إنكار ما يعلم [٩و] صحته فيسعى في ابطال الحدود عن المحدودات، وإما ملحد ساع في إثبات أزلية العالم، وكل لا يعبأ به، لأنه دافع مشاهدة، ولله الحمد. وقد بينا أن الحد إنما هو صفات ما متيقنة في أشياء ومتيقن عدمها في اشياء أخر، فتصف كلا بما فيه. فمن انكر فقد انكر الحس والعيان وخرج من حد من نشتغل به.
فالحد هو قولنا في الإنسان: إنه الجسد القابل للون، ذو النفس الناطقة الحية الميتة. فان الحي جنس للنفس، أي نفس كانت؛ وسائر ما ذكرنا فصول لها من سائر النفوس الحيوانية. فهذا هو الحد كما ترى. والرسم مثل قولك (١) في الإنسان: إنه هو الضحاك أو الباكي. فهو كما ترى مميز للأنسان مما سواه، وليس منبئا عن طبيعته التي هي قبول الحياة والموت. والحد مبين ذلك. وحكم الحد أن يكون مساويا للمحدود. ومعنى ذلك أن يقتضى لفظه إذا ذكر، جميع المراد فلا يشذ عنه شيء مما أردت أن تحده، ولا يدخل فيه ما ليس منه. فان زدت في الحد لفظا، فان كان الذي زدت لفظا يقع على المعاني اكثر من معاني المحدود أو مثلها، بقي المحدود بحسبه، كقولنا في حد نفس الإنسان: إنه حي ناطق ميت جوهر حساس ضحاك بكاء مشرق في جسد يقبل اللون منتصب القامة ونحو هذا. فالمحدود حتى الآن صحيح الرتبة لأن كل نفس لكل إنسان فهذه صفاتها. وإن كان الذي زدت لفظا يقتضي معاني أقل من معاني المحدود، كان ذلك نقصانا من المحدود، كقولك في نفس الإنسان: إنها حية ناطقة ميتة حائكة أو تقول: طبيبة أو كاتبة، فان هذا إنما هو حد لبعض نفوس الناس لا لجميعها، إذ ليس كل إنسان كاتبا ولا طبيبا ولا حائكا. وأما إذا أنقضت من الحد الذي لا فضلة فيه، نعني لا زيادة فيه على مقدار الكفاية في الحد، فانه زيادة في المحدود كقولك في الإنسان: إنها حية ناطقة فان الملك والجني يدخلان تحت هذا الحد.
واتفق الأوائل على أن سموا المخبر عنه موضوعا، وعلى أن سموا ذكرك
_________
(١) قولك: قوله.
1 / 19