارهم، وأغلبهم أحداث في السن شيوخ في الصناعة، وما منهم إلا من أخذ عنه أو عن أحد تلامذته، أو قلد المتصلين به، هذا ما حسده عليه أقوام واتخذوا سبيلا للطعن عليه من قراءته بعض الكتب الفلسفية؛ أخذا بقول جماعة من المتأخرين في تحريم النظر فيها، فتمكنوا من نسبة ما أودعته كتب الفلاسفة إلى رأي هذا الرجل، وأذاعوا ذلك بين العامة، ثم أيدهم أخلاط من الناس من مذاهب مختلفة، غير أن هذا كله لم يؤثر في مقامه من نفوس العارفين بحاله.
وكان (رحمه الله) - على علمه وفضله - ميالا إلى السياسة، فنظر في حال مصر وما آلت إليه من التداخل الأجنبي، فعلم أن لا بد من تغير أحوالها، وكان قد انتظم في سلك الجمعية الماسونية، وتقدم فيها حتى صار من الرؤساء، فأنشأ محفلا وطنيا تابعا للشرق الفرنساوي، دعا إليه مريديه من العلماء والوجهاء، فصار أعضاؤه نحوا من ثلاث مائة عدا.
وكان شديد الكره للدولة الإنكليزية - كما تقدم من حاله معها في الهند - وما كان من اعتدائهم على أبناء أبيه، فجهر بذلك غير مرة، ونشر فصولا ناطقة به ترجموها إلى جرائد إنكلترا، واهتموا بها كثيرا حتى تولى المستر غلادستون نفسه أمر الجدال في موضوعها، فلما عظم أمر محفله داخل الخوف قنصل إنكلترا فوشى به إلى الحكومة، وبث الرقباء في المحفل، فسعوا فيه فسادا، وفي خلال ذلك بلغت أحوال مصر نهاية الارتباك فصرح بأمور قوت حجة الساعين، وكان تولى مصر المرحوم الخديوي السابق توفيق باشا، فأصدر أمره بإخراجه من القطر المصري هو وتابعه أبو تراب، ففارق مصر إلى البلاد الهندية سنة 1296ه/1879، وأقام بحيدر آباد الدكن، وفيها كتب رسالته في «نفي مذهب الدهريين».
ولما كانت الحوادث العرابية بمصر دعي من حيدر آباد إلى كلكتة، وألزمته حكومة الهند بالإقامة فيها حتى انقضى أمر مصر وفثأت الحرب الإنكليزية، ثم أبيح له الذهاب إلى أي بلد، فاختار الشخوص إلى أوروبا، وأول مدينة نزلها مدينة لوندرا، أقام بها أياما قلائل ثم انتقل إلى باريس، فوافاه إليها صديقه الشيخ محمد عبده المصري، وكانت في مصر جمعية وطنية اسمها جمعية العروة الوثقى، فكلفته - على بعد الدار - أن ينشئ جريدة تدعو المسلمين إلى الوحدة الإسلامية، فأنشأ «العروة الوثقى»، وكلف صديقه المشار إليه بتحريرها، وكان لها وقع حسن في العالم الإسلامي، فنشر منها 18 عددا، ثم قامت الموانع دون استمرارها؛ حيث أقفلت أبواب الهند عنها، وشددت الحكومة الإنكليزية في إساءة من يقرؤها.
وقضى جمال الدين في باريس ثلاث سنوات، نشر في أثنائها مقالات في جرائدها تبحث في سياسة روسيا وإنكلترا والدولة العلية ومصر، ترجمت جرائد إنكلترا كثيرا منها، وجرت له أبحاث فلسفية مع الفيلسوف الفرنساوي رينان في «العلم والإسلام»، فشهد له هذا بسعة العلم وقوة الحجة، ثم شخص إلى لندرا بإيعاز اللورد شرشل واللورد سالسبري؛ ليسألاه عن رأيه في المهدي وظهوره إذ ذاك، ثم عاد إلى فرنسا وتعرف بكثيرين من علمائها وفلاسفتها، فأحلوه مكانا عليا.
ثم عزم على نجد، فاستقدمه شاه الفرس إذ ذاك المرحوم ناصر الدين شاه على لسان البرق ليراه، فسار قاصدا طهران، فالتقى في أصفهان بالأمير ظل السلطان فلاقى منه إكراما، حتى إذا وصل طهران استقبله الشاه أحسن استقبال، وأكثر من الثناء عليه حيثما ذكره، حتى في بلاطه وبين أهله وأولاده، وولاه نظارة الحربية على أن يرقيه بعد قليل إلى منصب الصدارة.
وكان جمال الدين قد درس أخلاق الأمم، وعرف تواريخ الدول، وتدبر أحوال السياسة على اختلاف الأمكنة والأزمنة، مع بلاغته وقوة برهانه، فنال لدى أمراء الفرس وعلمائها منزلة قل أن ينالها غيره في مثل حاله، فأصبح منزله حلقة علم يؤمها سراة البلاد ووجهاؤها، يتسابقون إلى سماع حديثه، فخامر الشاه ريب من أمره؛ مخافة أن يكون وراء ذلك ما يخشى منه على سلطانه، فأبدى تغيره عليه، فأدرك جمال الدين ما في نفسه فاستأذنه في السفر لتبديل الهواء، فأذن له فسار إلى موسكو في روسيا، فلاقاه أهلها بالتجلة والإكرام لما سبق إلى مسامعهم من شهرته، ثم شخص إلى بطرسبورج وتعرف بأعظم رجالها من العلماء والسياسيين، ونشر في جرائدها مقالات ضافية في سياسة الأفغان والفرس والدولة العلية والروسية والإنكليزية، كان لها دوي شديد في جو السياسة.
واتفق إذ ذاك فتح معرض باريس لسنة 1889م، فشخص جمال الدين إليها، فالتقى بالشاه في مونيخ عاصمة بافاريا عائدا من باريس، فدعاه الشاه إلى مرافقته، فأجاب الدعوة وسار في معيته إلى فارس، فلم يكد يصل طهران حتى عاد الناس إلى الاجتماع به والانتفاع بعلمه، والشاه لا يرتاب من أمره، كأن سياحته في أوروبا محت كثيرا من شكوكه، فكان يقربه منه ويوسطه في قضاء كثير من مهام حكومته، ويستشيره في سن القوانين ونحوها، فشق ذلك على أصحاب النفوذ؛ وخصوصا الصدر الأعظم، فأسر إلى الشاه أن هذه القوانين وإن تكن لا تخلو من النفع فهي لا توافق حال البلاد، فضلا عما ستئول إليه من تحويل نفوذ الشاه إلى سواه، فأثر ذلك في الشاه حتى ظهر على وجهه، فأحس جمال الدين بالأمر فاستأذنه في المسير إلى بلدة شاه عبد العظيم على 32 كيلومترا من طهران، فأذن له فتبعه جم غفير من العلماء والوجهاء، وكان يخطب فيهم ويستحثهم على إصلاح حكومتهم، فلم تمض ثمانية أشهر حتى ذاعت شهرته في أقاصي بلاد الفرس، وشاع عزمه على إصلاح إيران، فخاف ناصر الدين عاقبة ذلك فأنفذ إلى شاه عبد العظيم خمسمائة فارس قبضوا على جمال الدين، وكان مريضا، فحملوه من فراشه وساقوه يخفره خمسون فارسا إلى حدود المملكة العثمانية، فعظم ذلك على مريديه في إيران فثاروا حتى خاف الشاه على حياته.
السيد جمال الدين الأفغاني في حال مرضه.
أما جمال الدين فمكث في البصرة ريثما عادت إليه صحته، فشخص إلى لندرا وقد عرفه الإنكليز من قبل، فتلقوه بالإكرام، ودعوه إلى مجتمعاتهم السياسية وأنديتهم العلمية ليروه ويسمعوا حديثه، وكان أكثر كلامه معهم في بيان حال الشاه وتصرفه في المملكة، وما آلت إليه حالها في عهده، مع حث الحكومة الإنكليزية على السعي في خلعه.
وفيما هو في ذلك ورد عليه كتاب من المابين الهمايوني بواسطة المرحوم رستم باشا سفير الدولة العلية في لندرا إذ ذاك، أن يقدم إلى الآستانة، فاعتذر؛ لأنه في شاغل وقتي لإصلاح بلاده، فورد عليه كتاب آخر وفيه ثناء وتحريض، فأجاب الدعوة تلغرافيا على أن يتشرف بمقابلة جلالة السلطان ثم يعود، فقدم الآستانة سنة 1892م فطابت له فيها الإقامة لما لاقاه من التفات الحضرة السلطانية وإكرام العلماء ورجال السياسة، وما زال فيها معززا مكرما وجيها محترما حتى داهمه السرطان في فكه أواخر سنة 1896م، وامتد إلى عنقه، فتوفاه الله في 9 مارس سنة 1897م، واحتفل بجنازه ودفنه في مدفن «شيخلر مزار لفي» قرب نشان طاش.
صفاته الشخصية
كان أسمر اللون بما يشبه أهل الحجاز، ربعة ممتلئ البنية، أسود العينين نافذ اللحظ، جذاب النظر مع قصر فيه، فإذا قرأ أدنى الكتاب من عينيه، ولكنه لم يستخدم النظارات، وكان خفيف العارضين مسترسل الشعر، بجبة وسراويلات سوداء تنطبق على الكاحلين، وعمامة صغيرة بيضاء على زي علماء الآستانة.
طعامه
كان قانتا قليل الطعام، لا يتناوله إلا مرة في النهار، ويعتاض عما يفوته من ذلك بما يشربه من منقوع الشاي مرارا في اليوم، والعفة في الطعام لازمة لمن يعمل أعمالا عقلية؛ لأن البطنة تذهب الفطنة، وكان يدخن نوعا من السيكار الإفرنجي الجيد، ولشدة ولعه بالتدخين وعنايته في انتقاء السيكار لم يكن يركن إلى أحد من خدمه في ابتياعه فيبتاعه هو بنفسه.
مسكنه
كان يقيم في أواخر أيامه بقصر في نشان طاش بالآستانة، أنعم عليه به جلالة مولانا السلطان، وفيه الأثاث والرياش وعربة من الإسطبل العامر يجرها جوادان، وأجرى عليه رزقا مقداره خمس وسبعون ليرة عثمانية في الشهر، فكان قبل مرضه الأخير يقيم معظم النهار في منزله، فإذا كان الأصيل ركب العربة لترويح النفس في منتزه كاغدخانه بضواحي الآستانة، وكان كثير القيام لا ينام إلا الغلس إلى الضحى.
مجلسه وخطابه
كان أديب المجلس، كثير الاحتفاء بزائريه على اختلاف طبقاتهم، ينهض لاستقبالهم ويخرج لوداعهم، ولا يستنكف من زيارة أصغرهم على امتناعه من زيارة أكبرهم إذا ظن في زيارته تزلفا، وكان ذا عارضة وبلاغة، لا يتكلم إلا اللغة الفصحى بعبارات واضحة جلية، وإذا آنس من سامعه التباسا بسط مراده بعبارة أوضح، فإذا كان السامع عاميا تنازل إلى مخاطبته بلغة العامة.
وكان خطيبا مصقعا لم يقم في الشرق أخطب منه، وكان قليل المزاح رزينا كتوما، قد يخاطب عشرات من الناس في اليوم فيبحث مع كل منهم في موضوع يهمه، فإذا خرج جليسه كان خروجه آخر عهده بذلك الموضوع حتى يعود هو إليه بشأنه.
أخلاقه
كان حر الضمير، صادق اللهجة، عفيف النفس، رقيق الجانب، وديعا مع أنفة وعظمة، ثابت الجأش، قد يساق إلى القتل فيسير إليه سير الشجاع إلى الظفر، وكان راغبا عن حطام الدنيا، لا يدخر مالا ولا يخاف عوزا، ومما رواه المرحوم أديب إسحاق أن جمال الدين لما أبعد من مصر أنزل في السويس خالي الجيب، فأتاه السيد النقادي قنصل إيران في ذلك الثغر ومعه نفر من تجار العجم، قدموا له مقدارا من المال على سبيل الهدية أو القرض الحسن، فرده وقال لهم: «احفظوا المال، فأنتم إليه أحوج، إن الليث لا يعدم فريسة حيثما ذهب.»
وكان مقداما حاثا على الإقدام، فلا يخرج جليسه من بين يديه إلا وقد قام في نفسه محرض على العلى، منشط على السعي في سبيلها، ولكنه كان - على فضله - لا يخلو من حدة المزاج، ولعلها كانت من أكبر الأسباب لما لاقاه من عواقب الوشاية.
عقله
كان ذكيا فطنا، حاد الذهن سريع الملاحظة، يكاد يكشف حجب الضمائر ويهتك أسرار السرائر، دقيق النظر في المسائل العقلية، قوي الحجة ذا نفوذ عجيب على جلسائه، فلا يباحثه أحد في موضوع إلا شعر بانقياد إلى برهانه، وربما لا يكون البرهان بحد ذاته مقنعا، وكان مع ذلك قوي الذاكرة، حتى قيل إنه تعلم اللغة الفرنساوية أو بعضها، وصار يقدر على الترجمة منها ويحفظ من مفرداتها شيئا كثيرا في أقل من ثلاثة أشهر بلا أستاذ، إلا من علمه حروف هجائها يومين.
علومه
كان واسع الاطلاع في العلوم العقلية والنقلية؛ وخصوصا الفلسفة القديمة وفلسفة تاريخ الإسلام والتمدن الإسلامي وسائر أحوال الإسلام، وكان يعرف اللغات الأفغانية والفارسية والعربية والتركية والفرنساوية جيدا، مع إلمام باللغتين الإنكليزية والروسية، وكان كثير المطالعة، لم يفته كتاب في آداب الأمم وفلسفة أخلاقهم إلا طالعه، وأكثر مطالعته في اللغتين العربية والفارسية.
آماله وأعماله
يؤخذ من مجمل أحواله أن الغرض الذي كان يصوب نحوه أعماله، والمحور الذي كانت تدور عليه آماله، توحيد كلمة الإسلام، وجمع شتات المسلمين في سائر أقطار العالم في حوزة دولة واحدة إسلامية، تحت ظل الخلافة العظمى، وقد بذل في هذا المسعى جهده، وانقطع عن العالم من أجله، فلم يتخذ زوجة ولا التمس كسبا، ولكنه مع ذلك لم يتوفق إلى ما أراده، فقضى ولم يدون من بنات أفكاره إلا رسالة في نفي مذهب الدهريين، ورسائل متفرقة في مواضيع مختلفة قد تقدم ذكرها، ولكنه بث في نفوس أصدقائه ومريديه روحا حية، حركت هممهم وحددت أقلامهم، فانتفع الشرق، وسوف ينتفع بأعمالهم.
الفصل الثامن
أحمد خان
ركن النهضة العلمية الأخيرة في بلاد الهند
النهضة العلمية الأخيرة في الشرق
من يطالع تاريخ الشرق في القرن التاسع عشر، وهو عصر النهضة العلمية الحديثة؛ يرى تشابها بين سائر أصقاعه؛ فقد دخل هذا القرن والشرق من أقصاه إلى أقصاه في ظلمات من الجهل، تغشاه جنود التعصب، وقد لعبت به عوامل الشقاق، كذلك كانت الهند والعراق والشام ومصر، وكان الغرب قد بزغت فيه شمس العلم فاستنار أهله بالاختراع والاكتشاف، ثم اقتضت مصالحهم ارتياد بلاد المشرق؛ إما فاتحين أو معلمين أو مبشرين أو مكتشفين أو تجارا أو صناعا أو نحو ذلك، فانبهر المشارقة في بادئ الرأي؛ لما رأوه من مستحدثات التمدن، ثم ما لبثوا أن أخذوا يقلدونهم على قدر ما بلغ إليه إمكانهم، فأنشئوا المدارس والجرائد والمطابع وغيرها.
على أن كل أمة منهم سارت في خطة اقتضتها أحوالها؛ فالمصريون نهضوا نهضتهم الأخيرة بمساعدة حكومتهم؛ فهي التي أنشأت لهم المدارس لتعليم اللغات والعلوم، وهي أول من أنشأ جريدة عربية، وهي التي باشرت ترجمة الكتب وتأليفها وغير ذلك، وأما أهل الشام والعراق فالفضل فيما أدركوه من العلم إنما هو عائد إلى أهل الفضل من النزالة الأميركانية والفرنساوية والإنكليزية وغيرهم من المبشرين أو الرهبان؛ كالآباء اليسوعيين والفرير والعازريين والفرنسيسكانيين.
وأما أهل الهند، فإن الفضل في نهضتهم راجع معظمه إلى رجل منهم، خصه الله بهمة وإقدام وغيرة يندر اجتماعها في رجل واحد، مع إخلاص وحسن نظر؛ نعني به السيد أحمد خان صاحب الترجمة، فقد نشأ في عصر نقم فيه الهنود على الإنكليز وهم في أول عهد الفتح، ولا تلام أمة كرهت قوما فتحوا بلادها وغلبوها على ما في أيديها، فما زال الهنود إلى أواسط القرن الماضي يكرهون الإنكليز كرها شديدا، لا يؤاكلونهم، ولا يشاربونهم، ولا يعاشرونهم، ولا يقرءون كتبهم، ولا يتعلمون لغتهم، ولا يمسون شيئا من أشيائهم، بل كانوا لا تفوتهم فرصة في شق عصا الطاعة جهادا في سبيل الاستقلال، فأدرك السيد أحمد خان أنهم إنما يحاولون عبثا طالما كان عامتهم جهالا، فأخذ على عاتقه ترقية شئونهم وتهذيب أبنائهم بالعلم، فأنشأ المدارس واستحث الناس على اقتباس العلم، فقضى في ذلك خمسين عاما لا يألو جهدا في هذا السبيل، حتى ذاع صيته في أقطار الهند، ولم يبق قارئ من قرائهم لا يعرف اسم السيد أحمد خان، فهو من هذا القبيل شبيه بأستاذنا الدكتور فانديك في سورية؛ وإليك ترجمة حاله:
السيد أحمد خان 1817م-1898م.
ترجمة حياته
يتصل نسب السيد أحمد خان بأرومة عريقة في الشرف، فكان أجداده الأولون من أهل المناصب الرفيعة في بلاط إمبراطوري المغول؛ أولهم السيد هادي، أصله من هرات، ثم نزح إلى هندستان وأقام فيها، وحفيده جد صاحب الترجمة نال من دولة الهند على عهد الإمبراطور ألامجير لقب جواد علي خان وجواد الدولة، وأما جده لأمه فهو خوجه فريد الدين أحمد، وكان رجلا فاضلا، تقلد منصبا سياسيا كبيرا، وأنفذ سفيرا إلى شاه الفرس، أنفذه اللورد ولسلي (غير ولسلي مصر).
وأما والد السيد أحمد خان، فهو السيد محمد تقي، وكان تقيا ورعا، اعتزل الدنيا وانقطع إلى الصلاة والعبادة، ولما غلب الإنكليز على الهنود وآلت حال إمبراطور المغول (أكبر الثاني) إلى الضعف، انحصر في دهلي، وبعث إلى السيد محمد تقي أن يتولى الوزارة، فأجابه معتذرا شاكرا، وأوعز إليه أن يوليها حماه خوجه فريد الدين؛ لأنه أهل لها، وكان مقيما في كلكته، فأطاعه واستقدم خوجه فريد الدين وقلده منصب الوزارة، ولقبه بمدير الدولة وأمين الملك خان بهادر، وبالجملة فإن صاحب الترجمة شريف الأصلين، ورث الهمة والذكاء من الجدين.
نشأته الأولى
ولد السيد أحمد خان في دهلي من أعمال الهند سنة 1817م، وربي في كنف والده معززا مكرما - لما علمت من منصب جده خوجه فريد الدين ومقام والده السيد محمد تقي - ولكنه كان في حداثته خجولا جبانا؛ ويغلب فيمنيكونون كذلك في طفوليتهم أن يشبوا على التعقل والدراية؛ كأن قواهم العقلية تنمو بنمو أجسادهم، وتبلغ ببلوغها، فيعملان معا بقوة متعادلة، وكان الذين تظهر فيهم حدة الذهن في صغرهم تنمو القوى العاقلة فيهم قبل سائر الجسد، فلا يبلغ الجسد أشده حتى تكون القوى العقلية قد مالت إلى التقهقر، فلا تستطيع العمل معه، وأما الأخلاق فيغلب أن تظهر في المرء واضحة منذ نعومة اظفاره؛ فالصادق يتبين صدقه من أبسط المسائل وأحقرها، وكذلك سائر الأخلاق؛ كالإخلاص والرياء والبخل والكرم والحقد والحلم وغيرها.
وعلى هذا المبدأ يقال في السيد أحمد خان؛ لأنه كان حر الضمير منذ حداثته، ومما يروى عنه أن قيم البلاط الإمبراطوري نادى السيد أحمد - وكان في جملة أحداث آخرين اجتمعوا هناك لغرض - فلم يجب، وكان والده واقفا بجانب الإمبراطور، فذكر له الإمبراطور ذلك، فأجاب والده أن الغلام حاضر هناك، فاستقدمه فوقف بين يدي الإمبراطور، فسأله لماذا لم يجب عند ذكر اسمه، فقال: «إني كنت غارقا في النوم.» فعجب أرباب المجلس لجسارته، وأوعزوا إليه أن يتجمل في الجواب ويعتذر عن نفسه، فأجاب أنه إنما يقول الصدق وليس عنده عذر آخر يقوله، فضحك الإمبراطور وأنعم عليه بعقد من اللؤلؤ يضعونه إكليلا على الرأس.
تلقى مبادئ العلم منذ الثانية عشرة، وكانت والدته تستعيده كل ليلة ما تعلمه في النهار، حتى نبغ بين أقرانه (ما أجمل هذه العناية من الوالدات!).
وفي سنة 1836م توفي والده، فأنعم عليه الإمبراطور بهادر شاه آخر ملوك دهلي، برتب والده ونعوته، مع لقب «عريف يونغ»؛ أي «أستاذ حرب»، وفي سنة 1837م انتظم في خدمة الحكومة بإدارة الإنكليز بالرغم عن أقاربه، وفي السنة التالية تولى منصبا قضائيا في دهلي، وفي السنة الخامسة والعشرين من عمره تقلد منصب «منصف» في قضاء فتح بور، وبعد سنوات أخر انتقل إلى دهلي، وبعد عودته أكب على المطالعة، وذاق لذة العلم، فألف كتابا في «آثار دهلي»، فانتخبته الجمعية الآسيوية الملوكية عضوا فيها.
وفي سنة 1857م كانت ثورة أهل الهند في دهلي وغيرها، ففتكوا بالإنكليز فتكا ذريعا، وكان السيد أحمد خان - يومئذ - في منصب نائب قاضي في بجنور، فرأى تلك الثورة في غير أوانها، وتحقق أنها آيلة إلى الضرر بوطنه، فنصح لبعض زعمائها فلم يصغوا إليه، بل تهددوه بالأذى إذا ساعد الإنكليز، فلم يطق أن يرى النساء والأولاد تقتل بلا ذنب، فجمع رجاله حول مكان ضم فيه كل إنكليز تلك المقاطعة، وأحاطهم برجاله وبالغ في المدافعة عنهم، حتى عرض نفسه للخطر، وكاد العصاة يقتلونه مرة لو لم يلجأ إلى غابة شائكة هناك، فلما انقضت الثورة وفاز الإنكليز أكرموه براتب مستديم مقداره 200 روبية في الشهر، يرثه بكره من بعده، فضلا عن هدايا كثيرة قدموها له.
وفي أثناء ذلك كتب كتابا في اللغة الأوردية (الهندستانية) في «أسباب الثورة الهندية»، ترجم إلى الإنكليزية سنة 1873م، انتقد فيه كثيرا من أعمال الإنكليز، وكشف الغطاء عن بعض مقاصدهم، وبين الأسباب التي حملت الهنود على الثورة على كيفية أثبتت فيها وطنيته، ولم تبهره هدايا الإنكليز ولا رواتبهم، على أنه لم يغفل ذكر الخطأ الذي ارتكبه الهنود في تلك الثورة، فبنى أقواله كلها على جهل الشعب الهندي واحتياجه إلى العلم قبل كل شيء، وبناء على ذلك عاهد نفسه على الانقطاع إلى هذه الخدمة، وجعل دأبه السعي في تعليم الشعب الهندي من المسلمين بأي وسيلة كانت، وهو مع ذلك مستخدم في مصالح الحكومة، فكان فضلا عن قيامه بواجبات مصلحته لا تفوته فرصة للسعي في هذا السبيل، وكتب في أثناء ذلك شرحا للتوراة في ثلاثة مجلدات، وهو أول مسلم ألف مثل هذا الكتاب، فكان له وقع حسن لدى الهنود والإنكليز معا.
خدمته في العلم
نظر هذا الرجل العاقل بنير بصيرته فيما يرجو منه النفع لترقية شئون أبناء وطنه، فلم ير خيرا من نزع التعصب الأعمى من بين ظهرانيهم، وإقناعهم أن الإنكليز وغيرهم من الأمم الإفرنجية بشر مثلهم، وأن العلوم الحديثة كالطبيعيات ونحوها لا تخالف الحقائق الدينية في شيء، فضلا عن نفعها الجزيل، فأنشأ في بادئ الرأي «جمعية الترجمة» (وصارت الآن الجمعية العلمية في علي كده)، وجعل موضوعها تقريب علوم الغربيين وآدابهم من أذهان الشرقيين، فآنست تلك الجمعية تنشيطا من الحكومة، فجعلها دوق أركيل تحت حمايته، فتمكنت من نقل كثير من المؤلفات الإنكليزية إلى اللسان الهندي ونشرها بين العامة، فنال السيد أحمد خان من الحكومة الإنكليزية سنة 1866م وساما ذهبيا، ونسخة من مؤلفات ماكولي المؤرخ الإنكليزي المشهور؛ مكافأة له على تلك الخدمة.
وفي سنة 1867م انتقل إلى بنارس من أعمال الهند، وكان ابنه السيد محمود قد بلغ أشده فعول على إرساله إلى بلاد الإنكليز لتلقي العلم في مدرسة كمبريدج الشهيرة، وسار هو معه لعله يرى هناك أسبابا يستطيع الاستعانة بها في خدمة بلاده، فلاقى ترحابا عظيما، وتعرف بجماعة كبيرة من أهل العلم والسياسة، فأجلوه وأكرموه، وكان دوق أركيل - حينئذ - وزيرا للهند فمنحه عضوية كوكب الهند، وانتخبه عضو شرف في نادي الأثينيوم.
وكانت سفرته هذه بما شاهده في بلاد الإنكليز من أسباب التمدن ووسائل التعليم، كأنه نور انبثق لديه بغتة فكشف له عن حقيقة حال الشعب الهندي وما يحتاج إليه، واتضح لديه جيدا أن التمسك بالقديم من عادات الآباء وتقاليد الأجداد، والنفور من العلوم الحديثة وتجنب الأمم الأخرى، إنما هو السبب الأكبر في استيلاء الجهل على أبناء جلدته، فعاد في أواخر سنة 1870م إلى بنارس، وتولى مهام وظيفته، وفي نفسه إنشاء مدرسة في بلاد الهند على مثال مدرسة كمبريدج، ولكنه أدرك خشونة ذلك المركب فلبث متربصا ينتظر الفرص.
فبدأ في تمهيد السبيل لذلك المشروع، فأنشأ جريدة سماها «مصلح الهيئة الاجتماعية الإسلامية»، نشر فيها مقالات ضافية بين فيها خطأ الذين يطعنون في العلوم الحديثة أو يحرمون من يقتبسها، وأورد لهم الأدلة الدينية والشواهد الشرعية المؤيدة لأقواله، وقضى في هذا الجهاد تسع سنوات متوالية؛ قال الكولونيل غراهم - وقد كتب ترجمة الرجل: «إن كتابته هذه أثرت في الهيئة الاجتماعية الإسلامية الهندية تأثيرا غريبا، وكانت خير وسيلة لتقريب الهنود من حكامهم»، ولكنه بلي بغضب كثيرين من المسلمين، فجاءه التهديد والوعيد من البيت الحرام، واتهمه بعضهم بالضلال، ولكنه ما انفك يجادلهم بالحسنى حتى أقنعهم بصدق إسلامه، وفي جملة ما مكن اقتناعهم رد شديد اللهجة دافع فيه عن المسلمين ضد كتاب ألفه السير وليم هنتر، وموضوعه «مسلمونا بالهند وهل هم يعتقدون وجوب نبذ طاعة المملكة».
على أن ما لاقاه من أمثال هذه العقبات لم يثن عزمه عن الغرض الذي أوقف بقية حياته لإتمامه، وهو إنشاء مدرسة كلية إسلامية، فألف - أولا - لجنة سماها «لجنة رأس مال المدرسة الهندية الإنكليزية الإسلامية»، على أن تكون تلك المدرسة في بنارس، ثم أقروا على أن تكون في مدينة علي كده؛ لأنها في وسط العالم الإسلامي هناك، فيسهل قدوم الطلاب إليها من البنجاب والأود والبهار وراجبوتانا وغيرها.
ولكن تأسيس تلك المدرسة لم يكن بالأمر الهين؛ لأن في سبيلها - فضلا عن النفقات الطائلة - عقبة وعرة، هي عقبة التعصب، فقام لمصادرة المشروع جماعة يرون بقاء القديم على قدمه، ويعدون الخروج عنه بدعة، ولكن صاحب الترجمة تصرف بالحكمة والدراية، وعدل في بروغرام المدرسة وقوانينها تعديلا أقنع الجميع أن الغرض منها تعليم المسلمين وتثقيفهم على ما توجبه ديانتهم، وأن التعليم فيها يكون باللغات الشرقية والعلوم الشرقية، وساعده في هذا الجهاد جماعة من رجال الإنكليز المشهورين، فأخذوا في جمع الاكتتاب من مسلمي الهند، فلاقوا مشقة كبرى، فمضت مدة ولم يجتمع من المال ما يقوم بالنفقة اللازمة.
أما السيد أحمد ولجنته فلم ينتظروا اجتماع المال كله مخافة أن تطول المدة فتفتر الهمم مع ما يتخلل ذلك من ضعف الثقة، فتناولوا ما اجتمع لديهم من النقود وأنشئوا به مدرسة صغيرة في علي كده سنة 1875م، وكان إنشاؤها داعيا إلى وثوق الناس في تلك اللجنة ومشروعها، فأقدموا عليه، ولم تمض سنتان أخريان حتى انهالت عليهم الهبات والمساعدات، فأنشئوا المدرسة الكبرى، وهي المدرسة الكلية في علي كده، وظلت المدرسة برئاسة بعض رجال الإنكليز حتى انتقل هو إلى علي كده فصارت إليه، فاستقال من منصبه في القضاء وانقطع إليها منذ عام 1880م، وعكف على التعليم والتأليف والخطابة حتى توفاه الله في مارس سنة 1898م وله من العمر 81 عاما، وقد جلله الشيب فزاده وقارا، ونال كثيرا من علامات الشرف مع لقب سير وألقاب أخرى.
صفاته الشخصية
كان (رحمه الله) عظيما في كل شيء؛ جسما وعقلا وخلقا، كان عظيم الرأس، واضح الملامح، كبير العينين، كبير اللحية، غليظ الشعر - كما يتضح ذلك من النظر إلى رسمه في صدر هذه الترجمة - وكان عظيم الهيبة مع رقة ووداعة، عالي الهمة حازما مقداما، كثير الصبر على المشروعات الوطنية، وما برح إلى آخر نسمة من حياته مستهلكا في خدمة وطنه، ساعيا في تأييد جامعة الإسلام ورفع شأن المسلمين.
ومما ذكره لنا بعض معارفه أنه لما عزم على إنشاء كلية علي كده - المتقدم ذكرها - واحتاج إلى جمع المال، طاف البلاد بنفسه متنقلا من مدينة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، وكانت شهرته قد طارت في الآفاق، فكان إذا نزل مدينة هم أهلها بإعداد الاحتفالات وإيلام الولائم احتفاء به، فكان يقول لهم: «لم آت لآكل ولا لأشرب، وإنما جئت استحثكم على مشروع وطني، فما تنوون إنفاقه على الاحتفال ادفعوه إلي نقدا؛ لأن المدرسة أحوج إليه»، فبلغ مقدار ما جمعه في هذا السبيل 400000 روبية (نحو 700000 فرنك)، أنفقها كلها على المدرسة، وقضى نحو عشرين سنة في خدمتها ليلا ونهارا لا يلتمس أجرا ولا شكورا، وإنما كان ينفق على نفسه من راتب استحقه من خدمته في القضاء، ومقداره 400 روبية في الشهر، وابنه السيد محمود الآن قاضي قضاة المسلمين في مدينة الله أباد .
كلية علي كده
هي أعظم مدرسة كلية إسلامية في الهند، تعلم فيها اللغات الهندية والفارسية والعربية والإنكليزية، عدد أساتذتها نحو خمسة عشر أستاذا، كان في جملتهم صديقنا شمس العلماء الشيخ شبلي النعماني أستاذ العربية فيها، وهو من كبار العلماء المحققين، وعدد تلامذتها نحو 500 تلميذ يفدون إليها من أنحاء الهند؛ بعيدها وقريبها، وهي المدرسة الوحيدة الكبرى التي أنشئت على نفقة الوطنيين، واقتدى بها أهل لاهور منذ بضعة عشر عاما، فأنشئوا مدرسة سموها «مدرسة لجنة حماية الإسلام». وفي كلية علي كده مكتبة نفيسة وجامع، ومطبعة تصدر منها جريدة أسبوعية في اللغتين الأوردية والإنكليزية اسمها (أليكار أنستيتوت غازت)؛ أي جريدة كلية علي كده، ويقدرون نفقات تلك المدرسة بستة آلاف روبية في الشهر.
فالسيد أحمد خان قد مات، ولكن فضله لم يمت، وهيهات أن يغيب ذكره عن أذهان أهل الهند، وبالحقيقة أنهم قدروه حق قدره، فألفوا بعد وفاته جمعية سموها «جمعية إحياء ذكر السيد أحمد خان»، فقررت أن أفضل عمل يحيا به ذكره إنشاء مدرسة جامعة مثل مدرسته الأولى تسمى باسمه، وتجمع لها الأموال من المسلمين في أقطار الهند، وقدروا ما يقتضي لها من ذلك فبلغ نحو نصف مليون جنيه، ولا تزال الجمعية آخذة في هذا المشروع، وفق الله مسعاها!
الجزء
المنشئون وكتاب الجرائد
الفصل التاسع
أديب إسحاق
ترجمته
ولد في دمشق في 21 يناير سنة 1856م، وتلقى مبادئ العلم في مدرسة الآباء العازريين، فتناول شيئا من العربية والإفرنسية، وكان على حداثته ظاهر النباهة ممتازا على أقرانه، وكان أستاذه في العربية يقول لأبيه: «إن ابنك سيكون قوالا»؛ أي شاعرا، ونظم الشعر قبل أن يتجاوز العاشرة، وهو لم يتعلم العروض، واتفق أن أسرته أصيبت بنكبة اضطر هو معها إلى إعالتها، فزايل المدرسة في الحادية عشرة، وتولى الكتابة في الكمرك بمائتي قرش في الشهر، ودرس في أثناء ذلك مبادئ التركية فحصل على الكفاية منها في بضعة أشهر، وأصبح قادرا على التعبير بها عما يجول بخاطره تكلما وكتابة، ثم تمكن منها حتى ترجم قصيدة كمال باشا في مقتل السلطان عبد العزيز، ملتزما فيها الروي والقافية والبحر واللفظ التركي بعينه، وهاك مثالا من الأصل التركي:
دين ودولت خائني برقاج ملاعين يزيد
إيلمشر حضرة عبد العزيز خاني شهيد
وتعريبه:
خيانة للدين وللدولة من قوم يزيد
قتلوا عبد العزيز المرتضى فهو شهيد
ودعت نجابته في التركية ومهارته في الكتابة إلى سرعة ترقيه، ولم يكن ذلك ليشغله عن الأدب والشعر، فكان يغتنم ساعات الفراغ فينظم القصائد والموشحات، ويطالع كتب الإنشاء في العربية والفرنساوية والتركية، ويراسل المجلات الأدبية، وله في السنين الأولى من الجنان عدة مقالات وألغاز، ولم يتم الثانية عشرة من عمره حتى اجتمع من نظمه نحو ألف بيت؛ أكثرها في الغزل والنسيب، وبعضها في المدح والعتاب والرثاء وغيره، وقد تشتت معظمها.
أديب إسحاق 1856م-1885م.
وفي الخامسة عشرة من عمره استقدمه والده إلى بيروت ليعينه في خدمة البريد، فقدم إليها وعرف فيها جماعة من الأدباء والشعراء من شبان تلك المدينة الزاهرة، وله معهم مطارحات ومراسلات في الأدب والشعر تدل على توقد ذهنه وبديهته الشعرية. وكان من فطرته ميالا إلى التكلم باللغة الفصحى.
واضطر بعد برهة أن يعود إلى مهنة الكتابة في كمرك بيروت، وما لبث أن زايلها إلى ما تعلو به الهمم، وقد نزعت به نازعة العلى إلى الاشتغال بفن الكتابة، فتولى تحرير جريدة التقدم بعيد نشأتها الأولى، ولم يمض عليه زمن وهو يكتب المقالات الرنانة حتى تحدث الناس بطلاوة عبارته ورشاقتها وهو لم يتجاوز السابعة عشرة، وترجم في أثناء ذلك قسما من كتاب المعاصرين الفرنساوي لم يطبع، وألف كتابا سماه نزهة الأحداق، طبعه وقدمه إلى أحد وجهاء الثغر، وترجم لصاحب التقدم أيضا كتابا في الأخلاق والعادات، وكتابا صحيا، طبعا - يومئذ - وليس عليهما اسمه.
ثم دخل جمعية زهرة الآداب، وقام فيها عضوا مهما، ثم تولى رئاستها، وكان يلقي فيها الخطب البليغة والمباحثات وينظم القصائد.
وفي سنة 1875م انتدبه سليم أفندي شحادة لمشاركته مع المرحوم سليم الخوري في إنشاء آثار الأدهار، فاشتغل بذلك عاما وبعض العام، وعرب في خلال ذلك رواية أندروماك، عن راسين الشاعر الفرنساوي؛ إجابة لطلب قنصل فرنسا يومئذ، فترجمها ونظم أشعارها ورتب ألحانها وعلم أدوارها في مدى ثلاثين ليلة، فمثلها البنات اليتامى فجمعوا من ريعها 35000 قرش.
ثم شاركه صديقه المرحوم سليم نقاش في تأليف بعض الروايات وتعريب البعض الآخر، ولم يلبث أن شخص بإشارته إلى الإسكندرية، وهناك نقح رواية أندروماك، وعرب رواية شارلمان، وألف رواية ثالثة سماها غرائب الاتفاق، سرقت في جملة ما سرق من آثاره من بيته في الحدث، وقد مثلت هذه الروايات في الإسكندرية مرارا، وكان لها وقع عظيم، فنزعت به نفسه إلى ما هو أسمى من ذلك، وهو ما أعدته له يد الأقدار، فجاء القاهرة وفيها - يومئذ - المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني، فلزم حلقته وأخذ عنه دروسا في الفلسفة الأدبية والعقلية والمنطق، فتاقت نفسه إلى إنشاء جريدة عربية، فأنشأها في مصر وسماها «مصر»، وأصدرها حالا ولم يكن عنده من معداتها إلا عشرون فرنكا، ولكنها لم تكد تظهر حتى أعجب الناس بها، وتسابقوا إلى اقتنائها وكلهم معجبون بطلاوة إنشائها وبلاغتها، فنقلها إلى الإسكندرية، واشترك في تحريرها مع المرحوم سليم نقاش، فلقيت نجاحا عظيما، وطارت شهرتها في الآفاق، وكثر مريدوها، وأصبح الناس يتحدثون بعبارة أديب ومزاياها، ويحفظون أقواله كما يحفظون الحكم والأمثال؛ لما حوته من بلاغة التركيب والتطبيق بين الأسلوب الإفرنجي والعربي، فتنشطا وأنشآ جريدة أخرى يومية سمياها «التجارة»، وظلت «مصر» أسبوعية، وكانتا من أعظم أركان النهضة الإنشائية في الجرائد، وتحداهما الكتاب ونسجوا على منوالهما من أساليب التحرير البسيط الخالي من التعقيد أو التقييد، فأحدث ذلك حركة في الأفكار وحرية في الأقوال لم تكن معروفة من قبل، فأصدرت الحكومة أمرها بإلغائهما جميعا.
فغادر صاحب الترجمة الإسكندرية إلى باريس، وأعاد فيها جريدة مصر، لا يبالي بما يتهدد في سبيل ذلك من الخطر على حياته، وسماها «القاهرة»، وكتب فيها فصولا متناهية في البلاغة، وألف هناك أيضا كتابا في تراجم رجال مصر في هذا العصر، سرق أيضا في جملة ما سرق، وعرف في باريس عدة من رجال الأقلام من الفرنساويين والأتراك، ولقي جماعة من رجال السياسة، وحضر في مجلس النواب جلسات كثيرة، فزادته خطب البلغاء إقداما على الخطابة، وطالع كثيرا من المخطوطات العربية في مكتبة باريس، وكانت صحته قد تعرضت للمؤثرات؛ لنحافة بدنه بالنظر إلى سرعة نمائه بدنا وعقلا مع إجهاد عقله فيما تتطلبه نفسه من المطالب العالية رغم ما كان في سبيله من العقبات، فلما نزل باريس كان بردها قارسا جدا في ذلك العام، ولم يكن مهتما بصحته، فأصيب هناك بعلة الصدر، وتألم منها مدة الشتاء، وعاد إلى بيروت مصدورا، فعهد إليه صاحب التقدم بتحرير جريدته، فتولى تحريرها للمرة الثانية، وأقام على ذلك نحو سنة.
فلما انقلبت الوزارة المصرية أواخر عام 1881م عاد إلى مصر، فودعه أصدقاؤه آسفين على فراقه، ثم جاء القاهرة فعين ناظرا لقلم الإنشاء والترجمة بنظارة المعارف، وأذنت له الحكومة في إصدار جريدة مصر، فأصدرها في شكل كراس، ثم أعادها إلى مظهرها الأول، وعين - في الوقت نفسه - سكرتيرا لمجلس النواب، ونال في خلال ذلك الرتبة الثالثة، ثم أحال امتياز الجريدة إلى شقيقه ليتفرغ لمهام منصبه، وظل مع ذلك يحرر القسم الأكبر منها.
ولما طرأت الحوادث العسكرية بمصر عاد أديب إلى بيروت فيمنهاجر إلى القطر السوري، وبعد احتلال الإنكليز إسكندرية عاد إليها مرة أخرى في التماس شأنه الأول، فلم يحصل عليه، وأبعد إلى بيروت بعد أن أوقف في السجن بضع ساعات، نظم في خلالها أبياتا ذيل بها قصيدة في مدح سلطان باشا.
وتولى في بيروت تحرير التقدم للمرة الثالثة، وطبع في خلال ذلك رواية الباريسية الحسناء، وكان قد عربها في أيام الصبا، وهي مشهورة، ثم اشتدت عليه علة الصدر فأشار عليه الأطباء بالذهاب إلى مصر للاستشفاء بهوائها، فاستأذن من المغفور له الخديوي السابق فأذن له، فأتاها وأقام فيها أياما، ثم عاد إلى الإسكندرية، قضى بضعة أيام في الرمل، فلم ير فائدة فعاد إلى بيروت وانصرف توا إلى مصيفه في الحدث بلبنان، ولم تمض على عودته ثلاثين يوما حتى توفاه الله سنة 1885م وله من العمر تسعة وعشرون عاما.
صفاته وأعماله
كان (رحمه الله ) طويل القامة والعنق، مع انحناء قليل، أبيض اللون براق العينين، عريض الجبهة بارزها، جهوري الصوت طلق اللسان، ثبت الجنان لطيف الحديث، ذكيا نبيها جريئا مقداما، حاد الذهن، أبي النفس، سليم القلب، وقد أبنه الخطباء فعددوا مناقبه ووصفوا قلمه، ورثاه الشعراء والكتاب، وقد جمعت أقوالهم في مقدمة كتاب الدرر الذي جمعوا فيه منتخبات أقواله.
واشتهر (رحمه الله) خصوصا في الخطابة والإنشاء، فإذا خطب تدفق السيل يهتز له المنبر، وتنقاد إليه الكمات آخذة بعضها برقاب بعض، وإذا كتب سحر الألباب بحسن البيان مع السلامة والبلاغة، وكان قدوة المنشئين وعمدة الكتاب، ولو أمد الله بعمره لخدم الأوطان خدمات قل أن يستطيع الناس مثلها.
وكان مع ذلك شاعرا بليغا، نظم القصائد الرنانة، في جملتها قصيدة طويلة نظمها بعد حوادث مصر سنة 1882م، وصف فيها تلك الحوادث أحسن وصف، وهي طويلة؛ إليك مقتطفات منها:
عج بي على تلك الطلول وناد
أنى تحمل أهل هذا النادي
يا وارد الإسكندرية طامعا
بمنافع الإصدار والإيراد
أقصورها خفيت عن الأنظار أم
آثار لقصر في القفار بواد
أم تدمر قد دمرت وعمورة
ما عمرت أم دار ذي الأوتاد
فأبادها جهل خفي ما بدا
مثل له من حاضر أو باد
جهل الذي رام الأماني وهي في
قمم الجبال وكان دون الوادي
شقيت بزلته الجموع وطالما
أشقت جموعا زلة الأفراد
وتلاه في سبل الغواية معشر
زلوا وضلوا حيث ضل الهادي
فأتاهم رعد المدافع مبرقا
فنبوا عن الإبراق والإرعاد
يا هولها من ساعة مرت بما
زهقت به الأرواح في الأجساد
كم حامل خرجت به محمولة
فوق الكواهل أو على الأعواد
ومصونة نفسا تقول لصحبها
يا ليتني قدمت قبل ولادي
ومبأبأ يدميه لمس حريره
طفل قريب العهد بالميلاد
ومعمر لم يبق في الدنيا له
غير السكينة من منى ومراد
والنار موقدة سرت من خلفهم
فكأنها حيات بطن الوادي
والجند شردهم فنال عدوهم
فرقا فلم يتجلدوا لجلاد
ونضوا على أهل السبيل بواترا
في الحرب ما نضيت من الأغماد
وبلادهم قد نالها من عارهم
ما لم يحق في عهدنا ببلاد
ومنها في التخلص:
عيبت فلولا السابقون ومجدهم
وبقاء من ولدوا من الأمجاد
ومؤيد ملك أمير عادل
أربى بمفرده على الأعداد
وعصابة كانت قلائد فصلهم
أبهى من الأطواق في الأجياد
لم تلق في مصر ومصر عزيزة
من قائل هذه البلاد بلادي
وله رسائل كثيرة تدل على حسن بيانه في مخاطبة الأصدقاء، قد نشر بعضها في جملة منتخباته في الدرر، وبلغنا أن شقيقه عوني بك إسحاق سيطبع الدرر ثانية ويضيف إليها كثيرا مما فاتهم في الطبعة الأولى، جزاه الله خيرا!
الفصل العاشر
أحمد فارس الشدياق
ترجمة حياته
هو فارس بن يوسف بن منصور بن جعفر، شقيق بطرس الملقب بالشدياق، من سلالة المقدم رعد بن المقدم خاطر الحصروني الماروني، الذي تولى جبل كسروان في سورية سبعا وثلاثين سنة في أوائل القرن السابع عشر للميلاد.
ولد في عشقوت من أعمال لبنان سنة 1804م، ثم انتقل والداه إلى الحدث بلبنان سنة 1809م، فربي فيها وقد ظهرت عليه مخائل النجابة منذ نعومة أظفاره، فتعلم القراءة في مدرسة عين ورقة بلبنان، وتناول شيئا من اللغة والنحو على يد أخيه أسعد، وبدأ بنظم الشعر وهو في حدود العاشرة، وكان فيه ميل غريزي لقراءة الكلام الفصيح، والتبحر في معاني الألفاظ الغريبة التي يعثر عليها فيما يقرؤه من الكتب التي في مكتبة والده؛ لأن والده كان قد أحرز كتبا عديدة في فنون مختلفة، ثم توفي والده وهو صبي، فأصبح يتيما، فعلم أنه يجب عليه أن يعتمد على نفسه في التعيش، فأتقن صناعة الخط، وجعل ينسخ الكتب لنفسه أو لغيره بالأجرة، ولكنه لم ير فيها فائدة تذكر، وكانت نفسه تحدثه من ذلك الحين بالأسفار والجد في طلب العلى، ولم يكن يرى فيما حوله ما ينشطه على ذلك وينهض به من حضيض الفقر؛ لقلة الوسائل واستبداد القوي بالضعيف.
أحمد فارس الشدياق 1801م-1887م.
قلنا إنه تلقى بعض العلم عن أخيه أسعد، وكان أخوه هذا نابغة عصره ذكاء وفطنة، فاتفق أنه خلع مذهب والديه وتمذهب بالمذهب الإنجيلي، فغضب عليه البطريرك، وما زال يتهدده ويسومه العذاب ألوانا حتى يرجع عن رأيه، فلم يزدد إلا تمسكا وإصرارا إلى أن آل ذلك إلى موته بدير قنوبين في عنفوان شبابه شر موتة، ولا يزال أهل سورية ولبنان يتحدثون بقصته إلى هذه الغاية.
وكان صاحب الترجمة شديد التعلق بأخيه هذا، فعظم عليه أمره حتى كره الإقامة في بلاد الشام جملة، فغادرها ناقما عليها وعلى الذين كانوا سببا في موت أخيه أسعد، وطلب الاغتراب فجاء الديار المصرية في عهد المغفور له محمد علي باشا، وكان مجيئه إليها بصفة أستاذ للمرسلين الأميركان لتعليم اللغة العربية وقواعدها وأشياء أخرى، وقد أرسله لذلك المرسلون الأميركان ببيروت؛ لأنهم شعروا بأن موت أخيه أسعد إنما كان دفاعا عن مذهبهم، وكان أسعد مضطهدا من أكثر أعضاء عائلته إلا جماعة منهم لم يكونوا يستطيعون المجاهرة في الدفاع عنه؛ خوفا من سطوة الحكام؛ لأنهم كانوا موافقين للإكليروس بما أتوه بشأن المرحوم أسعد، أما فارس فإنه لم يكن يكتم ما في نفسه من استصواب عمل أخيه، فأصبح في خطر على حياته، فحماه الأميركان ثم أرسلوه إلى مصر - كما قدمنا.
ولبث في مصر بين تعليم وتعلم حتى أتم دروسه في العلوم العربية وغيرها، وقد قرأ بعضها على الفاضلين نصر الله أفندي الطرابلسي الحلبي والشيخ محمد شهاب الدين، وطالع كتاب صحاح الجوهري وديوان المتنبي وغيرهما من كتب اللغة والأدب، وكان كثير الرغبة في قراءة الشروح التي تبين مآخذ الكلام من اللغة، شديد الولع بالشعر ونظمه، فخاض عبابه حتى بلغ منه مبلغا عظيما، ونظم شيئا كثيرا بين غزل وحماسة ومدح وهجاء، وتمكن من سائر علوم اللغة؛ كالنحو والصرف والاشتقاق والمنطق، وتقرب من خيرة علماء المصريين ومعية عزيز مصر حتى تولى كتابة الوقائع المصرية، وكانت أول نشأتها تكتب باللغة التركية فقط، فكتب فيها زمنا بالعربية.
وتعرف في مصر بعائلة الصولي من وجهاء السوريين، فصاهرهم وولدت له امرأته هذه ولدين؛ هما فائز وسليم، أما الأول فتوفي بعد ذلك في ضواحي لندرا أثناء إقامته فيها - كما سيجيء - وبقي سليم وحيدا، وهو سليم أفندي فارس نزيل بلاد الإنكليز.
وفي سنة 1834م سافر إلى جزيرة مالطة، وأقام فيها زهاء أربع عشرة سنة يدرس في مدارس المرسلين الأميركان، وقد تولى تصحيح ما يطبع في مطبعتهم هناك، وأخذ في التأليف والتصنيف، ولا يكاد يوجد كتاب مطبوع في مطبعة مالطة إلا كان هو مؤلفه أو مترجمه أو مصححه؛ ومن جملة ما ألفه كتاب للتدريس، وآخر سماه «الواسطة في معرفة أحوال مالطة»، لم يغادر شيئا عن تلك الجزيرة وسكانها إلا أبانه وانتقده فيه.
وفي سنة 1848م بعثت جمعية ترجمة التوراة في لندرا تطلبه من حاكم مالطة على يد وزير خارجيتها للمساعدة في ترجمة التوراة إلى العربية، وكانت هذه الجمعية قد عهدت بترجمتها إلى الدكتور لي، فبعثت إلى صاحب الترجمة لتنقيحها وضبطها، فسار إلى لندرا، ومر في طريقه بمدن كثيرة من أوروبا، ثم عاد بعد انتهاء الترجمة إلى باريس، أقام فيها زمنا، وقد كتب سياحته هذه في كتاب سماه «كشف المخبا في أحوال أوروبا»، وصف به تلك البلاد وصفا دقيقا بعبارة رقيقة تأخذ بمجامع القلوب، لا يمل القارئ من قراءتها، فضلا عما يستفيده منها عن أحوال أمم أوروبا؛ وخصوصا لندرا، وأخلاق أهلها وعلومهم وآثارهم وكل ما يتعلق بهم، أما باريس فأوجز في وصفها اعتمادا على ما كان قد كتبه عنها العلامة المرحوم رفاعة بك الشهير، وقد طبع كشف المخبا الطبعة الأولى في تونس، والثانية في الآستانة سنة 1299ه، وهي مشهورة ومتداولة، وألف أثناء سياحته هذه أيضا كتابا سماه «الساق على الساق فيما هو الفارياق»؛ والفارياق لفظ مقتطع من اسمه (فارس الشدياق) - وسيأتي وصف هذا الكتاب عند الكلام من مؤلفاته.
قضى في سياحته هذه بضع عشرة سنة متجولا في أنحاء أوروبا، يتردد إلى مالطة، وهو لم يغير شيئا من لباسه التركي، ولا بدل طربوشه، على أنه أتقن أثناء ذلك أيضا اللغة الإنكليزية، وتعلم الفرنساوية، وتزوج سيدة إنكليزية لم تلد له أولادا، ونال الحماية الإنكليزية بعد سعي؛ لأنهم لم يكونوا يمنحونها إلا لمن استحقها، ولا تتوقف على مدة سني الإقامة، فنالها وحلف اليمين المتعلقة بها؛ وهاك نص بعضها:
أنا فلان أعد وأقسم صادقا بأني أكون أمينا ومخلصا في الطاعة لجلالة الملكة فيكتوريا، وأحامي عنها بغاية جهدي وطاقتي ضد جميع من يتحالف عليها أو يهم بسوء عليها؛ سواء كان على شخصها أو تاجها أو شرفها، وأبذل غاية جهدي في أن أكشف لجلالتها ولورثتها ولمن يخلفها جميع الخيانات والخائنين والمتغاوين عليها أو عليهم، وأعد بأمانة أني أبذل غاية استطاعتي في أن أحفظ وأسند وأجير خلافة التاج المعبر عنه في الأحكام بحكم كذا. ... إلخ.
واتفق في غضون ذلك أن أحمد باشا باي ولاية تونس إذ ذاك زار مدينة باريس، وفرق على فقراء مرسيليا وباريس وغيرهما أموالا طائلة، ثم رجع إلى مقامه، فنظم صاحب الترجمة قصيدة يمتدحه بها، وبعثها على يد من بلغها إليه، فحازت حسن قبوله وفتن الباي بها، حتى بعث إليه يستقدمه على سفينة حربية، وقد عجب صاحب الترجمة لتلك الدعوة وذلك الإكرام وقال: «لعمري، ما كنت أحسب أن الدهر ترك للشعر سوقا ينفق فيها، ولكن إذا أراد الله بعبد خيرا لم يعقه عنه الشعر ولا غيره!» فجاء تونس وأقام فيها مدة على الرحب والسعة، وحرر في جريدة الرائد التونسي، وهي جريدتهم الرسمية إلى الآن.
وكان في أثناء إقامته بباريس قد نظم قصيدة امتدح بها المغفور له السلطان عبد المجيد على أثر الحرب بين الدولة العلية والروسية (1270)، وبعث بها على يد سفير الدولة العلية بباريس، والقصيدة تزيد أبياتها على المائة والثلاثين، نكتفي منها بما يأتي مثالا لما جادت به قريحة المترجم من النظم:
قال في مطلعها:
الحق يعلو والصلاح يعمر
والزور يمحق والفساد يدمر
ومنها:
يا مؤمنون هو الجهاد فبادروا
متطوعين إليه حتى تؤجروا
ومنها:
في لن تنالوا البر حتى تنفقوا
مما تحبون الدليل الأظهر
وتمسكوا بالعروة الوثقى من الص
بر الجميل على القتال وذمروا
يغنيكم التكبير والتهليل عن
أن تعملوا فيهم سلاحا يبتر
ومنها:
لو لم يكن منكم سوى نفر لما
غلبوا فكيف بكم وأنتم أكثر
ومنها:
أنتم عباد الله حقا فاعبدوا
للدين فهو بكم يعز ويجبر
ومنها :
ما أن يقاويكم بهم من عسكر
لو أن ملء الأرض طرا عسكر
قد قال في الذكر المفصل ربكم
حقا علينا نصرهم فتذكروا
ومنها:
غاروا على حرم مخدرة لكم
قد طالما أحصن عمن يعهر
الصبر محمود ولكن حين تن
تهك المحارم لا أرى أن تصبروا
ومنها:
والله قد وعد المجاهد منكم
فتحا مبينا في الكتاب فأبشروا
ويبوئ الشهداء خير مبوء
جنات عدن ملكها لا يغبر
الحرب بينكم سجال فاثبتوا
والنصر عقبى أمركم فاستبشروا
ومنها:
ولعل نسرهم المدوم واقع
فمن الهلال علاه ضوء يبهر
ومنها:
من كان من بين الورى سلط
انه عبد المجيد فإنه لمظفر
ومنها:
كفر المبايع غيره والمعتدي
بغيا وطغيانا عليه أكفر
ومنها:
من جوهر الإخلاص صور ذاته
رب قدير كيف شاء يصور
ولاه أمر الدين والدنيا معا
فهو الإمام الحاكم المتأمر
ومنها:
وهو الذي بين العباد محبب
ومعظم ومبجل ومعزز
يستدفعون الضر فيهم باسمه
وعلى المنابر حمده المتكرر
ومنها:
إيه أمير المؤمنين ومن دعا
إيه أمير المؤمنين فقد سروا
سد بالمعالي فائقا كل الورى
مجدا وشانئك البغيض الأبتر
ومنها:
ليست فروق لغير عرشك وهي ما
بقيت عن الفرقان ليست تقفر
أنت الذي بمديح وصفك تنجلي
عنا الهموم وأفقنا يتعطر
وقال في ختامها:
حرس الإله جنابك الأعلى ولا
زالت عبادك في حماه تخفر
وأدام دولتك العلية ما سرى
نجم وما زخرت كجودك أبحر
أنشدت تاريخين هجريين في
ختمي مديحك وهو حظي الأوفر
عبد المجيد الله أزكى ضده
سلطاننا خير بجد ينصر
وكان لهذه القصيدة وقع حسن لدى الجلالة الشاهانية، فورد عليه بسببها إيعاز بالقدوم إلى الآستانة لمكافأته، وكان قد هم بالمسير فحبب إليه بعض الصدور العظام الإقامة في تونس، فسار إليها - كما تقدم - ووجه إليه حضرة الباي أحسن منصب لديه، وهناك اعتنق الديانة الإسلامية على يد شيخ الإسلام، وسمي أحمد، فصار اسمه أحمد فارس الشدياق، وأخذ صيته ينتشر في سائر الأنحاء الإسلامية؛ وخصوصا الآستانة العلية، فطلبته الصدارة العظمى من الباي، فقدم إلى الآستانة وتولى تصحيح الطباعة العامرة بضع سنوات .
وفي سنة 1277ه، أنشأ جريدة الجوائب الشهيرة في الآستانة، وأجاد في إنشائها وسبكها، فولع الناس بمطالعتها، وذاع صيتها في الآفاق الشرقية، فبلغت الهند وفارس والعراق وسائر بلاد العرب ومصر والشام والمغرب، وأجاد في إتقانها، حتى لم يغادر أسلوبا من أساليب الكتابة لم يطرقه؛ بين لغة وسياسة ومدح ورثاء وجد وهزل ولوم وعتاب وحزن وطرب وسائر فنون الأدب، فضلا عن القصائد الرنانة والمقالات العديدة في العلم والأخلاق - كما تراه محفوظا في «منتخبات الجوائب».
ولم تنحصر منزلة الجوائب في المشرق، ولكنها دخلت المغرب حتى كانت جرائد باريس ولندرا تأتي بذكرها وذكر محررها في الكلام عن سياسة الشرق، مستشهدة بأقواله، وكانت تلقبه بالسياسي الشهير والإخباري الطائر الصيت، وقد خاطبه الملوك والأمراء والعظماء في سائر أقطار العالم، ووجدوا بين أوراقه بعد وفاته مئات من الكتب واردة عليه من عظماء العالم وملوكهم.
وقد نال الالتفات الشاهاني بنوع خاص، فأنعم عليه بالرتب والنياشين، ونال مثل ذلك أيضا من الدول الأخرى.
وما زال عاملا على التأليف والتحرير إلى أواخر أيامه، فعهد بتحرير الجوائب إلى ولده سليم أفندي فارس، فقام بذلك خير قيام إلى أن قضت الحوادث بعطلتها سنة 1884م على أثر الحوادث السودانية في الديار المصرية.
وفي سنة 1886م، قدم صاحب الترجمة إلى هذه الديار، وقد شاخ وهرم وأتيح لنا مشاهدته وقد علاه الكبر، وأحدق بحدقتيه قوس الأشياخ، واحدودب ظهره، ولكنه لم يفقد شيئا من الانتباه أو الذكاء، وكان إلى آخر أيامه حلو الحديث، طلي العبارة، رقيق الجانب، مع ميل إلى المجون.
وقد لاقى أثناء إقامته بمصر هذه المرة حسن الوفادة، فزاره الوزراء والعظماء، وتشرف بالمثول بين يدي المغفور له الخديوي السابق، فأكرمه ولاطفه وذكر خدمته للشرق.
ثم عاد إلى الآستانة العلية، وأقام هناك حتى وافته المنية، وقد شبع من الأيام، فتوفي في مصيفه بقادي كوي، وكان لوفاته في الآستانة رنة ودوي، فرثاه الكبراء والعظماء، وبعثت الحضرة السلطانية سماحتلو رشادتلو الشيخ محمد ظافر أفندي لحضور الاحتفال، ونقلت جثته إلى سورية عملا بوصايته قبل وفاته، ودفنت في سفح لبنان في محلة الحازمية قرب مدينة بيروت.
وكان لتشييع جنازته في بيروت احتفال شائق، مشى فيه كبار المأمورين وأعيان البلاد وعلماؤها وأفاضلها، إلى أن واروه التراب واستمطروا عليه صيب الرحمة والرضوان.
وترى في صدر هذه المقالة رسمه منقولا عن أصل فوتوغرافي دقيق الصنعة، وهو آخر رسم نقل عنه على ما نعلم، وترى فيه ظواهر الشيخوخة واضحة، ولكنها كانت أوضح كثيرا عند قدومه القاهرة المرة الأخيرة، وكان (رحمه الله) ربع القامة، كبير الأنف، واسع العينين مع بروز وحدة، وكان طلي الحديث مع ميل إلى المجون، وترى هذه الصفة واضحة كل الوضوح فيما كتبه، فإن من يطالع كتبه يتحقق ذلك فيها.
وقد رثته الجرائد على اختلاف لغاتها ونزعاتها، وأبنه العلماء والأمراء، ورثاه الشعراء في أنحاء المملكة العثمانية؛ وخصوصا في مصر وسورية، وقد عني بجمع تلك المراثي من نظم ونثر حضرة يوسف أفندي آصاف، صاحب جريدة المحاكم، وطبعها في مطبعة المحروسة في كتاب سماه «هو الباقي»، وقد علمنا أنه وردت كتابات أخرى في رثائه بعد أن تم طبع المجموعة، وبالحقيقة أن الرثاء وإن كثر قليل في جانب ما يليق بمقام هذا الفقيد.
مؤلفاته
ويجمل بنا - قبل الشروع في وصف مؤلفاته - أن نصف قلمه؛ أي أن ننظر في مؤلفاته نظرا عاما، ونذكر ما اختص به من أوصاف الكتاب، فنقول:
امتاز المترجم بإتقان فني النظم والنثر والإجادة في كليهما، فتراه إذا نظم أو نثر إنما يفعل ذلك عن سعة وارتياح، كأنه وعى ألفاظ اللغة في صدره، وأخذ عليها عهدا أن تأتيه صاغرة حالما يحتاج إليها، فإذا خطر له معنى سبكه في قالب من اللفظ لائق به، بغير أن يتكلف في ذلك مشقة أو ترددا، فترى كتاباته طلية طبيعية ليس فيها شيء من التكلف أو التقعر، على كونها بليغة فصيحة؛ والسبب في ذلك حدة ذهنه، وقوة ذاكرته، وسعة اطلاعه، وكثرة محفوظه، مع حرية قلمه، وكان يطلق لقلمه العنان غير محاذر، وأظنه السبب فيما نراه ببعض مؤلفاته من المجون الذي تنفر منه طباعنا وتمجه أذواقنا، على أن المجون إذا لم يتجاوز حده كان أحماضا، أو هو بمثابة الملح للطعام، وذلك كثير في كتابات المترجم مما يرغب المطالع في المطالعة، فلا يمل منها وإن طالت.
ومن خصائص كتابة الشيخ أحمد فارس السلاسة، وارتباط المعاني بعضها ببعض، وانتساقها مع التوسع في التعبير، وتتبع الموضوع إلى جزئياته مع مراعاة الموضوع الأصلي والعود إليه، وترى ذلك واضحا في كتابه كشف المخبا، فإذا أراد وصف عادة من عادات أهل باريس - مثلا - فإنه يتطرق منها إلى ما يماثلها من عادات العرب أو الأتراك، فيذكر وجه الخطأ هنا أو هناك، وما هو سبب هذه العادة، وربما جاء بتاريخها ومن جاء بها، حتى يخال لك أنه خرج عن الموضوع، ثم لا تشعر إلا وقد عاد بك إليه بغير تكلف، وكل ذلك بغاية السلاسة والطلاوة مع البلاغة، وترى في مؤلفاته كثيرا من الألفاظ العربية، جاء بها للتعبير عن معان حديثة إفرنجية لم تكن عند العرب، وهي في الغالب تدل على حسن اختياره.
ومن الأدلة على اقتداره في التعبير أنه مغال، فإذا مدح بلغ ممدوحه عنان السماء، وإذا هجا أنزل مهجوه دركات الجحيم، وترى كتاباته - على بلاغتها وحسن سبكها - تتجلى فيها البساطة والسهولة، كأن كاتبها كان يكتب كل ما يمر بذهنه على غير تكلف أو مراعاة لخطة الكتاب قبله، وهو استقلال في الرأي، واعتماد على النفس؛ فمن ذلك في بداية فصل يصف به مصر في كتاب الفارياق قوله: «قد قمت حامدا لله شاكرا، فأين القلم والدواة حتى أصف هذه المدينة السعيدة الجديرة بالمدح إلخ ...»، وفي هذا الأسلوب من الطلاوة ما لا يخفى، ولكل مقام مقال.
فلنشرع إذن في وصف مؤلفاته: (1)
سر الليال في القلب والإبدال:
وهو كتاب لغوي تحليلي، كتبه في الآستانة العلية لثلاثة مقاصد؛ أولا: لسرد الأفعال والأسماء التي هي أكثر تداولا وأشهر استعمالا، وتنسيقها بالنظر إلى التلفظ بها لإيضاح تناسبها وإبداء تجانسها، وكشف أسرار معانيها وأصل مدلولاتها، ثانيا: استدراك ما فات صاحب القاموس من لفظ أو مثل أو إيضاح عبارة أو نسق مادة، والكتاب يشتمل على نحو ستمائة صفحة بقطع كبير، طبع بالآستانة سنة 1284ه. (2)
الساق على الساق فيما هو الفارياق:
وقد تقدم ذكر هذا الكتاب في ترجمة حياته، وهو كبير الحجم، يشتمل على نحو ثمانمائة صفحة كبيرة، كتبه أثناء سياحته في أوروبا، ويظهر لمن طالعه أن مؤلفه أراد به ثلاثة أمور:
الأول:
وصف أسفاره وأحواله الخصوصية، وما قاساه في أوائل حياته،
والثاني:
التنديد بجماعة من الإكليروس، لم يذكر أسماءهم إلا رمزا، وتقبيح ما ارتكبوه في مقتل أخيه أسعد،
وأما الأمر الثالث وهو الأهم:
فهو إيراد الألفاظ المترادفة في اللغة في مجموعات، كل موضوع على حدة؛ كأسماء الآلات والأدوات وأصناف المأكول والمشروب والمشموم والمفروش والمركوب والحلي والجواهر، وأوصاف الرجال والنساء، وغير ذلك مما لا يتيسر وجوده في كتاب واحد، وعلى أسلوب لم نشاهد مثله في العربية.
على أننا لا نستطيع الانتقال من وصف كتاب الفارياق قبل الإشارة إلى أمر وددنا لو كفانا (رحمه الله) مئونة النظر فيه؛ وذلك أنه أورد في ذلك الكتاب ألفاظا وعبارات أراد بها المجون، ولكنها تجاوزت حدوده حتى لا يتلوها أديب إلا ود لو أنها لم تمر في ذهن شيخنا، ولا دونها في كتابه؛ تنزيها لأقلام الكتاب عما يخجل من قراءته الشاب فضلا عن العذراء، وقد طبع الفارياق في باريس سنة 1270ه. (3)
الجاسوس على القاموس:
ألفه في الآستانة ينتقد فيه معجم القاموس المحيط للفيروزآبادي، وهو يشتمل على مقدمة وأربعة وعشرين نقدا؛ أما المقدمة فهي ملاحظات كثيرة لغوية، من جملتها ترتيب الأفعال بحسب ما نسقه الكوفيون، ثم ترجمة صاحب القاموس وصاحب العباب وصاحب الصحاح وصاحب المحكم وصاحب لسان العرب، وهم من فطاحل علماء اللغة، أما الأربعة والعشرون نقدا، فهي انتقاده ما ورد في القاموس من عبارته وخطته ومعاني ألفاظه واشتقاقها وما شاكل ذلك، وعدد صفحات الكتاب زهاء سبعمائة صفحة. (4)
كشف المخبا عن فنون أوروبا:
وهو سياحته في أوروبا، وصف فيه عوائد أهل أوروبا؛ وخصوصا الإنكليز والفرنساويين، ومتاحف لندرا وباريس وآثارهما، وقد قال إنه اختصر في وصف باريس؛ لأن المرحوم رفاعة بك قد سبقه إلى وصفها مطولا، وقد طبع هذا الكتاب غير مرة. (5)
الواسطة في أحوال مالطة:
وفيه وصف جزيرة مالطة جغرافيا وتاريخيا ومدنيا، وعوائد أهلها وأخلاقهم ولغاتهم، وكل ما يتعلق بهم. (6)
اللفيف في كل معنى ظريف:
جمع فيه كلمات مفيدة، وحكما مأثورة، وأمثالا أدبية، وحكايات تهذيبية، ونكاتا لغوية. (7)
غنية الطالب ومنية الراغب:
وهو كتاب مدرسي في علم الصرف والنحو. (8)
الباكورة الشهية في نحو اللغة الإنكليزية وتليها المحاورة الأنسية في اللغتين العربية والإنكليزية:
وهو كتاب مدرسي لتعليم اللغة الإنكليزية. (9)
السند الراوي في الصرف الفرنساوي:
وهو كتاب لتعليم اللغة الفرنساوية.
هذا عدا جريدة الجوائب التي حررها زهاء ثلاثين سنة، وقد تقدم ذكرها في ترجمة حاله، وجمع نجله سليم أفندي فارس نخبا منها في كتب سماها منتخبات الجوائب.
وهناك كتب ألفها ولم تطبع؛ منها كتاب النفائس في إنشاء أحمد فارس، والتقنيع في علم البديع، والروض الناضر في أبيات ونوادر، وتليه رسائل ومحررات أدبية، وديوان شعري من نظمه يشتمل على اثنين وعشرين ألف بيت.
وقد ألف كتابا مطولا في اللغة سماه «منتهى العجب في خصائص لغة العرب»، قضى في تأليفه سنين عديدة، نحا فيه نحوا حديثا لم يسبقه إليه غيره على أسلوبه، وقد أسهب فيه حتى بلغ مجلدات كثيرة، وموضوعه البحث في خصائص الحروف الهجائية العربية؛ مثال ذلك قوله إن من خصائص حرف الحاء السعة والانبساط؛ أي أن الألفاظ التي تنتهي بحرف الحاء يكون في معناها شيء من خصائص هذا الحرف؛ نحو الابتحاح والبندح والبراح والأبطح والإبلنداح والحج والرحرح والمسفوح والمفرطح والمسطح ... وما شاكل.
ومن خصائص حرف الدال اللين والنعومة والغضاضة؛ نحو البرخداة والتيد والثأد والخود والرادة والرهادة والفرهد والأملود والقشدة والملد وغيرها، ومن خصائص حرف الميم القطع والاستئصال والكسر؛ نحو إرم وترم وجزم وجلم وخسم وحطم وما جرى مجراها، وقس عليها.
ولو نظرنا فيما أورده من الأمثال لرأينا منه تساهلا في تطبيقها على ما أراده، على أننا لا ننكر ما كان يرجى منه من الفوائد الجزيلة لو طبع الكتاب ونشر، ولكنه فقد حرقا على أثر حريق أصاب منزله في الآستانة ؛ فأسف هو لذلك أسفا شديدا. وأخبرنا صديق أنه رأى بين أوراق الشيخ أحمد فارس تآليف في تراجم مشاهير العصر لم يطبع، وربما كان له مؤلفات أخرى لم نقف على خبرها.
وما لا يليق بنا الإغضاء عنه أن مطبعة الجوائب طبعت كتبا عربية كثيرة كانت نادرة الوجود، فأحيتها ونشرتها بين المتكلمين بالعربية، وسهلت تناولها، وهي مأثرة حسنة تضاف إلى مآثره الأخرى.
الفصل الحادي عشر
محمد نامق كمال بك
أكتب كتاب الأتراك وأشعر شعرائهم في القرن الماضي
هذه الترجمة ملخصة من رسالة كتبها رفيق صباه صاحب السعادة أبو الضيا توفيق بك الكاتب التركي:
ولد كمال بك - المشار إليه - في قصبة (تكفور طاغي) سنة 1256ه، وكان جده (أبو أمه) محصلا هناك، والمحصل لقب لمنصب قديم في الدولة يقابله في الفرنساوية (Percepteur) ، فأرخ عارف أفندي - أحد شعراء تلك الأيام - مولده بهذا المصراع: «ايردي شرف بودهره محمد كمال ايله»، ومعناه بالعربية: «فقد تشرف هذا الدهر بمولد محمد كمال.» وقد تسلسل كمال بك من بيت عريق في الحسب والنسب؛ فوالده مصطفى عاصم بك، وجده شمس الدين بك، القرين الأول لجلالة السلطان سليم الثالث، ووالد جده القبطان أحمد راتب باشا من نوابغ الشعراء، ووالد هذا طوبال عثمان باشا الصدر الأعظم المشهور.
ومن أقوال صاحب الترجمة في فضل النسب: «إن مزايا الحسب والنسب من الأمور التي لا يستطاع القول إنها مما لا يرغب فيه أو يسعى إليه، فإن من خالط الناس واختبر أخلاقهم تحقق أن المولود من نسب رفيع أفضل من المولود من أصل دنيء.»
على أن طيب أرومة هذا الرجل لا تزيد شيئا في تعريف فضله، ولو فرضنا أنه من أصل دنيء لكان كفوا لاكتساب الفخر والمجد؛ لجده واجتهاده، وإيراثهما لأعقاب أعقابه.
فلما ترعرع دخل في مدرسة بيازيد ، فقضى فيها بضع سنين، ثم انتظم في سلك تلامذة مدرسة «الوالدة»، لكنه لم يمكث فيها إلا بضعة أشهر، فخرج منها سنة 1268ه وهو في الثانية عشرة من عمره، فقضت الأحوال أن يسير والده بمهمة إلى «قارصة»، فلم يعد يستطيع مزاولة الدرس، وذلك دليل على أن ما اشتهر به بعد ذلك من العلم والفضل إنما بلغ إليه بالجد والاجتهاد من تلقاء نفسه لا بواسطة المدارس.
وأول ما جال بخاطره وأخذ بمجامع قلبه في إبان شبابه الشعر؛ فنظم القصائد الحسان، وكان أهل الآستانة يتناقلون أقواله ويتمثلون بها، ويتحدثون به وبذكائه وظفره حتى لقبوه «نامق»، وأول شعر اشتهر به قصيدة نظمها وهو في السابعة عشرة من عمره، قال في مطلعها:
ظهور انك كثرت برتونور خداوندر
تلون هيأت اشياده تأثير ضيا دندر
معناه: «إن للكثرة (ربما يريد الجماعة أو الاتحاد) لونا أو شكلا حاصلا من انعكاس نور الله، كما أن ألوان الأشياء في الطبيعة ناتجة عن انعكاس نور الشمس.»
