التقريب والإرشاد
(الصغير)
للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني
المتوفى سنة ٤٠٣ هـ
قدم له وحققه وعلق عليه
الدكتور عبد الحميد بن علي أبو زنيد
الجزء الأول
مؤسسة الرسالة
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
قال بدر الدين الزركشي في مقدمة البحر المحيط:
"وكتاب التقريب والإرشاد للقاضي أبي بكر،
هو أجل كتاب صنف في هذا العلم مطلقًا".
وقال أيضًا:
(حتى جاء القاضيان: قاضي السنة أبو بكر بن الطيب، وقاضي المعتزلة عبد الجبار، فوسعا العبارات وفكا الإشارات، وبينا الإجمال، ورفعا الإشكال واقتفى الناس بآثارهم، وساروا على لأحب نارهم، فحرروا وقرروا وصوروا، فجزاهم الله خير الجزاء).
1 / 2
التقريب والإرشاد
(الصغير)
١
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
جميع الحقوق محفوظة للناشر
الطبعة الثانية
١٤١٨ هـ / ١٩٩٨ م
طبعة جديدة مُصححة ومُنقحة
حقوق الطبع محفوظة (١٩٩٣ م. لا يُسمح بإعادة نشر هذا الكتاب أو أي جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي نظام ميكانيكي أو إلكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يُسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر.
1 / 4
افتتاحية
الحمد لله الذي تقدست عن الشبيه ذاته، وتنزهت عن سمات الحدوث صفاته، وشهدت بربوبيته وألوهيته مخلوقاته، وأذعنت الجبابرة لعزته وعظيم سلطانه. سبحان من إله اتصف بصفات الكمال ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾، ﴿لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾ يعطى ويمنع، ويخفض ويرفع، ويوصل ويقطع، ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ كما نطق بذلك صريح آياته.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا ضد ولا ظهير، تنزه عن الولد والوزير، الكل خلقه وإليه المصير، وهو الهادي من يشاء إلى سواء السبيل.
وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وحبيبه وخليله، وأمينه على وحيه، والمبلغ عنه أمره ونهيه. صلوات ربي وسلامه عليه - أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وتركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك - وعلى الآل والصحب من الأنصار والمهاجرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، من العلماء العاملين والأئمة المجتهدين، وعباد الله الصالحين، الذين قارعوا أهل الكفر بالسنان، وأهل الزيغ والضلال باللسان، والحجة والبرهان وبعد:
فإن كثيرًا من تراث الأمة الإسلامية الضخم الذي خطته أيدي علمائها الأماجد عبر القرون الغابرة قد عدت عليه العوادي، فذهب أدراج الرياح،
1 / 5
وأصبح خبرًا بعد عين. والذي قدر الله له النجاة من هذا التراث ينبئ عن قساوة الفادحة وعظم المصيبة، من خلال ما ضمه من نقول واقتباسات من الأسفار التي ضاعت في خضم الأهوال. فأصبحنا لا نعرف عنه شيئًا إلا هذه النقول التي في بطون الكتب التي سلعت من الهلاك.
ولعل أعظم من مُني به التراث الإسلامي الزاخر هو دخول جحافل التتار بغداد، التي زحفت من المشرق لتهلك الحرث والنسل، وتعيث في الأرض الفساد، فدخلت دار السلام في منتصف القرن السابع وأشعلت النيران في دار الحكمة وغيرها، فالتهمت النيران أكداس الكتب، وتصاعدت ألسنة النيران لتبلغ عنان السماء فتظلم بغداد بدخان الكتب الكثيف، الذي أشبه بثوب الحداد على المصاب الأليم الفقيد الغالي. وألقى الغزاة أكداسًا أخرى من الكتب في دجلة لتصبح جسورًا يعبرون عليها. فانقلب ماء دجلة العذب الرقراق إلى لون القطران من سواد مداد الكتب. وقد أجمع المؤرخون على أنه لم يمر على الأمة الإسلامية يوم فيه من الأهوال ما كان في يوم دخول التتار بغداد.
