Tarajim Mashahir
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Genres
وفي عام 1821 ثار اليونان في المورا، وشقوا عصا الطاعة حتى صاروا يهاجمون سواحل سوريا والأناضول وغيرهما، ويصادرون العمارات العثمانية فبعث السلطان جندا عظيما لردهم، فقامت الحرب على ساق وقدم، وبعث الباب العالي إلى محمد علي باشا إذ ذاك أيضا فأرسل حملة تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا انضمت إلى جيوش الدولة وضيقوا على أهل المورا، فاستنجدت اليونان الدول الأوربية، فتوسطت دولتا إنكلترا وفرنسا، فلم يرض السلطان بتوسطهما، فبعثا عمارتيهما وانضمت إليهما العمارة الروسية، وهددوا إبراهيم باشا وعمارته في مينا نافارين من أعمال المورا وطلبوا إليه أن يكف عن القتال، فأبى إلا أن يكون ذلك بأمر من السلطان، فدخلوا المينا وأطلقوا النار على العمارتين المصرية والعثمانية في 6 يوليو (تموز) عام 1827 وظهروا عليهما بعد دفاع شديد، فاضطر السلطان محمود لقبول اقتراح الدول المتحدة وأمضى معاهدة تقضي باستقلال اليونان.
وكان السلطان في أثناء ذلك مشتغلا بتنظيم الجند الجديد، لعلمه أن جند الإنكشارية لا يقوى على مدافعة جنود أوروبا المنظمة، ولكنه علم بما يحول بينه وبين ما يريد فجمع إليه رجال دولته بحضرة المفتي أفندي، وخطب الصدر الأعظم إذ ذاك محمد سليم باشا خطابا عدد فيه ما وصلت إليه قحة الإنكشارية مع ما هم فيه من القصور في النظامات الحربية الجديدة، وطلب إليهم أن يبدوا رأيهم فيما يجب اتخاذه من الوسائل؛ لملاقاة ما يهدد المملكة العثمانية بسبب ذلك، فأقر الجميع وفي جملتهم آغا الإنكشارية على اتخاذ الوسائل الفعالة فتلا المكتوبجي أمرا قاضيا بتنظيم جيش جديد باسم «إيكنجي» وتهذيبه، فوقع الجميع على وجوب تنفيذ ذلك الأمر، وتلي ذلك بعدئذ على ضباط الإنكشارية فقبلوا به فأخذوا في تنظيم الجيش، وفي 6 ذي الحجة عام 1241ه /12 يونيو 1826 استعرضوه وشرعوا في تهذيبه للمرة الأولى في ساحة الميدان.
أما الإنكشارية فحالما شاهدوا ذلك النظام نسوا عهودهم لما رأوا في الأمر مما يحط من سطوتهم ونفوذهم، وأخذوا يتحدثون سرا وينقمون على تلك البدعة، فحاول الصدر الأعظم قمعهم سرا وجهرا فلم يزدادوا إلا عنادا، حتى هجموا أخيرا على منزله للإيقاع به فلم يظفروا بشخصه؛ لأنه لم يكن هناك، فتفرقوا في المدينة يصادرون المارة والباعة، فبعث الصدر إلى السلطان بالأمر وأمر ضباطه وجنده الخصوصيين فحضروا في السراي. أما الإنكشارية فأصروا على أعمالهم وجاهروا بطلب رءوس الذين أشاروا بتنظيم ذلك الجيش، فوقف الصدر الأعظم وحوله من رجاله والعلماء والمشائخ عدد غفير في انتظار مجيء السلطان، وكان في بشكطاش فأسرع إلى السراي وخطب في الجماهير فأنهض هممهم، فأقسموا على الثبات حتى يفوزوا أو يقتلوا فداء عن سلطانهم، وطلبوا إليه أن يجرد العلم النبوي الشريف فجرده، ومشى فتبعه الناس وتقاطروا من أنحاء المدينة للدفاع عن السلطان والسنجق الشريف ففرق فيهم الأسلحة ثم سلم العلم إلى المفتي، وجلس في قصر (كشك) فوق باب السراي حيث يشرف على الساحة ويشاهد الجماهير.
ثم اجتمع الصدر الأعظم والمفتي والعلماء في جامع السلطان أحمد وتلوا الفاتحة وسورا أخرى بالخشوع التام، ثم نهضوا في هيئة الحرب وفيهم العساكر وأهل المدينة، فأدركوا الإنكشارية وقد تجمهروا في ساحة الميدان، فحاولوا ردهم بالتي هي أحسن فأبوا فأطلقوا عليهم الرصاص، والتحم الفريقان، وكانت المذبحة هائلة عادت فيها العائدة على جند الإنكشارية ومن لم يقتل منهم قيد أسيرا، فنجت البلاد منهم وهدأت الأحوال كما نجت مصر من أمراء المماليك بعد أن ذبحهم محمد علي قبل ذلك ببضع عشرة سنة.