وسار كمال بك في نسق شعره على خطوات الشاعرين التركيين المفلقين «نفعي وفهيم»، فبلغ من ذلك شأوا عظيما، ونبغ بالأشعار الحماسية والفخرية، ومن قوله في الفخر:
بزا أول عالي همم أرباب جد واجتهاد زكيم
جهانكير انه بردولت جيقاردق برعشيرتدن
معناه: «نحن الأولى نشأنا من أمة حقيرة، وبجدنا واجتهادنا أنشأنا دولة عظمى فتحت العالم.»
محمد نامق كمال بك 1256ه-1306ه.
وفي سنة 1277ه، تولى تحرير جريدة «تصوير أفكار»، وكان مع ذلك يزاول الترجمة في الباب العالي، ومن هذا التاريخ أخذت أفكاره وآراؤه في الظهور، فلم يغادر موضوعا أدبيا أو فلسفيا إلا طرقه وأجاد فيه، فلقبوه «كمال» بدلا من «نامق»، وكانت جريدة «تصوير أفكار» هذه فاتحة النهضة التركية الحديثة من حيث الإنشاء والأدب، فهي أول جريدة تركية خاضت في المناظرات الأدبية التي استلفتت انتباه أهل اللسان التركي، وأهم تلك المناظرات ما قام بينها وبين جريدة «روزنامة جريدة حوادث»، وكانت حدا فاصلا بين الإنشاء التركي القديم والإنشاء الحديث.
ومن ذلك الحين أخذت الآداب الحديثة في الانتشار هناك، وكثر أشياعها ومدعوها، واتفق إذ ذاك سفر العلامة شناسي مؤسس جريدة «تصوير أفكار» إلى باريس لدواع اقتضت ذلك، فعهد بإدارة جريدته إلى كمال بك (سنة 1281ه)، وكان في ريعان الشباب، فاعتزل العلم والشعر، وانقطع إلى السياسة بالرغم عنه، ولا يخفى ما في ذلك من التكلف والمشقة مما لا يفلح فيه إلا نوابغ الرجال القادرون على تكييف مواهبهم حتى تطابق وظائفهم. ولو اقتصر صاحب الترجمة على نظم الشعر لبلغ منه مبلغا فاق به «نفعي» الشاعر الشهير، ولكنه لو فعل ذلك ما استطاع ما استطاعه من خدمة ملته ووطنه خدمة كان يسعى في سبيلها ليله ونهاره. لا نقول ذلك امتهانا للشعر؛ فإننا نقدره حق قدره، ولكننا لا نرى له ما نرى للنثر من التأثير في ترقية شأن الآداب. ومن الشواهد على ذلك «هيكو وتيرس» العالمان الفرنساويان الشهيران؛ فهيكو أشعر شعراء الفرنسيس في القرن التاسع عشر، ولكنه لم ينفع أمته بنظمه كما أفادها تيرس بأدبه وسياسته.
وجملة القول أن كمال بك اندفع بكليته الى السياسة وعلم الأخلاق، وهما ركنا الأدبيات، فبث بين أبناء لغته روحا عصرية نشطتهم وفتحت عيونهم وقلوبهم، وبعد أن كنت لا ترى بين الأتراك عشرين كاتبا أصبح كتابهم يعدون بالمئات والألوف، والفضل في ذلك لصاحب الترجمة؛ فإنه هو الذي أحيا فيهم حب العلم وحبب إليهم الأدب بما كان ينشره بين ظهرانيهم أو يشنف به آذانهم من المقالات الرنانة في «تصوير أفكار» وغيرها، مما قد ألبس اللغة التركية حلة عصرية جديدة.
وأول ما نشر من نفثات أقلامه رسالة «دور استيلاء» طبعت سنة 1283ه؛ قال أبو الضياء: «وقد أملى علي هذه الرسالة في الساعة الثالثة من الليل في اليوم الحادي عشر من رمضان المبارك سنة 1282ه، فخبرت بها مقدرته على الإنشاء، فإنه أوعز إلي أن أتناول القلم والورق، ثم أخذ يملي علي فقال: «وقتاكه مقدما»، فلم أتمالك عن التوقف محتارا، فقال: ما بالك لا تكتب؟ فقلت: لا أعرف حتى الآن عبارة تبتدئ بلفظ «وقتاكه»، وكنت أظن أنك تخاطبني في شأن من الشئون! فتبسم وقال: «اكتب ما أقوله وستعلم.» وما زال يملي علي وهو يخطر ذهابا وإيابا، تارة يقف وطورا يطوف غرف المنزل، حتى انتهت الرسالة في الساعة العاشرة، فجاءت كما قيل «كالفاتحة مكتوبة على أرز»، وما زال ذكرها متغلبا على كل ما كتبه بعد ذلك.»
ومن مواهبه الخصوصية حدة اللسان وقوة الحجة، فإنه لم يناظر كاتبا أو خطيبا إلا ظهر عليه وأفحمه. ومن آثار فضله أنه أدخل الآداب التركية في دور جديد؛ فقد كان كتاب الأتراك منذ ستمائة سنة سائرين على خطة واحدة في آرائهم وإنشائهم، فجاء كمال بك فنوع الإنشاء تنويعا هو أساس النسق التركي الحديث.
ومما يذكر له أنه لم يستخدم قلمه للهجو، ولا أدخل في إنشائه ألفاظا بذيئة أو معاني مخجلة، وكان إذا كتب في المواضيع الدينية مثل الحقيقة تمثيلا واضحا يفتن المطالع ولو كان من المعطلين، وكان يستخدم ألفاظا لغوية لم يألفها العامة، لكنه كان يسبكها في قالب يسهل عليهم فهمها.
وكان كثير المطالعة دقيق التنقيب والبحث، حتى قيل إنه لم يغادر كتابا تركيا أو فارسيا مطبوعا أو غير مطبوع من مؤلفات الأتراك أو ما ترجموه عن الألمانية والفرنساوية والإنكليزية إلا طالعه وتبحر فيه، وكان قوي الذاكرة إلى حد يفوق التصديق، حتى يكاد لا ينسى شيئا نظره أو سمعه؛ فقد يتلو عليك ألوفا من الأشعار الفارسية والتركية والعربية والإفرنسية، وكان متمكنا من الفقه وعلم الكلام، مدركا لأكثر المسائل الغامضة المتعلقة بهما، وقد طالع علم الحقوق على العلامة الفرنساوي الشهير «إميل أفولا»، ودرس فني الاقتصاد والسياسة. أما التاريخ فقد كان من أكبر علمائه؛ وهاك أشهر مؤلفاته وترجماته:
تراجم الأحوال:
ترجمة صلاح الدين الأيوبي، والسلطان سليم، والفاتح، وأمير نوروز.
حكايات وروايات:
وطن (وهي رواية ترجمت إلى اللغات الألمانية والروسية والفرنساوية)، وكل نهال، وعاكف بك، وزواللي جوجق، وانتباه، وجزمي.
رسائل:
دور استيلاء، وبارقه ظفر، وقانيزه، وحكمة الحقوق، ومكتوب إلى عرفان باشا، وبه بربزون مؤاخذه سي، وتخريب، وتعقيب، ومقدمة جلال، وبهاردانش، ومنتخبات تصوير أفكار.
مقالات متنوعة:
تصوير أفكار، ومخبر، وحريت، وعبرت وبصيرة، وحديقة ، واتحاد، وصداقة، وغير ذلك من المقالات التي كان يكتبها إلى أصدقائه وفيها الحكم الفلسفية والأدبية.
ترجماته عن اللغات الإفرنجية:
شرائط الاجتماع (تأليف روسو)، وروح الشرائع (تأليف مونتسكيو)، وبعض كتابات باكون وفولني وغيرهما، وقسم كبير من كتابات كوندرسه تحت عنوان «تاريخ ترقيات أفكار بشر».
وكان في أثناء أعماله هذه مشتغلا بتأليف التاريخ العثماني، وهو تاريخ مطول بحث فيه عن عظمة هذه الدولة وما مرت به من الأدوار، من أول عهدها إلى الآن، له مقدمة يصح أن تسمى وحدها تاريخ الإسلام؛ لأنها حوت كل ما وقع من المسلمين من البعثة إلى ظهور السلطة العثمانية، وكل ما رافق ذلك من الحوادث في آسيا وأفريقيا وأوروبا، والمقدمة المشار إليها مكتوبة على نحو ألف وخمسمائة طليحة من الورق، ولكن من موجبات الأسف أن مطالعتها منعت ثاني يوم ظهورها لوشاية بعض ذوي الأغراض، فحفظا لآثار هذا الفاضل نرجو أن يعاد نشرها مع ما تم تأليفه من هذا التاريخ، وهو أربعة أجزاء تنتهي بوقائع السلطان سليمان القانوني.
وكانت وفاته بعلة الخناق الصدري، فلم تمهله إلا عشرة أيام، فقضى بعد ظهر الثامن من ربيع الأول سنة 1306ه.
الفصل الثاني عشر
سليم بك تقلا
مؤسس جريدة الأهرام
في سفح لبنان مما يلي ساحل مدينة بيروت قرية حسنة الموقع، جيدة الهواء والماء، كثيرة البساتين والغياض، اسمها كفر شيما، نبغ فيها جماعة كبيرة من العلماء، ملأت شهرتهم الأسماع؛ منهم اللغوي المرحوم الشيخ ناصيف اليازجي، وسائر آل اليازجي، والعلماء الأفاضل آل شميل الكرام، ومنهم المرحوم أمين شميل وشقيقه الدكتور شبلي شميل، وغيرهم من الأطباء والشعراء والأدباء. ومن هذه القرية نبغ صاحب الترجمة المرحوم سليم بك تقلا مؤسس جريدة الأهرام.
ولد (رحمه الله) في أواسط سنة 1849م، وربي في حجر والديه على الصلاح والتقوى وحسن السيرة، وظهرت عليه مخائل النجابة منذ نعومة أظفاره، فتلقى مبادئ العلوم في مدرسة تلك القرية، ففاق أقرانه، فلما رأى والده فيه ذلك سعى في إدخاله مدرسة عبيه بلبنان، ولكن المدرسة لم تكن تقبل في صفوفها من كان دون الخامسة عشرة من عمره، فاستنجد الدكتور فان ديك فأنجده وتوسط في إدخاله، فقبلته المدرسة واغتفرت صغر سنه بما توسمته من توقد ذهنه واستعداده، فأقام في المدرسة يتلقى علومها ومعارفها، حتى أعجب أساتذتها بذكائه وتعقله على صغر سنه، مع سهولة في خلقه، ولين في طبعه، وهمة في الدرس، واجتهاد في مسابقة أقرانه.
وما زال مكبا على كتابه وكتابته حتى كانت سنة 1860م، فانتشبت في ربوع الشام الثورة المعلومة، فاتصل لهيبها بعبيه وما جاورها، فبرح المدرسة ونزل مدينة بيروت، ودخل المدرسة الوطنية التي أنشأها الطيب الذكر المرحوم المعلم بطرس البستاني، وعكف على الدرس والمطالعة مجدا ساهرا حتى أصبح مثالا بين أقرانه التلامذة بالثبات والاجتهاد؛ لأنه كان يعمل ساعات الفراغ أعمالا يستعين بها على نفقات التعليم، شأن من يلتمس العلى بجده واجتهاده.
فلما أتم دروسه تعين أستاذا في المدرسة البطريركية في بيروت، يعلم بها ما أتقنه، ويتقن ما فاته؛ وخصوصا الفنون العربية، فإنه كان يتلقاها على الشيخ ناصيف اليازجي، وكان الشيخ (رحمه الله) معجبا بذكائه وحدة ذهنه، وكان يعتمد عليه أحيانا في شرح بعض الدروس على طلبته؛ دلالة على ثقته به وركونه إلى صحة مباديه وسمو مداركه، ولم يمض عليه في المدرسة البطريركية مدة حتى صار رأس أساتذتها، ووكيل أعمالها، ومدير شئونها، وألف في أثناء ذلك كتابا في النحو والصرف على أسلوب مبتكر طبع ونشر، وكان الاعتماد عليه في تلقي هذين العلمين في المدرسة البطريركية.
سليم بك تقلا 1849م-1892م.
وكان (رحمه الله) مفطورا على حب الرفعة والسعي في طلب العلى، فلما رأى أنه بلغ من مهنة التدريس أعلى درجاتها مال إلى التماس مهنة تروي مطامعه، فلاح له أن يقدم إلى الديار المصرية، وهي إذ ذاك في عصر المغفور له الخديوي الأسبق إسماعيل باشا الذي كان يحبب إلى السوريين وغيرهم من جالية الإفرنج الإقامة في مصر؛ لما يبذله في صلاتهم وتنشيط مشروعاتهم، وخصوصا المشروعات الأدبية؛ فنظم قصيدة تاريخية رنانة في مدح الخديوي إسماعيل، وغادر ربوع الشام قاصدا للقطر المصري حتى جاء القاهرة، فرفع قصيدته - المشار إليها - إلى الخديوي الأسبق، وتعرف بجماعة من أهل الفضل وذوي المناصب، فقربوه منهم، فلاح له أن ينشئ جريدة عربية، والجرائد العربية لا تزال إلى ذلك العهد جرثومة لا تكاد تنقف عن جنينها، والناس لا يعرفون من الجرائد إلا اسمها، مع تردد الحكومة في الإذن بنشرها، فقضى سنة يتردد بين مصر والإسكندرية يجاهد في الحصول على امتياز الجريدة، فمنحته الحكومة امتياز جريدة الأهرام سنة 1875م، فأصدرها بالإسكندرية وليس لديه من معدات التحرير والتحبير والنشر والطبع إلا ما فطر عليه من الثبات وحسن التصرف والاستقامة، وما اكتسبه من العلم والاختبار، مع شيء يسير من المعدات المادية؛ فقاسى في سبيل نشر الأهرام مشقات جسيمة، مع علمك باستهجان الناس إذ ذاك للجرائد؛ لحداثة عهدها، مع قلة وسائل النشر لديه؛ ولكنه ذلل كل تلك الصعاب بثباته وحسن سياسته. ومما قاله لنا مرة في سياق حديث دار بيننا عن الجرائد العربية وتاريخ نشأتها قوله: «أنشأت الأهرام وأنا عالم بما يحول دون نشرها من المصاعب، فكنت أقضي النهار والليل عاملا بدنا وعقلا، فكنت أحررها وأديرها وألاحظ عملتها وأكتب أسماء مشتركيها وأتولى أعمالها مما يقوم به الآن عشرة من العمال.»
وصدرت الأهرام أولا مرة في الأسبوع، ولم يستطع نشرها يومية إلا بعد زمن طويل؛ وذلك أنه بعد إصدار الأهرام ببضع سنوات أصدر جريدة يومية سماها صدى الأهرام، والأهرام تصدر أسبوعية كالعادة، فلاقى في إصدار الصدى فوق ما لاقاه في إصدار الأهرام. ومما يحكى من هذا القبيل، وفيه دليل على ثباته، أنه طبع من صدى الأهرام لعدده الأول أربعة آلاف نسخة وزعها على نخبة أهل القطر وأعيانه، كجاري العادة في الجرائد عند أول صدورها، فرجعت إليه إلا بضع عشرات منها، على أن ذلك لم يثن عزمه، بل ما انفك مواظبا على إصداره حتى صدر أمر الحكومة بإلغائه وإقفال المطبعة؛ لأنه درج أمرا ساء الخديوي الأسبق، فاستتر صاحب الترجمة من وجه الحكومة مدة، وسجن أخوه المرحوم بشارة باشا، ثم توسط بعض أهل النفوذ فأفرج عن المطبعة وأصحابها، فأصدر (رحمه الله) جريدة الوقت يومية، ولكنها لم تعش طويلا، فصدر الأمر بإقفالها، ثم عادت فظهرت حالا، وأخيرا استبدلها بجريدة الأهرام فصارت من ذلك الحين يومية.
وما زالت الأهرام آخذة في العمل لا تزداد إلا انتشارا ورفعة، حتى كانت الحوادث العرابية سنة 1882م؛ فاضطر (رحمه الله) للمهاجرة إلى سوريا كما فعل سائر نزالة هذا القطر غير المصريين. فلما احترقت الإسكندرية أصابت النيران مطبعة الأهرام، فأحرقت شيئا كثيرا من أعماله وكتاباته ومؤلفاته، فلما انقشعت غياهب تلك الثورة عاد إلى الإسكندرية وأعاد إصدار الأهرام، وعوض عما فات. وما زالت تصدر إلى الآن، وخطتها وطنية عثمانية منتصرة لفرنسا ومجاهرة بالمقاومة للاحتلال الإنكليزي.
وفي سنة 1886م سافر إلى دمشق، واقترن بسيدة من كرام الدمشقيين اشتهرت بالجمال واللطف، ثم عاد إلى الإسكندرية يمارس أعمال الجريدة ويعاني تحريرها، وفي سنة 1891م سافر إلى فرنسا، فزار عاصمتها وكثيرا من مدنها وقراها، وكان يكاتب الأهرام منها، وفي السنة التالية (1892م) أصيب بألم في القلب، فأشار عليه الأطباء بالذهاب إلى سوريا لتبديل الهواء، فسار ولكن القضاء المبرم كان في انتظاره هناك، فقضى وطار نعيه في الآفاق، ودفن بما لاق بمقامه من التجلة والإكرام، ولم يخلف ذرية.
وكان (رحمه الله) هماما حازما، مخلصا مسالما، سهل الأخلاق، وديعا، رقيق الجانب، ما عاشره أحد أو عامله إلا وأثنى على رقة جانبه، ودماثة أخلاقه، وحبه للمسالمة، ورغبته في إرضاء الناس ولو تحمل منهم ضيما أو تكبد خسارة؛ وقد كان ذلك من أهم الوسائل التي ساعدت على نشر الأهرام وإقبال الناس على مطالعتها حتى بلغت ما بلغت من سعة الانتشار، على أننا لو دققنا البحث في العوامل الأساسية التي أيدت الأهرام ونشرتها لرأيناها ثلاثة: (1)
حسن سياسة صاحب الترجمة وميله إلى المسالمة. (2)
نشاط شقيقه المرحوم بشارة باشا، وكان مدير الأهرام إذ ذاك، ثم قام بعده بكل شئونها حتى توفاه الله سنة 1901م، فصارت الأهرام إلى نجله جبرائيل. (3)
مساعدة بعض أرباب المناصب العالية؛ فإنهم كانوا ينشطونها إلى درجة لا تكاد تقل عن حمل الناس على الاشتراك فيها ، فضلا عن اشتراكات الحكومة نفسها؛ فإنها كانت تعد بالمئات.
وكان حائزا لرضاء الدولة العلية، متمتعا بإنعاماتها وإنعامات الدول الأخرى، وبعض المجامع العلمية، وحاز من الرتب العليا الرتبة الأولى من الصنف الأول، ونال من النياشين النيشان المجيدي الثاني، ونيشان اللجيون دونور من رتبة شفاليه، ونيشان الافتخار التونسي من رتبة كومندور، ونيشان الشمس والأسد من تلك الرتبة، ونيشان المجتمع العلمي الفرنساوي من رتبة أوفيسيه، وغير ذلك.
وكان سليم الذمة صادق الوعد، ومما يذكره العارفون من هذا القبيل أن والده توفي عن دين عليه، ولم يكن أصحاب الدين ينتظرون الوفاء من أولاده، فلما أنعم الله عليهم وسهل لهم أبواب الرزق اتفق الإخوة، وصاحب الترجمة في مقدمتهم، على وفاء ما في ذمة والدهم من أموال الناس، فسافر هو بنفسه إلى بلاد الشام، ولاقى الدائنين ودفع إليهم أموالهم.
بشارة باشا تقلا.
وكان محبا للأخذ بناصر الشبان الذين يلتمسون الأشغال، ولا سيما أبناء وطنه، فيبذل كل مرتخص وغال في سبيل مساعدتهم أدبيا وماديا.
وكان كاتبا فاضلا، وشاعرا مجيدا، تشهد بذلك مقالاته وقصائده في صفحات الأهرام، وقد جمعت منتخبات أشعاره ومقالاته بعد وفاته وطبعت على حدة في ديوان ضخم، وجمعت أقوال الجرائد وقصائد الأصدقاء ومقالاتهم في تأبينه ورثائه في كتاب آخر.
الفصل الثالث عشر
السيد عبد الله نديم
قد لخصنا ترجمة المرحوم السيد عبد الله نديم من سيرة مطولة بقلم حضرة صديقه الوفي أحمد أفندي سمير:
نشأته الأولى
هو عبد الله بن مصباح بن إبراهيم، وينتهي نسبه إلى إدريس الأكبر من أسباط الحسن بن علي. ولد بالإسكندرية سنة 1261ه/1834م، فحفظ القرآن الكريم قبل أن يبلغ التاسعة، وكان أبوه وسطا في اليسار، فلما رأى ذكاءه ونجابته أدخله مدرسة جامع الشيخ إبراهيم باشا فقرأ على أكابر الأشياخ، فأتقن فقه الشافعي والأصول والمنطق وعلوم الأدب اللسانية وهو في سن المراهقة، فأخذ من ذلك الحين يقول الشعر الرقيق والنثر المسجوع المحكم، فما لبث أن سارت الأمثال ببدائع آدابه، وتسابق بلغاء الكتاب والشعراء إلى مطارحته، وكانت الكتابة إلى ذلك العهد قاصرة على السجع فتوخى المترجم فيها أساليب جديدة في الإنشاء، فاق فيها المتقدمين وأعجز المتأخرين، تشهد بذلك رسائله الأدبية ومؤلفاته التي تبلغ نحو مائة مؤلف في فنون مختلفة، فقد أكثرها سرقة أو اغتصابا أو حرقا أو إغراقا في مياه النيل - كما سيأتي تفصيله.
وكان (رحمه الله) منذ ترعرع جريئا مقداما، يميل إلى ركوب الأخطار ومعاناة الشدائد سعيا وراء المعالي، وقد رأى أن ذلك لا ينال عفوا، فكان أول ما بدأ به من تلك المطالب المعجزة أنه نظر في الوجود نظرة باحث مدقق، فتبين له أن الاشتغال بالعلم ربما عاقه عن بلوغ مقصده، فتعلم صناعة التلغراف وأتقنها في أقل مما يتصور من الزمن، كأن الكهرباء لم توجد إلا لتزاحم خاطره في السرعة؛ فلم يمض عليه بضعة أسابيع حتى استخدم تلغرافيا (أو تلغرافجيا) في مكاتب مختلفة؛ أهمها مكتب تلغراف القصر العالي الخاص على عهد عزيز مصر المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق.
السيد عبد الله نديم 1261ه-1314ه.
ولم تكن وفرة الأعمال عائقة له عن التحصيل؛ فقد كان يغتنم نوبة فراغه من العمل فيتردد إلى الجامع الأزهر، يطالع مع بعض رفاق شبيبته الدروس التي كانوا يشتغلون بها، وأخص هؤلاء الرفاق العلامة الشيخ حمزة فتح الله المفتش الأول للغة العربية بنظارة المعارف المصرية.
ثم طرأ ما أوجب انفصاله عن الخدمة، فاتصل بكثير من المقربين والعظماء، فكانت له معهم مجالس مشهودة حضرها أفاضل الشعراء والمنشئين، وناظروه وطارحوه نظما ونثرا، فظهر عليهم جميعا.
ثم قصد المنصورة ترويحا للنفس، ورأى أن التجارة خير رياضة له فأنشأ هنالك متجرا، فراجت سوق بضاعته رواج آدابه، ولكن كرمه تغلب على رأس المال والربح ففقدهما جميعا، وكان بيته ومتجره كعبة يحج إليها رجال الأدب، وكانوا يتحدثون بمعجز رسائله ومحرراته نظما ونثرا.
نشأته السياسية
ثم عاد إلى الإسكندرية أوائل سنة 1879م، وهنالك أخذت شمس حياته السياسية تبدو، فكان أول سعيه في هذا السبيل أن اجتمع بصديقيه المخلصين محمد أفندي أمين باشكاتب محكمة أسيوط الأهلية، ومحمود واصف أفندي أحد جامعي كتاب سلافة النديم ومحرر جريدة العدل، وكانا وقتئذ من مؤسسي جمعية مصر الفتاة؛ فكان الأول نائب رئيسها، والثاني كاتم أسرارها، فتعرف ليلة اجتماعه بهما بالمأسوف عليهما أديب أفندي إسحاق وسليم أفندي النقاش، صاحبي جريدتي مصر والتجارة، وتعرف بكثير من أعضاء هذه الجمعية، وشرع في بث أفكاره بما كان ينشره في تينك الجريدتين، ثم رأى أن جمعية مصر الفتاة سرية يخشى عليها من الحكومة، فأقنع صديقيه المشار إليهما بالانفصال عنها، فانفصلا وتبعهما كثير من أعضائها، ثم ذاكرهما في إنشاء جمعية علنية تسعى فيما يعود على الوطن وأهله بالمنفعة الحقيقية، فاستصوبا رأيه. وشرع منذ ذلك الحين في تأليف قلوب أهل الثغر، علما بأن المرء قليل بنفسه كثير بإخوانه، فتألفت الجمعية الخيرية الإسلامية في آخر ولاية المغفور له إسماعيل باشا، والقلوب واجفة والأفكار مضطربة، وقد خرست الألسنة وغلت الأيدي إلى الأعناق، حتى دنت ساعة الفرج بولاية المرحوم محمد توفيق باشا، فقرت العيون وهدأت الأفكار، فقام المترجم يثبت دعائم دعوته، ويبث في الأذهان فوائد الاجتماع بلسان طلق، فبرزت الجمعية الخيرية بمساعيه في ثوب الائتلاف، وتسارع أعيان الثغر ووجهاؤه للانتظام في سلكها، وكانت هي أول جمعية إسلامية أسست في القطر المصري، وكانت ترمي إلى غرض واحد، هو تربية الناشئة وبث روح المعارف فيهم لترقية الأفكار وتطهير الأخلاق من دنس الجهالة.
فأنشأت هذه الجمعية مدرسة لتعليم الأيتام وأبناء الفقراء مجانا، فسعى المترجم جهده حتى أكسبها عناية أمير البلاد، فجعلها تحت رئاسة ولي عهده ووريث تاجه إذ ذاك، وهو خديونا الحالي - أطال الله عمره - فكان ذلك أدعى لنشاط رجالها وزيادة اهتمامهم، فسعوا في توسيع دائرة المدرسة، واستحضروا لها فضلاء المعلمين من العرب والإفرنج، وأقاموا المترجم مديرا لها، فوضع لها أساسا محكما، وعلم فيها الإنشاء وعلوم الأدب، فنمت وزهت حتى زاد عدد الطلاب فيها على الثلاثمائة في زمن وجيز، ورتبت لها نظارة المعارف 250 جنيها كل عام.
فلما رأى المترجم أن غرسه قد كاد يثمر استرحم المغفور له الخديوي السابق أن ينعم على الجمعية بالمدرسة البحرية؛ لاتساعها وجودة موقعها، فأجابه إلى ما طلب.
ولقد بلغت هذه المدرسة من الشهرة وبعد الصيت على قصر المدة ما لم يبلغه غيرها في أزمان متطاولة، ونالت من التفات المرحوم توفيق باشا ونجليه الكريمين، سمو الخديوي الحالي ودولة شقيقه، ما رفع قدرها ونشطها وزادها زهوا ونماء، مع ما كان يبذله صاحب الترجمة من العناية في عقد الحفلات العامة في بهرة المدرسة، يحضرها كبار القوم وسراتهم، فيسمعون المطرب والمغرب منه ومن تلامذته ، ثم ينصرفون ولا حديث لهم إلا ترداد ما سمعوه من العبارات الآخذة بمجامع القلوب.
وفي تلك الأثناء مثل المترجم بالإسكندرية حالة البلاد، وكيف يكون الوصول إلى الشهامة والمروءة بروايتيه المشهورتين باسمي «الوطن» و«العرب»؛ مثلهما هو وتلامذته في ملهى زيزينيا بحضرة ساكن الجنان الخديوي السابق، فكان لهما في نفسه من حسن الوقع ما بعثه على أن يدفع من ماله الخاص مائة جنيه مساعدة للجمعية، ولكن الحسد جر بعض ذوي النفوذ إلى الإيقاع بالنديم، ففصل عن الجمعية وأقيل من إدارتها.
وكان قبل ذلك قد ترك الكتابة الأدبية واشتغل بالتحرير السياسي على الأسلوب الحديث بلا سجع ولا تقفية، فكان يحرر في جريدتي «المحروسة» و«العصر الجديد»، اللتين صرح للمرحوم سليم أفندي النقاش بإصدارهما عقيب إلغاء «التجارة ومصر»، وإبعاد المرحوم أديب أفندي إسحاق إلى خارج مصر، فجاء فيهما بالمعجب والمطرب.
وما زال كذلك حتى استدعى صاحبهما من بيروت الكاتبين الفاضلين سليم أفندي عباس والمرحوم فضل الله أفندي الخوري، فترك لهما أمر هاتين الجريدتين، وأنشأ «التنكيب والتبكيت»، وهي جريدة أسبوعية ظاهرها هزل وباطنها جد، فأودعها ما لم يسبقه أحد من كتاب العرب إليه.
ثم استبدلها ب «الطائف» على ما قضت به المناسبات الزمانية قبيل الثورة العرابية، وكانت «الطائف» سياسية محضة، بلغت من الشهرة ما لم تبلغه جريدة قبلها من التأثير على الأذهان، ثم اغتصبها منه أمراء الجند أثناء الثورة، ولم يدعوا له منها غير الاسم، فكانوا ينشئون فيها ما يشاءون دون أن يقدر على رد واحد منهم، حتى انطفأت جمرة تلك الثورة فاختفى.
أما قيامه بنصرة الحزب الوطني فسببه أنه لاقى من معاملة الحكومة له ولغيره ما يدل على تفضيلها الأجنبي لخدمتها على الوطني، واتفق ظهور نيران الثورة، فأصابت منه هوى في الفؤاد فتمكنت؛ لأنه سمع رجالا تنادي بطلب الإصلاح، وتعقد الاجتماعات العلنية مجاهرة بمقاصدها في أهم الصحف، حتى اتفقت الآراء على أن في مصر حزبا وطنيا لا هم له إلا انتشال البلاد من وهدة الخراب، فكانت رسل الحزب العسكري تتردد على المترجم، ورؤساؤه يكرمونه ويعظمونه، فما زالوا به حتى انضم إليهم، فوسموه بخطيب الحزب الوطني، واتخذوا جريدته مجالا لأقلام كثيرين منهم، ومظهرا لأفكارهم، ولكنه كان يتأفف سرا من وقوعه في تلك الورطة، فإذا خلا بأحد من أخصائه أظهر له حقيقة ما يضمر، وأنبأه بمصير تلك الحال.
ولم يمض بضعة أسابيع حتى هاجت القاهرة وماجت؛ إذ أنبأها البرق بضرب الإنكليز للإسكندرية في 11 يوليو سنة 1882م، وانتشاب الحرب بينهم وبين عرابي، فقام المترجم مع محمود باشا سامي البارودي وغيره من رؤساء الجند المتخلفين إلى الإسكندرية، فوجدوا الجيش المصري يتأهب لمغادرتها إلى كفر الدوار بعد أن صارت معالمها دوارس، فباتا (هو وسامي) في منزل المترجم، فلما كانت ما يسمونه بواقعة التل الكبير في 15 من شهر سبتمبر سنة 1882م وقت السحر فر عرابي وأخوه وعلي الروبي، وتبعهم المترجم، فجاءوا القاهرة في الساعة الرابعة بعد الظهر، وساروا توا إلى قصر النيل مركز نظارة الحربية إذ ذاك، فتألف وفد ليسيروا إلى الإسكندرية يلتمسون العفو من الخديوي، والنديم في جملتهم ولكنه لم يصل الإسكندرية، بل عاد من كفر الدوار واختفى من ذلك الحين. فقضى عشر سنوات مختفيا في مديرية الغربية بين ميت الغرقا والعتوه والجيزة وغيرها، فيتنكر تارة بزي الدراويش، وطورا بزي المغاربة أو غيرهم، والحكومة تبث العيون والأرصاد للقبض عليه وهو أقرب إليها من حبل الوريد، فلما أعيتها الحيلة جعلت لمن ينبئها بمكانه مكافأة مقدارها ألف جنيه، وكان العارفون بمكانه كثيرين، ولكنهم حافظوا على ولائه فأخفوه مكرما معززا حتى قبض عليه في شهر نوفمبر سنة 1891م أواخر ولاية المرحوم توفيق باشا، فجيء به إلى طنطا حيث حبس أياما. وسئل عن موجب اختفائه، فأوضحه بما لا يخرج عما تقدم، فعفا الجناب الخديوي عنه ولكنه أمر بإبعاده إلى حيث يشاء من البلاد غير المصرية، فاختار يافا من ثغور فلسطين، فسافر إليها بإكرام، وأقام هناك مدة ثم أزمع السياحة في تلك البلاد المقدسة، فخرج من يافا في مارس سنة 1892م مع صديق له إلى جبل الطور المسمى جبل جارزيم، وزار مقام العزيز هناك، وقبور كثيرين من الأنبياء، ومر بأماكن كثيرة من جملتها نابلس ومدينة الخليل وبيت لحم والمسجد الأقصى، ثم عادا إلى يافا.
وفي تلك السنة (1892م) تولى الأريكة الخديوية سمو العزيز عباس باشا الثاني، فعفا عن المترجم، فعاد من يافا إلى القاهرة، وظل مترددا بينها وبين الإسكندرية أكثر من شهر، ثم اتخذ الأولى موطنا، وأنشأ بها مجلته العلمية الأدبية التهذيبية «الأستاذ»، فنالت من الشهرة والانتشار في شهور ما لم تنله سواها بأعوام، وكان لها تأثير شديد في أفكار الأمة على اختلاف نحلها.
ثم ألغيت لأسباب يعلمها كل متدبر؛ لأن العهد بها غير بعيد، وكلف المترجم بالخروج من مصر، فغادرها ثانية إلى يافا، ودفعت له الحكومة المصرية أربعمائة جنيه يعتد بها لسفره، ورتبت له 25 جنيها كل شهر، على شرط أن لا يكتب شيئا في الجرائد يختص بسياسة مصر، فلبث أربعة أشهر في يافا، ثم أعيد منها بإرادة سلطانية، فرجع إلى الإسكندرية وأقام فيها أياما، قابل في خلالها صاحب الدولة الغازي مختار باشا المندوب السلطاني العالي، فساعده هذا على المسير إلى الآستانة فسافر إليها، وصدرت الإرادة السلطانية بتعيينه مفتشا للمطبوعات بالباب العالي، وترتيب 45 جنيها مجيديا له كل شهر فوق ما كان يتقاضاه من الحكومة المصرية، وكان ينفقها كلها في سبل الخيرات والبر بالأهل والأقارب والأصدقاء.
وقد نال لدى المقام السلطاني الحظوة الكبرى، وتعرف بكثير من الوزراء وأرباب المظاهر العلمية، ولكنه اختص بالملازمة والمودة الإمام العلامة الفيلسوف السيد جمال الدين الأفغاني، فاتصلت بينهما أسباب الألفة، وتمكنت منهما روابط الاتحاد حسا ومعنى، وقد بلغ تعلق السيد جمال الدين به وجميل اعتقاده فيه أنه أصبح وأمسى يعجب بقوة حجته في المناظرة والجدل، وسرعة بديهيته في التحضير، حتى صرح في عدة مجالس بأنه ما رأى مثل النديم طول حياته في توقد الذهن، وصفاء القريحة، وشدة العارضة، ووضوح الدليل، ووضع الألفاظ وضعا محكما بإزاء معانيها إن خطب أو كتب.
وقد كان يود الرجوع إلى مصر ليقضي بها بقية أيامه، فلم تتح المنية ذلك؛ فداهمته بمخالبها فقضى بداء السل الرئوي في 11 أكتوبر سنة 1896م، فأمر جلالة السلطان أن يحتفل بمشهده على نفقة الجيب الشاهاني الخاص، فسار أمام نعشه فرقتان من الجيش، وفرقة من الشرطة، وتلامذة المكتب السلطاني، وعدة من الوجوه والكبراء والعلماء يتقدمهم السيد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد ظافر شيخ السلطان، والسيد عبد الرحمن الجزولي، حتى دفنوه في باشكطاش، ولقد مات المترجم ولم يورث أهله إلا الحزن والعناء؛ لأنه كان يقبض مرتبه من مصر والآستانة، فلا يمضي عليه بضعة أيام حتى يفرغ من توزيعه على الأقارب والأباعد دون نفسه.
أما أخلاقه فإنه كان برا بوالديه وذوي قرابته وقصاده ولو لم يكن يعرفهم، فما أقرض أحدا شيئا وطالبه به، ولا رد يوما سائلا، ولا خضع لعظيم قط، وإنما كان يلين ويتواضع لصغار الناس وأوساطهم، وكان ذكيا فطنا قوي الحافظة، فصيحا جريئا، شاعرا مطبوعا وكاتبا ناثرا.
مؤلفاته وكتاباته
ومن مؤلفاته الكثيرة ديوان شعر يشتمل على نحو أربعة آلاف بيت نظمها وشبابه باسم الثغر طلق المحيا، وديوان آخر في نحو ثلاثة آلاف بيت، وروايتا «الوطن والعرب»، ورسائل أدبية مسجوعة لم تصل أيدي جامعي السلافة منها إلا إلى أربع عشرة رسالة بعد السعي الكثير ومكابدة العناء الجزيل، وكان ويكون (وهو الذي طبع بعضه في الأستاذ)، وواحد وعشرون كتابا في فنون مختلفة، قطع لأجلها أيام حرب الاختفاء رقاب الفراغ بسيوف الأقلام؛ منها ديوان شعر يحتوي على ما يقارب عشرة آلاف بيت، وهو الآن محجور عليه في الآستانة، ومنها النخلة في الرحلة، والاحتفاء في الاختفاء، والشرك في المشترك، وكتاب في المترادفات، وآخر في اللغة سماه موحد الفصول وجامع الأصول، والفرائد في العقائد، واللآلئ والدرر في فواتح السور، والبديع في مدح الشفيع، وأمثال العرب، وغير ذلك.
وقد فقد كثير من مؤلفاته ومنظوماته حرقا أو ضياعا أو اغتيالا، على أن شقيقه عبد الفتاح أفندي نديم وصديقه محمود أفندي واصف قد عنيا في جمع ما تيسر من ذلك في كتاب سمياه «سلافة النديم في منتخبات السيد عبد الله نديم»، وطبعاه، فمن أراد الاطلاع على ما كتبه النديم أو نظمه أو خطبه فعليه بالسلافة .
الفصل الرابع عشر
إبراهيم بك المويلحي
الكاتب السياسي والمنشئ الصحافي
يتصل نسبه ببيت من البيوت الكريمة التي ظهرت بمصر بعد الانقلاب في أول القرن الماضي، وكان جده السيد إبراهيم المويلحي في أول أمره كاتبا للمرحوم حبيب أفندي كخيا المغفور له محمد علي باشا الكبير، ثم ارتقى كما ارتقى سواه من ذوي المواهب في مثل حال مصر في دورها الانتقالي من عصر الأمراء المماليك إلى عصر التمدن الحديث؛ إذ هددتها مطامع الدول، وحام حولها طلاب السيادة من الوزراء والقواد، فتسابقت العقول واختلفت الأغراض، ففاز كل بما بلغ إليه إمكانه وساقته إليه فطرته؛ فارتقى بعضهم إلى منصات الحكم، وأثرى آخرون بالتجارة أو الزراعة أو الصناعة أو غيرها، فكان للسيد إبراهيم المويلحي جد المترجم حظ كبير من ذلك الارتقاء. ومع انغماس أهل ذلك الانقلاب بالمطامع السياسية والمكاسب المالية، واشتغالهم بالملاذ والملاهي لتسلط الجهل على معظمهم، فالسيد إبراهيم كان محبا للأدب، لا يخلو مجلسه من الأدباء والشعراء يطارحهم ويذاكرهم، وقد أدى لمحمد علي في أوائل ولايته خدما جليلة حفظها له البيت الخديوي، فانتفع بها المترجم في حال ضيقه - كما سترى.
إبراهيم بك المويلحي 1262ه-1323ه.
ولد صاحب الترجمة في أوائل سنة 1262ه، في بيت وجاهة وعز، وكان والده مشهورا بصناعة الحرير نسيج مصر، وله فيها بيت تجاري كبير، فجمع ثروة طائلة، ونشأ إبراهيم في سعة ورغد وهو يتهيأ للعمل في تجارة والده، ولكنه كان مولعا بالأدب والشعر من حداثته، ورث ذلك من جده، ولم يخطر له ولا لوالده أنه سيجعل الأدب مهنته، وهي يومئذ مهنة الفقراء ... ولكن الأقدار ساقته إلى الاشتغال بها في كهولته فكان من أعظم نوابغها.
ظل إبراهيم في حجر والده آمنا سعيدا حتى توفي الوالد سنة 1282ه، والمترجم في العشرين من عمره، فتولى تجارة أبيه وقبض على ثروته، وجرى على خطته في العمل حينا فازداد تقدما، وكانت مضاربات البورصة حديثة العهد في هذا القطر، وقد تحدث الناس بمعجزاتها، وبهروا من سرعة الإثراء بها، وكان إبراهيم طلابا للعلى، فلم يكتف بما بين يديه من الرزق الواسع ، وحدثته نفسه أن يطلب الزيادة بالمضاربة، فضارب وهو يكسب تارة فيطمع بالمزيد، ويخسر أخرى فيطلب التعويض، على نحو ما نشاهده الآن مع ما يعلمه الأكثرون من عواقبها الوخيمة، فما زال المترجم يتدرج في المضاربة حتى استنزفت ثروته وأثقلته بالديون.
على أن فروغ يده من المال لم ينشأ بما نشأ عليه من العز والأنفة، ولا ضاعت مآثر جده لدى البيت الخديوي، فنظر إسماعيل باشا الخديوي يومئذ في هذا البيت نظر الانعطاف، وكان إسماعيل إذا أعطى أغنى، فوهبه هبات الملوك، فوفى الديون ووسع التجارة، ثم أنعم عليه بالرتبة الثانية، وعينه عضوا في مجلس الاستئناف وهو في الثامنة والعشرين من عمره، وأنعم على أخيه عبد السلام باشا بتلك الرتبة أيضا، وأبقاه في مزاولة التجارة محافظة على ذلك المعهد التجاري. وتأييدا لذلك أصدر أوامره لجميع من في قصوره من النساء أن يعدلن عن لبس الأنسجة المصرية من صنع هذا البيت، وأن لا يدخل في تشريفات السيدات سيدة لابسة غير هذه الأنسجة، وأمر باصطناع كمية عظيمة منها لإرسالها إلى معرض فيينا في تلك الأيام.
وما زال المترجم في وظيفته بمجلس الاستئناف حتى أفضت رئاسته إلى المرحوم حيدر باشا يكن، فوقع بينهما شقاق انتهى باستقالة المترجم، ولكن عناية الخديوي إسماعيل ما زالت شاملة له، فأمر بإعطائه مصلحة تمغة المشغولات والمنسوجات على سبيل الالتزام، واتفق في أثناء ذلك سقوط وزارة نوبار باشا المختلطة التي كان فيها عضوان أجنبيان، وخلفتها وزارة شريف باشا المعروفة بالوزارة الوطنية، وهموا بإنشاء اللائحة الوطنية لتأسيس مبادئ الحكومة الدستورية ، فانتدب المترجم للاشتغال في ذلك مع المرحوم السيد علي البكري، ثم صدر الأمر بتعيينه سكرتيرا للمرحوم راغب باشا ناظر المالية، ولم يتول هذه الوظائف إلا لما ظهر من نجابته وسداد رأيه.
على أن ميله إلى الأدب والشعر كان ينمو بين مشاغل السياسة والإدارة، فاتفق مع المرحوم عارف باشا، أحد أعضاء مجلس الأحكام بمصر وصاحب المآثر الكبرى في نشر الكتب، على تأسيس جمعية عرفت بجمعية المعارف، غرضها نشر الكتب النافعة وتسهيل اقتنائها، وأنشأ هو مطبعة باسمه سنة 1285ه لطبع تلك الكتب، وهي من أقدم المطابع المصرية. على أن الجمعية كانت تطبع كتبها أيضا في مطابع أخرى، خصوصا المطبعة الوهبية، ولهذه الجمعية شأن كبير في تاريخ هذه النهضة؛ لأنها نشرت كثيرا من الكتب المهمة؛ كتاج العروس، وأسد الغابة، ورسائل بديع الزمان، وسلوك الممالك، وألف باء، وغيرها من كتب التاريخ والأدب والفقه.
أما صاحب الترجمة، ففي السنة التالية لإنشاء مطبعته اتحد مع محمد عثمان بك جلال لإنشاء جريدة عربية، ولم يكن من الجرائد العربية بمصر يومئذ إلا الجريدة الرسمية وجريدة وادي النيل، فنال رخصة بجريدة سماها «نزهة الأفكار»، ولكنه لم يصدر منها إلا عددين ثم حالت العوائق دون إصدارها، ويقال عن السبب في ذلك أن المرحوم شاهين باشا أظهر لإسماعيل باشا تخوفه من أنها تثير الأفكار وتبعث على الفتن، فصدر الأمر بإلغائها، وظلت المطبعة تشتغل بطبع الكتب لجمعية المعارف وغيرها، وقد طبع فيها كتبا على نفقته.
فنرى المترجم (رحمه الله) قد تقلب في أعمال مختلفة بين تجارة، وخدمة في الحكومة، وإنشاء المطابع والجرائد، ونشر الكتب وغيرها، وهو دون الثلاثين من العمر، ولم ينل كل مرامه من واحد منها مع اقتداره وذكائه؛ ولعل السبب في ذلك لحاجته في استثمار عمله قبل أن ينضج، وعدم ثباته في خطة واحدة؛ لأنه لو ثبت في التجارة مثلا ولم يرغب عنها في خدمة الحكومة لكانت تجارته من أوسع التجارات، أو لو ثبت في الخدمة ولم يعدل عنها إلى الصحافة والطباعة لكان من أكبر أصحاب المناصب، ولو ثبت في الصحافة إلى الآن لكانت صحيفته من أكبر الصحف وأهمها، ولكنه لم يكن يستقر على حال، والأذكياء الذين لا يثبتون في عمل إنما يكون سبب تقلبهم الرغبة في النجاح السريع، يريدون الطلوع إلى الأوج دفعة واحدة، فإذا استبطئوا الوصول إلى قمة النجاح في عمل تركوه وانتقلوا إلى سواه، فيئول ذلك في الأكثرين إلى ضياع العمر في بناء القصور بالهواء، ولو ثبتوا في عمل واحد مهما يكن نوعه لكفاهم مئونة الشكوى من معاكسات الزمان.
على أن المترجم لم يشك ضيما؛ لأنه كان مرعي الجانب، وما زال الخديوي إسماعيل يذكر صدق خدمته له، فلما حدث التغيير في منصب الخديوية سنة 1296ه، وأبعد الخديوي إلى أوروبا، واستقر في إيطاليا، استقدم المترجم إليه، فجاءه وأقام في معيته بضع سنوات، كان في أثنائها كاتب يده (سكرتيره العربي)، يكتب عنه الرسائل إلى الملوك والأمراء، ولم يكن ذلك ليمنعه من العمل لنفسه، فأنشأ في أثناء إقامته بأوروبا عدة جرائد؛ كجريدة الاتحاد، وجريدة الأنباء، ولم يثبت في واحدة منهما، أو لعله كان ينشئها لغرض مؤقت؛ فإذا ناله عطلها. وقال المؤيد إنه اشترك مع المرحوم السيد جمال الدين الأفغاني في تحرير «العروة الوثقى».
في سنة 1330ه ذهب إلى الآستانة على أثر إنشائه تلك الجرائد، فأكرم السلطان وفادته، وعينه عضوا في مجلس المعارف وناظرها يومئذ منيف باشا العالم الشهير، فقدر الرجل حق قدره، وقربه منه وعول عليه في كثير من شئون النظارة، وبعد أن أقام في هذا المنصب نحو عشر سنوات عاد إلى مصر، وعاد إلى الاشتغال بالكتابة وقد نضجت مواهبه الإنشائية، واكتسب ملكة الصحافة لطول ممارسته إياها، مع ما اختبره في أثناء أسفاره، ومخالطته كبار رجال السياسة، واطلاعه على مخبآت الأمور؛ فعمد أولا إلى مراسلة الجرائد بمقالات جامعة بين السياسة والأدب وقواعد العمران، أشهرها ما جمع على حدة في كتاب «ما هنالك»، ثم أنشأ جريدة مصباح الشرق الأسبوعية، وهو يتردد في خلال ذلك إلى الآستانة ويعود منها مشمولا بالنعم السلطانية من العطايا والرتب، حتى بلغ الرتبة الأولى من الصنف الأول ، وما زال عاملا في خدمة الصحافة العربية، مخلصا للبيت الخديوي، شديد التعلق بمرضاة الجناب العالي، وسموه يخصه بالمنح والمنن حتى توفاه الله في 29 يناير سنة 1906م وهو في الثانية والستين من عمره.
صفاته
كان ربع القامة، ممتلئ الجسم، حسن الملامح كما ترى رسمه في صدر هذه الترجمة، وكان حلو الحديث، لطيف النادرة، سريع الخاطر، حسن الأسلوب، نابغة في الإنشاء الصحافي وفي الطبقة الأولى بين كتاب السياسة رشاقة ومتانة وأسلوبا، مع ميل إلى النقد والمداعبة، ولا يخلو نقده من لذع أو قرص لا يراعي في ذلك صديقا ولا قريبا، حتى قيل: «لم ينج من قوارص قلمه إلا الذي لم يعرفه.» وقد انتقدوا عليه تقلبه في خطته، وذلك تابع لتقلبه في سائر أحوال معائشه؛ لما قدمناه من تردده في أعماله حتى قضى العمر في التنقل من عمل إلى آخر، وضاعت الفائدة التي كان يرجى استثمارها من مواهبه؛ لأنه كان نادرة في الذكاء وحدة الذهن والاقتدار على تفهم الأمور والإحاطة بخفاياها وكشف غوامضها، فلو رافقه الثبات في المبادئ والأعمال لكان من هذا الرجل غير ما كان.
وهاك مثالا من إنشائه (رحمه الله) يصف موكب صلاة الجمعة في الآستانة، قال:
ما قيصر في موكب انتصاره ولا الإسكندر في يوم افتخاره، أستغفر الله، بل ما سعد قادما من القادسية ولا المعتصم من عمورية أملأ للقلوب مهابة ولا للعيون بهاء من رؤية جلالة السلطان يوم الجمعة في موكبه.
في يوم الجمعة، قبل الظهر بساعتين، ترد العساكر رجالا وفرسانا من أطراف الآستانة إلى بشكطاش عشرة آلاف أو يزيدون، فينتظرون في طريق السراي السلطانية صدور الإرادة السنية بتعيين المسجد، وهي عادة جارية إلى اليوم، وإن كان المسجد الحميدي قد اختص بصلاة جلالته دون سواه، فإذا صدرت الإرادة اجتمعت العساكر في ساحة المسجد أمام باب السراي، واصطفت صفوفا مضاعفة بعضها وراء بعض، وفي هذه الأثناء تتسابق مركبات المشيرين والوزراء والمشائخ والأجانب من السفراء وغيرهم، فيجلس السفراء ومن كان معهم من علية قومهم الوافدين على الآستانة في قاعة الجيب الهمايوني المطلة على تلك الساحة التي لا يسمع السامع فيها قيلا ولا صهيلا إلا صليل الأسياف وترديد الأنفاس؛ هيبة وإجلالا وانتظارا واستقبالا لإشراق نور الحضرة السلطانية. فإذا حان وقت الصلاة أشرقت المركبة السلطانية المذهبة كالشمس ضياء من مطلع السراي تحمل الإمام نائب الرسول
صلى الله عليه وسلم ، ويجلس أمامه الغازي عثمان باشا، والمشيرون وكبار رجال المابين حافون من حول المركبة مشاة، خشع الأبصار ترهقهم ذلة من جلال تلك العظمة الأمامية، وهم في غير هذه الساعة أكاسرة الزمان وقياصرة الرومان كبرا وجبروتا، وكلهم في أمواج الملابس الذهبية يسبحون وعلى صدورهم نياشين الجوهر تخطف الأبصار وتأخذ الألباب، حتى إن الناظر ليكاد يوالي الحمد لله تباعا على ما منحه للدولة من عديد الرجال الصادقين في خدمة الأمة والملة بشهادة الكلمات الناطقة فوق النياشين، لولا ما يعتريه من الاشتباه فيهم، والنيشان عنوان كتبته الدولة ووضعته على صدر حامله شهادة منها للناس ببيان ما هو مكنون وراءه من فضائل الغيرة والحمية، فإذا اختلف المكتوب على الصدر عن المكنون في القلب كانت كبائع يغش الناس بوضعه على زجاجة الخل عنوان ماء الورد ... إلخ.
الفصل الخامس عشر
الشيخ إبراهيم اليازجي
ولد (رحمه الله) في 2 مارس سنة 1847م في بيروت، ونشأ فيها وتلقى مبادئ العلم على أبيه اليازجي الكبير؛ ولا سيما أصول اللغة وقواعدها. على أن أكثر ما اكتسبه من العلوم واللغات إنما قرأه على نفسه واكتسبه بجده وذكائه، وقد ورث الخيال الشعري عن أبيه، فنظم الشعر وهو صبي، وزاول النظم في شبابه، فلما قارب الكهولة عدل عنه إلى الاشتغال بسواه إلا ما قد ينظمه لحادث أو باعث، وكانت قد اشتهرت منزلته في جودة النظم، فتقاضى إليه الأدباء يستفتونه أو يستشيرونه أو يحكمونه في قصيدة أو مسألة، ولم يكن مجلسه يخلو من بحث أدبي أو شعري، فتحدق به حلقة من أدباء بيروت ولبنان، وكلهم آذان تسمع ما يتلوه عليهم أو يصدر حكمه فيه من شعر أو نثر، غير ما كان يرد عليه في هذا الشأن من رسائل الشعراء وغيرهم مما كاد يستغرق وقته ويشغله عن سواه، فصمم على ترك الشعر وتفرغ لدرس اللغة وآدابها وعلومها، فعكف على المطالعة، فدرس الفقه الحنفي على الشيخ محيي الدين اليافي أحد مشاهير أئمة بيروت.
الشيخ إبراهيم اليازجي 1847م-1906م.
وكانت الصحافة البيروتية في أوائل نهضتها، ومن جرائدها يومئذ «النجاح»، فعهد إليه بتحريرها سنة 1872م، فظهر اقتداره على الإنشاء العصري مما لم يعهد الناس مثله في المرحوم أبيه، فضلا عن تمكنه من قواعد اللغة ومعاني ألفاظها، وكان المرسلون الأميركان لما أرادوا نقل التوراة إلى اللسان العربي في أواسط القرن الماضي استعانوا في تنقيح مسوداتها وضبط عبارتها من حيث اللغة والإعراب بالمرحومين الشيخ ناصيف والمعلم بطرس البستاني، ثم بالشيخ يوسف الأسير، ولكنهم التزموا الترجمة الحرفية، ولم يبيحوا للمصححين التصرف بالأسلوب؛ فجاءت عبارة ترجمتهم ضعيفة. ثم عمد الآباء اليسوعيون إلى ترجمة الكتاب المقدس ترجمة كاثوليكية، فاستعانوا بالشيخ إبراهيم، وفوضوا إليه تنقيح العبارة من حيث الإنشاء، فضلا عن الضبط النحوي واللغوي، فقضى في ذلك، وفي تصحيح كتب أخرى، تسع سنين، وقد درس اللغة العبرانية على نفسه لتطبيق عبارة التعريب على الأصل؛ فجاءت ترجمة اليسوعيين أصح ترجمات التوراة العربية لغة، وأفصحها عبارة، وأجزلها أسلوبا. ويصدق ذلك على الخصوص في العهد القديم، أما العهد الجديد فقد أخبرنا (رحمه الله) أنهم لم يطلقوا يده في تنقيحه كما يشاء، وكان في أثناء ذلك وبعده يعلم المعاني والبيان وآداب اللغة في المدرسة البطريركية، فتخرج عليه جماعة من أذكياء الشبان، اشتهر بعضهم بالصحافة، وبعضهم بالتجارة أو الإدارة، وتمم بعض ما تركه والده غير كامل من المؤلفات أو الشروح؛ وأشهرها ديوان المتنبي، وكان والده قد علق على بعض أبيات المتنبي شرحا موجزا، فعكف هو على إتمامه سنة 1882م، فأتمه في أربع سنوات شرحا، وطبعه، وهو مشهور بضبطه وما ألحقه به من النقد الشعري.
وكانت الصحافة السورية قد نمت، وظهرت مجلة الجنان، ثم مجلة المقتطف، وتحدث بهما وبما استفادوه منهما، فأحب الشيخ الرجوع إلى الصحافة العلمية، وكان الدكتور بوسط الجراح الشهير قد أنشأ في بيروت مجلة طبية سماها «الطبيب»، فاتحد الشيخ مع صديقيه المرحوم الدكتور بشارة زلزل والدكتور خليل سعادة نزيل القاهرة وأصدروا الطبيب معا سنة 1884م، نشر فيه الشيخ - فضلا عما كان يكتبه زميلاه من المقالات الطبية والعلمية - مقالات لغوية وأدبية إنشاؤها من الطبقة الأولى، وحجب الطبيب عن قرائه في السنة التالية، ثم استأنف إصداره الدكتور إسكندر بك البارودي، ولا يزال يصدر في بيروت حتى الآن.
ترك الشيخ تحرير الطبيب ونفسه تتطلب الشهرة الصحافية، ورأى الآداب العربية والصحافة قد تحولتا إلى مصر بما أطلق فيها من حرية الأقلام والأقوال؛ فعزم على المجيء إليها لإنشاء مطبعة ومجلة علمية، واتفق على ذلك مع الدكتور زلزل شريكه في الطبيب، فبرح الشيخ مدينة بيروت سنة 1894م، وعرج ببلاد الإفرنج، أعد بها بعض ما يقتضيه مشروعهم من الآلات ونحوها، ثم جاء القاهرة وأنشأ مع زميله المشار إليه مطبعة البيان، وأصدر مجلة البيان سنة 1897م، ثم حجباها بعد سنة وافترقا. واستقل الشيخ بإنشاء «الضياء» سنة 1898م، وهي مجلة علمية أدبية صحية صناعية اشتهرت بمتانة إنشائها وفصاحة عبارتها وبلاغة أسلوبها كما سنبينه. وما زالت تصدر حتى حال الأجل دون إصدارها بعد انقضاء عامها الثامن، وكان (رحمه الله) قد أصيب بداء الروماتزم في أواخر الصيف الماضي بعد تحرير آخر أعدادها، فلما استبطأ الشفاء أعلن توقيفها ريثما يبل من الداء، وما علم أنه الداء الأخير، ففاضت روحه في المطرية بعد ظهر 28 ديسمبر سنة 1906م وهو في الستين من عمره ولم يتزوج. ولم يبق من بيت اليازجي إلا الشيخ حبيب ابن أخيه الشيخ خليل، فاحتفل أصدقاؤه ومريدوه بدفنه في اليوم التالي احتفالا يليق بمنزلته، فحملوا جثته بقطر خاص من المطرية إلى القاهرة، ومشى في جنازته من المحطة جمهور كبير من خاصة الأدباء والوجهاء، وأوصوا أن يرجئوا التأبين إلى يوم آخر يعين في وقت آخر، ثم احتفل في تأبينه بعض المحافل الماسونية بمصر والإسكندرية، فضلا عن حفلات التأبين وغيرها. وأمر سمو الخديوي سر تشريفاتي سموه أن يكتب إلى الشيخ حبيب كتاب تعزية، هذا نصه:
جناب الفاضل الشيخ حبيب اليازجي:
لما علم جناب الخديوي العالي بتعظيم رزء اللغة العربية وآدابها لانتقال العلامة الشيخ إبراهيم اليازجي من هذه الديار الفانية إلى الدار الباقية، أظهر مزيد أسفه على انقضاء تلك الحياة الطيبة الحافلة بجلائل الخدم للعلوم العربية في القطرين مصر والشام، وأمرني سموه الفخيم أن أبلغ جنابكم وسائر أعضاء الأسرة اليازجية تعزيته السامية، وإني أشترك مع قراء العربية في تقديم واجب التعزية إلى حضراتكم.
سر تشريفاتي الخديوي
أحمد زكي
والفقيد (رحمه الله) حائز على الوسام العثماني من جلالة السلطان، وعلى نوط العلوم والفنون من جلالة ملك أسوج ونروج، وانتدبته كل من الجمعية الفلكية في باريس وفي أنفرس والجمعية الفلكية الجوية في السلفادور أن ينتظم في عضويتها.
أخلاقه وصفاته
كان ربع القامة، نحيف البنية، عصبي المزاج، حاد البصر، ذكي الفؤاد، سريع الخاطر، حاضر الذهن، لطيف المحاضرة، حلو المفاكهة، لا يمل مجلسه، يطرب للنكتة الأدبية ويضحك لها، وكان مع ذلك شديد الحرص على كرامته، لا يحتمل مسها في جد أو هزل تلميحا ولا تصريحا، وكان سريع الانتباه لما يتخلل أحاديث المجالس من الإشارات الأدبية، وكان متعففا بطعامه وشرابه، ولولا ذلك ما صبر على معاناة صناعة القلم بضعة وأربعين عاما مع نحافة بنيته. وقضى أعوامه الأخيرة يقتصر في عشائه على كأس من اللبن خوف التثقيل على معدته، وإنما العمدة في الغذاء على أكلة الغداء، ولم يكن نهما، وأما في الصباح فيتناول طعاما خفيفا ويعكف على العمل، فإذا تغدى الظهر شرب قهوته ودخن شيشته ونام، ثم ينهض ويقضي بقية النهار في الراحة، أو في عمل لا يتعبه، ويخرج لترويح النفس في بعض الأندية يلاعب بعض معارفه بالنرد على سبيل التسلية، أو يقضي ذلك الوقت بالمباسطة والمفاكهة، فإذا آن العشاء عاد إلى منزله فيتناول اللبن ويستأنف العمل، وكان مولعا بتدخين الشيشة في أثناء الكتابة، كما كان والده مولعا بالقهوة وتدخين التبغ في ذلك الحين.
وكان عفيف النفس، كثير الإباء، ظاهر الأنفة إلى حد الترفع؛ ولا سيما فيما يتعلق بالارتزاق، يعد مجاملة الناس في سبيل الكسب تملقا، وكلما قل ماله زادت أنفته وعظم إباؤه، وكثيرا ما أراد أصدقاؤه إقناعه أن سنة الارتزاق تقضي بمجاملة الناس والتقرب من كبارهم بالحسنى، فربما أطاع ناصحه برهة ثم يعرض له خاطر فيعود إلى الإباء، ولولا ذلك لعاش في سعة وراحة، ولكن القناعة كانت من أكبر أسباب سعادته.
على أنه كان يشتغل بالقلم التماسا لتلك اللذة التي كثيرا ما أغوت أصحاب القرائح واستنزفت قواهم؛ فعاشوا فقراء وماتوا أعلاء. ولو أراد الشيخ مجرد الارتزاق لكان له مما فطر عليه من دقة الصناعة اليدوية خير سبيل، بل لم يكن يعدم منصبا في بعض مصالح الحكومة، وقد ندب أن يكون قائمقام على مدينة زحلة من لبنان سنة 1882م فلم يقبل.
ومن إبائه وكرم أخلاقه أنه كان صادقا في معاملته على اختلاف وجوهها، لا يحلف ولا يخلف، أمينا فيما ينقله أو يقتبسه من الآراء أو الأقوال، ينسب الفضل إلى صاحبه، وكان عكس ذلك فيما يفعله هو مع الآخرين من تصحيح مقالة أو تنقيح عبارة، فإنه كان شديد الإنكار لذلك، ولكن ديباجته كانت تنم عليه؛ لظهور أسلوبه من خلال السطور.
وكان برا بأبيه، وقد خدم اسمه وزاد في شهرته بما أتمه من آثاره أو شرحه من كتبه، فأنفق في سبيل ذلك جانبا كبيرا من وقته، وأتم شرح المتنبي، أو هو شرحه كله، فنسب الشرح إلى والده، واستبقى لنفسه فضل التتميم.
قرائحه ومواهبه
أظهر قرائحه الإتقان الفني؛ فإنه كان متأنقا في إتقان ما يتعاطاه من صناعة أو أدب أو شعر؛ سواء اصطنعه بيده أو أنشأه بقلمه أو نظمه بقريحته، بما يعبر عنه الإفرنج بقولهم
Artist ، فكنت ترى التأنق والإتقان ظاهرين في كل عمل يعمله، حتى في لباسه وجلوسه ومشيه وكلامه وطعامه، وكل ذلك فرع من تأنقه في الصناعة اليدوية، فكان حفارا ماهرا ومصورا متقنا، ظهر ميله إلى ذلك منذ حداثته. حدثنا صديقنا المستر إدوار فانديك، نجل أستاذنا الدكتور فانديك، أنه عرف الشيخ الفقيد منذ نيف وأربعين سنة؛ إذ كان يتردد على مطبعة الأمريكان في بيروت، وإدارتها يومئذ بيد الدكتور فانديك، وكانت للشيخ ناصيف علاقة حسنة بالأمريكان من التعليم بمدارسهم والتصحيح في مطبعتهم. قال صديقنا - المشار إليه - أنه كان يلاحظ في الشيخ إبراهيم من ذلك الحين ميلا خصوصيا لصناعة الحفر، وكثيرا ما كان يحفر الأختام على سبيل الغية، ثم حفر الصور والنقوش، وخطر له يوما أن يصطنع روزنامة عربية تعلق على الحائط من قبيل الروزنامات الشائعة، ولم تكن معروفة يومئذ بالعربية، فاستأذن الدكتور فانديك في استخدام بعض أدوات المطبعة لحفر الأحرف والأشكال اللازمة لهذا العمل، فأمر رئيس العمال في ذلك العهد موسى عطا أن لا يمنعه شيئا يحتاج إليه في هذا السبيل، فتأنق الشيخ في رسم حروف الروزنامة وأرقامها حتى أتمها على أجمل ما يكون، وهي أول روزنامة عربية من هذا النوع.
على أن تأنقه ظهر أولا في خط يده؛ فكان جميل الخط من حداثته، وظل خطه جميلا إلى آخر أيامه، وقاعدته فارسية، والذين يقرءون رسالة بخطه لا يكون إعجابهم بجمال ذلك الخط أقل من إعجابهم ببلاغة أسلوبه، ومن هذا القبيل تأنقه في التصوير باليد، حتى صور نفسه عن المرآة صورة ناطقة، رأيناها معلقة في منزله، وأهم ما نجم من ثمار هذه القريحة اصطناع الحروف الحديثة التي سنذكرها في جملة آثاره.
إنشاؤه
ومن قرائحه اقتداره الغريب على الإنشاء المرسل مع سلامة ذوقه في انتقاء الألفاظ، وأسلوب عبارته جمع بين المتانة والبلاغة والسهولة، يشبه أسلوب ابن المقفع شبها إجماليا، ولكنه من أكثر وجوهه خاص بالشيخ، على أن إنشاء ابن المقفع لم يصل إلينا كما كتبه صاحبه، ولكنه جاءنا بعد أن هذبته أقلام المنشئين ونقحته قرائح اللغويين زهاء اثني عشر قرنا، أما الشيخ فلم يمس عبارته سواه، ناهيك بما يعترض الكاتب اليوم من المعاني الجديدة التي لم يعرفها القدماء وليس في المعجمات لفظ يدل عليها، مما يقف عثرة في طريق المنشئين.
أما فقيدنا اليازجي فكان يتخطى هذه العقبات على أهون سبيل، فجاءت عبارته خالية من غريب اللفظ ووحشي التركيب، وقد يأتي باللفظ الغريب فيضعه موضعا يجعله مألوفا؛ فلا يمجه السمع ولا ينكره الفهم، فكان أسلوبه بليغا بلا تقعر أو تعقيد، سهلا بلا ضعف أو ركاكة، متسلسلا متناسبا متناسقا، يطابق ما قدمناه من توخيه التأنق والإتقان في كل شيء، ورغبته في الإتقان حملته على التأني في نشر ما يكتبه، فكان لا يرسل المقالة إلى المطبعة إلا بعد تنقيحها وتهذيبها، ثم يكتبها بحرف واضح جلي كأنه سلاسل الذهب؛ حذرا من الوقوع في الخطأ؛ فآل ذلك إلى إبطائه في إخراج بنات أفكاره، وقلل مقدار ما كان يرجى الحصول عليه من ثمار علمه ودرسه.
ومما حمله على المبالغة في التأني، أنه كان شديد الوطأة في انتقاد ما يعرض له من الغلط اللغوي فيما يقرؤه من الصحف أو الكتب، وذلك طبيعي فيمنيخصص بحثه في فرع من فروع العلم يستقصيه ويدرس دقائقه، فيكثر ما يقع عليه نظره من الغلط فيما يكتبه سواه في ذلك الفرع، فلا يصبر على السكوت عنه؛ ولا سيما إذا كان عصبي المزاج مطبوعا على التأنق والإتقان مثل فقيدنا؛ فالانحراف عن الصواب كان يؤلمه، ولا يشفي ألمه غير النقد، ويمتاز نقده بشدة اللهجة، وبما يتخلله من قوارص الكلم، لا يراعي في ذلك صداقة ولا عهدا. وسبب تلك الشدة - على الغالب - غيرته على اللغة وإخلاصه في خدمتها، فلما كتب «أغلاط المولدين» لم يستثن والده ولا نفسه؛ لأنه كان يرى الغلط اللغوي أو النحوي من أكبر السيئات، ويرى السلامة منهما من أكبر الحسنات؛ ولذلك كان يثني على شعر ابن الفارض، ويعجب بشعر المتنبي على الخصوص؛ لقلة ذلك الغلط فيهما، وربما احتقر شعر شاعر مطبوع أو مقالة عالم كبير إذا رأى فيها غلطا لغويا أو نحويا. فكان يبالغ في تنقيح ما يكتبه ويتأنق في إتقانه خوفا من الانتقاد، ولعله تنبه لذلك على الخصوص منذ أخذ في الدفاع عن والده لما انتقده الشيخ أحمد فارس وشدد النكير عليه. وكان الشيخ إبراهيم في إبان شبابه، فأجاد في الدفاع، وتعود الحذر من الخطأ بالمراجعة والتنقيح من ذلك الحين، فاعتبر مع سعة علمه بمفردات اللغة وجزالة أسلوبه كم تكون لغته صحيحة وعبارته بليغة فصيحة، حتى أصبح استعماله حجة وإنشاؤه قاعدة، فلا عجب إذا دعوناه حجة اللغة وإمام الإنشاء، وأكثر ما يكتبه مرسل سهل، وإذا سجع فلا تجد في تسجيعه تكلفا، وإليك أمثلة من ذلك، وهو من قبيل الشعر المنثور:
قال من مقالة في مصير الأرض:
واعتبر ذلك في الأرض وما يؤلف أديمها من الجواهر، ويشتمل عليه جوها من العناصر، وما يعيش عليها من النبات القائم في الصحراء، والحيوان السارح على وجه العراء، والسابح في لجتي الماء والهواء، تجد هناك سلسلة يتصل أعلاها بأسفلها، ويتحول بعضها إلى بعض حتى يرتد آخرها إلى أولها، بل ترى الأرض نفسها عرضة للطبيعة تغزوها بالسيول الجوارف، والرياح النواسف، والأمواج التي تهاجم ثغورها، والزلازل التي تصدع صخورها، متعاقبة عليها ما تعاقب الليل والنهار، إلى أن يأتي يوم تنحل فيه الجبال وترسب في درك البحار، ثم لا تزال المياه تسحل وجه الأرض حتى لا يبقى فيه أمت ولا انحناء، وحتى يغمرها الماء من كل ناحية وقد عاد سطحها مستويا تحت الماء كاستواء سطح الماء، فعادت كما كانت في أول خلقها، ماء غامر، وكون بائر، قد خلا من عالمي البر والهواء، ولم يبق فيه من ذوات الحياة إلا عالم الماء.
هذا إذا لم تصب الأرض قبل ذلك بالهرم، وينضب ماؤها بعد خمود ما في باطنها من الضرم، ولم تتشرب هواءها فلا يتنفسه بعد ذلك نبات ولا حيوان، ولا يجد ذو جناح ما يعتمد عليه جناحه في الطيران، على حد ما تم من مثل ذلك في القمر، حتى لم يبق فيه وشل لمرتاد، وحتى تجرد من ثوب هوائه أو كاد، وحتى أصبح قفرا هامدا لا ينبت عليه شجر، ولا يتنفس فيه دابة ولا بشر، بل لو بقي هواء الأرض وهو خال من بخار الماء لجمد البرد سطحها تجميدا، وانقبض الأحياء من وجهه حيث يقع شعاع الشمس عمودا، ثم لا يزال بساطهم يزداد ضيقا على توالي الحقب، إلى أن تموت آخر عشيرة منهم بالبرد والسغب، فتدفنها الثلوج حيث لا تنكشف رممها إلا يوم التلاقي، وتخط يد القضاء على أديم الأرض سبحان الحي الباقي.
وهذه إذا لم تهرب فتنقلب نارها بردا، ولكنه برد بغير سلام، فتهيم السيارات والأقمار من حولها في فضاء من الزمهرير والظلام، ويومئذ لا يبزغ الصباح، فيذهب آفاق المشرق ولا يقبل المساء فيخيم على أرجائه بجيشه المطبق، ولا يكون إذ ذاك كسوف ولا خسوف، ولا تبدو القبة الزرقاء بلونها المألوف، ولكنها تلتحف السواد حدادا على عالمها بالأمس، وقد التف بكفن من الثلج فآوته منها إلى مثل ظلمة الرمس، ويومئذ تتجمد البحار فلا يكون ثمة موج يتنفس ، ولا سحاب يتبجس، ولا سيل يتدفق ولا جدول يترقرق، وتركد حركة الهواء، فلا تهب شمال ولا صبا، ولا تجري نسمة على الوهاد والربى، وأنى والشمس مصدر الحركة في العوالم، وقوام الحياة لكل قائم، فإذا هب الريح فالشمس هي التي تهب، وإذا دبت النعم فالشمس هي التي تدب، فإذا انتشر الغمام فهي التي تنتشر، وإذا انهمرت الغيوث فهي التي تنهمر؛ ألا وهي الشمس التي تجري في الأنهار، وهي التي تغرد في الأطيار، وهي التي تزهر في الرياض، وهي التي يسمع حفيفها في الغياض. وعلى الجملة، فالشمس هي روح الكائنات وفؤادها، وإذا ماتت الأفئدة فمحال أن تعيش أجسادها.
وقال من مقالة في وصف القمر:
بل هو مثال الرونق والجمال، وآية الأبهة والإجلال، إذا برز من الأفق فانهزمت من وجهه جيوش الظلماء، وانفرجت الكواكب لمره في عرض السماء، فأقبل يتنقل بينها وهو يمير عزة وخيلاء، فسمت إليه الأبصار إعجابا وإكبارا، وانصرفت إليه ابتهاجا واستبشارا، وانطلقت إليه النفوس نشاطا وارتياحا، واتسعت به الصدور انبساطا وانشراحا، وخلا إليه العاشق يتذكر وجه حبيبه، ولها به المحزون فسلا عن حبيبه ونسيبه، وآوى إليه المسهد فكان سميره في سهده، واتخذه المسافر رفيقا فذهل به عن مخاوف سفره ومشقة جهده، وجلس إليه الشرب يتعاطون مثل الشمس في مثله، وتساير بإزائه المتعاشقان يستبصران بنوره ويستتران بظله، وقد تخلل شعاعه نسج النسيم، حتى اتحد اتحاد الماء بسلافة النديم، فكان ألطف ما مر ببصر في ألين ما التحف بشر، فأسجل الشاهد أن لياله أصفى الأوقات، وأنه الجالي لأكدار النهار كما تجلى كدورة الظلمات.
لا بل هو مبعث الوحشة ومحرك الأشجان، ومثير هواجس الصدر وبلابل الجنان. إذا طلع في ليله وقد سكتت الأصوات، وسكنت الحركات ولم يبق إلا تموج الهواء باختلاف الأصوات الصوامت، وخفيف النسائم بين ورق الشجر المتخافت، فأرسل نوره الضعيف سابحا في أنحاء الفضاء، مترقرقا على وجه الغبراء، تظهر من تحته الوهاد المنبسطة في العراء، والقمم الشاخصة في الهواء، لا يمشي فيها حيوان ولا تسمع نأمة إنسان؛ فوقف المتأمل أمام مشهد ذلك الجمود وقد ملكت عليه مشاعره حتى توهم نفسه أنه بمعزل عن الوجود، فتخيل ما حوله من الأرض مجاهل خالية أو أطلالا بالية، بل تخيل الأرض كأنها يوم خلقت فهي أدغال وتنائف، وتصور نفسه آدمها وقد وقف فيها بين الدهش والمخاوف؛ فخيمت فوقه وحشة العزلة، وأحاطت بنفسه هيبة الوحدة، وانبعثت الأشجان في صدره فتفرع لمناجاتها، وهاجت الذكر في نفسه فغاص بين تياراتها، وتوارد عليه من الخواطر ما حبب إليه اللحاق بعالم الفناء، ثم استهواه ما يرى من جمال الطبيعة فثابت إليه الرغبة في البقاء؛ فتمنى لو اتخذ سببا إلى هذا العالم الماثل فوق رأسه، أو تعلق بما تدلى إليه من أشعة نبراسه، فربما تخيل أن هناك حدائق غلباء، ومدائن غناء، وقصورا شاهقة، وأنهارا دافقة، وأقواما يمرحون في نعيم، ويرتعون في خصب مقيم، وما تمت لو يعلم إلا كون جامد، وقفر هامد، وسكوت سائد، وحطام خلق بائد، لا يخطر هنالك غاد ولا رائح، ولا يسمع صوت باغم ولا صادح ولا يسبح طائر في السماء، ولا يدب حيوان على العراء، ولا يخضر واد ولا أكمة، ولا تحسب أذيالها نسمة، ولا ينتشر سحاب ولا ضباب، ولا يترقرق ماء ولا سراب، ولكن جملة ما هنالك طلل داثر، وعالم من عوالم الدهر الغابر، بل جنازة يطاف بها حول الأرض، وإن لم تحملها المناكب، وقد صلت عليها السيارات فترحمت عليها الكواكب.