قال ابن الأثير في الكامل: "فلو قال قائل إن العالم منذ أن خلق الله أدم إلى الآن لم يبتلوا بمثلها لكان صدقًا، وما فعله بختنصر باليهود من القتل وتخريب بيت المقدس فبينه وبين فعل التتار بون شاسع، ولعل الخلق لا يرون مثل هذه الحادثة إلى أن ينقرض العالم وتفنى الدنيا إلا يأجوج ومأجوج. وفعل الدجال عند ظهوره يهون عن فعلهم. فقد قتلوا النساء والرجال والأطفال، وشقوا بطون الحوامل، وقتلوا الأجنة، وقد استطار شررهم وعم ضررهم".
1 / 6
هذا وصف بليغ، وتصوير صادق لعظم المأساة، ولعل فيما حكاه ابن الأثير سلوة لنا عما يقع في هذه الأيام على كثير من المسلمين في شمال العالم وجنوبه من التنكيل بالرجال والنساء والأطفال بأسلوب وحشي يغذيه الحقد على الإسلام وأهله، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وإنا لله وإنا إليه راجعون.
كان من بين الذين ضمتهم بغداد ردهة من الزمن، وكان له حضور متميز في مجالس المناظرات، وتأثير في حركتها العلمية المناظر البارع والأصولي الفذ، جامع شتات علم أصول الفقه، فقد كان له الفضل في جمع شوارد علم أصول الفقه ونوادره، واستوفى مباحثه ومسائله، كما سيظهر لك ذلك جليًا عند ذكر مؤلفاته. فقد كان كل من أتى بعده من الأصوليين عالة عليه، وخاصة من صنف على طريقة المتكلمين، فأكثروا من النقل عنه ومحاكاته في مصنفاته.
منذ أن بدأت النهضة العلمية الحديثة المباركة اشرأبت الأعناق لاستشراف مصنفاته وتاقت النفوس وتمنت العيون أن تكتحل برؤيتها، وخاصة كتابه الموسوم ب"التقريب والارشاد" لما ورد من الثناء عليه من مؤرخي العلوم ومصنفي طبقات الفقهاء وغيرهم.
ومنذ فترة طويلة وأنا أقلب فهارس المخطوطات بحثًا عن الجيد النافع، حتى استوقفني عنوان "التقريب والإرشاد" في فهرس المكتبة الآصفية بالهند ولكنني وجدته منسوبًا للحافظ محمد بن المظفر بن هبة الله بن سرايا المقدسي. فأوهم ذلك أنه كتاب آخر شابه عنوانه عنوان كتاب القاضي الباقلاني، فأسقط في يدي، وتركت الأمر. وبعد أن مضى أكثر من اثني عشر عامًا رجعت الخواطر مرة أخرى فقررت إحضار صورة المخطوط لأقابله بكتاب "تلخيص التقريب" لإمام الحرمين الجويني الذي أقتني مصورًا له. وأعرضه على النقول الكثيرة التي ينسبها إليه الزركشي في بحره
1 / 7
المحيط فإذا بالحلم يتحقق، واعثر على البغية وأجد الأمر كما توقعت. وزادت فرحتي بأن وجدت المخطوطة خالية من كل نقص واضحة الخط جدًا، فحمدت الله سبحانه وبدأت أقلب العديد من فهارس المخطوطات لعلي أجد لها شقيقة تؤازرها فلم أعثر حتى الآن على شيء. فباشرت بالنسخ، وشرعت في التحقيق لأخرج هذا السفر النفيس من ضياع دام عشرة قرون، ولا أريد أن أشرح لمطالعه ما لقيته من العناء، وما صرفته من الوقت في تحقيق نصه وإخراجه في هذا الثوب، الذي أرجو أن يرضى عنه طلاب العلم ورواد المعرفة، فمن غير شك سيدرك الناظر فيه ذلك.
وكل ما أريد أن أقوله: إن تحقيق المخطوطات من نسخة وحيدة أمره عظيم وخطره جسيم، ففي تعدد النسخ خير معين على سد الخلل وتدارك النقص والتصحيف، الذي يقع على يد النساخ، فكون النسخة وحيدة يتطلب من المحقق مراجعة المسألة في العديد من الكتب التي استقى منها المصنف مادته العلمية - إن وجدت - ومراجعتها في الكتب التي اعتمدت عليه، وأكثرت من النقل عنه. ولهذا لم يفارقني كتاب إمام الحرمين "تلخيص التقريب" بل صاحبني بابًا بابًا وفصلًا فصلًا. وكذلك كتاب إمام الحرمين "البرهان" وكتاب الغزالي "المستصفى" و"البحر المحيط" للزركشى.
