Tarajim Mashahir
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Genres
شكل 1-1: محمد علي باشا.
وكان لوالده صديق يعرف بجربجي براوسطة فشفق على الغلام وجاء به إليه، وعني بتربيته مع أولاده، غير أن ذلك لم ينسه حاله من اليتم، فكان يشعر بالذل وضعة النفس. ويروى أنه بعد أن ارتقى ذروة المجد واعتلى منصة الأحكام، أنه كان يحدث أخصاءه عما قاساه في صبوته من الذل إلى أن يقول:
ولد لأبي سبعة عشر ولدا لم يعش منهم سواي، فكان يحبني كثيرا ولا تغفل عينيه عن حراستي كيفما توجهت، ثم توفاه الله فأصبحت يتيما قاصرا، وأبدل عزي بذل، وكثيرا ما كنت أسمع عشرائي يكررون هذه العبارة التي لا أنساها، وهي: «ماذا عسى أن يكون مصير هذا الولد التعيس بعد أن فقد والديه»، فكنت إذا سمعتهم يقولون ذلك أتغافل عنه، ولكنني أشعر بإحساس غريب يحركني إلى النهوض من تحت هذا الذل، فكنت أجهد نفسي بكل عمل أستطيع معاطاته بهمة غريبة حتى كاد يمر علي أحيانا يومان ساعيا لا آكل ولا أنام إلا شيئا يسيرا، وفي جملة ما قاسيته أني كنت مسافرا مرة في مركب فتعاظم النوء حتى كسره، وكنت صغيرا، فتركني رفاقي وطلعوا إلى جزيرة هناك على قارب معنا، أما أنا فجعلت أجاهد في الماء وسعي، تتقاذفني الأمواج، وتستقبلني الصخور حتى تهشمت يداي، وكانتا لا تزالان يانعتين، وما زلت حتى أراد الله ووصلت الجزيرة سالما، وقد أصبحت هذه الجزيرة الآن قسما من مملكتي.
ومما يحكى عنه في أيام صبوته أنه كان يتردد على رجل فرنساوي مقيم في قوالة اسمه المسيو ليون، وكان من كبار التجار محبا للفضيلة وحالما، رأى محمد علي للمرة الأولى، فشفق عليه وأحب مساعدته؛ لما توسم فيه من الفطنة والنباهة، فكان يقدم له كثيرا من حاجياته ويسعفه بكل ما في وسعه حتى ألفه محمد علي كثيرا، وهذا هو سبب وثوقه بالأمة الفرنساوية بعد توليه الأحكام في مصر واستخدامه أفرادا منهم في مصلحة البلاد، ويقال: إنه رحمه الله بعث سنة 1820 إلى المسيو ليون المشار إليه يدعوه إلى مصر يقضي فيها زمنا في ضيافته، فأجاب دعوته، ولكنه مات قبل قدومه، فأسف عليه محمد علي كثيرا وبعث إلى شقيقته هدية تساوي عشرة آلاف فرنك.
قلنا: إنه ربي في صبوته ببيت جربجي براوسطة، وتعلم في صغره ما يتعلمه أبناء تلك البلاد من ألعاب السيف والجريد والحكم وما شاكل، فنبغ فيها حتى إذا بلغ أشده انتظم في سلك الجهادية تحت إدارة مربيه، فأظهر في جباية الضرائب مهارة وبسالة عجيبتين، فرقاه إلى رتبة بلوك باشي وزوجه إحدى ذوات قرابته وكانت مطلقة ولها مال وعقار، فترك الجهادية وتعاطى التجارة وعلى الخصوص في صنف التبغ؛ لأنه أكثر أصناف التجارة في بلاده، وقد برع في تلك التجارة حتى اكتسب شهرة واسعة، وثقة عظمى لدى عملائه، وكان قد ذاق لذة التجارة وأحبها مذ كان يتردد على المسيو ليون المتقدم ذكره؛ ولذلك رأيناه بعد أن تولى مصر يوجه انتباهه بنوع خاص لتنشيط التجارة.
وما زال يتعاطى التجارة إلى سنة 1801 حينما عزم الباب العالي على إخراج الفرنساوية من مصر بمساعدة إنكلترا، وكان الفرنساويون قد جاءوا مصر تحت قيادة نابليون بونابرت سنة 1798 فحاربوا الأمراء المماليك، ودخلوها عنوة، وأقاموا فيها ثلاث سنوات والحكومة العثمانية تبعث إليهم الجنود، وتحاربهم تارة وحدها وطورا بمساعدة إنكلترا، وهم قائمون بين إقدام وإحجام إلى سنة 1801 فبعثت العثمانية إليهم عمارة قوية تحت قيادة قبطان باشا وفيها قوات إنكليزية وبعثت الصدر الأعظم في حملة من جهة البر. (2) ارتقاؤه منصة الأحكام
وكان محمد علي في جملة القوة البحرية، وقد تجند إليها في جملة من تجند في براوسطة بصفة معاون لعلي آغا ابن مربيه على ثلاثمائة جندي ألباني (أرناءوط).
فجاءت العمارة إلى أبي قير، وكانت الغلبة هناك للفرنساويين، ثم عاد علي آغا إلى بلاده تاركا رجاله تحت قيادة محمد علي، وكان هذا قد ترقى إلى رتبة بكباشي.
ثم تغلب العثمانيون بمساعدة العمارة الإنكليزية وحملة الصدر الأعظم، ودخلوا البلاد وأخرجوا الفرنساويين منسحبين انسحابا قانونيا، وجعلوا يهتمون بتأييد سلطة الباب العالي فيها.
وكان في الجنود العثمانية جماعات من الأرناءوط والإنكشارية والغليونجية، فتفرقت هذه الجنود لحماية مصر السفلى وبعض مدن الصعيد. أما الإنكليز فكانوا تحت قيادة الجنرال هتشنسون فنزلوا الإسكندرية ريثما يقيمون في القطر المصري واليا عثمانيا يؤيد سلطة الباب العالي، ويكبح جماح المماليك الذين كانوا لا يزالون يحاولون الاستقلال.
Unknown page