Tarajim Mashahir
تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر (الجزء الأول)
Genres
هذا مثال من آراء أدباء المسلمين وشعرائهم في المرأة بين القرنين الرابع والخامس للهجرة، وقد زادت حطة وصغارا في الأجيال الإسلامية الوسطى تبعا للتقهقر العام، وبلغت غاية ذلك في القرون الأخيرة قبل النهضة، وقد تساوت في ذلك الانحطاط المرأة المسلمة وغير المسلمة من نساء الشرق الإسلامي على الإجمال والناس سكوت؛ لأن القرائح جامدة، والنفوس ميتة بما تولى الناس من فساد الأحكام وتفشي الجهل.
فلما أخذ القوم بأطراف التمدن الحديث، واستنارت العقول بالعلم انتبه العقلاء إلى المرأة، وعمدوا إلى النظر في تحسين حالها ورفع شأنها، بدأ بذلك المسيحيون لكثرة اختلاطهم بأصحاب هذا التمدن، وقد أصابوا منه حظا وافرا؛ إذ ليس في تقاليدهم أو عقائدهم ما يمنع حريتها، ثم أخذ عقلاء المسلمين يفكرون في حال المرأة المسلمة ويشعرون بحاجتها إلى الإصلاح؛ لعلمهم أن الأمة يتوقف إصلاحها على إصلاح المرأة. فطفقوا يتهامسون في ذلك تهيبا من مقاومة تيار العامة الذين يعدون التضييق على المرأة من حقوق الرجل.
ثم أخذ بعضهم يتظاهرون بنصرتها، وأنشئت المدارس لتعليمها، وظهر القائلون بوجوب إصلاحها، وليس بينهم من تصدى للمجاهرة بذلك على الملأ بالكتابة والخطابة؛ لأن الشجاعة الأدبية كانت قليلة بيننا، وأسبق المسلمين إلى طلب الإفراج عن المرأة في هذا العصر الأتراك في الآستانة؛ لكثرة اختلاطهم بالأجانب، وسبقهم في الاطلاع على أسباب التمدن الحديث، ولذلك كان كتابهم أسبق إلى المجاهرة بوجوب رفع الحجاب، وأول من فعل ذلك من العرب هناك الشيخ أحمد فارس صاحب الجوائب.
أما في مصر فما زال العقلاء يتهامسون في هذا الموضوع وفي غيره مما يشعرون بحاجتهم إليه من الإصلاح الاجتماعي أو الديني حتى صرح الشيخ محمد عبده بآرائه فلاقى ما لاقاه من المعارضة والنقمة، وكانت وجهته الإصلاح الإسلامي على العموم بحل قيود التقاليد، وتحكيم العقل في التفسير والتأويل إلى ما فيه ترقية شئون المسلمين، فكثر مريدوه والمؤمنون على أقواله وإن قل المجاهرون بذلك على المنابر أو في الصحف. ومن أولئك القليلون فقيد الأمس قاسم بك أمين؛ فإنه أخذ على عاتقه القيام بأهم أسباب الإصلاح المطلوب، نعني تحرير المرأة. تصدى لذلك بشجاعة يندر مثلها. (2) الشجاعة الأدبية
الشجاعة الأدبية أن يقول الإنسان اعتقاده، ولو كان فيه ما يسيء الكبراء أو يهيج عليه العامة مما يئول إلى الخطر على حياته أو مصلحته، وأصحاب هذه المنقبة قليلون، ولا سيما في الشرق بعد ما توالى على أهله من أصناف الذل والخسف. وأما في إبان تمدنه فقد اشتهر من رجاله جماعة نضرب الأمثال بشجاعتهم الأدبية لسيادة العدل ونزوع ولاة الأمور إلى نصرة الحق، والضرب على أيدي الظالمين، فلم يكن الناس يخافون أن يقولوا ما يعتقدون حتى كان الرجل من العامة ربما انتقد الخليفة أو الأمير في وجهه لا يخشى بأسا، وقد تعود المسلمون ذلك من زمن الراشدين، فلما أفضت الدولة إلى بني أمية وعمدوا إلى الدهاء والشدة في تأييد سلطانهم أمسكوا على الناس حريتهم، ومع ذلك فقد نبغ غير واحد بذلوا حياتهم في سبيل شجاعتهم كما أصاب أبا ذر الغفاري، وحجر بن عدي الكندي، وسعيد بن حبير وغيرهم، ولا تقتصر تلك الشجاعة على المسائل السياسية أو الدينية، بل هي لازمة في العلم والأدب فقد عرض غاليليو حياته للخطر لمخالفة الأولين في قولهم عن ثبوت الأرض.
