بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله نستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا -.
أما بعد: فإني لما رأيت كتاب «الهداية شرح البداية» على مذهب الإمام أبي حنيفة -رحمه الله تعالى -، من أجل الكتب المصنفة في مذهبه ومن أغزرها نفعًا، وأكثرها فوائد، وأشهرها بين الأصحاب، يعتمدون عليه في الحكم والإفتاء.
قد شرحه جماعة منهم، وكتبوا عليه الحواشي، وألقوا منها الدروس، وحفظه بعضهم مع طوله على الحفظ؛ وما ذاك إلا لحسن لفظه وصحة
1 / 237
نقله للمذهب.
ورأيت فيه حال مطالعتي له مواضع مُشْكِلة، أحببت أن أنبه عليها، وأفردها بالكتابة في هذا الكتاب؛ لاحتمال أن يظهر في وقت آخر أجوبة عنها فأعلقها إن شاء الله تعالى.
وهي ثلاثة أنواع: نوع على لفظ المصنف، ونوع على تعليله، ونوع على نفس الحكم، مع إقراري بتعظيم شأن مصنفه -رحمه الله تعالى -، وشأن من تقدم من علمائنا -رحمهم الله تعالى -.
﴿ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلًا للذين آمنوا ربنا إنك رءُوف رحيم﴾.
وسميته «كتاب التنبيه على مشكلات الهداية»، ليطابق الاسم المعنى المطلوب. والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
* * *
1 / 238
كتاب الطهارة
قوله: (ولنا أن هذه الغاية لإسقاط ما وراءها؛ إذ لولاها لاستوعبت الوظيفة الكل، وفي باب الصوم لمد الحكم إليها، إذ الاسم ينطلق على الإمساك ساعة).
رد المصنف بهذا التعليل على زفر -رحمه الله تعالى -. وفيه نظر؛ لأنه لو حلف لا يكلم زيدًا إلى رمضان لا يدخل رمضان في اليمين، مع أنه لولا
1 / 239
الغاية لكانت اليمين متأبدة، ولم يجعل ذكر الغاية مسقطًا لما وراءها.
ويحكى عن جواهر زاده أنه قال: لا وجه ليخرج هذا النقض إلا المنع على رواية الحسن عن أبي حنيفة -رحمه الله تعالى -يعني أن رمضان يدخل على هذه الرواية، فيكون كالمرافق سواء. وذلك أنه لما رأى قوة الإيراد احتال لدفعه بحيلة ضعيفة. ولأن اليد المطلقة في الشرع، والعرف، واللغة -
1 / 240
على خلاف في نقل اللغة -إلى الرسغ؛ فكان ذكر المرافق لمد الحكم إليها لا لإسقاط ما وراءها، بدليل قوله تعالى: ﴿والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما﴾، وإنما تقطع يد السارق من الزند. ولأن السنة للمتوضئ أن يغسل يديه قبل إدخالهما الإناء ثلاثًا، وذاك إلى الرسغ، والأمر به من الشارع مطلق.
ولأن الدية الواجبة في اليد تجب بقطعها من الرسغ ولهذا لو قطعت من نصف الساعد أو من المرفق، أو من الإبط؛ ففي الزائد حكومة عدل. وإنما
1 / 241
تجب دية اليد بقطع أصابعها لأنها هي الأصل فيها، لا لأنها هي اليد، كما في حشفة الذكر وحلمة الثدي.
ولأنه قد صح أن النبي ﷺ -مسح يديه في التيمم إلى الرسغ، والأمر به مطلق.
وإنما قال أبو حنيفة ﵀: إن المسح فيه إلى المرفقين لما ذكر له من الدليل في باب التيمم.
وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى.
1 / 242
وفي العرف، إذا قيل: اغسل يديك، أو غسل فلان يديه لا يفهم منه إلا إلى الرسغ.
وفي "المحكم" لابن سيده في اللغة: واليد الكف.
وقال أبو إسحاق: اليد من أطراف الأصابع إلى الكف.
ولأن المغيا هو الغسل لا محله، وهو من أطراف الأصابع إلى المرفق؛/ فمن أين جاء إسقاط ما بين المرفق والإبط؟! وأقوى من هذا الدليل أن الغاية لما كان منها ما لا يدخل كما في نحو: ﴿ثم أتموا الصيام إلى الليل﴾، ومنها ما يدخل كما في: قرأت القرآن من أوله إلى آخره، كان حكمها مجملًا
1 / 243
تبينه القرائن. والحكم هنا قد بينه ﷺ -بفعله، فإنه: "توضأ وأدار الماء على مرفقيه".
