Tarajim Mashahir

Jurji Zaydan d. 1331 AH
148

Tarajim Mashahir

تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)

Genres

الفصل الرابع والأربعون

بطرس باشا غالي

(1) نشأته المدرسية

هو أكبر أنجال المرحوم غالي بك نيروز، ولد في القاهرة سنة 1847 ووافق نشوءه نهضة تعليمية ظهرت في الطائفة القبطية على يد المرحوم الأنبا كيرلس الرابع المتوفى سنة 1861 بعد أن أسس المدارس القبطية في الأزبكية وحارة السقايين. دخل صاحب الترجمة مدرسة حارة السقايين فنبغ بين أقرانه، وكان البطريرك المشار إليه يتعهد المدارس بنفسه ويراقب سيرها، فلحظ في الفقيد ذكاء واجتهادا ممتازين، فتحدث فيما يرجوه من مستقبله، ويذكرون أن أستاذه في اللغة الفرنساوية كان المرحوم مصطفى بك رضوان، فلما صار صاحب الترجمة وكيلا للحقانية عينه رئيسا لمحكمة المنصورة.

شكل 44-1: بطرس باشا غالي (ولد سنة 1847 وتوفي سنة 1910).

قضى بطرس ثماني سنوات في مدرسة حارة السقايين، ثم انتقل إلى مدرسة البرنس فاضل باشا (أبي الأحرار العثمانيين)، وكان والده غالي بك يشتغل في دائرة البرنس المذكور، فأتقن فيها اللغتين العربية والفرنساوية، وتعلم الفارسية والتركية، وفي تلك المدرسة ظهرت رغبته في العلم وتلذذه بالدرس، فقد حدثنا بعض الذين عاشروه في صباه أنه كان يقضي ليله ساهرا لا يمل المطالعة، حتى شكا بعضهم ذلك إلى أبيه خوفا على صحته. وقد ساعده على إتقان اللغات التي تعلمها أنه كان قوي الذاكرة يحفظ الصفحة والصفحات بعد تلاوتها. ذكروا أن معلم الفرنساوية فرض على الصف مرة حفظ ثماني صفحات من الأجرومية فتذمروا من طول الأمثولة وفي جملتهم بطرس، لكنه جرب حفظها فاستسهله، فحفظ ما بقي من الكتاب، ولما جاء التلاميذ للتسميع في اليوم التالي اعتذر الجميع بطول الأمثولة إلا هو فسمع الدرس وسائر ما بقي من الكتاب، فأثنى الأستاذ على ذكائه واجتهاده.

ومن أدلة رغبته في العلم أنه وهو يتعلم الفارسية والتركية في المدرسة المذكورة لم يكن يرتوي من شرح المعلم، فاتخذ أستاذا فيهما من أهل خان الخليلي، كان يدفع له أجرته مما يجمعه من البارات التي كان أبوه يعطيه إياها ليتفكه بها، وقد أتقن هاتين اللغتين، وما زال إلى أواخر أيامه يردد بعض الأبيات الفارسية التي حفظها في صباه، أما التركية فأحسنها جيدا، وخرج من هذه المدرسة وهو يعرف أربع لغات، ثم تعلم الإنكليزية والإيطالية والقبطية، ولم يكن يحتاج في درس اللغة إلا إلى الإرادة، فإذا أراد وعزم فثباته وذكاؤه يضمنان سرعة اكتسابه ذلك اللسان، وحكي لنا عن سبب تعلمه اللغة القبطية أن بعض المستشرقين لقيه في بعض سياحاته بأوروبا وكلمه بالقبطية فأجابه جوابا ضعيفا؛ لأنه لم يكن يحسنها، ووعده أن يكاتبه بها بعد عودته إلى مصر ببضعة أشهر، وقد فعل. (2) دخوله في عالم العمل

خرج من المدرسة فكان أول عمل تعاطاه التعليم في مدرسة حارة السقايين براتب قدره سبعمائة غرش، وكان ناظر المدرسة يومئذ يعقوب بك نخلة رفيلة، ولكنه لم يمكث طويلا في تلك المهنة لأن مطامعه كانت أوسع من ذلك كثيرا، فعمد إلى الاستزادة من العلم الذي يؤهله للعلى، وكانت الحكومة المصرية يومئذ تهتم في إخراج المترجمين لمصالحها، وقد أنشأت مدرسة الترجمة للمرحوم رفاعة بك ونبغ منها طبقة حسنة من المترجمين، فلازمها بطرس سنتين أتقن في خلالهما ما كان يعرفه.

واتفق أن مجلس تجار الإسكندرية أراد توسيع دائرته فاحتاج إلى كتبة ومترجمين، فتقدم بطرس في جملة الطالبين للامتحان، فنال قصب السبق فتعين كاتبا، ولكنه ما زال يرتقي ويحرز ثقة رؤسائه حتى صار رئيس كتاب المجلس، وله فيه القول الفصل، وهو في ذلك المنصب نظرت قضية في المجلس المذكور لأحد صنائع المرحوم إسماعيل باشا المفتش، وصدر الحكم ضده فادعى الرجل أن بطرس أضاع حقه بإفشاء بعض أسرار المصلحة، وأبلغ ذلك إلى مولاه المفتش، فأبلغ المفتش ذلك إلى ناظر الداخلية يومئذ شريف باشا، وكانت مجالس التجار تابعة لها، فدعاه الناظر إليه بحضرة المفتش، وسأله عن التهمة فتنصل منها، وقص الحقيقة بحرية واستقلال فكر، فلم يعجب المفتش تنصله، فأخذ يكلم شريف باشا بالتركية طعنا فيه، فرد عليه بتلك اللغة ردا بليغا أدهش الرجلين، وحكما ببراءته وأعجبا ببراعته.

ولما تأسست المحاكم المختلطة جعلوها نظارة مستقلة سموها نظارة الحقانية برئاسة شريف باشا، وكان قد عرف اقتدار صاحب الترجمة فولاه رئاسة كتابها سنة 1874 فأخذت مواهبه تظهر من ذلك الحين، فاشتغل مع المرحوم قدري بك في ترجمة قوانين المحاكم وأكثرها يعمل به إلى اليوم.

Unknown page