وقد قدمت لهذا الكتاب بدراسة للمؤلف والكتاب لإنارة الطريق وإلقاء الضوء على الكثير مما يتعلق بالكتاب ومؤلفه لمن يريد المطالعة فيه. ومع هذا فإن الكمال لله وحده والنقص من سمات البشر، وما أبريء نفسي عن الخطأ والزلل، وحسبي أنني بذلت قصارى جهدي. وإني لأرجو أن يكون إخواني العلماء وأبنائي طلبة العلم قد وجدوا في صدور هذا الكتاب بغيتهم، سائلًا المولى ﷿ أن يلهمنا السداد والإخلاص في القول والعمل، وأن يكون عملنا في هذا الكتاب لنا ذخرًا، وأن ينفع به كل من طالعه، إنه مولي النعم ودافع النقم، فله الحمد أولًا وأخرًا.
المحقق
1 / 8
القسم الدراسي
وفيه مقدمة وبابان
المقدمة: وهي في الحالة السياسية والاجتماعية والثقافية في عصر الباقلانى.
الباب الأول: في ترجمة الباقلانى.
الباب الثاني: في دراسة كتابة التقريب.
1 / 9
.....................
1 / 10
المقدمة
وفيها مبحثان
المبحث الأول
الحالة السياسية في القرن الرابع الهجري
عاش أبو بكر الباقلاني في المشرق الإسلامي متنقلًا بين البصرة وبغداد شيراز وغيرها في القرن الرابع الهجري، في وقت انقسمت فيه الدولة الإسلامية إلى دويلات بعد أن ضعفت سلطة الخليفة العباسي، بل تلاشت، ولم يبق له إلا ذكر اسمه في الخطبة ونقش اسمه على العملة.
لقد كان من أقوى الدويلات في المشرق دولة بني بويه، التي تأسست سنة ٣٢٢ هـ على يد أبي شجاع بويه، الذي كان من سكان جبال الدلم جنوب غرب بحر قزوين. وهو من أصل فارسي لا يحسن العربية. دخل في خدمة السامانيين أولًا، ثم انضم إلى خدمة مرادويج مؤسس دولة بنى زيار سنة ٣١٨ هـ. وفي سنة ٣٢٠ هـ عين مردوايج ولد بويه الأكبر "عليا" ومالوا إليه، ثم بدأ في تحقيق أطماعه، فاحتل أصبهان سنة ٣٢١ هـ، ثم كرمان والأهواز والري وهمذان وشيراز سنة ٣٢٢ هـ وما بعدها بمساعدة أخويه حسن وأحمد. ثم أعلن أولاد بويه استقلالهم عن الخليفة العباسي، فاضطر للاعتراف بهم أنهم نوابه.
اتخذ علي بن بويه شيراز مركزًا لدولته إلى أن توفي سنة ٣٣٨ هـ. فتولى الحكم أخوه حسن الذي نقل دولته للري. وبقيت الري مركزًا لدولته إلى أن توفى سنة ٣٦٦ هـ.
1 / 11
أما بغداد فقد دخلت في حكم بني بويه في الحادي عشر من جمادى الأولى سنة ٣٤٤ هـ حيث توجه إليها أحمد الابن الأصغر لبويه فدخلها وخلع الخليفة العباسي "المستكفي" على أبناء بويه الثلاثة ألقابًا فسمى عليًا "عماد الدولة" وحسنا "ركن الدولة"، وأحمد "معز الدولة وأمير الأمراء". وأمر أن تُنقش اسماؤهم على الدنانير والدراهم. ولكن معز الدولة البويهي جازى الخليفة "المستكفي" على هذا جزاء سنمار. فجرده من جميع سلطاته، وصادر أمواله، وأجرى عليه خمسة آلاف درهم يوميًا لنفقاته، ثم أجبره على التنازل عن الخلافة للمطيع لله. فعامله معاملة في غاية الإذلال والإهانة وسمل عينيه، مما يدل على حقد دفين على بني العباس خاصة، وأهل السنة عامة، لأن بني بويه من الشيعة الزيدية على مذهب الفرقة "السليمانية" نسبة لسليمان بن جرير، بل حاول أحمد معز الدولة نقل الملك للعلويين لولا أن نبهه بعض حاشيته لعواقب ذلك.