وفي حديث آخر: "فغسل وجهه ويديه إلى المرفقين حتى مس أطراف العضدين".
وحكى أبو هريرة وضوء رسول الله ﷺ، فغسل يديه حتى أشرع في العضدين، ورجليه حتى أشرع في الساقين، رواه مسلم بمعناه. ولم يرو عنه خلاف ذلك.
ولأنه هو الذي فهمه الصحابة ﵃، ولم يحك عنهم فيه اختلاف، وإنما حكي الخلاف عمن بعدهم.
1 / 244
ولأن الصلاة وجبت في ذمته، والطهارة شرط سقوطها، ولا تسقط بالشك.
قوله: (والمفروض في مسح الرأس مقدار الناصية، وهو ربع الرأس، لما روى المغيرة بن شعبة ﵁: "أن النبي ﷺ -أتى سباطة قوم فبال وتوضأ، ومسح على ناصيته وخفيه").
قال السروجي ﵀ -في شرحه: عن حذيفة ﵁: "أن النبي ﷺ -أتى سباطة قوم فبال، وتوضأ ومسح على خفيه"، وليس فيه ذكر المسح على الناصية، أخرجه مسلم.
وفي حديث المغيرة بن شعبة، في بعض طرقه، أنه ﵇: "كان في سفر فتوضأ ومسح بناصيته، وعلى العمامة، والخفين". رواه مسلم.
وفي أكثر طرقه: المسح على الخفين دون الناصية، وليس فيه "سباطة
1 / 245
قوم". فهذا الذي ذكره القدوري مركب من حديثين، فقد جعلهما حديثًا واحدًا ونسبه إلى المغيرة. انتهى.
والحديث روي كله عن المغيرة لكن من طريقين، وظاهر كلام المصنف أنه من طريق واحدة. ولم يكمل المصنف أيضًا حديث المغيرة؛ فإنه قال فيه: "وكمل على العمامة"، فلا يدل على الاكتفاء بالناصية. وسيأتي الكلام في
1 / 246
ذلك إن شاء الله تعالى.
قوله: (والكتاب مجمل فالتحق بيانًا له).
دعوى الإجمال مشكلة، ولم يدع الإجمال من الأصحاب إلا من رجح أن المفروض مقدار الناصية، وأما من رجح أن المفروض قدر ثلاثة أصابع، وقالوا: لأنه أكثر ما هو الأصل في آلة المسح، وهو رواية هشام عن أبي حنيفة ﵀، قالوا: وهو ظاهر الرواية.
ومن رجح أنه مقدر بالربع وقالوا: إن الربع يقوم مقام الكل فليس الكتاب عندهم مجملًا، وهم أكثر الأصحاب، أو كثير منهم.
1 / 247
ومن قال بوجوب مسح الرأس كله كما هو المشهور عن مالك، وأحمد -رحمهما الله -، أو مسح أكثره ويعفى عن القليل منه كما روي عنهما أيضًا، قال: قوله: ﴿وامسحوا برءوسكم﴾ نظير قوله في التيمم: ﴿فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه﴾. لفظ المسح في الموضعين، وحرف الباء فيهما، وإذا كانت آية التيمم لا تدل على مسح البعض مع أنه بدل عن الموضوع، وهو مسح بالتراب، فكيف يدل على ذلك آية الوضوء مع كون الوضوء هو الأصل، والمسح فيه بالماء؟.
وما قرر به دعوى الإجمال من أن العلماء اختلفوا في مقدار الممسوح
1 / 248
من الرأس، فاختلافهم فيه يدل على إجماله لا يصح؛ لأن ما قاله الشافعي ﵀ -لم يكن على وجه التقدير؛ بل لأن هذا أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح، كما في تقدير الركوع والسجود عندكم، وإن كان الشافعي وغيره قد قدروهما بقدر تسبيحة ونحو ذلك، ولم تجعلوا الأمر بالركوع والسجود مجملًا.
والعكس أولى؛ لأن محل المسح وهو الرأس له نهاية، ولا كذلك طول الركوع والسجود. وإذا كان الأقل غير مراد يصار إلى تعميم الرأس بالمسح، وإلى تقدير الركوع والسجود لثبوت ذلك عن النبي ﷺ،
1 / 249
وعدم ثبوت الاقتصار على مسح/ الناصية أو أقل منه، أو الأقل في الركوع والسجود. ولو كان ذلك مجزئًا لفعله النبي ﷺ -ولو مرة تبيينًا للجواز.
