Tarajim Mashahir

Jurji Zaydan d. 1331 AH
133

Tarajim Mashahir

تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)

Genres

كان رحمه الله ربع القامة، أسمر اللون، كثير التفكير، قليل الكلام، وكان حر الفكر، صادق اللجة، وقد زاده التبحر في القوانين والنظر في أقوال الفلاسفة الاجتماعيين استقلالا في الفكر، وصراحة في القول؛ لأن القضاء يعود صاحبه التمسك بالحق وإجلال قدر الحقيقة، وممارسة القضاة الأحكام، وتعودهم إذعان الناس لأقوالهم بلا مراجعة يزيدهم جرأة لإبداء آرائهم في كل مسألة تعرض عليهم؛ ولذلك رأيت المحاباة والرياء نادرين فيهم.

وكان كبير النفس، شديد الحرص على كرامتها؛ ولذلك رأيناه محبا لأمته راغبا في رفع منزلتها؛ لأن حب الأمة من حب الذات، ولا يحب أمته إلا الذي يحب كرامة نفسه، ومن يتغالى في خدمة أمته فإنما يفعل ذلك حبا بنفسه.

واطلع قاسم على أحوال الأمم الراقية في أثناء إقامته بأوروبا، فتمنى أن تكون أمته مثلها، فنظر في أسباب الرقي فرآها كثيرة لا يمكن تناولها دفعة واحدة، ولا يتيسر تناول شيء منها قبل إصلاح العائلة، لأن الأمة تكون كما تكون العائلة، والعائلة تكون كما تريد المرأة، فوجه عنايته إلى إصلاح المرأة المسلمة، وليس هو أول من رأى ذلك أو فكر فيه كما قلنا، ولكنه كان حازما مقداما لا يكتفي بالقول والتذمر أو الاستسلام على عادة أكثر المفكرين بيننا، ومنهم طائفة لا يقلون تعقلا وسدادا عن المفكرين في العالم المتمدن، ولكنهم يقولون ولا يفعلون، وهي آفة المشارقة. أما قاسم أمين فكان فعالا إذا اقتنع بصواب فكر أخرجه إلى حيز العمل، فلما عرف الطريق المؤدي إلى إصلاح أمته بادر إلى مباشرته وهو يعلم ما يعتور مشروعه من العقبات، وما سيلقاه من مقاومة تيار الرأي العام؛ لأن إصلاح المرأة يقتضي منحها الحرية، ويتناول تقبيح الحجاب والنهي عن الطلاق وتعدد الزوجات مما يعده العامة من قبيل العقائد الدينية وهو ليس من الدين في شيء، فاضطر أن يبين ذلك في أثناء بحثه، وبعد إعمال الفكرة ألف كتابه «تحرير المرأة»، واسمه ينم على منزلة المرأة المسلمة في اعتباره، فهو يعدها مستعبدة، وقد أخذ على نفسه أن يحررها، وعلم أن الناس سيكبرون قوله، وينكرون عليه مشروعه، حتى المرأة؛ لأنها ألفت الذل وتعودت أن تعتبر نفسها من أدوات المنزل، فلم يكن يتوقع أن يرى ثمرة سعيه في حياته، فرضي أن يضع الأساس لسواه، فصدر كتابه المشار إليه بقوله:

وغاية ما أريد هو أن أستلفت الذهن إلى موضوع قل المفكرون فيه، لا أن أضع كتابا يوفي الكلام في شأن المرأة ومكانتها من الوجود الإنساني، وقد يوضع مثل هذا الكتاب بعد سنين متى نبتت هذه البذرة الصغيرة، ونما نباتها في أذهان أولادنا، وظهرت ثمراتها، وعملوا على اقتطافها والانتفاع بها .

ثم بين حاجة المرأة المصرية أو المسلمة إلى الإصلاح موجها كلامه إلى الخاصة والعقلاء، فأورد فصلا في «إن حال المرأة في الهيئة الاجتماعية يتبع حال الآداب في الأمة»، لا يقرؤه قارئ إلا توسم من خلال سطوره الحماسة، ونصرة الحقيقة، وصدق اللهجة، فقد افتتح كلامه بقوله:

إني أدعو كل محب للحقيقة أن يبحث معي في حالة النساء المصريات، وأنا على يقين أنه يصل وحده إلى النتيجة التي وصلت إليها، وهي ضرورة الإصلاح فيها، هذه الحقيقة التي أنشرها اليوم شغلت فكري مدة طويلة كنت في خلالها أقلبها وأمتحنها وأحللها، حتى إذا تجردت عن كل ما كان يختلط بها من الخطأ استولت على مكان عظيم من موضوع الفكر مني، وزاحمت غيرها وتغلبت عليه، وصارت تشغلني بورودها، وتنبهني إلى مزاياها، وتذكرني بالحاجة إليها، فرأيت أن لا مناص من إبرازها من مكان الفكر إلى فضاء الدعوة والذكر.

ثم أخذ يبحث في علاقة المرأة بالأمة، ويورد الأدلة والبراهين التاريخية والاجتماعية ويستنهض الهمم، ويستحث القرائح على العمل بعبارات ملؤها الحماسة والإخلاص، وقال:

ولا يركن إلى حب السكينة إلا أقوام على شاكلتنا، فقد أهملنا خدمة عقولنا حتى أصبحت كالأرض البائرة التي لا يصلح فيها نبات، وحتى مال الكسل بنا إلى معاداة كل فكر صالح مما يعده أهل الوقت حديثا غير مألوف، سواء كان من السنن الصالحة الأولى، أو قضت به المصالح في الأزمنة.

وكثيرا ما يكتفي الكسول وضعيف القوى في الجدل بأن يقذف بكلمة باطلة على حق ظاهر يريد أن يدفعه، فيقول: تلك بدعة في الإسلام، وما يرمي بهذه الكلمة إلا حبا بالتخلص من مشقة الفهم أو الخروج من عناء العمل في البحث أو الإجراء. كأن الله خلق المسلمين من طينة خاصة بهم، وأقالهم من أحكام النواميس الطبيعية التي يخضع لسلطانها النوع الإنساني وسائر المخلوقات الحية.

سيقول قوم إن ما أنشره اليوم بدعة، فأقول: نعم، إني أتيت ببدعة، ولكنها ليست في الإسلام بل في العوائد وطرق المعاملة التي يحمد طلب الكمال فيها.

Unknown page