وقال من مقالة في وداع القرن التاسع:
من تأمل كرور الأدهار، وتعاقب الليل والنهار، ورأى الثواني تجر الأيام، والأيام تجر الأعوام، والناس يذهبون بين ذلك أفواجا، ويمرون فرادى وأزواجا، ورأى أن هذه الحركة التي نرى بها الشمس تطلع من المشرق، ثم نراها تغيب في المغرب، يتخللها من حركات دقائق الكون ما يمثل دبيب عوامل الفناء، حتى لا يرد كل منظور إلى عالم الهباء، وقف حائرا دهشا يتأمل في الكائنات وفي نفسه، وقد اختلط عليه الوجود بالعدم حتى كاد يتهم شواهد حسه، ثم نظر فتمثل وراءه ماضيا تغيب أوائله في ظلمات الأزل، وأمامه آتيا تتصل أواخره بحواشي الأبد، وهو بينهما كنفاخة قذفها التيار فوق أديم البحر، فما كاد يقع عليها ضوء الشمس حتى عادت إليه فغاصت فيه آخر الدهر؛ فملكه من الرهب ما ارتعشت له أعضاؤه، ومن الإشفاق ما جمدت له دماؤه، ثم تمنى لو تخلص من هذا الوجود المشوه، وأيقن أن الكون ضرب من الزور المموه؛ إنما هي صور تتبدل، وأشكال تتحول، وهي المادة إلى أن تنحل الأرض وينتثر نظام السيارات والأقمار، وتتبدد ذرات الشمس في الفضاء، فيمحى رسمها من صحيفة الأدهار.
ودعنا القرن التاسع عشر كما يودع المرء يومه عند انقضائه، وقد تذكر ما لقي بين صباحه ومسائه، وما تقلب عليه من حالي كدره وصفائه، ثم استشف من خلال ليله المقبل وميض صباح الغد باسما عن ثغور الآمال، مبشرا بما فاته في يومه من الغبطة ونعمة البال؛ فبات يعد نفسه المواعيد، ويرى كل بعيد من الأوطار أقرب إليه من حبل الوريد. وقد ذهل أكثرنا عن أنه يودع شطرا من دهره، وقد يكون من بعضنا أطيب شطري عمره، فإذا التفت إلى خلفه رأى خيال نشأته وشبابه، وتمثلت له أوقات لذته ومجالس أترابه، والصفحة التي ارتسم عليها تاريخ ميلاده، ودون فيه تذكار أبهج أعياده؛ فحن إلى أيامه السوابق، حنين المحب المفارق، وقد حيل بينه وبينها وطويت عليها صحيفة الفناء، وختم عليها بطابع الأبد فهي هناك إلى يوم اللقاء.
شعره
وقد رأيت أنه نظم الشعر في شبابه وقعد عنه في كهولته، على أن شاعريته ظاهرة فيما ظهر من شعره، وبين منظوماته ما جرى على ألسنة القوم مجرى الأمثال مع رغبته في كتمانه؛ إذ جمعه في كتاب بخط يده وضن على الناس بنشره، وهو لا يزال باقيا كما تركه؛ ومن أشهر شعره قصيدته السينية التي مطلعها:
دع مجلس الغيد الأوانس
وهوى لواحظها النواعس
وأختها التي مطلعها:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب
فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب
والقصيدتان مهيجتان، اقتضتهما بعض الأحوال السياسية في سوريا من التحريض على النهوض. ولعل الفقيد حمل على نظمها بإشارة جماعة أو أمر رجل كبير، فجاء نظمهما بليغا.
ومن قوله في النسيب والغزل:
ما مر ذكرك خاطرا في خاطري
إلا استباح الشوق هتك سرائري
وتصببت وجدا عليك نواظر
باتت بليل من جفائك ساهر
بلغ الهوى مني فإن أحببت صل
أو لا فدتك حشاشتي ونواظري
قسما بحسنك لم أصادف زاجرا
إلا وحسنك كان عنه زاجري
أوما كفاك من الذي لاقيته
وله كساني الذل بين معاشري
وضنى يكاد يشف عن طي الحشى
حتى خشيت به افتضاح ضمائري
أخذت عيونك من فؤادي موثقا
وعلي عهد هواك لست بغادر
كن كيف شئت تجد محبك مثلما
تهوى على الحالين غير مغايري
صبري عليك بما أردت مطاوع
أبدا ولكن عنك لست بصابر
عذبت قلبي بالصدود وإن يكن
لك فيه بعض رضى فدونك سائري
وأضعت عمري بالدلال وحبذا
إن صح عندك مطمع في الآخر
كثر التقول بيننا وتحدثوا
يا هاجري حاشاك أنك هاجري
وأطال فيك معنفي فعذرته
وعساك في كلفي فديتك عاذري
حسبي رضاك إذا مننت بزورة
يمسي المزور بها رقيق الزائر
ومن قوله في الحكم:
حياة أسر العيش فيها مذمم
وناس بها قلب الخلي متيم
سقت كل قلب كل يوم مشاربا
توهم فيها لذة وهي علقم
وما الأرض إلا قفرة زأرت بها
أسود المنايا حولنا وهي حوم
لها كل يوم بيننا كل منذر
ينادي علينا مسمعا وهو أبكم
تنبهنا بعضا ببعض فتنثني
وأجفاننا في غفلة اللهو نوم
خلت دونها شم الحصون فلم تكن
لساكنها من غارة البين تعصم
وأصبح من قد كان يرهب بأسه
يناح عليه بعد حين ويرحم
تراب من الأرض استوى تحت صورة
تلوح عليها مدة ثم تهدم
إذا ما دفعنا للبلية مرة
ولم ننتفع بالحزن فالصبر أحزم
جرى قدر المولى بما شاء واستوى
لديه جزوع في الأسى ومسلم
وليس لنا من مطمع فات نيله
إذا كان ما نبغيه ما ليس يغنم
وما كان ما لا بد منه مؤخرا
يهون لديه الرزء وهو مقدم
وما الفرق في الحالين إلا هنيهة
تمر سريعا والقضا متحتم
ومن قوله في الحكم أيضا:
وإنما نحن في دار إذا اعتبرت
ليست سوى مأتم ناحت به البشر
في كل يوم أناس فوقها فجعوا
على أناس طوتهم تحتها الحفر
بئس الحياة التي ما زال واردها
يمازج الورد في كاساته الصدر
حالان إحداهما مملوءة حذرا
مما يليها وأخرى فاتها الحذر
ومن قوله في الرثاء:
أيها النائح المبكر مهلا
جاوز الأمر دمعك المستهلا
شق من قبلنا الورى كل قلب
ولقد كان لو شفى النفس سهلا
إنما نحن ثاكل وصريع
ذاك يشقى وذاك في الترب يبلى
ليس أرض لم يسقها صوب دمع
أو سماء لم يشجها نوح ثكلى
ومما جرى مجرى الأمثال، ويصح أن يكتب بماء الذهب، بيتان قالهما في معرض رد على أحمد فارس الشدياق لما انتقد كتب والده وشدد الطعن عليه، فقال الشيخ إبراهيم:
ليس الوقيعة من شأني فإن عرضت
أعرضت عنها بوجه بالحياء ندي
إني أضن بعرضي أن يلم به
غيري فهل أتولى خرقه بيدي
ومن نظمه ليكتب على عود:
وعود صفا الندمان قدما بظله
وما برحت تصفو إليه المجالس
تعشقه طير الأراكة أخضرا
وحن إليه ريشه وهو يابس
ومن نكاته الشعرية:
تعجب قوم من تأخر حالنا
ولا عجب في حالنا إن تأخرا
فمذ أصبحت أذنابنا وهي أرؤس
غدونا بحكم الطبع نمشي إلى الورا
وكانت له قريحة في الرياضيات واطلاع واسع في علم الفلك، اتصلت بسببه مخابرات بينه وبين بعض كبار الفلكيين الفرنساويين، واشتغل في حل المشكلة الرياضية المشهورة، وهي قسمة الدائرة إلى سبعة أقسام، وتوصل قبل وفاته ببضع سنين إلى حل يقرب من الصواب كثيرا، بعث به إلى أكاديمية العلم في باريس، ولا نعلم ما صار إليه أمره. وكان عارفا اللغة الفرنساوية، وله إلمام بالعبرية والسريانية، ومشاركة حسنة في العلوم الطبيعية.
أعماله وآثاره
نظرا لما قدمناه من طبعه في التأنق والإتقان، وتوخيه التأني والتدقيق، فقد جاءت ثمار قرائحه أقل مقدارا مما كان يرجى من مثله - كما قدمنا - فضلا عن انصراف ذهنه في شبابه إلى الاشتغال بالحفر والرسم، على أنه خدم اللغة العربية من هذا الطريق خدمة ذات بال باصطناع حروف العربية في بيروت؛ وذلك أن الطباعة بالحروف الإفرنجية لم تكد تظهر بأوروبا بأواسط القرن الخامس عشر حتى اهتم أصحابها هناك باصطناع الحروف العربية، فاصطنعوا حروفا طبعوا بها كتبا بالبندقية وروما وباريس ولندرا وأكسفورد وغيرها، ولكل منها تقريبا شكل خاص وإن تشابهت على الإجمال. ثم ظهرت الطباعة العربية في الآستانة، وحرفها يعرف بالحرف الإسلامبولي، ويشبه القاعدة التي تقرؤها في هذه الصفحة.
وفي أوائل القرن الثامن عشر ظهرت الطباعة في سوريا نقلا عن حروف رومية، ثم جاء المرسلون الأميركان إلى سوريا في أوائل القرن الماضي، ولهم مطبعة عربية في مالطة أسسوها سنة 1822م، وحروفها من حروف مطابع لندن، وطبعوا بها كتابا بعناية المرحوم الشيخ أحمد فارس، ثم نقلوها إلى بيروت سنة 1834م، وبعد انتقالها بأربع سنين اهتم مديرها يومئذ المرحوم عالي سميث باصطناع حروف جديدة، فاستخدم أحد كتبة الآستانة، فكتب له حروفا جميلة سبكها في لايبسك، وهي الحروف الأميركانية المشهورة.
ولكن القاعدة الأميركانية على جمالها ورونقها كانت كثيرة النفقة في اصطناعها لكثرة أشكالها، والقاعدة الإسلامبولية تفضلها من هذا القبيل، لكنها تقل عنها من جهات أخرى؛ فعني الشيخ صاحب الترجمة سنة 1886م بصنع قاعدة جديدة يجمع بها حسنات الحرفين، وهي القاعدة المعروفة بحرف سركيس؛ لأنها تسبك في مسبك خليل أفندي سركيس، صاحب لسان الحال في بيروت. وهي القاعدة الشائعة الآن في أكثر المطابع العربية في سوريا ومصر وأميركا . واصطناع هذه الحروف يحتاج إلى دقة ومهارة لا يعرف مقدارهما إلا من يعاني هذه الصناعة؛ لأن الحرف لا يتمثل للطبع إلا بعد أن يحفر على قضيب من الفولاذ حفرا دقيقا، ويقال له باصطلاح الطباعة «الأب»، ثم يضرب على النحاس ضربا حتى يطبع غائرا في النحاس، ويسمونه حينئذ «الأم»، وعلى هذه الأم يصبون الرصاص فيخرج الحرف المعروف في المطابع ... فالشيخ كان يصطنع الأب من الفولاذ ويضربه على الأم النحاسية، واصطنع هذا الحرف عدة أقيسة. ولما جاء القاهرة صنع حرفا على قياس متوسط بين الحروف الكبرى والصغرى يعرف بحرف «بنط 20»، وقد اتخذته مسابك القاهرة واصطنعوا له قوالب، وشاع استعماله في مطابعها، وبه طبعنا هذه الترجمة.
وأدخل في الطباعة العربية بعد قدومه مصر صورا للحركات الإفرنجية، يحتاج إليها المعربون في التعبير عن الحركات الخاصة بها التي لا مقابل لها في العربية، ولما أرادت الحكومة المصرية صنع حروف مطبعة بولاق سنة 1903م على قاعدة مختصرة مفيدة كانت الأبصار متجهة إلى الشيخ؛ لأنه أقدر من يستطيع ذلك بالدقة والرونق، ولو فوضت إليه هذا العمل لأحسنت صنعا، واستثمرت قريحته ثمرا نافعا للغة العربية على الإجمال.
أما آداب اللغة العربية فقد خدمها الشيخ خدما ذات بال بما ألفه أو نقحه أو انتقده أو وضعه في المصطلحات الجديدة، وإليك البيان:
فمؤلفاته أكبرها «الضياء»، وقد ظهر منه ثمانية مجلدات، وفيها مقالات في مواضيع شتى، من جملتها مقالات ضافية في انتقادات لغوية يحسن أن يعاد طبعها على حدة خدمة لهذا اللسان، وهي: (1) اللغة والعصر. (2) لغة الجرائد، فقد انتقد بها ما هو شائع في الصحف السيارة من الغلط اللغوي. (3) مقالة في التعريب، بين بها شروط التعريب وتاريخ ذلك من صدر الإسلام. (4) أغلاط العرب القدماء. (5) اللغة العامية واللغة الفصحى. (6) أصل اللغات السامية. (7) نقد لسان العرب، وهو بحث طويل انتقد به الطبعة المتداولة من معجم لسان العرب. (8) أغلاط المولدين، بين فيها ما وقع للمولدين من الغلط اللغوي في صدر الإسلام إلى الآن، وفي جملة ذلك ما وقع للمرحوم والده، ثم ذكر ما وقع هو نفسه فيه من الخطأ في بعض المواضع. فهذه المقالات وغيرها من الأبحاث اللغوية كمقالتيه في المجاز والنبر في اللفظ العربي، وغيرهما مما ظهر في البيان والطبيب، لو جمعت لزاد مجموعها على مائتي صفحة، وفي الضياء مقالات فلكية في القمر وحركاته، والزهرة والمريخ والشمس والمشتري، وقياس الأجرام السماوية، وما وراء نبتون، وتكون العالم الشمسي، وسعف الشمس، وغيرها مما يدخل في مائة صفحة أو مائتين. ومن مؤلفاته التي ظهرت كتاب «نجعة الرائد» في المترادف والمتوارد من ألفاظ اللغة العربية وتراكيبها، في مجلدين.
وكان (رحمه الله) قد شرع من سنوات عديدة في وضع معجم للغة العربية، يشتمل على المأنوس من كلام العرب الأولين، وعلى ما طرأ من موضوعات المولدين والمحدثين، مقتصرا على الفصيح دون المولد، والمحدث في الاصطلاح، وسماه «الفرائد الحسان من قلائد اللسان»، وقد شغلته العوائق عن إتمامه، وكنا نحسب مواده مجموعة كلها أو بعضها، فإذا هي تعاليق على حواشي الكتب وبعض المذكرات في أوراق متفرقة، لا يستطيع جمعها أو تأليفها سواه، فذهب الأمل بظهور ذلك الكتاب المفيد.
أما ما صححه من الكتب، فأهمها ترجمة التوراة اليسوعية التي تقدم ذكرها، وفيها خدمة كبرى في ضبط لغة المسيحيين لاكتساب الملكة الصحيحة بمطالعتها من صغرهم. ومما صححه وهذب عبارته تاريخ بابل وآشور تأليف جميل أفندي مدور، ونفح الأزهار في منتخبات الأشعار ودليل الهائم في صناعة الناثر والناظم للمرحوم شاكر البتلوني، وعقود الدور في شرح شواهد المختصر للمعلم شاهين عطية، ورسالة الغفران؛ غير ما صححه أو اختصره أو شرحه من كتب المرحوم والده؛ كمختصر نار القري، ومختصر الجمانة لمطالع السعد ومطالع الجوهر الفرد، والعرف الطيب في شرح ديوان أبي الطيب، وغيرها.
ومن آثار علمه أنه انتقى ألفاظا اصطلاحية لما حدث من المعاني العلمية بنقل العلوم الحديثة إلى اللغة العربية بما عرف به من سلامة الذوق في اختيار الألفاظ، وهاك أمثلة من ذلك مرتبة على أحرف الهجاء مع أصولها الفرنساوية:
الأربة
Cravate
الشمبنزي
Chimpanzé
الاستعهاد
Assurance
الشحنة
الأسرب
الشعار
Armoiries
الأنبوبيات
Bacilles
الشعرية
Brosse
البائنة
Dot
الضلع
Fuseau
البيئة
Milieu
الطارئة
Colonie
التألق
الطبرخي
Cutta-Percha
التليد
Acclimatation
الطلاء
Vernis
الجناح
Balcon
الكفاف
Cadre
الحاكي
اللهاة
Valve
الحساء
Soupe
اللولب
Vis
الحسر
Myopie
المأساة
Tragédie
الحوذي
Cocher
المتمعجات
Vibrions
الدراجة
Bicyclete
المجلة
Révue
الدريئة
Écran
المحبب
Granit
الذريرات
Microcoque
المصلد
Imperméable
الراجبيات
Bactèries
المقصف
Buffet
الرثية
Rhumatisme
المصقلة
Guillotine
الرعاد
Torpille
المنضحة
Douche
السفع
Tache (du soleil)
النابض
Ressort
الشاري
ومن هذا القبيل وضعه «النوام» لمرض النوم الذي حدث في أفريقيا مؤخرا، و«المداد» القلم الحبر المشهور، وغير ذلك مما يصعب حصره.
الفصل السادس عشر
خليل خوري
مؤسس الصحافة العربية في سوريا
تمهيد في النهضة العلمية الحديثة ونصارى الشام
نريد بالنهضة العلمية الحديثة الانتقال الذي أصاب آداب اللغة العربية في القرن الماضي على أثر اختلاطنا بأهل التمدن الحديث، واقتباسنا علومهم المبنية على المشاهدة والاختبار، واقتفائنا آثارهم في إنشاء المطابع والجرائد وغيرها من عوامل التمدن، وكان العلم قبل هذه النهضة لا يزال على النمط القديم الذي بني على أنقاض التمدن اليوناني والفارسي منذ نيف وألف سنة، فكان معولهم في الطب على ابن سينا والزهراوي، وفي الحيوان على الجاحظ والدميري، وفي الكيمياء على جابر والرازي، وفي النبات على ابن البيطار، وقس على ذلك سائر العلوم الطبيعية والرياضية. على أنهم قلما كانوا يشتغلون بهذه العلوم، وإنما كان معولهم في الأجيال الوسطى على العلوم اللسانية؛ كالصرف والنحو والشعر، وبعض العلوم الأدبية؛ وكان ذلك قاصرا تقريبا على المسلمين - ولا سيما من حيث الشعر واللغة جريا على سنة الاستمرار. ولما جاءنا التمدن الحديث، وقد حمله إلينا نصارى الغرب، كان نصارى الشام أسبق إلى اقتباسه من المسلمين.
وإذا أعملنا الفكرة في تاريخ هذه النهضة في الشام على الخصوص رأيناها مرت في نموها على ثلاثة أطوار: الأول يبدأ بدخول إبراهيم باشا الشام سنة 1832م، وينتهي بحادثة سنة 1860م؛ لأن إبراهيم حمل معه غرض أبيه من التقريب بين الطوائف المختلفة ليجتمع العرب تحت لوائه وينصروه في تأييد دولته، والتفت إلى نصارى الشام على الخصوص لقيام بعض رجالهم في نصرته، وكانت مصر قد سبقت سائر المشرق إلى إنشاء المدارس على النمط الحديث ولا سيما الطب. وكان مع إبراهيم جماعة من الأطباء المتخرجين في مدرسة الطب المصرية، وأراد مثل ذلك للسوريين فأجاز لهم إرسال عدد من أبنائهم إلى مدرسة الطب المصرية يتعلمون فيها على نفقة حكومتها - جعل ذلك قاعدة متبعة لم تبطل إلا من عهد قريب.
لم تطل إقامة إبراهيم في الشام فخرج منها سنة 1840م وخلف في نفوس أهلها احتراما للعائلة الخديوية، ورغبة في وادي النيل، وشوقا إلى علومه، فأمه كثيرون تلقوا فيه الطب وغيره، وعادوا إلى بلادهم ينشرون ثمار رقيهم بين أهليهم وذويهم؛ فحدثت في نفوس القوم نهضة رافقها قدوم بعض جالية الإفرنج من المبشرين، وترغيب الناس في تعليم أبنائها مجانا، فنبغ من نصارى الشام غير واحد من الأدباء والشعراء كاليازجي الكبير، وكرامة، ومراش، وحسون، ودلال، وبعضهم اشتغل بالعلوم العصرية كالدكتور مشاقة بالشام، وآخرون بالتاريخ كطنوس الشدياق، ونبغ في هذا الطور أيضا مارون النقاش واضع علم التمثيل في اللغة العربية.
ويبدأ الطور الثاني بالحوادث المشئومة التي أصابت بلاد الشام سنة 1860م، فاهتزت جوانبها وانتقل المصابون من أهلها إلى بيروت، وداخلت فرنسا في شئونها، ووجدت سائر الأمم وسيلة لإنفاذ المبشرين، فابتنوا المدارس الكبرى، وألفوا الجمعيات، وطبعوا الكتب في العلوم الحديثة وغيرها؛ فنشأت طائفة من الأطباء والعلماء والكتاب أنشئوا الصحف وألفوا الكتب أو نقلوها أو لخصوها، وأصبحت بيروت مبعث العلوم العصرية ومنشأ رجال الصحافة وكتاب الأدب والسياسة. وفي هذا الطور نبغ مؤسسو هذه النهضة، وفيهم أشهر كتاب الشام وشعرائها في القرن الماضي، كالبستاني واليازجي والشدياق وأديب ونقاش وشميل وتقلا ونوفل ومشاقة وخوري وغيرهم، وأكثرهم من المسيحيين اللبنانيين. ووافق ذلك قيام إسماعيل على عرش الخديوية المصرية، وقد رغب الناس في النزوح إلى مصر، ونشط أهل الأدب، فنزح إليها جماعة منهم أنشئوا فيها الصحف ومثلوا الروايات وألفوا الكتب ونظموا الشعر. وينقضي هذا الطور بالانقلاب السياسي الذي أصاب مصر على أثر الحوادث العرابية.
والطور الثالث يبدأ بالاحتلال الإنكليزي بمصر لتكاثر الوفود من أدباء السوريين في أثنائه إلى وادي النيل للعمل بالأدب أو التجارة أو خدمة الحكومة أو الزراعة أو غيرها، وكان لهم شأن كبير في الحركة العلمية والمالية والصحافية، وكانت الهجرة في أول الأمر قاصرة على المسيحيين، ثم تطرقت إلى المسلمين، فهاجر منهم جماعة من الكتاب والعلماء لأسباب لا محل لها هنا؛ فكأن الشام في الطور الثالث من نهضتها قد تقهقرت إلى الوراء، أو أنها وقفت حيث كانت. ويمتاز هذا الطور في بيروت بنبوغ طائفة من أدباء المسلمين اشتغلوا بالصحافة والعلوم الحديثة، فضلا عن الأدب والشعر.
فالنهضة العلمية في الشام مرت على ثلاثة أطوار، يبدأ كل منها بفتح أو ثورة ولا نزال في الطور الثالث.
خليل الخوري
ولد سنة 1836م في الشويفات من أعمال لبنان، ثم انتقلت عائلته إلى بيروت مهجر اللبنانيين؛ ولا سيما بعد دخولها في حوزة الدولة المصرية على عهد إبراهيم، ولم يكن فيها مدارس كبرى، فتلقى مبادئ العلم في بعض المدارس الطائفية للروم الأرثوذكس على ما تأذن به أحوال ذلك العصر، وكان فيه ذكاء ونشاط، ونفسه تبغي العلى فطلب الرقي من طريق القلم، ولا سبيل إليه - يومئذ - إلا بخدمة الحكومة، وهي عسيرة على غير المسلمين إلا لمن تفقه بالعلم وأتقن اللغة التركية؛ فأخذ يتعلمها، وتعلم اللغة الفرنساوية على أساتذة مخصوصين حتى أتقنهما تكلما وكتابة، فتاقت نفسه للاشتغال بالقلم، فأقدم على الصحافة - وهو أول من فعل ذلك في الشام - فأنشأ جريدة «حديقة الأخبار» سنة 1857م قبل انقضاء الطور الأول من هذه النهضة وهو في الحادية والعشرين من عمره، وما زالت تصدر وحدها في بيروت حتى صدر الجنان للبستاني سنة 1870م، وظلت الحديقة تصدر إلى سنة 1906م، فأوقفها مراعاة لصحته.
خليل خوري 1836-1907م.
وأفضت مصر إلى سعيد باشا سنة 1854م، وشخص إلى الشام سنة 1859م، وأقام في بيروت ثلاثة أيام، فاحتفل به وجهاؤها، وكان إذا مشى في الطرقات نثر الذهب على الناس، فأحبوه ورغبوا في بلده، ولا يقدم على ذلك غير الأديب الهمام، فشخص صاحب الترجمة إلى مصر، وكان ينظم الشعر من صباه، فنظم قصيدتين رفعهما إلى سعيد باشا، وحظي بمقابلته فأعجبه أدبه وذكاؤه، فعهد إليه أن يؤلف كتابا في تاريخ مصر، فعاد إلى سوريا والحرب الأهلية ناشبة أظفارها، وقد جرت المذابح في دمشق وحاصبيا ودير القمر وغيرها، وألف الباب العالي لجنة دولية، مندوبها العثماني فؤاد باشا الشهير، فاحتاج إلى رجل يحسن التفاهم بينه وبين الناس فوقع اختياره على صاحب الترجمة، فتعين في معيته، وكان رفيقه في مهمته، ولما رجع فؤاد ظل خليل بمعية قبولي باشا إلى الفراغ من تلك المهمة.
وكان في أثناء ذلك يشتغل بتأليف تاريخ مصر، ففرغ منه سنة 1864م، وقد صارت الخديوية إلى إسماعيل باشا، فحمل الكتاب إليه فأجازه بألفي جنيه، ولم نقف على ذلك الكتاب ولا سمعنا به قبل البحث عن ترجمة هذا الفقيد. وعاد خليل إلى سوريا وقد أصبح موضع إعجاب رجال الدولة، فجعلت الحكومة جريدته رسمية لنشر أوامرها وأخبارها. ولما أنشئت مطبعة سورية وجريدتها عهدت إليه بإدارتها، وأوعزت إليه حكومة لبنان على عهد فرنكو باشا أن يصدر جريدته باللغتين العربية والفرنساوية، وبذلت في مقابل ذلك ثلاثة آلاف قرش كل شهر، وعهدت إليه الحكومة العثمانية بتفتيش المدارس غير المسلمة في سوريا، وعينته مديرا للمطبوعات فيها، وهي توالي عليه الإنعام بالرتب والنياشين، ثم عينته سنة 1880م مديرا للأمور الأجنبية في ولاية سوريا، وظل في هذا المنصب حتى أحيل على المعاش قبيل وفاته.
وكان له شقيق أديب اسمه سليم، فيه نشاط أخيه وذكاؤه، فاشترك مع سميه المرحوم سليم شحادة في تأليف معجم مطول في التاريخ والجغرافية - لو تم لكان أحسن ذخيرة لآداب اللغة العربية - سمياه آثار الأدهار. فتوفي سليم الخوري سنة 1875م، ولم يصدر من الكتاب إلا بضعة أجزاء، فتوقف العمل. وكانت تلك الوفاة صدمة قوية على صاحب الترجمة، وخسارة كبيرة على اللغة العربية.
صفاته وأعماله
كان (رحمه الله) طويل القامة، حيوي المزاج، قوي البنية، أبيض اللون، أشهل العينين، أسود الشعر، بشوشا مع هيبة ووقار، وكان دمث الأخلاق، حسن المحاضرة، رقيق الجانب، ميالا إلى البساطة، بعيدا عن الأبهة والبهرجة، رحب الصدر، متوقد الذهن، سريع الخاطر، رقيق الإحساس، وتظهر رقة شعوره على الخصوص في شعره الغزلي، وكان وجيها، حسن الوفادة، بيته منزل الولاة والوزراء، يرتاحون فيه من عناء الأسفار، وله صداقة مع رجال الدولة ، وكلمته نافذة عندهم، ونال الأوسمة والنياشين من معظم دول أوروبا، فضلا عن رتب الدولة العلية ونياشينها.
وجمع إلى الوجاهة والسياسة الأدب والشعر، فرافق هذه النهضة من أولها، وكان له شأن في أكثر عواملها؛ فقد رأيت أنه مؤسس الصحافة السورية، وقد أنشأ مطبعة نشر فيها عدة كتب. وهو من مؤسسي الشعر المصري، وكان شاعرا مطبوعا يميل بشعره إلى السهولة والرشاقة، وقد نظم الشعر في صباه وشبابه وكهولته وشيخوخته، وله عدة دواوين مطبوعة أكثرها في الغزل والمديح والتهنئة والرثاء، وأكثر مدحه للسلاطين ورجال الدولة؛ ولذلك سموه شاعر الدولة، وكان لطريقته بالشعر العصري وقع حسن لدى المستشرق رينو الفرنساوي، فنقل مثالا منها إلى اللغة الفرنساوية نشره في المجلة الآسيوية الفرنساوية وفي الديبا وغيرهما. وذكره لامارتين الفرنساوي الشهير في مؤلفاته، وأثنى عليه وأظهر إعجابه به، وكانت بينهما صداقة ومراسلة، على أنه كان صديقا لكثيرين من أدباء معاصريه من شعراء الترك والفرس والعرب، وأشهر دواوينه «زهر الربى» و«العصر الجديد» و«السمير الأمين» و«الشاديات» «والفتحات»، وكلها مطبوعة وتحتوي على ما نظمه إلى سنة 1884م، أما منظوماته بعد ذلك فهي مجموعة في ديوان كبير لم يطبع، ويمتاز عن سائر الشعراء أنه لم يستجد بشعره قط، ولولا ضيق المقام لأتينا بأمثلة من منظومه، وأحسنه في النسيب.
وله - فضلا عن الشعر - كتب ومقالات في مواضيع شتى، أكثرها منشور في جريدته، ومنها رواية «النعمان»، و«حنظلة» المشهورة، وهي التي نظمها بعد ذلك المرحوم الشيخ خليل اليازجي وسماها «المروءة والوفاء»، وترجمها إلى الفرنساوية ميشيل بك سرسق. وله رواية اجتماعية أخلاقية نشرها في الحديقة اسمها «وي إذن لست بإفرنجي»، وترجم عن التركية كتاب تكملة العبر لصبحي باشا، وهو تتمة تاريخ ابن خلدون، وطبعه. وتولى إدارة ترجمة الدستور التي قام بها المرحوم نوفل نوفل، وطبع مجلديه الأول والثاني، ونشر عدة كتب مفيدة، وله خطب كثيرة بعضها غير مطبوع، وكان منشطا للمشروعات الأدبية الخيرية من الجمعيات أو المدارس أو الصحف أو غيرها.
ولصاحب الترجمة حادثة غريبة في زواجه يندر اتفاقها؛ وذلك أنه أحب في شبابه نحو سنة 1860م سيدة فاضلة من آل بسترس، اسمها كاتبة ابنة موسى بسترس، وكانت من العلم والأدب على جانب عظيم، وقد حال أهلها دون اقترانهما، وزفت كاتبة إلى وجيه من آل نوفل، ثم توفيت وله منها ابنتان، فتزوج خليل إحداهما «ظافر» سنة 1887م، ولم تعش معه إلا سنة - رحمهما الله.
الفصل السابع عشر
رزق الله حسون الحلبي
نشأت أسرة حسون الأرمنية في بلاد العجم، وقيل في ديار بكر، وقد أشار المترجم إلى هذا في قوله من قصيدة:
ديار كرج وأرمن وطني
قبل انتقال أبي إلى أخرى
فجاء جدها الأعلى وسكن حلب، وولد أولادا ذهب أحدهم إلى مدينة أزمير، فبقي اسم أولاده أولا بني حسون، ثم عرفوا ببني حلب أوغلي (أي أولاد حلب)، وهم فيها بهذا الاسم الأخير إلى عهدنا. وذهب أحدهم إلى الآستانة قبل تغيير اسمهم (حسون)، وبقيت سلالته فيها باسم بني حسون إلى عهدنا، ومنهم نشأ البطريرك حسونيان (وزيادة الياء والألف والنون من اصطلاحات اللغة الأرمنية)، وكان من رجال الفضل والعلم، ولا تزال بقية أسرته في الآستانة إلى يومنا، وذهب أحد أولاد حسون - الجد الأعلى المذكور - إلى القطر المصري، أما ولده الآخر فبقي في حلب، ومن أسرته ولد المترجم نحو سنة 1825م، فتعلم فيها مبادئ القراءة، وأتقن الخط على الشيخ سعيد سعيد الأسود الحلبي، الشهير بجودة خطه، وما ترعرع حتى انتقل إلى دير بزمار، وهو دير لرهبنة الأرمن الكاثوليك الأنطونية، وفيه مقر الرئيس العام، وموقعه في ساحل كسروان من أعمال لبنان، فدرس العلوم اللاهوتية واللغات الفرنسية والتركية والأرمنية والعربية والعلوم الرياضية، وكان نابغة في جودة حفظه وذكائه، حتى إنه نظم الشعر وهو تلميذ؛ وذلك أنه لما استقدم المطران باسيليوس عيواظ إلى دير بزمار ليسام فيها أسقفا على الأرمن في حلب، وتمت سيامته في 4 فبراير سنة 1838م، أنشده رزق الله قصيدة من نظمه وهو في الثالثة عشرة من عمره.
ولما أتم دروسه في بزمار عاد إلى مسقط رأسه حلب، وكان يمارس التجارة لأن والده كان غنيا، وكثيرا ما كان يختلف إلى دار قنصلية النمسا في حلب حيث كان والده ترجمانا فيها، فيتمرن على أعمال الترجمة في القنصلية.
ثم نزعت نفسه إلى طلب العلى فذهب إلى أوروبا، وطاف في لندن وباريس، وجاء مصر واستنسخ كتبا كثيرة؛ لأنه كان ولوعا بالمطالعة، كثير الميل إلى صناعة الخط التي عرف بيتهم بها، كما أشار إلى ذلك بقوله من قصيدة:
لا خاملا لا دنيا منشئي حلب
فسل وهاك بفضلي يشهد القلم
ثم عاد إلى الآستانة وتقرب من رجالها، ونال منزلة عندهم، واتخذه الحاج أبو بكر أغا القباقيبي، من كبار أغنيائها وتجارها وأعيانها مدبرا لشئونه، ومؤتمنا على أمواله، وبواسطته استخدم في الحكومة، وقد اتصل بالمرحوم يوسف جلبي الحجار، وتزوج السيدة متيلدة ابنته سنة 1848م، وأرخ ذلك بطرس كرامة بقوله من أبيات:
فلا زلتما طول الزمان بصحبة
وعيش رغيد برده الأمن والرفد
زفاف سعيد والهناء مؤرخ
مواف لرزق الله بالخير ما تلد
وقد كانت بينه وبين أدباء عصره في سوريا ومصر والآستانة مراسلات ومساجلات؛ ولا سيما وطنية الشاعر نصر الله الطرابلسي المشهور وأحمد فارس الشدياق وبطرس كرامة، وغيرهم ممن جاء بعدهم مثل فرنسيس مراش وشقيقه عبد الله وجبرائيل الدلال وشقيقه نصر الله من مواطنيه والقس لويس الصابونجي وديمتري شحادة الدمشقي والمطران أغابيوس صليبا الأرثوذكسي وخليل الخوري، وغيرهم.
لقد عرف رؤساء الأساقفة بعهده ومدحهم، من ذلك أبيات موجودة بخطه في دار بطريركية الروم الكاثوليك بدمشق، مدح بها الطيب الذكر البطريرك مكسيموس مظلوم الحلبي الشهير سنة 1842م/1252ه، مطلعها:
صرفت كربة من ناجاك مبتهلا
ولم ترد صرف من ينحوك ذا بدد
وقال من قصيدة مدح بها الطيب الذكر البطريرك بولس مسعد الماروني الشهير:
إمام على سر الإله أمين
أضاءت بنور من سناه دجون
بدا علما في أوج لبنان للهدى
ولبنان للدين القويم عرين
سمي الإناء المصطفى نعته الصفا
على نسج أسلاف طوته قرون
هو البطريرك الندب بولس ذو الحجى
وكعبة فضل للزمان جبين
وختمها بقوله:
ودونكم نظم ابن حسون فائقا
بمعنى وألفاظ لهن رنين
ومن ذلك ما بعث به إلى صديقه بطرس كرامة شاعر الأمير بشير الشهير، من قصيدة ذكرت في ديوانه صفحة 385 منها:
خدين المعالي وابن بجدتها الفرد
بقيت بقاء الدهر يخدمك السعد
وزادك رب العرش أسنى كرامة
قرين بها الإقبال والفخر والمجد
ولا زلت في أمن وموفور نعمة
ويمن أياد كسبها الشكر والحمد
وبعد فقد طال البعاد ومهجتي
يكاد من الأشواق يضرمها الوجد
فأبغي للاطمئنان منكم ألوكة
إذا لم يكن منكم قدوم هو القصد
فأجابه بطرس كرامة بأبيات تجدها في ديوانه، ومنها قوله:
فلا تحسبوا بعدي بعادا وإنما
ودادي لكم قربا وبعدا هو الود
وإني لأرجو كل يوم لقاكم
ولكن دهري شأنه المنع والصد
فلا زلت رزق الله خدن كرامة
ويصحبك التوفيق والعز والسعد
ولما نشبت حرب القرم بين روسيا والدولة العلية، وتداخلت فيها الدول المتعاهدة منحازة إلى دولتنا سنة 1854م، أنشأ المترجم جريدة «مرآة الأحوال» في دار السعادة، فكانت أول جريدة عربية فيها، وكان يصف فيها حرب القرم ومواقعها، ويكتب الفصول السياسية الدالة على حنكته، ويتطرق إلى وصف أحوال بلادنا، ولا سيما بعلبك ولبنان وحاصبيا، وما كان يجري فيها إذ ذاك من الفتن الأهلية، فذاعت جريدته شهرة، وزادت نجاحا بعد ذلك إلى أن عطلها.
ولما نشبت حوادث سنة 1860م في سوريا، وسفكت الدماء وتفاقم الخطب، وجاء فؤاد باشا لإصلاح ذات البين كان صاحب الترجمة من رجاله، اتخذه لتعريب المناشير والأوامر التي يصدرها للشعب. وكان قد نال لديه حظوة أيام كان وزيرا للخارجية في أثناء حرب القرم، ومدحه في جريدته المرآة، وأثنى على بسالته حينما كان قيما على الجند بقيادة عمر باشا النمساوي في حرب القرم.
واتصل وهو في دمشق بالأمير عبد القادر الجزائري الشهير، وله فيه مدائح كثيرة، نشر بعضها في كتابه النفثات الذي قدمه له، وتبادل المودة مع أدباء بيروت ودمشق ولبنان.
وعثر وهو في دمشق على كثير من الكتب المخطوطة القديمة، وأحرزها، ومن جملتها إنجيل عربي وجده في قرية عين التينة، قرب معلولا في جبل القلمون، نسخ سنة 7045 لآدم و947ه/1540م ، فأهداها إلى المرحوم متري شحادة الدمشقي لما كان في القسطنطينية سنة 1863م، وهو الآن في مكتبة البطريركية الأرثوذكسية في دمشق عدد 1006 وخطه كنسي جميل. وقد تفقد مكاتب دمشق القديمة، ووقف على نوادر مخطوطاتها، ونسخ بعض تعاليق مفيدة عنها كان يفيد بها المستشرقين بعد ذهابه إلى أوروبا.
ولما عاد فؤاد باشا إلى الآستانة نائلا منصب الصدارة العظمى سنة 1278ه/1861م، نال المترجم حظوة لديه؛ فكان من خاصته. ولم يلبث فؤاد باشا أن صار عضوا في مجلس الأحكام العدلية في السنة الثانية من صدارته، وذهب إلى معرض مدينة لندن معتمدا عثمانيا سنة 1279ه/1862م، فأخذ المترجم معه. ولما عاد إلى الآستانة أعاده معه فرقاه إلى نظارة جمارك الدخان، فكثر حساده ومناوئوه، واشتد الأمر بينه وبينهم، فوشي به أنه رمي بالغلول في مال الجمارك هو وبعض المستخدمين ، فسجن معهم، ثم فر إلى روسيا، وهناك أطلق لسانه بالانتقاد على الحكومة، وألف رسالة بعنوان «قول من رزق الله حسون يبرئ نفسه من الغلول». وذكر البعض أنه أنشأ جريدة في فرنسا لهذه الغاية، وذلك غير ثبت إلا إذا كان قد أعاد نشر جريدة مرآة الأحوال. ثم توسط في أمره فقبلت الحكومة أن ترسل إليه أسرته؛ أي زوجته وأولاده، فلم يقبل إلا بجميع مطاليبه منها، فأوغر صدر السلطان عبد العزيز عليه؛ فطلب من الحكومة أن تمنعه عن التنديد بالدولة، فلم يصخ لها سمعا، بل غادرها وحل لندن، وأصدر فيها جريدته مرآة الأحوال، وخصها بالشكوى من أعمال بعض موظفي الحكومة لعهده. وقد رأيت منها العدد السادس عشر بتاريخ 18 كانون الثاني سنة 1877م، مكتوبا بخطه الجميل، مطبوعا على الحجر وفيه مقالات سياسية بليغة، وكان يكتب فيها كثير من أدباء عصره ومواطنيه؛ ولا سيما المرحومان جبرائيل الدلال وعبد الله المراش شقيق الشاعر الشهير فرنسيس مراش، وكان قد أصدر مجلة عربية عنوانها «رجوم وغساق إلى فارس الشدياق»، نشر منها عددين في لندن؛ الأول في 4 أيار سنة 1868م في 14 صفحة صغيرة، والثاني 5 أيار سنة 1868م؛ وذلك ردا على المرحوم أحمد فارس الشدياق صاحب الجوائب على أثر ما حدث بينهما من الخصام الشديد، وكانا يتناظران مناظرات موجعة شديدة اللهجة. وكان يبيع من مرآة الأحوال في سنتها الأولى في لندن 450 نسخة.
ثم عطل مرآة الأحوال ونشر مجلة عربية طبعت في لندن سنة 1879م، كانت تصدر كل خمسة عشر يوما مرة، عنوانها «حل المسألتين الشرقية والمصرية»، وهي أول مجلة عربية شعرية لأنها كانت قصائد تبحث في هذه المواضيع، فاجتمع منها مجلد بقطع ربع في أكثر من ثلاثمائة صفحة.
ثم انقطع بعد ذلك إلى النسخ والاشتغال بتصحيح حروف الطباعة العربية في أوروبا ومساعدة كثير من المستشرقين، حتى بلغ ما استنسخه من نفائس الكتب أكثر من عشرين، أهمها: ديوان الأخطل، وديوان ذي الرمة، ونقائض جرير والفرزدق، وصبح الأعشى في صناعة الإنشا للقلقشندي، والمتمم لابن درستويه، والأناجيل المقدسة ترجمة أبي الغيث الدبسي الحلبي، وديوان حاتم الطائي - وهذا طبعه كما سيجيء - ولا تزال بعض مخطوطاته في مكاتب روسيا وفرنسا وإنكلترا، حيث كان يتردد بين هذه الممالك، وجاء حلب قبل وفاته بسبع سنوات متنكرا، فتفقد مكاتبها واستنسخ منها بعض الآثار النادرة، ثم عاد إلى إنكلترا التي اتخذ معظم سكناه فيها، ولا سيما قرية وندسورث؛ حيث تفرغ لوضع كتبه وطبعها.
وعلى الجملة، فإن رزق الله حسون كان سياسيا حرا، يرغب في إصلاح الدولة العثمانية، ويذهب مذهب كبار أحرارها كمدحت باشا وأعوانه، ولما ذهب مدحت باشا إلى لندن قابله فيها وسر به، ولا صحة لما شاع من أنه سعى في قتله.
أما منزلته الأدبية، فإن نثره من النمط العالي المتين، وسجعه كثير ينحو فيه نحو الأقدمين، وشعره يدل كثير منه على طبيعته، ولكنه كان قليل التدقيق في الأوزان ومراعاة الأصول الصرفية والنحوية، فيشبع الحروف التي لم يرد مسوغ لإشباعها، ويسكن ويحرك ويختار القوافي الصعبة، وهذا التكلف ظاهر في كتابه «أشعر الشعر». ومع هذا فإن بين قصائده فرائد بليغة المعنى فصيحة اللفظ متينة القوافي تعد من الطبقة العليا في الشعر. وقد خرج في بعض القصائد عن الطرق المألوفة؛ فلم يتقيد بقافية كما ترى في كتابه «أشعر الشعراء»، وكثيرا ما يميل إلى الألفاظ المهجورة. وبقي بين المحابر والأقلام نحو سنة 1880م غريبا عن أسرته التي بقيت في الآستانة، وولده ألبير الوحيد حي إلى اليوم فيها، ولما شعر بدنو أجله نظم احتضاره (على أصح الروايات التي محصتها) بهذين البيتين:
قد قضى الله أن أموت غريبا
في بلاد أساق كرها إليها
وبقلبي مخدرات معان
نزلت آية الحجاب عليها
وقد أتقن فوق اللغات التي تلقنها في بزمار وبرع بها اللغة الإنكليزية وألم بالروسية. وأهم ما وصلت إليه يد البحث من مؤلفاته ومطبوعاته هو: (1)
النفثات: وهو قسمان؛ أولهما في تعريب قصص كريلوف شاعر الصقالبة التي وضعها على طريقة بيدبا الهندي في كليلة ودمنة ولافونتين الفرنسي في خرافاته ولقمان في حكاياته، وما شاكل، عربها نظما في 41 قصة تقع في 69 صفحة، بقطع ربع، وألحق بها نخبة من منظوماته من تواريخ وأوصاف ومدائح وشكوى، وبينها قطعة عرض فيها بالشيخ أحمد فارس الشدياق، حتى إن الشدياق لما انتهت إليه قال فيها عبارته الشهيرة: «كان حسون لصا وله سرقات، فأصبح صلا وله النفثات»، وجميع هذا الكتاب يقع في 84 صفحة، وقدمه للمرحوم الأمير عبد القادر الجزائري نزيل دمشق، وطبعه في لندن سنة 1867. (2)
أشعر الشعر: وهو نظم سفر أيوب الصديق في 74 صفحة، بقطع ربع، فرغ منه في 29 نيسان سنة 1869م، وهو في وندسورث (إنكلترا)، ثم نشيد موسى النبي، ثم سفر الجامعة، ونشيد الإنشاد لسليمان الحكيم، ومراثي آرميا النبي، وهذه بدأ بنظمها في 28 نيسان سنة 1869م، وأتمها في 3 آيار، والكتاب يقع جميعه في 136 صفحة، وهو مطبوع في المطبعة الأميركية ببيروت سنة 1870م، ووضع في أوله مقدمة قال فيها إن أيوب وهوميروس وشكسبير أشعر الخلق، وأشار إلى نظمه سفر أيوب في أيام اعتقاله، وأنه نظم الفصل الثامن عشر منه على أسلوب الشعر القديم بلا قافية، وقد كتب بعض الفصل نثرا بليغا، وربما أبقى بين ما نظمه في بعضها فقرات نثرية. في أشعر الشعر من الركاكة والجوازات الشعرية ما يدل على اضطراب بال المؤلف حين نظمه وسرعة إعداد بعض الأسفار الأخرى؛ فلم تمسه يد النقد ولا جال فيه خاطر التهذيب. (3)
السيرة السيدية: وهو عبارة عن مزج الأناجيل الأربعة المعروفة بالبشائر. طبع بمطبعة الأميركان في بيروت في 190 صفحة. (4)
رسالة مختصرة في الطباعة العربية والاقتصاد فيها ماديا ووقتا، وقد وجدت منها نسخة بخطه الجميل في مكتبة أسقفية الأرثوذكس بحلب فاستنسختها - سأنشرها قريبا لفوائدها. (5)
ديوان حاتم الطائي المشهور بكرمه، استنسخه عن نسخة قديمة، وطبعه في لندن سنة 1872م في 33 صفحة. (6)
كتاب المشمرات: طبع في سانباولو من أعمال البرازيل، سعت بطبعه إدارة جريدة المناظر منذ بضع سنوات. (7)
حسر اللثام: وهو كتاب جدلي تم تأليفه سنة 1859م، ولا أظنه طبع.
ولقد ذكر المترجم كثيرون من المستشرقين، وآخرهم ثناء عليه المسيو كليمان هوار الفرنسي في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية، وقد اقتصر على ذكر كتابه النفثات وجريدته مرآة الأحوال في لندن، ولم يذكر نشأتها في الآستانة.
المقتطف
عيسى إسكندر المعلوف
الجزء
سائر رجال العلم والأدب
الفصل الثامن عشر
محمد علي باشا الحكيم
رئيس المدرسة الطبية المصرية وكبير جراحيها
هو السيد محمد علي بن السيد علي الفقيه البقلي بن السيد محمد الفقيه البقلي، ولد في زاوية البقلي التابعة لمديرية المنوفية سنة 1228ه، ونشأ فيها حتى ترعرع، فأدخله أهله مكتبا في تلك البلدة، فتعلم مبادئ الكتابة وقرأ القرآن، فلما بلغ التاسعة من سنه جاء به أحمد أفندي البقلي إلى القاهرة، وأدخله مدرسة أبي زعبل التي كان قد بناها المغفور له محمد علي باشا الكبير في قرية أبي زعبل، وفيها مكتب ديواني، فمكث فيه ثلاث سنين أتم فيها قراءة القرآن، وتلقى بعض مبادئ العلوم اللغوية، فنقله إلى المدرسة التجهيزية فمكث فيها أيضا ثلاث سنين، فأظهر من الذكاء والاجتهاد ما حبب به أساتذته؛ لأنه كان ممتازا عن سائر أبناء صفه، راغبا في العلم، فنقلوه إلى مدرسة الطب، وكانت تحت إدارة المرحوم كلوت بك محيي العلوم الطبية في الديار المصرية، ففاق أقرانه وظهرت فيه مخائل النجابة وحدة الذهن، حتى إذا صدر أمر محمد علي باشا بإرسال نخبة من تلامذة تلك المدرسة إلى باريس للتبحر في العلوم الطبية كان صاحب الترجمة في جملة المنتخبين، وعددهم اثنا عشر شابا، وقد أتموا دراسة الفنون الطبية، وفيهم من نال رتبة اليوزباشية.
محمد علي باشا الحكيم 1228-1293ه.
وكان راتب السيد محمد علي عند سفرته هذه مائة وخمسين قرشا، فأوصى بخمسين منها لوالدته وأبقى لنفسه مائة، فدخل مدرسة باريس الطبية، وبذل غاية جهده في تحصيل علومها، فنال حظا وافرا من سائر علوم الطب والجراحة، وشهد له أساتذته بالامتياز على سائر رفاقه مع أنه كان أصغرهم سنا، وما زالوا في تلك المدرسة حتى أتموا دروسهم وقدموا امتحاناتهم الشفاهية، ولم يبق عليهم إلا الامتحان الخطي، وهو عبارة عن تأليف رسالة في الطب يقترحها عليهم الأساتذة، فوردت عليهم الأوامر بالعودة إلى مصر، فعادوا فإذا بذلك الأمر قد صدر لهم سهوا بغير علم العزيز، فأمر بعودتهم إلى باريس لإتمام الامتحان ونيل الشهادة الطبية، فعادوا إليها فامتحنوهم خطا، فألف المترجم رسالة طبية في الرمد الصديدي المصري، وقعت وقعا حسنا لدى أساتذته، فمنحوه الشهادة وعاد إلى مصر سنة 1253ه، وكانت شهرته قد سبقته إليها فتعين حال وصوله باش جراح، وأستاذا للعمليات الجراحية الكبرى والصغرى والتشريح الجراحي، وأنعم عليه محمد علي باشا إذ ذاك برتبة صاغقول أغاسي، ولم تمض مدة حتى نال رتبة بكباشي.
فلما كانت ولاية المغفور له عباس باشا الأول حصلت بينه وبين بعض أطباء المستشفى الأوروبي منافسة، فأمر بنقله إلى ثمن قوصون من أثمان القاهرة ليتولى التطبيب فيه على نفقة الحكومة، وكان قد ذاع صيته بين الناس، فتحول المرضى من مستشفى قصر العيني إلى ثمن قوصون، وزاد اشتهاره بالفنون الطبية، وخصوصا الجراحة، وما زال يطبب في ذلك الثمن خمس سنين متوالية، فأنعم عليه برتبة قائمقام، وتعين رئيسا لأطباء الآلايات السعيدية. ولكنه لم يمكث في ذلك المنصب إلا قليلا، فاعتزل المناصب ولزم منزله سنة، ثم تعين رئيسا لجراحي قصر العيني، وأستاذا للجراحة، ووكيلا للمستشفى والمدرسة الطبية، فقام بمهام أعماله حق القيام، فأنعم عليه برتبة أميرالاي، وكان ذلك في عهد المغفور له سعيد باشا؛ فقربه منه وجعله حكيمه الخاص، وأدخله في معيته مع بقائه في مناصبه المشار إليها، ثم أحسن إليه برتبة المتمايز، فلما سافر سعيد باشا إلى أوروبا سار صاحب الترجمة في معيته.
ولما توفي سعيد باشا وتولى المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، تعين المترجم رئيسا للمستشفى والمدرسة الطبية، وفي سنة 1290ه نال الرتبة الأولى من الصنف الثاني، وفي آخر سنة 1292ه لزم بيته وانقطع عن الأعمال، ولم يعلم سبب ذلك، فلما كانت الحرب بين مصر والحبشة سار (رحمه الله) في الحملة المصرية التي سافرت إلى الحبشة برفقة المرحوم البرنس حسن باشا، عم الجناب الخديوي، فخدم الجنود المصرية هناك خدما يذكرها له العارفون، ولكن أجله عاجله في الحبشة فتوفي هناك سنة 1293ه/سنة 1877م ولم يعلم أحد مكان ضريحه، على أن لهم في ذلك أقوالا مختلفة، نذكر منها رواية كتب بها إلينا حضرة مصطفى أفندي صبري قومندان حملة طوكر في ذيل كتاب اقترح فيه نشر ترجمة صاحب الترجمة، وهاك نصها، قال:
ومما يهمني ذكره ليطلع عليه أبناء وطني أنه بلغني من بعض الأحباش أن الفقيد - تغمده الله برحمته ورضوانه - قد أقيم له قبر بالحبشة ببلدة تسمى جراع، ما بين عدوى وأسمرة، إلا أنها أقرب إلى هذه من تلك، وقد شيدوا فوق القبر قبة عظيمة يزوره فيها الأحباش على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم، ويقيمون له الدعوات، وليس ذلك إلا تعظيما له وتخليدا لذكره، مع علمهم بأنه كان في مدة حياته سفاكا لدمائهم، راغبا في سلب أملاكهم، وإن يكن في ذلك مأمورا لا آمرا، وهي خدمة يستحق عليها أهل الحبشة الشكر والثناء لقيامهم بواجب قصر عنه أبناء جنسه، وخصوصا الذين ارتشفوا من بحر علومه.
وكان (رحمه الله) حائزا للنيشان المجيدي من الرتبة الثالثة، ناله مكافأة لما بذله من الجهد وأظهره من الشهامة في حوادث الهواء الأصفر سنة 1865م، وله في الطب مؤلفات حسنة، منها كتاب في العمليات الجراحية الكبرى، وضعه في اللغة العربية في مجلدين، وسماه «غاية الفلاح في أعمال الجراح »، وكتاب في الجراحة أيضا في ثلاثة أجزاء، وباشر تأليف قانون في الطب، وقانون في الألفاظ الشرعية والمصطلحات السياسية، ولم يمهله الأجل لإتمامها.
وكان محبا لوطنه، راغبا في ترقية شأنه، عاملا على بث العلوم والمعارف بين أبنائه، غيورا على الفقراء، طويل الأناة في معالجتهم، لا يلتمس على ذلك أجرا، ومما يذكره له العارفون أن معظم أساتذة الطب ومن تولى رئاسة المدرسة الطبية بعده هم من تلامذته، وقد سمعنا الثناء عليه من جماعة كبيرة من الأطباء المصريين وغيرهم، وامتدحوا مهارته بنوع خاص في الفنون الجراحية. وقد أعقب أولادا نجباء، عرفنا منهم الدكتور أحمد باشا حمدي.
الفصل التاسع عشر
مارييت باشا
مؤسس المتحف المصري
الآثار المصرية
ما برحت مصر منذ أجيال متطاولة مطمحا لأنظار الرواد والمستطلعين من سائر الأمم والشعوب على اختلاف الزمان والمكان، ينظرون في آثارها، ويعجبون لما خلفه الفراعنة من الهياكل والأهرام والمدافن والأصنام، مما يستوقف الطرف ويبهر العقل، ولم يكد يقوم مؤرخ عمومي قبل المسيح أو بعده إلا ذكر آثار المصريين وأعجب بضخامتها وبعد عهدها، وأشهر هؤلاء المؤرخين هيرودوتس وأسترابون وغيرهما من مؤرخي اليونان والرومان. أما العرب فقد ذكرها كثيرون منهم، كالمسعودي وابن الأثير وابن خلدون وعبد اللطيف البغدادي، ولكن هذا الأخير جاء الديار المصرية بنفسه في القرن السادس للهجرة، فتفقد تلك الآثار وأفاض في وصفها، وأكثر من الإعجاب بضخامتها ودقة صنعها، مما تراه مفصلا في كتابه «الإفادة والاعتبار»، ناهيك بمن كان يتقاطر إليها من جالية الإفرنج في القرون الأخيرة، وخصوصا بعد أن وطئها نابوليون بونابرت.
ويرى الناظر فيما كتبه هؤلاء أنها كانت في أقدم الأزمنة أكثر عددا وأكبر مساحة مما هي عليه الآن، وأن الدول التي توالت على مصر بعد الفراعنة كانت تستخدم كثيرا من أحجارها فيما بنته من القصور والكنائس والجوامع، حتى كثيرا ما تعمدوا هدمها لغير نفع يرجونه من أنقاضها، كما فعل الملك العزيز بن السلطان صلاح الدين، فأمر بهدم الأهرام العظمى، بدأ بالصغير منها، فأخرج إليه النقابين والحجارين قضوا ثمانية أشهر يعملون بكرة وأصيلا، فلم يهدموا إلا جزءا صغيرا، فكفوا عن العمل.
ومن هذا القبيل ما فعله بهاء الدين قراقوش وزير السلطان صلاح الدين، فإنه نقل كثيرا من أنقاض الأهرام وغيرها، فبنى بها سورا يحيط بالفسطاط والقاهرة.
وبالجملة، فقد كانت تلك الآثار عرضة للهدم والنقب أجيالا متوالية، فضلا عما كان يأتيه عامة المصريين وغيرهم من التنقيب عن الكنوز والمطالب، فيفتحون القبور يستخرجون منها الذهب والفضة والآنية من النحاس وغيره، وكثيرا ما كانوا يبيعون قطع المومياء والمحنطات الأخرى بيعا بخسا. وقد ذكر البغدادي ما يؤيد ذلك بقوله: «وأما ما يوجد في أجوافهم وأدمغتهم مما يسمونه مومياء فكثير جدا، يجلبه أهل الريف إلى المدينة ويباع بالشيء النزر، ولقد اشتريت ثلاثة أرؤس مملوءة منه بنصف درهم مصري، وأراني بائع جواليق مملوءا من ذلك، وكان فيه الصدر والبطن وحشوه ... إلخ.»
وناهيك بما كان يتعمده بعضهم من السرقة والنهب، وأكثر ما سرق منها في هذا القرن على أثر انتباه الإفرنج لحفظ الآثار، فكانت فرنسا أو إنكلترا أو غيرهما تبعث بالنقابين على نفقاتها يستخرجون ما في جوف الهياكل من التماثيل أو المومياء أو المصاغ أو غيره، فيحملونه إلى متاحفهم أو معارضهم، وأول من نبه الأذهان إلى ذلك اللجنة العلمية التي رافقت حملة بونابرت، ولم يكن يهم الإفرنج قبل ذلك من الآثار إلا ما يتعلق منها بصناعة البناء؛ كالأهرام وأبي الهول ونحوها؛ لجهلهم الكتابة الهيروغليفية، وقد كانوا يظنونها رسوما لا معنى لها، حتى أتيح لشامبليون حل رموزها؛ فعرف الناس قدر تلك الآثار، فتسابقت دول أوروبا إلى إحرازها، لا يدخرون وسعا في ذلك، ولو استطاعوا حمل الأهرام والهياكل لنقلوها. وإذا زرت متحف لندرا أو باريس أو غيرهما الآن رأيت فيها الآثار المصرية شيئا كثيرا، وفيه ما لو بيع لجاء بالملايين من الجنيهات. وما زالت الحال على ما تقدم حتى تولى المغفور له محمد علي باشا، فانتبه في أواخر حكمه إلى ما يترتب على ذلك من الخسائر الفادحة؛ فأصدر أمرا بمنع الإفرنج من حمل هذه الآثار إلى بلادهم، على أنهم كانوا يحملونها خلسة، فقيض لها الله المرحوم مارييت باشا، فجمع ما بقي من شتاتها في بناء سماه المتحف المصري - كما سيجيء.
مارييت باشا
هو فرانسوا أوغست فردينان مارييت، ولد في بولون سيرمير من أعمال فرنسا في 11 فبراير سنة 1821م، وكان أبوه رئيسا في بعض دوائر الحكومة، فكان يجب أن ينشأ مارييت مرشحا لمثل هذه الخدمة، ولكنه نشأ ميالا إلى الأسفار محبا للاكتشاف منذ نعومة أظفاره، فاتفق له قبل أن يدرك الحلم أنه دخل دهليزا تحت الأرض في بولون لا يعرف آخره، فحدثته نفسه أن يتتبعه إلى آخره، فما زال سائرا حتى خرج من طرفه الآخر.
مارييت باشا 1821-1880م.
وكانت عائلته في ضيق من دنياها، فأسرع في العمل لمساعدتها؛ فتعين سنة 1839 معلما للرسم واللغة الفرنساوية في مدرسة أسترافورد بإنكلترا وهو لم يتم دروسه بعد، فنمت فيه موهبة الرسم العملي، ولكن ميله إلى العلم تغلب عليه، فعاد إلى بولون لنيل رتبة البكلورية، ونظرا لضيق ذات يده اضطر لمعاطاة مهنة التعليم لتحصيل ما يقوم بنفقات التعلم، ولكنه مل هذه المهنة، ولم تعد نفسه تطيق الإعراب والنحو، وطمحت أنظاره نحو العلى فأحب صناعة الكتابة، فتولى تحرير جريدة فرنساوية اسمها الشارح البولوني (Annotateur Boulonnais) ، فاشتهر بحسن الأسلوب في الإنشاء.
وكان الرحالة المسيو دينتون رفيق حملة بونابرت إلى مصر قد أهدى إلى متحف بولون سنة 1847م تابوتا مصريا فيه مومياء، فاتفق لمارييت أنه رأى ما على التابوت من الصور الهيروغليفية، فتاقت نفسه إلى حل رموزها، فاستعان بكتابين لشامبليون، أحدهما في نحو اللغة الهيروغليفية، والآخر معجم لحل ألفاظها، فوفق إلى فهم بعض تلك الرموز فشعر بلذة حببت إليه لغة الهيروغليف، فما برح من ذلك الحين يتردد إلى المتحف يقضي أوقاته بين الآثار المصرية حتى تمكن من تلك اللغة، فلم يعد يقنعه غير الشخوص إلى مصر، فعرض على نظارة المعارف الفرنساوية أن تعينه في مهمة يسير بها إلى وادي النيل للبحث في آثارها فأبت؛ فالتمس أن تأذن له بالمسير على أن لا يكلفها إلا نفقة السفر فلم ترض؛ فاستأذنها في الذهاب إلى باريس برخصة فأذنت له، فسافر وانقطع إلى متحف اللوفر يقرأ ما فيه من الآثار المصرية. ثم كانت ثورة سنة 1848م، فتضعضعت الأحوال وانقطع راتبه، فتوسط له بعض أصدقائه بمنصب صغير في متحف اللوفر، تمكن بواسطته من التبحر في اللغة الهيروغليفية، وألف كتابا يتعلق بالكتب القبطية.
واتفق سنة 1850م أن الإنكليز أنفذوا إلى مصر وفدا لغويا يبحث في مكاتب الديور المصرية عن الكتابات القبطية القديمة، فعثروا في دير بوادي النطرون على أوراق كثيرة أرسلوها إلى لندرا، فاقتدى الفرنساويون بهم، وكانوا إنما يرجون بأبحاثهم هذه الوقوف على حقائق جديدة تتعلق بتاريخ اليونان، وكان مارييت قد اشتهر بينهم بمعرفة هذه اللغة، فعينوه في هذه المهمة براتب مقداره ثمانية آلاف فرنك، فسافر في 4 سبتمبر سنة 1850م حتى جاء القاهرة، فرأى أنه لا يستطيع الذهاب إلى ذلك الدير أو غيره إلا بوصية من البطريرك، وكان البطريرك قد غضب من تصرف الوفد الإنكليزي لأنهم حملوا ما حملوه من الكتب القبطية جبرا. وبعد السعي والالتماس رضي أن يكتب لمارييت كتاب توصية باسم رئيس دير الأنبا مقار، على أن مارييت لم يكن يرجو الحصول على ذلك الكتاب قبل مضي 15 يوما؛ فلكي لا يضيع الفرصة عمد إلى تعهد مشاهد القاهرة فسار إلى القلعة، وكان ذهابه إليها سببا لتغيير عظيم في مستقبل حياته؛ لأنه أشرف من سورها على ضواحي العاصمة فرأى أهرام الجيزة وأهرام سقارة، فتاقت نفسه إلى زيارتها وقد نسي ما جاء من أجله، فركب إلى سقارة وتوغل في صحرائها يتوقع الحصول على آثار مهمة لقربها من أنقاض منف العظمى، فوقف يتفرس في تلك الرمال القاحلة، فرأى فيها حجرا ناتئا يشبه رأس الإنسان، فتأمله فإذا هو رأس أبي هول، وكان قد شاهد أمثال هذا التمثال قبلا، فلم يهمه ذلك الاكتشاف لغرابته، ولكنه توسم منه خيرا لما سبق إلى ذهنه مما قرأه في أسترابون عن آثار منف، وكان أسترابون قد زارها في القرن الأول للميلاد، فكتب عنها ما ترجمته: «ورأينا هناك هيكل سرابيوم (Serapium) ، فإذا هو قائم في بقعة مغمورة برمال تقذفها الرياح عن أكمات هناك، ورأينا تماثيل أبي الهول عند زيارتنا هذه مغطاة بالرمال، إلا بعضها لا تزال رءوسها ظاهرة، وبعضا آخر رأينا نصف أبدانها مكشوفة، فتمثل لنا المشقة التي كان المصريون القدماء يقاسونها في طريقهم إلى هذا الهيكل من شدة العواصف.»
وكان من عادة المصريين القدماء أن يجعلوا أمام هياكلهم صفين من هذه التماثيل، يسير الناس بينهما إلى الهيكل، فتحقق مارييت أن رأس التمثال الذي رآه سيهديه إلى ذلك الهيكل؛ فبحث في غربيه فعثر على تمثال آخر، فما زال يتتبع بحثه حتى اكتشف 134 تمثالا، ولما وصل إلى المائة والخامس والثلاثين آنس بالقرب منه منحدرا، فكشف ما فيه من التماثيل حتى انتهى إلى التمثال المائة والحادي والأربعين، فوصل إلى قنطرة عليها أشباه بعض آلهة اليونان وفلاسفتهم، فواصل النقب من جهة اليمين، فانتهى إلى دهليز استطرق منه إلى أروقة تحت الأرض، عثر في أوائلها على تماثيل أسود وعجول وغيرها، فرقص قلبه طربا، وتحقق أنه عثر بضالته. والهيكل المشار إليه لا يزال مقصدا للرواد والمستطلعين إلى اليوم، ويعرف بمدافن سقارة، وكان محمد علي باشا - كما قدمنا - قد منع الإفرنج وغيرهم من النقب عن الآثار، فلما توفي أغفل ذلك المنع وعاد الباقون إلى أعمالهم.
فلما اكتشف مارييت هذا الهيكل العظيم اتصل خبره بمدير الجيزة، فأبلغه إلى عباس باشا الأول والي مصر إذ ذاك، فبعث إلى مارييت أن يكف عن العمل ويتخلى عما اكتشفه من التحف، فأجاب أن الجواب على ذلك من متعلقات قنصل فرنسا، فأغضى عباس باشا عن المطالبة، ولكن العملة الذين كان يستخدمهم مارييت في الحفر تقاعدوا عن العمل بإيعاز المدير، فتوقف الحفر شهرا.
وبلغ خبر هذا الاكتشاف مسامع حكومة فرنسا، فنسيت الكتب القبطية والبحث عنها، وبذلت لمارييت 30000 فرنك أخرى تنفق في سبيل نقل هذه التحف إلى باريس سرا، فبلغ الخبر مسامع الحكومة المصرية؛ فأرسلت مندوبا يستطلع تلك المكتشفات ويلقي الحجز عليها. والمظنون أن إنكلترا هي التي حرضت الحكومة على ذلك؛ غيرة وحسدا، وبلغ عدد المكتشفات 513 قطعة بين تماثيل ومومياء وغيرها، فأبى مارييت تسليمها إلا بأمر من حكومته، فكتب أسطفان بك بالنيابة عن عباس باشا كتابا إلى مارييت يقول له فيه: «إن الحكومة المصرية لم تسكت عما أجراه من النقب إلا لاتفاقها مع قنصل فرنسا بأن تبقى التحف المكتشفة ملكا لها.» فبقي مارييت على إصراره، ودارت المداولة بهذا الشأن بين الحكومتين المصرية والفرنساوية حتى انتهت على الشروط الآتية: (1) أن تتخلى الحكومة المصرية عما اكتشف من الآثار إلى ذلك الحين لجمهورية فرنسا. (2) أن يتوقف النقب مؤقتا. (3) أن يباح للحكومة الفرنساوية العود إليه، على أن يكون ما تكتشفه بعد ذلك ملكا لمصر.
وبناء على ذلك عاد مارييت إلى العمل، فاكتشف من التماثيل والتحف ما يعجز القلم عن تعداده فضلا عن وصفه؛ فقد كان هذا المدفن العجيب مملوءا بالآثار الثمينة، وفيها الذهب والحجارة الكريمة مما يطول شرحه، وكثيرا ما كان مارييت يبيع من تلك المثمنات بما يساعده على نفقات الحفر.
ولما فرغ من كشف هيكل السرابيوم تذكر كلاما قرأه في كتاب بلينيوس بشأن أبي الهول الأكبر قرب أهرام الجيزة، مآله أن في جوف هذا التمثال قبرا للملك هرمكيس، وكان مارييت مرتابا مما قرأه؛ لاعتقاده أن أبا الهول حجر منحوت لا جوف له، فلاح له أن يكون ذلك القبر في جواره، فسار إلى أبي الهول وأخذ ينقب ويبحث حوله، فعثر على آثار كثيرة، في جملتها هيكل يعرف بالكنيسة، وهو أقدم الهياكل المصرية.
وفي سنة 1814م، عاد مارييت إلى فرنسا بسبعة آلاف قطعة من الآثار المصرية على اختلاف الأشكال والأقدار، مع أن العدد الذي وهبته الحكومة المصرية لفرنسا بموجب ذلك الاتفاق لا يزيد على 113، ولكن سرقة آثار المشرق حلال في شرع أهل المغرب، ولا تزال هذه التحف في متحف اللوفر بباريس إلى هذه الغاية.
وفي تلك السنة توفي المغفور له عباس باشا الأول، وخلفه عمه سعيد باشا، وكان بينه وبين الموسيو دلسبس الشهير صداقة قديمة سهلت له الوصول إلى مشروع قنال السويس. فلما تم حفر هذا القنال كثر مرور الإفرنج بوادي النيل، فكانوا يتوغلون أحيانا في أنحاء القطر، وأكثرهم من الإنكليز، فيحملون ما تصل إليه أيديهم من الآثار، فسعى دلسبس في وسيلة تحفظ تلك الآثار في مصر - ولا نظنه فعل ذلك لمجرد رغبته في مصلحة مصر، ولكنه أراد الكيد بالإنكليز. وشاع في أثناء ذلك عزم برنس نابوليون على زيارة مصر، فتداول سعيد باشا ودلسبس في استقدام رجل عالم بالآثار يصلح لمرافقة البرنس في تجواله، فوقع الاختيار على مارييت، فجاء مصر وقد أطلق له التصرف في آثارها كما يشاء، فجد في العمل لا يخاف رقيبا ولا يخشى حرجا.
فكان يقضي معظم أيامه في الصحاري، لا سمير له إلا الرمال، ولا أنيس إلا الأحجار، فاكتشف آثارا كثيرة في سقارة وما جاورها، ثم انتقل إلى الصعيد فارتاد الكرنك وأبو وأبيدوس ودندره، ونزل إلى مصر السفلى فنقب عن آثار الرعاة في صان وغيرها، فأنعم عليه سعيد باشا في أواخر سنة 1857م بالرتبة الثانية.
ولم يكتف مارييت باكتشاف تلك الآثار، فأخذ يسعى في حفظها لمصر بعد أن كان في المرة الماضية يجاهد في حملها إلى باريس، ولكنه من الجهة الأخرى سعى في تقوية نفوذ الفرنساويين في مصر، فخاطب دلسبس بذلك، فحببا إلى سعيد باشا السفر إلى فرنسا على سبيل الزيارة، فسار إليها في خريف سنة 1862م، ولما عاد من سفرته هذه رقى مارييت إلى رتبة المتمايز وزاد راتبه.
المتحف المصري
وفي سنة 1863م توفي سعيد باشا، وخلفه إسماعيل فثبت مارييت في منصبه، وأمره ببناء متحف مصري في ساحة الأزبكية يكون وسطا يسهل تردد الناس إليه، فيدخر فيه الآثار اليونانية والعربية الإسلامية فضلا عن المصرية، فسر مارييت بذلك، ولكنه لم يكد يشرع فيه حتى ورد على إسماعيل باشا من الآستانة أن ساكن الجنان السلطان عبد العزيز عازم على زيارة وادي النيل قريبا، فاشتغل عن بناء المتحف بإعداد معدات الاستقبال، وأمر أن تجعل الآثار المصرية في بناء يليق بها ليشاهدها السلطان ريثما يتيسر بناء المتحف في فرصة أخرى؛ فوضعوها في بناء رحب على ضفة النيل في بولاق. وفي تلك السنة زار الديار المصرية البرنس نابوليون، فرافقه مارييت إلى جزيرة أصوان، ولما عاد برنس نابوليون عاد مارييت إلى متحفه، وعمل على ترتيبه، وعول على الإقامة في مصر، فاستقدم أهله وأولاده، وفي سنة 1867م أنشأت فرنسا معرضا عاما للآثار القديمة، جعلت فيه نصيبا لمصر، فنالت قصب السبق بتدبير مارييت، وأنعمت فرنسا عليه برتبة كومندور.
وفي سنة 1896م احتفل الخديوي إسماعيل بفتح قنال السويس، احتفالا دعا إليه ملوك أوروبا أو من ينوب عنهم، وكان في جملة ما أعده لهم من دواعي الاحتفاء متحف الآثار، فاهتم مارييت بذلك كثيرا وكتب كتابا يساعد المشاهدين على فهم الآثار، فسر الخديوي منه، فأنعم على ابنتيه بمائة ألف فرنك تقتسمانها بينهما، وأهدته الحكومة الفرنساوية 30000 فرنك مكافأة على مؤلفاته، وكان قد ألف بعضا منها، فازداد نشاطا فألف كتبا أخرى، وكان يتردد كل عام تقريبا إلى فرنسا لتبديل الهواء أو طبع الكتب، وفي سنة 1879م أقيل إسماعيل باشا، وخلفه توفيق باشا، فأنعم على مارييت برتبة لواء مع لقب باشا، وما زال عاملا مجتهدا حتى وافاه الله في أواخر عام 1880م، ودفن في متحف بولاق.
وظل المتحف المصري في بولاق حتى نقلته الحكومة المصرية إلى سراي الجيزة مذ بضع عشرة سنة، ثم اهتمت بإرجاعه إلى القاهرة تسهيلا للوصول إليه، فقررت سنة 1893م بناء متحف جديد بجوار قصر النيل، وشرعت في بنائه سنة 1897م، وتم البناء سنة 1902م، واحتفلوا بافتتاحه رسميا في 15 نوفمبر منها.
مؤلفاته
ألف مارييت باشا مؤلفات كثيرة بالفرنساوية، يزيد عددها على 63 بين صغير وكبير، بعضها طبع على حدة، وبعضها نشر في الجرائد العلمية في أوروبا، أهمها: (1) سرابيوم منف. (2) جدول سقارة. (3) ملخص تاريخ مصر من أقدام أزمانها إلى فتوح الإسلام. (4) زيارة متحف بولاق. (5) أبيدوس، وهو كتاب في 3 مجلدات. (6) وصف هيكل دندرة الكبير، طبع في 5 مجلدات أو 6. (7) أطلس متحف بولاق. (8) مصر العليا. (9) ملاحظات. (10) وصف هيكل الكرنك وتاريخه. (11) الدير البحري. (12) سياحة في مصر العليا. وغير ذلك شيء كثير.