وفي سنة ٣٥٦ هـ توفى معز الدولة أحمد، فآل الأمر إلى ولده "بختيار" الملقب بعز الدولة. ولم تكن معاملته للخليفة بأحسن من سلفه، بل ضيق على الخليفة العباسي "المطيع لله" حتى اضطره إلى بيع ثيابه، وأجبره على التنازل للطائع سنة ٣٦٣ هـ. ثم حدث للطائع ما حدث لوالده على يد بهاء الدولة البويهي سنة ٣٨٢، وأجبره على التنازل للقادر بالله، الذي بقي على كرسي الخلافة خمسون عامًا.
وفي سنة ٣٦٧ هـ آل أمر بني بويه إلى عضد الدولة بن ركن الدولة فنقل مركز الدولة إلى بغداد وبقيت بغداد مركزًا للدولة إلى سنة ٣٨٩ هـ، حيث نقلها بها الدولة إلى شيراز مرة أخرى.
1 / 12
بعد ذلك دب الخلاف والنزاع بين بني بويه. وأخذت دولتهم في التقلص وشوكتهم في الضعف. واستمروا على ذلك من سيئ إلى أسوأ حتى سقطت دولتهم سنة ٤٤٧ هـ بدخول "طغرل" بيك بغداد.
هذه اللمحة التاريخية عن الحالة السياسية في المشرق الإٍسلامي عامة، وعن دولة بني بويه خاصة تدل على عدم الاستقرار السياسي إلا في بعض فترات الحكم، كالفترة التي تولى فيها الحكم عضد الدولة البويهي، الذي كان للباقلاني صلة به. فقد كان عضد الدولة من أقوى حكام بني بويه شخصية وأبعدهم نظرًا. وقد كان للوزراء في دولة بني بويه شأن عظيم ومنزلة رفيعة. وبيدهم مقاليد تصريف كثير من أمور الدولة.
ولقد كان للباقلاني دور سياسي بارز حيث استقدمه عضد الدولة إلى شيراز من البصرة، وألحقه بمجالس العلماء في قصره. وفي عام ٣٧١ هـ أرسله عضد الدولة على رأس سفارة إلى ملك الروم "باسيلوس الثاني" على أثر طمع بعض قادة الروم في ملك باسيلوس. فالتجأ القائد الطامع في الحكم واسمه "ورد" إلى عضد الدولة طلبًا للنصرة والحماية، فأرسل باسيلوس وأخوه لعضد الدولة يعرضان عليه تسليم القائد مقابل إطلاق سراح جميع أسرى المسلمين في بلاد الروم، وعلى أثر ذلك أرسل عضد الدولة القاضي الباقلاني للتفاوض، وعاد الباقلاني يحمل مشروع معاهدة حول ذلك الأمر. ومن ذلك تظهر مكانة الباقلاني عند عضد الدولة.
ولم يقتصر الباقلاني في تلك السفارة على دوره السياسي، بل قام بمناظرات دينية، تدل على مدى غيرته على دينه وعلو همته وعزة نفسه، سنذكرها في فصل مناظراته إن شاء الله.
1 / 13
وذكر ابن الأثير في الكامل للباقلاني موقفًا سياسيًا آخر. وهو أن "قرواش بن المقلد" أمير بني عقيل، الذي ألت له السيطرة على الموصل والأنبار والمدائن والكوفة في عهد الخليفة العباسي "القادر بالله" خطب للحاكم بأمر الله الفاطمي، فأرس الخليفة لبهاء الدولة البويهي يستحثه على إخماد الفتنة، فكان للباقلاني دور في إرجاع الخطبة للخليفة العباسي.
1 / 14
المبحث الثاني
الحالة الاجتماعية والثقافية في القرن الرابع الهجري
الحالة الاجتماعية:
نظرًا للاضطراب السياسي الموجود في ذلك القرن، وعدم الاستقرار النفسي في داخل دولة بني بويه، الذي كان من مظاهره نقل مركز الحكم في عهد بني بويه عدة مرات بني بغداد وشيراز وغيرهما. ثم تطاول بنو بويه على الخليفة العباسي، ومعاملته معاملة في غاية الإذلال والاحتقار، بدافع بطر القوة أولًا، واعتناق بني بويه للتشيع مذهبًا وميلهم للعلويين ثانيًا وما يحملونه من حقد على أهل السنة عمومًا وبني العباس خصوصًا ثالثًا. كل ذلك حملهم على سلب الخلفاء كل ما كان لهم من حاشية ووزراء ونفوذ. فأصبح الوزراء لبني بويه دون الخليفة.