وأخذ السلطان محمود بعد ذلك بتنظيم الجند على النمط الفرنساوي المتقدم ذكره، فاغتنمت الدولة الروسية انهماكه بذلك، وأشهرت الحرب وزحفت بجنودها الجرارة لجهة الدانوب في أوروبا وجهة القرص وأرضروم وغيرهما في آسيا، وبعثت عمارتها البحرية إلى البحر الأسود، فعظم ذلك على السلطان لما يعلمه من قصور جنده الجديد، ولكنه جند على الروسيين، وجاهد العثمانيون جهاد الأبطال دفعا لعدوهم عن حدود البلاد ما ليس فوقه غاية، وقد شهد لهم بذلك أعداؤهم، على أن جهادهم وبسالتهم وثباتهم لم تغن عنهم شيئا؛ لأنهم كانوا يحاربون ثلاث دول عظام وليس الروس وحدهم، كما علمت من نجدة إنكلترا وفرنسا للمورة، وانقضت الحرب الروسية هذه باحتلال بعض المدن في رومانيا وفي آسيا.
ولما علم السلطان بذلك اضطرب قلبه ولم يكن يعرف الاضطراب قبل ذلك، ولكنه أظهر ثباتا وحزما جديرين بالسلاطين الفخام والمصلحين العظام، وانتهت تلك الشرور بعقد معاهدة «أدرنة» في 6 سبتمبر (أيلول) عام 1829 القاضية باستقلال اليونان استقلالا تاما، والتنازل عن إقليم السرب لعائلة دوبرينوفيتش وعن إقليمي الفلاخ والبغدان، وقد انضم هذان سنة 1861 إلى إمارة واحدة عرفت بإمارة رومانيا تدفع جزية سنوية للدولة العلية كالديار المصرية، والتنازل عن بعض الجزائر الواقعة عند مصب الدانوب، وعن بلاد أخرى في آسيا مع غرامة حربية مقدارها مائة مليون وعشرة ملايين من الفرنكات.
وقد يستغرب القارئ رضوخ السلطان محمود لتلك المعاهدة، وهو من سلاطين آل عثمان الذين دوخوا العالم وأرجفوا ملوك الأرض، ودانت لهم أعظم ممالك الدنيا، ولكن ليس ذلك محل الاستغراب وإنما الغرابة في ثبات هذه الدولة أيدها الله ودفاعها الدولتين والثلاث أو أكثر معا بعزم ثابت، وكانت كل دول أوروبا ضدها تنتظر فرصة لابتلاعها فلو لم تكن أقوى الدول وأشدهن بطشا ما استطاعت دفع تلك الصدمات، ناهيك بما كان مستحكما في داخليتها من الخلل وما أفسده الإنكشارية ومن جرى مجراهم.
فلم تكد تتخلص من تلك المشاكل حتى كانت حملة الجنود المصرية تحت قيادة إبراهيم باشا على سوريا، فافتتحوا عكا وأوغلوا في داخل القطر وما وراءه حتى كادوا يهددون الآستانة فتوسطت الدول وأوقفتهم في سوريا حيث أقام إبراهيم باشا حاكما ضمن حدود وعهود تسع سنوات، توفي السلطان محمود في السنة التاسعة منها بعد أن حكم إحدى وثلاثين سنة كلها حروب وأهوال، ولولا حزمه وثباته وقسطه ما قوي على مقاومة تلك الصدمات التي لو كانت على أعظم دول الأرض لذهبت بها إلى الدمار.
وكان رحمه الله ثابت الجنان، مقداما، حازما، تتجلى في وجهه ملامح الوقار والرزانة، وقد قال الذين قابلوه من سفراء الدول الأجنبية إنهم لم يجدوا في سائر ملوك أوروبا وإمبراطوريها المعاصرين ما في السلطان محمود من قوة التسلط على الأفكار والتأثير على العقول، وكان يحسن الخط ونظم الشعر متبصرا، لا يعمل عملا ما لم يتدبره وينظر في عواقبه. ومن أعماله إبادة وجاق الإنكشارية وتأسيس النظام الجندي الجديد، وهو أول من لبس الطربوش واللباس الإفرنجي على الزي المعتاد (في أواخر حكمه)، وأول من ركب عربة (فايتون) من سلاطين آل عثمان، وقد كان السلاطين قبله يلبسون العمامة والجبة ويركبون الخيل، وفي عصره ظهرت أول جريدة في المملكة العثمانية، ويقال إنه أذن بنقل رسمه بالزيت وعرضه في الترسانة العامرة، وقد طبع ذلك الرسم بمطبعة الحجر وبيع في الآستانة.
الفصل التاسع
Unknown page