الفصل العشرون
السيد صالح مجدي بك
هو من نوابغ أواسط القرن الماضي الذين ارتقوا بذكائهم ونشاطهم إلى مناصب الحكومة، ونبغوا في النظم والإنشاء والترجمة، وكان ذلك صعبا نادرا قبل النهضة الأخيرة.
السيد صالح مجدي بك 1242ه-1298ه.
ولد السيد صالح في أبي رجوان من مديرية الجيزة سنة 1242 للهجرة، وتلقى مبادئ العلم في مدرسة حلوان الأميرية، ثم انتقل إلى مدرسة الألسن وناظرها يومئذ المرحوم رفاعة بك الطهطاوي الشهير، فآنس فيه أساتذته ذكاء ونباهة فألحقوه بقلم الترجمة، ورقي لرتبة الملازم وهو لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، ثم انتقل إلى مدرسة المهندسخانة الخديوية يتولى تدريس اللغتين العربية والفرنساوية فيها، وكانت كتب التدريس في العلوم الرياضية يومئذ لا يزال معظمها في اللغة الفرنساوية، فعهدوا إلى صاحب الترجمة نقلها إلى اللسان العربي، فنقل منها كتبا جمة لا تزال ينتفع بها إلى اليوم، منها كتاب في الطبوغرافية والجيولوجية، وكتاب في الميكانيكيات النظرية، وآخر في الميكانيكيات العلمية، وآخر في حساب الآلات، وكتب في الطبيعة والهندسة الوصفية، وكلها مطبوعة، فضلا عن كتاب في حفر الآبار، ورسالة في الأرصاد الفلكية، تأليف أرجو الشهير، لم تطبع، وألف كتبا أخرى.
وفي سنة 1271م، أحيل إلى آلاي المهندسين والكبورجية، وقد ترقى إلى رتبة يوزباشي ، وتولى رئاسة الترجمة وتصحيح ما يعرب من الفنون العسكرية، وجعل يترقى في مناصب الحكومة بجده واستحقاقه حتى صار سنة 1277ه ناظرا لقلم الترجمة بقلعة الجبل، وهو مع ذلك يلاحظ طبع الكتب العسكرية. ولما تولى المغفور له إسماعيل باشا أعجبه ذكاؤه ونشاطه فرقاه إلى الرتبة الثالثة، وعينه في قلم الترجمة بالمعية السنية، ثم انتقل إلى ديوان المعاونة فالداخلية، ثم إلى ديوان المدارس، وتعين سنة 1286ه مأمور إدارة المدارس، وفي سنة 1268ه أنعم عليه بالرتبة الثانية، وفي سنة 1290ه ألغيت إدارة المدارس فاعتزل الأعمال، وتشكلت المحاكم المختلطة بمصر سنة 1292ه فتعين قاضيا بمحكمة القاهرة، وما زال في هذا المنصب حتى توفاه الله في 16 ذي الحجة سنة 1298ه/1881م.
وكان شاعرا مطبوعا، جمعت أشعاره في ديوان كبير طبع في المطبعة الأميرية سنة 1312ه، مصدرا بترجمة له مطولة، أخذنا عنها معظم ما ذكرناه عنه، وكان ميالا إلى الإنشاء، فلم تخل جريدة من جرائد تلك الأيام من مقالات بقلمه أو قصائد من نظمه، كالوقائع المصرية، وروضة المدارس، والجوائب.
ومما نقله إلى اللسان العربي من المؤلفات الرياضية غير التي تقدم ذكرها كتاب في الحساب، وآخر في الجبر، وآخر في تطبيق الجبر على الأعمال الهندسية، وآخر في المثلثات وغيرها، وكانت هذه الكتب لا تزال إلى عهد قريب معتمد المدارس الأميرية في تدريس هذه الفنون، وقد عرب وهو في آلاي المهندسين كثيرا من كتب الفنون العسكرية، منها كتاب الترع والأنهر، وكتاب ميادين الحصون والقلاع ورمي القنابر باليد والمقلاع، وكتاب استكشافات عمومية، وكتاب استحكامات خفيفة، وكلها مطبوعة، وكتاب تذكار ضباط المهندسين وكتاب استحكامات قوية. ومن معرباته كتاب تذكير المرسل بتحرير المفصل والمجمل، واشترك في ترجمة قوانين فرنسا (كود نابوليون)، وترجم كتبا أخرى ونشر رسائل شتى في مواضيع مختلفة، واشترك في تحرير جريدة روضة المدارس التي أنشأها المرحوم علي باشا مبارك، واتحد مع علي باشا المذكور في تأليف تاريخ عام مطول للديار المصرية، فألفا منه ما يتعلق بالفراعنة والأكاسرة والبطالسة والرومانيين، حتى انتهيا إلى فتوح الإسلام، وتجاوزاه إلى سنة 160 بعد الفتح، فبلغ ما كتباه منه نحو 400 كراس، وتوفي صاحب الترجمة والكتاب بين أوراق المرحوم علي باشا مبارك، لا ندري ما آل إليه الأمر بعد وفاة علي باشا.
ويقال بالإجمال إن صالح مجدي بك كان من رجال العلم الذين خدموا آداب اللغة العربية بترجمة الكتب الرياضية والعسكرية، فضلا عن قريحته الشعرية؛ فإن صفحات ديوانه المطبوع 430 صفحة كبيرة تدل على طول باعه في النظم، واطلعنا مؤخرا على كتاب فيه مقالات أدبية من إنشاء صاحب الترجمة كانت تنشر في جريدة روضة المدارس، قيل يومئذ إن فيها تعريضا ببعض رجال ذلك العهد، فمنع نشرها، فعني بجمعها نجله محمد مجدي بك، القاضي بمحكمة الاستئناف بمصر، وطبعها في المطبعة الأميرية.
الفصل الحادي والعشرون
سليم بسترس
إن عائلة بسترس من أشهر عائلات سوريا غنى ووجاهة، وقد نبغ منهم جماعة اشتهروا بالذكاء والإقدام والمهارة في الشئون التجارية، نذكر اليوم ترجمة أحدهم المرحوم سليم بسترس بن موسى بسترس من نوابغ أواسط القرن الماضي. ومما دعانا إلى نشر ترجمة هذا الرجل بنوع خاص أنه كان على غناه ووجاهته ميالا إلى العلم، راغبا في اكتسابه ونشره، وذلك نادر في بلادنا؛ فهو يجدر أن يكون مثالا لأهل اليسار، وفيهم من يحسب العلم مهنة الفقراء، وإذا قيل لهم تعلموا قالوا وما ينفعنا العلم ونحن لا نحتاج إلى كسب - كأن العلم والغنى لا يتفقان. وهي أوهام تقادم عهدها وآن لنا أن ننزعها، وما من عاقل إلا وهو يعلم أن العلم زينة الغنى، ودعامة التمدن، وإكليل الملوك، بل هو نور العالم ودليل الإصلاح.
فنرجو أن تكون ترجمة سليم بسترس قدوة لهم حسنة، وإليك هي:
هو سليم بسترس بن موسى بسترس، ولد في بيروت في 29 من شهر آب (أغسطس) سنة 1839م، وكان الولد الذكر الوحيد لوالده موسى بسترس، وكان موسى عين قومه ورئيس أسرته ومؤسس اتحادها. وكان والده كثير الحسنات رحب الصدر، ممتازا بمحامد الصفات، توفي مأسوفا عليه سنة 1850م، فتربى ولده سليم في حجر والدته، فقامت بتهذيب أخلاقه، ولم يلبث أن حصل المعارف والآداب العربية، وأحرز بعض اللغات الأجنبية، وكان له شعر رقيق.
سليم بسترس 1839م-1883م.
وكانت أحوال أوروبا في فتوته مجهولة لدى السواد الأعظم في سوريا، فسافر إليها سنة 1855م، وجاب بعض ممالكها، وألف في رحلته كتابا مفيدا سماه الرحلة السليمية، حرض فيه أبناء وطنه على طلب أسباب تقدم أوروبا، وضمنه كثيرا من النصائح والحكم، ومما قاله في تقدم الأمم: «إنه يكون بالاتحاد والتعاضد والاجتهاد، وبتغيير عناصر التعصب، واتباع السنن العمومية؛ إذ هي مفتاح الترقي، وأن أفراد الرجال هم الذين يبثون الآراء الصحيحة بين الناس بكتاباتهم وكلامهم وقدوتهم.» وقد عرب عدة روايات قصد بها استصلاح العادات، وبث الآراء الصحيحة، والاحتفاظ بالآداب، جعلها أقاصيص يصبو الناس إلى مطالعتها.
وسنة 1860م استوطن الإسكندرية قصد الاتجار، وسافر سنة 1866م ثانية إلى أوروبا وأنشأ بيتا تجاريا في ليفربول، ثم جاء بيروت سنة 1869م لزيارة أهله وخلانه، ولما عاد إلى إنكلترا انتقل بيته التجاري إلى لندن . وسنة 1872م قدم بيروت زائرا، وفي أول أيلول (سبتمبر) سنة 1874م زفت إليه في مدينة لندن أدما ابنة ابن عمه حبيب جرجس بسترس، فرزق منها ولدين؛ البكر إسكندر موسى عرابه القيصر إسكندر الثاني إمبراطور روسيا الأسبق، والثاني فلديمير عرابه القيصر إسكندر الثالث والد القيصر الحالي، وهي حظوة يستدل بها على ما كان له من المكانة في البلاط الروسي.
وكان يهب جمعيات الإحسان الخيرية في سوريا وإنكلترا وغيرها من ممالك أوروبا، وكان عضوا في جملة جمعيات؛ منها الملجأ ببطرسبرج، وجمعية القديس يوحنا الأورشليمي في لندن، فقلدته وسامها المخصوص، ومنحته لقرينته بعد وفاته، وقد أحرز شهرة حسنة في سوريا وبلاد الإنكليز.
كان صادقا كريما، معروفا بالفضل والنبل وسعة المعارف، فنال الوسام المجيدي العالي الشأن من العواطف الشاهانية، ومنحه إمبراطور روسيا وسام سنت آن (القديسة حنة) الثالث، ووسام الصليب الأحمر، ووسام سان ستانسلاس الثاني، وكانت وفاته بعلة القلب في مصيفه في فلكستن قرب لندن في 3 شباط (فبراير) سنة 1883م، وقد نقلت جثته إلى بيروت، فدفن فيها سنة 1885م.
وقد عني بعضهم في جمع مراثيه وأقوال الجرائد فيه وصور الرسائل العديدة التي كانت ترد عليه من وزراء الروس وحجاب الإمبراطور الروسي، وطبعها في كتاب يسمى صدى الحسرات، طبع في بيروت في مطبعة القديس جاورجيوس سنة 1885م - فلتراجع فيه - وله ديوان شعر اسمه أنيس الجليس.
الفصل الثاني والعشرون
محمود باشا الفلكي
العالم الرياضي الفلكي المصري
ولد (رحمه الله) في بلدة اسمها الحصة في مديرية الغربية سنة 1220ه، ولم يكد يترعرع حتى توفي والده فاحتضنه أخوه، وكانت النجابة تتجلى في وجهه منذ صباه، فأدخله أخوه في مدرسة الإسكندرية سنة 1240ه، فأقبل على الدرس والمطالعة، وأكب على اكتساب العلم بهمة ونشاط، فلم تمض عليه بضع سنوات حتى نال رتبة بلوك أمين، فانتقل من هذه المدرسة إلى غيرها من المدارس الأميرية المصرية، وكان حيثما حل اشتهر بالنباهة والذكاء؛ وخصوصا في الفنون الرياضية، فلما أتم دروسه عينته الحكومة أستاذا للعلوم الرياضية والفلكية في مدرسة المهندسخانة، وكانت إذ ذاك برئاسة لامبير بك، فترقى فيها إلى رتبة صاغقول أغاسي، أنعم بها عليه المغفور له محمد علي باشا الكبير سنة 1262ه.
محمود باشا الفلكي 1220ه-1303ه.
ولا يخفى ما كان للرتب من المنزلة إذ ذاك؛ فكانت الحكومة لا تنعم على أحد برتبة ما لم يأت عملا عظيما يمتاز به عن أقرانه، أو يقوم بخدمة ذات بال، فحصول صاحب الترجمة على هذه الرتبة دليل على علو همته ورفع منزلته، على أنها كانت داعيا إلى تنشيطه، فأكب على التبحر في العلوم، فاختارته الحكومة المصرية سنة 1851م وبعثت به إلى أوروبا لإتمام علومه الرياضية والفلكية، فثابر على ذلك تسع سنوات متوالية، لازم في أثنائها مرصد باريس، وكان لا يترك فرصة لا يستفيد بها شيئا حتى آن الامتحان، فقدمه وحاز به قصب السبق، فنال الشهادات وعاد ظافرا منصورا في عهد المغفور له سعيد باشا، فأنعم عليه برتبة أميرالاي، وكلفه رسم خريطة للديار المصرية، فأخذ في مباشرة هذا العمل - وهو أول من باشره من المصريين - فرسم خريطة الوجه البحري رسما مدققا يدل على طول باعه ومهارته في التخطيط والهندسة، وهي خريطة مشهورة باسمه، يرجعون إليها عند التدقيق، ولعلها أول مؤلف وضعه، ثم أردفه بمؤلفات أخرى بين رسائل وكتب، بعضها في العربية وبعضها في الفرنساوية، وهاك أسماءها ومواضيعها: (1)
الخريطة المتقدم ذكرها، وقد أشرنا إلى ما نالته من المنزلة الرفيعة. (2)
رسالة في التقاويم الإسرائيلية الإسلامية، نشرها سنة 1855م، بعد أن قدمها لمجمع العلوم في البلجيك، وخلاصة موضوعها تعيين زمن ابتداء تاريخ اليهود، وهو عندهم في 7 تشرين أول سنة 3761 قبل الميلاد، ويريدون به اليوم الذي تمت الخليقة فيه، والنظر في حدود يومهم، وهو يبتدئ عندهم في الساعة السادسة إفرنكية مساء، ويقسم إلى 24 ساعة، وتقسم الساعة إلى 1080 قسما، يقسم كل منها إلى 72 جزءا، وبحث في أسبوعهم وشهرهم وسنتهم والأيام التي تبتدئ بها شهورهم وسنوهم، مع تعيين أعيادهم، ومقارنة تاريخهم بتاريخ الميلاد المسيحي. (3)
رسالة في الحالة الحاضرة للمواد المغناطيسية الأرضية بباريس وضواحيها، تلاها سنة 1856م على المجمع العلمي الفرنساوي، وقد أعد موادها أثناء تجواله في أوروبا. (4)
كتاب في التقاويم العربية قبل الإسلام، نشره سنة 1858م، وهو من أجل كتبه، بحث فيه عن يوم ولادة صاحب الشريعة الإسلامية، فوصل إلى نتيجة مآلها أنه ولد في 9 ربيع الأول، الموافق 20 أبريل سنة 571 للميلاد.
ودقق النظر في حال التقويم قبل الإسلام، فحكم بأنهم كانوا يعملون بالحساب القمري الصرف، وبحث فيه أيضا عن عمر النبي عند وفاته، فبلغ ستين سنة شمسية و28 يوما، أو 63 سنة قمرية و3 أيام، وارتأى أن العرب في جاهليتهم لم يكونوا يعرفون الساعات التي ينقسم إليها اليوم، وهو رأى كوسين دي برسفال المؤرخ الفرنساوي وشوسن. (5)
رسالة في الكسوف الكلي الذي ظهر بدنقلا في 18 يوليو سنة 1860م، وشاهده هو بنفسه هناك، وكانت تلك الرسالة داعيا إلى اشتهاره بين علماء الفلك. (6)
رسالة في الإسكندرية القديمة، وصف بها تلك المدينة في أقدم أزمانها، مستشهدا بما اكتشفه هو من شوارعها ومراسحها وأبنيتها، وأرفق الكتاب بخارطة أوضح بها ذلك. (7)
رسالة في الإيضاح عن أعمار الأهرام، بحث فيها بحثا دقيقا، فتبين له الغرض الأصلي من بنائها مطابقتها للشعرى، ومن رأيه أن الأهرام إنما بنيت لغرض فلكي؛ قال مختار باشا المصري: «وعلى ذكر هذه الرسالة يجدر بي إيراد عبارة هي في حد ذاتها صادرة عن أفكار شخصية، فقد كنت موجودا مع المرحوم عند شروعه في أخذ مقاييس الأهرام وموقعها من التناسب الفلكي، وأعلم علم اليقين بأنه وصل للاطلاع على الغرض من تشييدها، إذ وجد تحكيمها في رسم يقابل بالضبط كوكب الشعرى عند طلوعه، فكأن الآمر ببنائها أراد أن يجعلها مزولة يعرف بها يوم شم نسيم العلماء، ولأجل تعريض جثث المدفونين فيها لموافاة صعود الكوكب المذكور، فيسبغ عليه من آياته رحمة وغفرانا؛ إذ ليس بخاف أن كوكب الشعرى كان عند الأقدمين، وخصوصا المصريين، من أجل المعبودات، حتى عبر عنه بعضهم بإله الآلهة.» (8)
رسالة في التنبؤ عن ارتفاع النيل قبل ارتفاعه. (9)
بحث في ضرورة إنشاء مرصد لمراقبة الحوادث الجوية في مصر. (10)
رسالة في مقياس مصر ومكيالها وميزانها، ومقابلة ذلك بالأقيسة الفرنساوية. (11)
رسالة في مشابهة «كان» الناقصة بالفعل الفرنساوي «
Avoir ». (12)
رسالة في توحيد موازين العملة في القطر المصري، باشر كتابتها، والموت حال بينه وبين إتمامها.
وتقلد محمود باشا الفلكي (رحمه الله) مناصب ذات شأن لا يتقلدها إلا نخبة أهل الفضل، منها أنه ناب عن الحكومة المصرية في المجمع الجغرافي بباريس سنة 1875م وفي البندقية سنة 1881م، وتقلب في مناصب الحكومة حتى بلغ مسند الوزارة، فعهدت إليه نظارة الأشغال العمومية، ولكن الحوادث العرابية التي داهمت هذا القطر سنة 1882 لم تمكنه من إدارة شئونها طويلا، ثم عهدت إليه نظارة المعارف العمومية، فلم شعثها ونظمها ورتب كثيرا من أقسامها، فزهت المعارف على عهده وأضاءت البلاد بها، وتولى رئاسة الجمعية الجغرافية الخديوية مدة. وخلاصة القول أنه كان هماما حازما محبا لوطنه، قضى سني حياته عاملا في خدمته، مجاهدا في سبيل نشر المعارف بين أبنائه، حتى توفاه الله فجأة سنة 1303ه وهو محاط بالكتب والأوراق، آسفا على مؤلفات كان في عزمه إتمامها، فحال المنون بينه وبينها، فشقت وفاته على أهل الوطن المصري، فأبنه العلماء ورثاه الكتاب والشعراء بما دل على تقديرهم فضله حق قدره.
الفصل الثالث والعشرون
نوفل نعمة الله نوفل الطرابلسي
تاريخ حياته
هو أحد رجال النهضة العربية الأخيرة، ولد في طرابلس الشام سنة 1812م، وكان والده نعمة الله نوفل من أصحاب المناصب الذين يشار إليهم بالبنان ، على أن آل نوفل بوجه الإجمال قوم معروفون بالوجاهة والإخلاص للدولة العلية، وقد تولوا خدمتها في أثناء ثلاثة قرون، وتقلبوا في مناصب متنوعة ولا يزالون.
نوفل نعمة الله نوفل الطرابلسي 1812 م-1887م.
فعني والده بتثقيفه جريا على مثال أعضاء أسرته، فأدخله بعض المدارس الابتدائية في مدينة طرابلس، فاكتسب مبادئ القراءة والكتابة في اللغة العربية، وتناول بعض الشيء من والده، وخصوصا الإنشاء والخط فبرع فيها، وفي سنة 1820م قضت الأحوال بسفر والده إلى الديار المصرية على عهد المغفور له محمد علي باشا، وكانت له عليه دالة لما تولاه من الإنشاء في ديوانه، وكان العلم إلى ذلك العهد قاصرا في سوريا ومصر على العلوم العربية والتركية، ويندر من يتعلم الفرنساوية أو الإيطالية، وكان محمد علي باشا قد أنشأ المدارس لتعليم تينك اللغتين، فدخل نوفل بعضها، فنبغ فيهما حتى عني ولاة الأمر بتعيينه معاونا لأبيه في قلم التحريرات بالديوان الخاص.
وفي سنة 1828م عاد إلى سوريا مأمورا لمحاسبة لواء طرابلس وقضاء اللاذقية، ظل في هذا المنصب سبع سنين، تزوج في أثنائها بالمرحومة أنجلينا، كريمة المرحوم حنا غريب، وهو في أوائل أفراحه نكبه الزمان بمصيبة نغصت عيشه؛ وذلك أن المغفور له إبراهيم باشا دخل سوريا - كما هو معلوم - سنة 1830م، فقضى فيها عشر سنوات بين مدافع ومهاجم، لم تخل البلاد في أثنائها من ثورة في بلد أو جبل، ولكنه كان صارما سريع الانتقام، ذلك ما أوقع هيبته في قلوب السوريين فباتوا يخافون اسمه، ولا تزال أيام إبراهيم باشا مثلا يضربونه بالعدل والصرامة، فنقل إليه بعض الناس وشاية بنعمة الله نوفل والد المترجم، فأمر بإعدامه، ثم عاد إبراهيم إلى طرابلس وقد تقدم إليه بعضهم أن يتفحص ما بلغه عن المقتول، فبحث فتحقق براءة الرجل وأن الأمر كان وشاية، فاستقدم صاحب الترجمة، وكان معتزلا في منزله حزينا، فقدم فأكرمه ودفع إليه مالا كثيرا، وخلع عليه خلعا سنية، وأرسل بعض رجال معيته ليعزي والدته، ويعدها بالانتقام من الواشين جبرا لقلبها الكسير، وقد فعل.
وفي سنة 1850م تعين المترجم باشكاتبا لخزينة طرابلس، وفي السنة التالية نقل إلى بيروت للكتابة في مجلس إدارة ولاية صيدا، وفي أثناء ذلك أنفذت الدولة العلية أمين أفندي أحد كبار مأموريها لمساحة جبل لبنان، وعينت المترجم سكرتيرا له. وفي سنة 1852م تولى باشكاتبية كمرك بيروت، وطال مكثه في هذا المنصب لما أظهره فيه من النشاط واللياقة، وفي سنة 1863م توجه إلى طرابلس بمعية قبولي باشا، ثم عاد معه إلى بيروت، فرأى في السنة التالية أن صحته لا تساعده على تولي المناصب الشاقة فاستقال من الخدمة، وعاد إلى مسقط رأسه لترويح النفس، فعينوه هناك ترجمانا لقنصلية ألمانيا، ثم لقنصلية أميركا معا، وانقطع عن سائر الأشغال، ووجه التفاته إلى عقاره وأمواله، وشغل ساعات الفراغ في المطالعة والتأليف والبحث والتنقيب، فقضى في ذلك نيفا وعشرين سنة حتى توفاه الله سنة 1887م، عن ثروة تركها لأرملته، فأسف عليه كل من طالع كتاباته.
علمه وفضله ومؤلفاته
كان صاحب الترجمة من محبي المطالعة، وأكثر ما يقرؤه في اللغتين العربية والتركية، فجمع مكتبة نفيسة فيها مئات من المجلدات في العلم والأدب والتاريخ والفكاهة، بين مطبوع ومخطوط، فلما دنا أجله وقفها للمدرسة الكلية الأميركية في بيروت خدمة لتلامذتها، ولا تزال تذكارا له على ممر الأيام، ولم يكن يقتصر في المطالعة على تمضية ساعات الفراغ، ولكنه كان يجني ثمار ما يطالعه، فيكتب المقالات والرسائل والكتب في مواضيع معظمها جديد لم يسبقه أحد إلى مثله في العربية؛ فمن مقالاته ورسائله ما نشر في مجلة الجنان، ومنها ما نشر في لسان الحال وغيرهما. أما الكتب المطبوعة على حدة، فبعضها ترجمة عن التركية، والبعض الآخر ألفه تأليفا؛ فالكتب المترجمة منها كتاب قوانين المجالس البلدية التي قررها مجلس المبعوثان، وكتاب في أصل ومعتقدات الأمة الشركسية، وكتاب دستور الدولة العلية، وهو جزءان، كافأته الدولة على ترجمته بثلاثمائة ليرة عثمانية، وكتاب حقوق الأمم وغيرها، وكلها كما ترى في مواضيع جدية تحتاج إلى علم وتضلع في اللغتين العربية والتركية.
أما مؤلفاته، فإنها أوضح دلالة على علمه وفضله؛ لأنها مما لم ينسج على منواله في العربية، وقد يعجب الذي يطلع عليها لصدورها عن مؤلف لا يعرف شيئا من اللغات الإفرنجية، كما صرح هو في مقدمة بعضها.
ومن مؤلفاته (1)
زبدة الصحائف في أصول المعارف:
طبع في بيروت سنة 1873م، وفيه أبحاث في تاريخ العلوم عند الأمم المتمدنة قديما وحديثا؛ فقد صدره بتاريخ الفلسفة عند الكلدان والفينيقيين والفرس والهند والصينيين والمصريين واليونان، مع تفصيل فرق الفلاسفة عندهم وتسلسل آرائهم، إلى أن وصلت الفلسفة إلى العرب ومن جاء بعدهم، ويلي ذلك فصول في أصول العلوم وتواريخها، كالمنطق واللغة، ويتفرع عن ذلك الكلام في تواريخ اللغات فعلوم اللغة والصرف والبيان والشعر، ثم أصول العلوم الرياضية والفلك ، فالطبيعيات، فالطب وفروعه، فالتاريخ، فالجغرافية، وسائر العلوم الحديثة؛ كالجيولوجيا والكيميا والمعادن والنبات وغيرها، وكلامه في كل ذلك تاريخي فلسفي تلذ مطالعته. (2)
زبدة الصحائف في سياحة المعارف:
واسمه يدل على موضوعه؛ فهو يبحث في كيفية تنقل العلم والفلسفة في الأرض من أقدم الأزمان إلى الآن عند كل مملكة وكل دولة، ويعد هذا الكتاب تتمة للكتاب السابق، مع أنه أكبر منه. (3)
سوسنة سليمان في أصول العقائد والأديان:
وفيه فصول إضافية في أصول أديان الناس من الوثنية والمجوسية إلى الأديان الإلهية وتفصيل ذلك، خصوصا في الديانات الثلاث المشهورة، مع ما حدث من الفرق النصرانية والإسلامية والإسرائيلية على أسلوب سهل لذيذ. (4)
صناجة الطرب في تقدمات العرب:
وهو كتاب عظيم الفائدة يدل على سعة اطلاع مؤلفه المرحوم في تاريخ العرب وآدابهم وأخلاقهم وعاداتهم، فقد صدره بمقدمات جغرافية عن جزيرة العرب، ثم بسط الكلام في أقسام العرب وتقاطيعهم وسحنهم وأوصافهم، ثم في أديانهم ومعابدهم ومناسكهم ومساكنهم وملابسهم ومآكلهم ومخاطباتهم، ويلي ذلك الكلام في أخلاقهم وشجعانهم وفصحائهم وخيولهم وإبلهم، ثم جيوش العرب وأسلحتهم وحروبهم ودولهم، وأبحاث في وضع آداب اللغة العربية وأصول العلوم عند العرب علما علما، وكيف نشأت عندهم أو وصلت إليهم، وفي ذيل الكتاب فذلكة تاريخية عن دول العرب من خلفاء الراشدين إلى أواخر بني العباس. (5)
الرد على الغضنفري:
قد طبع مؤخرا، وله مؤلفات أخرى لم تطبع.
الفصل الرابع والعشرون
الدكتور ميخائيل مشاقة
هو من أفراد القرن التاسع عشر، ونابغة من نوابغه ذكاء وفطنة وهمة، ولد في قرية رشميا من أعمال جبل لبنان، من عائلة ذات نسب جليل يتصل بيوسف بتراكي الذي هو جد جد صاحب الترجمة، وأصله من كورفو ببلاد اليونان، ولقب بمشاقة لاحترافه تجارة مشاقة الحرير، وكان والده جرجس في بلاط الأمير بشير الشهابي الكبير أمير جبل لبنان إذ ذاك، ومن المقربين منه، فنقل بيته إلى دير القمر مركز الإمارة ليكون قريبا من مكان عمله.
الدكتور ميخائيل مشاقة 1800-1888م.
وكان ميخائيل نبيها ذكيا متوقد الذهن، فتمكن من القراءة في مدة وجيزة، وكان له ميل طبيعي إلى الرياضيات، فتلقن الحساب البسيط عن أبيه، ثم تعلم مسك الدفاتر.
وكان على صغر سنه يجالس كبار القوم ويستفيد من أحاديثهم، فسمع من يهود دير القمر أنهم يعرفون أوان الخسوف والكسوف قبل حدوثهما، فمال إلى استطلاع كيفية ذلك فلم يستطع، فازداد قلقه، وكان يعتقد مثل اعتقاد أكثر أهل تلك الأيام من أن علم الفلك ينبئ صاحبه بالغيب.
وفي سنة 1714م قدم بطرس النحوي خال صاحب الترجمة من دمياط إلى دير القمر، وكان بارعا في علم الفلك وسائر العلوم الرياضية والطبيعية، فانتهز ميخائيل تلك الفرصة وطلب إلى خاله أن يدرسه علم الفلك، فسر بطلبه وأخذ يدرسه باجتهاد، فاكتسب منه جانبا كبيرا بمدة قصيرة، فأحبه خاله محبة شديدة، وأعجب بذكائه وفطنه. وفي سنة 1817م ذهب ميخائيل إلى دمياط وتعين كاتبا في محل عمه هناك، وكان كبير النفس لا يقنع بأقل من الاستقلال، فما لبث زمنا حتى تعاطى التجارة بنفسه، واكتسب ثروة صغيرة.
واتفق أنه طالع سنة 1818م كتاب سياحة الفيلسوف فولني وآراءه، فوقع في حالة التردد من أمر الدين، وصار ذلك شاغلا لأفكاره.
ومن غريب أخلاقه وحميدها أنه لم يكن يرى شيئا أو يسمع به إلا أحب استطلاع كنهه، وكانت له ثقة تامة بقواه العقلية؛ ولذلك كان يعتقد أنه يقدر أن يتعلم كل ما يريده.
ويحكى أنه حضر عرسا في مدينة دمياط كانت تصدح فيه الموسيقى، فسأله أحد الحاضرين عن لحن هل يعرفه، فأظهر البعض الآخر استخفافا به لأنه لا يعرف الألحان، فثارت في رأسه الحمية، وعزم من تلك الساعة أن يدرس فن الموسيقى، ففعل وتمكن منه، حتى ألف فيه رسالة بديعة بعد أن أتقن الضرب على سائر آلاته.
وفي سنة 1820م ظهر في دمياط وباء الطاعون، فرجع ميخائيل إلى دير القمر وهو لا يفتر عن المطالعة، وكان يطالع الجبر والمقابلة بنفسه.
وبعد ذلك انتدبه الأمير بشير الكبير ليكون مدبرا عند أمراء حاصبيا، فأكرموا مثواه ووهبوه بقاعا واسعة في جهات الحولة ونهر اللدان وقرية في قضاء القنيطرة؛ وهذا يدلنا على مقدار ما كان من إعجابهم به وبأعماله، ولكنه أصيب بمرض سنة 1828م فاضطر لأن يعود إلى دير القمر للمعالجة، فتعالج خمسة أشهر كان في أثنائها يلاحظ العلاج الذي كان يتناوله، ويود لو أنه يعرف صناعة الطب جريا على طبيعته - كما قدمنا. فحالما نقه من مرضه عكف على مطالعة ما وصلت إليه يداه من الكتب الطبية حتى فهم أكثرها، ولكنه عجز عن إدراك كثير من مصطلحاتها، وكان المتقدم ذكره قد عاد إلى دير القمر فأفهمه إياها، واستعان أيضا بطبيب آخر إيطالي كان هناك.
وفي سنة 1831م جاء إبراهيم باشا بن محمد علي باشا الكبير بجنوده لافتتاح عكا، وكان بينه وبين الأمير بشير تحالف، فجاء الأمير لمعاضدته في ذلك الحصار، وقدم ميخائيل مشاقة برفقة الأمير؛ ومن ثم انضم إلى الجنود المصرية ورافقها إلى دمشق وحمص يطبب جرحاها والمصابين بالكوليرا (الهواء الأصفر)، ثم رجع إلى دير القمر. وقد لحقه بسبب حروب إبراهيم باشا خسائر جسيمة مالية، حتى اضطر للتطبيب بالأجرة، وكان قبل ذلك يطبب مجانا. ونزح إلى دمشق وأقام فيها، واغتنم وجود الدكتور كلوت بك الشهير هناك مع الحملة المصرية، فطالع ما نقصه من الطب عليه، فتمكن من تلك المهنة حتى ولته الحكومة رئاسة أطباء دمشق.
ولم يكن يقنع بعلم دون آخر، فلما تمكن من الطب طلبت نفسه شيئا آخر، فدرس المنطق وتوسع فيه، وعندما خرجت الجنود المصرية من سوريا تعين مترجما للسير وود الذي أرسل قنصلا لدولة إنكلترا في دمشق.
وفي سنة 1846م قدم الديار المصرية وواظب على ممارسة العمليات الجراحية في مدرسة قصر العيني حتى نال الدبلوما الطبية مع لقب دكتور، ثم عاد إلى دمشق، وتحركت أفكاره في أثناء ذلك حركة دينية، فجعل يتردد بين الديانة المسيحية وما ذهب إليه فولتير حتى وقع على كتاب البينة الجلية، فأخذ يراجع فيه وفي غيره لعله يهتدي إلى ما يريح ضميره من التردد، ثم أخذ يطالع كتبا جدلية بين طائفتي الكاثوليك والبروتستانت، وجرى بينه وبين البطريرك مكسيموس مظلوم إذ ذاك مجادلات طويلة انتهت بانحيازه إلى طائفة البروتستانت، وصار من أكبر المدافعين عنها وعن تعاليمها تكلما وكتابة.
وفي سنة 1859م تعين فيس قنصل الولايات المتحدة الأمريكية في دمشق، وفي السنة التالية كانت الثورة المشهورة، بل المذبحة المعلومة في دمشق وغيرها من سوريا، فأصاب الدكتور مشاقة جراح كثيرة، ولولا مساعدة الأمير عبد القادر الجزائري ما نجا من القتل، ولكنه تمكن بمساعدته من الالتجاء إلى مكان طبب فيه جراحه حتى شفي.
وبقي هذا الرجل عاملا في الطب والسياسة والديانة والفقه والحساب وسائر أنواع العلوم حتى كانت سنة 1870م، فأصيب بفالج بجانبه الأيمن، فانقطع عن أشغال القنصلية، فأحيلت لولده نصيف بك.
أما هو فلم ينفك عن العمل في بيته، ولم يكن يخلو منزله من الزائرين على اختلاف الأجناس والطبقات لمشاهدته وتحقق ما سمعوه عنه، وقد أتيح لنا الحظ بزيارته سنة 1883م في منزله بدمشق، فإذا به رجل ذو هيبة ووقار يجلله الشيب، يلبس العمامة والجبة، طويل القامة، كبير الجثة، لطيف الحديث، واسع الاطلاع، كثير الترحيب بزائريه كسائر أهل دمشق، وقد اطلعنا على كثير مما كتبه ولم يطبعه من المؤلفات، وفي جملة ذلك رسالة في الألحان الموسيقية العربية، ومطول في الحساب والمعين على حساب الأيام والأشهر والسنين، مذيل بجداول لمدة مائة سنة تحتوي على مطابقة أيام الشهور العربية والرومية والقبطية والعبرانية والهجرية، ومواقع كسوف الشمس والقمر لطول دمشق وعرضها، وغيرها.
أما الكتب التي طبعت من مؤلفاته فأكثرها ديني جدلي، وفي جملتها كتاب سماه البرهان على ضعف الإنسان، جوابا لصديق له كان تابعا لتعاليم فولتير، وقد طبعت مجلة المشرق رسالته في الصناعة الموسيقية. ومن مؤلفاته «الجواب على اقتراح الأحباب»، وفيه ترجمة أسرته وحوادث أيامه، قد طبع مؤخرا باسم «مشهد العيان».
وكانت وفاته في السادس من شهر يوليو (تموز) سنة 1888م في دمشق الشام، وله من العمر تسع وثمانون سنة، قضاها في العمل والاجتهاد وخدمة بني الإنسان.
الفصل الخامس والعشرون
الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري
هو من أكبر علماء مصر في القرن التاسع عشر، ومن أعظم كتابهم ومؤلفيهم، وكان له شأن كبير في النهضة العلمية الأخيرة في القطر المصري.
ولد في إبيار من أعمال الغربية بمصر السفلى سنة 1236ه/1821م، ولم يكد يتلقى مبادئ القراءة حتى مال بكليته إلى الدرس والمطالعة، فأحب والده ذلك الميل فيه، فأخذ يلقنه العلم بنفسه، فعلمه الأدب وسائر علوم اللغة العربية، فأدرك منها في بضع سنين شيئا كثيرا، ثم جاور في الأزهر مدة طويلة، وقرأ على خيرة علمائه، كالشيخ البيجوري والشيخ الدمنهوري وغيرهما، ولم يطل الأمد حتى ذاع ذكره بين الناس على اختلاف طبقاتهم، وتحدث القوم بعلمه وفضله، فاستدعاه إسماعيل باشا الخديوي الأسبق وأثنى عليه، وعهد إليه بتعليم أنجاله خاصة، ومن جملتهم توفيق باشا الخديوي السابق، وكان وهو في ذلك المنصب يتصدر للتدريس والإقراء في بيته وفي الجامع الأزهر، وأخذ عنه كثيرون من الذين اشتهروا بعدئذ بالعلم والفضل، كالشيخ حسن الطويل، والشيخ محمد البسيوني وغيرهما من أكابر علماء الأزهر.
ولما تولى المرحوم توفيق باشا أريكة الخديوية المصرية قربه إليه، وأحله محلا رفيعا، وجعله إمام المعية ومفتيها، فبقي على تلك الرتبة حتى توفي سنة 1306ه/1888م.
وكان (رحمه الله) طائر الشهرة، قصده أهل عصره، وكاتبه كثيرون من فضلائه، وله رسائل مدونة مع أكابر العلماء والشعراء، كالشيخ أحمد فارس والشيخ ناصيف اليازجي والشيخ إبراهيم الأحدب وغيرهم، وله مؤلفات كثيرة ربما زادت على أربعين مؤلفا لم يطبع منها إلا بعضها؛ وأشهر ما طبع منها: (1)
سعود المطالع:
وهو كتاب جمع فيه واحدا وأربعين فنا في شرح لغز باسم إسماعيل على نسق غريب، وجعله تحفة للخديوي إسماعيل باشا، وطبع في بولاق سنة 1283ه في مجلدين عدد صفحاتهما نحو سبعمائة صفحة. (2)
نفح الآكام في مثلثات الكلام:
طبعت في مصر سنة 1276ه، وهو تفسير الألفاظ التي تحتمل ثلاثة معان باختلاف حركاتها. (3)
الوسائل الأدبية في الرسائل الأحدبية:
هي مكاتبات في مواضيع لغوية أدبية جرت بينه وبين المرحوم الشيخ إبراهيم الأحدب في بيروت. (4)
الكواكب الدرية في نظم الضوابط العلمية. (5)
نيل الأماني في توضيح مقدمة القسطلاني. (6)
الباب المفتوح لمعرفة أحوال الروح.
تصوف.
ومن مؤلفاته المهمة التي لم تطبع: (1)
كتاب ترويح النفوس على حواشي القاموس. (2)
القصر المبني على حواشي المغني. (3)
صحيح المعاني في شرح منظومة البلياني. (4)
الفواكه في الأدب. (5)
الدورق في اللغة. (6)
النجم الثاقب في المحاكمة بين البرجيس والجوائب:
وسبب وضعه أنه كان بين صاحب الجوائب المطبوعة في الآستانة والبرجيس المطبوع في باريس مناظرة في المسائل اللغوية أفضت إلى المشاحنة والتنافر، ودام الأمر بينهما طويلا، فكتب الشيخ عبد الهادي كتابه المشار إليه للفصل بينهما.
الفصل السادس والعشرون
شفيق بك منصور
هو من نوابغ الناشئة المصرية في القرن الماضي، ولد في القاهرة سنة 1856م، وأبوه منصور باشا يكن، فربي في مهد العز والفخار، وعني والده في تعليمه فأقام مدة في مدرسة النيل، ثم في مدرسة العباسية، ثم أتقن العربية والفرنساوية والتركية على أساتذة مخصوصين.
شفيق بك منصور 1856-1890م.
وسافر سنة 1869م إلى باريس مع صاحب الدولة البرنس حسين باشا كامل، عم الجناب العالي، فلم يقم فيها إلا قليلا؛ لانتشاب الحرب بين الألمان والفرنساويين سنة 1870م، فعاد إلى مصر ثم رجع منها إلى سويسرا سنة 1871م، واستقر هناك ست سنوات يشتغل في العلوم الرياضية، وكان شديد الميل إليها، ودرس العلوم الطبيعية فنال منها حظا وافرا، واشتهر بين أقرانه بحل المسائل الرياضية العويصة، ثم بما كان ينشره من هذا القبيل في مجلة المقتطف، ثم ذهب إلى باريس فأقام فيها أربع سنوات قرأ في أثنائها علم القوانين، وحاز قصب السبق وامتاز على أكثر معاصريه، بما اختص به من قوة العارضة، وطلاقة اللسان، ودقة النظر، وسداد الرأي.
فعاد إلى مصر ومحبوها يتمنون لها مئات من أمثاله، ويودون أن يكون قدوة لشبانها، فلما تشكلت لجنة تحقيق جنايات حريق الإسكندرية سنة 1883م على أثر الحوادث العرابية انتدبته الحكومة المصرية وكيلا للنائب العمومي، فأظهر من الاقتدار في المسائل القانونية وطهارة الذمة وقوة الحجة ما بهر كبار المحامين ودهاة رجال الثورة في أثناء دفاعه وشروحه ومطالبته، ولم تمض برهة حتى تشكلت المحاكم الأهلية، فتعين قاضيا في محكمة الاستئناف، ثم صار وكيلا للنائب العمومي ورئيسا لنيابة محكمة الاستئناف.
وفي سنة 1887م استقال من هذا المنصب بعد أن خدم خدما ثمينة في تنظيم المحاكم وتحسين إدارتها، فتعين سنة 1888م مستشارا في محكمة الاستئناف الأهلية، وهو يعمل في منصبه ويطالع ويؤلف ويباحث ويحقق أصابته علة في عينيه حالت بينه وبين مطامعه، فشخص في ربيع عام 1890م إلى أوروبا لمعالجتهما، على أن يعرج في أثناء عودته بالآستانة ويقترن بكريمة البرنس عبد الحليم باشا، فأصابه وهو في أوروبا داء حار فيه شاركو وبوشار وغيرهما من نخبة أطباء تلك القارة، حتى قطعوا الأمل من شفائه، فأشاروا بعودته إلى مصر، فعاد فخفت وطأة المرض بدون علاج حتى نال الشفاء، لكنه ما لبث أن انتكس داؤه وعز شفاؤه حتى توفاه الله في 15 نوفمبر سنة 1890م وهو في الرابعة والثلاثين من عمره؛ فبكاه الناس لعلمه وذكائه، ولما كانوا يرجونه من أعماله وخدمه للعلم والإدارة.
على أنه ترك آثارا لا يزال أهل القطر ينتفعون بها إلى اليوم، فضلا عن انتفاعهم بما كان ينشره من نفثات أقلامه في المقتطف وغيره، وما كان يبثه بين ظهراني قومه من روح النشاط والسعي في طلب العلم. ومن مؤلفاته كتاب التفاضل والتكامل، بسط فيه قواعد هذا الفن بسطا يقربه من أفهام الطلبة، وله كتب في مبادئ الحساب والجبر والهندسة والقوسموغرافيا، اقترحت الحكومة المصرية عليه تأليفها لتدريسها في مدارسها، فكانت عمدة هذه الدروس في كل مدارس مصر. ونقل كتاب رياض المختار وكتاب إصلاح التقويم من التركية إلى العربية، وكلاهما لصاحب الدولة مختار باشا الغازي، واشتغل في تطبيق الموسيقى العربية على العلامات الإفرنجية، وألف في ذلك رسالة مسهبة لم تنشر، وله رسالة في الفرنساوية طبق فيها الجبر على بعض المسائل الفقهية، واشتغل في شرح القانون المدني وغير ذلك.
الفصل السابع والعشرون
الشيخ يوسف الأسير
هو الشيخ يوسف بن السيد عبد القادر الحسيني الأسير، ولد في مدينة صيدا من أعمال سوريا سنة 1230ه، وربي في حجر والده، وتلقى مبادئ العلوم فختم القرآن وهو في السابعة من عمره، وكان أبوه تاجرا، فلم يمل هو إلى التجارة، بل عكف على العلم، فدرس شيئا على الشيخ أحمد الشرمبالي، وكان ميالا منذ نعومة أظفاره إلى العلم، فلما بلغ السابعة عشرة شخص إلى دمشق ومكث في مدرستها المرادية نحو سنة، فأخذ شيئا من العلم عن علمائها، ثم بلغه خبر وفاة والده فعاد إلى صيدا ودبر أحوال إخوته، ومهد لهم سبيل المعيشة. ونظرا لتعلقه بالعلم لم تطب له الإقامة في صيدا؛ فشخص إلى الديار المصرية وأقام في الجامع الأزهر سبع سنين يتبحر في العلوم، وفيه إذ ذاك جماعة من فطاحل العلماء، كالشيخ حسن القويسني والشيخ محمد الدمنهوري والشيخ محمد الطندتاوي والشيخ محمد الشبيني وغيرهم، فنبغ في جميع العلوم العقلية والنقلية، كاللغة والفقه والحديث والتفسير، وصار إماما يرجع بها إليه، حتى أعجب به أساتيذه، فكتب إليه الشيخ محمد الطندتاوي (وكان إذ ذاك في بطرسبورج) قصيدة يمدحه فيها ويثني على علمه وفضله.
وكان في أثناء إقامته بمصر يجالس أكابر علمائها، وكثيرا ما كان يحضر الامتحانات العمومية التي كانت تجري بحضور عزيز مصر إذ ذاك في المدارس العمومية، فيقترح أكثر المسائل على التلاميذ بإشارة مشائخه.
الشيخ يوسف الأسير 1230ه-1307ه.
ثم اعتراه مرض الكبد فعاد إلى صيدا، ولكنه لم يرتح إلى الإقامة فيها؛ إذ لم يجد فيها مجالا لنشر فضله، فسافر إلى طرابلس الشام فلاقى من علمائها ووجهائها حسن الوفادة والرعاية، فقضى بينهم ثلاث سنوات لم يخل مقامه يوما من جماعة منهم، وأخذ عنه العلم كثير من أفاضلهم، وأخيرا اختار الإقامة في بيروت لجودة هوائها، فهرعت إليه الطلبة، وكثر مريدوه، وتولى في أثناء ذلك رئاسة كتابة محكمة بيروت الشرعية في أيام قاضيها مصطفى عاشر أفندي، ثم تولى الفتوى في مدينة عكا، ثم تعين مدعيا عموميا في جبل لبنان على عهد متصرفه داود باشا، ثم انتقل إلى الآستانة العلية وتولى رئاسة التصحيح في دائرة نظارة المعارف، وتعين في الوقت نفسه أستاذا للغة العربية في دار المعلمين الكبرى. ونال في أثناء إقامته بالآستانة مقاما رفيعا بين رجال الآستانة، وعرضوا عليه منصبا من المناصب الرفيعة براتب جزيل على وعد الترقي، فأبى رغبة في مواصلة خطته العلمية، ثم ثقلت عليه وطأة البرد في الآستانة وهم بالرجوع إلى بيروت، فأسف وزير المعارف إذ ذاك على خسارته، وماطله في قبول استعفائه على أمل استبقائه لما آنس من سعة علمه وعاين من رواج الكتب التي صححها، ولكنه أصر على النزوح إلى ربوع الشام، فعاد إليها وأقام في بيروت، وأخذ يبث العلم بين طلبتها، وأكب على التأليف والتصنيف، وكان اشتغاله غالبا في الفقه واللغة، فألف كتابا في الفقه سماه رائض الفرائض، وشرح كتاب أطواق الذهب تأليف الزمخشري، ونظم كثيرا من القصائد الرنانة، طبع منها جانب كبير في ديوان يعرف باسمه.
وكان على جانب عظيم من الرقة والدعة ولين الجانب وحسن المعاشرة، يحب العلم والعلماء، ويأخذ بناصرهم، وكان شافعي المذهب، سالكا مسلك الأقدمين في حب العلم والرغبة في نشره ابتغاء الفائدة العامة، وكان لحسن عقيدته راغبا عن الدنيا زاهدا فيها ثابتا في اتباع فروض الدين، لا يستنكف من حمل حاجيات بيته الضرورية بنفسه، وكان كثير الشغف بتلاوة القرآن الكريم أو سماعه كل يوم.
وكان ربع القامة، معتدل الجسم، أسمر اللون، أسود الشعر، كث اللحية، صادق الوعد، قوي الذاكرة، إذا سئل أجاب في أي موضوع كان مع تقريب الموضوع من ذهن السامع ببسيط العبارة.
توفي سنة 1307ه وله من العمر سبع وسبعون سنة، ودفن في مقبرة الباشورة ببيروت، وترك خمسة ذكور وبنتين، ولم يترك لهم شيئا سوى الذكر الحسن، وقد أسف أهل بيروت وسائر أهل الشام على فقده؛ لأن جماعة كبيرة منهم أخذوا العلم عنه، وما برح مرجعا للفائدة علما وعملا حتى توفاه الله.
الفصل الثامن والعشرون
الشيخ إبراهيم الأحدب
هو من علماء بيروت في القرن الماضي، ولد في طرابلس الشام سنة 1242 للهجرة، تلقى مبادئ العلم فيها وقرأ القرآن على الشيخ عرابي والشيخ عبد الغني الرفاعي، فتعلم التفسير والحديث والأصول والكلام واللغة والفرائض والنحو وسائر علوم اللغة، وفي سنة 1264ه عكف على التدريس، فنبغ من تلامذته جماعة من الأفاضل في طرابلس، وكان ذا قريحة شعرية مع سرعة الخاطر، حتى بلغ ما نظمه نحو ثمانين ألف بيت، وندر من بلغ هذا القدر من النظم.
وزار الآستانة على عهد السلطان عبد العزيز، ثم جاء القطر المصري واجتمع بأجل علمائه، فرحبوا به، وفي جملتهم الشيخ عبد الهادي نجا الإبياري، وفي «الوسائل الأدبية في الرسائل الأحدبية» خلاصة ما دار بينهم من المراسلة الأدبية.
واشتهر صاحب الترجمة ببراعته في الفقه الحنفي، وكانت محاكم جبل لبنان تعتمد على فتاويه وتحكم بمقتضاها، وكاتب العلماء والأدباء في أنحاء العالم العربي، وامتدح الأمراء والوزراء، وخصوصا المرحوم الأمير عبد القادر الجزائري الشهير في دمشق، ومدح المرحوم محمد صادق باشا باي تونس فأجازه، وفي سنة 1268ه استدعاه سعيد بك جنبلاط حاكم مقاطعة الشوف حينئذ واتخذه مستشارا في الأحكام الشرعية والأمور العقلية. وفي سنة 1276ه استقدم إلى بيروت وعين نائبا في المحكمة الشرعية، وعند إجراء تنسيقات النواب جعل رئيسا لكتاب المحكمة المذكورة، وظل في هذا المنصب ما ينيف على ثلاثين سنة، تولى في أثنائها تحرير ثمرات الفنون، وله فيها مقامات ورسائل أدبية وفصول حكمية، ولما تشكلت ولاية بيروت انتخب عضوا في مجلس المعارف مع اشتغاله بالتدريس والتأليف ونقل الكتب، حتى قيل إنه نقل ألف كتاب بخطه.
ومن آثاره: (1) «ديوان شعر» نظمه في صباه، ورتبه على ثمانية فصول. (2)
ديوان «النفح المسكي في الشعر البيروتي» نظمه سنة 1283ه في بيروت. (3)
ديوان آخر نظمه بعده. (4)
مقامات تبلغ ثمانين مقامة أملاها على لسان أبي عمر الدمشقي، وأسند رواياتها إلى أبي المحاسن حسان الطرابلسي على نحو مقامات الحريري. (5)
فرائد الأطواق في أجياد محاسن الأخلاق. تحتوي على مائة مقالة نثرا ونظما على مثال مقامات الزمخشري . (6)
فرائد اللآل في مجمع الأمثال. نظم فيه الأمثال التي جمعها الميداني في نحو ستة آلاف بيت، وقد شرح هذا الكتاب في مجلدين وجعله خدمة لجلالة السلطان، وعني ولداه بطبع هذا الكتاب بعد موته، فجاء كتابا ضخما، صفحاته تسعمائة صفحة كبيرة مطبوعة طبعا جميلا، تلونت به الأمثال باللون الأحمر لتظهر وحدها دون سائر النظم والشروح. (7)
تفصيل اللؤلؤ والمرجان في فصول الحكم والبيان. فيه 250 فصلا في الحكم والآداب. (8)
نشوة الصهباء في صناعة الإنشاء. (9)
منظومة اللآل في الحكم والأمثال. (10)
كتاب إبداع الإبداء لفتح أبواب البناء في التصريف. (11)
كشف الأرب في سر الأدب. وهما مطبوعان في بيروت. (12)
مهذب التهذيب في علم المنطق نظما. (13)
ذيل ثمرات الأوراق. طبع بهامش المستطرف وغيره. (14)
كشف المعاني والبيان عن رسائل بديع الزمان. ألف هذا الشرح في أواخر أيامه، وطبع بنفقة الآباء اليسوعيين.
وله كتب أخرى ورسائل ومنظومات كثيرة، وما زال عاملا في التأليف والتدريس حتى توفاه الله في بيروت سنة 1308ه.
وكان (رحمه الله) طويل القامة، معتدل الجسم، أبيض اللون، جميل الصورة، وكان حسن المجالسة، لين الجانب، بشوش الوجه، واسع الاطلاع في الفقه واللغة، وقد وعى كثيرا من أشعار المتقدمين وأقوالهم وآدابهم ونوادرهم.
الفصل التاسع والعشرون
أحمد جودت باشا
الوزير العالم التركي
هو الوزير أحمد جودت باشا بن الحاج إسماعيل أغا بن الحاج علي أفندي بن أحمد أغا بن إسماعيل أفندي مفتي مدينة لوفجة المشهور ابن أحمد أغا أحد ضباط الحملة العثمانية التي ظهرت على بطرس الكبير إمبراطور الروس في الحرب المعروفة بحرب بروث.
أحمد جودت باشا 1238-1312ه.
ولد في مدينة لوفجة التابعة لولاية الطونة سنة 1238ه، وكان والده من أعيان لوفجة وعضوا من أعضاء مجلسها، فربي أحمد في حجر والديه، وتهذب على يديهما، وتلقى مبادئ العلوم البسيطة في وطنه، وقد ظهرت عليه مخائل النجابة منذ نعومة أظفاره، فلما شب قدم الآستانة العلية سنة 1255ه في أواخر أيام المغفور له السلطان محمود الثاني المصلح الشهير، فأقام فيها يتلقى العلوم والآداب على أحسن علمائها، فأتقن الفقه وأصوله والحديث والتفسير وعلم الكلام والمنطق والفلسفة على أنواعها، والرياضيات بفروعها، والجغرافية والتاريخ واللسان الفارسي، وأتقن اللسان التركي والعربي حتى نظم الشعر فيها جميعا. وفي سنة 1260ه عكف على درس القضاء، فنال قصب السبق على أقرانه فأحرز في السنة التالية رتبة ينالها السابقون في هذا المضمار، يقال لها «رتبة رءوس تدريس»، وأخذ في التأليف فذاع صيته، فعينته الحكومة السنية عضوا في مجلس المعارف العمومية سنة 1266ه. وفي تلك السنة أنعم عليه بالنيشان المرصع من الرتبة الثانية، وفي السنة التالية عين عضوا في المجمع العلمي العثماني (الأكاديمية)، وفي سنة 1271ه تقلد كتابة وقائع البلاد، وفي السنة التالية عين قاضيا لغلطة أحد أقسام الآستانة الثلاثة.
وكان كلما تقلد منصبا قام بمهامه حق القيام، فانهالت عليه الرتب والمناصب والنياشين؛ فنال سنة 1273ه باية ولاية مكة المكرمة والنيشان المجيدي من الرتبة الثالثة، وتعين عضوا في مجلس التنظيمات، ورئيسا للقومسيون المنعقد إذ ذاك لترتيب القوانين والنظامات المتعلقة بالأراضي، وكان في جملة أعضاء هذا القومسيون وقتئذ محمد رشدي أفندي شوراني الذي صار بعدئذ واليا على سوريا، ثم ناظرا للمالية، ثم صدرا أعظم.
وفي سنة 1275ه سار الصدر الأعظم محمد باشا القبرسي إلى الروم إيلي للتفتيش، فسار صاحب الترجمة بمعيته، وفي سنة 1277ه وجهت إليه باية إستانبول والنيشان المجيدي من الرتبة الثانية، وفي السنة التالية عين عضوا في مجلس الأحكام العدلية على أثر إلغاء مجلس التنظيمات وإحالته إلى مجلس الأحكام العدلية.
واتفق إذ ذاك وقوع اختلال في جهات أشقودرة أفضى إلى تشويش الأذهان، فانتدب صاحب الترجمة أن يسير إليها بمهمة خصوصية لإصلاح أحوالها عسكريا وملكيا، فسار إليها وأصلح شئونها ورتب أحكامها بمدة يسيرة وعاد.
وفي أواخر سنة 1279ه عين مفتشا في البوسنة والهرسك، وقبل سفره وجهت إليه باية قاضي عسكر الأناضول، وأحسن إليه بالنيشان المجيدي من الرتبة الأولى، وكانت ولاية البوسنة والهرسك إلى ذلك الحين خلوا من التنظيمات العسكرية بنوع استثنائي، فأدخل إليها التنظيمات ورتب أحكامها، فنال رضى الباب العالي بنوع خاص، فأنعم عليه بالنيشان العثماني من الرتبة الثانية، ولم يحز هذا النيشان أحد من العلماء قبله، وأهدى إليه بندقية من الطراز الذي فرقه في الجند بالبوسنة والهرسك، وقد نقش عليها ما معناه: «تذكرة افتخار من السر عسكرية إلى حضرة جودت أفندي، من أجل الهمة التي بذلها في تدريب شجعان بوسنة على الخدمة العسكرية.»
وفي سنة 1281ه أرسل في الفرقة الإصلاحية التي سارت لإصلاح ما اختل من شئون جبال القوزاق، وكانت تلك الفرقة تحت قيادة درويش باشا مشير المعسكر الهمايوني الرابع، فأصلحا الأحوال وضبطا أمور تلك الجبال، فلما عادا سنة 1282ه أنعمت الحضرة الشاهانية على صاحب الترجمة بعلبة مرصعة إشارة إلى نيله رضاءها لما بذله من الهمة والإقدام في إصلاح شئون القوزاق، ثم عين عضوا في المجلس العالي، وبعد قليل وجهت إليه رتبة الوزارة السامية، ثم ضمت إيالات حلب وأطنة وألوية القوازق ومرعش وأورفة إلى ولاية واحدة قصبتها مدينة حلب، عهدت حكومتها إليه فقدمها واستلم زمام الأحكام بهمة ونشاط نحو سنتين، حتى إذا كان انقسام مجلس الأحكام العدلية العالي سنة 1284ه إلى قسمين وتشكلت منه هيئتان عرفتا بمجلس شورى الدولة وديوان الأحكام العدلية، ولي هو رئاسة ديوان الأحكام العدلية، ثم تحولت هذه الرئاسة إلى نظارة الديوان، ثم إلى نظارة العدلية، وتشكلت تحت رئاسته لجنة علمية لتأليف كتاب في الفتاوى على مذهب أبي حنيفة، فألفه، وهو المعروف بمجلة الأحكام العدلية، وعليه المعول في سائر المحاكم الشرعية النظامية.
وفي سنة 1288ه عين عضوا في مجلس شورى الدولة، وفي السنة التالية عهدت إليه ولاية مرعش، ولم يلبث بها إلا قليلا، ثم استقدم لتولي نظارة الأوقاف الهمايونية، وفي سنة 1290ه عين ناظرا للمعارف العمومية، وفي السنة التالية انحرفت صحة كامل باشا رئيس مجلس شورى الدولة فعين هو نائبا عنه، وأحيلت إليه أيضا ولاية يانيه، وفي سنة 1292ه أعيدت إليه نظارة المعارف العمومية، وفي أواخر هذه السنة عهدت إليه نظارة العدلية، ثم اقتضت الأحوال أن يتولى تفتيش الروم إيلي مع بقائه على العدلية. وفي تلك السنة سمي واليا على سوريا، وقبل أن يأتيها أعيد إلى نظارة المعارف العمومية، وبعد أشهر رجعت إليه نظارة العدلية.
وفي سنة 1294ه تقلد نظارة الداخلية، وعهد إليه أن يرتب جندا من سكان الآستانة باسم الموكب الهمايوني، وفي أواخر تلك السنة نقل من نظارة الداخلية إلى نظارة الأوقاف الهمايونية، وفي سنة 1295ه تعين واليا على سوريا، ولكنه لم يقم فيها طويلا بسبب اختلال ظهر في قوزان اقتضى مسيره إلى إصلاحه، وفيما هو عائد منها فصل عن سوريا، وتعين ناظرا للتجارة والزراعة في دار السعادة.
وفي سنة 1296ه استعفى خير الدين باشا من مسند الصدارة، فقام هو بمهامها مؤقتا، ثم عهدت إليه نظارة العدلية، وفي سنة 1300ه تغير الوكلاء جميعا، فاعتزل الأعمال وأكب على المطالعة والتأليف، وفي سنة 1303ه تعين مأمورا لقمسيرية الروم إيلي الشرقي، ولكنه تأخر عن السفر بسبب تكدير جو السياسة إذ ذاك، فعاد إلى نظارة العدلية. وفي السنة التالية أنعم عليه جلالة السلطان بنيشان الامتياز، وفي أواخر سنة 1305ه انفصل عن نظارة العدلية، وبقي من أعضاء مجلس الوكلاء إلى أن توفاه الله في 2 ذي الحجة سنة 1312ه، وصدرت الإرادة الشاهانية أن تنفق حاجيات التجهيز والدفن من الجيب الهمايوني، وقد دفن في تربة السلطان محمد الفاتح وله من العمر 74 سنة، قضاها في خدمة الدولة والأمة علما وعملا.
وكان عالما فاضلا، اشتهر في كثير من العلوم الإسلامية والتاريخ، وكان يعرف اللغات التركية والفارسية والعربية معرفة جيدة تكلما وكتابة، مع إلمام بالفرنساوية والبلغارية، وكان سهل الخلق كريم الخصال، وديعا متواضعا، واسع العلم عالي الهمة، مخلصا للدولة.
مؤلفاته
أما مؤلفاته فعديدة في التركية والعربية، بين مطبوع وغير مطبوع؛ أشهرها وأكبرها تاريخ آل عثمان المعروف بتاريخ جودت، طبع بالتركية في تسعة مجلدات، وهو جليل في بابه، بل هو المرجع الوحيد لتاريخ الدولة العلية، وقد عني في نقله من اللسان التركي إلى العربي عبد القادر أفندي الدنا، رئيس محكمة تجارة بيروت، فنشر منه الجزء الأول سنة 1307ه مطبوعا طبعا متقنا في بيروت.
ومن مؤلفاته رسائل عديدة في العربية، وبعض التعليقات طبعت مجموعة واحدة. وله تتمة شرح ديوان صائب المشهور في الدواوين الفارسية، وكان قد شرع في شرحه فهيم أفندي وتوفي قبل نجازه، وله ترجمة القسم الثالث من مقدمة ابن خلدون، وهي منشورة باسمه، والقسمان الأولان ترجمهما صائب أفندي، وله بيان العنوان والمعلومات النافعة وتقديم الأدوار، وكلها رسائل مطبوعة بالتركية. وله في علم المنطق كتاب اسمه «ميعاد سداد»، وفي علم الأدب «آداب سداد »، ومؤلفات في روايات الأنبياء وتواريخ الخلفاء، مع ترجمة التاريخ المقدس، وقد طبعت وشاعت في المدارس للتدريس. وله رسالة في كيفية تربية التوت والدود، وقانون نامة الأراضي، والنظام المتفرع عنه، مع قانون نامة الجزاء الهمايوني، وجميع النظامات وتواريخ القوانين الصادرة من مجلس التنظيمات، وله كتاب في ترتيب وظائف العدلية وابتداء تشكيلها مع تنظيم مجلة الأحكام العدلية تحت رئاسته كما قدمنا. وله تعليمات مخصوصة في نظارة المعارف لتدريس الطلبة على أساليب سهلة جديدة، وجميع ذلك باللغة العثمانية، على أن بعضها قد ترجم إلى اللغة العربية، كتاريخ آل عثمان ومجلة الأحكام العدلية وغيرهما.
الفصل الثلاثون
محمد مختار باشا المصري
ترجمة حاله
ولد في بولاق مصر سنة 1835م، وقرأ مبادئ العلم في مدرسة عباس الأول وفي مدارس أخرى، وتلقى الفنون العسكرية في مدرسة البوليتكنيك، وانتظم في خدمة الجيش المصري وهو في الثانية والعشرين من عمره، وما زال يرتقي في مناصب الجهادية حتى نال رتبة لواء سنة 1886م.
وتولى عدة مناصب مهمة في أنحاء السودان قبل ظهور المهدي، فلما فتحت الحكومة المصرية إقليم هرر كان صاحب الترجمة أركان حرب الحملة التي سارت لذلك الفتح، ثم تعين رئيس عموم أركان حرب السودان، ولما عقد مؤتمر جنوة العلمي انتدب لينوب فيه عن القطر المصري، ويدل ذلك على ثقة الحكومة الخديوية في أهليته.
وبعد خدمات متوالية في نظارة الحربية عينه الجناب الخديوي مأمورا للخاصة الخديوية، وما زال في هذا المنصب حتى توفي، وقد حاز النيشان العثماني الثاني والمجيدي الثاني والمملوكي الإيطالي الثاني وميدالية الامتياز الذهبية. وكان عاملا نشيطا ساهرا على مصلحته وواجباته. وأصيب في أواخر أعوامه بمرض ما زال يتردد عليه حتى قضى أنفاسه الأخيرة في 20 نوفمبر سنة 1897م.
محمد مختار باشا المصري 1835م-1897م.
مؤلفاته وآثاره
لصاحب الترجمة عدة مؤلفات، أكثرها رياضية فلكية، وهي: (1)
التوفيقات الإلهامية: وهو تقديم كبير لمقارنة السنين الهجرية بالسنين الإفرنجية والقبطية، من السنة الأولى للهجرة إلى عام 1500 بعدها مرتبة في جداول سنوية، وقد جعل الأشهر في كل سنة منها متناسقة على ما يقارن أول كل شهر عربي، وبإزاء كل شهر أهم الحوادث التاريخية التي وقعت فيه، وخصوصا الحوادث الإسلامية والمصرية، بحيث يصح أن يكون هذا الكتاب تقويما حسابيا يوميا، ومعجما تاريخيا لألف وخمسمائة سنة هجرية، وقد جعله تقدمة لسمو الخديوي عباس باشا الثاني. (2)
المجموعة الشافية في علم الجغرافية، ومعها أطلس جغرافي. (3)
جداول تحويل المسطحات المترية إلى ما يقابلها من الفدان والقيراط والسهم، يبدأ من جزء من مائة من السهم، وينتهي إلى ألف فدان. (4)
ترجمة حال المرحوم محمود باشا الفلكي. (5)
رسالة في سيرة الجنرال ستون الأميركاني وخدماته للحكومة المصرية. (6)
مختصر في تبيين كيفية حساب القديم وأوقات الصلاة. (7)
رسالة في الكلام على بلاد زيلع وهرر والجالا (بالفرنساوية). (8)
رسالة في بلاد الجاديبورسي (بالفرنساوية). (9)
رسالة في رأس هافون ووادي تهوم (بالفرنساوية). (10)
رسالة في الكلام على ابتداء الأشهر الهلالية في السنة الإسلامية (بالفرنساوية). (11)
رسالة في السودان الشرقي (بالفرنساوية). (12)
رسالة في تحديد أطوال المقاييس والمكاييل والأوزان المصرية، ومقارنتها بالمقاييس الفرنساوية والإنكليزية (طبعت بالعربية والفرنساوية). (13)
نبذة تتضمن إقامة البرهان على معرفة قدماء المصريين لحقيقة شكل الأرض. (14)
مقالة في تخطئة القائلين بإمكان استعمال ساعة عامة أو ساعات محددة لجميع أقطار الدنيا، وقد تليت هذه المقالة والتي قبلها على أعضاء المؤتمر العلمي في جنوة. (15)
الطريقة العلمية لاستعمال المسطرة المصرية في قياس القواعد الجيوروزية. (16)
جدول لرسم خطوط الأطوال والعروض لأية طريقة جغرافية.
وللمترجم اختراع فلكي يهم المسلمين كثيرا، وهو «دليل القبلة الإسلامية العام»، وضعه بضبط وسعة لم يسبق لهما مثيل، وهو آلة دقيقة عرضت على الجناب الخديوي وحازت قبوله.
وبالجملة إن صاحب الترجمة لم يكن يغفل يوما عن التفكير في تأليف أو اختراع، وأكثر ما وجه انتباهه إليه الرياضيات كما رأيت.
الفصل الحادي والثلاثون
الشهاب الآلوسي
العالم العراقي الشهير
1
هو السيد محمود أفندي شهاب الدين أبو الثناء، المفسر الشهير بآلوسي زادة البغدادي، مفتي الحنفية بالعراق، ابن صلاح الدين السيد عبد الله أفندي رئيس المدرسين في بغداد، ومدرس المدرسة العظمى في جامع الإمام الأعظم، ابن السيد محمود أفندي الخطيب، وينتهي نسبه إلى الإمام الحسين ، وأما أمه فصالحة بنت الشيخ حسين أفندي العشاري صاحب الديوان المعروف باسمه، ومؤلف حاشية شرح الحضرمية في فقه الشافعية.
ولد في جانب الكرخ من بغداد في شعبان سنة 1217ه، وهو من بيت عريق في النسب ضليع في الأدب، ينسب إلى آلوس، وهي جزيرة وسط نهر الفرات على 5 مراحل من بغداد، فر إليها أجداده من وجه هولاكو التتري عندما دهم بغداد وفتك بأهلها.
ومنذ نحو ثلاثمائة سنة رجع أبناؤه إلى بغداد ولبثوا فيها حتى الآن، وكان صاحب الترجمة في صغره آية في الذكاء، فقرأ العلوم على والده وغيره، واستجاز علماء كثيرين؛ كالشيخ علي البغدادي، والشيخ علاء الدين الموصلي، ومحدث الشام الشيخ عبد الرحمن الكزبري، ومفتي بيروت الشيخ عبد اللطيف، وشيخ الإسلام ومفتي الديار الرومية أحمد عارف بك واقف المكتبة العظمى في المدينة المشرفة.
وقرأ وهو شاب بعض الدروس في علم الكلام على الولي المشهور بمولانا خالد الكردي النقشبندي حينما ورد بغداد، ولم يبلغ الثالثة عشرة من عمره حتى نبغ في عدة علوم، ثم أخذ يشتغل بالتدريس والتأليف، فتخرج عليه كثير من الفضلاء، وقصده الطلبة من كل صقع وناد، واستجازه الجم الغفير من ذوي العلم والأدب، وما لبث أن أصبح العلم المفرد وعلامة العراق، فتولى المدرسة المرجانية وأوقافها، وقلد سنة 1248ه منصب إفتاء السادة الأحناف، وظل وهو في ذلك المنصب الخطير يشتغل في التأليف وتدريس العلوم وقضاء الحاجات، لا يضيع ساعة من وقته، ولا يضن بشيء مما أنعم به الله عليه من العلم والجاه والمال.
وسنة 1262ه قصد الآستانة العلية في عهد السلطان عبد المجيد، وعاد منها سنة 1267ه بالمنح السنية، وتفصيل رحلته ذهابا وإيابا مدون في سفرين، دعاهما: نشوة الشمول ونشوة المدام، وله تآليف وتصانيف كثيرة منها: (1)
روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني: وهو أعظمها شأنا وأجلها قدرا، في تسعة أسفار كبار، جمع فيه خلاصة ما في سائر التفاسير، وأزال المشكلات بيراع يدل على ما كان له من غزارة المادة وراسخ العلم وطول الباع في هذا الموضوع، وقد قال فيه أحد تلامذته:
إن كان محمود جار الله قد جمعت
له المعاني بتفسير وتبيان
فإن محمودنا الحبر الشهاب له
روح المعاني وكان الفخر للثاني
وقد طبع في مطبعة بولاق سنة 1301ه على عهدة ولده متولي المدرسة المرجانية الشيخ نعمان أفندي خير الدين. (2)
الأجوبة العراقية: وقد طبع في الآستانة. (3)
الطراز المذهب في شرح القصيدة الممدوح بها الباز الأشهب: طبع في مصر. (4)
شرح درة الغواص في أوهام الخواص: طبع في دمشق الشام. (5)
كتاب المقامات الخيالية: طبع في كربلاء. (6)
كتاب الأجوبة العراقية عن الأسئلة اللاهورية: طبع في بغداد. (7)
نشوة الشمول ونشوة المدام: طبع في بغداد أيضا. (8)
الفيض الوارد في الشيخ خالد: طبع في مصر. (9)
شرح القصيدة العينية في مدائح أمير المؤمنين علي (كرم الله وجهه): طبع أيضا في مصر. (10)
نزهة الألباب: وهي الرحلة الكبرى الجامعة لتراجم الرجال، والأبحاث العلمية التي جرت بينه وبين شيخ الإسلام. (11)
حاشية شرح القطر لابن هشام: ألفها في شبابه. (12)
حاشية على شرح ابن عصام في الاستعارة: ألفها في شبابه أيضا. (13)
حاشية على مير أبي الفتح في علم آداب البحث. (14)
شرح البرهان في إطاعة السلطان. (15)
سفرة الزاد لسفرة الجهاد. (16)
حاشية على حاشية عبد الحكيم السيالكوتي: في علم المنطق. (17)
رسالة في الأمانة: ردا على الشيعة.
وله علاوة على ما ذكر رسائل وفتاو وحواش وتعليقات كثيرة، انتهبت أيدي الزمان كثيرا منها، والباقي غير مطبوع.
وتوفي في 25 ذي القعدة سنة 1270ه، ودفن قرب والده المتوفى بالطاعون سنة 1248ه عن يمين الذاهب إلى الشيخ معروف الكرخي، قريبا من باب مسجده في الشونيزية، وقبره الآن مشهور يزار.
وكان (رحمه الله) ربع القامة، واسع العينين، ضخم الكراديس، ريان الجسم غير سمين، كث اللحية، أبيض اللون مشربا بحمرة، يخيل بوجهه أثر الجدري، كريما مهيبا، وقورا وديعا، محبا للفقراء. وكان مجلسه مجمعا لأرباب الفضل والعلم. ومن قرأ رسائل علماء زمانه ووقف على دواوين فحول الشعراء في العراق؛ كعبد الباقي الفاروقي، والسيد عبد الغفار الأخرس، ورأى أنه بيت قصيدهم، والإمام الذي يرجع إليه - علم ما كان له من علو المنزلة والشأن.
وقد كتبت الأسفار المطولة في ترجمته؛ منها كتاب «حديقة الورود في مدائح أبي الثناء شهاب الدين السيد محمود» تأليف تلميذه الملا عبد الفتاح أفندي المعروف بشواف زادة، وهو كتاب كبير في نحو مجلدين، وكتاب «أريج الند والعود في ترجمة مولانا العلامة شهاب الدين السيد محمود» لبعض تلاميذه أيضا، وترجمة للسيد محمد ثابت الدين البغدادي، وله - فضلا عن تآليفه الكثيرة - شعر لا نعلم أنه جمع في ديوان، وأكثره في الورع والحكم والتصوف، فمن ذلك قوله:
أنا مذنب أنا مجرم أنا خاطئ
هو غافر هو راحم هو عافي
قابلتهن ثلاثة بثلاثة
وستغلبن أوصافه أوصافي
وقد نظم شعراء عصره القصائد الرنانة في وصفه وتعداد مناقبه، وفي جملة المعجبين به والناظمين في مدحه الشيخ عبد الباقي العمري، والشيخ عبد الغفار الأخرس، وغيرهما من شعراء العراق.
وقد نال من المغفور له السلطان عبد المجيد علامات شرف، في جملتها الوسام المرصع العلي الشأن.
الفصل الثاني والثلاثون
محمود حمزة الحسيني
العالم الدمشقي الشهير
1
يتصل نسب السيد محمود حمزة الحسيني بعائلة من أقدم عائلات دمشق، حسينية الانتساب، أصلها من حران، وهاجرت إلى دمشق منذ قرون، وتوالت نقابة الأشراف فيهم عدة أجيال حتى عرفوا ببيت النقيب، وأول من تولاها منهم إسماعيل بن حسين النتيف سنة 330ه، ونبغ منهم جماعة من العلماء وأهل الفضل، ونالوا الرتب العالية لدى ولاة الأمر، وقد سموا بيت حمزة نسبة إلى حمزة الحراني أحد أجدادهم، وقد ذكر المحبي تراجم بعضهم، وأورد سلسلة أنسابهم إلى النبي.