والإنسان من فطرته حر الفكر، يدلك على ذلك ما يبدو في كلام الأطفال من الصراحة والحرية، ولكن تربيته على الخوف والحذر وتضييق الفكر منذ الصغر بالخرافات والأوهام تقيدان العقل حتى يعجز صاحبه عن التفكير إلا على القالب الذي صب عقله فيه، فعلى طالب الإصلاح قبل أن يحل لسانه من خوف العقاب أن يحل فكره من قيود التقليد، هذه هي الخطوة الأولى نحو الشجاعة الأدبية، وجمهور العامة مقيدو الفكر لا تتمشى أفكارهم إلا على الخطة التي رسمتها عاداتهم، فتبدو آراؤهم مسبوكة في القوالب التي اقتضتها تربيتهم أو معتقداتهم، فقبل أن نطالبهم بحرية القول أو الشجاعة الأدبية يجب علينا أن نعلمهم «حرية الفكر»؛ أي نجعلهم ينظرون فيما يعرض لهم من المسائل بعين العقل لا بعين الغرض، وأن يبحثوا عن الحقيقة المجردة بقطع النظر عما غرس في أذهانهم مما يخالفها فيحكموا عقولهم وليس عاداتهم ومعتقداتهم، ذلك ما يعبرون عنه باستقلال الفكر.
فمتى أطلق الرجل فكره من قيود الغرض أو التقليد بقي عليه أن يصرح بما يرشده إليه عقله إذ قد يكون في تصريحه ما يسوء سواه أو يعود عليه بالضرر، فيمسك عنه خوفا أو مسايرة فيسكت، وقد يتمادى في جر المنفعة لنفسه فيقول عكس ما يعتقده التماسا لرضى الآخرين، ونرى أمثلة من ذلك شائعة بيننا لهذا العهد.
فالناس من هذا القبيل ثلاث طوائف: طائفة غلبت عليها الأوهام وقيدتها التقاليد، فلا تنظر في الأمور إلا بعين الغرض وبما تقتضيه تلك القيود، فلا يلام أصحابها إلا على الجهل، وطائفة حلت أفكارها من تلك القيود ونظرت في الأمور بعين العقل فظهر لأصحابها في شئون العامة خلل يقتضي إصلاحا، فمنهم من يسكت عن إبداء رأيه خوفا من غضب الجمهور أو مراعاة لرئيس أو صديق، وهي جبانة وضعف، ومنهم من لا يكتفي بالسكوت عن الحق بل يجاري تيار الجهلاء فيقول عكس ما يعتقد، وهو النفاق والرياء، ومنهم من يقول ما يعتقده بشجاعة وصراحة لا يبالي بما قد يلحقه بسبب ذلك من الضرر، وهي الشجاعة الأدبية وأصحابها هم رجال الفضل على المجتمع الإنساني ومنهم كبار المصلحين والشارعين، وليس المصلح أو الشارع إلا رجلا دعا الناس إلى غير ما ألفوه أو تعودوه من الإصلاح الديني أو الاجتماعي وضحى نفسه أو مصلحته في هذا السبيل، وصاحب الترجمة من أولئك المصلحين. (3) ترجمة حاله
كان أبوه أمين بك ابن أمير من أمراء الأكراد أخذ رهينة في الآستانة على أثر خلاف وقع بين الدولة العلية والأكراد، ثم جاء إلى مصر على عهد إسماعيل باشا، وانتظم في الجيش المصري ورقي فيه إلى رتبة أميرالاي، وتزوج بكريمة أحمد بك خطاب أخي إبراهيم باشا خطاب، فولدت له أولادا أكبرهم قاسم صاحب الترجمة.
وليس في ترجمة قاسم أمين ما نراه في تراجم رجال الحرب أو السياسة من الحوادث العديدة، فقد ربي كما يربو أمثاله من أولاد الوجهاء، وتثقف في مدارس الحكومة المصرية، وكان ممتازا في صغره بالذكاء وحدة الذهن، ولما أكمل دروسه كان في جملة الذين اختارتهم الحكومة للإرسال إلى أوروبا يتعلمون بنفقتها على جاري العادة في ذلك الحين، فدرس الحقوق في فرنسا وعاد إلى مصر سنة 1885 فتعين وكيلا للنائب العمومي في محكمة مصر المختلطة، وما زال يرتقي حتى صار مستشارا في الاستئناف، وكان في كل أعماله مثال الأمانة والنشاط واستقلال الفكر حتى توفاه الله بالسكتة في 21 أفريل الماضي وهو في الثالثة والأربعين من عمره. (4) صفاته وأعماله
Unknown page