ومظهر آخر من مظاهر عدم الاستقرار تمثل في كون بني بويه لم يكن لهم خلق المسلم من الوفاء لمن لاذ بهم من الوزراء والقضاة وغيرهم، بل نالهم ما نال الخلفاء من مصادرة الأموال والبطش بهم، نذكر بعض النماذج لا على سبيل الاستقصاء والحصر.
فمعز الدولة البويهي صادر من ابن شيرازاد خمسمائة ألف درهم. وصادر من صاحب شرطته "الإبزاعجي" ثلاثماية ألف درهم. وصادر جميع أموال وزيره "المهلبي" لما توفى سنة ٣٥٢ هـ.
1 / 15
وصادر بها الدولة أموال وزيره - سابور بن أردشير - فبلغت مليوني دينار.
وصادر عضد الدولة البويهي أموال القاضي أبي على الحسن بن علي التنوخي.
وصادر فخر الدولة البويهي جميع أموال وزيره الصاحب بن عباد لما توفي، وصادر أموال قاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد كذلك.
ولم يبطل هذا التقليد من مصادرة الأموال، وعدم الوفاء إلا على يد شرف الدولة البويهي، على ما ذكره ابن الجوزي في المنتظم.
أطلق بنو بويه لوزرائهم اليد في تصريف شئون البلاد والعباد، فاستغلوا مناصبهم، فأثروا ثراء فاحشًا على حساب عامة الناس، الذين كانوا في فقر مدقع، معظمهم لا يحصل على لقمة العيش، فأصبحت الطبقية مسيطرة في أجلى صورها ومظاهرها. وهذا الواقع يؤدي إلى التفكك بين فئات المجتمع، وإلى عدم التآلف. زد على ذلك الاختلاف في المعتقد بين جمهور الناس والطبقة الحاكمة. فغالبية الناس يعتقدون مذهب أهل السنة. وأما بنو بويه ووزراؤهم وقضاتهم يعتقدون مذهب المعتزلة، الذين استغلوا نصرة السلطان لسوم أهل السنة الكثير من الاضطهاد والمضايقة في اعتقاداتهم.
ذكر ابن الأثير في الكامل أن بني بويه كانوا يؤججون نار الفتنة بين أهل السنة والشيعة فيأمرن بلعن معاوية بن أبي سفيان، والتهجم والطعن على الخلفاء الراشدين الثلاثة الأول - فقد أمر الدولة في العاشر من
1 / 16
محرم سنة ٣٥٢ هـ. بإغلاق الحوانيت في بغداد، وإبطال البيع والشراء في الأسواق، وإظهار النياحة، وأن تخرج النساء منشورات الشعور، مسودات الوجوه، يلطمن وجوههن على الحسين بن علي ﵄ وأمر في الثامن عشر من ذي الحجة من نفس العام بإظهار الزينة وإشعال النيران احتفالًا بعيد "غديرخم" مما كان يؤدي إلى قيام اضطرابات مسلحة بين الناس والجند.
الحالة الثقافية:
بالرغم مما كانت عليه الحالة السياسية من عدم الاستقرار، وما كانت عليه الحالة الاجتماعية من التفكك وانتشار الظلم، فإن هذا لم يضعف الحركة العلمية والثقافية والفكرية، بل قد أججها وزادها قوة، وذلك لأسباب كثيرة نذكر منها:
أولًا: إن الصراع العقدي الموجود بين المعتزلة وأهل السنة من جهة، والشيعة وأهل السنة من جهة أخرى أثرى الفكر الإسلامي، لما كان يدور بينهم من مناظرات في ردهات القصور وعند سواري المساجد. وكذلك فقد نشط التأليف من شتى الفرق والمدارس ليبين كل معتقده ومذهبه بيانًا شافيًا، كما يرد على طعون خصومهم بإسهاب، فألفت المطولات، وخاصة في الاعتقاد. ولم يقتصر كل إمام على مصنف أو مصنفين، بل تجد للواحد منهم العديد من المصنفات. وسيظهر لك هذا الأمر جليًا عند ذكر مصنفات القاضي الباقلاني. التي كان معظمها في مباحث العقيدة وإن تعددت مواضيعها، والفرق التي نقدها، وأبطل ما هي عليه بأدلة ساطعة وبراهين
1 / 17
جلية مع بيان مذهبه الذي يدين الله به وينتصر له. كما يظهر تعدد المصنفات واتساع بسط الاستدلال - أيضًا - في مصنفات قرينه ومعاصرة قاضي قضاة المعتزلة عبد الجبار بن أحمد الذي ألف العديد من كتب الاعتقاد. وعلى رأسها موسوعته التي سماها بالمغني. والتي عثر حتى الآن على أكثر من عشرين مجلدًا منها.