أما صاحب الترجمة فهو محمود بن محمد نسيب، ولد في دمشق الشام سنة 1236ه، ونشأ في حجر والده كما ينشأ ربيب العز والمجد، وكانت المدارس في أيامه ضعيفة، فتعلم القرآن، وأتقن الخط في مكتب ابتدائي وهو في الثانية عشرة، واشتهر خطه بالجمال من ذلك الحين، ثم عكف على اكتساب العلم، وأكب على المطالعة والتبحر على علماء دمشق، فأخذ الفقه والنحو والصرف والأصول والكلام عن الشيخ سعيد الحلبي، وتلقى الحديث والمصطلح عن الشيخ عبد الرحمن الكزبري، والتفسير والتصرف عن الشيخ حامد العطار، والمعاني والبيان عن الشيخ عمر الأمامدي، والفرائض والحساب والعروض عن الشيخ حسن الشطي، والحكمة والوضع والآداب عن منلا بكر الكردي، وأجيز من الجميع.
وطالع اللغة التركية وبرع فيها، وصار من أكابر علمائها والمتبحرين فيها، يدرك أسرارها ويروي نكاتها ومنظوماتها وآدابها كأحسن فضلائها، ولما اشتهر فضله وجهت إليه النيابات الشرعية سنة 1260ه، ولبث إلى سنة 1268ه، وسافر إلى الآستانة والأناضول بعد أن انتظم في سلك الموالي سنة 1266ه، ورجع إلى دمشق ثم انتظم في سلك أعضاء مجلسها الكبير الذي ألغي سنة 1277ه بعد الحادثة المشهورة، وكان في أثناء هذه المدة قد ألف تفسيره المهمل والقاموس المهمل الذي ألفه للاستعانة به على التفسير المذكور، وقدم تفسيره للسلطان عبد المجيد، فأنعم عليه بالنيشان المجيدي الرابع، وكانت النياشين في ذلك الوقت عزيزة لا ينالها إلا أصحاب الأعمال العظيمة.
وكان يشتغل بالتأليف والتدريس والمطالعة والنظم، وفي سنة 1284ه تولى إفتاء دمشق، بل إفتاء الديار الشامية؛ لأن سورية كانت ولاية واحدة، وظل في وظيفته هذه إلى آخر حياته، ونال أسمى المراتب العلمية الرسمية وأوسمة الدولة العلية؛ مجيدية وعثمانية، لحد الرتبة الثانية، وأهداه نابوليون الثالث إمبراطور فرنسا على أثر حادثة دمشق (المشهورة بحادثة سنة 1860م) جفتا بطقم ذهب في صندوق من عاج؛ إقرارا بجميله لما أتاه من الخير بمساعدته مسيحيي دمشق في تلك الحادثة المشئومة، وحصل بصنيعه المذكور على رضا الدولة العلية واحترام عظماء أوروبا وثقتهم.
وكان مع تبحره بالعلم واشتغاله به وبمنصبه آية في صناعة اليد، يشتغل أدق الأشغال اليدوية وأتقنها بغاية الضبط والانتظام، وأما في الكتابة فقد كان آية الزمان بها، فكان يكتب جميع الخطوط بغاية الضبط والجمال، فضلا عن تفننه بهذه الصنعة، فقد كتب الفاتحة على حبة أرز، وبقي ثلث الحبة فارغا، وترى الكتابة بالعدسية واضحة جميلة الخط جدا، وأغرب من ذلك كتابته على ورقة بمساحة فص الخاتم أسماء شهداء وقعة بدر الكبرى، وهم 317.
ولكثرة مشاغله مال إلى الرياضة لتجديد قواه، فاختار الصيد ومال إليه وغرم به، وكان يصرف به أوقات الفراغ فصار صيادا مشهورا، وقد بلغ بالرماية مبلغا عظيما، واشتهر بها، فيرمي مائة رمية ولا يخطئ في واحدة، وقيل إنه ما وجه بندقيته إلى شيء وأخطأه إلا ما ندر جدا، وبالإجمال أنه أتقن كل ما تعاطاه.
وكان مقصودا في قضاء الحاجات، يحبه الناس على اختلاف المراتب والنحل، يحترمه رجال الدولة والولاة والأجانب، وكان صادقا في القول والفعل، محبا لوطنه ودولته، مستقيما متضعا يأبى الفخفخة، ومع كثرة علامات شرفه وتعداد أوسمته لم يظهر مرة بها إلا عند الضرورة.
وكان يعتبر الوقت ثمينا، لا يضيعه بلا عمل، وهذا ما مكنه من القيام بمشاغله الكثيرة وأعماله الخطيرة؛ ولذلك كان يميل إلى الوحدة، لا يتداخل فيما لا يعنيه.
وكان ذا مهابة وجلال، إذا مر بطريق وقف له الناس وتسابقوا بتأثير حبهم له لتقبيل يديه، مع إبائه ذلك عليهم لمخالفته طبعه، فلدفع هذا كان يختار السلوك في الطريق التي لا يكثر فيها المارة.
وقد نظم القصائد الفريدة، وصنف التصانيف المفيدة، وهاك أسماء ما صنفه: (1)
تفسير القرآن بالحرف المهمل في مجلدين كبيرين، سماه دور الأسرار. (2)
الكمل إلى الكلام المهمل، ألفه للاستعانة به على التفسير المذكور. (3)
كتاب الفتاوى، نظما في مجلد. (4)
الفتاوى المحمودية (أو الحمزاوية)، مجلدان ضخمان. (5)
نظم الجامع الصغير للإمام محمد، نحو ثلاثة آلاف بيت من البسيط على قافية واحدة في مجلد، أوله:
حمدا جزيلا لذي الإحسان والكرم
ثم الصلاة على الهادي إلى الأمم (6)
نظم أصول الفقه، نحو ذلك من البحر والقافية المذكورة. (7)
القواعد الفقهية. (8)
قواعد الأوقاف. (9)
تحرير المقالة في الحيلولة والكفالة، على مثال لم يسبق إليه. (10)
جدول الأحق بالحضانة للولد. (11)
خلل المحاضر والسجلات. (12)
كشف الستور عن المهاياه في الماجور. (13)
كشف القناع، وهو شرح بديعية والده. (14)
غنية الطالب، وهو شرح رسالة الصديق لعلي بن أبي طالب. (15)
تنبيه الخواص على أن الإمضاء في الحدود لا في القصاص. (16)
رسالة في الدرهم والمثقال. (17)
مصباح الدراية في إصلاح الهداية. (18)
التفاوض في التناقض. (19)
رفع الغشاوة عن جواز أخذ الأجرة على التلاوة. (20)
السوار اللامع في أصول الجامع. (21)
التحرير في ضمان الآمر والمأمور والأجير. (22)
فتوى الخواص في حل ما صيد بالرصاص. (23)
فصيح النقول في جواز دعوى المرأة بالمهر بعد الدخول. (24)
كشف المجانة عن الغسل في الإجانة. (25)
الكواكب الزاهرة في الأحاديث المتواترة. (26)
شرح صلاة ابن مشيش. (27)
العقيدة الإسلامية. (28)
كتاب ترجيح البينات المسماة بالطريقة الواضحة. (29)
عنوان الأسانيد. (30)
الأجوبة الممضاة على أسئلة القضاة. (31)
مختصر الجرح والتعديل. (32)
صحيح الأخبار عن التنقيح ورد المحتار. (33)
أعلام الناس. (34)
القطوف الدانية في خبث أجر الزانية. (35)
البرهان على بقاء دولة آل عثمان إلى آخر الزمان.
وله غير ذلك عدة رسائل؛ منها أرجوزة في علم الفراسة، واعتراه في أواخر عمره ضعف برجليه، فلزم بيته ولم يخرج منه إلا قليلا، مع ملازمة وظيفته والعمل بموجبها، وفي اليوم التاسع من محرم سنة 1305ه وافته المنية عن 69 سنة، فكبر خطبه، وعظم مصابه، وتقفلت دوائر الحكومة، وتوقفت أشغال المدينة في ذلك اليوم، وأذن له بالمآذن، وعم الحزن والأسف عموم الناس.
وكان ربع القامة، ممتلئ البدن، قوي العضل، أسود الشعر، طفح الوجه، عالي المحيا، عريض الحاجبين أفرقهما، أسود العينين حاد النظر، دقيق الأنف، متوسط اللحية وقد وخط الشيب نحو ربعها، حنطي اللون، أشعر الجسم، وكان بالإجمال حسن المنظر عظيم الهيبة.
الفصل الثالث والثلاثون
أمين شميل
ترجمته
هو ابن المرحوم إبراهيم شميل، من محتد كريم، ولد في كفر شيما من أعمال لبنان في 24 فبراير سنة 1828م، وقد اشتهرت هذه القرية بجماعة من النابغين في العلم والإدارة؛ كآل اليازجي، وآل شميل، وآل تقلا، وقد وردت تراجم بعضهم في هذا الكتاب.
دخل صاحب الترجمة في السنة الحادية عشرة من عمره مدرسة المرسلين الأميركانيين، فتلقى فيها مبادئ النحو والحساب واللغة الإنكليزية، ثم تتبع درس اللغة العربية والفقه على أساتذة أفاضل، نذكر منهم السيد محيي الدين أفندي اليافي.
ولم يكد يبلغ الحادية والعشرين من عمره حتى صار رجلا يركن إليه في حل المشاكل، فتولى الفصل في خلاف عظيم وقع سنة 1849م بين البطريرك مكسيموس مظلوم والمطران أغابيوس، فقضى من أجل ذلك سنتين في رومية وزمنا في الآستانة، حتى صرف المشكل على ما أراد .
أمين شميل 1828-1897م.
وفي يوليو سنة 1854م قصد إنكلترا، فتعرف في لوندرا إلى أحد تجار المسلمين المشهورين، السيد عبد الله أدلبي قنصل الدولة العثمانية في منشستر، فاتخذه السيد مديرا لأشغاله التجارية، وفي سنة 1856م أرسله إلى بيروت بمهمة تجارية فأنجزها وعاد إلى منشستر، واستأذن السيد عبد الله أدلبي بفتح محل تجاري على حسابه الخاص في مدينة ليفربول، فأذن له بذلك، وشرع من ثم يشتغل بالتجارة، وفي سنة 1862م ترك أخاه بشارة في ليفربول يدير حركة محله، وجاء سورية ثم الإسكندرية وفتح فيها محلا تجاريا مكث فيه نحو عشرة أشهر، ثم أدخل أخاه المرحوم ملحم في المحل، وأطلق عليه اسم شميل إخوان وشركاهم.
وفي سنة 1863م عاد إلى ليفربول، واتسع نطاق تجارته فيها اتساعا عظيما، حتى كان يستأجر بواخر على حسابه الخاص لنقل بضائعه من سورية ومصر إلى إنكلترا، ومن إنكلترا إلى هذين القطرين، وفي تلك الأثناء ارتفعت أسعار الأقطان، وكلفه بعض عملائه بالإسكندرية ببيع ثلاثين ألف قنطار على التسليم بأسعار تعدل الليبرة فيها 25 بنسا، ثم ارتفعت الأسعار إلى 30 بنسا، وقصر تجار الإسكندرية في تسديد ما عليهم، فخسر رجل الترجمة بسبب ذلك ما بين فرق كونتراتات وخسائر أخرى ثمانين ألف جنيه.
وفي سنة 1859م جدد محله التجاري بشركة أسهم رأسمالها أربعون ألف جنيه. وفي سنة 1875م صفى أشغال محله في ليفربول، وترك تلك المدينة وقصد القطر المصري، واشتغل في التجارة بالإسكندرية ومديرية الغربية، فخسر مع الفلاحين اثني عشر ألف جنيه.
على أن فشله في التجارة بما توالى عليه من الخسارة لم يفل عزمه، ولا أقعده عن العمل وهو يكاد يناهز الستين من عمره، فعمد إلى استخدام مواهبه العقلية الأخرى، فعدل عن التجارة إلى التعيش من العلم، فاختار مهنة المحاماة مع ما تحتاج إليه هذه المهنة من التعقل والصبر على المراجعة والمقابلة والتبحر والاستنتاج، وأصدر سنة 1886م جريدة حقوقية سماها الحقوق، وهي أول جريدة صدرت في هذا الموضوع في اللغة العربية، ولا تزال الحقوق حية يصدرها إبراهيم أفندي الجمال المحامي، وقد تولى معاونة صاحب الترجمة بضع عشرة سنة، وعليه اعتمدنا في كثير من حقائق هذه الترجمة.
ولم يمض زمن على اشتغال المترجم في المحاماة حتى نال ثقة رجال القضاء خصوصا والناس عموما، بما فطر عليه من الصدق والاجتهاد ولين العريكة وسلامة الطوية. على أن المصيبة التي أصابته بفقد ولديه في سنة 1886م؛ وهما آرثر في عمر 17 سنة، وفردريك في عمر 21 سنة، وبين الواحد والآخر 12 يوما فقط، أسست في قلبه الأحزان المستمرة، ثم جاءت وفاة ابنته البكر أمينة سنة 1896م فقوضت بنيته المتينة حتى انحلت قواه وأتاه القدر المحتوم فلباه.
مؤلفاته
ترى مما تقدم أن المترجم قضى معظم حياته العلمية في التجارة، ولكنه كان وهو تاجر يشتغل في العلم التماسا للذة البحث والكتابة، فكان يؤلف الكتب وينظم القصائد وينشئ المقالات، فيقضي ساعات الفراغ بما يلذ ويفيد، على أن اشتغال رجال التجارة بالعلم في ساعات الفراغ كثيرا ما يكون عونا لهم على الارتزاق عند الضرورة، كما اتفق لصاحب الترجمة، فلما انقطع للقضاء انصب بكليته إليه، فكتب فيه وفي غيره مؤلفات عديدة؛ منها: (1)
الوافي للمسألة الشرقية: في كتابين ينقسمان إلى ستة أجزاء كبار، تشتمل على تاريخ الإسلام إلى حرب الروس، طبع منه جزء في نحو 550 صفحة كبيرة. (2)
مقدمات تاريخية علمية: نشرت تباعا في الحقوق من سنة 1886م. (3)
بستان النزهات في فن المخلوقات: وهو ثلاثة أقسام، لم يطبع. (4)
سهام المنايا: وهي رسالة رد فيها على بعض المعترضين على الوافي، حذا فيها حذو ابن زيدون في رسالته المشهورة. (5)
المبتكر: هو كتاب مبتكر في بابه، يشتمل على خمسة مقامات تدعى مقامات الأوهام في الآمال والأحكام، وخمس وعشرين قصيدة مؤلفة من ألف وستة وخمسين بيتا، شرح فيها درجات حياة الإنسان السبع من حين تصوره في الرحم إلى موته وتواريه في التراب (طبع غير مرة). (6)
الزفاف السياسي: وهي رواية تشخيصية رمزية تمثل حالة الدول في إبان حرب الروس سنة 1877م (لم تطبع). (7)
مشروع البنك الوطني: رسالة عرض فيها على الحكومة المصرية إنشاء بنك وطني أهلي تشتمل على تفاصيل وافية في بابها. (8)
نظام الحكومة الإنكليزية . (9)
السدرة الجلية في المباحث القضائية. (10)
جريدة الحقوق المتقدم ذكرها، وهي الآن في سنتها الثامنة عشرة.
وكان شاعرا مجيدا، نظم كثيرا من القصائد الحكمية والفلسفية.
صفاته الشخصية وأخلاقه
كان ربع القامة، ضخم العضل، أبيض اللون، أصلع الجبهة، حليق الذقن، مهيب المنظر، مقداما على الأعمال، جلودا على التعب، صبورا على المصائب، كثير العناية في أشغاله، شديد المحبة لبنيه وأفراد عائلته، لين العريكة، كريم النفس، بادي المروءة، حاد الطبع في أواخر عمره، سريع الرضا، قوي الذاكرة، شديد الذكاء، عزيز النفس، صادقا، حر الضمير واللسان، وبالجملة فقد كان مثال الرجولية وعنوان رجال الأعمال.
وقد رثاه شقيقه الدكتور شبلي بمرثاة فلسفية، نذكر منها الأبيات الآتية:
ذعر الناس أنهم مايتونا
جهل الناس أنهم ذاهلونا
حيرة المرء في الوجود حياة
كل يوم تريك منها شئونا
قال قوم أعياننا باقيات
قال قوم بل إننا فانونا
إن آثارنا لأثبت منا
تلك آثارنا تدوم قرونا
قسم الناس بين خلق يجازي
ثم قوم يعد ذاك مجونا
هل دريتم بما جنيتم فمظلو
مون أنتم وأنتم الظالمونا
الفصل الرابع والثلاثون
الشيخ محمد العباسي المهدي1
هو ابن الشيخ محمد أمين المهدي، مفتي الديار المصرية الأسبق، المتوفى سنة 1247ه، نجل المغفور له شيخ الإسلام الشيخ محمد المهدي.
ولد صاحب الترجمة سنة 1244ه، وتوفي والده وهو ابن ثلاث، وأخوه الشيخ محمد عبد اللطيف المهدي ابن خمس، وكان لأبيهما شركة مع والي مصر الأسبق المرحوم إبراهيم باشا في مصنوعات القصر من أقمشة وغيرها من تجارة الأقطار السودانية، وبعد والد المترجم حصرت المعية تركته باعتبار أنه مدين. وقد استمر المترجم وأخوه في اضطهاد وضيق عيش بسبب ذلك حتى تأهلا لطلب العلم بالأزهر الشريف، واجتهدا في تحصيله على المرحوم الشيخ السقا والشيخ البلتاني والشيخ خليل الرشيدي، ثم لما ظهر الحق للمغفور له إبراهيم باشا في أمر إدانة والد المترجم أفرج عن التركة، واستدعى المترجم وأسدل عليه خلعة الإفتاء في محفل من الأكابر والعلماء، ونزل بموكب حافل في ذي القعدة سنة 1264ه، وكان حين ذاك يحضر مقدمة السعد على الشيخ السقا.
ومما استلفت أنظار الجناب العالي إلى إعادة تلك المناصب العالية إلى ذلك البيت أن شيخ الإسلام في الآستانة أوصى المرحوم إبراهيم باشا بنجلي المرحوم محمد أمين المهدي مفتي مصر الأسبق؛ لما كان يعهده في أبيهما من الأمانة وحسن المعاملة والحماية عن الدين.
وحيث كان عمر المترجم إذ ذاك إحدى وعشرين سنة قد عين أستاذه الشيخ خليل الرشيدي أمينا للفتوى، ولحداثة سنه أيضا لاقى من أهل صناعته ما دعاه إلى التحري والتحرز، حتى أصبح أجدر أئمة عصره بهذه المكانة الرفيعة علما وسياسة.
ومن جليل مقترحاته أنه اخترع تطبيق الوقائع على النصوص الشرعية، كما يشهد بذلك كتابه «الفتاوى المهدية».
ثم ظهرت فيه الكفاءة التامة لأعظم وظائف الإسلام؛ لما كان له من الإدارة ولين العريكة والاقتدار العلمي والحزم والدهاء، فأسدلت عليه شياخة الإسلام مع الإفتاء في عهد المغفور له إسماعيل باشا في منتصف شهر شوال سنة 1287م، فدبر نظامها وأعاد لها ما انحل من مرتباتها إلى أن ظهرت الفتنة العرابية، فعزل عن شياخة الإسلام لتوقفه عن التوقيع على طلب عزل الخديوي السابق توفيق باشا، بعد أن بذل من الحزم والدهاء والسياسة والشهامة ما حير به الألباب، ولم يتمكن أحد من أن يمسه بسوء مع أهل تلك الفتنة من الاستبداد والانتقام من وضيع ورفيع، ومن حسن تدبير المترجم ظل ناعم البال محبوبا لدى الأكابر والأمراء.
ثم بعد ما خمدت نار الثورة، وراقت سماء السياسة، وانجلت تلك الأباطيل، وكانت الدائرة على أهل التضليل، أعيدت إليه شياخة الإسلام بالاستحقاق، واستمر هكذا مقلدا بكلتا الوظيفتين حتى عزل عنهما لمعارضته الحكومة فيما خالف الشريعة الغراء في عهد المرحوم الخديوي السابق توفيق باشا يومئذ، وأعيدت شياخة الإسلام للشيخ الإمبابي، وقلد الإفتاء الشيخ البنا.
وكان الشيخ البنا المذكور شديد الثقة باقتدار المترجم في العلم، وغيرته على الدين، حتى كان إذا سألته الحكومة أن يقضي في أمر مهم أعلنها بأنه لا يقول في الأمر شيئا إلا بعد أن يعرضه على المترجم، فكانت الحكومة تلح عليه في الطلب، وتقول له: أنت المفتي الرسمي لا هو، فكان يجيب: وإن كنت ذلك إلا أنه هو صاحب القول في الدين، واستمر ذلك إلى أن عاد الإفتاء إلى المترجم بعد قليل، واستمر معه إلى أن اعتراه مرض المنية، وقد عين في أثناء تمرضه الشيخ حسونة النواوي وكيلا عنه، ثم أصيلا بعد حياته، واستمر نحو سنتين، وعزل عنه وتقلده المرحوم الشيخ محمد عبده.
وقد كان المترجم صاحب الحق دون غيره في تعيين القضاة الشرعيين والمفتين (بخلاف الآن؛ فإن الحقانية هي صاحبة الحق وحدها)، وكان يعين الأكفاء الغيورين، ولذا كان يذب عن حقوقهم في كل ما يرى فيه مساسا لكرامتهم؛ فقد أتاه الشيخ حسن العدوي مستغيثا به حينما استصدر شيخ الإسلام الشيخ مصطفى العروسي أمر المغفور له إسماعيل باشا بإبعاده، فتوسط له في العفو.
وقد كان المترجم (رحمه الله) شديدا في الدين، لا يقول غير الصدق، ولا يحيد عن الحق، لا تثنيه المرهفات، ولا تورطه المرجفات؛ كم رأى في سبيله من العقبات فأزالها بسيف هذا الدين، وكم اؤتمن على أرقى المناصب فأداها بالأمانة، وكم هدده الأمراء بالقتل والنفي فلم يجدهم منه شيء، ولم ير غير تعزيز الإسلام ملاذا لتطهير ذمته وشفيعا له عند ربه يوم لا ينفع مال ولا بنون.
طلب منه المرحوم عباس باشا الأول فتيا بأن ما بأيدي عائلة محمد علي باشا الأكبر من أطيان وأملاك هو حق لبيت مال مصر؛ إذ هو حاصل لهم من مال المصريين، لما ظنه الوالي من أحقية بيت المال به، فلم يفته، بل قال: «لا يسأل المالك من أين ملك»، وقد جوز ذلك وأفتاه به بعضهم، ولما كان من الرسميات إفتاؤه تولى الطلب، وهو لا يتحول عما أجاب به، إلى أن أمر بنفيه في شهر رمضان إلى أبي قير، حيث كان بها الوالي يومئذ، وكرر عليه الطلب فأجابه أخيرا: «إن الأمير يأبى أن أترك الشرع حتى يقال عني غير أحكام الله وأهان الشريعة السمحاء، ومع ذلك أنا قابل النفي والقتل في سبيل تعزيز ديني»، فلما رأى الوالي أن ذلك غير مجد، وأن المترجم مخلص لدينه ولا غرض له غير إعلاء كلمته، أعاده إلى مصر وأنعم عليه؛ إقرارا بأحقية ما فعل، وجزاء له على ما أصاب، وبهذا كان بينه وبين الأمراء المودة المكينة بعد عرفانهم بقيمته؛ فقد كان بينه وبين سعيد باشا مودة يضرب بها المثل، وخلع عليه الخلع الجزيلة، ومنحه المنح الجليلة.
وقد كان المترجم عضوا في المجلس العلمي مع شيخه الشيخ السقا والشيخ العروسي والشيخ البقلي، وكان إسماعيل نائبا عن الوالي سعيد باشا، وقد صادفهم أمور معضلة قد توقف هو وحماة الدين الأعضاء المذكورين عن التصديق عليها؛ لجنوحهم عن الأغراض والسير على غير نمط الشريعة الإسلامية.
وقد كانت عضوية هؤلاء الأفاضل سببا عظيما في معرفة الخديوي الأسبق إسماعيل باشا قدر رجال الدين وقدر المترجم، حتى ثبت مودة المترجم في فؤاده.
ومما رفع مكانته لدى الأمير المذكور أنه أراد إلحاق الأوقاف الأهلية بالأوقاف العمومية حينما كان ناظرها، وأراد أن يستعيض أربابها ما يكلف معاشهم، وسأله الفتيا بالجواز حتى عظم الأمر لدى الأمير المذكور، وتجمهر المخالفون له، إلى أن توالت إليه الرسائل وازداد التهديد، فأعلن المترجم أنه ليسهل عليه تجرده مما يملك وما ورث عن آبائه من أن يعلن أنه حكم بما لم ينزل الله، وأنه حابى بدينه، أو راعه التهديد فراعى جانب المخلوق أو أخذته في الدين لومة.
فبعد ذلك دعاه الوالي وعقد مجلسا تحت رئاسته ليقف على حقيقة الخلاف، فحضر المترجم ودار حديث الشيخ مع مخالفيه الواحد بعد الواحد، حتى أجمع الجميع وأقروا بخطئهم، فازدادت مكانته رفعة، وشكره الوالي لمحافظته على حقوق الشرع الشريف، وألغى إفتاء غيره، وصار المترجم مورد استشارة الحكومة في المهمات، حتى أوصى المرحوم إسماعيل باشا نجله المرحوم توفيق باشا بالمحافظة على المترجم، واستشارته في المعضلات؛ لأنه رجل الدولة والدين.
ثم إن إسماعيل باشا شرع في بيع شركة إلهامي باشا لرغبته في أطيانها لدين غير مستغرق، فتوقف معه المترجم، وأورد إليه سبيلا حلا حتى ينال قصده بما هو أطهر وأطيب عند الله، فأشار باقتران ولي العهد بكريمة المدين، وقد رأى الوالي هذه الطريقة أنسب وأحفظ فاتبعه. وهكذا صار المترجم طول عمره في دفاع عن الدين؛ خصوصا في وظيفة الإفتاء التي استمرت معه اثنتين وخمسين سنة. وأما الشياخة فاستمرت ثماني عشرة سنة، ثم أصيب بنقطة وهو يتوضأ لأداء فريضة الجمعة، وأحيلت وظيفة الإفتاء إلى شيخ الجامع بصفته وكيلا عنه كما ذكر، وقد كان ملازما لأداء الفريضة جماعة طول عمره حتى في أيام مرضه الذي لازمه أربع سنين، حتى مات في ليلة الأربعاء 15 رجب سنة 1315ه لاثنين وسبعين من العمر.
وأشهر مؤلفاته كتاب «الفتاوى المهدية في الوقائع المصرية»، وهو كتاب مطول في الإفتاء، طبع بمصر في سبعة أجزاء، وهو مشهور ومتداول.
الفصل الخامس والثلاثون
أمين باشا فكري
ولد أمين باشا في القاهرة سنة 1272ه/1856م، وربي في حجر والده المرحوم عبد الله باشا فكري - وستأتي ترجمته بين الشعراء - وكان يومئذ في جملة مستخدمي الدائرة السنية على عهد المغفور له سعيد باشا، فلما بلغ أشده أدخله والده المدارس الأميرية على عهد المرحوم إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، ففاق أقرانه ذكاء واجتهادا، فكان امتيازه هذا داعيا إلى إرساله في جملة الشبان الذين أرسلهم إسماعيل باشا إلى آكس بفرنسا لتلقي علم الحقوق، فعاد من المدرسة حاملا الشهادة الناطقة بتبرزه في هذا الفن، فتعين في المحكمة المختلطة، ثم ولاه الخديوي السابق رئاسة النيابة في مصر سنة 1888م.
وقد عرفناه في هذا المنصب نزيها نشيطا، قدوة العاملين، ومثال اللطف والدعة، وهو مع ذلك لا يفتر عن المطالعة والبحث، فألف في أثناء ذلك كتابا مطولا في جغرافية مصر والسودان، وهو أطول جغرافية في بابها، ثم تعين سنة 1889م قاضيا في محكمة الاستئناف الأهلية، فلم تزدد الحكومة إلا ثقة به واعتمادا عليه، وفي السنة التالية انتدبت المرحوم والده لرئاسة الوفد العلمي المصري في المؤتمر الذي انعقد في عاصمة أسوج إذ ذاك، فصحبه نجله صاحب الترجمة في جملة أعضاء الوفد، فشاهد أوروبا ودرس أحوالها، فلما عاد كتب رحلة والده هذه وسماها «إرشاد الألباء إلى محاسن أوروبا»، طبعت بمصر سنة 1892م في كتاب ضخم.
أمين باشا فكري 1856-1899م.
ثم رأت الحكومة المصرية أن تنتدب لخدمة مصالحها الإدارية رجالا من أهل القضاء، فكان صاحب الترجمة في جملة من تولى مصالح الإدارة، فتولى محافظة الإسكندرية مدة اكتسب بها قلوب أهل الإسكندرية كافة، ثم انتدب لنظارة الدائرة السنية سنة 1895م، وما زال عاملا فيها حتى داهمه المرض، فقضى مأسوفا عليه في 17 يناير الماضي عن 44 عاما، على أثر مرض كان يتردد إليه حينا بعد آخر، وعاوده هذا العام فتحسنت حالته وعاد إلى مطالعة أوراق أشغاله في منزله، والكل فرحون بصحته، فبات ليلة 17 يناير والأمل ملء صدورهم، فأصبحوا فإذا هو فاضت روحه وهم لا يشعرون، وكانت وفاته بعارض لا علاقة له بالعلة الأصلية.
ومن مآثره - فضلا عن الجغرافية المتقدم ذكرها وكتاب إرشاد الألباء - أنه عني بنشر مآثر المرحوم والده، فجمع منظوماته ورسائله في كتاب سماه «الآثار الفكرية»، وطبعه ونشره، وله كثير من الرسائل والمنظومات، ولو مد في أجله وأوتي صحة لجاء بما يخلد ذكره؛ لأنه كان أهلا للعمل بما طبع عليه من الذكاء والنشاط، ولكن المنون عاجلته.
الفصل السادس والثلاثون
الدكتور دري باشا
ترجمة حياته
ولد في القاهرة سنة 1257ه، وقد قام والده المرحوم السيد عبد الرحمن أحمد من محلة أبي علي القنطرة (بالغربية) إلى مصر بعد أن دخل العسكرية في زمن المغفور له محمد علي باشا الكبير، وأقام بها سنوات التحق فيها بالدكتور الطائر الصيت كلوت بك؛ لامتيازه إذ ذاك بمعرفة الكتابة والقراءة، ثم عوفي من تلك الخدمة واختار الإقامة في مصر، واشتغل فيها بالتجارة في الحبوب وغيرها، ورزق بأولاد منهم صاحب الترجمة، رباهم كلهم تربية حسنة بتثقيفهم في المدارس، واختاروا الطب علما وعملا، فكان لهم فيه ولأولادهم من بعدهم العمل النافع للبلاد والعباد.
الدكتور دري باشا 1257ه-1318ه.
ولما بلغ صاحب الترجمة السابعة من عمره (1264ه) أدخل مدرسة المبتديان، المعروفة الآن بمدرسة الناصرية، ولم يقم فيها سوى بضعة أشهر، ثم ألغاها المرحوم عباس باشا الأول في تلك السنة التي عرفت بسنة (البرار والبراماز)؛ أي سنة ما ينفع وما لا ينفع، فانتقل مع من انتخبوا من التلامذة إلى المدرسة التجهيزية، وكانت في الأزبكية، ومكانها الآن فندق شبرد، وبعد بضعة أشهر انتقل تلامذة هذه المدرسة إلى مدرسة أبي زعبل، فأقام فيها صاحب الترجمة إلى أن أكمل دروسها أو كاد.
ثم انتخب تلميذا في مدرسة المهندسخانة، وكانت في بولاق مصر، وناظرها المرحوم علي باشا مبارك. على أنه كان يميل بطبعه إلى الطب، فكان يترقب الفرص لنيل مقصده، ولكنه لم يوفق إلى ذلك إلا سنة 1269ه بعد صبر وعناء، فألحق بتلامذة الفرقة الخامسة منها (سنة أولى). وفي الامتحان العمومي السنوي نقل إلى الفرقة الرابعة، وفي مثله من السنة التالية نقل إلى الفرقة الثالثة وهو يجد في الطلب، لا يعلم ما خبأه القدر له ولسائر التلامذة، فلم تشعر المدرسة إلا وقد جاءها المرحوم علي بك علوي يدعو تلامذتها جميعا إلى الديوان الخديوي بالقلعة بأمر المغفور له سعيد باشا، فخرجوا إليها واصطفوا أمام الديوان ينتظرون ما لا يعلمون، حتى خرج إليهم المرحوم سعيد باشا بنفسه في أبهة ملكه ومعه المرحوم الدكتور محمد بك شافعي الحكيم ناظر المدرسة الطبية وغيره، وفرز التلامذة بنفسه فجعلهم ثلاثة أقسام بحسب أعمارهم؛ فحديثو السن جدا أمر بطردهم من المدرسة، والمتوسطون أن يلحقوا بالشوشخانة السعيدية (أورطة عسكرية)، والمتقدمون ألحقهم بالمدرسة العسكرية الحربية في بلدة طره، وكان صاحب الترجمة من المتوسطين في السن فألحق بالعسكرية، فصرفت لهم الملابس العسكرية والجربنديات، وأقفلت مدرسة الطب، وخلت المدارس المصرية من علوم الطب والأطباء.
ولكن صاحب الترجمة لم يجئ في خاطره مع ذلك أن يترك ما تعلمه من العلوم، بل بقي يتذكره ويتعهده بالتفكير فيه؛ طمعا في أن يعود الحاكم إلى صوابه فيعيد المدرسة الطبية، فيعود هو إليها ويكمل علومها، وغلب اليأس على رفاقه وهو يعزيهم وينشطهم، حتى صدرت الأوامر بالعفو عنهم وجعلهم تمرجية (ممرضين) في الجيش.
وبقي صاحب الترجمة تمرجيا ينتقل من أورطة إلى أورطة، ومن آلاي إلى آلاي، حتى نال رتبة الجاويش، ثم جاءت الهيضة سنة 1272ه فاشتغل في معالجة المرضى وتلطيف حالهم زمنا طويلا، مع العناية بالمرض والرفق بالمريض، وابتدأ من ذلك العهد في تأسيس آرائه في هذا المرض، وتدوين مشاهداته فيه، ونشر أكثر من ذلك في رسالته المعروفة بالإسعافات الصحية في الأمراض الوبائية الطارئة على مصر في سنة 1300ه، وهي مشهورة طبعت على نفقته في المطبعة الأميرية.
وفي سنة 1273ه عاد إلى مصر مؤسس مدارسها الطبية الشهير كلوت بك، والتمس من ولي أمرها المرحوم سعيد باشا إعادة المدرسة الطبية إلى ما كانت عليه، فأجابه إلى ذلك، وصدر أمره العالي بجمع تلامذتها من الآلاليات وإرجاعهم إلى المدرسة، فعادوا إليها وامتحنوا، فعاد صاحب الترجمة إلى الفرقة الثالثة، وما زال في المدرسة حتى أتم الطب، وخرج منها طبيبا ماهرا وعالما مدرسا في فنونها، وتعين فيها بوظيفة مساعد ومعيد لعلم الجراحة بمرتب قدره ثلاثة جنيهات في كل شهر.
وفي عام 1278ه توجه عباس باشا إلى أوروبا، وصحبه في رحلته إليها المرحوم محمد علي باشا الحكيم، فشاهد تقدم فن الجراحة في باريس، فحرك ذلك غيرة سعيد باشا لإرسال فريق من النابغين في المدرسة الطبية المصرية إلى باريس؛ ليتقنوا هذا الفن ويعودوا إلى مصر في زمن قريب التماسا لقلة النفقات، ولإمكان الانتفاع بهم قريبا من جهة أخرى، فبعث بهذه الإرسالية في عام 1279ه، وفيها صاحب الترجمة، وكان أصغرهم سنا ورتبة، وبعد أقل من عام توفي المرحوم سعيد باشا، وخلفه المرحوم إسماعيل باشا، فعرض عليه شافعي بك الحكيم ناظر مدرسة الطب استرجاع تلك الإرسالية؛ لأن مصر في حاجة إلى الأطباء، فصدر أمر إسماعيل بإرجاعهم، فعادوا جميعا ما عدا صاحب الترجمة لصغر سنه.
وبعد رجوع رفاقه اشتغل هو بإتمام معارفه العلمية والعملية على أشهر الجراحين في ذلك الوقت الدكتور نيلاتون والدكتور نيليو، ولازم عيادة الأول الجراحية مدة سنتين كاملتين، فأظهر من العناية والمهارة بحيث لم يتمالك هذا الأستاذ عن الإعجاب به وتبشيره بمستقبل مجيد، وحث رفاقه على الاقتداء به.
وظل صاحب الترجمة مقبلا على العلم والعمل في باريس إلى أن نال شهادة الدكتورية، فأراد رئيس الإرسالية هناك أن يعيده إلى مصر، فالتمس بقاءه مدة أخرى لإتمام العمل في بقية المستشفيات، فألح عليه الرئيس في الرجوع إلى مصر، وبلغ ذلك الدكتور نيلاتون فكتب إلى هذا يقول: «يجب الالتفات لدري المصري والعناية بشأنه؛ لأنه قل أن يوجد له نظير في الإقبال على العمل والاستفادة مما يشاهده منه، وإنني في غاية الامتنان، وأثني عليه أحسن الثناء»، فاقتنع رئيس الإرسالية بذلك، وبعث إلى صاحب الترجمة أن يخبره بكل ما يحتاج إليه.
وفي هذه الأثناء وصل الخديوي إسماعيل باشا إلى فرنسا، فلقيه الدكتور نيلاتون وأطنب له كثيرا بصاحب الترجمة، وأثنى على أعماله واجتهاده، وساعده على ذلك جمهور من الحكماء الذين كانوا في حمامات فيشي، فحرك ذلك عاطفة الرعاية في الخديوي إسماعيل، وأمر بأن يعطى لصاحب الترجمة عدة كتب وبعض الآلات الجراحية ومائة بينتو، فأخذ الكل وضم المال المنعم به عليه إلى ما كان معه، واشترى به القطع التشريحية التي أحضرها معه من البلاد الأوروبية إلى الديار المصرية، وبقيت أثرا له إلى الآن.
وفي عام 1286ه وصل إلى مصر، وأنعم عليه برتبة الصاغقول أغاسي، وعين حكيمباشي قسم العطارين في الإسكندرية، ثم عين حكيما ثانيا لقسم الجراحة في مستشفى الإسكندرية، وبقي بها إلى أواخر عام 1288ه، ثم نقل إلى مصر وعين معلما ثانيا لعلم التشريح، وجراح باشي إسبتالية النساء بالقصر العيني، وظل بها إلى عام 1291ه، ثم عين معلما أول لفن التشريح، وجراح باشي إسبتالية النساء، وأنعم عليه برتبة البكباشي، وبقي كذلك إلى عام 1294ه، فأنعم عليه برتبة أميرالاي، وما زال في مستشفى القصر العيني بوظيفة جراح باشي وأستاذ أول الجراحة والكلينيك الجراحي إلى عام 1299ه، وفيها أنعم عليه برتبة المتمايز، وفي عام 1315 أنعم عليه برتبة أمير ميران الرفيعة الشأن، وفي أثناء هذه المدة قلد عدة نيشانات علمية، منها نيشان الحرب بين الدولة العلية والروسيا، فإنه كان قد أرسل مع الجيش المصري وعين حكيمباشي إسبتالية صوفيا، وكان له من العمل في هذا السفر والاهتمام بالمرضى ما لم يشاركه فيه سواه.
وما زال أستاذا أول للجراحة في القصر العيني حتى جعلوا التعليم فيها باللغة الإنكليزية، فأحيل على المعاش فتفرغ لأعماله الخصوصية، ثم دهم بفقد صهره وابن أخيه المرحوم حامد بك صدقي، فأثرت وفاته تأثيرا شديدا على صحته، فتوالت عليه العلل حتى توفاه الله في ليلة 30 يوليو سنة 1900م/1318ه.
أخلاقه وأعماله
كان (رحمه الله) محبا لقومه، ساهرا على مصلحتهم، مستهلكا في خدمتهم، حتى لقد يحيي ليله مفكرا في أحوالهم ومصيرهم، وقد حدا به ذلك إلى صرف عنايته وماله وراحته في رفع منار بلاده في السبيل الذي يستطيعه، فأنفق معظم ثروته في اختيار الكتب وجمع رسوم مشاهير المصريين وغيرهم، وحفرها كلها على النحاس في باريس، ولا غرض له من ذلك إلا إحياء ذكر الفضلاء، ناهيك بما أنفقه من العناية في رسم صور الأمراض التي لها أجسام وأشكال، ولم يقف عند هذا الحد، ولكنه كلف نفسه عملا ليس هو من لوازم مصلحته، فأحضر مطبعة كاملة الأدوات سماها المطبعة الدرية طبع فيها بعض مؤلفاته ومؤلفات غيره، ولا ريب عندنا أنه لم يكن يستثمر من وراء ذلك غير التعب والخسارة، ولكنه كان يفعله مدفوعا بغيرته على العلم والعلماء، ورغبته في خدمة وطنه ومواطنيه.
واشتهر الدكتور دري باشا بفن الجراحة، وفي منزله مجموعة تشريحية جاء بها من أوروبا، وجمع شيئا آخر هنا، وقد شاهدناها منذ بضع وعشرين سنة، وكنا قد جئنا لإتمام درس الطب في مدرسة قصر العيني، وكان هو من جملة أساتذتها، وبيدنا كتاب توصية باسمه من صديق له في بيروت، فصحبنا إلى منزله أحد أصدقائنا من تلامذة القصر يومئذ (الدكتور نعمة الله أفندي طحان من أطباء الجيش المصري الآن)، فاستقبلنا الدكتور دري أحسن استقبال، وأحب من باب المباسطة أن يمتحن معرفتنا في فن التشريح، فجاءنا بجمجمة صناعية ظهرت فيها الأعصاب أحسن ظهور، وسألنا عن العصب الخامس وفروعه، وهو من أصعب مسائل التشريح، فأجبناه بما حضرنا وهو يسمع ويبتسم، ثم دعانا إلى حجرة التشريح وأطلعنا على ما عنده من التماثيل التشريحية وغيرها، فعلمنا من ذلك اليوم أنه ذو ولع شديد في مهنته، وقد تحققنا ذلك فيما بعد مما سمعناه عنه وشاهدناه من آثار فضله.
وكان مدققا كثير الانتباه للفرص التي تعرض له في معاطاة مهنته، فإذا جاءه مريض ذكر في دفتر خاص بالمرضى اسم ذلك المريض، ومرضه، والعلاج الذي عالجه به، وتاريخ سير العلة بالتفصيل والإيضاح، فلما أحيل على المعاش في آخر حياته جمع ذلك كله في مجموعة أهداها إلى قصر العيني، وهي لا تزال محفوظة هناك، وقد كتب عليها «مجموعة محمد دري باشا الحكيم».
واشتهر بين الأطباء بدقة التشخيص وصدق الإنذار، حتى كاد يقترب ذلك من الإلهام، فإذا شاهد مريضا وأنذره أو بشره كان كما قال، وكان متعلق الذهن بمرضاه، فإذا عمل عملية مهمة وعاد إلى بيته لا يهدأ باله على مريضه حتى يتفقده مرارا؛ إما برسول خاص، وإما أن يذهب هو بنفسه، ولا فرق عنده في ذلك بين الغني والفقير، وربما كان أكثر عناية بالفقير مما بالغني، ويذكرون من فضله بنوع خاص مواساته الناس في أزمنة الأوبئة الوافدة ومعالجتهم بما سهل ورخص، ومن آرائه الخصوصية في الجراحة أن العمليات الجراحية تكون عاقبتها سليمة إذا عملت في شهري بئونة وأبيب، ويليهما كيهك وطوبة، أما مؤلفاته التي ظهرت في عالم المطبوعات فهي: (1)
رسالة في الهيضة الوبائية: وفيها وصف الهيضة وطرق معالجتها بالأدوية البسيطة. (2)
كتاب بلوغ المرام في جراحة الأقسام: هو كتاب في الجراحة مطول، مزين بالرسوم والأشكال، ظهر منه ثلاث مجلدات ضخمة، طبعت كلها في مطبعته، والرابع كان عند وفاته لا يزال تحت الطبع. (3)
كتاب التحفة الدرية في مآثر العائلة المحمدية العلوية: جاء فيه على خلاصة تراجم أعضاء العائلة الخديوية مع رسومهم ورسوم أنجالهم. (4)
كتاب تذكار الطبيب: طبع مرتين أخيرتهما سنة 1313ه، يشمل كل التذاكر الطبية التي كان يصفها مشاهير الأطباء في مستشفى قصر العيني، وهو كتاب ضخم صفحاته 436 صفحة، ويسهل حمله في الجيب. (5)
ترجمة حياة المغفور له علي باشا مبارك، استخرجه من الخطط التوفيقية، وطبعه في مطبعته سنة 1131ه.
وهناك كتب أخرى لم يطبعها، وقد ظهرت في مطبعته كتب أخرى لمؤلفين آخرين.
الفصل السابع والثلاثون
السيد إقليميس يوسف داود
رئيس أساقفة دمشق على السريان
هو يوسف بن داود بن بهنام، من عائلة زبوني، ولد في العمادية من بلاد كردستان على مسافة ثلاث مراحل من الموصل، وأصل عائلته من الموصل، فلما بلغ الخامسة من عمره عاد به أبوه إليها فتلقى مبادئ العلوم في بعض المدارس الابتدائية، فأظهر من النجابة والذكاء ما جعله في مقدمة رفقائه التلامذة، ثم اتفق بعض ذوي الفضل، وفي مقدمتهم الأب يوسف والركا (الذي صار بعد ذلك بطريركا أورشليميا على اللاتين) على إرساله إلى المدرسة الأربانية برومية؛ للتبحر في العلوم اللاهوتية ونيل رتبة الكهنوت، فبرح الموصل سنة 1845م وله من العمر 16 سنة، فمر ببيروت وقضى بمدرسة غزير بضعة أشهر، ثم سار إلى رومية، وهناك أكب بكليته على اكتساب العلوم على أنواعها، وفيها العلوم النحوية والبيانية والبديعية والمنطق والطبيعيات والكيمياء والرياضيات والجبر والهندسة والمساحة والجغرافية والفلك والفلسفة العقلية والأدبية واللاهوت الأدبي والنظري والفقه الكنائسي والتاريخ البيعي والموسيقى وعلم الكتاب المقدس، وتعلم اللغات اللاتينية والإيطالية والعبرانية واليونانية والإفرنسية والإنكليزية والألمانية، وأكمل اللغة السريانية والعربية والكلدانية، وذاع خبر نجاحه وذكائه وامتيازه على أقرانه، فوقع نزاع بين الطائفتين الكلدانية والسريانية من أجله، فادعت كل منها أنه من أبنائها رغبة في اكتساب خدماته لها، ولما طال النزاع خيروه في الانحياز إلى إحداهما، فاختار الطقس السرياني، وفي سنة 1855م سيم قسيسا للسريان.
السيد إقليميس يوسف داود 1829-1890م.
وفي منتصف سنة 1855م غادر رومية قاصدا الموصل، فوصلها في أواخر تلك السنة، واستلم الأعمال الكهنوتية، وجعل يعظ ويعلم، ووجه انتباهه بنوع خاص إلى المدارس؛ لعلمه أن التعليم أساس كل فضيلة، فأسس بالموصل سنة 1856م مدرسة بالاتفاق مع الآباء المرسلين الدومنكيين، كان يعلم فيها النحو والصرف بالعربية، ومبادئ اللغتين الإيطالية والفرنساوية والرياضيات والجفرافيا والتاريخ والموسيقى، ثم أنشأ المرسلون الدومنكيون مدرسة عالية كان هو أستاذها الأول، فأتت بفوائد يذكرها العارفون.
ويقال بالإجمال إن جميع كهنة الموصل وتوابعها كانوا من تلامذته أو تلامذة تلامذته، ونظرا لقلة المؤلفات التدريسية إذ ذاك اضطر إلى تأليف الكتب اللازمة للتدريس، وقد طبعت بعد ذلك وستذكر بين مؤلفاته، وكان مع كل ذلك لا يغفل لحظة عن رعاية رعيته والقيام بواجباته نحوهم دينيا وأدبيا .
وفي سنة 1862م ترقى إلى رتبة الخورفسقفس، وعهدت إليه النيابة العامة على الأبرشية.
وفي سنة 1867م أوعز إليه بأمر البابا بيوس التاسع أن يكون مستشارا في اللجنة المعينة لإعداد الأمور المتعلقة بقوانين الكنائس الشرقية وتواريخهن، وهي إحدى اللجنات الخمس التي أقامها البابا استعدادا للمجمع الفاتيكاني المسكوني الذي كان في النية التئامه، وأن يستنسخ ما يقع في يده من الكتب الخطية السريانية والعربية، فقام بمهمته حق القيام، حتى استدعي سنة 1869م إلى المجمع الفاتيكاني، فسار وحمل معه ما كان قد استنسخه من الكتب النفيسة إلى مكتبة مدرسة البروبغندا، وكان (رحمه الله) في جملة اللاهوتيين العظام في ذلك المجمع، وهو العضو الشرقي الوحيد هناك، وقد سمي ترجمانا فيه، فنال على أثر أعماله هذه شهرة عظيمة جدا، وكان لا يضيع فرصة لا يؤلف فيها أو يطالع.
وفي سنة 1870م عاد إلى الموصل، وعمل على تصحيح ترجمة التوراة العربية بمقابلتها على الترجمات السريانية واليونانية واللاتينية والعبرانية، وعلق الحواشي على بعض الآيات الغامضة، وقد طبعت هذه الترجمة في مطبعة المرسلين الدومنكيين بالموصل مرتين، وراجع أيضا الترجمة السريانية البسيطة، وطبعها بالمطبعة المذكورة بأحرف كلدانية، ولولا هذه الطبعة لفسدت الترجمة البسيطة.
وفي سنة 1876م توفي المطران يعقوب حلياني أسقف دمشق على السريان، وبقيت طائفة السريان هناك بلا أسقف سنتين. وفي سنة 1878م انتخب صاحب الترجمة أسقفا لها بإجماع الطائفة وتحريض البطريرك، ولكنه كان ميالا إلى الابتعاد عن مهام الأسقفية؛ لعلمه بما يترتب على قبولها من التبعة، وكثيرا ما عرضت عليه قبل ذلك ولم يقبلها، أما هذه المرة فاعتذر وتردد مدة حتى مل المكاتبة، وورد عليه كتاب من البطريرك يقول فيه: «إن الحضرة البابوية تريد منك أن تذعن لصوت الجمهور، وتسلم للإرادة الإلهية التي تدعوك لتلك الوظيفة السامية، وأن تقبل الانتخاب»، فلم ير بدا إذ ذاك من القبول، فسار في أوائل سنة 1879م من الموصل إلى دمشق لتولي مهام منصبه الجديد، وقد غادر الأهل والخلان والرفاق والجمعيات والمدارس والأخويات والكنائس والمطابع، وأكثرها من غرس يمينه، وهو لم يكد يجني ثمار أتعابه، فمر بحلب، وهناك رقي إلى رتبة الأسقفية، ولقب إقليميس، فصار من ذلك الحين يدعى السيد إقليميس يوسف داود. وسار من حلب إلى دمشق، ولا تسل عن فرح الدمشقيين بنيل تلك الأمنية التي لم يكونوا يرجون الحصول عليها؛ لعلمهم بإبائه قبلا عن قبول الأسقفية.
أما هو فأخذ يدير شئون الطائفة بهمة ونشاط، فأنشأ الأخويات، ومجلسا طائفيا للنظر في أمور الأبرشية، وشيد بعض الكنائس، ورمم البعض الآخر، وأنشأ كثيرا من المدارس الصغيرة للقرى، ووجه التفاته إلى جمع الكتب، فجمع مكتبة يعز وجود مثلها؛ لما حوته من الكتب الخطية المتعلقة بالمشرق التي يندر وجودها، وأخذ في التأليف والتصنيف، وأصلح الكتب الطقسية، فعانى في إصلاحها مشقات جسيمة.
ومما لا تنساه الطائفة السريانية سعيه في إنشاء مجمع السريان اللبناني؛ فإنه هو الذي هيأ مواده، والمجمع المذكور انعقد في الشرفة بلبنان سنة 1888م، ونظر في أحوال الطائفة السريانية، وضبط أمورها الطقسية وقوانينها الشرعية، وكانت الطائفة قد حاولت عقد هذا المجمع غير مرة ولم تنجح إلا على يده.
وفي أوائل سنة 1889م أصيب (رحمه الله) بداء القلب، فقاسى فيه أهوالا جسيمة، وفي 14 أغسطس (آب) سنة 1890م توفي إلى رحمة الله وله من العمر 61 سنة وبضعة أشهر.
مؤلفاته
لصاحب الترجمة مؤلفات كثيرة بين مطبوع وغير مطبوع في لغات مختلفة، وهاك أسماء مؤلفاته التي طبعت مع اسم اللغة التي ألفها فيها: (1) كتاب التمرنة في الأصول النحوية، مع مقدمتين في أصول الكتابة والقراءة (مجلدين)
عربية (2) التمرين في التمرنة (مجلدين)
عربية (3) غراماطيق إفرنسي مع الشرح العربي
إفرنسية وعربية (4) اللمعة الشهية في نحو اللغة السريانية، مع الشرح العربي بطريقة جديدة؛ أي بالمقابلة مع اللغة العربية واللغة العبرانية خاصة
سريانية عربية (5) نحو اللغة السريانية مع الشرح اللاتيني
لاتينية (6) نبذتان في العروض والشعر (ألحقهما بكتاب التمرنة)
عربية (7) مدخل الطلاب في علم الحساب (مختصر)
عربية (8) تروض الطلاب في علم الحساب (مطول)
عربية (9) علم الجغرافيا
عربية (10) التواريخ البيعية
عربية (11) مختصر التواريخ البيعية
عربية (12) تاريخ مجمع السريان اللبناني المعقود سنة 1888م في الشرفة
إفرنسية (13) بيان رئاسة بطرس زعيم الرسل وخلفائه الأحبار الرومانيين من تقليد البيعة السريانية (طبع رومية)
لاتينية (14) مقالة في تعليم البيعة السريانية في انبثاق روح القدس
سريانية (15) خطبة تاريخية في رئاسة بطرس الرسول مع تأييدها بنصوص من آباء الكنيسة السريانية
عربية (16) القصارى في حل ثلاث مسائل تاريخية تتعلق ببلاد الشام وما يجاورها
عربية (17) بيان طقس البيعة الأنطاكية السريانية ونافورتها
إفرنسية (18) المقابلة بين نافورة القديس يعقوب المستعملة عند السريان ونافورة القديس يوحنا فم الذهب المستعملة عند اليونان (يتخللها شرح طويل عن الطقوس اللاتينية والكلدانية والأرمنية والمارونية والحبشية والقبطية)
إفرنسية (19) مقالات شتى طقسية وتهذيبية ألفها وطبعها في رومية
لاتينية إيطالية (20) بيان لغة أهل دمشق العربية في أيامنا
إفرنسية (21) بيان اللغة التي تكلم بها يسوع المسيح على الأرض
إفرنسية (22) بحث عن لغة أهل سورية وفلسطين حين ظهور اللغة العربية فيهما. وبيان أنها كانت اللغة السريانية
إفرنسية (23) مواد مجمع السريان اللبناني المعقود في الشرفة
عربية لاتينية (24) طقوس جديدة سريانية لأعياد مستحدثة في البيعة الكاثوليكية
سريانية (25) كلندار عام للبيعة السريانية على مدار السنة
عربية (26) كلندار عام لجميع الطقوس غربية وشرقية (ألحقه بكتاب تحفة الزهور)
عربية (27) نبذة من القوانين البيعية لكهنة أبرشية الموصل
عربية (28) المقدمة والنتيجة في الخطبة والزيجة
عربية (29) الكنارة الصهيونية
عربية وسريانية (30) خدمة القداس الأشحيمي
عربية وسريانية (31) فهرست القراءات من العهدين القديم والجديد التي تقال على مدار السنة بحسب الطقس السرياني
عربية (32) تروض في آلام المسيح لكل يوم جمعة من الصوم الكبير
عربية (33) الرسالتان الأولى والثانية
عربية (34) إنشاء الرسائل
عربية (35) التعليم المسيحي
عربية (36) التصاريف العربية
عربية (37) تصاريف الأفعال الكلدانية
كلدانية (38) كراسة الاشتقاقات
عربية (39) تعليم القراءة السريانية
عربية
وهذه أسماء مؤلفاته التي لم تطبع: (40) جامع الحجج الراهنة
عربية (41) تاريخ السريان
عربية (42) علم الهندسة
عربية (43) علم الجبر
عربية (44) أغلاط ترجمة العهد الجديد العربية التي أنشأها البروتستنت في بيروت
عربية (45) رياضة درب الصليب (وهي مؤثرة للغاية)
عربية (46) مجموع خطبه أو مواعظه الدينية
عربية (47) مقالات في حقيقة سر الأوخارستيا
عربية وإفرنسية (48) قداس حبري سرياني على أصول الموسيقى الأوروبية
عربية سريانية (49) تصانيف موسيقية شتى
عربية سريانية (50) مجموع المناشير، أو الرسائل الراعوية التي أنفذها من حين أسقفيته
سريانية (51) التوطئة إلى الاحتجاج والتبرئة (فوائد تاريخية مهمة)
سريانية
وله فضلا عن ذلك خدمات جزيلة خدم بها العلم؛ كتنقيح بعض الكتب أو ترجمتها أو ضبطها، ومنه ما قد طبع؛ كالكتاب المقدس وكتاب الصلوات السريانية وغيرهما، وبعضها لم يطبع، وقد بلغ عدد الكتب التي ترجمها أو نقحها أو ضبطها 31 كتابا، بعضها يزيد على عدة مجلدات، فيكون عدد كتبه بين تأليف وتصنيف وترجمة وضبط 82 كتابا في لغات مختلفة، أكثرها في مواضيع وعرة المسالك.
صفاته
كان (رحمه الله) ربع القامة، بشوش الوجه، سريع الخاطر، رقيق الجانب، واسع العلم في سائر العلوم التاريخية واللغوية والدينية، وكان يعرف من اللغات 15 لغة، ولكنه كان مغرما بنوع خاص باللغات الشرقية وتحليلها بما يسمى علم الفيلولوجيا أو الفلسفة اللغوية، وكان عمدة هذا العلم ومورد قصاده، فلما طبعنا كتابنا «الألفاظ العربية والفلسفة اللغوية» سنة 1886م أرسلنا إليه نسخة منه على سبيل الهدية، فكتب إلينا كتابا يدل على حسن ظنه بنا، ورغبته في تنشيطنا، وهاك نص الديباجة ننشره إقرارا بفضله، ودليلا على رقته ودعته؛ قال:
أما بعد، فأقول إني قرأت كتابك النفيس الذي عنوانه الألفاظ العربية ... إلخ، في النسخة التي تفضلت بإهدائها إلي، فوجدته مؤلفا كاملا في فنه، وافيا بكل الشروط على أتم وجه، ودالا على طول باع مؤلفه في هذا الفن الجديد من العلوم اللغوية الذي لم ينتبه إليه قبل اليوم أهل وطننا، فلله درك! كم تبحرت في هذا العباب الصافي، وكم استخرجت منه من الدر الثمين! فحقك أن أهنئك وأشكرك باسمي وباسم الجمهور كله؛ ولا سيما أهل وطننا؛ إذ إنك على ما أعهد أول من فتح لهم هذا الباب الجليل والسلام.
عن دمشق الشام في 4 شباط سنة 1888م
المحب الشاكر
إقليميس يوسف داود
مطران دمشق على السريان
وقد دارت بيننا وبينه بعد ذلك مكاتبات بشئون مختلفة، مرجعها إلى مبحث اللغات وفلسفتها، لا محل لها هنا، وكم تمنينا أن نلقاه وجها لوجه، وقد عزمنا على ذلك وقصدنا زيارة دمشق سنة 1890م لهذه الغاية، فأنبئنا بوفاته ونحن في منتصف الطريق في بلدة زحلة، فعدنا ولم ننل وطرا.
أما في التاريخ، فقد كانت له باع طولى؛ ولا سيما في تاريخ الدول القديمة؛ كالفارسية والآشورية والبابلية والمصرية والفونية واليونانية والرومانية. وكان ورعا تقيا سليم القلب، مخلصا غيورا متواضعا، محافظا على الفروض الدينية، كارها لنعم الدنيا راغبا عنها.
الفصل الثامن والثلاثون
مارون النقاش
مؤسس فن التمثيل في اللغة العربية
ولد (رحمه الله) في صيدا سنة 1817م، وتربى في بيروت، وكان من حداثته ميالا إلى العلم، فأتقن الآداب اللسانية وغيرها؛ كالصرف والنحو والعروض والبيان والمنطق. وأخذ في نظم الشعر وهو في الثامنة عشرة، وتعلم الحسابات التجارية على الأصول الإفرنجية، وعلمها لكثيرين، فكان إمام هذا الفن في بيروت، وتعلم أيضا القوانين التجارية، وكان التجار يرجعون إلى رأيه فيها، وأتقن اللغة التركية والإيطالية والفرنساوية، وكان له ولع بالموسيقى، وارتقى في مبدأ عمره إلى رئاسة كتاب جمرك بيروت، ثم انقطع للتجارة إلى آخر حياته.
وكان فيه ميل إلى السفر مع صعوبته في ذلك الحين، فساح في سورية كلها، ثم جاء الإسكندرية ومصر سنة 1846م في أواخر أيام محمد علي، وشخص منها إلى إيطاليا، وهي يومئذ لا تزال أكثر ممالك أوروبا علاقة بالشرق، وحضر فيها تمثيل الروايات على المراسح، فأدهشه ما في ذلك من اللذة والفائدة بتمثيل العبرة حتى يراها الناس رأي العين. وخطر له أن ينقل هذا الفن إلى العربية لفائدة أبناء وطنه، وأخذ في العمل حال رجوعه إلى بيروت، فضم إليه جماعة من أصدقائه الشبان النجباء الأدباء، وأخذ يعلمهم التمثيل، وألف لهم رواية «البخيل»، وهي أول رواية تمثيلية ألفت في اللغة العربية، فعلمهم أدوارها حتى أتقنوها، ومثلوها في بيته سنة 1848م في ليلة حضرها قناصل المدينة وأعيانها، فأعجبوا بما شاهدوه من دقة التمثيل وإتقان التأليف مع حداثة هذا الفن، فشاع خبر ذلك حتى تناقلته الصحف الإفرنجية، فزاد نشاطا وإقداما، فألف رواية «أبي حسن المغفل» أو «هارون الرشيد»، مثلها في بيته أيضا في أواخر سنة 1850م، ودعا إليها والي سورية وبعض الوزراء ورجال الدولة، وكانوا - يومئذ - في بيروت، فأعجبوا به وأثنوا على نشاطه، فلما تحقق نجاح عمله أنشأ مرسحا خاصا بالتمثيل بجانب منزله خارج باب السراي بفرمان سلطاني - وقد تحول بعد موته إلى كنيسة عملا بوصيته.
وفي هذا المرسح شخص رواية الحسود السليط، وهي كثيرة الفكاهة والعبرة، وكان مع ذلك يتعاطى أشغاله التجارية، وإنما يشتغل بالتمثيل حبا في الفن، وكذلك سائر أصدقائه الممثلين، وكانوا في بادئ الرأي يتزلفون إلى الناس ويتملقونهم ليحضروا تمثيلهم، ثم صار الناس يتقاطرون إليهم، وقد نبغ منهم بعد ذلك جماعة من كبار الوجهاء وأهل الأدب، ولو مد الله بأجل النقاش لكان لفن التمثيل شأن آخر، ولكنه توفي سنة 1855م في طرسوس، وكان قد ذهب إليها لبعض أشغاله التجارية، وهو لم يتجاوز الثامنة والثلاثين من عمره.
فخلف النقاش في أهل بلاده حب التمثيل، ورغب بعض أدباء بيروت في هذه الصناعة، فجعلوا يمثلون الروايات في المراسح الخصوصية أو المدارس الكبرى أو المراسح العمومية؛ وأشهرها مرسح سورية، ولا يزال باقيا إلى اليوم، ومن قدماء المشتغلين بالتمثيل في سورية بعد النقاش سعد الله البستاني، مثل رواية انتظم في سلكها جماعة من نوابغ الشبان - يومئذ - ومنهم الآن غير واحد من العلماء وأهل الوجاهة.
الفصل التاسع والثلاثون
ناصيف المعلوف
هو ناصيف بن إلياس منعم المعلوف، ولد في قرية زبوغة في 20 آذار (مارس) سنة 1823م، ومال منذ نعومة أظفاره إلى العلوم، وشغف بها؛ لأنه كان وهو صغير يرافق والده إلى دار الأمير بشير الشهابي الكبير. وكان مجلسه حافلا بالشعراء والعلماء؛ كالشيخ ناصيف اليازجي، وبطرس كرامة، والشيخ رشيد الدحداح، وغيرهم، فكان الأمير وأولاده يقولون لوالده: «علم ناصيف فنظمه في سلك كتبة هذا الديوان»، وهو يسمع مقالهم فيزداد رغبة، فتلقى مبادئ العلوم على أحد الكهنة في دير القديس سمعان العمودي. واتصل بالطيب الذكر المطران أغابيوس الرياشي، فكان يكتب له لحسن خطه وإنشائه، فأتم بعض علومه على الخوري أغابيوس البنا في بيروت. واتصل ببعض علماء عصره، ودرس مبادئ اللغتين الفرنسية والإيطالية على بعض المرسلين، ومال إلى توسيع معارفه، وحدثته نفسه بالسفر؛ ولا سيما بعد أن انقطع حبل آماله لخروج الأمير بشير الكبير من سورية.
ناصيف المعلوف 1823-1865م.
وفي تلك الأثناء قدم التاجر المشهور يوحنا العرقتنجي من مدينة أزمير لترويج تجارته في بيروت؛ إذ كانت قد بدأت حياتها التجارية، فكان يختلف إلى الدار الأسقفية لزيارة السيد أغابيوس صديق نسيبه الطيب الذكر المطران باسيليوس العرقتنجي مطران حلب، فصادقه ناصيف، وعرف منه ترقي أزمير العلمي، فرغبه في السفر معه، ولما كان اليوم التاسع عشر من آيار (مايو) سنة 1843م أبحرا من بيروت إلى أزمير، وكانت المدينة الثانية في عمرانها بين مدن الممالك المحروسة، وعدد سكانها نحو مائة ألف نفس، وأكثر أبنيتها خشبية. ولما وصلاها اتخذ يوحنا ناصيف مدرسا لأولاده العربية والفرنسية، واعتمد عليه بإدارة شئونه التجارية لمهارته في فن الحساب، فاغتنم ناصيف الفرصة لاستزادة علومه، فدخل مدرسة إخوة التعليم المسيحي سنة 1844م، ومارس الفرنسية والتركية.
وسنة 1845م انتظم في سلك أساتذة اللغات الشرقية في مدرسة البروباغندة التي كانت بإدارة الآباء العازاريين، وكانت له رغبة شديدة بتحصيل اللغات، فأتقن التركية والإنكليزية واليونانية الحديثة فوق ما كان يعرفه منها، وأكب على التأليف في بعضها، فنال منزلة لدى العلماء ورؤساء تلك المدرسة، فأثنوا عليه كثيرا؛ ولا سيما الأب أوجان بورة رئيسها الشهير، فإنه أثنى مرارا على براعته وحسن أسلوبه في التدريس، وبقي ناصيف زهاء عشر سنوات يلقن العلوم ويضع بعض التآليف، وقد زار بأثنائها الآستانة العلية وباريس ولندن وغيرها من عواصم أوروبا ومدنها.
وفي صيف سنة 1848م اغتنم فرصة العطلة المدرسية ورافق بعض السياح الأوروبيين القادمين إلى سورية لتفقد آثارها، وجاء مسقط رأسه زبوغة في شهر تموز، فشاهد أسرته ثم ذهب إلى زحلة لملاقاتهم يوم الثلاثاء في 27 منه، وفيها بلغهم أن الهواء الأصفر تفشى في حلب قادما من مصر. ويوم الخميس في 29 منه كانت الأسر الكثيرة من دمشق تتقاطر إلى زحلة هربا من الوباء، فذهب ناصيف مع رفاقه إلى بعلبك، وعادوا بسرعة إلى بيروت، وبرحوها قاصدين أزمير، فما وصلوها حتى بلغهم أن الوباء تفشى في بيروت في منتصف آب، ومنذ ذاك الحين اختبر ناصيف بنفسه حاجة السياح إلى معرفة اللغات الشرقية، فشرع في وضع بعض المؤلفات باللغات التي أتقنها، واشتهر بتضلعه بالشرقية منها.
ولما ذاعت معارفه في أنحاء الممالك المحروسة واتصلت بأوروبا، استقدمه إليه اللورد ركلن (L. raglan)
قائد الجيوش المتحدة في حرب الدولة العلية وروسية، فلبى طلبه مستأذنا الدولة العلية، ورافقه في أسفاره في أول آب (أغسطس) سنة 1855م، وبقي إلى 30 أيلول (سبتمبر) من السنة التالية بمهنة ترجمان، فشهد الوقائع الكبيرة، وكان يدرس الضباط اللغة التركية، وأظهر إخلاصه لدولتنا العثمانية العلية.
وفي سنة 1856م ذهب إلى مدينة لندن، فنال لدى كبار علمائها مقاما رفيعا، ونظمته جمعية الأثينيوم العلمية في سلك أعضائها، فشكر لهم حفاوتهم هذه برسالة مؤرخة في آب سنة 1857م، لا تزال نسخة منها في مكتبتنا. وبقي في عاصمة الإنكليز إلى شهر تشرين الأول (أكتوبر) من تلك السنة، فبرحها إلى مدينة بخارست حاضرة بلاد رومانيا، وانضم إلى السير هنري بلوير معتمد إنكلترا، وظل في خدمته، ثم رافقه إلى الآستانة العلية في حزيران (يونية) سنة 1858م، وكان ترجمانا له يدرسه اللغة التركية، فأهدى إليه معجمه التركي الفرنسي.
وفي العام التالي بينما كان يتأهب للسفر إلى بر الأناضول قنصلا للدولة الإنكليزية فيها، فرغ منصب الترجمان الأول لقنصلية إنكلترا في أزمير ففضله على منصبه الأول لأسباب صحية، وناله برخصة الدولة العلية، وباشر القيام به في شهر أيار (مايو)، فخدمه خدمة أكسبته رضى هاتين الدولتين وغيرهما من الدول الشرقية والغربية. وكان مع انهماكه بهذا المنصب مكبا على التأليف وتصحيح المطبوع من مؤلفاته بجلد غريب، حتى كثيرا ما كان يستنسخها بخط يده مرتين أو ثلاثا. وفي أول تشرين الأول سنة 1863م نشر بعض علماء عصره سيرته باللغة الفرنسية في جريدة رائد الشرق (Courrier D' Orient) ، ثم طبعت على حدة في 19 صفحة.
وبقي مثابرا على العمل والتأليف إلى أن تفشى الهواء الأصفر في مصر وسورية، واتصل بأزمير، فأشار عليه الأطباء أن يبرحها إلى أوروبا ترويحا للنفس، فشخص إلى بعض عواصمها حتى انقطع دابر الوباء، فعاد إلى أزمير مريضا واصطاف في قرية كوتجة من ضواحيها، فتوفي في 14 أيار (مايو) سنة 1865م غريبا عزيبا، فنقل إلى أزمير، ودفن في كنيسة الآباء اللعازاريين بضريح خاص، وقد أرخت وفاته بقولي الذي كتب تحت رسمه الفوتوغرافي:
فقيد بني المعلوف ناصيف منعم
ولكن لأهليه وللعلم تكدير
ونفس أديب العصر كالشمس أرخت
فمطلعها لبنان والغرب أزمير
وكان ربعة القوام إلى الطول، رقيق الجسم، أبيض اللون، يضرب لونه إلى السمرة، خفيف الشعر، لطيف المنظر، حلو الحديث، وقد نال لدى معاصريه شهرة ذائعة، أما إخلاصه لدولتنا العلية - أيدها الله - فأشهر من أن يذكر؛ إذ كافأته بالوسام المجيدي الخامس ببراءة سلطانية في أواسط ذي القعدة سنة 1272ه/1855م، وتنازل ساكن الجنان السلطان عبد الحميد خان فقبل هدية تآليفه، وانتظم في سلك أعضاء جمعية العلوم والآداب التركية (انجمن دانش) التي أنشئت في الآستانة سنة 1851م، وفي الجمعيتين الآسيويتين الفرنسية والبريطانية، وأتقن من اللغات العربية والتركية والفارسية والفرنسية والإنكليزية والإيطالية واليونانية، وألف في جميعها.
وأهداه المغفور له ناصر الدين شاه العجم وسام الأسد والشمس (شير خورشيد) من الطبقة الرابعة ببراءة مؤرخة في ربيع الآخر سنة 1276ه/1859م، وفتحت جرائد الممالك المحروسة العربية والتركية والأرمنية أبوابها لملاقاته وتقريظ مؤلفاته والثناء عليه. وتكرر اسمه في الجرائد الأوروبية ومجلاتها؛ ولا سيما في باريس ولندن وبخارست ومالطة، ولقبته بالعالم المتضلع باللغات الشرقية، وبالمستشرق الشهير الذائع الشهرة، ليس في الممالك المحروسة فقط، بل في عواصم أوروبا أيضا، وقال غرسان دي ناسي من مشاهير علماء فرنسا: «إن تآليف ناصيف المعلوف تنطق بسعة معارفه واجتهاده».
ولما أعاد الطباع ميزونوف في باريس طبع معجمه الفرنسي التركي الذي طبع أولا في أزمير سنة 1849م، تولى مراجعة مسوداته العلامة أوبيشيني، فصدره بمقدمة بين فيها فضل الكتاب، وأفاض في وصف صاحبه، وتوسع في إظهار مزاياه ومؤلفاته؛ ولا سيما سهولة طريقته ووضوح عبارته وتضلعه باللغات الشرقية، وأعظم هذه الشهادات ما قاله المسيو بيانكي - وكان أول من عني من المستشرقين في وضع معجم فرنسي تركي طبعه سنة 1831م، فأحرز رواجا مذكورا في أوروبا، وبقي نسيج وحده فيها إلى أن نشأ ناصيف فوضع معجمه، واحتذى طريقة بيانكي وتوسع في ذكر المصطلحات اللغوية للفنون والآداب والعلوم، فنال رضى العلماء؛ ولا سيما بعدما جدد وأعاد النظر فيه - قال بيانكي في كتاب أرسله من باريس إلى المترجم سنة 1854م أثنى فيه على تأليفه؛ وخصوصا على كتابه الفوائد الشرقية: «فأنت أول شرقي يشتغل بهذه الأعمال؛ لأن مؤلفاتك الكثيرة النافعة قد ساعدت على تقدم الدروس العربية والتركية والفارسية ... إلخ»، وكتب إليه مثل ذلك العلامة الفرنسي رينو (J. Reinaud)
وغيره من كبار العلماء.
ومما هو جدير بالذكر ما كتبه بعضهم في مقدمة إغراماطيقه التركي الفرنسي المطبوع في باريس سنة 1862م، نقتطف من قوله ما تعريبه: «إن الكتب الكثيرة التي مثلها الموسيو معلوف بالطبع قوبلت جميعها بحفاوة، وأنالته شهرة واسعة، فبينما كان يشتغل بتدريس التركية في مدرسة البروباغندة الفرنسية في أزمير، وبرئاسة كتابة (باش كاتب) قومندان الفرسان العثمانيين وبأعباء الترجمان الأول لقنصلية إنكلترا في أزمير، ما انقطع قط عن سعيه في نشر تآليفه التي سهلت درس اللغات الشرقية على الأوروبيين؛ ولا سيما التركية منها، كيف لا وأنه في مطاوي اثنتي عشرة سنة فقط ألف ومثل بالطبع أكثر من خمسة وعشرين مصنفا، كانت مرشدا للسياح في الشرق، ومرجعا لعلماء الاشتقاق»، إلى أن قال:
إن المؤلفين لم يعثروا حتى الآن على أسلوب أسهل وأكمل من الأسلوب الذي ابتكره المسيو معلوف؛ فإنه بعد أن يشرح القواعد بإيضاح يمرن الطلاب بمحاورات وأمثلة من مألوف الرسالات، وذلك بلا نكير من أسد الطرق وأقوم المناهج للتوصل إلى إتقان التكلم بكل لغة ... إلخ. ا.ه.