ولأنه إذا سلم وجوب الاستيعاب في مسح التيمم، أو العفو عن ترك القليل فيه كان في مسح الوضوء أولى.
ولا يقال: التيمم وجب فيه الاستيعاب لأنه بدل عن غسل الوجه واليدين، والاستيعاب فيه واجب؛ لأن البدل إنما يقوم مقام المبدل في حكمه لا في وصفه. ألا ترى أن المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين، ولا يجب فيه الاستيعاب مع وجوبه في الرجلين. وأيضًا فالسنة المستفيضة من عمل
1 / 250
النبي ﷺ -الاستيعاب، وأما حديث المغيرة ففيه: "وكمل على العمامة".
وعند الإمام أحمد وغيره من فقهاء الحديث يجوز المسح على العمامة للأحاديث الصحيحة الثابتة في ذلك؛ فمن توضأ ومسح بناصيته وكمل على العمامة أجزأه بذلك من غير عذر.
وعند مالك لا يجزئه ذلك إلا من عذر. ومن فعل ما جاءت به السنة من المسح بناصيته وعمامته أجزأه مع العذر بلا نزاع، وأجزأه بدون العذر
1 / 251
عند الثلاثة. ولم يصح عنه ﷺ -أنه اقتصر على بعض رأسه فقط.
وأما حديث أنس ﵁ -الذي رواه أبو داود: "رأيت رسول الله ﷺ -يتوضأ وعليه عمامة قطرية، فأدخل يده تحت العمامة فمسح مقدم رأسه، ولم ينقض العمامة"؛ فليس إسناده بالقوي.
1 / 252
ومقصود أنس أنه لم ينقض العمامة حتى يستوعب رأسه بالمس، ولم ينف التكميل على العمامة، وفي حديث المغيرة أثبت التكميل على العمامة، وهو أصح من حيث أنس.
قوله: (وهو حجة على الشافعي ﵀ -في التقدير بثلاث شعرات).
إنما يكون حديث المسح على الناصية حجة على الشافعي على الوجه الذي ذكره المصنف إذا سلمت دعوى الإجمال، ولم تثبت، وإلا فله أن يقول: ورد عنه ﷺ -المسح بالناصية، وورد عنه المسح على كل رأسه، فإذا لم يكن مسح كل رأسه حجة عليكم في الاكتفاء بما دونه، فكذلك لا يكون مسح الناصية حجة علي في الاكتفاء بما دونه.
قوله: (وفي بعض الروايات قدره أصحابنا بثلاث أصابع من أصابع اليد؛ لأنها أكثر ما هو الأصل في آلة المسح).
1 / 253
يرد على هذه الرواية أيضًا المسح في التيمم؛ فإن المذكور في مسح الرأس في الوضوء، وفي مسح الوجه واليدين في التيمم لفظ "المسح" وحرف "الباء"، فكيف ساغ التفريق بين الحكمين بما ذكر من غير نص؟.
قوله: (لقوله ﵊: "لا وضوء لمن لم يسم").
قال الأثرم: سمعت أحمد يقول: ليس في هذا حديث يثبت. وقال:
1 / 254
أنا لا آمره بالإعادة، وأرجو أن يجزئه الوضوء؛ لأ [نه] ليس فيه حديث أحكم به. ذكر ذلك عنه أبو الفرج ابن الجوزي -رحمه الله تعالى -.
قوله في السواك: (والأصح أنه مستحب) مشكل!.
بل الأصح أنه سنة مؤكدة؛ لحث النبي ﵇ عليه -، ومواظبته عليه، وترغيبه فيه، وندبه إليه، وتسميته إياه من الفطرة، حتى إنه ﷺ -قال: "أكثرت عليكم في السواك"، أخرجه البخاري. وقال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، رواه الجماعة.
1 / 255
والعجب من المصنف كيف يقول ذلك، وهو يقول قبله: وعند فقده يعالج بالإصبع؛ لأنه ﵊ -فعل ذلك. وهذا يدل على المواظبة من غير ترك؛ لأنه انتقل عند فقده إلى بدل، وهو الإصبع، وذلك يفيد الوجوب؛ فلا أقل من كونه سنة.
مع أنه لم يرد أنه كان ﵇ يعالج بالإصبع عند فقد السواك، وإنما ورد أنه ﵇ -قال: "يجزئ في السواك الأصابع"، رواه البيهقي من طرق، وقال: هو حديث ضعيف.
1 / 256