ثانيًا: كان كل أمير ووزير يحرص على أن يكون في بلاطه وردهات قصره كبار المفكرين في شتى نواحي المعرفة من الأدباء والشعراء والمتكلمين والفقهاء، يحيطهم برعايته ويغدق عليهم. ويعتبرون عملهم هذا مدعاة للفخر والاعتزاز. ومن هنا ندرك سبب حرص عضد الدولة على استقدام القاضي الباقلاني من البصرة إلى شيراز لكي يمثل أهل السنة في مجالسه العلمية، وإن كان هو معتزليًا رافضيًا. كما أن السبب نفسه هو الذي دفع بالصاحب ابن عبد إلى استقدام عبد الجبار بن أحمد الذي أصبح قاضي قضاة المعتزلة إلى الري.
ثالثًا: شيوع الاضطراب السياسي، وانتشار الظلم في المجتمع قد يكون سببًا في حمل كثير من أهل الفكر وذوي العقول الراجحة أن يفروا من العمل السياسي إلى العمل العلمي، وبذلك يتوفر لهم الوقت الطويل للانقطاع للإنتاج العلمي. وهيبة العلماء وحرمتهم وقعت في نفوس كثير من الأمراء. وكان عدم انغماسهم في العمل السياسي ملاذًا لهم من بطش الأمراء والوزراء.
فليس من الضروري أن يتبع العمل العلمي والثقافي العمل السياسي قوة وضعفًا.
1 / 18
رابعًا: لقد تولى الوزارة لبني بويه طائفة من كبار الأدباء والعلماء والمفكرين، الذين شجعوا العلم واعتنوا به عناية فائقة. واقتنوا عيون كتب الأدب والفكر بشتى فنونه، وأنفقوا الأموال الطائلة على ذلك.
ومن أبرز هؤلاء ابن العميد، الذي قيل فيه "بُدئت الكتابة بعبد الحميد وانتهت بابن العميد". ومنهم الصاحب بن عباد، الذي كان وزيرًا لمؤيد الدولة، ثم لفخر الدولة. وكانت مجالسهما العلمية والأدبية أعظم من أن توصف. وكانت تضم من فحول الشعراء وأساطين الأدب وفحول المتكلمين والفقهاء مالا يحصى كثرة، بالرغم من أنهما فارسيان. ولكنهما كانا في غاية العناية باللسان العربي. بل فاقا كثيرًا من العرب.
وكان من الوزراء الذين اعتنوا بالأدب والعلم، وبذلوا فيه الغالي والنفيس الوزير المهلبي، الذي كان وزيرًا لمعز الدولة، ومنهم - أيضًا - الوزير ابن سعدان، وزير صمصام الدولة، وسابور بن أردشير، وزير بهاء الدولة.
ولم تقتصر العناية بالأدب والعلم والفكر على الوزراء بل كان هذا شأن بني بويه، وعلى الأخص عضد الدولة، الذي كان يؤثر مجالسة الأدباء على منادمة الأمراء على ما ذكره الثعالبي في يتيمة الدهر. كما أنه كان يقول الشعر، ويحكم على معانيه. وقد خصص في داره للحكماء والفلاسفة موضعًا على قرب منه ليشاركهم مباحثاتهم.
لقد كان للعراق وفارس في عهد بني بويه الصدارة في العلم والأدب والفلسفة. كما حوت من جهابذة العلماء في شتى الفنون والعلوم ما لم يجتمع لبلد آخر في القرن الرابع.
1 / 19
وبذلك نكون قد ألقينا الضوء على بيئة القاضي الباقلاني الاجتماعية والثقافية، التي أثر فيها بجهوده ومناظراته ومؤلفاته، كما أثرت فيه فدفعته لخوض معركة مع المعتزلة لا هوادة فيها، أشهر فيها قلمه ولسانه دفاعًا عن معتقده، حتى لقبه معاصروه بسيف السنة.
1 / 20