أما تآليفه التي طبعت فهي وفقا لبرنامج مكتبة ميزونوف في باريس سنة 1900م وغيرها مع ما وجد منها في المتحف البريطاني، ومكتبة الآباء اليسوعيين الشرقية، ومكتبة المدرسة الكلية السورية في بيروت كما يأتي: (1)
مفتاح اللغة التركية: طبع في أزمير سنة 1846م. (2)
محاورات فرنسية وعربية وإنكليزية: في أزمير سنة 1846م. (3)
محاورات فرنسية وتركية: أزمير سنة 1847م. (4)
تمارين تركية: الآستانة سنة 1847م. (5)
محاورات تركية وعربية باللغة العامية: الآستانة سنة 1847م. (6)
فكاهات شرقية بالتركية لنصر الدين خوجة: أزمير 1847م، والآستانة 1859م. (7)
مجموع جديد لجمل ومحاورات بالفرنسية والتركية: أزمير 1849م. (8)
مبادئ القراءة بالعربية والتركية والفارسية: أزمير 1849م. (9)
معجم بالفرنسية والتركية: طبع أولا في أزمير سنة 1849م، وثانية في باريس سنة 1856م، وثالثة في باريس في مجلدين بعد تنقيحه وإضافة أكثر من ستة آلاف كلمة جديدة إليه؛ من علمية وفنية وصناعية وتجارية وسياسية وحقوقية سنة 1863م، وقد قدمه للسير بلوير كما مر. (10)
محاورات ومنتخبات تاريخية وقصصية مختصرة بالتركية والفرنسية: أزمير 1850م. (11)
الوادي الطيب بالتركية والعربية: أزمير 1851م. (12)
مختصر الجغرافية القديمة والحديثة: أزمير 1851م. (13)
كتاب المراسلات التركية (إنشائي جديد): الآستانة 1852م. (14)
مختصر التاريخ العثماني بالفرنسية: أزمير سنة 1852م. (15)
دليل المحادثات بالتركية والعربية والفارسية: أزمير 1853م. (16)
محاورات بالتركية والفرنسية وبالفرنسية والتركية: أزمير 1854م. (17)
فوائد شرقية في اللغات التركية والعربية والفارسية: أزمير 1854م. (18)
الهجاء العثماني: طبع أولا في أزمير 1854م، وثانية في باريس 1863م. (19)
المخاطبات المعلوفية بالتركية والعربية: الآستانة 1856م. (20)
دليل المحادثات باللغات الخمس؛ الإيطالية واليونانية والتركية والفرنسية والإنكليزية: طبع مرتين في باريس سنة 1757 و1880م. (21)
دليل المحادثات باللغات الأربع؛ الفرنسية واليونانية الحديثة والإنكليزية والتركية: طبع ثلاثا في باريس سنة 1859 و1863 و1880م. (22)
دليل المحادثات باللغات الأربع؛ الإيطالية والتركية والفرنسية والإنكليزية: باريس سنة 1859م. (23)
دليل المحادثات باللغتين الإنكليزية والتركية: طبع مرتين في باريس 1859 و1880م. (24)
دليل المحادثات باللغات الثلاث؛ الإنكليزية والفرنسية والتركية: طبع في باريس مرتين سنة 1860 و1880م. (25)
غرامطيق اللغة التركية بالعربية: طبع في باريس سنة 1862م، ثم 1889م بعد أن نظر فيه المسيو كليمان هوارت (C. Huart) ، ترجمان السفارة الروسية الثاني في الآستانة العلية قبلا، ومدرس في مدرسة اللغات الشرقية حالا ، وهو مصنف كتاب تاريخ آداب اللغة العربية بالفرنسية. (26)
معجم تركي وفرنسي بمجلد واحد: باريس سنة 1863 و1867م. (27)
دليل المحادثات باللغات الثلاث؛ الفرنسية والإنكليزية والعربية: طبع في باريس سنة 1862م، ثم سنة 1880 فيها.
هذا وهناك مؤلفات له لم نعثر على أسمائها وزمن طبعها؛ أخصها نقل حكايات باركن (Berquin)
من الفرنسية إلى التركية، وما رواه صاحب راشد سورية في الصفحة 80، ولعله الجغرافية التي وصفت بعدد 12، فضلا عما بقي مخطوطا.
وهاك بعض ألقابه المطبوعة تحت اسمه في الغراماطيق التركي المطبوع في باريس سنة 1862م، وفي بعض مؤلفاته الأخرى كالمعجم الفرنسي التركي المطبوع في باريس سنة 1856م؛ وهي:
أستاذ اللغات الشرقية، وعضو الجمعية الآسيوية في باريس، وواضع التآليف الكثيرة بالتركية والعربية والفارسية والفرنسية وغيرها، المؤذنة بنشرها جمعية العلوم والآداب الملكية في الآستانة العلية ، وكاتم أسرار وترجمان قومندان الفرسان الإنكليزيين العثمانيين، وممتحن الضباط الإنكليزيين باللغات الشرقية ومدرسهم اللغة التركية، والترجمان الأول لقنصلية بريطانية في أزمير، وعضو الجمعية الآسيوية الملكية البريطانية العظمى وأيرلاندة، وناقل الوسام المجيدي العثماني ووسام الأسد والشمس الإيراني ... إلخ.
عن دواني القطوف في تاريخ بني المعلوف
الفصل الأربعون
سليم دي نوفل
نعي إلينا من مدينة بطرسبورج عاصمة الروس رجل من خيرة رجال سورية الذين أحرجتهم أحوالها فالتمسوا العمل في بلاد الغربة، فنالوا ما شاءوا من الثروة والجاه والمقام الرفيع في ممالك أوروبا وأميركا. والسوري مقدام لا يبالي بالأسفار في طلب العلى، ورث ذلك عن أسلافه الفينيقيين. على أننا لا نظنه كان عرضة للمهاجرة وتجشم الأخطار في عصر من العصور السالفة مثل تعرضه لذلك في هذا العصر؛ بالنظر إلى سهولة الأسفار واتساع أبواب الرزق.
وفي جملة الذين قضوا حياتهم في ديار الغربة، ونالوا جزاء اجتهادهم وفضلهم، المرحوم سليم دي نوفل، مستشار الدولة الروسية، وترجمان إمبراطوريتها، وأستاذ اللغتين العربية والفرنساوية والفقه الإسلامي في قسم اللغات الشرقية بنظارة الخارجية الروسية.
سليم دي نوفل 1828-1902م.
وهاك خلاصة ترجمة حاله مما نقله إلينا أحد أصدقائه القدماء، قال:
ولد (رحمه الله) نحو سنة 1828م في طرابلس الشام، من عائلة عريقة في الفضل والوجاهة والعلم، ومنها المرحوم نوفل نعمة الله نوفل، صاحب المؤلفات الشهيرة في آداب العرب وعلومهم (راجع ترجمته في هذا الكتاب). تلقى مبادئ القراءة في بعض المدارس الابتدائية، وهي قليلة في ذلك العهد، ثم كان أكثر ما اكتسبه من العلم بعد ذلك بجده واجتهاده، فظهرت مخايل النجابة عليه من نعومة أظفاره، فلما شب نال ثمرة أتعابه، فتعين وكيلا لشركة البواخر الروسية في طرابلس الشام، ثم تاقت نفسه إلى السياحة، فخرج إلى أوروبا، فطاف ممالكها؛ وخصوصا مملكة الإنكليز، ورجع إلى طرابلس.
واتفق نحو سنة 1870م أن دولة الروس طلبت من قنصلها في بيروت أن يبعث إليها برجل يحسن اللغة العربية؛ ليعلمها للشبان الروسيين الذين يتهيئون للخدمة السياسية في الشرق، فوقع الاختيار على صاحب الترجمة، فشخص إلى بطرسبورج ومعه عائلته، وأقام مدة في التدريس نال في أثنائها ثقة أهل البلاط وكبار رجال الحكومة الروسية، فجعلوا يرقونه ويزيدون راتبه ويخلعون عليه حتى صار من مستشاري الدولة، فضلا عن منصبه في تعليم اللغتين العربية والفرنسوية، وانتدبه جلالة القيصر غير مرة لينوب عنه في مهمات سياسية بباريس ورومية، وبعضها للمخابرة بشأن الكاثوليك في بولونيا؛ نظرا لما كان له من سعة الاطلاع في تاريخ الأديان والآداب الشرقية، وانتدب غير مرة للحضور في المؤتمرات الشرقية التي كانت تعقد في أوروبا للبحث في اللغات الشرقية وآدابها.
وكان يعرف اللغات العربية والفرنساوية والإنكليزية والإيطالية والروسية والتركية واليونانية وبعض اللغات الشرقية القديمة، وكانت له مهارة خصوصية بالإنشاء الفرنساوي، وكانت حكومة الروس تراعي جانبه وتكرمه، فأعطته قصرا في أحسن أحياء بطرسبورج للإقامة فيه مع امرأته وأولاده. وله عدة مؤلفات في الفرنساوية؛ منها كتاب الزواج والطلاق، وكتاب سيرة النبي، طبعا بنفقة نظارة المعارف الروسية.
الفصل الحادي والأربعون
محمد بيرم
هو من علماء تونس ووجهائها، ومن أكثر المسلمين تفانيا في نصرة الإسلام، ولد في تونس 1256ه/1840م، ويتصل نسبه ببيرم أحد قواد الجند العثماني الذي جاء تونس بقيادة سنان باشا سنة 981ه. تفقه في جامع الزيتونة، ونشأ حر الضمير يكره الاستبداد، فسره إنشاء مجلس الشورى في الحكومة التونسية على عهد الصادق باشا، وكان من أكبر نصرائه، وتولى رئاسة المجلس الوزير خير الدين باشا.
وتعين بيرم سنة 1287ه مدرسا في الجامع المذكور، وبعد سنتين توفي والده عن ثروة طائلة، وظهرت في أثناء ذلك فتنة عمومية في الأيالة التونسية على أثر انحلال مجلس الشورى، فشق ذلك عليه، وتمكنت علائقه مع خير الدين باشا من ذلك الحين؛ لاتفاقهما في النقمة على الحكومة.
وفي سنة 1290ه عاد خير الدين باشا إلى الوزارة الكبرى في تونس، فجاهر بيرم بنصرته، وصرح بآرائه السياسية على صفحات الجرائد. وهو أول من تجاسر على ذلك هناك، وأعجب الوزير بنشاطه وتعقله، فعهد إليه إدارة الأوقاف سنة 1291ه، فأحسن إدارتها ونظمها. وأصيب في السنة التالية بانحراف حمله على السفر إلى أوروبا للاستشفاء، ولقي في باريس المارشال مكماهون فأكرمه. وحضر المعرض العام، وشاهد كثيرا من ثمار قرائح أهل هذا التمدن، فلما عاد إلى تونس أخذ في تنظيم مستشفاها على نحو ما رآه في مستشفيات أوروبا.
ووقع في أثناء ذلك بين قنصل فرنسا الكونت دوسانسي والحكومة التونسية نزاع على قطعة أرض كانت الحكومة منحته إياها لتربية الخيل على شروط أخل بها، فأرادت استرجاعها فأبى، وبينما هي تنازعه وتجادله عليها ذهب الوزير وهو - يومئذ - مصطفى بن إسماعيل إلى تلك الأرض، ودخلها عنوة في زمرة من أعوانه، فاغتنم القنصل هذا التعدي لتمكين سيادة دولته في تونس، فرفع أمره إليها، وطلب عزل الوزير، فخاف هذا وأسرع إلى الترضية، فعينوا لجنة تحكيم كان بيرم أحد أعضائها، فأخذ جانب الدفاع عن الحكومة بكل قواه، وكان نحيف البنية مصابا بمرض في الأعصاب الموصلة بين المعدة والقلب، مع ضعف شديد في الدم، يستخدم المورفين لتسكين آلامه، فأثر ذلك في صحته، واضطر أن يشخص إلى باريس للاستشفاء، وأما اللجنة فصدر حكمها لمصلحة القنصل.
ونهض التونسيون على أثر ذلك يطلبون الجنوح من الحكم الاستبدادي إلى الشوري، وسعوا في ذلك سعيا حثيثا لم يأت بنتيجة؛ لأن أمير البلاد - يومئذ - لم يعضد مطالبهم، ويقال إن ذلك كان بتحريض فرنسا؛ لأنها تعتقد أن الحكومة الدستورية تخالف مصلحتها هناك، وأما بيرم فقد كان في مقدمة الراغبين في الشورى، وعاتبه الأمير على تعضيده الأهالي في مطالبهم، فأجابه بحرية لم يعهد مثلها وبين له خطأه.
وتوجه تلك السنة إلى باريس كالعادة، واغتنم وجوده هناك فرفع إلى غمبتا تقريرا مسهبا يشكو فيه سوء تصرف القنصل ووقوفه في سبيل كل مشروع نافع للبلاد، وبلغ خبر ذلك إلى القنصل، فزاد غضبا ونقمة، واتفق في أثناء طلب التونسيين الشورى أن الدول كانت مشغولة بخلع إسماعيل باشا خديوي مصر، وكان الصدر الأعظم في الآستانة - يومئذ - خير الدين باشا، ونظرا لما يعلمونه من علائق بيرم بخير الدين استنتج الفرنساويون أن مطالب التونسيين لم يكن الغرض منها إلا فتح السبيل لمداخلة الباب العالي، واتهموا صاحب الترجمة أنه الواسطة بذلك، ولما بلغه الخبر استعفى من منصبه في تونس وعزم على البقاء بعيدا عنها، ولكنه عاد إليها بعد إلحاح أصدقائه.
وكان قد فهم وهو في باريس رغبة فرنسا في ضم تونس إلى أملاكها ضما كليا، وأنها أغرت الوزير مصطفى فمالأها طمعا بالترقي، فذهبت آمال صاحب الترجمة بإنقاذ بلاده، فعزم على الخروج منها، فلم تأذن الحكومة بسفره، فاحتال بطلب الرخصة للحج، فأذن له فخرج سنة 1296ه، وجاء مصر وسافر منها إلى الحرمين، ثم يمم سورية فالقسطنطينية، فأحسنت الدولة وفادته، ولكن الوزير التونسي كتب إلى الباب العالي بإرجاع الشيخ بيرم؛ لأنه لم يقدم حسابا عن إدارة الأوقاف التي كانت في عهدته، فنصره خير الدين ولم يسلمه. ولما تم لفرنسا ضم تونس إلى أملاكها سنة 1298ه عزلت الوزير مصطفى وعاملته معاملة الخائن.
واشتغل الشيخ محمد بيرم في أثناء إقامته في الآستانة بالكتابة والتحرير، وراعى صحته فتحسنت كثيرا وقل استعماله للمورفين، وكانت وجهته النظر فيما آل إليه حال البلاد الإسلامية من طمع الأجانب، ووصف الأدوية لملافاة ذلك، ولم يجد الكلام نفعا.
ولما تحقق رسوخ قدم فرنسا بتونس يئس من العودة إليها، فأراد أن يكون قريبا من أهله، فانتقل إلى مصر بعد الحوادث العرابية سنة 1884م. وقد باع أملاكه في تونس ونقل عائلته منها، وأنشأ في مصر جريدة سياسية اسمها «الإعلام»، تصدر ثلاث مرات في الأسبوع، ثم صارت أسبوعية، وكانت خطتها محاسنة الإنجليز والاستفادة منهم، فانتقد بعضهم عليه هذه الخطة؛ لأنها تخالف ما كان عليه في تونس، وأنه إنما هجرها فرارا من الحكم الأجنبي، فكيف يكلف المصريين عكس ذلك؟
ولكن الذين يرون رأيه كانوا يعتذرون بأنه إنما حث على محاسنة الإنكليز والاستفادة منهم؛ لأن معاكستهم وأمر البلاد في أيديهم لا يجدي نفعا، وأن مجافاة الفرنساويين أوجدت أسبابا ساعدتهم على ضم تونس إلى بلادهم. وقد ألجأه إلى انتهاج هذا المسلك أيضا ما قاساه من ظلم الحكم الاستبدادي في تونس، وما آنسه من العوامل المحركة في مصر بإغراء بعض الأجانب الذين يغرون صدور الناس على حكامهم مما يعود بالضرر.
واضطر بعد إقامته سنتين بمصر أن يعود إلى أوروبا، فتمم سياحاته فيها وعاد إلى مصر، فعينته الحكومة سنة 1889م قاضيا في محكمة مصر الابتدائية، وكثيرا ما كلفته الوزارة كتابة ملاحظاته على القضاء الشرعي؛ لأنه كان واسع الاطلاع فيه، وما زال عاملا مجتهدا رغم ما يعتوره من المرض، حتى توفي سنة 1307ه/1889م.
وقد خلف آثارا كتابية، أكبرها كتاب صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار، طبع في مصر في خمسة أجزاء، وهو عبارة عن رحلة عامة في أوروبا ومصر والشام والحجاز وغيرها، وذكر فيها كثيرا من الحقائق التاريخية والاجتماعية عن بلاد العرب وتونس والجزائر، لا تجدها في كتاب آخر، وأكثرها شاهده بنفسه، أو كان داخلا فيه؛ ولا سيما تاريخ تونس والجزائر.
وله ما خلا ذلك رسالة «تحفة الخواص في حل صيد بندق الرصاص»، ومختصر في فن العروض، ورسالة في «التحقيق في شأن الرقيق» بحث فيها عن كيفية معاملة الرق عند المسيحية، وأن منع الحكومات الإسلامية لتجارة الرقيق شرعي، وكتاب «تجريد الأسنان للرد على الخطيب رينان» رد فيه على ما كتبه رينان في الإسلام والعلم، ورسالة في جواز ابتياع أوراق الديون التي تصدرها الممالك الإسلامية حتى تبقى أموال المسلمين في بلادهم، ولا يحجبهم عنها اشتباه الربا، وهو لا ينطبق في هذه الحالة عليها، وألف كتابا مسهبا في شأن التعليم بمصر، ذهب فيه إلى وجوب انتشاره باللغة العربية لسهولة تناوله وتعميمه بين طبقات الناس.
وله كتابات أخرى لم نقف على أسمائها، ويؤخذ من مجملها أن صاحب الترجمة كان من محبي الإصلاح وتقريب المسلمين إلى عوامل التمدن الحديث، وإزالة ما قد يعترضهم من أشباه الموانع الدينية على نحو ما كان يفعله الشيخ محمد عبده (رحمهما الله).
الفصل الثاني والأربعون
نقولا توما
ولد في صور، وقد نفدت ثروة والده، ونشأ وهو يسمع ما كان لهم من سعة الرزق. وكان فيه نشاط وهمة وذكاء، فانصرفت أفكاره إلى إنهاض عائلته، والأخذ بيد والده الشيخ. وقبل أن يدرك السادسة من عمره أخذ في تلقي العلم ببعض المدارس الصغرى، ثم في مدرسة الآباء اليسوعيين، فظهر ذكاؤه ونبغ بين أقرانه، وسبق كثيرين منهم، وكان في حداثته ميالا إلى إلقاء الخطب، والأساتذة يلاحظون ذلك فيه ويبشرون والده أن ابنه سينبغ خطيبا.
نقولا توما 1853-1905م.
وكأنه رأى من والده عجزا عن القيام بأجرة تعليمه (ريال مجيدي في الشهر) فعرض على الآباء اليسوعيين أن يعلم بعض صفوف المبتدئين في مقابل أجرة تعليمه فأجابوه، واتفق أنه سمع بعض رفاقه من آل أبيلا يتباحثون في بعض المسائل النحوية، فرغب في النحو والتوسع فيه فوق ما تدرسه تلك المدرسة، فبث أمره إلى والده، فأخذ يبحث عن المعلم وأجرة التعليم، فوجد أن المعلم هو عم أولئك التلامذة، الخواجة ميخائيل أبيلا، فمضى إليه وقص رغبة ابنه عليه، فتبرع الخواجة أبيلا بتعليمه مجانا، وصاحب الترجمة - يومئذ - في الثانية عشرة. وقد كبر عليه أن يتعلم بدون أجرة أو ما يقوم مقامها، فجعل يخدم معلمه في جميع مصالحه جهد طاقته، وكان قوي الحافظة، فتعلم النحو وبرع فيه، ومال إلى الشعر فدرس العروض.
ولم تمض عليه سنة في هذه الدروس حتى عزل والده من وظيفته بالكمرك، وزادت ماليته ضيقا، فتنغص الغلام فاستشار والده في الذهاب إلى بيروت ليعمل عملا يعينه فيه على المعاش، فأبى إلا أن يتم دروسه، فأدخله مدرسة المعلم بطرس البستاني في بيروت. واتفق أن أخته كانت مقيمة مع زوجها هناك، ورأت في أخيها ذكاء ورغبة في العلم، فرتبت له معلما يعلمه الفرنساوية في بيتها، وحاطته أحسن حياطة وهو راغب في العمل، فعلم بعد نصف سنة أن جريدة التقدم تحتاج إلى محرر أو مترجم، فتقدم إليها فاستخدموه فيها براتب زهيد، فكان ذلك أول اشتغاله بالصحافة وهو لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره.
وأخذت مواهبه تظهر من ذلك الحين، وعمد إلى استحثاث رفاقه على تأسيس جمعية وطنية لم يتم له إنشاؤها. وكان خاطره مع ذلك قلقا على حال عائلته بعد أن أقيل والده من وظيفته، فاغتنم قدوم والي سورية لتمضية فصل الشتاء في بيروت ونظم قصيدة رفعها إليه، فأمر له بجائزة على جاري العادة، فرفضها، فاستغرب الوالي ذلك منه واستقدمه وسأله عن سبب الرفض ، فقال: «إني رفعت إليك مديحي ألتمس منك أن تستخدمني في بعض دوائر الحكومة للقيام بأود عائلتي»، وقص عليه حديث والده، فأعجب بنباهته، فوظفه في قلم الأملاك والنفوس في قائمقامية صور، والتقى هناك بزوج عمة له اسمه نقولا الزهار، كان عالما بالفقه، فأحس بميل إلى هذا العلم فدرسه عليه، ثم أخذ يتبحر به لنفسه، حتى كثيرا ما كانوا يستقضونه في بعض الشئون، وكان من حداثته ميالا إلى الإعراب في كلامه، فإذا تكلم تكلم فصيحا معربا، وتعود ذلك حتى صار ملكة فيه إلى آخر أيامه.
قضى تلك الحداثة الضيقة ونفسه تطلب المزيد، ومطامعه لا ترضى غير العلى، والأحوال تقعده وتمنعه، فاتفق استقالة الوالي الذي استخدمه، ورأى مقاومة من رئيسه، فذهب إلى بيروت وقدم استعفاءه فأعفوه، فطلبه المطران أغابيوس الرياشي أن يتولى التدريس في مدرسة عين القش بلبنان، فأجاب. ووجد في تلك المدرسة مكتبة حافلة بالكتب المنطقية والفلسفية والتاريخية، فاستفاد من مطالعتها كثيرا. ولكنه عاد إلى مطامعه ورأى نفسه أكبر من أن تسعها تلك الحالة، فاستعفى، ونزح للإسكندرية في آخر سنة 1874م، وأخذ يبحث عن عمل يرتزق به، فوفق إلى وظيفة مترجم بمصلحة الملح، وظل ملازما التدريس في أوقات الفراغ، فرأى في تلك المصلحة فسادا، فانتقده، فعزلوه، فأتى القاهرة ونظم قصيدة رفعها إلى رياض باشا أرفقها بكتاب ذكر فيه أنه يستطيع عرض نظام مفيد لمصلحة الملح والوزير حر بقبوله أو رفضه، فاستحسن الوزير عزة نفسه وأجاب طلبه، فرفع عدة تقارير كان لها وقع حسن عند الحكومة، وعملت بمقتضاها، فأصدرت أمرها باحتكار الملح سنة 1879م، واعتمدت على صاحب الترجمة في كثير من مهامها، وارتقى في هذه المصلحة إلى وظيفة مفتش في المديريات، ولكن نفسه ما زالت تطلب المزيد، فاستقال سنة 1885م.
وكانت الصحافة العربية - يومئذ - لا تزال طفلة، ولها مع ذلك تأثير في دوائر الحكومة، والنفس الكبيرة ترى في صناعة القلم بابا لسد مطامعها في سبيل الشهرة، فضلا عن لذة الكتابة، فأخذ صاحب الترجمة يشتغل في تحرير جريدة مرآة الشرق. ثم سافر إلى باريس للسياحة، فلقي هناك المرحومين السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده. ورحل منها إلى لندن، وعرف في رحلته هذه عددا من رجال الفضل، واطلع على حقيقة التمدن، ورأى الدنيا كما هي، فعاد إلى مصر وقد عدل عن الصحافة إلى المحاماة، فلقي مشقة كبرى فاز في آخرها ونفسه لا تزال تميل إلى القلم، فاستخدمه في سبيل المحاماة، فأنشأ مجلة الأحكام المصرية، وكان لها شأن حسن في عالم الصحافة. على أن سعة أعماله في المحاماة أدت إلى إيقافها من عامها الثاني.
وظل مثابرا على تلك المهنة، ونبغ فيها حتى عد من أكبر رجالها، وامتاز عن معظم زملائه بفصاحة العبارة وإعرابها؛ فقد شهدناه في بعض مجالس القضاء يعرب الكلام ويلقيه فصيحا بليغا لا يتوقف ولا يتلجلج، مع جرأة واستقلال فكر، فلا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا يبالي أن يقول للمخطئ أخطأت، ولو كان قاضيا أو أميرا، فاضطغنت عليه صدور البعض، حتى إذا سنحت لهم فرصة حاسبوه فيها على عمل لا يعد في عرف المحامين ذنبا وإن كان القانون لا يسوغه، ورافق ذلك قرائن أخرى آلت إلى إخراجه من سلك المحامين وهو في إبان الحاجة إلى الراحة، وكان الأطباء قد أشاروا عليه بها منذ أعوام وهو لا يستطيع إيقاف تيار أعماله بعد أن اتسعت أشغاله وحام أصحاب القضايا حوله، فلما حكم عليه بالراحة كان ذلك لازما لصحته بعد أن أنهكها الجهاد في طلب العلى، وكأن الراحة أتت بعد فوات الفرصة، فذهب للاستشفاء في بعض مدن أوروبا، فقضى هناك في مدينة إفيان في 25 أغسطس سنة 1905م، وحملت جثته إلى مصر.
الفصل الثالث والأربعون
حسن باشا محمود
هو من أهل الدور الثاني للنهضة الطبية الأخيرة، باعتبار تفاوتهم في أسلوب التأليف واختلافهم في المصادر التي تلقوا العلم عنها، نبغ من بين العامة، وارتقى بجده واجتهاده حتى صار في أرقى طبقات الخاصة علما ووجاهة. ونبوغ العامة إلى طبقة الخاصة يكثر على الخصوص في أثناء الانتقال من عصر إلى آخر، أو من دولة إلى أخرى؛ إذ تصبح السعادة فوضى يتنازع الناس في اغتنامها فينالون منها على مقادير قواهم وحظوظهم.
ولد حسن باشا محمود في قرية صغيرة على طريق الأهرام يقال لها الطالبية، وتلقى مبادئ العلم في المدرسة الحربية، حتى إذا آن زمن الإرسالية العلمية لعام سنة 1862م - بعد وفاة المسيو جومار - أرسلوها إلى ألمانيا، وكان صاحب الترجمة في جملة أعضائها للتفقه في الطب، فأقاموا حينا في ميونخ يتعلمون بالألمانية، ثم أتموا دروسهم في فرنسا لأسباب أوجبت ذلك الانتقال، فعاد صاحب الترجمة إلى مصر سنة 1870م وبيده الدبلومة الطبية، فعينته الحكومة المصرية أستاذا للتشريح في مدرسة القصر العيني، ثم تولى تدريس علوم أخرى وراتبه يزداد والأنعام تتوالى عليه، وكان راغبا في الشهرة فانتظم عضوا في جمعيتين قبل رجوعه من باريس، فلما صار أستاذا في مدرسة قصر العيني انتدبته الأكاديمية البرازيلية لعضويتها، وعين عضوا في عدة مؤتمرات طبية، وتقلب في مناصب كثيرة بدوائر الأمراء، وفي المعية السنية، وفي مصلحة الصحة والمدرسة الطبية، وما زال يرتقي في ذلك حتى تولى إدارة مجلس الصحة، ثم رئاسة مدرسة الطب. وكان كثير التفكير في العمل والسعي في التقدم، ومن مساعيه أنه أنشأ مجمعا طبيا بمصر لم يطل عمره كثيرا.
حسن باشا محمود 1847-1906م.
وكان مع ذلك كثير الاشتغال في الكتابة والتأليف، وله مقالات طبية وعلمية تناقلتها الجرائد والمجلات، وتباحثت بها الأندية والجمعيات. أما مؤلفاته فأكثرها منقول أو ملخص عن الألمانية، ولكنه كان كثيرا ما يبث آراءه واختباراته فيها؛ أولها كتاب ألفه في الفرنساوية قبل رجوعه من باريس، موضوعه «داء الفقاع»، أتى فيه على تاريخ هذا الداء من أول عهد الطب إلى الآن، وذكر رأيه في كثير من أبوابه، وكان له وقع حسن عند أطباء الإفرنج.
وأكثر ما ألفه من الكتب بعد ذلك منشور بمصر في العربية؛ ككتاب الفرائد الطبية في الأمراض الجلدية، ذكر فيه كثيرا من الأمراض الجلدية الشائعة في القطر المصري، وكتاب الخلاصة الطبية في الأمراض الباطنية، وكتاب البواسير ومعالجتها، وتحفة السامع والقاري في داء الطاعون البقري الساري، وألف رسائل في حمى الدنج، وحمامات حلوان، والكوليرا، والنزلة الوافدة، ومقالات كثيرة نشر أهمها في المقتطف؛ منها مقالة ضافية في النباتات المصرية، ومقالات في الزراعة بوادي النيل والحشيش، والدمل المصري، والتراخوما، والسل، غير ما نشر من قلمه في المجلات الطبية بمصر وغيرها.
وبالجملة فقد كان (رحمه الله) عاملا نشيطا مجتهدا، مع رقة طباعه وسهولة أخلاقه ورغبته في خدمة وطنه بما يبلغ إليه إمكانه.
الفصل الرابع والأربعون
جميل المدور
هو جميل بن نخلة المدور، ولد في بيروت ببيت مجد وأدب، وخدم آداب هذا اللسان خدمة حسنة يذكرها له التاريخ ما بقيت اللغة العربية، نعني كتابه «حضارة الإسلام في دار السلام»، فإنه من الآثار الباقية، وقد مثل به ما بلغت إليه الدولة العباسية من أسباب الثروة والترف والعز والسؤدد، برسائل على لسان رحالة فارسي قدم بغداد في أوائل تلك الدولة، فلقي المهدي والرشيد وغيرهما، ووصف حال تلك الدولة سياسيا واجتماعيا وأدبيا وتجاريا على أسلوب بليغ تلذ مطالعته، وأشار في الحاشية إلى المآخذ التي نقل عنها. من ذلك قوله على لسان ذلك الرحالة يصف دار الخلافة وداخلية بيت الرشيد:
لقد مضى بي في بغداد بعد العودة من خراسان نحو من ست سنين، ما زلت منقطعا فيها إلى البرامكة، وحافظا لمقامي في الدولة تحت ظلهم وعنايتهم، وكنت أتردد في خدمتهم إلى دور الخلافة فأقف على أحوال الرشيد في داخليته وأهل بيته، فرأيته - أعزه الله - صالح السيرة، شديد الإعراق في الدين، محافظا على أوقات الصلاة
1 ، وشهود الصبح لأول وقتها، يصلي في كل يوم وليلة مائة ركعة، لا يتركها إلا لعلة تطرأ عليه، وأذكر أنه لما حصل في العام لزنة وغلاء سعر للناس، واشتد الكرب عليهم اشتدادا عظيما، أمرهم بكسر الملاهي وكثرة الدعاء والتوبة
2 ؛ فذلك دليل فيه على حسن العبادة، أو مظهر يروم منه تأييد الدولة بإيهام الأئمة والعلماء أن الإسلام مغتبط بمناحيه.
ولئن كنت رأيت له في تدبير المملكة ذلك التصرف الجميل فإني ما وجدته له في تدبير أهل بيته ومواليه، وإنما يرجع الرأي في ذلك إلى زوجه أم جعفر، وهي أنفذ نساء العباسيين كلمة في الدولة ؛ إذ كانت خير بنات بني هاشم، وقد ربيت على مهاد الدعة والدلال، كما يشير اسمها إليه، فإنها سميت بزبيدة لغضاضة بدنها
3 ، وكان جدها أبو جعفر يرقصها تهللا بها
4 ، وينظر إلى غضاضتها وملاحتها فسماها بزبيدة لذلك، فلما بنى بها الرشيد، ووجدها طرفة حديث ومصدر رأي جميل، لم ير بدا من الانقياد إليها في قضاء جميع ما ترومه من الحوائج
5 ، حتى إذا مكنها من بيوت المال أنفقت من سعة ما ينيف عن ثلاثين ألف ألف دينار، فبنت مسجدا مباركا على ضفة دجلة بمقربة من دور الخلافة يسمى بمسجد زبيدة
6 ، ومسجدا سامي الحسن في قطيعتها المعروفة بقطيعة أم جعفر
7
بين باب خراسان وشارع دار الرقيق
8 ، وحفرت العين المعروفة بعين المشاش بالحجاز، ومهدت الطرق لمائها في كل خفض ورفع وسهل ووعر
9 ، حتى أخرجتها من مسافة اثني عشر ميلا إلى مكة
10 ، فبلغ جملة ما أنفقت عليها ألف ألف دينار وسبعمائة ألف دينار
11 ، وهذا من الأعمال التي لم تباشرها امرأة في الإسلام إلا الخيزران أم الرشيد؛ فإنها عمرت كثيرا من المساجد
12
أيضا، وبنت دار ابن يوسف بمكة التي ولد فيها النبي
صلى الله عليه وسلم
مسجدا جزيل البركة
13 ، وتوفرت عندها الأموال حتى بلغ الذي خلفته مع ما توسعت فيه من النفقة مائة ألف ألف درهم
14 ، فإن لم يكن لزبيدة من الأموال الخاصة ما يبلغ هذا القدر الجسيم فإن لها بالسياسة رأيا يسمو بها إلى التداخل في أمور الدولة كأفطن ما يكون من الرجال.
وقد صير الرشيد الأمر في داخلية بيته بعد زبيدة إلى مسرور خادمه العبد
15 ، وهو حاجبه وسيد مواليه
16 ، وله في قصور الخلافة دواوين يقيم فيها حوزته من خدم وحرس وغلمان، والكاتب له هو زياد بن أبي الخطاب
17 ، يقيم بمقربة من مجلس يوسف بن القاسم صاحب ديوان الإنشاء، والذي قام
18
بين يدي الرشيد حين أخذت له البيعة على المسلم. وفي ذلك دليل على مكان كتابه من الشرف وعلو المرتبة، ولا غرو فإن له من نفاذ الكلمة في الدولة ما ليس للأمراء والحكام مثله؛ إذ كان سيد دور الخلافة والحارس لها، لا يدخلها شيء ولا يخرج منها شيء إلا بعلمه وإذنه، وكثيرا ما كنت أرى الملوك يتزلفون بالهدايا إليه ليخاطب الرشيد في حاجاتهم؛ إذ ليس في أهل بيته من يتجرأ عليه سواه
19 ، حتى كان إذا ركب لا يجسر أحد على سؤاله إلى أين يذهب غيره
20 .
وإلى مسرور هذا الخصي الأمر فيما هو خاص بالسراري والقيان، وإنهن لكثيرات في دار الرشيد، يبلغن زهاء ألفي
21
جارية، يرفلن في أحسن زي من كل نوع من أنواع الثياب والجوهر ... غير أن المقدم عليهن ثلاث أهداهن إليه الفضل بن الربيع: سحر وضياء وخنث ذات الخال، لهن صورة تستنطق الأفواه بالتسبيح، وعيون لا ترتد إلا باقتناص النفس، وهن اللواتي يهواهن ويقول فيهن الشعر
22 ؛ ومن ذلك قوله:
أخذت سحر ولا ذنب لها
ثلثي قلبي وترباها الثلث
إن سحرا وضياء وخنث
هن سحر وضياء وخنث
وكنت إذا حضرت مجلسه وهن يغنين له من وراء الستارة، ومعهن غانية منقطعة إلى حمدونة بنته يقال لها دقاق، لم يطق الستر أن يحجبهن عن نظره، فيخرجهن إليه ويقول : والله، لا صبر لي على الحجاب، وإنما هو ضعف يميل بي مع هوى النفس.
أما حريم الخلافة فإنه دوائر كبيرة لا اتصال لها في بعض، ولكل هاشمية من بنات الخلفاء دائرة منفردة عما سواها من الدوائر، وأعظمها دائرة أم جعفر، ودائرة أولاد المهدي، ودائرة أولاد الهادي، ودائرة أولاد الرشيد من غير زبيدة زوجه، ولهن جميعا من الخدم والغلمان والخصيان ما ينتهي إليه إسراف الملوك في السعة، ويتجلى به جمال السلطان بالزينة والإشراق، وحسبي من انغماسهن في النعيم وتقلبهن على مهاد الدعة والرخاء أنهن يجلسن على فرش الحرير، ويتخذن المخدات حشوها من الورد النثير ...
وكنت أرى الجواري من خدم الحاشية يلبسن الوشي المنسوج بالذهب، ويتخذن العصائب مكللة بالجوهر. وهذه هي الزينة التي عمت نساء القصر؛ اقتداء بعلية أخت الرشيد؛ إذ كانت أول من اتخذ العصائب لعيب في جبينها، فسترته بها، فكان ذلك أحسن ما ابتدعته النساء، ثم اتخذها بعدها سحاء جارية إسحاق النديم، وفريدة ومنة من مغنيات البرامكة، حتى انطلق استعمالها في جميع النساء، وصرن يكتبن عليها الكلام الذي يروق لأهل الهوى ...
وكل الكتاب على هذا النسق البديع، وللمؤلف كتاب في تاريخ بابل وآشور صححه الشيخ إبراهيم اليازجي. وحب الفقيد للعلم والأدب موروث من المرحوم والده نخلة المدور. وللوالد فضل كبير على آداب اللغة العربية بطبع كتاب «مجمع البحرين» لليازجي الكبير، طبعه على نفقته يوم كانت بضاعة الأدب كاسدة، فبذل المال في نشر ذلك الكتاب رغبة في نشر العلم، فنظم الشيخ ناصيف اليازجي - يومئذ - في الثناء عليه قصيدة قال في جملتها:
إذا عدت رجال العصر يوما
فإنك واحد بمقام ألف
الفصل الخامس والأربعون
المطران يوسف الدبس
(1) ترجمة حاله
أصل عائلته من غزير بلبنان، وانتقل جده في أواخر القرن الثامن عشر إلى كيفا، ثم استقر أبوه في كفر زينا من زاوية طرابلس، فولد له صاحب الترجمة سنة 1833م، فتلقى مبادئ العلم في مدرسة القرية، فلما بلغ الرابعة عشرة أدخل مدرسة عين ورقة، وهي أرقى مدارس الطائفة المارونية في ذلك العهد، فتلقى فيها اللغات العربية والسريانية واللاتينية والإيطالية والمنطق واللاهوت الأدبي في مدة أقصر مما تقدره لها المدرسة، واضطر مع ذلك أن يغادر المدرسة سنة 1850م، ولم يمكث فيها إلا ثلاث سنوات، فأتم ما ينقصه من العلم بالدرس على نفسه؛ لأنه كان عالي الهمة ثابتا صبورا.
المطران يوسف الدبس 1872-1907م.
ومدارس لبنان في ذلك العهد كانت تعد تلامذتها على الغالب إما للتعليم أو للكهانة، إلا من رحل منهم في طلب الرزق. ولم يكن صاحب الترجمة انتظم بالكهانة فعمد إلى التدريس، فافتتح سنة 1851م مدرسة بطرابلس يعلم بها العربية، ويغتنم الفراغ للمطالعة والدرس، وعرف بين أقرانه بالنشاط وتوقد الذهن، فاستقدمه مطران أبرشية طرابلس سنة 1853م وكلفه ترجمة كتاب اللدع ودحضدها، ففعل.
واتفق في السنة التالية وفاة البطريرك يوسف الخازن، وقيام البطريرك بولس مسعد، وكانت للدبس صحبة مع أحد مطارنته، فاستقدمه البطريرك وأقامه معلما في مدرسة ماري يوحنا مارون، ثم آنس منه نفعا للطائفة؛ إذ انتظم في خدمتها، فجعله سنة 1854م شماسا، وأخذ يرتقي في رتب الكهنوت، فلم يمض عليه ثماني عشرة سنة حتى صار مطرانا على بيروت، وهو المنصب الذي توفي فيه، وإنما ارتقى إليه على أثر ما بدا من غيرته على الطائفة، وسعيه في خدمتها بالدفاع عنها بلسانه وقلمه بما خطبه أو ترجمه أو ألفه. وازداد بعد توليه المنصب اجتهادا في هذا السبيل، فارتقت الطائفة على عهده، واجتمعت كلمتها بما كان يبثه فيها من روح الغيرة، وما كانوا يرونه من سهره على مصلحتهم، ودفاعه عن حياضهم.
ومما زاده رفعة في أعينهم حتى استهلكوا في خدمته، أنه كان لا يطعن طاعن في المارونية إلا انبرى للدفاع عنها بتأليف الردود، وأشهر حرب من هذا القبيل انتشبت بينه وبين المطران يوسف داود، فقد احتدم الجدال بين الرجلين نحو سنة 1871م، وكلاهما عالم قوي الحجة، فأجادوا في الأخذ والرد بما يلائم روح ذلك العصر من المناظرات الطائفية التي يعافها أهل هذا الجيل. وأشهر ما ظهر من آثار صاحب الترجمة في سبيل الدفاع كتاب روح الردود، وقد ترجم إلى اللاتينية والفرنساوية، وطبع غير مرة.
وقد زاد الطائفة تمسكا به وتفانيا في تعظيمه سعي بعض حساده في تحقيره بوشاية رفعوها إلى رومية، فلما ظهرت براءته عاد مكرما مبجلا، واحتفل رعاياه باستقباله احتفالا احتشدت فيه الجموع من لبنان وبيروت، فقيلت الخطب، ونظمت القصائد، وتواردت عليه رسائل التهنئة بما لم يسبق مثله لمثله، وذلك طبيعي في سير الرجال العظام؛ فإن ما يلاقونه من المشاق أو يقام في طريقهم من العقبات يضاعف شهرتهم؛ لأنه يحمل مريديهم على المناداة بفضلهم وإذاعة آثارهم، وينشطهم على العمل. ما من عظيم لولا العقبات التي أقامها أعداؤه في سبيله لظل خامل الذكر، أو اقتصر في جهاده على بعض ما يستطيعه من الأعمال، فالرجل العاقل إذا كان على ثقة من نفسه وجب عليه أن يسر بما يقيمه أعداؤه أو حساده من العقبات في طريقه؛ لأن بالضغط والمقاومة تظهر القوى الكامنة، ويوافق ذلك قول الشاعر:
عداي لهم فضل علي ومنة
فلا أبعد الرحمن عني الأعاديا
هم عرفوني زلتي فاجتنبتها
وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
وفي سنة 1897م انقضت السنة الخامسة والعشرون من مطرانيته، فاحتفلت الطائفة بيوبيله، وكان قدوة حسنة لأبناء ملته، فتسابقوا إلى الأعمال المبرورة بإنشاء الجمعيات الخيرية، والأخذ بيده في مشروعاته، وما زال عاملا حتى توفاه الله، وقد رحل إلى أوروبا خمس رحلات زار بها رومية، ومر بالآستانة، ونال كثيرا من أوسمة الدولة العلية وفرنسا وغيرها. (2) مآثره
مكث صاحب الترجمة في مطرانية بيروت 35 سنة، أتى في أثنائها أعمالا تخلد ذكره، بعضها كتب والبعض الآخر أبنية كالمدارس والكنائس والأديرة، غير ما خلفه من الأثر الحسن في نفوس رعيته من الاقتداء باجتهاده وفضله. أما الكتب فبعضها من تأليفه أو ترجمته قبل المطرانية وبعدها، والبعض الآخر نقحه وهذبه، ومجموع ذلك 35 كتابا؛ إليك أشهرها:
مؤلفاته: (1)
تحفة الجليل في تفسير الأناجيل. (2)
معجم للفقه، لم يطبع. (3)
مغني المتعلم عن المعلم بالنحو (مدرسي). (4)
مربي الصغار ومرقي الكبار (مدرسي). (5)
سفر الأخبار في سفر الأحبار (رحلة). (6)
روح الردود على المطران يوسف داوود. (7)
خطبة في الفلسفة واللاهوت، ثلاثة أجزاء . (8)
تاريخ سورية، مطول ومزين بالرسوم في تسعة مجلدات.
ترجماته: (1)
كتاب البدع ودحضها. (2)
كتاب الرسوم الفلسفية، لم يطبع. (3)
كتاب اللاهوت الاعتقادي، 4 مجلدات. (4)
كتاب الحق القانوني، لم يطبع.
ما نقحه وطبعه: (1)
كتاب تفسير رؤيا يوحنا للقس يوسف الباني. (2)
القداس. (3)
الرسائل وكتب الجنازات والأفراميات والحسابات والشحيم الكبير. (4)
الكاتيكزمو الروماني، وذخيرة الألباب، وغيرها.
مشروعاته: (1)
مدرسة الحكمة: وهي من أكبر مدارس بيروت، تم بناؤها سنة 1878م، وقد مضى عليها نحو ثلاثين سنة وهي تعلم العلوم واللغات، فتخرج فيها جماعة كبيرة من شبان هذه النهضة، وأنشأ من تلامذتها وكهنتها جمعية علمية لها حفلات وأعمال. (2)
الكنيسة الكاتدرائية الكبرى في بيروت: فرغ من بنائها سنة 1894م، وقد أنفق عليها نحو 20000 ليرة، وبنى كنائس أخرى ومدارس ونحوها، فبلغ مجموع ما أنفق عليها كلها وعلى مدرسة الحكمة 70000 ليرة، ولم يكلف الأبرشية من هذه النفقات قرشا واحدا، وإنما كان يجمعه بسعيه وحسن أسلوبه.
الفصل السادس والأربعون
سليم مخائيل شحادة1
ولد في بيروت يوم الثلاثاء في 14 ديسمبر سنة 1848م، في بيت عرف بالفضل والعلم ، فدرس في المدرسة الأرثوذكسية الكبرى المعروفة بالثلاثة أقمار (التي أسست أولا في سوق الغرب نحو سنة 1852م) على أشهر أساتذة عهده؛ ولا سيما إلياس حبالين، فأتقن عليه الفرنسية والعربية على بعض الأساتذة، ثم درس الإنكليزية والعلوم على بعض المرسلين، وتعمق في التاريخ والجغرافية، وانقطع إلى مكتبته الغنية بالمؤلفات المطبوعة والمخطوطة (مجلة المشرق 10-961)، وتبحر في المعارف، وتبسط في التاريخ تبسطا كافيا، وكان يتمرن بمساعدة والده مخائيل شحادة في القنصلية الروسية التي دخلها في سنة 1866م.
وعرف بأصالة رأيه، وحصافة عقله، ومقدرته في اللغتين العربية والفرنسية، وله مع والده اليد الطولى في تأسيس الجمعية الخيرية الأرثوذكسية في مدينة بيروت، فترأسها نحو سبع عشرة سنة، وتولى إدارة شئون مدارسها نحو عشر سنوات، فنجحت وازدهرت. وفي أثناء ذلك تجددت الجمعية السورية العلمية سنة 1868م بعهد المغفور لهما راشد ناشد باشا والي سورية، وكامل باشا متصرف لواء بيروت، فانتظم المترجم في سلك أعضائها العاملين. ونحو سنة 1880م تجدد انتظامها ثانية باسم المجمع العلمي الشرقي. وكان من أهم أعضائها من نذكرهم بحسب الحروف الهجائية: إبراهيم الحوراني، إبراهيم اليازجي، أسبر شقير، الدكتور إسكندر بك البارودي، بطرس البستاني، جرجس همام، جرجي زيدان، جرجي يني، سليم البستاني، سليم شحادة، سليم نوفل، الدكتور فارس نمر، الدكتور كرنيليوس فانديك، مراد بك البارودي، نعمة يافث، الدكتور يعقوب صروف، الدكتور يوحنا ورتبات وغيرهم.
فألقى المترجم - مثل كثير من زملائه الأعضاء - خطبا شائقة؛ منها رسالات سنيكا الفيلسوف الروماني إلى لوسيليوس، نشرت في المجموعتين الثامنة والتاسعة لأعمالها. ولما نشرت جريدة حديقة الأخبار لصديقه المرحوم خليل الخوري باللغتين الفرنسية والعربية سنة 1870م حسب طلب المغفور له فرنكو باشا ثاني متصرفي لبنان، كان المترجم ينشئ القسم الفرنسي مع زميله المرحوم سليم شقيق صاحب الحديقة، وله فيها مقالات تشهد بطول باعه في السياسة والإنشاء.
وعلى منضدة مكتب تلك الجريدة اتفق السليمان على وضع «آثار الأدهار» في التاريخ والجغرافية، وساعدهما في بعض أبوابه المرحوم أديب إسحاق الكاتب الشهير، فطبعا الجزء الأول من القسم الجغرافي في أوائل سنة 1875م بالمطبعة السورية في 192 صفحة، ثم على أثر ذلك هصرت المنية زميل المترجم بالهواء الأصفر، فبقي هو مثابرا وحده على العمل، وطبع الجزء الثاني في 15 نوفمبر سنة 1875م، والثالث في 12 مارس سنة 1876م، ثم الجزأين الرابع والخامس، وجميعها الآن في مجلد واحد لم تتجاوز حرف الباء، وصفحاتها 980 صفحة بقطع كبير في عمودين بحرف من الجنس الثاني، ونهاية مباحثه بعض تاريخ بلجيكا. ومن فوائده أنه ذكر فيه جميع قرى ومدن سورية وأوروبا وأميركا ... إلخ، القديمة والحديثة، وما تقلب عليها، وتاريخ نشأتها ومميزاتها، ومن إنصاف المترجم أنه أبقى جميع الأجزاء باسمه واسم زميله الذي عاجلته المنية على أثر إنجاز الجزء الأول.
أما القسم التاريخي فطبع الجزء الأول منه سنة 1877م في 384 صفحة، وحفظ فيه اسم زميله بعد أن مضى على وفاته سنتان؛ وفاء بحقوق الإخاء، ورفع الكتاب بقسميه خدمة للأعتاب السلطانية، وصدر القسم التاريخي بمقدمة في فلسفة العمران صدرها بالبحث عن الإنسان وشئونه، ثم استرسل إلى علم التاريخ وأحواله ومنشئه ونتائجه وتقسيمه في 14 صفحة بقطع الكتاب وحرفه، وجاء بما لم يجئ به إلا كبار علماء العمران.
وعلى الجملة، فإن آثار الأدهار هو أول دائرة للمعارف التاريخية والجغرافية في اللغة العربية، مرتبة على الحروف الهجائية، وافية المباحث المفيدة، وعلى أنقاضه قامت دائرة المعارف العربية التي أسسها المرحومان بطرس البستاني وولده سليم، ولقد ذكر الآثار كثيرون من المستشرقين.
ولما أنشأ الصحافي الشهير خليل أفندي سركيس اللبناني مجلة «المشكاة» أنشأ المترجم فيها مقالات هامة في تاريخ الأندلس، وتراجم أهله ونوادرهم، ونشر في المقتطف مقالة ضافية في الجغرافية وجغرافيي الإسلام. وأنشأ سنة 1885م مجلة ديوان الفكاهة الروائية القصصية، بشركة صديقه المرحوم سليم بولس طراد.
وكان رفيع المنزلة بين أصدقائه، وجيها في قومه، تولى الترجمة في القنصلية الروسية أعواما عديدة، فأنعم عليه القيصر بوسام القديسة حنة الثالث سنة 1902م، فقضى حياته يخدم السياسة والعلم، واشتغل في أواخر أيامه بوضع تاريخ مطول للكنيسة لم يتمه، وتوالت عليه المحن في أواخر عمره بوفاة معظم إخوته ووالديه، فأثر به الحزن فأصيب بعلة قلبية ذهبت بحياته في 15 أكتوبر سنة 1907م في سوق الغرب، فحمل إلى بيروت ودفن فيها.
الفصل السابع والأربعون
الدكتور يوحنا ورتبات
أستاذ التشريح والفسيولوجيا في المدرسة الكلية السورية (1) فضل الإرسالية الأميركية في سورية
لكل الإرساليات الدينية فضل على سورية، ولكن للإرساليات الأميركية ما عدا مدارسها العالية التي تخرج فيها الألوف من الشبان والشابات في العلم والطب والصيدلة والتجارة ومشروعاتها الخيرية التي أعالت الألوف من المعوزين وذوي الأسقام فضلا يربو في نظر الباحث الاجتماعي على كل ما تقدم؛ نعني تربية الأخلاق.
إن فضل المرسلين الأميركان في هذا السبيل لا يمكن تقديره حق قدره؛ إنهم بلا خلاف من أكبر دعائم هذه النهضة العلمية، ولعلنا لا نغالي إذا قلنا إن هذه التربية كانت في جملة الأسباب التي مهدت السبيل لإعلان الدستور؛ لأنها ترقي نفوس الشباب، وتعودهم استقلال الفكر، والاعتماد على النفس، والصراحة في القول، والمجاهرة بالرأي، فيخرج الطالب من مدرستهم رجلا يثق بنفسه، فيبث هذه الروح بين أهله، وينشأ مقداما لا يبالي بالأسفار في استدرار الرزق أو طلب العلى.
الدكتور يوحنا ورتبات 1827-1908م.
ناهيك بما استفاده السوريون من جوارهم بالقدوة؛ ولا سيما في أوائل هذا العصر؛ لمسيس الحاجة إلى الإصلاح، ولتفرد بعض المرسلين - يومئذ - بمناقب تجذب القلوب وتستهوي العقول، فيحلو للنفس تقليدها والاقتداء بأصحابها. إذا جمعت هذه الحسنات وغيرها مما لا محل له هنا، هان عليك تصور فضل الإرسالية الأميركية. وإنما عمدنا إلى ذكر هذا الفضل الآن لنتطرق منه إلى سبب ظهور صاحب الترجمة أستاذنا المرحوم الدكتور ورتبات؛ لأن ظهوره من جملة أفضال تلك الرسالة - كما سترى. (2) أصله أرمني
كان للرسالة الأميركية عمل في بر الأناضول قبل عملها في سورية، وكان الإنكليز قد سبقوها إلى هناك وفيهم القسيس والقنصل والتاجر والكاتب، فأخذوا بناصرها وأصبح مرجع الأميركان في شئونهم إلى سفير إنكلترا في الآستانة. ولكن الآباء اليسوعيين كانوا أسبق الجميع إلى التعليم والتبشير هناك، ولهم شأن خاص في أرمينيا، فقد دخلوها ونشروا الكثلكة فيها من أواسط القرن الخامس عشر، فظهرت طائفة الأرمن الكاثوليك، وعرف الباقون باسم الأرمن الأرثوذكس، وكانوا أقل علما وأضعف عزيمة؛ لتفوق الكاثوليك بالعلم والنظام واجتماع الكلمة مع ارتباطهم برومية، فاضطر الأرثوذكس أخيرا إلى استنجاد بطرس الأكبر قيصر الروس فحماهم؛ ولا تزال كنيستهم تحت حماية روسيا مثل سائر الكنائس الأرثوذكسية في الشرق الإسلامي.
وللكنيسة الأرمنية ثلاث طبقات من الإكليروس، وهي الأساقفة والكهنة والشمامسة؛ والأساقفة ثلاث درجات: (1)
رئيس الأساقفة. (2)
الأسقف. (3)
نائب الأسقف، ويسمونه في اصطلاحهم «ورتباد»، وهو في الأصل يقابل لقب «دكتور في اللاهوت».
ففي أواخر القرن الثامن عشر - أو أوائل التاسع عشر - حدث في أرمينيا حادث بعث على مهاجرة جماعة من كبار الإكليروس الأرمني، نزحوا من أرمينيا إلى بر الاناضول، وصل إلينا أسماء ثلاثة منهم؛ وهم أسقفان:
أحدهما:
قرابيب ديونيسيوس.
والثاني:
يعقوب أبكاريوس.
والثالث:
كان برتبة ورتباد - التي تقدم ذكرها، ثم قيل بالتحريف «ورتبات» - ولم نقف على اسمه.
لا نعلم سبب تلك المهاجرة، وقد يكون السبب اختلافا في المذهب أو الرأي، ويقال إن الكنيسة الأرمنية ادعت عليهم أنهم تصرفوا بأموال دير أو كنيسة هناك، فلم يجدوا من ينصفهم فانضموا إلى الكنيسة الإنجيلية، ولجئوا إلى سفير إنكلترا في الآستانة اللورد ستراتفورد، فلما تفحص قضيتهم اعتقد براءتهم، فأخذ يناصرهم، وتوسط في إطلاق سراحهم، وأشار عليهم بالذهاب إلى سورية، وأرفقهم بكتب توصية إلى قنصل الإنكليز في بيروت، واسمه بطرس أبوت، وهو حمو أستاذنا الدكتور فانديك، وجد صديقنا المستر إدوار فان ديك لأمه، وعليه معولنا في تحقيق أصل عائلة صاحب الترجمة ونشأته الأولى.
شخص هؤلاء إلى سورية والمرسلون الأميركان لأول عهدهم فيها، فرحبوا بهم فأقاموا فيها وتزوجوا، فأقام يعقوب أبكاريوس في بيروت، وعرف يعقوب أغا واشترى منزلا قرب القشلاق عرف باسمه، ثم اشتراه الأرمن وجعلوه ديرا لهم، ولا يزال إلى الآن وعائلة أبكاريوس مشهورة.
وأما ديونيسيوس فتزوج وأولد، وعرفت عائلته في بيروت باسم قرابيت. وأما ورتبات فتزوج وأولد يوحنا صاحب الترجمة، وكركور ويعقوب، ومات أبواهم وهم أطفال، فعنيت بتربيتهم مسز هواتين المرسلة الأميركانية أحسن تربية وعلمتهم، فلم يصب إلى الدين منهم إلا يوحنا، وأما أخواه فأحدها يعقوب نزح في شبابه إلى أميركا واختفى خبره، وكركور تعلم الطب في بلاد الإنكليز وتعاطاه في الكرنتينات، فأقام رئيسا لكرنتينة كربلاء عدة سنين، ثم نقل إلى جدة ومات فيها. (3) سيرة حياته
أما يوحنا ورتبات فقد ولد سنة 1827م، وتلقى مبادئ العلم في مدارس المرسلين الأميركان في بيروت، وكانوا لا يزالون حديثي العهد في التعليم، يعلمونه كل شيء في اللغة الإنكليزية، فساعد ذلك على إتقانه هذا اللسان تفهما وتلفظا. وقرأ آداب اللغة العربية على الشيخ ناصيف اليازجي، وتفقه بالمنطق والعروض على الشيخ عقل من علماء حلب. وقرأ على المرسلين أيضا بعض اللغات القديمة؛ كالعبرانية واللاتينية واليونانية، في أثناء درسه علم اللاهوت. وكانت التقوى قد ظهرت فيه منذ نعومة أظفاره فتفقه بالدين على أن يتعاطى التبشير.
ورأى أن عمله يكون أكثر نفعا إذا تعلم الطب، فتلقى معظمه على المرحوم الدكتور فانديك، ولم يكن يشترط بالطبيب لمعاطاة الطب أن يكون في يده شهادة، فأرسله المرسلون مبشرا إلى حاصبيا، فأقام في هذا المنصب مدة طويلة تزوج في أثنائها بسالومي ابنه قرابيت، المتقدم ذكره، واشتغل وهو في حاصبيا بالعلوم الدينية، ودرس الأديان الشائعة في سورية، وخصوصا الدرزية. وقد وفق إلى الإجادة في ذلك بمطالعة كتب وقعت لأحد الفرنساويين على أثر حادثة سنة 1860م، وهو ينهب بعض الخلوات، فوصلت هذه الكتب إلى ورتبات، واستفاد منها كثيرا في هذا الموضوع.
وأدت الحادثة - المشار إليها - إلى تشتت شمل الناس، فنزل جماعات من أهل لبنان وحاصبيا وسائر سورية إلى بيروت، وفي جملتهم يوحنا ورتبات، وترك مهنة التبشير أو التعليم، فأشار عليه أستاذنا الدكتور فانديك أن يتمم دروسه الطبية في بلاد الإنكليز، فيسهل عليه الارتزاق من الطب، فسافر إلى إيدنبرج، وأتم الطب في مدرستها. وعاد إلى سورية وبيده الدبلوما الطبية، فاستخدمته جمعية التبشير
C. M. S.
طبيبا ومبشرا في حلب، مكث فيها بضع سنين، وعاد إلى بيروت.
وكانت المدرسة الكلية في أول نشأتها وتعليمها في اللغة العربية، فهي تحتاج إلى أساتذة من الأطباء يعرفون الإنكليزية والعربية جيدا، فوجدوا في صاحب الترجمة الرجل المطلوب، وإنما ينقصه الاختصاص بفن يتقنه لأجل التعليم، فاقترحوا عليه أن يتخصص للتشريح والفسيولوجيا. وأشار عليه الدكتور فانديك أن يتقنهما في أميركا ويتحصل على الدبلوما الأميركية؛ ليسهل على اللجنة تعيينه في عمدة المدرسة، فذهب إلى نيويورك وتفقه بالتشريح والفيسيولوجيا، وعاد إلى سورية فعينته عمدة المدرسة الكلية أستاذا للتشريح والفيسيولوجيا فيها.
قضى في هذا المنصب نيفا وعشرين سنة، وهو موضع احترام التلامذة، فتخرج تحت يده مئات من الشبان، وكلهم يحبونه ويجلون قدره، وقد كنا في جملة الذين قرءوا عليه التشريح والفيسيولوجيا إلى سنة 1883م، درسناهما في كتابيه اللذين ألفهما في هذين العلمين باللغة العربية، وهما مشهوران، وعبارتهما سهلة ممتنعة، وقد عانى المشاق الجسيمة في تأليفهما، وإن كان أكثرهما منقولا عن الإنكليزية، وإنما المشقة في إيجاد الأوضاع العربية الملائمة للمصطلحات الإفرنجية في ذينك اللغتين. وكان يعتقد أن عبارة كتاب الفيسيولوجيا أحسن من عبارة كتاب التشريح، وأكثر التلامذة يرون عكس ذلك، فكنا إذا أردنا مداعبته قلنا له: «إن عبارة كتاب التشريح أحسن » فيظهر استغرابه.
وما زال أستاذا لهذين الفنين حتى جرى في المدرسة الكلية الخلاف المشهور بين العمدة وطلبة الطب سنة 1883م، واستقال الدكتور فانديك من منصبه، وكان يعلم الباثولوجيا، فعهدوا بتعليمها إلى الدكتور ورتبات، فعلمها أربع سنوات؛ أي حتى خرج الطلبة الذين كانوا بدءوا الطب باللغة العربية، ثم جعلوا يعلمون الطب في اللغة الإنكليزية، فلم تبق حاجة إلى أستاذ يعرف العربية.
وقد أولد ثلاثة أبناء؛ هم: هنري وأمين ووليم، توفي هذا الأخير في شبابه، وابنتين؛ هما: لومي وأدلا، ولما توفي في بيروت لم يكن في منزله من أهله إلا ابنته أدلا؛ لأن ولديه كانا بعيدين، فتولى نعيه جماعة من نخبة وجهاء بيروت، وأكثرهم من تلامذته وأصدقائه، فنعوه إلى الناس، فاحتفل أهل المدينة بتشييع جنازته احتفالا يليق بمنزلته.
وكان له مقام رفيع بين العلماء والوجهاء، وأحرز من علامات الشرف وسام الاستحقاق الذهبي، وساعة من أصحاب المستشفى البروسياني في بيروت بعد تطبيبه فيه 15 سنة، والمجيدي الرابع من الدولة العثمانية مكافأة على خدمته في الكوليرا التي تفشت سنة 1875م، ثم العثماني الرابع جزاء عمله في نشر العلم. (4) مناقبه ومؤلفاته
كان ربع القامة مع ميل إلى القصر، ممتلئ الجسم، عرفناه في كهولته وقد وخطه الشيب وزاد هيبة ووقارا. وكان ذكي الفؤاد حسن النظر، لكنه كان ضعيف الذاكرة إلى ما يفوق التصديق، ولا سيما في أسماء الأشخاص، فقد يلتقي بأحد تلامذته الذين تلقوا العلم عليه وعاشروه سنتين في الصفوف على الأقل وسنتين أخريين في المستشفى ولا يذكر اسمه، وإنما يذكر صورته، فيقول له: «إنك من تلامذتي ولكنني لا أذكر اسمك»، فإذا تسمى تذكر كل ما يعرفه عنه.
ومن أمثلة ذلك أننا بعد أن تركنا المدرسة الكلية في أثناء حادثتها المشار إليها أخذنا في درس اللغة العبرانية، فعلمنا أن عند الدكتور ورتبات كتابا مطولا في نحو هذا اللسان، فاستعرناه منه للمطالعة، ثم دوهمنا بالسفر إلى بلاد الإنكليز، وبقي الكتاب معنا سهوا، وفي السنة التالية عدنا إلى مصر وأعدناه إليه مع بعض الأصدقاء، لكنه لم يسلمه إليه بيده ، فلم يكن يعلم أنه جاءه. واتفق أننا جئنا إلى بيروت بعد سبع سنوات فالتقينا بالأستاذ في منزل أحد الأصدقاء فلم يخاطبنا؛ لأنه نسينا على عادته، لكنه لم يكد يسمع اسمنا حتى التفت إلينا وقال: «ماذا جرى بالكتاب العبراني؟» فأخبرناه الواقع.
وكان طيب السريرة، مخلص الطوية، يميل إلى البساطة في كل شيء، حتى في اعتقاده وآرائه وفي عشرته وسيرته، فإذا استوصفه مريض وصف له أبسط العلاجات، ولم يكن يعول في الطب إلا على الوسائل الهيجينية؛ كالاستحمام بالماء البارد، وتبديل الهواء، والاعتماد على التغذية البسيطة، ويميل في إنذاره الطبي إلى التهوين على المريض. وكان قنوعا في مطالبه لا يهمه جمع المال، إنما يهمه أن يشفى المريض، وأن يكون وسيلة لتخفيف الآلام والمصائب، فإذا كان مريضه فقيرا أحسن إليه بما يستعين به على الغذاء والدواء، لا يفرق بين المسيحي وغير المسيحي، ولذلك سموه فانديك الثاني؛ لاشتهار صديقه أستاذنا الدكتور فانديك بهذه المناقب من قبل.
وله مؤلفات عديدة، بعضها كتب موضوعة، والبعض الآخر رسائل نشرت في المجلات أو على حدة، وكتبه أكثرها طبي، وبعضها غير طبي، أما الكتب الطبية فهي: (1)
كتاب أصول التشريح: وهو كتاب كبير فيه مئات من الرسوم، كان عليه معوله في إقراء هذا العلم بالمدرسة الكلية. (2)
كتاب الفيسيولوجيا: وهو مزين بالرسوم - وقد تقدم ذكره. (3)
حفظ الصحة: سماه كفاية العوام في حفظ الصحة وتدبير الأسقام، وهو مجموع فوائد عامة لحفظ الصحة وتدبير المرض عند غياب الطبيب. (4)
كتاب التشريح الصغير: في مبادئ هذا العلم، وهو جزيل الفائدة، ومعه أطلس كبير فيه صور الأعضاء؛ لإفادة غير تلامذة الطب. (5)
رسائل عديدة، أكثرها صدر بالإنكليزية، وكل رسالة في مرض خاص؛ كالجذام والطاعون والكوليرا والحمى التيفوئيدية والتريخينيا وغيرها.
أما مؤلفاته في غير الطب فمنها: (1)
كتاب في أديان سورية، نشر في اللغة الإنكليزية واسمه
Researches into the religions of Syria ، وهو يبحث في الأديان الشائعة في سورية بحثا تاريخيا واعتقاديا، ويشتمل بحثه بضعة عشر دينا أو مذهبا. (2)
قاموس إنكليزي عربي: وهو منسوب إلى ابنه، ولكن له فضلا كبيرا في تأليفه. (3)
قاموس إنكليزي وعربي، وعربي وإنكليزي، له وللدكتور بورتر. (4)
كتاب حكمه العرب في اللغة الإنكليزية. (5)
رسائل عديدة في الوصايا والتربية وغيرها، نشرت في المقتطف وغيره، يضيق المقام عن تعدادها.
وله رسائل في اللغة الإنكليزية وترجمات كثيرة في مواضيع مختلفة، وكان وسيلة في نشر بعض الآثار الشرقية الدينية؛ منها الكتب والأوراق التي استخرج منها كتابه في أديان سورية، فإنه دفعها إلى جان هندرسن أوف بارك الكويكري في لندن فطبعها.
الفصل الثامن والأربعون
الدكتور جورج بوست
أستاذ الجراحة في المدرسة الكلية الأميركية في بيروت
ترجمة حاله
ولد في نيويورك سنة 1838م، وكان أبوه الدكتور ألفريد بوست من مشاهير الجراحين، وعضوا في اللجنة المركزية التي أنشأت المدرسة الكلية الأميركية بأموالها ومساعيها. انتظم الدكتور ألفريد في سلك هذه اللجنة في نيويورك سنة 1873-1886م، واشترك في عملها بمال وقفه لتنشيط القسم الطبي من هذه المدرسة بما ينتج من ريعه، فكان ينفق من هذا الريع حسب الحاجة في سبيل المدرسة الطبية وما زاد منه يحفظ، وبلغ ما اجتمع من ذلك الريع ولم ينفق نحو 70000 ريال أميركاني «14000 جنيه»، وهي مرصودة لعمل الخير في سبيل الطب، وعهد بإنفاقها بهذا السبيل إلى ابنه صاحب الترجمة، ولعلها تصير الآن إلى حفيده.
تلقى الدكتور جورج بوست العلم في كلية نيويورك، وتعلم الطب في جامعتها، وكان أبوه من أساتذتها، فنال شهادتها سنة 1860م، ثم تعلم اللاهوت فصار من المبشرين الأطباء، وقضى مدة في خدمة الأمة الأميركية أثناء الحرب الأهلية. وفي سنة 1863م قدم إلى سورية للتبشير والتطبيب، فقطن طرابلس، وأخذ في إتقان اللغة العربية؛ ليسهل عليه مخالطة الناس وتبشيرهم أو معالجتهم، فنال منها حظا وافرا. وكان يستعين على حفظ المفردات العربية بقوائم من ألفاظها يعلقها على جدران غرفته بحيث يراها كيفما اتجه، وما زالت لهجته عند التكلم كثيرة الشبه بلهجة الطرابلسيين إلى آخر أيامه.
الدكتور جورج بوست 1838-1091م.
وكان المبشرون الأميركان في سورية لا يزالون مضطهدين، يخافون على حياتهم من القتل؛ لأن رؤساء النصرانية هناك كانوا يسيئون الظن بهم، ويعدونهم غرماء ينافسونهم على السيادة، فكثيرا ما أصاب المتقدمين من مبشري الأميركان أذى، أو لحق بهم إهانة في سبيل التبشير. ومن هذا القبيل أن الدكتور بوست خرج يوما إلى دوما للوعظ، فحضر الوعظ رجال من بسكنتا صاحوا به وهموا بقتله، فضربه أحدهم بالعصا على كتفه، وأطلق آخر الرصاص عليه فأخطأه، فأسرع بعض الأصدقاء وحملوه إلى البيت وقد تعطلت كتفه.
وبعد بضع سنوات عاد إلى نيويورك سنة 1867م، وكان المرحومان الدكتور فانديك والدكتور ورتبات قد باشرا تأسيس المدرسة الطبية وأخذا في العمل، فعينت اللجنة المركزية الدكتور بوست أستاذا للنبات والمواد الطبية والجراحة فيها، فعاد إلى سورية وأخذ في العمل مع رفيقيه المذكورين. وقد جعلوا تعليم الطب في اللغة العربية، ولم يكن فيها كتب تلائم التدريس فأخذوا يشغلون ساعات الفراغ بالتأليف، ويلقنون التلامذة ما يؤلفونه، فينسخونه في دفاترهم، ويدرسونه في منازلهم.
ولذلك كان تلامذة مدرسة الطب في السنين الأولى من إنشاء هذه المدرسة ينسخون الكتب بأيديهم، لا يجدون في ذلك مشقة؛ لأن أساتذتهم كانوا قدوة لهم بالنشاط والهمة والمواظبة، وما زال الدكتور بوست يعلم في هذه المدرسة، ويطبب في المستشفى البروسياني، ويعالج في المنازل، ويخطب على المنابر، ويؤلف الكتب، إلى سنة 1908م، فالتمس إقالته فأقيل، وعينوا ابنه الدكتور ألفريد مكانه، ففاجأه المرض ولم يجد حيلة في دفعه، فمات مأسوفا عليه.
أعماله وآثاره
قضى 41 سنة وهو يعلم الجراحة وغيرها في المدرسة، ويعالج المرضى في المستشفى بالجراحة، وهو الفرع الذي خصص نفسه له واشتهر به بين الخاصة والعامة، حتى أصبح لفظ «بوست» في عرف البعض مرادفا للفظ «جراح»؛ لأنه أول من اشتهر بينهم بهذا الفن في أثناء هذه النهضة. ولم يكن عمله قاصرا على التعليم والتطبيب والتأليف، فقد كان يشتغل بعلوم أخرى يساق إليها شغفا بالعلم ورغبة في العمل؛ كاشتغاله بالنبات. وكان مولعا به، وله فيه وفي علم الحيوان آراء واكتشافات مهمة؛ وخصوصا في النبات، فإنه اكتشف كثيرا من أنواعه في سياحاته بسورية وفلسطين ومصر وسينا والأناضول، وقد سمي بعضها باسمه «بوست»، وألف على أثر ذلك كتابه في نبات فلسطين وسورية، وأصبح ثقة بجغرافية فلسطين الطبيعية.
وقد جمع بتوالي الأعوام معرضا نباتيا بالمدرسة الكلية، يعد من المعارض الثمينة، وكان (رحمه الله) يقضي أكثر ساعات الفراغ فيه. وقد أعانه في جمعه تلامذته في النبات؛ لأنه كان يفرض على كل منهم أن يجمع أمثلة من النبات ويجففها ويقدمها له، فيختار هو ما يستحسنه منها ويضيفه إلى معرضه. وكنا في جملة من فعل ذلك، فهو بهذا الفن وحده يستحق لقب العالم العامل، ويعد من كبار علماء النبات. وقد عرف فضله علماء أوروبا وأميركا؛ فأدخلوه في جمعياتهم الطبية والعلمية، فهو عضو في جمعية لينيوس في لندن، وفي نادي النباتيين، وعضو في أكاديمية الطب في نيويورك، ونال النيشان العثماني من الدولة العثمانية، ونيشان ال دوكان السكسوني، والنسر الأحمر من حكومة ألمانيا، ولقب فارس من جمعية فرسان أورشليم الألمانية؛ جزاء خدمته في المستشفى البروسياني في بيروت.
وكان له في المدرسة - فضلا عن معرض النبات - معارض للمواد الطبية والمستحضرات الجراحية، وفيها آثار ما أجراه من العمليات الجراحية؛ كالحصى المثانية والأورام والعظام.
وكان مع ذلك يجد فراغا يشتغل فيه بهندسة أبنية المدرسة، فقد رسم بعضها بيده، وكثيرا ما كان يتعهد بناءها وينتقده؛ وخصوصا قاعة العلم، فإنه تتبع بناءها بنفسه. ولم يكن يضيع فرصة لا يفيد بها تلامذته حيثما التقى بهم؛ من شرح عملية في المستشفى، أو تفسير حادثة على الطريق أو في المنزل. وكان رابط الجأش وهو يعمل العمليات، فكثيرا ما سمعناه يتحدث في السياسة أو الأدب أو الاجتماع ويداه غائصتان في الدم، لا يظهر عليه الارتباك مهما يكن من خطر العملية التي يشتغل بها، فضلا عن خفة يده في العمل.
وكان يرحل إلى أميركا سعيا في جمع الأموال للمدرسة، وخصوصا للقسم الطبي، ومن ثمار سعيه في هذا السبيل إنشاء قاعة العلم التي جعلوها دارا للمعارض العلمية، وقد سميت باسمه
G. E. Post Science Hall ، ومن آثاره الأدبية في خدمة هذه المدرسة أنه أنشأ لتلامذة الطب جمعية سماها الجمعية الكلية، يتباحث فيها التلامذة في المواضيع المفيدة، وقد تولى رئاستها مدة طويلة، ووضع لها نظامات كانت مثالا لكثير من الجمعيات التي نشأت في سورية بعد ذلك. أما آثاره القلمية فأهمها في الطب وفروعه، وبعضها في سبيل الكتاب المقدس، وهي: (1)
مبادئ التشريح والهيجين والفسيولوجيا. (2)
علم الحيوان، في جزأين: الأول في نظام الحلقات في سلسلة ذوات الفقرات، والثاني في الطيور. (3)
مبادئ علم النبات: ويتضمن شرح بنيته ووظائفه ووصف الفصائل الطبيعية. (4)
نبات سورية وفلسطين: الذي ألفه بعد رحلته التي تقدم ذكرها، وهو من أهم مؤلفاته، وقد خدم فيه علم النبات خدما جزيلة. (5)
كتاب الأقرباذين، أو المواد الطبية. (6)
المصباح الوضاح في صناعة الجراح: وهو مطول في الجراحة العلمية. (7)
مجلة الطبيب: أنشأها وحررها هو بنفسه بضع سنين، ثم حررها المرحومان الشيخ إبراهيم اليازجي والدكتور زلزل والدكتور خليل سعادة سنة واحدة، ثم تولى رئاسة تحريرها المرحوم الدكتور إسكندر بك البارودي، ولا تزال تصدر في بيروت إلى الآن. (8)
فهرس الكتاب المقدس: وهو فهرس أبجدي مطول لكل الألفاظ الواردة في التوراة والإنجيل والزبور. (9)
قاموس الكتاب المقدس، في مجلدين كبيرين.
غير ما كان يتلوه من الخطب أو ينشئه من المقالات مما نشر في المجلات العلمية وغيرها.
أخلاقه ومناقبه
قد رأيت مما تقدم أنه كان مثالا في النشاط والهمة والثبات والمواظبة على العمل ، مع المحافظة على الوقت، وكان يعد التقصير في ذلك رذيلة، ويغضبه الإخلال في الوقت لأي سبب من الأسباب. ذكروا من أمثلة ذلك: أنه كان في سفر بعيد، فلما رجع ذهب أصدقاؤه لملاقاته، ولم يذهب معهم ولده لاشتغاله بدرس كان عليه في تلك الساعة، فسألوه عن سبب تخلفه، فقال: «لأن والدي لا يرضى أن أترك درسي في هذا السبيل.»
وكان مدققا في سائر معاملاته، لا يقصر فيما عليه للآخرين، ولا يحتمل تقصير الآخرين في حقه، وهذا هو السبب فيما أشيع عنه من التدقيق في اقتضاء حقه من مرضاه، فلم يكن يتجاوز عن شيء من أجرة العيادة أو العملية، وربما نقص المبلغ المطلوب قرشا أو بعض القرش فلا يتحول ما لم يقبضه ولو كان المريض فقيرا معوزا، ويعدون ذلك بخلا منه. وظهر هذا البخل مجسما بالمقابلة مع أريحية زميله الدكتور فانديك وسخائه، فقد كان (رحمه الله) كثير التساهل مع مرضاه، يعين بعضهم بثمن الدواء والطعام، فضلا عن أجرة العيادة، فظهر تدقيق صاحب الترجمة بخلا قبيحا وتحدث الناس به. والحقيقة أنه إنما كان يفعل ذلك جريا على طبيعته في دقة المعاملة - كما تقدم - بدليل ما علمناه عن ثقة أنه كان إذا دعي لإعانة في مشروع خيري تبرع بأضعاف ما يتبرع به سواه، والتمس أن لا يذكر اسمه في قائمة المتبرعين.
وكان عصبي المزاج، حاد الطبع، يتسرع إلى سوء الظن، ربما بعثه على ذلك بالأكثر صمم كان في إحدى أذنيه، فإذا رأى اثنين يتخاطبان سبق إلى ذهنه أنهما يتكلمان عنه، فيحكم بالظن. وقد يعاتب على الشبهة، وكثيرا ما جر ذلك إلى التنافر بينه وبين تلامذته حتى آل إلى التقاضي لدى عمدة المدرسة. وتجسم الخلاف مرة حتى اشتكاه طلبة الطب كافة إلى لجنة المبشرين الكبرى في سورية على أثر الخلاف الذي وقع بين الطلبة وعمدة المدرسة سنة 1882م. وكنا من أولئك الطلبة، فاجتمعت تلك اللجنة من أنحاء سورية للنظر في ذلك الخلاف، لكنها لم تحسن السياسة في حكمها، فخرج معظم طلبة الطب من المدرسة، واستعفى الدكتور فانديك انتصارا لهم في حديث طويل لا محل له هنا - والكمال لله وحده.
الجزء
الشعراء
الفصل التاسع والأربعون
الشيخ أمين الجندي الحمصي
هو أشهر من نظم المقطعات أو الأدوار الغنائية في سورية ووقعها على الألحان. ولد في مدينة حمص في أوائل القرن الثالث عشر للهجرة، ونشأ فيها وطلب العلم على علمائها، وتردد إلى دمشق وقرأ على أئمتها، وفي جملتهم الشيخ عمر اليافي الشهير، ثم عاد إلى موطنه وأقام فيه ومارس الشعر فنبغ به.
وفي سنة 1246ه جاء إلى حمص عامل من قبل المغفور له السلطان محمود الثاني، فوشى إليه بعض أعوانه أن الشيخ أمين الجندي هجاه وطعن فيه، وبلغ ذلك الشيخ ففر إلى حماه، فبعث العامل في طلبه بعض رجاله، فقبضوا عليه، وحبسوه في إصطبل الدواب، ومنعوا عنه الطعام إلا قليلا من خبز الشعير وبعض الماء، واتفق بعد أيام قليلة أن رجلا من قبيلة الدنادشة يقال له سليم بن باكير غشي مدينة حمص بمائتي فارس من عشيرته ودخلها عنوة، وقتل عاملها، وأخرج الشيخ من السجن بعد أربعة أيام من سجنه، وفرح به الناس، وظل موقرا محترما حتى توفاه الله سنة 1256ه/1841م، ودفن في حمص.
وقد عني بعضهم في جمع منظوماته في كتاب يعرف بديوانه، جمع فيه كثيرا من القصائد والمقامات والموشحات، ننقل بعض الأغاني على سبيل المثال؛ لأن أهل الشام ومصر ظلوا يتغنون بمنظوماته معظم القرن الماضي، ومن ذلك قوله على نغم أبيات:
يا بدر حسن تبدى من ورا الحجب
يفتر ياقوته عن لؤلؤ رطب
ويا غزالا زها بالتيه والعجب
أراش عمدا لقتلي أسهم الهدب
سل بنديه. عن عطفيه. في برديه ليلا إذا بانا
من جفنيه. أم لحظيه. أم كفيه. دارت حميانا
دور
يا ذا الرضاب الشهبي والمبسم الحالي
سل كل من تشتهي في الحي عن حالي
يا بدر لا أنتهي إن لامني الخالي
حيرت للمنتهي في نقطة الخالي
خف مولاك. في أهلاك. من يهواك. وارفق بمفتونك
من أفتاك. يا فتاك. أو أغراك. في قتل محزونك
وله من عروض حجاز:
هيمتني تيمتني
عن سواها أشغلتني
أخت شمس ذات أنس
لا بكاس أسكرتني
لست أسلوها ولو في
نار هجران سلتني
كعبة لبيت أسعى
للصفا لما دعتني
لنظام الحسن أبدت
طرة فيها سبتني
أم رماح من لجين
تحت رايات غزتني
جدل الشال السليمي
فوق أعطاف شجتني
وله من عروض صبا:
إن أنعمت ليلايا
بالقرب يا بشرايا
دور
شمس إلى الأقمار
تهدي سنا الأنوار
يا نسمة الأسحار
أبدي لها شكوايا
دور
سلت على العشاق
سيفا من الأحداق
لا تنكروا أشواقي
فيها ولا بلوايا
وله من قد لحنه رصد:
أقبل الساقي علينا
وهو كالبدر التمام
وانثنى عجبا لدينا
حاملا كأس المدام
كالفرقد
بالخد المورد
والثغر المنضد
ولديه ايه ايه ايه قم واطرب واسكر
ولديه ايه ايه ايه كم بدر أسفر
دور
تحسد الأغصان طولك
كلما حيت طلولك
والهوا يثني قوامك
والصفا يجلو شموسك
يا أغيد
يا ذا القد الأملد
واللحظ المهند
بجمال خال حال عال في روض الزهر
وبشال سال طال مال يزهو بالجر
وقال مخمسا:
أفدي التي لو رآها الغصن مال لها
شوقا ولو قتلت صبا لحل لها
حورية لو رآها عابد للها
مرت بحارس بستان فقال لها
سرقت رمانتي نهديك من شجري
قالت وقد بهتت من قوله خجلا
فتش قميصي حتى تذهب الوجلا
فهم أن يقبض النهدين ما مهلا
فصاح من وجنتيها الجلنار على
قضيب قامتها لا بل هما ثمري
وقال مشطرا:
يا ناقل المصباح لا تمرر على
ربع به صبح المحاسن أسفرا
واحذر بأن تغشى أشعة نوره
وجه الحبيب وقد تكحل بالكرى
أخشى خيال الهدب يجرح خده
فيبث مسك الخال منه العنبرا
أو أن يدب لفيه نمل عذراه
فيقوم من سنة الكرى متذعرا
الفصل الخمسون
المعلم بطرس كرامة
هو بطرس بن إبراهيم كرامة، من أعيان حمص، ولد فيها سنة 1774م، ونشأ وتأدب فيها، ثم حدث اضطراب واضطهاد للطائفة الكاثوليكية، وكان عمه المطران أرميا كرامة على قلاية دمشق، ارتسم عليها سنة 1762م، فقدم السيد أرميا المذكور إلى حمص، ونزل ضيفا على أخيه إبراهيم.
ووفد في تلك السنة على حمص مطران من السريان الكاثوليك أصله من (صدد)، ولم يقبله السريان اليعقوبيون، فنزل على المطران أرميا في بيت أخيه إبراهيم، وأقام القداس هناك بضعة أيام، ثم سافر إلى الجبل، فاغتاظ من ذلك شيخ صدد، وأغرى مسعود أغا سويدان حاكم حمص - يومئذ - أن يشكوه إلى بطل باشا عند قدومه إلى حمص، ويقول له إن إبراهيم كرامة جعل بيته كنيسة، ويشكو سائر الكهنة الكاثوليكيين اضطهادا للكاثوليك على الإجمال، فقبضوا عليهم وسجنوهم وأهانوهم وضربوا عليهم مالا لا يخرجون إلا بعد دفعه، فجمعوه ودفعوه، فكره إبراهيم الإقامة في حمص بسبب ذلك، فخرج إلى عكا مع ابنه بطرس، ومنها إلى لبنان.
وكان بطرس ذكيا من حداثته، يقول الشعر ويحسن اللغة التركية، وكان ذلك عزيزا في تلك الأيام. واتفق أن الأمير بشير الشهابي الكبير أمير لبنان الشهير احتاج إلى من يعلم ولديه خليلا وأمينا، وبلغه خبر بطرس المذكور فاستقدمه إليه سنة 1810م، فرأى من كفاءته وتعقله ما حببه إليه، فقربه وجعله معتمدا من قبله في المسير إلى عكا إذا اقتضت الحاجة مخابرة واليها.
وكانت - وقتئذ - خزينة حكومة لبنان بلا نظام، فوضع لها القوانين ورتبها على أسلوب أعجب الأمير بشيرا، فرفع منزلته وجعله كتخداه؛ أي: نائبه، فأصبح نافذ الكلمة، لا يراجعه الأمير في أمر أحبه، فوقعت في القلوب هيبته، وانتشرت شهرته. وما زال يدبر أعمال لبنان بحكمة وسياسة حتى قضت الأحوال بنفي الأمير بشير سنة 1840 إلى الآستانة، فرافقه المعلم بطرس، وكان له أكبر تعزية في تلك الغربة، وتقرب هناك من رجال الدولة فتعين مترجما في المابين الهمايوني، وما زال في ذلك المنصب حتى توفي سنة 1851م.
وكان (رحمه الله) شاعرا مجيدا كثير المحفوظ، متوقد الذهن فصيح اللسان، بليغ القول مهيبا مكرم الجانب، وله مصنفان لم يطبعا، وأما منظوماته فهي في ثلاثة دواوين؛ أحدها منظوم في سورية، والثاني في مصر، والثالث في الآستانة، وقد طبع منها ديوان سنة 1898م، وأكثر ما فيه من منظومات سورية عدد أبياته نحو سبعة آلاف بيت، أكثرها في مدح الأمير بشير ووصف أعماله ، ومدح من عاصره من الأمراء والعظماء، ومكاتبة الشعراء الأدباء؛ من ذلك قوله من قصيدة غزلية:
فتن القلوب وقد تمنطق خصره
من أعين العشاق أي نطاق
أمسى يداعبني بورد خدوده
لما رآه يفيض من آماقي
يفتر عن در فأبكى مثله
لله در الطرف من سراق
وقال يصف رشحا ألم به:
وليلة بت أشكو الرشح من ضرر
حتى فنيت وحال الحال وانسابا
قالوا أترشح يا هذا فقلت لهم
كلا ولكن أنفي صار ميزابا
كأن عيني عين الماء في هطل
وصار أنفي دلو الماء صبابا
وقال من موشح يصف به قناة أجراها الأمير بشير من ينبوع اسمه الفوار ومنهل يعرف بنبع القاع ونهر يسمى الصفا:
دور
جاء بسم الله مجراه إلى
بيت دين المجد منقادا مطيع
كانفجار الصبح يبدو من على
ذلك السفح إلى الروض البديع
وتباهى جاريا يعلو على
كل طود شامخ الأنف منيع
ملئت منه السواقي فطما
دافعا كالعارض المنبجس
فغدا بالخصب يزهو منعما
كل ربع مقفر مندرس
دور
دار في دار السني مثل العريس
يتهادى في رداء جوهري
حوله السرو كعشاق تميس
في رداء من حرير أخضر
تبتغي لثم محياه النفيس
والحيا يمنعها بالنظر
خلتهن قائمات خدما
حوله منعطفات الأرؤس
وعليه ساهرات هيما
تلتوي أعناقها بالنعس
دور
أطلع الزنبق يسقي الياسمين
من ندا أقداحه صرف العقار
فاعتلى المضعف بالحسن المبين
وانثنى البان عليه ثم غار
وشذا النسرين بالعطر الثمين
فتدانى نحوه أنف البهار
نقل النمام أن العنما
عانق النوفر جنح الغلس
والأقاحي قد أعار الخزما
خفية تاج الشقيق الأطلس
دور
غرد الميزاب كالصب الولوع
وتصابى حين صب الدررا
رقصت تلك السواقي والربوع
وتغنت جاريات سحرا
لاعب الطالع من تلك النبوع
نوفرات مسفرات غررا
وسبيل الصفو منه قسما
موكب الحزن بأفراح القسي
طفح الأنبوب شوقا عندما
شاهد البدر لديه يحتسي
وله قصيدة خالية، تكرر لفظ الخال في كل قافية، وكل منها بمعنى وهي:
أمن خدها الوردي افتنك الخال
فسح من الأجفان مدمعك الخال
وأومض برق من محيا جمالها
لعينيك أم من ثغرها أومض الخال
رعى الله ذياك القوام وإن يكن
تلاعب في أعطافه التيه والخال
ولله هاتيك الجفون فإنها
على الفتك يهواها أخو العشق والخال
مهاة بأمي أفتديها ووالدي
وإن لام عمي الطيب الأصل والخال
أرتنا كثيبا فوقه خيزرانة
بروحي تلك الخيزرانة والخال
غلائلها والدر أضحى بجيدها
نسيجان ديباج الملاحة والخال
ولما تولى طرفها كل مهجة
على قدها من فرعها عقد الخال
إذا فتكت أهل الجمال فإنما
لهن على أهل الهوى الملك والخال
وليس الهوى إلا المروءة والوفا
وليس له إلا امرؤ ماجد خال
وكم يدعي بالحب من ليس أهله
وهيهات أين الحب والأحمق الخال
معذبتي لا تجحدي الحب بيننا
لما اتهم الواشي فإني الفتى الخال
ولي شيمة طابت ثناء وعفة
تصاحبني حتى يصاحبني الخال
سلي عن غرامي كل من يعرف الهوى
تري أنني رب الصبابة والخال
ولا تسمعي قول العذول فإنه
لقد ساء فينا ظنه السوء والخال
سعى بيننا سعي الحسود فليته
أشل وفي رجليه أوثقه خال
وظبية حسن مذ رأيت ابتسامها
عشقت ولم تخط الفراسة والخال
توسم طرفي في محاسن وجهها
فلاح له في بدر سيمائها خال
إلى مثلها يرنو الحليم صبابة
ويعشقها سامي النباهة والخال
أيا راكبا يطوي الفلاة ببكرة
يباع بها النهد المطهم والخال
بعيشك إن جئت الشام فعج إلى
مهب الصبا الغربي يعن لك الخال
وسلم بأشواقي على مربع عفا
كأن رباه بعدنا الأقفر الخال
وإن ناشدتك الغيد عني فقل على
عهود الهوى فهو المحافظ والخال
وإن قلن هل سام التصبر بعدنا
فقل صبره ولى وفرط الجوى خال
لكل جماح إن تمادى شكيمة
ولكن جماح الدهر ليس له خال
الفصل الحادي والخمسون
عبد الباقي العمري (شاعر العراق)
بقلم سليمان البستاني
هو عبد الباقي العمري الفاروقي الموصلي، الشاعر الشهير المولود بالموصل سنة 1204ه/1790م، والمتوفى ببغداد سنة 1278ه/1862م، يتصل نسب أبيه سليمان العمري بالخليفة عمر بن الخطاب، ولهذا يعرف هو وسائر أبناء أسرته بالعمريين والفاروقيين. ولهم وجاهة ومكانة سامية في بلدتهم الموصل وسائر بلاد العراق، وبيتهم بيت علم وفضل، أنتج كثيرين من الشعراء والأدباء.
وقد اتصف عبد الباقي منذ صغره بالحذق والذكاء، واشتغل بالأدب ونظم الشعر وهو بعد فتى، وتقلد المناصب السامية ولم يتجاوز العشرين من عمره، وكان أعيان الموصل ينتدبونه لعظام المهام، ويوجهونه في معضلات الأمور، فاشتهر أمره لدى الولاة والحكام. وكان تعيين والي الموصل في تلك الأيام منوطا بوالي بغداد قبل أن يقره الباب العالي على ولايته. واتفق انفصال والي الموصل في أثناء ولاية داود باشا على بغداد، فانتدب أعيان الموصل عبد الباقي للتوجه إلى بغداد، والتوسط بتعيين يحيى باشا، فسار إلى بغداد. وكان داود باشا من أهل العلم ومروجي بضاعة الأدب، فأكرمه وسأله عن سبب قدومه فأجابه بهذين البيتين:
يا مليك البلاد أمنيتي حا
شاك مثلي يعود منك كسيرا
أنت هارون وقته ورجائي
أن أرى في حماك يحيى وزيرا
فاستحسن داود باشا ذلك، وبادر إلى طلب الوزارة ليحيى باشا. وبعد أعوام انتقض داود باشا على الدولة، وكان والي الموصل إذ ذاك قاسم باشا ابن عم صاحب الترجمة، فأتته الأوامر من الآستانة بالمسير في جيش كثيف إلى بغداد والقبض على المماليك، وداود باشا من جملتهم، فسار قاسم باشا إلى بغداد يصحبه عبد الباقي، فأظهر المماليك الطاعة حتى أتاهم قاسم باشا بنفر قليل فغدروا به، ورجع عسكر الموصل ومعه عبد الباقي. فسيرت الدولة علي باشا اللاز من الآستانة إلى بغداد لقمع ثورتها وقتل داود باشا، فلما بلغ الموصل ورأى صاحب الترجمة أعجب بذكائه واصطحبه معه إلى بغداد. ولما استتب له الأمر وقبض على داود باشا أقر عبد الباقي وقلده أسمى مناصبها، وجعله كتخدا الولاية؛ أي: معاونا له، وبقي من ثم في بغداد إلى آخر أيامه. وكان نافذ الكلمة مرعي الجانب، يعهد إليه الولاة بالمهام الخطيرة، وهو على اشتغاله بخدمة حكومته يصرف همه في أثناء العطلة والفراغ للاشتغال بالآداب، ومجلسه حافل بالأدباء وسراة الأعيان.
وكان (رحمه الله) شاعرا مجيدا، قوي البديهة، سريع الخاطر، متفننا في شعره، ميالا إلى التصوف، كثير المدح لآل البيت، محبا لعلماء عصره وأدبائهم، بارا بهم وبغيرهم من ذوي الحاجات، ومن مؤلفاته: (1)
ديوان أهلة الأفكار في معاني الابتكار. (2)
نزهة الدهر في تراجم فضلاء العصر. (3)
ديوان طبعه بمصر الشيخ عثمان الموصلي وسماه «الترياق الفاروقي من منشآت الفاروقي»، وذيله بترجمة له مسهبة، لخصنا منها معظم ما تقدم.
وحسبنا أن نورد مثالا من شعره مقطوعة نظمها عندما شخص بباخرة من بغداد إلى الكوفة يؤم ضريح الإمام علي بن أبي طالب:
بنا من بنات الماء للكوفة الغرا
سبوح سرت ليلا فسبحان من أسرى
تمد جناحا من قوادمه الصبا
تروم بأكناف الغري لها وكرا
كساها الأسى ثوب الحداد ومن حلى
تجملها بالصبر لاعجها أجرى
جرت فجرى كل إلى خير موقف
يقول لعينيه قفا نبك من ذكرى
وكم غمرة خضنا إليه وإنما
يخوض عباب البحر من يطلب الدرا
نؤم ضريحا ما الضراح وإن علا
بأرفع منه لا وساكنه قدرا
حوى المرتضى سيف القضا أسد الشرى
علي الذرى بل زوج فاطمة الزهرا
مقام علي شرف الله وجهه
مقام علي رد عين العلى حسرى
أثير مع الأفلاك خالف دوره
فمن فوقه الغبرا ومن تحته الخضرا
أحطنا به وهو المحيط حقيقة
بنا فتعالى أن نحيط به خبرا
تطوف من الأفلاك طائفة به
فتسجد في محراب جامعه شكرا
وحزب من العالين يهتف بالثنا
عليه بوحي كدت أسمعه جهرا
جدير بأن يأوي الحجيج لبابه
ويلمس من أركان كعبته الجدرا
حري بتقسيم الفيوض وما سوى
أبي الحسنين الأحسنين بها أحرا
ترى منه بالدنيا الثراء لمترب
وللمذنب الجاني الشفاعة في الأخرى
بأهداب أجفان وأحداق أعين
وجر وجوه عفرتها يد الغبرا
أمطنا القذى عن جفن وجه مذكر
أجل سيوف الله أشهرها ذكرا
فوالله ما ندري وقد سطع السنا
جلونا قرابا أم جلينا له قبرا
وخلف عبد الباقي ثلاثة أبناء: سليمان فهيم أفندي، وحسين حسني بك، ومحمد وجيهي بك، أقام الأول في الموصل، وأما الأخيران فإنهما قدما مصر سنة 1281ه وتنقلا أعواما في أسمى مناصب الحكومة المصرية.
الفصل الثاني والخمسون
فرنسيس فتح الله مراش
هو فرنسيس بن فتح الله مراش، ولد بمدينة حلب في 29 يونيو سنة 1836م، من أرومة طيبة الأصل. ولما بلغ الرابعة من عمره أصيب بداء الحصبة، وثقلت وطأتها عليه حتى كادت تودي به، ثم من الله عليه بالشفاء، إلا أنه بقي من آثارها في جسمه وبصره ما نغص عليه عيشه، وأوهن قواه مدى العمر. ولبث في حلب إلى أن يفع يتلقن القراءة ثم مبادئ العلوم، إلى أن كانت سنة 1850م، فسار والده إلى أوروبا واستصحبه معه، فتجول فيها مدة تنيف على السنة، ثم رأى والده أن يطيل مكثه في فرنسا لضرورة دعت إلى ذلك، فأرجعه إلى حلب وبقي فيها إلى سنة 1853م.
ولما عاد والده من أوروبا في هذه السنة دعته مقتضيات تجارته إلى التعرج على بيروت، فعرج عليها واستدعاه من حلب، فسار منها إلى بيروت، وأقام بها معه نحوا من سنة. ثم عاد إلى مسقط رأسه وألقى به عصا التسيار مدة مديدة، وأقبل يشتغل في خلالها بالأدب، وهو الفن الذي كان قد ولع به منذ صبوته، حتى إنه عرف له نظم على طريقة الصبيان، نظمه وهو ابن تسع سنين ودونها، ولكنه لم يقصر درسه على الأدب وحده، بل أقبل يدرس غيره من العلوم، وكان يتخرج في كل علم منها على من يلقاه من الأساتذة. ولما رأى آخر الأمر أن علم الطب لا يبلغ أحد منه إربا ما لم ينل الإجازة في تعاطيه عملا، وتيقن أن أعظم الإجازات اعتبارا في تلك الأيام ما كان صادرا منها من مدرسة باريز، رحل في طلب ذلك إلى هذه المدينة حوالي سنة 1867م، وأقام بها نحوا من سنتين يتردد على مدرسة الطب فيها إتماما لدروسه واستعدادا للامتحان، ولكن صروف الدهر عاندته وخانته الجدود العواثر من وجوه أخرى، فاعتراه من أسقام البدن وضعف البصر ما صرفه عن المثابرة على الدرس، فلم يظفر بمراده من التقدم للفحص لنيل الإجازة، بل اضطر أن يقفل راجعا إلى حلب وهو عليل ومكفوف البصر أو يكاد، ولم يزل مقيما بحلب إلى أن توفاه الله في أواسط سنة 1873م.
فرنسيس فتح الله مراش 1836-1873م.
أما تصانيفه، فالمطبوع منها «غابة الحق» و«مشهد الأحوال»، وكلاهما مطبوع في بيروت، وله ديوان سماه «مرآة الحسناء» أرسله بحياته إلى المرحوم سليم البستاني فطبعه له في مطبعة المعارف في بيروت. أما الكتابان الأولان فقد سلك فيهما مسالك فلسفية، وبث فيهما آراءه بأسلوب بديع، صنف معظم الأول منهما في باريز والثاني في حلب. وله أيضا رسائل موجزة في مواضيع شتى، ولكنها لم تطبع، فلذلك لم تعرف. وله رحلة إلى باريس طبعت في بيروت، وشهادة الطبيعة بوجود الله والشريعة، طبعت بمطبعة الأميركان بعد نشرها في النشرة الأسبوعية، وله غرائب الصدف، وغيرها من الرسائل.
وكان في الجملة مشاركا في كثير من العلوم، إلا أنه كان إلى العلوم الفلسفية أميل، وكان يؤثرها على العلوم الرياضية وغيرها؛ لما في تلك من سعة المجال للخواطر، ولما في هذه من ضيق المجال وحرج القيود والقوانين على من يريد أن يقتدح زناد نفسه، فإنه كان لا يطيق احتمال الأسر المعنوي فضلا عن الحسي؛ ولذا كان يحاول التملص من رق العادات الجازمة بحجز حرية التصرف، بل طالما كان ينزع إلى الإغضاء عن قيود اللغة وأغلال قوانينها وسلاسل قواعدها أيضا، حتى صار قليل الالتفات إلى تحرير أساليبه وتنقيح عباراته على ما تقتضيه أصول الإنشاء.
إلا أنه كان يعرف حق المعرفة أن الحرية المطلقة هي كالكبريت الأحمر، لا تقوم إلا في الذهن، ولا وجود لها في الخارج، وهذا ما حداه إلى أن يقول:
رق الزمان جوى على كل الورى
واقتادهم بسلاسل وقيود
رسف الأمير مكبلا بنضاره
رسف الأسير مكبلا بحديد
وأن يقول:
صدقوني كل الأنام سواء
من ملوك إلى رعاة البهائم
كل نفس لها سرور وحزن
لا تني في ولائم أو مآتم
كم أمير في دسته بات يشقى
باله والأسير في القيد ناعم
أصغر الخلق مثل أكبرها جر
ما لهذا وذا مزايا تلائم
هذه النمل تستطيع الذي تعجز
عن فعله الأسود الضياغم
والخلايا للنحل أعجب صنعا
من قصور الملوك ذات الدعائم
وكان من أنعم النظر في تصانيفه خيل له أنه لم يكن في كل الأحوال راضيا عن الزمان وأهله، وأنه كان كثير التبرم بالناس والأشياء كافة، وأن كلامه في كثير من المواطن يشف عن الشكوى من الدنيا وأهلها. وهذا لا يستغرب من رجل رماه الدهر بالأرزاء حتى أصبح كئيبا كاسف البال، وقد حداه ذلك إلى أن قال:
توتر أقواس الردى لرمايتي
ومن أعين الحساد تبرى سهامها
يجر علي الدهر جيش خطوبه
فتلقاه نفس يستحيل انهزامها
ومن خبر الدنيا وأدرك سرها
تساوى لديه حربها وسلامها
ومن هذا القبيل ما أورده في «غابة الحق»:
إذا كان وقع السيف ليس يمضني
فعندي سواء غمده وغراره
وإن كان جمر الخطب ليس يصيبني
فلا خوف لي مهما يهب شراره
أنا لا أرى في الأرض شيئا يروقني
لذلك نور العمر عندي ناره
أيطربني هذا الزمان وكله
عراك على الدنيا يثور غباره
هذا ما يلمح من خلال نظمه ونثره، إلا أنه كان في معاشرة الناس ومخالطتهم متوددا أنيسا، تأبى نفسه أن يصيب الناس أذى مما ابتلاه الله به من الأشجان. وكان إذا عن له خاطر أملاه على كاتب أو صديق، وتوفاه الله وهو في شرخ الشباب.
ومن نظمه قوله من قصيدة:
أنا على ما أنا من الخلق
باق على مذهبي وفي طرقي
ما لي عدو سوى الكذوب فلم
يزل عدوا لصاحب الصدق
لا أكذب الله أن لي شيما
تحمي فمي من شوائب الملق
فلا كبير سطا علي ولا
يد لها منة على عنقي
ولا تسابقت في المفاخر بل
سرت الهوينا وفزت بالسبق
ولا اشتريت الثناء من أحد
بالمال بل بالجهاد والأرق
أسقي غروسي فإن أجد ثمرا
أقطف وإلا رضيت بالورق
وقال في وصف الجمال:
يا ربة الحسن جمالك لا
يدوم إلا كدوام الخيال
فحسن وجه ذاهب كالهبا
وحسن طبع راسخ كالجبال
فجملي الطبع وحلي النهى
لتقتني الحسن العديم الزوال
هذا هو الحسن البسيط وما
للجوهر البسيط قط انحلال
ومن هذا القبيل قوله:
طرقت خباها بغتة يوم تبكير
فصبحني وجه كرقعة تصوير
هناك على المرآة كانت مكبة
تموه خديها بصبغة حنجور
فأيقنت أني في الهوى كنت والعا
بمسحوق تبييض ومحلول تحمير
الفصل الثالث والخمسون
السيد عبد الغفار الأخرس
هو من نوابغ شعراء العصر، وإن كنا لا نكاد نسمع بذكر اسمه في هذه البلاد، فهو بعيد الصيت طائر الشهرة في بلاد العراق وما جاورها من بلاد العرب والعجم، يتناشد أشعاره الأدباء، ويتنافسون بها في مجالسهم. وهو السيد عبد الغفار الملقب بالأخرس للكنة كانت بلسانه، ابن السيد عبد الواحد بن السيد وهب.
ولد في الموصل نحو سنة 1220ه، ونزح منها إلى بغداد، وقضى حياته في العراق منتقلا من بلدة إلى أخرى، وأكثر إقامته إنما كانت في بغداد والبصرة. وقد نمى منذ صباه خبر ذكائه وتوقد ذهنه إلى داود باشا والي بغداد، فأرسله إلى بلاد الهند في طلب إصلاح لسانه وحل لكنته، فقال له أحد الأطباء: إنا نعالج لسانك بدواء فإما أن ينطلق وإما أن تموت، فقال: لا أبيع بعضي بكلي، وقفل راجعا إلى بغداد.
وسنة 1290ه أتى البصرة قصد الذهاب إلى الحج، فأقعده مرض ألم به، فعاد إلى بغداد، فلم ينجع فيه دواء، فرجع إلى البصرة، وتوفي بها يوم عرفة من ذلك العام، فشيع جنازته أفاضل البصرة، ودفنوه في مقبرة الإمام الحسن البصري خارج قصبة الزير.
وكان (رحمه الله) قليل الاعتناء بحفظ شعره وإثباته على كثرته، فبقي منثورا في أيدي حفظته إلى أن عني بجمعه شاعر عراقي آخر، وهو أحمد عزت باشا الفاروقي ابن اخي الشاعر عبد الباقي العمري، فحصل منه على عشرة آلاف بيت طبعها في الآستانة العلية سنة 1304ه بديوان سماه «الطراز الأنفس في شعر الأخرس».
ومما يدل على إعجابه وإعجاب شعراء العراق به قوله من جملة ما قال في مقدمة الديوان المذكور: «ورد من مسقط رأسه الموصل الخضراء إلى مدينة الزوراء، وجعلها له موطنا، وعرينا ومسكنا، وكانت أكابرها تحترمه وتشتاق لطلعته، وأماجد العراق ترتاح إلى مفاكهته، ورؤيته ورويته، ومدح منها الأكابر الكرام، والفضلاء الأعلام، بشعر يقف مهيار عند أقوابه، ويعجز أبو تمام عن الوصول إلى فسيح رحابه، ويتمنى الرضي لو ارتشف الحميا من أكوابه، وابن الأزري لو اتزر برقيق ثيابه، من آدابه، حيث إن منواله العريض الطويل لم يتيسر لأحد أن يأتي له بنظير أو مثيل. وقد مازج برقته الأرواح، ممازجة الماء القراح، بأقداح الراح.» انتهى.
ويؤخذ من مطالعة ديوانه أنه كان بعيد التصور، متوقد الذهن، يتصرف بالمعاني تصرفا حسنا. على أنه سلك مسلك أكثر شعراء المتأخرين من اتخاذ صناعة الشعر ذريعة للمعاش والترنم به في مجالس اللهو والطرب، ولذلك ترى تباينا عظيما بين متانة قصائده والتفنن بأساليبها، فإذا مدح شاعرا أو عالما أكثر فيها من الاعتناء، فجاءت بخلاف مدحه لأكابر القوم الذين لم يتخذ الشعر إلا وسيلة للتزلف إليهم، فكأنما هو باذل لكل من بضاعته.
ومن رقيق شعره قوله في الغزل:
لا تلم مغرما رآك فهاما
كل صب تركته مستهاما
لو رآك العذول يوما بعيني
ترك العذل في الهوى والملاما
يا غلاما نهاية الحسن فيه
ما رأت مثله العيون غلاما
أتراني أبل فيك غليلا
أم تراني أنال منك مراما
كلما قلت أنت برء لقلبي
بعثت لي منك العيون سقاما
وبوحي من سحر عينيك يوحي
لفؤادي صبابة وغراما
عمرك الله هذه كبدي الحر
ى تشكت إلى لماك الأواما
فاسقني من رحيق ريقك صرفا
لا يريني كأس المدام مداما
حام خال على زلال برود
هو في فيك فاصطلاها ضراما
أطعمته في فيك أطماعنا في
ك فما نال بردها والسلاما
فالأمان الأمان من سحر عين
يك فقد جردت علينا حساما
لست أدري وقد تثنيت تيها
أقضيبا هززته أم قواما
وقوله في المدح من قصيدة أنفذها للعلامة الآلوسي:
لقد أوتيت غاية كل فضل
بخوضك في العلوم وفي اشتغالك
إذا افتخرت بنو آل بآل
ففخر الدين أنت وفخر آلك
وفي مرآك للأبصار وحي
ينبئنا فديتك عن جلالك
فيا فرع النبوة طبت أصلا
ثمار الفضل تجنى من كمالك
ظفرنا من نداك بما نرجي
على أن ما ظفرنا في مثالك
وكم لله من سيف صقيل
بجوهرة العناية في صقالك
وما أنا قائل بنداك وبل
لأن الوبل نوع من بلالك
إذا الأيام يوما أظمأتنا
وردنا من يمينك أو شمالك
وإن جاوزت بالبرهان قوما
تحامى من يرومك في نزالك
وكل منهم وله مجال
فما جالت جميعا في مجالك
وإنك أكثر العلماء علما
ولست أقلهم إلا بمالك
نعم هم في معاليهم رجال
ولكن لم يكونوا من رجالك
وما في الناس من تلقاه إلا
ويسأل من علومك أو نوالك
فتولي من جميلك كل شخص
كأن الخلق صارت من عيالك
وقوله في العتاب:
بقيت بقاء الدهر هل أنت عالم
من العتب ما يملي عليك وما أملي
لقد كنت تجزيني بما أنت أهله
على الشعر قبل اليوم بالنائل الجزل
فأرجع عن نعماك في ألف درهم
أزيل بها فقري وأغني بها أهلي
فنقصتني شيئا فشيئا جوائزي
وأوقفت حظي منك في موقف الذل
ولي فيك ملء الخافقين مدائح
ولي غرر ما قالها أحد قبلي
فمن أي وجه أنت أنزلت رتبتي
وأصبحت بعد الوبل أقنع بالطل
فإن كان من بخل فلم ير قبلها
فتى من رسول الله يوصف بالبخل
وإن كان من قل هناك وجدته
فما تعذر القوم الكرام من القل
وإن كان من طعن العداة وقدحهم
فما قولهم قولي ولا فعلهم فعلي
أكان لمولانا بذلك حكمة
فقصر عن إدراك حكمته عقلي
فليس من الإنصاف مثلي تضيعه
وتجهله ظلما وحاشاك من جهل
وبحرك تيار ومالك وافر
وجودك معلوم وأنت أبو الفضل
وتبلغ منك الناس أقصى مرامها
ويحرم من دون الورى شاعر مثلي
وقوله في الحماسة:
واقتحمها إذ نبت بك يوما
فأرى المجد بابه الاقتحام
ادفع الشر إن علمت بشر
ربما يدفع السقام السقام
فمتى تكبر العزائم بأسا
صغرت عندها الأمور العظام
وتقلد بالرأي قبل المواضي
ليس يجدي بغير رأي صدام
رب رأي بالخطب يفعل ما لا
يفعل السمهري والصمصام
واحذر الغدر من طباع لئيم
عنده الغدر بالصديق ذمام
وادخر للوغى مقالة حرب
لا تقوي الأجسام إلا العظام
ومن رقيق شعره قوله من موشح طويل:
بحياة الطاس والكاس عليك
نزه المجلس من كل ثقيل
وتحكم إنما الأمر إليك
ولك الحكم ومن هذا القبيل
كيف لا والكاس تسقى من يديك
ما على المحسن فيها من سبيل
ولك الله حفيظا ولنا
حيثما كنت وما شئت أفعل
وآجر حكم الحب فينا وبنا
أنت مرضي وإن لم تعدل
دور
حبذا مجلسنا من مجلس
جامع كل غريب وعجيب
نعم العود وشعر الأخرس
ومحب مستهام وحبيب
يتعاطون حياة الأنفس
في بديع اللفظ والمعنى الغريب
بابلي السحر معسول الجنى
أين هذا واشتيار العسل
وإذا مر نسيم بيننا
قلت هذا ويحكم من غزلي
الفصل الرابع والخمسون
الحاج عمر الأنسي
هو ابن السيد محمد ديب بن أعرابي بن إبراهيم بن حسين، الشهير لقبهم بالصقعان. ولد في بيروت سنة 1237ه وتعلم القرآن وأحكام التجويد على الحافظ الشيخ حسين الجيزي المصري. وتوجه سنة 1259ه مع الركب الشامي، وقضى فريضة الحج وهو في الثانية والعشرين من عمره. ولما عاد أكب على تلقي العلم عن اثنين؛ هما أشهر علماء بيروت في القرن الماضي، أحدهما الشيخ محمد الحوت، والآخر الشيخ عبد الله خالد.
وكان مطبوعا على الشعر، فكان أكثر اشتغاله به، على أنه تقلب في مناصب عديدة؛ منها أنه تقلد نظارة النفوس في جبل لبنان سنة 1264ه بأمر الأمير أمين أرسلان قائمقام جبل لبنان إذ ذاك، فأقام في الشويفات نحو أربع سنوات نظم عدة قصائد في مدحه، وتعين سنة 1274ه عضوا في مجلس إدارة بيروت، ثم تنقل في مناصب أخرى، فتقلد مديرية قضاء حيفا، ثم قضاء صيدا، ثم عاد إلى بلده واشتغل بالتدريس والمطالعة. وفي سنة 1291ه وجهت إليه نيابة صور بطلب من المرحوم أسعد باشا والي إيالة صيدا الملغاة. وعاد سنة 1292ه مريضا إلى بيروت، ولم يتحمل المرض إلا بضعة أشهر، فتوفاه الله في رجب سنة 1293ه.
وكان عذب المنطق، سريع الحفظ، محبوبا، وله منظومات بديعة، عني نجله الدكتور عبد الرحمن أفندي أنسي نزيل بيروت بجمع شتاتها من بين أوراقه، وطبعها في ديوان سماه المورد العذب، تزيد أبياته على 6500 بيت، نقتطف منه أمثلة نستدل بها على شاعرية صاحبه. قال من مطلع قصيدة في مدح النبي:
قلوب الورى في مطمح الفكر قلب
وبرق المنى في غيهب الوهم خلب
أمانيك الأحلام والحلم يقظة
وأمالك الأوهام والنفس أكذب
ويا رب نفس بالأماني عللت
وصاحبها من قابض الماء أخيب
فلا تعدن النفس بالخير طامعا
إذا لم يكن للنفس في الخير مذهب
فكن صانع المعروف ما عشت إنه
سبيل نجاح في الذي أنت تطلب
وذو الود إن يذكر يدا لك عنده
فإن التناسي منك ثمة أنسب
فإن قلوب الناس كالماء راكدا
إذا ما تولاه الهوى يتقلب
ويعجب من حال الزمان بنوه في
تقلبه جهلا وهم منه أعجب
وإياك والدعوى فيا رب مدع
له صدق كشف الامتحان يكذب
إذا أنت لم تعمل بما أنت قائل
فأنت أسير الجهل أو أنت تكذب
وقال من قصيدة يمدح بها أخاه الحاج محمد بك ويهنئه بتقلده رئاسة حجاب السلطان، وفيها أبيات فخرية:
أأنت أم أنا ما نلت من رتب
أولى بنيل التهاني يا ابن خير أب
أنا المهنا بما أوليت من منح
بنيل أضعاف ما قد نلت من أرب
إن كان فخر بني العلياء في نسب
فنحن مفخر ذاك الفخر والنسب
من المفاخر أبناء الرسول وقد
جاءت محامدهم في منزل الكتب
كنا وكانت يد الأقدار تمنعنا
حظا بمجدين موروث ومكتسب
يا ذا الذي ظن بي ما فيه من عوج
إني أنا الشمس فانظر ظل نفسك بي
أنا الذي ساد أصلاه ومفتخري
أن اليراعة أمي والحسام أبي
وقال يصف الشيشة عن لسان حالها:
أنا التي اختارني قومي سميرا على
أن الأديب فصيح النطق مختار
إذا الهوى بفؤادي مر أكتمه
وللهوى بفؤاد الحر أسرار
قالوا تحملت نيرانا فقلت لهم
النار في حب من أهوى ولا العار
شهرت حتى غدت تعشو السراة إلى
ناري ولي بمزيد الفضل آثار
فها أنا مثل صخر حيث قيل به
كأنه علم في رأسه نار
وقال يهجو خادما في قهوة اسمه هلال:
تعس الهلال القهوجي لأنه
قد قطع الأنفاس في أنفاسه
هذا الهلال هو الهلاك وإنما
غلطوا فلم يضعوا العصا في رأسه
وله قصيدة مدح بها الأمير أمين أرسلان المشار إليه، تفنن بها فجعلها من أبحر متعددة وقواف مختلفة، إليك أمثلة منها:
يا للهوى من لصب لم ينل أربا (أملا) (وطرا)
عطفا على مستهام رق وانتحبا (انتحلا) (انحسرا)
عاني المها مستهل الدمع ساكبه (هاطله) (هامره)
واهي القوى ما شكا بؤسا ولا وصبا (ثقلا) (ضررا)
بادي الضنا ذو غرام سامه شجنا
وافي العنا مشفقا من برحه وهبا (وجلا) (حذرا)
يهوى الظبا وهوى الآرام غالبه (قاتله) (قاهره)
طول المدى وهو لا يصغي لمن عتبا (عذلا) (فشرا)
ويح العدا واللواحي حملته عنا
أزكى لظى لاعج من وجده التهبا (اشتعلا) (استعرا)
جمر الأسى لم يزل دوما يصاحبه (يواصله) (يساهره)
وسط الحشا مصعدا أنفاسه لهبا (شعلا) (شررا)
ماذا خوى ويح قلبي ظل مرتهنا
مضنى الجوا تقاوي والهوى غلبا (قتلا) (قهرا)
يرجو اللقا والظبا تيها تعاقبه (تماطله) (تغادره)
بعد الغوى وعيائي داؤه صعبا (عضلا) (عسرا)
كم من رشا وغزال هز قد قنا
تحت الحلى ذو جمال زين النقبا (الحللا) (الحبرا)
إذا رنا فتن الألباب حاجبه (ناحله) (ناظره)
يسبي الحجا وبلبي طالما لعبا (هزلا) (سخرا)
والقصيدة كلها على هذا النمط، فإن كل سطر مؤلف من شطرين، والشطر مقطوع إلى أربعة أجزاء، إذا تركبت الأجزاء الأولى تألف منها قصيدة مستقلة أو الأجزاء الثانية تألف منها قصيدة أخرى، ومن مجموع الجزأين في الشطرين تتركب قصيدة أخرى، ويتركب من أسطر كل حقل قصيدة على حدة، وأما الجزءان الثالث والرابع من كل شطر فهي ألفاظ يصح إبدال القوافي بها.
فالسطران الأولان يستخرج منهما هذه الأشكال: (1)
يا للهوى من لصب لم ينل أربا (أو أملا أو وطرا)
عطفا على مستهام رق وانتحبا (أو انتحلا أو انحسرا)
عاني المها مستهل الدمع ساكبه (أو هاطله أو هامره)
واهي القوى ما شكا بؤسا ولا وصبا (أو ثقلا أو ضررا) (2)
يا للهوى. عطفا على. عاني المها. واهي القوى (3)
يا للهوى. من لصب لم ينل أربا
عاني المها مستهل الدمع ساكبه (أو هاطله أو هامره)
بادي الضنا ذو غرام سامه شجنا
يهوى الظبا وهوى الآرام غالبه (أو قاتله أو قاهره) (4)
عطفا على مستهام رق وانتحبا
واهي القوى ما شكا بؤسا ولا وصبا
وافي العنا مشفقا من برحه وهبا
طول المدى وهو لا يصغي لمن عتبا (5)
من لصب لم ينل أربا
مستهل الدمع ساكبه
ذو غرام سامه شجنا
وهوى الآرام غالبه (6)
مستهام رق وانتحبا
ما شكا بؤسا ولا وصبا
مشفقا من برحه وهبا
وهو لا يصغي لمن عتبا (7)
من لصب لم ينل أربا
مستهام رق وانتحبا
مستهل الدمع ساكبه
ما شكا بؤسا ولا وصبا
هذه سبعة أشكال، وإذا اعتبرنا إبدال القوافي تكرر ذلك ثلاث مرات، إلا الشكل الثاني ، فيكون مجموع الأشكال 19 شكلا، وربما أمكن استخراج أشكال أخرى.
وقال من مطلع قصيدة يمدح بها الشيخ محمد الخضري الدمياطي:
خذ في هوى الغيد عني أحسن الخبر
وقل رويناه بالإسناد عن عمر
وانقل أحاديث أشجاني مسلسلة
عن صبوتي عن مجاري الدمع عن سهري
واهجر مواضيع عذالي فقد وضعت
في العذل مفتريات حكمهن فري
وانسخ صحاح رواياتي فقد نسخت
أحكام شرع الهوى في سالف العصر
وانقل عن الأغيد البسام لي أثرا
إذا نقلت عن العباس من أثر
يا ساحر الطرف كم بالسحر تمرضني
أنا السها بالخفا يا كوكب السحر
نحول خصرك يا مولاي أنحلني
وطالما قد أطلت الهجر فاختصر
بما بعطفيك من لين ومن هيف
وما بعينيك من غنج ومن حور
وما بصبك من سكر ومن وله
وما بثغرك من خمر ومن سكر
ألا رحمت عليلا لا علاج له
يا جارح القلب إلا مرهم النظر
أشتاق رشف اللمى واللحظ يمنعني
فيظمأ القلب بين الورد والصدر
وقال يصف شاطئ البحر:
يا حسن منظر شاطئ البحر الذي
يجلو الخواطر منه أحسن منظر
هاجت به هوج الرياح فأرسلت
أمواجه كطلائع الإسكندر
تطفو على تلك الصخور وتنثني
منهارة كالمدمع المتحدر
كسلاسل من فضة بفتائل
نبطت بهن من الحرير الأخضر
وقال من قصيدة في مدح الأمير أمين أرسلان، يتغزل باسمه:
كيف يقسو وعطفه حرف لين
لم لا تعتريه نحوي آماله
وإذا قيل تلك همزة وصل
قلت من لي بأن أنال وصاله
وعلى الصدغ واو عطف فهلا
عطفت من علي أبدى دلاله
وعساها أن تجتمع الشمل قربا
فهي للجميع يا منى القلب آله
الفصل الخامس والخمسون
الشيخ خليل اليازجي
ترجمته
هو أصغر أولاد المرحوم الطيب الأثر الشيخ ناصيف اليازجي، ولد في بيروت في بيت الشعر واللغة والإنشاء، فرضع آداب اللغة العربية مع اللبن، وقد قال الشعر وهو صبي ولم يدخل المدرسة. على أنه لم يدخل المدارس إلا بعد أن أخذ طرفا من الأدب، وقد درس الطبيعيات والرياضيات في مدرسة الأميركان في بيروت، وبرع فيها ونظمها في الشعر. وقدم 1881م مصر، وتعرف فيها بجماعة من أهل العلم، فنال حظوة لدى الأمراء والوزراء وأنشأ مجلة «مرآة الشرق»، لم يصدر منها إلا بضعة أجزاء. ثم ظهرت الثورة العرابية فعاد إلى مسقط رأسه، فانتدبته المدرسة الكلية الأميركية والمدرسة البطريركية لتعليم اللغة العربية للصفوف العالية فيها.
الشيخ خليل اليازجي 1856-1889م.
وفي سنة 1886م أصابته علة في الصدر عجز عن مداواتها الأطباء، ولما فرغت حيل العقاقير وصفوا له تبديل الهواء في وادي النيل، فعاد إلى مصر وطبع فيها ديوانه المسمى «نسمات الأوراق»، وفيه نخبة منظوماته، وهي على ما طبع عليه (رحمه الله) من القريحة الشعرية.
واشتد عليه الداء في أثناء ذلك، فأشير عليه بالعودة إلى لبنان، فعاد وأقام في عبيه أشهرا، ثم نزل إلى الحدث، وما زال فيها حتى توفاه الله في 23 يناير سنة 1889م، ونقلت جثته إلى بيروت، ودفنت فيها بمحفل حافل. وكان (رحمه الله) شاعرا مطبوعا، سريع الخاطر، حاد الذهن، متوقد القريحة، كثير الرواية، متفننا في أساليب الإنشاء، قريب البرهان مع لطف المحاضرة وسمو الآداب.
مؤلفاته
أكثر مآثره المنشورة شعرية؛ أشهرها رواية «المروءة والوفاء»، وهي رواية تاريخية تمثيلية شعرية غنائية، دل فيها على مقدرته في النظم وسعة معرفته بالأنغام. أساسها حكاية حنظلة الطائي مع الملك النعمان في عصر الجاهلية، فمثل فيها فضائل المروءة والوفاء تمثلا واضحا. وصدرها بقصيدة طويلة بين فيها الأحوال التي يجب اتباعها في هذا النوع من الروايات. وقد أتم نظمها سنة 1876م، فبلغت أبياتها نحو ألف بيت جمعت بين المتانة والسهولة. وقد مثلت هذه الرواية في بيروت سنة 1878م، وشهدنا ما كان من إعجاب البيروتيين بها، وتصفيقهم المتواصل في أثناء تمثيلها. وقد طبعت في بيروت سنة 1884م، وفي مصر سنة 1902م.
وعني (رحمه الله) أيضا في تنقيح كتاب كليلة ودمنة المشهور، وفسر الغريب من ألفاظه، وضبطه بالشكل الكامل، ووقف على طبعه، فجاء أضبط نسخ هذا الكتاب المعروفة.
ومما طبع من ثمار قريحته ديوان «نسمات الأوراق» - المتقدم ذكره، وفيه أكثر ما نظمه من تهان ومراث وتواريخ ومدائح وحكم وآداب فيما يزيد على 2600 بيت - سنأتي على أمثلة منها.
ومن مؤلفاته التي لم تطبع «كتاب الوسائل إلى إنشاء الرسائل»، وهو مجموع ما ألقاه على تلامذته في المدرسة البطريركية من الرسائل وأصول الإنشاء، وهو يعلم فيها هذا الفن على أسلوب يتدرج فيه الطالب من الكتابة البسيطة إلى أعلى طبقة من الإنشاء. والكتاب لا يزال خطا في المدرسة المذكورة.
ومنها «الصحيح بين العامي والفصيح»، وهو معجم لم يسبقه أحد إلى مثله، جمع فيه مرادفات الألفاظ العامية من اللغة الفصحى، وقد رأيناه (رحمه الله) وهو يعنى في جمع تلك الألفاظ يوم جاء مصر للمرة الثانية، وتوسمنا في ذلك التأليف فائدة كبيرة لشدة حاجة الكتاب بنوع خاص إليه. وكان قد مثل بعضه للطبع فاشتدت عليه وطأة الداء، فانقطع عن العمل، فتوقعنا أن لا يحرمنا شقيقه الشيخ إبراهيم صاحب الضياء من إتمامه، لكنه لم يفعل، ولا نعلم مصير ذلك الكتاب.
أما شعره، فأحسن ما يقال في وصفه أن نأتي بأمثلة منه، قال من قصيدة قدم بها روايته المشار إليها إلى شقيقه المشار إليه:
لما وجدتك مثل بحر زاخر
ألقيت بين يديك بعض جواهري
هاتيك جوهرة لدي وإن تكن
صدفا لدى در بلجك فاخر
نزر المقل أجل في عينيه من
وفر لدى عين الغني القادر
تخذت ليالي الطوال محابرا
وسوادها اتخذته حبر محابر
ووهبتها إنسان عيني فاغتدت
دعجاء إذ كحلت بإثمد ناظري
عذراء لكن لا أقول فريدة
للعقد إن العقد ليس بحاضري
لم ينسج الشعرا على منوالها
إذ ليس معناها بقلب الشاعر
حاشاك والإطلاق أضيق حيزا
من أن يحيط بك احتياط الدائر
شعرية لا نثر فيها وهي من
بعض الوجوه ترى كنثر الناثر
وقال من قصيدة بعث بها إلى صديقه المرحوم أديب إسحاق بالقاهرة:
تلك العيون منوننا فكأنما
قد كلفتها قتلنا الأيام
ولربما نام الزمان هنيهة
عنا وتلك تصيب وهي نيام
وإذا رأت في النوم طيف خياله
فتكت به ولو انها أحلام
طمعت بخضرتها العيون وما درت
أن السموم تكنها الأدسام
ولرب حلو في المرارة مودع
كالحبر فيه ثنا الأديب يقام
متنبه الأفكار يقظان الحجى
حتى لأعجب منه كيف ينام
فإذا تروأ كاتبا فجميعه
فكر فتوشك تفصح الأقلام
وقال يمدح المرحوم شريف باشا وزير مصر من قصيدة:
قد قام في دست الوزارة فاكتسى
شرف العلى وبه تشدد أزره
ولكل ما يولي الشريف مشرف
كالنهر يكسبه التدفق بحره
وغدا زمام الدهر طوع بنانه
إذ بات مكشوفا لديه سره
وهو الذي ضبط البلاد بكفه
لما حوى ما عنه ضاقت صدره
يرنو بفكرته فيوشك ما يرى
بالعين منه أن يراه فكره
وقال من قصيدة في رثاء المرحوم المعلم بطرس البستاني:
أجرى اليراع عليك دمع مداده
فكسا به القرطاس ثوب حداده
وبه نخط لك الرثاء من الأسى
فهو المقيم على عهود وداده
فكم بميدان الطروس هززته
حتى جعلت الرمح من حساده
إن كان يبكيك اليراع بدمعه
فلقد بكاك حزيننا بفؤاده
يا صاحب الفضل الذي لو أننا
نبكي به لم نخش وشك نفاده
يا قطر دائرة المعارف والحجا
ومحيط فضل فاض في إمداده
فإذا المحيط بكاك لم يك دمعه
دون المحيط يزيد في إزباده
يبكي الحساب عليك متخذا له
دمعا يسيل عليك من إعداده
خدم البلاد وليس أشرف عنده
من أن يسمى خادما لبلاده
ومحبة الأوطان كان يعدها
مما يدور عليه أمر معاده
وقال من قصيدة يرثي بها المرحوم أديب إسحاق:
أخلق بجسمك أن يبيت كليلا
عن جهد نفسك أن يموت عليلا
نهكته نفسك في المطالب والعلى
حتى تمنى للفراق سبيلا
يا راحلا أبكى عليه محابرا
ومنابرا ومحاجرا وطلولا
ترثيك أقلام يكون صريرها
نوحا عليك من الأسى وعويلا
وهي التي قد كن بين بنانها
قضبا وكان صريرهن صليلا
ولعل مثلك ليس يوجد عندنا
حتى نرى لك منك عنك بديلا
يروي مآثر عنك يقصر دونها
صوغ القوافي في ثناك طويلا
ويعد ما أحصيته في مدة
قصرت ففات العرض منها الطولا
إن كان قل مدى حياتك عندنا
فقليل مثلك لا يعد قليلا
فلقد ملأت به السماع جرائدا
وقصائدا ورسائلا وفصولا
ما بين شرق في البلاد ومغرب
لم تأل فيه تغربا ورحيلا
مستصحبا لك همة نفاذة
وعزيمة مثل الحسام صقيلا
وقريحة وقادة وبصيرة
نقادة تستوضح المجهولا
وقال من قصيدة رثا بها المرحوم سليم البستاني وقد توفي فجأة:
وهو الموت إلا أن خطبك أعظم
ورزؤك في الأرزاء أشجى وأجسم
ومن فلتات الدهر أمرك أنه
لا شفق في أمثال هذا وأرحم
لك الله ميتا كالقتيل ولم يسل
له من دم لكن مدامعنا الدم
وإن نحن طالبنا المنايا بثأره
رمتنا، وقالت من يطالب عنكم
وإن نحن عاتبنا الزمان بفعله
قرعنا سماعا ما له من يترجم
فعدنا وقد خبنا من الدهر مأملا
ننوح على ما كان منه ونلطم
كذا الدهر إلا أن من زاد همه
وقصر عن تفريجه يتظلم
فقدنا بني الأوطان عضوا مكرما
كجسم مضت منه يد فهو أجذم
ألا إننا في فقده اليوم أسرة
وأوطاننا في نوحه اليوم مأتم
على مثله يبكى وهيهات مثله
فتى طاب منه القلب واليد والفم
قال يمدح المرحوم الدكتور فانديك إثر مرض شفي منه على يده:
لو استطعت جعلت البرق لي قلما
والجو طرسا وحبري الغيث حين همى
ورحت أملأ آفاق السماء ثنا
عليك منتثرا طورا ومنتظما
يا كنز فضل وعلم لا نفاد له
مع أنه لزم الإنفاق والكرما
إن النفيس عزيز قد ينال وقد
بذلته بيننا غنما لمن غنما
كالشمس تعطي سناها كل ذي بصر
وربما كان لا يدري له قيما
نبغي مبالغة في الشعر فيك فلا
نستطيع ذاك ولا نقضي الذي لزما
والشعر لا بد فيه من مبالغة
إلا بوصفك فهو الغالب الكلما
أنت الطبيب لأجساد العباد ولل
عقول والأنفس اللاتي اشتكت سقما
والفيلسوف الذي أحصى العلوم وقد
أسالها منهلا للمشتكين ظما
تدعى الحكيم وإن نعن الطبيب وإن
لا نعنه فصحيح فيك كلهما
يا مغفلا نفسه في جنب منفعة
للآخرين جزيت الخير والنعما
كأنما الناس طرا عيلة لك من
شكا فإنك معه تشتكي ألما
وكتب من القاهرة وهو مريض إلى بعض أعزائه في بيروت:
قل صبر الفؤاد والشوق غالب
والضنى وحده لذا الشوق غالب
غالب السقم مني الشوق حتى
بات قلبي ميدان كل محارب
غلب السقم بانحيازي إليه
وانثنى الشوق إنما غير هارب
لم أقل هاربا ومن لي بهذا
فهو طي الفؤاد ضربة لازب
غير أني قسمت قلبي فكان ال
سقم في جانب وشوقي بجانب
كلما حن مني القلب قال ال
عقل مهلا فأنت لست بصاحب
وعسى الله أن يصير بي بل
بكثيرين ذلك الظن خائب
وإذا لم يكن فقد قام عذري
أنني قد عملت ما هو واجب
ويكون هذا البعاد ابتداء
لبعاد هذا له لا يقارب
غير أني أرى لليلي فجرا
ربما كان صادقا غير كاذب
ليس من عائق لهذا ولا ذا
فبكل من الخواطئ صائب
كيف يشفى من كل حين يرى المو
ت وغربانه عليه نواعب
خاف من موته فمات من الخو
ف كثير فثق وطاوع وناصب
وقال مؤرخا ميلاد غلام اسمه فضل الله سنة 1875م:
أتى لبني الطوا غلام بوفده
نشرنا برود الأنس في كل محضر
فوافى الهنا يدعو أباه مؤرخا
لقد حل فضل الله عندك فأبشر
وكتب على إحدى صوره:
لما تملكتم على قلبي ولم
أطمع له من عندكم بمعاد
أهديتكم رسمي لكيما تجمعوا
ما بين جسمي عندكم وفؤادي
وكتب:
لك مني أثر العين التي
لك فيها أثر في كل أين
فتقبله ولو كنت امرأ
ليس يرضى أثرا من بعد عين
وكتب:
رسم إليك بعثته وأنا
أهوى لو أن مكانه الجسم
إن كان ذلك ليس يمكنني
يا حبذا لو أنني رسم
وكتب:
بعثت لكم موهوم شخصي ممثلا
وشخصكم في مقلتي ظل بالوهم
لعلي من الوهمين أجني حقيقة
فرسما ترى ذاتي وذاتا يرى رسمي
وقال في ضارب عود:
وضارب عود قد أزاغ عيوننا
ببرقين من تلك البنان وذي الكف
تنازعه آذاننا وعيوننا
فهذي إلى كحل وتلك إلى شنف
الفصل السادس والخمسون
عبد الله باشا فكري
هو عبد الله باشا فكري بن محمد أفندي بليغ بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد. وكان الشيخ عبد الله من العلماء المدرسين في جامع الأزهر، وكان مالكي المذهب، أخذ العلم عن الشيخ عبد العليم الفيومي وغيره. وما زال الشيخ عبد الله مقيما في مصر حتى قدمت الجنود الفرنساوية في أواخر القرن الثامن عشر وأساءوا معاملة العلماء، فرحل إلى منية خصيب (المنيا) فأقام بها مدة، ثم عاد إلى القاهرة وعكف على الاشتغال في العلم حتى توفي، فنشأ ابنه محمد أفندي بليغ على مثال أبيه؛ جادا في طلب العلم.
وكانت مصر قد ازدهت بالعائلة المحمدية العلوية، وأنشئت مدارس العلوم الرياضية والمدرسة الحربية، فدخلها وخاض عباب علومها حتى تمكن منها، فانتظم في خدمة الجيش فترقى إلى رتبة صاغقول أغاسي، وحضر عدة مواقع حربية؛ أهمها حرب المورة، فعقد في المورة على والدة المترجم وعاد بها إلى الحجاز، فوضعت بمكة المشرفة غلاما سماه باسم أبيه عبد الله، وهو عبد الله باشا فكري صاحب الترجمة.
عبد الله باشا فكري 1250-1307ه.
ومن غريب الاتفاق أن سنة ولادته وافقت مجموع جمل الآية:
قال إني عبد الله آتاني الكتاب ، وذلك سنة 1250ه، وقد وافق ذلك نبوغه بالعلم والفضل، واشتهاره بسائر فنون الكتابة نثرا ونظما، وقد أعجب هو أيضا بهذا الاتفاق، فلما شب وتعلم نقش هذه الآية على خاتم له كان يختم به كتبه، ثم عاد محمد أفندي بليغ بولده إلى القاهرة، وما زال في خدمة الحكومة حتى نال منصب باشمهندس الشرقية، ثم مفتش هندسة الجيزة والبحيرة، وتوفي سنة 1261ه.
أما صاحب الترجمة فكان عند وفاة والده لم يتجاوز الحادية عشرة ، فنشأ في حجر بعض أقارب أبيه، وكان قد بدأ يتعلم القرآن فأتمه وجوده، ثم اشتغل في طلب العلم بالجامع الأزهر، وتلقى العلوم المتداولة فيه؛ كاللغة والفقه والحديث والتفسير والعقائد والمنطق، على الشيخ إبراهيم السقا والشيخ محمد عليش والشيخ حسن البلتاني وغيرهم. وكان مع ذلك يشتغل في تعلم اللغة التركية حتى أتقنها، وتعين في القلم التركي في الديوان الكتخدائي (1267ه) وهو لا يزال مكبا على طلب العلم في الأزهر، يغتنم ساعات الفراغ قبل ذهابه إلى الديوان وبعد رجوعه منه.
ثم انتقل من الديوان المذكور إلى ديوان المحافظة، ثم إلى الداخلية بصفة مترجم، ثم ألحق بالمعية السنية على عهد المغفور له سعيد باشا، وبقي فيها إلى ولاية الخديوي الأسبق إسماعيل باشا سنة 1279ه، فأبقاه في معيته فسافر معه إلى الآستانة عندما أمها لإتمام الرسوم في تقليد الولاية وأداء الشكر للحضرة السلطانية. وما زال في خدمته يرافقه في أكثر رحلاته، فسافر إلى الآستانة مرارا بمهمة الكتابة تارة مع الخديوي الأسبق، وطورا مع الحرم الخديوي، وبمهمات أخرى، فنال الرتبة الثانية مع لقب بك سنة 1282ه.
وفي سنة 1284ه قلده الخديوي الأسبق ملاحظة الدروس الشرقية، وهي العربية والتركية والفارسية، بمعية أنجاله، وهم المغفور لهم محمد توفيق باشا الخديوي السابق، والبرنس حسن باشا، والبرنس حسين باشا عم الجناب الخديوي، وغيرهم من أمراء اللغة الخديوية.
فقام يباشر أمرهم في التعليم والتعلم، والتدرج في الفضل والتقدم، فكان أحيانا يباشر التعليم بنفسه، وأحيانا يقوم بمراقبة غيره من المعلمين، وملاحظة إلقاء الدروس وتقويم طريقة التعليم. فلم يزل على ذلك إلى أن ترقى الخديوي السابق إلى رتبة الوزارة والمشيرية، وتوجه إلى دار الخلافة العظمى لأداء رسوم الشكر على ذلك لجلالة السلطان الأعظم، فصحبه المترجم إلى دار السعادة، وبقي معه إلى أن عاد.
وفي سنة 1286ه نقل إلى ديوان المالية، فأقام أياما بغير عمل، ثم عهد إليه النظر في أمر الكتب التي كانت في ديوان المحافظة على ذمة الحكومة، وإبداء رأيه فيها، فلبث مدة يتردد إلى ذلك الديوان وينظر في الكتب. ثم رفع تقريرا مفصلا ضمنه بيانها وما رآه في حالها، وذكر فيه أن بقاءها على حالتها لا يحسن ولا يحفظها، ولا يمكن من الانتفاع بها، وقال بلزوم جعلها على هيئة ينتفع بها الناس؛ إما بإنشاء محل خاص تنقل إليه ويجعل فيه ما فيه الكفاءة لها من الخزائن، وتوضع به على الوضع الموافق، وإما بإحالتها على المدارس لتودع في المكتبة الجاري إنشاؤها بمساعي المرحوم علي باشا مبارك ناظرها إذ ذاك، على سعة لا تضيق بهذه الكتب وأمثالها، وأوضح أن الوجه الثاني أولى. وقد حصل ذلك على ما قرره، فاستنقذت تلك الكتب النفيسة من زوايا الخمول والإهمال، ورتبت ترتيبا حسنا في المكتبة المذكورة، وهي الكتبخانة الخديوية الشهيرة.
وكان المجلس الخصوصي إذ ذاك (وقد خلفه الآن مجلس النظار) مشتغلا في جمع اللوائح والقوانين وتنقيحها وتعديلها، فعهد إلى صاحب الترجمة بالمساعدة في ذلك، فاستلم القوانين واللوائح التركية، وأخذ في العمل إلى سنة 1287ه.
وفي سنة 1288ه تعين وكيلا لديوان المكاتب الأهلية، والرئيس إذ ذاك المرحوم على باشا مبارك. وفي سنة 1294ه نال صاحب الترجمة رتبة المتمايز، وبعد سنتين تعين وكيلا لنظارة المعارف العمومية، ونال رتبة ميرميران الرفيعة، ثم عهد إليه منصب الكتابة الأولى بمجلس النواب مع المنصب السابق، وفي سنة 1299ه تعين ناظرا للمعارف العمومية، وفي رجب من تلك السنة أقيل من منصبه مع سائر زملائه النظار لأحوال اقتضتها الثورة العسكرية إذ ذاك، وأمرها مشهور.
ثم كانت الثورة العرابية - المشار إليها - فلما انقضت وأخذت الحكومة في محاكمة زعمائها والقائمين بها، كان صاحب الترجمة من جملة المقبوض عليهم، وبعد استجوابه لدى لجنة التحقيق ظهرت براءته، فأطلق سراحه، ولكنهم قطعوا عنه معاشه، فشق ذلك عليه، فالتمس المثول بين يدي المغفور له الخديوي السابق ليدرأ عنه ما بقي من آثار الشبهة عليه، فلم يؤذن له، فعاد يلتمس ذلك من وجهة أخرى، فنظم قصيدة شائقة يمدح بها الحضرة الخديوية، وقد أبان فيها براءة ساحته، نحا بها منحى النابغة في اعتذاره، وهاك مقتطفات قال منها:
كتابي توجه وجهة الساحة الكبرى
وكبر إذا وافيت واجتنب الكبرا
وقف خاضعا واستوهب الإذن والتمس
قبولا وقبل سدة الباب لي عشرا
وبلغ لدى الباب الخديوي حاجة
لذي أمل يرجو له البشر والبشرا
لدى باب سمح الراحتين مؤمل
صفوح عن الزلات يلتمس العذرا
تنوء الجبال الراسيات لحلمه
إذا طاش ذو جهل لدى غيظه قهرا
يراقب رحمن السموات قلبه
فيرحم من في الأرض رفقا بهم طرا
مليكي ومولاي العزيز وسيدي
ومن أرتجي آلاء معروفه العمرا
لئن كان أقوام علي تقولوا
بأمر فقد جاءوا بما زوروا نكرا
حلفت بما بين الحطيم وزمزم
وبالباب والميزاب والكعبة الغرا
لما كان لي في الشر باع ولا يد
ولا كنت من يبغي مدى عمره الشرا
ولكن محتوم المقادير قد جرى
بما الله في أم الكتاب له أجرى
أتذكر يا مولاي حين تقول لي
وإني لأرجو أن ستنفعني الذكرى
أراك تروم النفع للناس فطرة
لديك ولا ترجو لذي نسمة ضرا
فعفوا أبا العباس لا زلت قادرا
على الأمر إن العفو من قادر أحرى
وحسبي ما قد مر من ضنك أشهر
تجرعت فيها الصبر أطعمه مرا
يعادل منها الشهر في الطول حقبة
ويعدل منها اليوم في طوله شهرا
أيجمل في دين المروءة أنني
أكابد في أيامك البؤس والعسرا
وكلها درر تشهد بفضله.
ولما عرضت على سموه أجلها وأحلها محلها، وسمح له بالمثول بين يديه، وأعاد له معاشه؛ دلالة على رضائه عنه، فنظم قصيدة يشكره بها، نذكر منها الأبيات الآتية:
ألا إن شكر الصنع حق لمنعم
فشكرا لآلاء الخديوي المعظم
مليك له في الجود فخر ومفخر
على كل منهل من السحب مرهم
سأشكره النعماء ما عانقت يدي
يراعي أو استولى على منطقي فمي
وفي سنة 1302ه توجه إلى الحجاز لأداء فريضة الحج، فلقي من علماء مكة والمدينة وأدبائهما ما يليق بمقامه من الإكرام والإعظام. وكتب في ذلك كتابا سماه الرحلة المكية. وفي السنة التالية شخص لزيارة بيت المقدس والخليل، ومعه نجله المرحوم أمين باشا فكري، فلقي من العلماء والعظماء هناك ما يجدر بفضله، ثم سارا إلى مدينة بيروت الزاهرة لتبديل الهواء، وأقاما فيها شهرا، كان مقامهما فيها منتدى الفضلاء ومشرع الأدباء والعلماء، ثم ارتحل إلى دمشق فلاقى فيها ما لاقاه في بيروت من الاحتفاء وحسن الوفادة، ثم عرج إلى بعلبك فزار آثارها، وسار منها بطريق لبنان إلى بيروت، فأقام فيها شهرين وعاد إلى مصر.
وفي سنة 1306ه انتدبته الحكومة المصرية لرئاسة الوفد العلمي المصري في المؤتمر الذي انعقد في مدينة استوكهلم عاصمة أسوج ونروج، وصحبه في هذه الرحلة أيضا نجله - المتقدم ذكره - عضوا في هذا الوفد . وقبل سفره من إسكندرية أحسن إليه الجناب الخديوي بالنيشان المجيدي من الدرجة الثانية. وقد مر في وفادته المذكورة على تريستا من أعمال النمسا، وفينسيا (البندقية) وميلانو من أعمال إيطاليا، ولوسرن من أعمال سويسره، وباريس، فأقام بها أكثر من عشرين يوما، تفرج فيها بمشاهد المدينة وضواحيها، وكان وقت المعرض، فشاهد ما فيه من عجائب الصنائع وغرائب الفنون. ثم برحها إلى لندره، ومنها إلى نوتردام، وهي من أعمال هولاندا، وليدن من أعمالها أيضا، وزار مكتبتها الشهيرة، ورأى مطبعتها المعروفة بالمطبوعات الشرقية. ثم توجه منها إلى كوبنهاجن عاصمة الدنيمارك، ومنها إلى استوكهلم محل مأموريته، فنال من العلماء المجتمعين لهذا المؤتمر باستوكهلم وخرستيانيا مزيد الرعاية، وأهداه أسكار الثاني ملك أسوج ونروج عند إتمام هذه المهمة نيشان (وازة) من الدرجة الأولى.
ومر في العودة من مأموريته على برلين عاصمة بلاد ألمانيا، وفيانا عاصمة النمسا، فلقي بها ما لقيه في العواصم الأخرى من الاحتفاء. وقد أخذ بعد عودته إلى مصر يجمع المواد ويعد المعدات لتدوين رحلته التي وعد بها عن المهمة، وعما رآه في العواصم التي مر بها، ولكن منعه من استمرار السير في ذلك السكتة القلبية التي اعترته في شهر رجب سنة 1307ه، فأبقى إتمامها إلى ما بعد تمام صحته، ولكن عاوده بعد ظهر الخميس في 7 ذي الحجة وهو عائد من أبعاديته بتلحوين، وتزايد عليه حتى وافاه الأجل المحتوم في الساعة الثانية عربية من صباح يوم الأحد عاشر الشهر، وهو يوم النحر، وشيع محمولا على هامات الوقار والتبجيل، تودعه المحاجر والقلوب. ونظرا لما كان له من المقام الرفيع لدى المغفور له الخديوي السابق تعطف (رحمه الله) بتعزية أهله وأولاده برسالة برقية.
وكان (رحمه الله) شاعرا مطبوعا، وكاتبا فصيحا، وقد نبغ بين الكتبة والشعراء ومصر قليلة الوسائل التعليمية. وكان يذهب في إنشائه مذهب القرون الوسطى من أبناء هذا اللسان، مع ميل إلى التسجيع.
أما رحلته إلى المؤتمر، فقد عني نجله - المتقدم ذكره - بنشرها في كتاب سماه «إرشاد الألبا إلى محاسن أوروبا» في مجلد ضخم طبع بمصر سنة 1892م، وهو جدير بالمطالعة حقيق بالاعتبار؛ لما حواه من أوصاف المدن الأوروبية وعادات أهلها وأخلاقهم، وفيه شيء كثير من نظم المؤلف ونثره مما لم ينشر في سواه، وأبحاث علمية ولغوية وأدبية.
ومن مؤلفاته أيضا المقامة الفكرية في المملكة الباطنية، طبعت في مصر غير مرة، ورسالة مطولة إلى المرحوم سلطان باشا يحثه فيها على نشر العلوم في أنحاء الصعيد، ونبذة من محاسن آثار المغفور له محمد علي باشا الكبير، وله غير ذلك من المقالات والخطب، وله في رواية الحديث طرق عديدة وأسانيد سديدة، فضلا عن قصائده الرنانة، وقد ذكرنا مثالا منها.
الفصل السابع والخمسون
أسعد طراد
بيت طراد عائلة شهيرة في بيروت، وفيها جماعة من أرباب الثروة والتجارة، ورجال الأدب والشعراء، ومن شعرائهم أسعد طراد، ولد في بيروت سنة 1835م، وليس فيها من المدارس - يومئذ - ما يستحق الذكر، فأرسله والده إلى المدرسة الأميركية في عبيه بلبنان، فتلقى فيها مبادئ العلم وبعض العلوم العالية، وقرأ العلوم العربية على أشهر الأساتذة. وكان مفطورا على الشعر منذ حداثته، فأكثر من الترداد إلى المرحوم الشيخ ناصيف اليازجي، ونظم قصائد عديدة في مواضيع تحدى فيها شعر الشيخ من السهولة والمتانة.
وتقلب (رحمه الله) في مناصب الحكومة العثمانية، وكان موضع ثقة أولي الأمر لنزاهته ونشاطه. وفي سنة 1872م برح سورية وجاء القطر المصري، وأقام به يتعاطى التجارة في الإسكندرية وزفتى والمنصورة إلى أن توفاه الله سنة 1891م، فعني ابن أخيه الخواجة فضل الله طراد بجمع ما تيسر من قصائده، فجمع نحوا من ألف وخمسمائة بيت، طبعها في كتاب وقف على طبعه ورتبه نجيب أفندي طراد، وهذه أمثلة منه:
قال من قصيدة مدح بها الشيخ ناصيف اليازجي:
إلى كم فؤادي يطلب العشق والحبا
ولم أر إلا الوجد والوعد والعتبا
عرفت بأن لا يعرف الود والوفا
لديك ولا يدري المحب له ذنبا
غزالة أنس بات قلبي لها حمى
عليه عيوني قد غدت تمطر السحبا
تصيد ولكن لا تصاد على المدى
وتسبي قلوب العاشقين ولا تسبى
تقول اصطبر فالصبر للقلب واجب
ولم تبق لي للصبر يوم النوى قلبا
أأطمع منها بالوصال ولم أكن
سمعت بخود في الورى رحمت صبا
وقد خاف نومي أن يبيت بمدمعي
غريقا فقد عاف التواصل والقربا
وقد جزمت عن ناظري اليوم وجهها
وحلت فؤادي ترغب السلب والنهبا
نصبت لها قلبي لترفع جزمها
فقد علمتني الرفع والجزم والنصبا
قد انتسبت للعرب من أبدعوا الوفا
سأشكو جفاها للذي أورث العربا
إلى اليازجي اليوم تسعى ركابنا
كأهل الظما من بحره نطلب الشربا
لئن دثرت كتب الألى قد تقدموا
من العرب هذا صدره جمع الكتبا
وأصعب شيء عنده منع فضله
وأهون شيء أن يحل لك الصعبا
على أي شيء نحوه جئت سائلا
فقبل سؤال منك تنظره لبى
وقال من قصيدة أجاب بها الشيخ محمد عاقل بالإسكندرية:
هيهات يسلم من جفونك عاشق
وهي التي بالسحر تفتن بابلا
أترى لمن أشكو الحبيب ولا أرى
لي من قضاة الحب شخصا عادلا
يا عاذلي في حبه مهلا فما
من عاشق قبلي أطاع العاذلا
إني قتيل في الغرام على رضى
وبمهجتي أخفيت ذاك القاتلا
وله قصيدة رنانة وصف فيها الاختراعات الجديدة، نقتطف منها قوله:
واترك حدوج المالكية إنها
ملكت حشاك بخدرها مصفودا
ما بالحدائج والهوادج ما ترى
في عصرنا في قطر مصر جديدا
وجه لحاظك للبخار وقل له
إني أرى ماء يجر حديدا
وانظر لسلك البرق والتلفون كم
قد قربا ما كان منك بعيدا
غنت سليمى في الحجاز فأطربت
مع بعدها أهل العراق نشيدا
ولسوف إن رقصت بمصر فقد نرى
في أصبهان لقدها تأويدا
أله الفؤاد بذكر ذاك وذا وذا
عجبا وهاك الطائر الغريدا
يهدي إليك مع البريد بوصفه
فكأنما حمل البريد بريدا
يصف البريد ببره وببحره
وبجوه متنوعا معدودا
ذاك الصديق الصادق الخل الذي
لا يعرف التأجيل والتعريدا
ويريك منه بوصفه خلا يرى
حفظ الأمانة سنة وعهودا
حمل السفاتج والنضار لأهلها
وسرى بحول الله يطوي البيدا
يطوي القفار فكم عليه حلة
منها وكم منه بها أخدودا
متفرع في أرض مصر كنيلها
يسقي التجارة سقي ذاك صعيدا
أبدا يطوف بها كصاحب كرمة
يهدي لكل محطة عنقودا
وقال يرثي الشيخ حسنين شيخ الزاهدين بالمنصورة:
سرى الحسنين اليوم يغتنم الأجرا
من المسجد الأقصى فسبحان من أسرى
وعن جانب النيل ارتقى نحو جنة
جرت تحتها الأنهار جل الذي أجرى
بكته بنو المنصورة اليوم حسرة
فكم عمها لطفا وأكسبها نصرا
أراهم يبكون الدما وكأنني
أراني من آماقهم أعصر الخمرا
ينوحون شيخ الزهد والنسك والتقى
ومن عمهم بالفضل عمهم برا
وسحت عيون الأفق حتى كأنما
منيته قد أبكت الأنجم الزهرا
فريدا وحيدا قد قضى العمر زاهدا
ولازم في أيامه الفقر والقفرا
عن الوابل استغنى بظل قناعة
في كسرة عما استعز به كسرى
وقال يرثي المرحوم سليم بسترس المتوفى في لندن:
خل الحزين اليوم في حسراته
ودع العزاء لمن يعي كلماته
واطرح أحاديث السلو اليوم عن
دنف يخاف عليك من صعداته
دنف غرام البين لم يترك له
من قلبه إلا صغار فتاته
نشوان كأس نوائب الدنيا على
أنواعها حسب اختلاف سقاته
ولكل بلوى أنة في صدره
فتعد ما تحويه من أناته
إلى أن قال:
لاقى المنية باسما فكأنها
وافته تخطر مع لفيف عفاته
وكأنما تلك النفيسة نفسه
بيديه كانت عند بذل هباته
عظمت بقلب الشرق حسرة فقده
بذواته وقضاته وولاته
والنيل من أسف تمنى لو جرى
للشرق تعزية لقلب فراته
ومن قصيدة رثا بها المرحوم سمعان كرم بالإسكندرية يخاطب الموت:
ويلاه لا يمحي خط القضاء ولو
مهما امحى منك مما خط تبيانا
وألف ويلاه كم برحت في مهج
يا موت فتكا وكم فرحت أجفانا
وكم ظلمت ولم ترحم نواح أخ
على أخيه وكم يتمت ولدانا
وكم جمعت بدار اللحد من نفر
جمع الفراق وكم فرقت إخوانا
وكم أسرت غداة الروع من ملك
بين الجنود وكم عطلت تيجانا
وكم غلبت بدار الأسر متخذا
نوائب الدهر أجنادا وسجانا
وكم مشيت على هام المشاة وكم
ألقيت عن صهوات الخيل فرسانا
ما خفت مجدا ولا جاها ولا شرفا
ولا سموا ولا قدرا ولا شانا
ولم تبال بأبطال الرجال ولو
شنوا الإغارة فرسانا وركبانا
ولا قبلت شفيعا لو عزمت على
فتك ولو كان ريا بنت مروانا
كم شاخ جيل فجيل وانقضى ومضى
وأنت فيك الصبا يزداد ريعانا
أفنيت عادا وشيبانا وجرهمة
وتغلبا وبني بكر وغسانا
وعشت في كل نفس كنت تسلبها
رغما وما زلت بالأرواح ريانا
حتى متى وإلى كم لا تموت ودع
ليوم موتك كي يبكيك إنسانا
هيهات ينظر موت الموت ذو رمق
من الورى أكسبته النفس وجدانا
فحينا موته حي بصاحبه
ما لم يمت لم يجد للموت هجرانا
وميتنا موته ميت قضى معه
كأنه وكأن الموت ما كانا
يا أيها الميت لا موتا يعاد فكن
من بعد ذا في سرير الملك سلطانا
مهما تبددت لا تخش الفناء فقد
صادفت في فسحات الكون خزانا
الفصل الثامن والخمسون
المعلم ناجي
الشاعر التركي الشهير
ترجمة حاله
ولد في الآستانة حوالي عام 1265ه، وكان والده سراجا يسمى علي بك، توفي وولده هذا لم يتجاوز الحادية عشرة من عمره، فكفلته أمه، وكان له أخ أكبر منه سنا فعنيا بتربيته، ولم يكونا في سعة من العيش، فتعلم مبادئ القراءة في مكتب ابتدائي. وقرأ شيئا على أخيه - المشار إليه - فحفظ القرآن ومبادئ العلوم اللغوية، ثم عكف على اكتساب العلم بالمطالعة من تلقاء نفسه، فأتقن التركية والعربية والفارسية، ثم تعلم اللغة الفرنساوية بعدئذ، واكتسب كل ذلك بالجهد والاجتهاد وسهر الليل؛ لأن حاله لم تكن تساعده على تكبد نفقات المدارس والإنفاق على المعلمين والكتب ونحوها، حتى إنه كثيرا ما اضطر إلى أعمال خصوصية يستعين بربحها على نفقات الدرس وأثمان الكتب.
المعلم ناجي 1265-1310ه.
ولما تمكن من العلم على هذه الصورة تعين أستاذا في مدرسة رشدية وارنه (في الروملي). وتعين أيضا كاتبا خصوصيا لدولتلو سعيد باشا، وكاتبا في إحدى المحاكم الجزائية، وترقى منها إلى أن صار مميز قلم مكتوبي إحدى الولايات. ومن الوظائف التي تقلدها أيضا الكتابة في نظارة الخارجية، وكان مجتهدا أديبا، فاشتهر بين معارفه بالأدب والبراعة وجودة النظم وحسن الإنشاء، فتقرب من الفاضل التركي الشهير أحمد مدحت أفندي، فكان هذا يرتاح إلى ناجي ويعجب بذكائه وأدبه فأزوجه ابنته.
فكان ذلك من جملة ما حبب إليه الانقطاع إلى العلم، فاعتزل الخدمة في دوائر الحكومة وانخرط في سلك المحررين، فتولى تحرير القسم الأدبي من جريدة «ترجمان حقيقة»، ثم جريدة «سعادت»، وأنشأ مجلات شعرية انتقادية سيأتي ذكرها بين مؤلفاته، وآخر مهمة تقلدها كتابة تاريخ آل عثمان، فقضى فيها بضع سنوات حتى توفاه الله.
وكان مع ذلك كله عاملا على التأليف والتصنيف ونظم الشعر على أسلوب مختصر مفيد، حتى يكاد يستحيل عليك أن تجد في عبارته كلمة يمكن الاستغناء عنها أو وضعها في غير ما وضعت له، فعكف أدباء الأتراك على مطالعة مؤلفاته ومنظوماته؛ لما آنسوه فيها من الطلاوة والرقة مع اللذة والفائدة. وراجت كتاباته رواجا حسنا ساعده على التعيش، ثم كان ذلك سببا في رفع منزلته بين أقاربه، وتقربه إلى رجال الدولة وأهل المابين وغيرهم من علماء الآستانة ووزرائها.
فلما أذن الله بانقضاء أجل حياته في 25 رمضان سنة 1310ه كان لخبر منعاه وقع أليم في قلوب العثمانيين كافة، فبكاه الأصدقاء، ورثاه الشعراء، وأبنه الخطباء، وترجمته الجرائد. وما وصل خبر منعاه إلى جلالة السلطان حتى أصدر إرادته بأن ينفق على جنازته ودفنه من جيبه الهمايوني الخاص، وأن يدفن في تربة ساكن الجنان السلطان محمود الثاني مدفن العظماء والعلماء.
واشتهر المعلم ناجي أفندي بحسن البيان، ودقة النظر، وإصابة الرأي، وجودة القريحة، وحسن الذوق نظما ونثرا، فكانت الألفاظ والمعاني طوع بنانه، فيصوغ منها ما شاء على أساليب تلذ المطالعين على اختلاف طبقاتهم، واتخذ في الإنشاء والنظم نسقا جديدا، فلم يقلد الإفرنج المحدثين، ولا بقي على ما كان عليه السلف، لكنه اختار ما بين ذلك أسلوبا حسنا خلفت صورته في ذهنه، مما حبب الناس في مطالعة ما كتبه ونشره خلافا لما جرت به عادة كتاب هذا العصر من الأتراك والعرب، فهم في الغالب يتوخون تقليد الإفرنج فيما يكتبونه، وهو طبيعي لا غرابة فيه، ولكن التقليد الأصم مفسد للذوق ؛ لأن لكل لغة أو أمة ذوقا خصوصيا لا تلذ المطالعة إلا فيه، فليكن نظرنا في ما يكتبه الإفرنج نظر من يطلب التوسع في معرفة أذواق الكتاب على اختلاف الأعصر واللغات، ثم نختار ما يناسب ذوق أبناء لغتنا الذين إنما نكتب لهم.
فيظهر أن صاحب الترجمة سار على هذه الخطة، فكان لمؤلفاته ومنظوماته وقع حسن عند قراء اللغة التركية، وكان في عزمه أن يجعل للإنشاء التركي منهاجا قائما بنفسه، لا يشبه الشرقيين القدماء ولا الغربيين المحدثين، بل يوافق مقتضيات اللسان والزمان، فبذل في ذلك قصارى جهده، ولكن المنية عاجلته قبل إتمامه، فمات عن 45 عاما، ولو فسح الله في أجله لكان أكتب كتاب اللغة التركية بلا استثناء.
وكان عالي الهمة، نشيطا حازما وفيا، سليم القلب، رقيق الحديث، حسن المعاشرة، عاملا، لم يكن همه من حياته إلا التأليف والتصنيف.
مؤلفاته
وهذه أسماء ما طبع ونشر من مؤلفاته، وأكثرها مقالات ورسائل، وهي: (1)
آتشياره: منظوم. (2)
إعجاز القرآن: وهو ملخص ترجمة الأسرار العقلية المستنبطة من سورة الفاتحة، المندرجة في كتاب مفاتيح الغيب للإمام فخر الدين الرازي. (3)
معماي الهي: ترجمة الأقوال المنقولة عن علماء المسلمين بشأن الأحرف المندرجة بأول سورة القرآن. (4)
شرارة: منظوم. (5)
موسى ابن أبي الغازان: منظوم. (6)
أمثال علي: يشتمل على ترجمة أمثال للإمام علي. (7)
مدرسة خاطرة لري (خواطر المدرسة): نثر. (8)
صائدة سوز: نثر. (9)
فروزان: منظوم. (10)
معلم: انتقاد على أشعار تركية. (11)
يازمش بولندم: مكاتب. (12)
دمدمه: انتقاد. (13)
مخابرات: مكاتيب. (14)
مكتوبارم: مكاتيب. (15)
نوادر الأكابر: نثر. (16)
شويلة بويلة: مجموعة مكاتيب أيضا. (17)
هدر: تياتر. (18)
حكم الرفاعي. (19)
سانحات العرب. (20)
مترجم: أشعار ونثر مترجم عن اللسان الإفرنجي وغيره. (21)
آفاق. (22)
محمد مظفر. (23)
ترك شاعر لري: شعراء الترك. (24)
لغت ناجي: كتاب في اللغة. (25)
اصطلاحات أدبية: في الآداب. (26)
ترجمة دون ترجمة: ترجمة قصيدة ابن زيدون. (27)
نمونة سخن: أنموذج الكلام. (28)
سنبلة: بعض شعره ونثره. (29)
مجموعة معلم: مجلة أدبية. (30)
إمداد المداد: مجلة أدبية. (31)
ذات النطاقين: منظوم. (32)
خلاصة الإخلاص. (33)
عبيدية.
وله آثار أخرى لم تطبع.
الفصل التاسع والخمسون
إلياس صالح
ولد في بيروت، وتلقى العلم في المدرسة الكلية السورية الأميركانية، فنبغ في اللغة العربية وآدابها، وكان منذ حداثته متوقد الذهن ذكيا فطنا، ومن غريب قريحته أنه جمع بين الشعر والإنشاء، ويندر أن يتفق ذلك لواحد.
نال شهادة البكلورية من المدرسة الكلية سنة 1888م> وكان قد اشتهر بين البيروتيين بقريحته السيالة في الشعر، وسلامة ذوقه في الإنشاء، فاستقدمته إدارة المقطم فتولى التحرير فيها حتى توفاه الله في ريعان الشباب، ولو فسح في أجله لأتى بمعجزات البيان؛ لأنه كان على صغر سنه من نوابغ الشعراء وعمدة الكتاب، حتى طار صيته في القطرين. وكان كاتبا أديبا تسيل عباراته سهولة، وتمتزج معانيه بالنفوس رقة، قل أن يهفو هفوة يؤخذ عليها، متضلعا بقواعد اللغة، لو سألته عن أي شاردة من شواردها لأجابك فورا وأورد لك مثالا أو أمثلة. وكان إنشاؤه عربيا فصيحا خالصا من صبغة العجمة، مع كثرة اشتغاله ومطالعته باللغات الأجنبية. وكان قابضا على ناصية الألفاظ، عارفا اشتقاقاتها ومواقعها وظلال معانيها، فلا تسأله عن لفظ إلا أورد لك سائر اشتقاقاته ومعانيه، وأشار بأصبعه إلى موضع كل منها في الصفحة من القاموس.
إلياس صالح 1870-1895م.
وكان شاعرا مطبوعا، يمتاز شعره مع الرقة والفصاحة بالسهولة والطلاوة، لا يخلو له بيت من نكتة تدل على الذكاء والظرف. وقد نظم على صغر سنه واشتغاله عن الشعر قصائد رنانة ومقاطع جرت مجرى الأمثال.
وكان مع ذلك سريع الخاطر فطنا، لا تكاد تبدأ بحديثك حتى يدرك مرادك منه، ولا تخفاه خفية من مكنونات معانيك حتى يخال لك أنه ينطق بلسانك ويعبر عن جنانك، وكان حلو الحديث، حسن المعاشرة، لا يخلو مجلسه من المطارحة أو المذاكرة أو المباحثة فيما يحلو الخوض فيه من المواضيع الأدبية أو العلمية أو السياسية. وإذا ناظرته في أمر آنست منه آراء قويمة وأفكارا أكثرها في جانب الإصابة.
وكان أديبا عفيفا يتحدث بعفته واعتداله سائر أصدقائه وخلانه ما يصح أن يكون قدوة لشبان هذا العصر، ويندر أن نرى على مثاله بينهم.
وكان يعرف اللغة الإنكليزية معرفة جيدة؛ ترجمة وكتابة، ويحسن الفرنسوية، وكثيرا ما عرب قصائد إنكليزية فنظمها في العربية، لا يشك قارئها أنها نظمت في العربية رأسا. وترجم جانبا من رواية الأميرة المصرية، درج شيء منه في مجلة اللطائف قبل مرضه، وفيها ما يدل على تمكنه من الإنكليزية مع اقتداره على نقل معانيها إلى عبارة عربية فصيحة لا يشتم منها رائحة التعريب.
وكان كبير النفس عزيزها، ممتلئ القلب أنفة ونزاهة، لا يفتر لحظة عن الاهتمام بمستقبله. وقد بالغ في ذلك حتى أودى به إلى تعب الجسم ونحول البدن، فلما جاءه المرض لم يستطع إلى دفعه سبيلا، فقضى ونفسه شاخصة إلى المعالي، وآماله لا تزال عالقة بنيل الأماني إلى آخر نسمة من حياته.
وأما آثاره، فإن الأجل لم يفسح له إلا قليلا، ومع ذلك فإن من منظوماته ما تناقلته الألسنة، وأعجب به رجال الأدب، وأكثره منشور في جريدة المقطم، ومنه ما يتناقله زملاؤه في المدرسة في محفوظهم، ولم نوفق إلى جمع شيء يستحق النشر في كتاب على حدة، فنأتي بأمثلة منها دلالة على منزلته من عالم الشعر.
قال من قصيدة فلسفية في «الحرية»، ودع بها المدرسة الكلية عند نيل شهادتها:
خل عنك الوقوف في دار مية
واعتزل ذكر زينب وأميه
رحم الله كل من قال شعرا
في ربوع الإسلام والجاهليه
إنما دارنا بمن شرفوها
عن سليمي وعن سعاد غنيه
بل هي الروض فتح الزهر فيه
من خلال اللواحظ النرجسيه
وأقامت فيه خدود العذارى
حرب بدر على القلوب الشقيه
لا تلمني يا عاذلي بهواها
فأنا قيس هذه العامريه
وعلام الملام والقلب قلبي
ومعي فيه حجة شرعيه
فإذا كنت تدعيه فقدم (عرض حال) للأعين التركيه
وخبطنا العشواء لوكنت تدري
في ليالي تلك الشعور الدجيه
واتخذنا سلاسل الشعر قيدا
فنسينا المسكينة الحريه
وزعمنا الإنسان ذا شهوات
يمتطيها مهما تكن دنيويه
وهو زعم إن صح فالمرء خلق
من جميع المناقب الأدبيه
أفلا تستطيع إن جعت قل لي
كبح تلك المطالب الجسديه
أنت حر فتستطيع ومهما
قاومتك الطبيعة البشريه
ولكون الانسان يسأل عما
يمتطيه من الأمور الدنيه
شاهد أنه مدى الدهر حر
يفعل الأمر عن رضى ورويه
هب أدرت الإدارة أنت فأخطت
أعليها في ذاك مسئوليه
كم تلظيت إذ أسأت صنيعا
وندمت الندامة الكسعية
إن في (ليتني فعلت) دليلا
من أصح الأدلة العقليه
أنكر الناس ذاك قبلا ولكن
أثبتته الشرائع المبدنيه
أنت حر يا أيها المرء فاعلم
ولك العلم فيه والأسبقيه
أنت حر فاعلم بهذا وعلم
أنت حر وهذه أوليه
لست عبدا إن كنت تحت نظام
لا وليس النظام ذا أوليه
أنت فوق النظام إن تتبعه
ولأنت الذي وضعت الوصيه
يتمنى الإنسان لو كان عبدا
ويقيم الأدلة العلميه
ولكم قد رأيت من حيوان
يقضم الحبل بغية الحريه
يا بني أمنا ذوي الفضل بل يا
معشر الناطقين بالعربيه
لست عبدا أنا ولا أنت مولى
أيها اللابس الحلي الذهبيه
هكذا الناس أيها الناس طرا
ما لزيد على عبيد مزيه
وساق الكلام إلى وصف الفراق وفراق التلامذة والأساتذة فقال:
لست ممن يقوى عليه فرفقا
بالمعنى يا ساكني الكليه
كيف تلقون في لظى الوجد نفسي
وأنا صالح ونفسي بريه
يا بدورا راموا التباعد عني
وأمطوا للفراق أي مطيه
أفلا تجذب البدور بحورا
ها دموعي فأين ذي الجاذبيه
إن درا أودعتموه بإذني
صهرته حرارتي القلبيه
وستذريه مقلتاي عقيقا
فترون الغرائب الكيميه
وقال يهنئ صاحبي المقتطف برتبة الدكتورية، وكان قد سافر إلى بيروت فبدأ بوصف السفينة واستطرد إلى المدح، قال:
تلك السفينة باسم الله مجراها
على دموعي مسراها ومرساها
تجري وفي قلبها النيران موقدة
مثلي كأن هوى الأوطان أشجاها
سكرى تميد بمن فيها فتسكرهم
وهما فكيف إذا ذاقوا حماياها
وليس بدع إذا سارت بنا مرحا
فتلك جارية يهتز عطفاها
هيفاء لكنها بالقار قد خضبت
كالخود يخضب بالحناء كفاها
سلطانة البحر إذ ترسو يحيط بها
من القوارب جند من رعاياها
وإن سرت نشرت أعلامها وشدا
صوت البخار لها والموج حياها
طورا ترى في قرار اليم غائصة
وتارة فوق هام السحب تلقاها
لم أنس ليلة بتنا والرفاق بما
نرعى النجوم ولو شئنا مسسناها
وحولنا الماء من كل الجهات ولا
شيء سوى الماء يغشانا ويغشاها
تزجي الركاب إلى أرض الشآم وفي
مصر لنا حاجة هيهات ننساها
أنتم منى النفس لا زالت تطيب بكم
نفس الصحاب وتلقى نجح مسعاها
سعى إليكم بنا فضل لكم شهدت
به البرية أقصاها وأدناها
وشهرة بين أهل الأرض طائرة
يردد الصحب والأعداء ذكراها
ورغبة في اقتباس العلم غالبة
لم نهجر الأهل والأوطان لولاها
يا بهجة الشرق حسب الشرق أنكما
من بعض أبنائه بين الورى جاها
أحييتما العلم فيه بعد أن درست
معالم الدرس والإهمال أفناها
شهادة لم ينلها غير ذي خطر
قد نال من درجات الفضل أسماها
لأنتما توأماها دون غيركما
وأنتما أنتما في الشرق صنواها
فلتهنآ وهي فلتهنأ ونحن بما
حزنا وحازت وحزتم واشكروا الله
وقال يصف جسر قصر النيل بالقاهرة، وفيه إشارة إلى دورانه في أثناء فتحه:
جسر قصر النيل المبارك جسر
قصرت في الفخام عنه الجسور
ثابت كالزمان هيهات يفنى
وهو أيضا مثل الزمان يدور
وله في نظم التواريخ أبيات لم نر مثلها فيما نظمه الشعراء، من ذلك تاريخ نظمه تقريظا لكتابنا تاريخ مصر الحديث عند صدوره سنة 1308ه، يكاد يكون معجزة من معجزات النظم، وهو قوله بعد وصف الكتاب نثرا:
وبالاختصار فقد حوى ووعى
ما لم يكن في الكتب منسوخا
فيرى الحكيم له به عظة
ويرى الجهول كذاك توبيخا
ويرى المطالع فيه تفكهة
ويرى المؤرخ فيه تاريخا
وآخر ما نظمه قبل مرضه بيتان، كتبهما إلى خطيبته على بطاقة، وفيهما إشارة إلى ساعة أهداها إليها، وهما:
يا من دعاني حبه فأجبته
سمعا لما تدعو إليه وطاعه
تفديك روحي إن حبك راسخ
فيها قديما قبل هذه الساعه
وبيتان آخران كتبهما إليها، وقد أهداها حليا مرصعا على شكل طائر يجعل في أعلى الصدر، وهما:
إليك حبيب القلب مني هدية
تزيدك في عيني محاسنها حسنا
أتتك وقد حنت إليك صبابة
ولا عجب للطير أن يعشق الغصنا
ومن النكات الشعرية قوله في نحوية:
ونحوية ساءلتها أعربي لنا
حبيبي عليه الحب قد جار واعتدى
فقالت حبيبي مبتدا في كلامهم
فقلت لها ضميه إن كان مبتدا
وقوله:
قد رماني بالصد والهجر عمدا
ولحاني إذ ملت للسلوان
ما رأى نفسه فلا تعذلوه
لا ترى العين نفسها بل تراني
وآخر ما نظمه بعد مرضه، وقد ثقلت عليه وطأة الحمى، بيتان قالهما في وصفها وكانت تشتد عليه ليلا:
إذا جن الظلام وغاب صحبي
وفارقني أحبائي وناسي
أتت تسعى إلي وليس ترضى
مقاما غير أحشائي وراسي
الفصل الستون
الشيخ نجيب الحداد
ترجمة حاله
ولد في فبراير من عام 1867م، ووالده سليمان أفندي الحداد، ووالدته كريمة المرحوم الشيخ ناصيف اليازجي، فربي في مهد الأدب، وقد ورث ملكة الشعر من جديه، ورضع لبان النظم والنثر من خاليه (المرحومين الشيخ إبراهيم اليازجي وشقيقه الشيخ خليل اليازجي)، وتلقى بعض العلم عنهما، ولكنه فطر على الأدب مذ نعومة أظفاره، فنظم الشعر قبل أن يدرك الحلم، وإليك مثالا من أبيات نظمها قبل أن يدرك الخامسة عشرة من عمره:
أما ومن زين المعالي
بكل صمصامة وحلى
لأعنة الخيل في قتام
يريك فيها الغبار كحلا
أحب من عين ذات خدر
مقرونة الحاجبين كحلا
وجاء الإسكندرية بعد الحوادث العرابية، فتولى التحرير في جريدة الأهرام إلى عام 1894م، فاعتزلها وأنشأ جريدة لسان العرب مع شقيقه أمين أفندي الحداد وعبده أفندي بدران، وتولى هو رئاسة التحرير، فاشتهر اللسان بمتانة عبارته وسهولتها. ثم قضت حال الصحافة بتعطيل الجريدة، فجاء القاهرة وأنشأها أسبوعية، ثم عاد إلى الإسكندرية وتولى تحرير مجلة أنيس الجليس وجريدة السلام، فكان يحرر الجريدتين وجريدته وهو مع ذلك لا ينقطع عن تأليف الروايات وترجمتها ونظم القصائد الرنانة، والمرض ينتابه ويكاد يقعده، وهو يجاهد في دفعه حتى قضى نحبه قبل أن يتم الثانية والثلاثين من عمره. وكان (رحمه الله) ذكي الفؤاد، سريع الخاطر، متوقد الذهن، كما سترى من أمثلة نظمه ونثره.
الشيخ نجيب الحداد 1867م-1899م.
مؤلفاته (1)
رواية صلاح الدين الأيوبي: وهي في الأصل تأليف السير وولتر سكوت الشاعر الإنكليزي الشهير، فسبكها المترجم في قالب التشخيص وغير فيها وبدل، حتى لقد يصح أن يقال إنه ألفها؛ مثلت في مصر والإسكندرية مرارا فنالت شهرة واسعة تغنينا عن الإطناب. (2)
رواية السيد: وهي من مؤلفات كورنيل الكاتب الفرنساوي، فنقلها إلى اللسان العربي وسماها «غرام وانتقام»، وقد مثلت مرارا. (3)
رواية المهدي: وهي تشخيصية تاريخية مثل فيها بعض حوادث المهدي السوداني. (4)
رواية حمدان: عربها عن رواية أرنيني لفيكتور هوكو. (5)
رواية شهداء الغرام: عربها عن روميو وجولييت لشكسبير. (6)
رواية الرجاء بعد اليأس. (7)
رواية البخيل: معربة. (8)
رواية غصن البان. (9)
رواية ثارات العرب. (10)
رواية الفرسان الثلاثة الشهيرة لإسكندر دوماس، وقد نقلها إلى العربية.
فضلا عما كتبه من المقالات الرنانة في لسان العرب وغيره؛ منها مقالة في المقابلة بين الشعر العربي والشعر الإفرنجي نشرت في مجلة البيان بمصر. وتمتاز ترجماته عن كثير من ترجمات أهل العصر بخلوصها من شوائب العجمية. وقد اشتهر (رحمه الله) خصوصا في تأليف الروايات التمثيلية أو ترجمتها، وأكثر ما يمثل على المراسح المصرية اليوم من تأليف الحداد أو ترجمته.
شعره
وكان شاعرا عصريا حسن الأسلوب، يكفينا في وصف شعره أن نورد بعضه على سبيل المثال، فقد قال من قصيدة نظمها في وصف سوق الإحسان التي احترقت بالنور الكهربائي في باريس عام 1897م، ومات فيها نحو 200 امرأة من المحصنات الباريسيات:
أي رزء أجرى الدموع دماء
وأذاب القلوب والأحشاء
ليس بدع في خطب باريس أن تش
مل آثار حزنه الدنياء
وهي أم الآداب أثكلها الدهر
فأبكت بوجدها الأبناء
قد دهاها مصاب سادوم لكن
خص من قومها الأبرياء
فهي في الحزن مثل راحيل إذ
تبكي بنيها ولا تريد عزاء
أصلت الكهرباء فيها لهيبا
قد كرهنا لأجله الكهرباء
ورماها نور الضياء بنار
أظلمتها فما تلاقي الضياء
في مكان أنشي لدفع بلاء
عن فقير فكان فيه بلاء
سوق بر تباع فيها اللهى
بيعا ويشرى الثوب فيها شراء
زينتها بيض الأيادي وأيدي
البيض من محسن ومن حسناء
أنفس تبتغي السماء فما
أمسين إلا وقد بلغن السماء
أدركت ما تروم من جنة الخ
لد ولكن كان الطريق صلاء
من رأى قبلها جحيما يؤدي
لنعيم أبناءه الشهداء
أو رأى محسنا يجود على النا
س فيلقى نار الجحيم جزاء
أترى كان ذاك مطهر من ما
توا فيمحوا عن النفوس الخطاء
أم هو الدهر لا يزال مسيئا
لكريم ومكرما من أساء
يا ربوعا كانت معاهد إحسا
ن وحسن فأصبحت قفراء
وديارا كانت منازل إينا
س فأضحت بلاقعا وخلاء
وكراما كانوا مناهل جود
لفقير فأصبحوا فقراء
أمراء نادى الندى فأطاعو
ه أميرا لهم ولبوا النداء
وحسان قد جدن برا كأن ال
بر ثوب يزيدهن بهاء
ساحة تنبت المكارم والرأ
فة والمجد والندى والإخاء
فنساء بها تباري رجالا
ورجال بها تباري النساء
أوجه يشرق السنا من محيا
ها فتزداد بالجميل سناء
رحن يزهين بالبياض فما أص
بحن إلا كوالحا سوداء
رحما لم تدع بها النار إلا
رسم جسم وأعظما جرداء
كن ناسا فصرن نارا فأص
بحن رمادا بها فصرن هباء
قد كفت لحظة لأن تقلب الأم
ر وأن تجعل النعيم شقاء
فاستحال الهناء بؤسا وأحزانا
وأضحى ذاك السرور بكاء
نقمة صبها القضاء على الأ
برار ظلما ومن يرد القضاء
رحم الله من قضى وشفى الجر
حى وعزى الباكين والتعساء
وقال من قصيدة يصف بها بعض منتزهات الإسكندرية ومركباتها ومخدراتها:
من بدور تسير في المركبات
ومن القبعات في هالات
كللتها أزاهر الصنع من نب
ت الأيادي لا من أيادي النبات
زهرات ما حاكها ابن سحاب
في ربى الروض بل بنان البنات
إن يكن فاتها الأريج فقد عو
ضن عنه روائح الغانيات
أو يكن فاتها رياض جنان
فهي فوق الرءوس في جنات
أو عدتها الغصون فهي على مث
ل غصون الربى من القامات
سائرات جوالس فهي لم تع
جل ولكنها على عجلات
مفردات الجمال تنطبق الخي
ل فرادى بها ومزدوجات
وكأن الجياد تشعر بالحس
ن فتجري بهن مفتخرات
قد درت أنها تجر بدورا
فتبارت كالأنجم السائرات
مسرعات ترى الدواليب من سر
عتها في مرورها ثابتات
وقلوب العشاق تتبع الغي
د تباري أفراسها الجاريات
صاح هذه هوادج الحضر اليو
م فخل الهوادج الباديات
ودع النوق والفلاة فلا نو
قا بأحيائنا ولا فلوات
ودع العيس والحداء لقوم
ألفوا عيسهم وزجر الحداة
تلك حال مرت قديما وذي حا
ل وسبحان مبدل الحالات
وقال من قصيدة غراء وصف بها القمر:
وسار البدر يسبح في سماء
عليها من كواكبها سفين
تمر به السحائب مسرعات
فيخفى تحتهن ويستبين
كخود أقبلت في الروض تسعى
فتظهر ثم تحجبها الغصون
تقابل وجهه فيلوح فيه
لصورة وجهك الرسم المبين
فنحسب منه أن هناك ماء
ولا ماء هناك ولا عيون
ولا نبت عليه ولا حياة
ولا نسم ولا غيث هتون
جنازة ميت لا نعش فيها
ولا أيد حملن ولا أنين
قرين الأرض ليس يغيب عنها
ولكن لا يواصلها القرين
يدور به ولكن حين يدنو
يفر فلا يجيب ولا يلين
كمعشوق يداعب ذات خدر
فلا يعطي الوصال ولا يبين
فكم بسمت لمرآه ثغور
وكم سالت لمرآه شئون
وكم ذكر المحب به حبيبا
وكم نسي الخدين به خدين
وتصفر النجوم إذا تبدى
كما يصفر من حسد جبين
يسير فتختفي من جانبيه
نوافر وهو مجتاز رزين
كما طلع المليك عليه تاج
فأطرقت الوجوه له تدين
كأن كواكب الأفلاك در
تبدى بينها حجر ثمين
فيا شبه الحبيب حويت منه
بهاه وفاتنا منك الفتون
وكم تحيي الظلام وأنت ميت
وكم تعلو النجوم وأنت دون
حويت عجائبا فدعاك قوم
إلها حبه في الناس دين
تخبرهم بأعداد الليالي
ويلزمك السكوت فما تبين
وتصدقهم وفيك النقص طبع
وعهدي كل ذي نقص يمين
لنا في كل شهر منك شك
ولكن ليس يمهله اليقين
ترى فيك البداءة كيف كانت
قديما والفناء متى يكون
وله من قصيدة في وصف القمار:
لكل نقيصة في الناس عار
وشر معايب المرء القمار
تشاد له المنازل شاهقات
وفي تشييد ساحتها الدمار
نصيب النازلين بها سهاد
فإفلاس فيأس فانتحار
قد اختصروا التجارة من قريب
فعدم في الدقيقة أو يسار
وبئس العيش فقر مستديم
يعارضها يسار مستعار
وبئس المال لا تحظى يمين
به حتى تسلمه اليسار
يفر من البنان فليس يبقى
لهم من أثره إلا اصفرار
فبينا تبصر الوجنات وردا
إذا هي في خسارتهم بهار
تراهم حول بسطتها قعودا
يدير عيونهم ورق يدار
يلاحظ بعضهم بعضا بعين
يكاد يضيء أسودها الشرار
فتحسب أن بين القوم ثأرا
ولا ثأر هناك ولا نفار
كأن عيونهم لما أديرت
فراش حائم والمال نار
فهم لا يبصرون سواه شيئا
كساري الليل لاح له منار
وهم لا يعطفون على خليل
وليس يشوق أنفسهم مزار
وهم لا يذكرون قديم عهد
وليس لهم سوى الأمس اذكار
فكم غضبوا على الأيام ظلما
وكم حنقوا على الدنيا وثاروا
وكم تركوا النساء تبيت تشكو
وتسعدها الأصبية الصغار
تبيت على الطوى ترجو وتخشى
يؤرقها السهاد والانتظار
فبئست عيشة الزوجات حزن
وتسهيد وهجر وافتقار
وبئست خلة الفتيان هم
وأتعاب وخسران وعار
ومن شعره أبيات نظمها إجابة لاقتراح مصلحة السكة الحديدية المصرية، وكانت قد اقترحت على الشعراء نظم أبيات تنقش على جدران المحطة بمصر، وفرضت جائزة ينالها المجيد، فنالها هو، وأما الأبيات فهي:
يا حسن عصر بعباس العلى ابتسما
حتى الحديد غدا ثغرا له وفما
طرائق في ضواحي القطر تبلغنا
أقصى البلاد ولم ننقل بها قدما
مصر كصفحة قرطاس بتربتها
غدا القطار عليها الخط والقلما
أرض بها كان خصب النيل منتثرا
حتى أتاها قطار النار مضطرما
لنا غنى عن قطار السحب منسجما
ولا غنى عن قطار النار مضطرما
يجري بها الرزق في جسم البلاد كما
يجري دم في عروق الجسم منتظما
محطة هي قلب والخطوط بدت
مثل الشرايين فيها والقطار دما
مع السلامة يا من سار مرتحلا
عنا وأهلا وسهلا بالذي قدما
وكانت مجلة مرآة الحسناء قد فرضت جائزة لمن ينظم أحسن ترجمة لقصيدة إنكليزية نظمت في أمور اشترطها خاطب على خطيبته وجوابها عليه، فنظمها الحداد ونال الجائزة، وإليك القصيدة:
طلبت أثمن شيء في الوجود غلا
قلب التي لم ينلها كل من سألا
سألتني وأنا أنثى سؤال فتى
فقف لتسألك الأنثى وكن رجلا
تريدني أن أجيد الطبخ حاذقة
وأرفأ الثوب حتى ما عليه بلى
أما أنا فطلابي أن تقدم لي
قلبا كنجم ونفسا كالسماء على
فإن طلبت لذيذ الأكل مجتهدا
وأن يكون عليك اللبس مكتملا
فأنت تطلب طباخا على قدر
وذات خيط صناعا تصلح الحللا
أما سؤالي فأعلى من سؤالك لي
ومنيتي فرق ما ترجوه بي أملا
إذ أبتغي ملكا بيتي ولايته
وأبتغي رجلا بين الورى مثلا
أنا صغيرة سن في الشباب ولي
من فوق خدي ورد يكتسي خجلا
لكن ذا كله فان بجملته
وعن قريب ترى ورد البها ذبلا
فهل يدوم غرام في فؤادك لي
بعد الصبا مثل ما قد كان مقتبلا
وهل فؤادك بحر لا قرار له
تجري به سفن آمالي ولا وجلا
فإن كل فتاة زوجت حملت
في زهر إكليلها النعمى أو الأجلا
هناك تعرف إما أن تسير إلى
حيث النعيم وإما أن تسير إلى
إني أريد مساواة ومعدلة
وخير بعل بخير الخلق قد كملا
فإن ظفرت بهذا منك كنت كما
ترومني وأتاك القلب ممتثلا
أو لا فإن الذي تبغي خياطته
وطبخه فأمور نيلها سهلا
تنالها بأجور المال تبذلها
أما الفتاة وإخلاص الفتاة فلا
الفصل الحادي والستون
محمود باشا سامي البارودي
أصله
لم تخل مصر في عصر من عصورها القديمة أو الحديثة من طبقة في أهلها من «المولدين»، وهم المولودون فيها من آباء غرباء حتى في عهد الفراعنة، والأرجح أن الفراعنة أنفسهم غرباء الأصل. وتوالى في وادي النيل طبقات شتى من المولدين ممن نزح إليها على اختلاف عصورها؛ وفيهم الفرس واليونان والرومان والعرب والترك والبربر والجركس والأرمن والديلم وغيرهم. وكل فئة إذا طال مكثها عدت نفسها وطنية، وعدت القادمة بعدها غريبة. وآخر فئة توالدت في مصر الجركس والأتراك من بقايا المماليك. والغالب في المولدين من هؤلاء غموض منشئهم؛ لأن رباط العائلة كان ضعيفا فيهم، والرجل منهم إنما ينتسب إلى مالكه أو رئيسه، أو يعرف بلقب يلقبونه به، فلم يعد تحقيق تلك الأصول ممكنا فيهم.
محمود باشا سامي البارودي 1840-1904م.
والبارودي صاحب الترجمة من مولدي الجركس بمصر، ويؤخذ من صحيفة كانت عنده، نشرتها مجلة المنار، أنه ينتسب إلى نوروز الأتابكي الملكي الأشرفي، ولعله أحد رجال الأشرف قايتباي المحمودي المتوفي سنة 901ه. ونستغرب ثبوت هذه النسبة للأسباب التي قدمناها من ضياع اسم العائلة عندهم، حتى نوروز هذا فإنه لا ينتسب إلى أبيه وإنما يعرف بانتسابه إلى الملك الأشرف، ومنها اسمه «الملكي الأشرفي».
وقد كان في هذا العصر جماعة يعرفون بهذا الاسم، كل منهم ينتسب إلى صاحبه؛ مثل نوروز المنصوري نسبة إلى الملك المنصور، ونوروز التمرعلائي الأشرفي برسباي نسبة إلى الملك الأشرف برسباي، وقس على ذلك. وقد بلغنا نقلا عمن عرف البارودي وعاشره أنه كان شديد الحرص على معرفة نسبه وتتبعه إلى أصله، فبذل مبلغا طائلا من المال في سبيل البحث عنه في أنحاء القطر، ومراجعة النصوص، والسؤال من أهل العلم والسن - قالوا إنه أنفق في ذلك نحو ثلاثة آلاف جنيه.
على أننا لا نرى لصحة هذه النسبة البعيدة أو فسادها دخلا في تقدير فضل الرجل؛ لأن المرء بأصغريه، وبما يحدث على يديه. ولكن المشهور أن الفقيد هو محمود باشا سامي بن حسن بك حسني، وكان أبوه هذا من أمراء المدفعية في الجيش المصري، وجده عبد الله بك الجركسي من الكشاف في أوائل عهد محمد علي، والكاشف يشبه مأمور المركز اليوم، وإنما أضيف اسمهم لفظ البارودي نسبة إلى إيتاي البارود؛ لأنها كانت في التزام أحد أجداده في عصر الالتزامات.
نشأته الأولى
ولد صاحب الترجمة في سراية بباب الخلق سنة 1840م، وتلقى مبادئ العلم في المدارس الحربية التي أنشأها محمد علي، وخرج من المدرسة سنة 1855م في أوائل ولاية سعيد باشا. وكان من نعومة أظفاره ميالا إلى الأدب والشعر، فرغب في آداب اللغة العربية فأحرز منها شيئا كثيرا، وظهرت ثمار قريحته، وامتاز شعره بالسهولة والبلاغة من عهد شبابه، على قلة النابغين من الشعراء في ذلك الحين، فهو من أقوى أركان النهضة الشعرية الأخيرة بمصر.
وكان مع ذلك كبير المطامع في طلب العلى - وذلك نادر في الشعراء لرقة إحساسهم ولف مزاجهم وانصراف قرائحهم إلى الخيال - ولم يبال بركوب البحار في طلبها، فرحل إلى الآستانة يلتمس بها منصبا. وكان يتكلم التركية، وهي لغة أهل الطبقة العليا بمصر في ذلك الحين ولا تزال عند بعضهم إلى الآن، فانتظم في كتابة السر بنظارة الخارجية. وكانت اللغة التركية - يومئذ - في إبان نهضتها، فتبحر في أدبها وشعرها حتى نظم فيها القصائد، وتعلم الفارسية لمطالعة آداب الفرس وأشعارهم ونفسه تحن إلى مصر حنين كل من يقيم فيها ويتعود ماءها وإقليمها، فاتفق أن الخديوي إسماعيل باشا شخص إلى الآستانة سنة 1863م على أثر ارتقائه الأريكة الخديوية، فدخل صاحب الترجمة في بطانته، ورجع معه إلى مصر، وعاد إلى الخدمة العسكرية، فترقى في سنة واحدة إلى رتبة بيكباشي، وانتدب مع جماعة من الضباط لمشاهدة بعض الحركات العسكرية في فرنسا، وسافر منها إلى لندرا، وعاد إلى مصر فرقاه الخديوي سنة 1865م إلى رتبة قائمقام في آلاي الفرسان، ثم إلى رتبة أميرالاي.
سيرته السياسية
لو أردنا تفصيل ما تقلب فيه من المناصب لطال بنا الكلام، فنقول بالإجمال إنه ذهب في جملة الجيش المصري الذي أرسلته مصر لمساعدة الدولة العلية في إخماد ثورة كريد سنة 1868م، ولما رجع ألحق بالحرس الخديوي (الياوران)، فأحبه إسماعيل وزاده من قربه، فجعله كاتب سره الخاص، ثم عاد إلى العسكرية بعد سنتين. وكان الخديوي ينتدبه في كثير من الأمور الهامة إلى الآستانة وغيرها، حتى إذا انتشبت الحرب بين الدولة العلية والروس سنة 1877م أنفذت مصر نجدة من جيشها كان المترجم في جملتها مع فرقته، وعند رجوعه رقي إلى رتبة لواء.
ولم تمنعه رتبه العسكرية من الخدمة في المناصب الإدارية، فعين سنة 1879م مديرا للشرقية، واضطربت مصر يومئذ، وهي السنة التي أقيل فيها إسماعيل، فسبق إقالته إثارة الخواطر بالمنافسة التي جاشت في نفوس الأمراء على الولاية، وبما كان من تداخل الدول الإفرنجية بشئون مصر الإدارية، فانتدبت الحكومة صاحب الترجمة لرئاسة الضبطية، فحفظ الأمن وهدأ الخاطر. فلما أقيل إسماعيل وتولى المغفور له توفيق باشا الخديوي السابق أعاده إلى المناصب الإدارية، فجعله وزيرا، وقلده نظارة الأوقاف، فأصلح شئونها ونظمها.
والمرء يتقلب في مناصب شتى، ولا بد من شيء يعلق به ذهنه مما ترتاح إليه نفسه أو يدفعه إليه ميله، ولهذا الميل دخل كبير في شئون الأمم؛ لأن الملك أو الأمير إذا كان ميالا - مثلا - للعلم نشط أهله ورفع شأنه، وإذا كان من أهل اللهو رغب الناس في الملاهي، ويقال نحو ذلك في سائر المناصب الإدارية. وقد تقدم أن المترجم كان مغرما من صغره بالعلم والأدب، فاهتم في أمر الكتب المبعثرة في المساجد، وجمعها في مكان واحد، فلما أخذ المرحوم علي باشا مبارك في إنشاء دار الكتب الخديوية كانت هذه الكتب من جملة ما نقلوه إليها.
فلما تحركت الخواطر، وهبت النفوس في الثورة العرابية، كان لصاحب الترجمة شأن كبير في ذلك، والناس بين متهم ومبرئ. وخلاصة رأينا في المترجم أنه كان من جملة المنشطين للحزب الوطني في مطالبهم سرا؛ لأنه كان ناظرا للأوقاف - كما تقدم - فكان يحضر مجلس النظار وهواه مع العرابيين، وهو يعتقد أن مطالبهم عادلة، ورجال المطامع يغتنمون هذه الفرص لنيل المناصب الكبرى، وكثيرا ما كانت أمثال هذه الحركات سببا في انتقال الملك من دولة إلى دولة إذا وافقت الأحوال وتوافرت الرجال، وفي تاريخ مصر أمثلة كثيرة من هذا النوع.
أما المترجم فقد كان طامعا في منصب الوزارة وما وراءه، فكان ينقل إلى عرابي ورفاقه من قرارات ذلك المجلس وأبحاثه ما يتعلق بهم؛ ليحذروه أو يتهيئوا للقائه مما يطول شرحه، وقد نجح فيما كان يؤمله، فتولى نظارة الجهادية، ثم رئاسة النظار، فكان له النفوذ الأعظم في تلك الثورة، وأما عرابي فقد تصدر لها وتظاهر بها عن صدق نية وبساطة، وهي بالحقيقة نهضة سياسية عمرانية لو أحسن أصحابها استخدامها، أو لو تصرفوا فيها بالحكمة والتؤدة لعادت بالنفع على الحكومة والأهالي، ولكنهم اختلفت أغراضهم، وتباينت مطامعهم، وغفلوا عن العواقب، ولم يكن ليغفل عنها الدرب الحازم، ولكن قدر فكان.
فلما دخل الإنكليز مصر وقبضوا على العرابيين وحاكموهم كان صاحب الترجمة من جملة الذين حكم عليهم بالنفي إلى سيلان مع زعيم الثورة، وما زال هناك حتى أرجع في جملة الذين أرجعوا منذ بضعة أعوام، واختصه الجناب الخديوي بإرجاع حقوقه ورتبته، وظل بين أهله وذويه حتى توفاه الله في 12 ديسمبر سنة 1904م، وقد كف بصره.
هذه خلاصة سيرته السياسية، وأما سيرته الأدبية فمجملها أنه كان محبا للأدب، مطبوعا على الشعر، وشعره من الطبقة الأولى بين شعراء العصر بمصر، وكلهم يعترفون له بالتقدم والفضل، وله منظومات رنانة سارت بذكرها الركبان، ومنها ما جرى مجرى الأمثال، وفي جملتها قصيدة في السيرة النبوية تدخل في نحو ست مائة بيت على روي البردة، مطلعها:
يا رائد البرق يمم دارة العلم
واحد الغمام إلى حي بذي سلم
وإليك أمثلة مما بلغ إلينا من منظوماته، قال في وصف الليل من قصيدة بعث بها من جزيرة سيلان إلى الأمير شكيب أرسلان:
وترى الثريا في السماء كأنها
حلقات قرط بالجمان مرصع
بيضاء ناصعة كبيض نعامة
في جوف أدحي بأرض بلقع
وكأنها أكر توقد نورها
بالكهرباءة في سماوة مصنع
والليل مرهوب الحمية قائم
في مسحة كالراهب المتلفع
متوشح بالنيرات كباسل
من نسل حام باللجين مدرع
حسب النجوم تخلفت عن أمره
فوحى لهن من الهلال بإصبع
وقال من قصيدة يعزي بها رصيفنا خليل أفندي مطران صاحب الجوائب المصرية عن فقد عمه حبيب باشا:
أعزيك لا أني أظنك عاجزا
لخطب ولكني عمدت لواجب
وكيف أعزي من فرى الدهر خبرة
وأدرك ما في طيه من عجائب
فيا حبي مهلا فلست بواجد
سوى حاضر يبكي فجيعة غائب
وصبرا فإن الصبر أكرم صاحب
لمن بان عن مثواه أكرم صاحب
ونظرا لما فطر عليه من الميل إلى الجندية فقد أجاد كثيرا في نظم الفخريات، ومنها أبيات يتمثل بها الناس، كقوله من قصيدة عارض بها قصيدة أبي فراس:
من النفر الغر الذين سيوفهم
لها في حواشي كل داجية فجر
إذا استل منهم سيد غرب سيفه
تفزعت الأفلاك والتفت الدهر
وقوله من قصيدة أخرى:
وفيت بما ظن الكرام فراسة
بأمري ومثلي بالوفاء جدير
وأصبحت محسود الجلال كأنني
على كل نفس في الزمان أمير
إذا صلت كف الدهر من غلوائه
وإن قلت غصت بالقلوب صدور
ومن هذا القبيل قوله من قصيدة يصف بها الحرب بجزيرة كريد:
والخيل واقفة على أرسانها
لطراد يوم كريهة ورهان
وضعوا السلاح إلى الصباح وأقبلوا
يتكلمون بألسن النيران
حتى إذا ما الصبح أسفر وارتمت
عيناي بين ربى وبين مجان
فإذا الجبال أسنة وإذا الوها
د أعنة والماء أحمر قان
وله من الشعر الوصفي قصيدة يصف بها عصفورا على غصن، وقد أبدع فيه، قال:
ونبأة أطلقت عيني من سنة
كانت حبالة طيف زارني سحرا
فقمت أسأل عيني رجع ما سمعت
أذني فقالت لعلي أبلغ الخبرا
ثم اشرأبت فألفت طائرا حذرا
على قضيب يدير السمع والبصرا
مستوفزا يتنزى فوق أيكته
تنزي القلب طال العهد فادكرا
لا يستقر له ساق على قدم
فكلما هدأت أنفاسه نفرا
يهفو به الغصن أحيانا ويرفعه
دحو الصوالج في الديمومة الأكرا
ما باله وهو في أمن وعافية
لا يبعث الطرف إلا خائفا حذرا
إذا علا بات في خضراء ناعمة
وإن هوى ورد الغدران أو نفرا
يا طير نفرت عني طيف غانية
قد كان أهدى لي السراء حين سرى
حوراء كالريم ألحاظا إذا نظرت
وصورة البدر إشراقا إذا سفرا
زالت خيالتها عني وأعقبها
شوق أحال علي الهم والسهرا
فهل إلى سنة إن أعوزت صلة
عود ننال به من طيفها الوطرا
وكان إذا عارض المخضرمين أو الجاهلين جاء نظمه مثل نظمهم متانة وعلوا، فمن قصيدة عارض بها دالية النابغة الذبياني قوله في وصف الفرس:
ولقد هبطت الغيث يلمع بوره
في كل وضاح الأسرة أغيد
تجري به الآرام بين مناهل
طابت مشاربها وظل أبرد
بمضمر أرن كأن سراته
بعد الحميم سبيكة من عسجد
خلصت له اليمنى وعم ثلاثة
منه البياض إلى وظيف أجرد
فكأنما انتزع الأصيل رداءه
سلبا وخاض من الضحى في مورد
رجل يردد في اللهات صهيله
دفعا كزمزمة الحبي المرعد
متلفتا عن جانبيه يهزه
مرح الصبا كالشارب المتغرد
فإذا ثنيت له العنان رأيته
يطوي المعاهد فدفدا في فدفد
يكفيك منه إذا استحس بنبأة
شدا كألهوب الإباء الموقد
صلب السنابك لا يمر بجلمد
في الشد إلا رض فيه بجلمد
نعم العتاد إذا الشفاه تقلصت
يوم الكريهة في العجاج الأربد
وله من قصيدة نظمها في منفاه يصف به حاله هناك:
محا البين ما أبقت عيون المهى مني
فشبت ولم أقض اللبانة من سني
عناء ويأس واشتياق وغربة
ألا شد ما ألقاه في الدهر من غبن
فإن أك فارقت الديار فلي بها
فؤاد أضلته عيون المهى عني
بعثت به يوم النوى إثر لحظة
فأوقعه المقدار في شرك الحسن
فهل من فتى في الدهر يجمع بيننا
فليس كلانا عن أخيه بمستغن
ولما وقفنا للوداع وأسبلت
مدامعنا فوق الترائب كالمزن
أهبت بصبري أن يعود فعزني
وناديت حلمي أن يثوب فلم يغن
وما هي إلا خطرة ثم أقلعت
بنا عن شطوط الحي أجنحة السفن
فكم مهجة من زفرة الوجد في لظى
وكم مقلة من غزرة الدمع في دجن
وما كنت جربت النوى قبل هذه
فلما دهتني كدت أقضي من الحزن
لكنني راجعت حلمي وردني
إلى الحزم رأي لا يحوم على أفن
ولولا بنيات وشيب عواطل
لما قرعت نفسي على فائت سني
وقال من قصيدة يصف بها حرب الروس:
أدور بعيني لا أرى غير أمة
من الروس بالبلقان يخطئها العد
جواث على هام الجبال لغارة
يطير بها ضوء الصباح إذا يبدو
إذا نحن سرنا صرح الشر باسمه
وصاح القنا بالموت واستقتل الجند
وختم شعره بأبيات شعرية وهي:
أنا مصدر الكلم النوادي
بين الحواضر والغوادي
أنا فارس أنا شاعر
في كل ملحمة وناد
فإذا ركبت فإنني
زيد الفوارس في الجلاد
وإذا نطقت فإنني
قس بن ساعدة الإيادي
هذا وذلك ديدني
في كل معضلة نآد
ونظرا لمنزلته الرفيعة في نفوس الشعراء فقد اجتمعوا على ضريحه في الإمام الشافعي يوم الأربعين من وفاته ورثوه وأبنوه مما لم يسبق له مثيل، إلا ما يقال عن توافد الشعراء لرثاء المعري على قبره.
الفصل الثاني والستون
عبده الحمولي
المغني المصري الشهير
إن الأمة شديدة التعلق بموسيقيها وشعرائها وخطبائها ومن جرى مجراهم من رجال الأدب ممن يشاركون الناس في إحساسهم، فالشعراء يصورون عواطف الأمة ويدافعون عن أعراضها، والخطباء يحركون حاساتها ويجمعون كلمتها، والموسيقيون - ومنهم المغنون - يطربونها ويشرحون صدورها. ويشتد شعور الأمة بفضل أولئك الرجال، ويتعاظم أسفها على ضياعهم بنسبة مبلغها من التقدم في معارج المدنية.
نعم إن الأمة إذا تمدنت عرفت قدر مخترعيها وعلمائها وفلاسفتها وساستها وغيرهم من رجالها العظماء، فتنحت لهم التماثيل، وتقيم لهم الأنصاب، وتؤلف الكتب في الثناء عليهم، ولكنها تفعل ذلك مدفوعة بإقرارها بالجميل. وأما الشعراء والموسيقيون والخطباء فإنها تشعر بفقدانهم شعور الصديق بموت صديقه أو الوالدة بضياع ولدها، فتبكيهم بلا كلفة ولا صناعة.
والفيلسوف أستاذ الأمة وحكيمها، والمخترع ساعدها وخادمها في تسهيل أعمالها. وأما الشاعر فإنه يترجم عواطفها ويصور إرادتها، والموسيقي ينفس كربها وينعش روحها، والخطيب ينهض همتها ويجمع كلمتها، ففي موت أحدهم تأثير على النفس يثير العواطف ويهيج الشجون، وفي حياته حياتها الأدبية. والأمم المتمدنة تكون آدابها كما يشاء شعراؤها وخطباؤها وموسيقيوها، فلا غرو إذا جن الناس بأهل تلك القرائح.
عبده الحمولي 1845-1901م.
ألا ترى ما فعل الفرنساويون بفيكتور هيكو شاعرهم وكاتبهم، وقد عشقوه حتى كادوا يعبدونه، فحملوه على أكفهم وهو حي وطافوا به الشوارع والأزقة ينادون بفضله. وقس على ذلك ما تبديه الأمم المتمدنة من أمثال ما تقدم.
على أن إكرام الشعراء طبيعي حتى في عصور البداوة، فقد كان الشعراء في جاهلية العرب حماة الأعراض، تتفاخر بهم القبائل وتستحث قرائحهم في الدفاع عنها.
ويسرنا أن نرى ذلك الشعور قد أينع في وادي النيل في أواخر القرن الماضي، على أثر ما بلغته مصر من الارتقاء.
فقد أنبأنا صديق نثق بصدق روايته أن جماعة من أدباء المصريين في بعض مدن الصعيد لما بلغهم منعى الشاعر المرحوم الشيخ نجيب الحداد، وكانوا من قراء أشعاره ورواياته، لم يكتفوا بالبكاء والرثاء ساعة الفاجعة، ولكنهم تحالفوا على ندبه في كل حين؛ قال الراوي: «واشتد بهم الأسف حتى تواطئوا على ترك الدنيا والإسراف في صحتهم حتى يلحقوا به!» ومهما يكن من بعد هذا القول عن الحكمة والتعقل مع ما يتخلله من دلائل الطيش، فإنه يدل على درجة اشتراك عواطف الأمة بشعرائها.
والموسيقى أخت الشعر، وتأثيرها أعم من تأثيره؛ لأن الشعر لا يؤثر إلا على الذين يفهمونه، ولا يستطيع ذلك غير الأدباء المتعلمين، وأما الموسيقى فيفهمها ويتأثر منها كل ذي نسمة حية، حتى الحيوان إلى أدنى طبقاته. فالموسيقي ومن في معناه كالمغني والمنشد، يشارك الأمة في إحساسها، بل هو يتلاعب بعواطفها كما يشاء، ويغلب أن يدعو إلى انشراح الصدور وزوال الهموم، ومصر من أكثر بلاد الأرض حاجة إلى دواعي الأفراح؛ لأن إقليمها حار يورث الخمول ويضيق الصدر، وبقاعها متشابهة لا جبال فيها تشرح الصدر بمناظرها، ولا بحار واسعة يسرح فيها البصر، ولا غير ذلك من المناظر الطبيعية، فلا يجد المرء فرجا من ضيقه إلا بالمجالسة والمحادثة وما يلحق بذلك من المسامرة والمنادمة والغناء وضرب الآلات، ونحو ذلك من بواعث الطرب.
وبالانتخاب الطبيعي انطبع المصري على لطف الحديث، وأصبح شديد التأثر من ألحان الغناء؛ فلا غرو - والحالة هذه - إذا أسف المصريون على عبده الحمولي وهو بلبل أفراحهم، بل هو أعظم مغن عربي في العالم اليوم. وما من بلد في وادي النيل لم يسمع أهله غناء «سي عبده»، ناهيك بما بلغ من شهرته في أقطار العالم الشرقي. ذلك ما حدا بنا إلى نشر ترجمة حاله، وجل اعتمادنا في ذلك على ما كتبه صديقه إبراهيم بك المويلحي محرر مصباح الشرق، قال:
ترجمة حاله
ولد بمدينة طنطا، وكان أبوه يمارس تجارة البن، وكان للمرحوم أخ أكبر منه فوقع شقاق بين أخيه وأبيه ففر به أخوه من وجه أبيه هائما به في الخلوات، وكان كلما تعب المرحوم عبده من السير لصغر سنه حمله أخوه على كتفه، حتى دنا الغروب وهما على آخر رمق من الجوع والعطش وتعب السير، لا يجدان أحدا يأنسان به أو يلجآن إليه، إلى أن سخر الله لهما رجلا آواهما وسد رمقهما في ليلتهما، ثم أقاما عنده أياما.
ومن غريب الاتفاق أن الرجل كان يشتغل بصناعة الغناء، ويضرب الآلة المعروفة بالقانون في طنطا، فسمع صوت المرحوم في بعض روحاته وغداته فأعجبه، فعاد به إلى طنطا واشتغل معه هناك مدة وجيزة. وقد بقي تأثير تلك الوحشة والانفراد مع التعب والجوع في تلك الليلة التي خرج فيها المرحوم من بيت أبيه مرسوما في رأسه، فكنت تراه في آخر عمره ينقبض صدره ويتقطب وجهه كلما آن الغروب، وطالما قص هذه القصة على خلصائه ممن كانوا يعجبون لانقلابه الفجائي من السرور إلى الانقباض في ذلك الميعاد.
ثم رأى ذلك الرجل الذي آواه عنده - واسمه المعلم شعبان - أن يحضر به إلى مصر، فاشتغل معه في قهوة معروفة في ذلك العهد بقهوة عثمان أغا، في غابة أشجار كانت موضع حديقة الأزبكية، فاتسع به رزقه وخاف أن يخرج من يده ويستميله غيره من أهل هذه الصناعة فيضيع عليه رزقه، فرأى أن يربطه به بعقد زواجه من ابنته، فاستذله وأسره وانقلب يعامله أسوأ المعاملة، وكان في مصر رجل طائر الصيت في فن الغناء اسمه «المقدم»، أعجب بالمرحوم فسعى جهده ليلحقه به ويشتغل معه في «تخته»، حتى وصل إلى غرضه وجذب المرحوم إليه، وفصل بينه وبين زوجته قطعا لعلاقته بصاحبه، وأنقذه مما كان فيه، واستمر معه يغني على الطريقة التي كانت معروفة عند المصريين في ذلك العهد.
تاريخ الغناء بمصر
وأصل طريقة الغناء بمصر على ما يعلم من تاريخ وضعها، أن رجلا من أهالي حلب اسمه شاكر أفندي وفد إلى القطر المصري في المائة الأولى بعد الألف، وكان فن الألحان فيه مجهولا، فنقل إليه جملة تواشيح وقدود، وكانت هي البقية الباقية من التلاحين التي ورثها أهالي حلب عن أهل الدولة العربية، فتلقاها عنه بعضهم، وصارت عندهم ذخيرة نفيسة يضنون بها على الغير. واشتد حرصهم عليها، وصار الواقفون عليها يحرمون الناس من تلقينها. وبقيت بينهم على بساطتها الأصلية يتصرفون فيها بدون الشد والتصوير، فكانت قاصرة على أمهات المقامات وبعض الفروع المقاربة لها ، وكانت بالنسبة للغناء مثل حروف الهجاء بالنسبة للكلام.
وأقام المغنون في مصر على هذه الطريقة البسيطة لا يتصرفون فيها إلى عصر عبده الحمولي، فتلقاها المرحوم منهم على أصلها، وغنى بها مدة ثم دفعته سجيته في الطرب وحسن ذوقه في الغناء أن يتصرف فيها، مع المحافظة على الأصل وعدم الخروج عن دائرته، فأزال عنها بعض الجفوة.
وما زال يرتقي المرحوم في شهرته بحسن الغناء حتى ألحقه المغفور له
الموسيقى التركية. وجلب إسماعيل باشا في عودته إلى مصر جماعة من أكابر المغنين فيها، فكان المرحوم يحضر معهم دائما في اشتغالهم بالغناء، فاستمالته ألحانهم وأخذ ينتقي منها ما يلائم المزاج المصري ويناسب الطريقة العربية، ورأى المجال واسعا له في الموسيقى التركية؛ إذ وجد فيها كثيرا من النغمات التي لم يكن للمصريين علم بها ولم تطرق آذانهم من قبل؛ مثل النهاوند والحجاز كار والعجم وغيرها، فنقلها إلى الغناء المصري.
ثم التفت إلى بقية مصطلحات الغناء في الطبقات المختلفة من ذلك العصر؛ مثل المنشدين المشهورين بأولاد الليالي (الفقهاء)، والعوالم (القيان)، والمداحين (الضاربين بالدفوف)، والتقط منهم ما استنسبه فأضافه مع المختار من الغناء التركي، وخلطه بالطريقة القديمة فجعلها طريقة جديدة خاصة به. وظهر في مصر وفيها شيوخ المغنين، فصار شيخا عليهم، وقد دعاهم جهلهم بما صنعه إلى استنكار طريقته في أول الأمر، ولكن ما لبث الناس أن ذاقوا حلاوتها وطلاوتها، فعم استحسانها وذهب استنكارها وانتصر بحسنها عليهم، وله فيها من التلاحين أشياء كثيرة.
مزاياه
ومن مزاياه في صناعته أنه كان شديد الطرب، لا يقل طربه في أثناء تأديته للغناء عن طرب السامع له، وهو أول مغن مصري اهتدى إلى حسن الأداء واستصحاب حركة الغناء بالإشارات التي تقوم مقام الحكاية. وكان شديد الحفظ لما يسمعه، مجتهدا دائما في استخراج محاسن المسموع وطرح معايبه، ذا قدرة على أن يبدل القبيح فيه بالحسن.
وكان ذهنه شديد التعلق بالنغم فلا يكاد ينساه، وربما نام وهو على «التخت» في أثناء الغناء ثم يستيقظ فيرجع إلى الغناء كما كان فيه من غير مراجعة آلة أو استرشاد بأحد ممن معه؛ كأنما كانت الطبقة رسخت في ذهنه فلم تشوش عليها الأصوات التي مرت عليه وهو في نومه، ولم تؤثر عليه الغيبوبة في شيء. وكان لطيف التنقل، يوهم السامع في غنائه بأن مراده ما هو فيه، حتى إذا رسخ ذلك في ذهنه انتقل منه إلى مقام آخر يدهش السامع، ثم يتدرج حتى يعود إلى ما كان عليه، وذلك من أعظم المزايا وأكبر الفضل في هذا الفن.
وجملة القول في باب الغناء أن المرحوم جدد فيه وأبدع، وأحياه في مصر بعد أن كان شيئا خاملا، ثم تمكن فيه من التوفيق بين المزاجين التركي والمصري؛ فبعد أن كان أهل الطبقة الحاكمة في المصريين من الأصل التركي لا يطربون للغناء المصري ولا يلتفتون إليه، أصبحوا بفضل المرحوم وبما وفقه فيه من الأنغام التركية مقبولا عندهم مفضلا لديهم، وبعد أن كان المصريون لا يطربون من الغناء التركي ولا يروقهم غير طريقتهم؛ طريقة التوجع والأنين، أصبحوا يطربون لما يلائمهم من الأنغام التركية التي أنعش بها طريقتهم القديمة، فهو الجدير بأن يسمى في مصر معدل المزاجين بين الأمتين.
وكما امتزج الجنسان في الأجسام بالأنساب، فقد مزج بينهما عبده بالغناء في الأرواح، وكفاه فخرا أنه لم يصل أحد من قبله، ولن يصل من بعده، إلى مثل ما وصل إليه من هذا الابتداع والاختراع الذي اهتدى إليه بما ميزه الله به من لطف الذوق وشدة الذكاء وحدة الطرب ومحبة الإتقان والترقي في درجات الكمال.
أخلاقه
وكان كبير النفس، عالي الهمة، يحاول الارتفاع عن طبقته ويسعى في الخروج منها، مقتصرا على الاشتغال بالفن لذاته؛ لجهل الناس في جيلهم الماضي بعلو قدر هذا الفن، وغفلتهم عن جلال منزلته بين الفنون. وقد عمد المرحوم إلى ذلك بالفعل في أيام المغفور له إسماعيل باشا، فترك مزاولة صناعته بالأجرة بين الناس، وخرج من زمرة المغنين إلى زمرة التجار، غير طامع في الذهب الذي كان يسيل من حياله بممارسة صناعته في تلك الأوقات، فافتتح محلا لتجارة الأقمشة، واشترك فيه مع بعض التجار بمبلغ عشرين ألف جنيه، فما مضى عليها عشرون شهرا إلا وانتهت به سلامة نيته وحسن ثقته أن خرج منها صفر اليد مدينا للشريك دائنا للناس، يمنعه الخجل ويحجبه الحياء عن طلب الوفاء.
ولم يمتنع في أثناء ذلك عن الغناء بين الناس، بل امتنع عن طلب الأجر عليه، إلى أن عادت به حاجة العيش إلى مزاولة صناعته كما كان في أول أمره. ولم يزل يتطلع إلى غرضه في الانقطاع عنها كما فعل ودهره يحول دونه، فلم يستطع بلوغه إلى آخر مدته.
وكان شهما غيورا شريف السيرة، يغار لنفسه ولأعراض الناس، لا يبالي في ذلك بهول المواقف وفداحة الخطوب. أمر له المغفور له إسماعيل باشا ذات ليلة بإحضار المرحومة ألمز لتغني في بعض قصوره، وهو في عزة سلطانه وشدة بطشه، لا يعصي له الناس أمرا ولا يخالف هواه إلا من ارتضى لنفسه سكنى القبور، ولا يحلم أحد في منامه أن يقف موقف المعارض في رغبته أو الممانع لإشارته. فتوقف المرحوم عبده، وكان قد تزوج بها بعد أن منعها عن ممارسة الغناء، وأبى أن تخرج من بيته، فعاوده الطلب بالتشديد، فاستمر على إبائه إلى أن وصل الأمر إلى استعمال القوة، فأرسل مأمور الضابطة بعض أعوانه إلى منزله وأرادوا إخراجها منه بالقوة، فوقف أمامهم وقفة الليث يحمي أشبال العرين، وفضل الموت أو النفي على أن تغني المرحومة لحنا واحدا لأحد وهي في عصمته.
ولما لم يفده موقفه أمام القوة بفائدة استمهلهم برهة ريثما يعود إليهم، فدخل البيت وألقى بنفسه إلى حائط الجار، وخرج منها إلى الطريق لاجئا إلى صديقه المرحوم الشيخ علي الليثي، فكاشفه بما هو فيه من هول الخطب. وكان هذا الشاعر المرحوم ممن جمع الله له أيضا كثيرا من المزايا الفاضلة والأخلاق الكريمة؛ وأخصها علو الهمة والسعي لخير الناس. وكان ذا مكانة رفيعة عند المرحوم إسماعيل باشا صديق، فقام إليه في الحال، وتواقع الشيخ عليه يلتمس حسن الوساطة لدى ذلك الحاكم القاهر ليرجع في أمره، فقام الوزير من ساعته وقصد مولاه وتلطف له ما أمكن في الاعتذار، وما زال به حتى رجع عن طلبه ورضي بعصيان عبده لطاعته.
وخلص المرحوم من هذه الحادثة معافى في نفسه مصابا في جسمه؛ فقد تولد له من اضطراب أعصابه من شدة ما قاساه في هذه النازلة داء الصداع، فلم يفارقه طول حياته، وكانت إذا اعترته نوبته ألقته على الأرض صريعا يتخبط في أشد الآلام، لا يكاد من يراه على تلك الحال يصدق بنجاته فيها، فإذا أفاق لزم الفراش من عظم وقعها مدة طويلة، ولم ينجع في ذلك الداء معالجة الأطباء.
وسافر المرحوم في سنة 1896 إلى الآستانة العلية، وحظي هناك بالمثول في الحضور الشاهاني مرارا. وأعجب أمير المؤمنين بمهارته في فنه وحسن تأديته له، فأسنى عطيته وبلغه حسن رضائه، وكان الواسطة بينهما للتبليغ في ذلك المجلس السيد أبي الهدى. ومما تلقاه عنه من أوامر أمير المؤمنين أن يلقن ما غناه في حضرته من الأصوات لبعض ضباط الموسيقى الشاهانية، فلقن المرحوم منه ما أمكنه، ولم يسع الوقت تمام القيام بالأمر فوعد أنه سيشتغل عند عودته إلى مصر بربط تلك الأصوات برابطة «النوطة»، ثم يعرضها على الأعتاب الشاهانية ليسهل أخذها على ضباط الموسيقى. فلما عاد إلى مصر أتمها عشرين صوتا (دورا) مربوطة (بالنوطة)، وأرسلها من طريق رسمي إلى الآستانة، فلم يلق فيها ما يحقق آماله.
وفاته
وعاد إلى مصر مصابا بداء «البول السكري»، فأنهك جسمه وأضعف قواه، وغادر حلوان إلى سكنى مصر وقد تراكمت عليه هموم الحياة فزادت في ضعف الجسم. وظهر ذلك الداء الدفين في الرئة، ودخل من داء السل في الدرجة التي لا يرجى منها شفاء، وأشار عليه الأطباء بسكنى الصعيد مدة الشتاء، فأقام في سوهاج شهرين ونصفا عادت له في أثنائها بعض قوته، وتقوى أمله في شفائه. ولم يدرك المرحوم ما كنه دائه إلا في اليوم الذي مات في غده، ثم عجل العودة إلى مصر ليشتغل بوضع غنائه في أسطوانات «الفونوغرافات» طلبا للعيش. ولما حضر باشر ذلك فعلا، ثم جاءه نعي أحد أصدقائه المخلصين بالمنيا فاغتم غما شديدا، ولم يسمع لنصيحة أصحابه، بل خالفهم لقضاء ما توجبه عليه مروءته، وسافر إلى تلك المدينة وأقام هناك أياما مشاركا لأهل الميت في أحزانهم، ولما عاد؛ عاد باشتداد المرض عليه حتى أدركته منيته. (انتهى بتصرف).
هذا هو عبده الحمولي، وقد رأيت من ترجمة حاله أنه كان على استعداد كبير لفن الموسيقى، ومن أكبر الأدلة على استعداده شدة طربه من الغناء كأنه كان يغني ليطرب نفسه، وشغف المرء بصناعته وتلذذه بممارستها يدلان على انطباعه عليها واقتداره على إتقانها، ولكن الحمولي عاش في بلاد لم يكن لعلم الموسيقى أثر فيها، واشتغل بإطراب الناس عن طلب العلم من مصادره، فلم يبد من مواهبه إلا ما تهيأت له الأحوال.
وعندنا أن الرجل لو درس فن الموسيقى على أهله في أوروبا، وعدل عن الغناء إلى التلحين، وألف الألحان، لكفانا مئونة التحسر على ضياع هذه الصناعة بيننا، وجعل الموسيقى العربية فنا مستقلا له روابط وضوابط، وكانت الألحان الشائعة على ألسنة المغنين مضبوطة في الكتب على قواعد ثابتة.
ولا لوم عليه، فإنه قد نشأ بين العامة، فلما شب شغله إعجاب أكابر المصريين بما عنده من استزادته، ومصر في غفلة عن هذا الفن، فلما أفاقت كان هو قد شغل بصحته وداخليته، فأسف المصريون على ما فات، وأرادوا تدارك ما بقي فالتمسوا حبس صوته في الفونوغراف، فلم يمهلهم أجله فضاع، ولم يبق من آثار تفننه إلا ما اقتبسه بعض المغنين من مجالس غنائه في أثناء حياته. وبلغنا أن بعض أصدقائه تمكن من أخذ بضع أسطوانات فونوغرافية من صوته قبل موته.
Unknown page