Tamhid Tarikh Falsafa Islamiyya
تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية
Genres
ثم يقول بعد هذا: «فهذا العلم يبحث عن أحوال الموجود والأمور التي هي له كالأقسام والأنواع، حتى يبلغ إلى تخصيص يحدث معه موضوع العلم الطبيعي؛ فيسلمه إليه، وتخصيص يحدث معه موضوع الرياضي فيسلمه إليه، وكذلك في غير ذلك، وما قبل ذلك التخصيص فكالمبدأ فنبحث عنه ونقرر حاله، فيكون إذن مسائل هذا العلم بعضها في أسباب الموجود المعلول بما هو موجود معلول، وبعضها في عوارض الموجود، وبعضها في مبادئ العلوم الجزئية، فهذا هو العلم المطلوب في هذه الصناعة، وهو الفلسفة الأولى لأنه العلم بأول الأمور في الوجود، وهو العلة الأولى وأول الأمور في العموم، وهو الوجود والوحدة، وهو أيضا الحكمة التي هي أفضل علم بأفضل معلوم، فإنها أفضل علم؛ أي اليقين بأفضل معلوم؛ أي بالله - تعالى - وبالأسباب من بعده، وهو أيضا معرفة الأسباب القصوى للكل، وهو أيضا المعرفة بالله، وله حد العلم الإلهي الذي هو أنه علم بالأمور المفارقة للمادة في الحد والوجود.»
30 (5) ما بعد ابن سينا والحديث عن الصلة بين الفلسفة والكلام والتصوف
أما ما يتعلق بتعريف الحكمة وتقسيمها بعد ابن سينا؛ فيوشك ألا يخرج عن الاستمداد من تلك التعاريف والتقاسيم التي أوردناها، ونكتفي في بيان جملة ذلك بما ذكره مصطفى بن عبد الله كاتب جلبي المشهور باسم حاجي خليفة، المتوفى سنة 1067ه/1658م في كتاب «كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون»: «علم الحكمة: وهو علم يبحث فيه عن حقائق الأشياء على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية، وموضوعه: الأشياء الموجودة في الأعيان والأذهان. وعرفه بعض المحققين بأحوال أعيان الموجودات على ما هي عليه في نفس الأمر بقدر الطاقة البشرية، فيكون موضوعه الأعيان الموجودة، وغايته: هي التشريف الكمالات في العاجل، والفوز بالسعادة الأخروية في الآجل.
وتلك الأعيان إما الأفعال والأعمال التي وجودها بقدرتنا واختيارنا أولا، فالعلم بأحوال الأول من حيث يؤدي إلى إصلاح المعاش والمعاد يسمى حكمة عملية، والعلم بأحوال الثاني يسمى حكمة نظرية؛ لأن المقصود منها حصل بالنظر، وكل منهما ثلاثة أقسام؛ أما العملية؛ فلأنها إما علم بمصالح شخص بانفراده ليتحلى بالفضائل، ويتخلى عن الرذائل، ويسمى تهذيب الأخلاق، وقد ذكر في علم الأخلاق، وإما علم بمصالح جماعة متشاركة في المنزل كالوالد والمولود، والمالك والمملوك، ويسمى تدبير المنزل، وقد سبق في التاء، وإما علم بمصالح جماعة متشاركة في المدينة ويسمى السياسة المدنية، وسيأتي في السين، وأما النظرية فلأنها إما علم بأحوال ما لا يفتقر في الوجود الخارجي، والتعقل إلى المادة كالإله، وهو علم الإلهي وقد سبق في الألف، وإما علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي دون التعقل كالكرة، وهو علم الأوسط ويسمى بالرياضي والتعليمي وسيأتي في الراء، وإما علم بأحوال ما يفتقر إليها في الوجود الخارجي والتعقل كالإنسان، وهو العلم الأدنى، ويسمى بالطبيعي وسيأتي في الطاء.
وجعل بعضهم ما لا يفتقر إلى المادة أصلا قسمين: ما لا يقارنها مطلقا كالإله والعقول، وما يقارنها، لكن على وجه الافتقار كالوحدة والكثرة وسائر الأمور العامة، فيسمى العلم بأحوال الأول علما إلهيا. والعلم بأحوال الثاني علما كليا وفلسفة أولى.
31 «واختلفوا في أن المنطق من الحكمة أم لا، فمن فسرها بما يخرج النفس إلى كمالها الممكن في جانبي العلم والعمل جعله منها، بل جعل العمل أيضا منها، وكذا من ترك الأعيان من تعريفها جعله من أقسام الحكمة النظرية؛ إذ لا يبحث فيه إلا عن المعقولات الثانية التي ليس وجودها بقدرتنا واختيارنا، وأما من فسرها بأحوال الأعيان الموجودة، وهو المشهور بينها، فلم يعده منها؛ لأن موضوعه ليس من أعيان الموجودات، والأمور العامة ليست بموضوعات بل محمولات تثبت للأعيان فتدخل في التعريف.
ومن الناس من جعل الحكمة اسما لاستكمال النفس الإنسانية في قوتها النظرية؛ أي خروجها من القوة إلى الفعل في الإدراكات التصورية والتصديقية بحسب الطاقة البشرية، ومنهم من جعلها اسما لاستكمال القوة النظرية بالإدراكات المذكورة، واستكمال القوة العملية باكتساب الملكة التامة على الأقوال
32
الفاضلة المتوسطة بين طرفي الإفراط والتفريط.
وكلام الشيخ في «عيون الحكمة» يشعر بالقول الأول، وهو جعل الحكمة اسما للكمالات المعتبرة في القوة النظرية فقط؛ وذلك لأنه فسر الحكمة باستكمال النفس الإنسانية بالتصورات والتصديقات، سواء كانت في الأشياء النظرية أو في الأشياء العملية، فهي مفسرة عنده باكتساب هذه الإدراكات، وأما اكتساب الملكة التامة على الأفعال الفاضلة فما جعلها جزءا منها، بل جعلها غاية للحكمة العملية.» (6) حكمة الإشراق «وأما حكمة الإشراق فهي من العلوم الفلسفية بمنزلة التصوف من العلوم الإسلامية، كما أن الحكمة الطبيعية والإلهية منها بمنزلة الكلام منها، وبيان ذلك أن السعادة العظمى والمرتبة العليا للنفس الناطقة هي معرفة الصانع بما له من صفات الكمال والتنزه عن النقصان، وبما صدر عنه من الآثار والأفعال في النشأة الأولى والآخرة، وبالجملة معرفة المبدأ والمعاد، والطريق إلى هذه المعرفة من وجهين؛ أحدهما: طريقة أهل النظر والاستدلال. وثانيهما: طريقة أهل الرياضة والمجاهدات.
Unknown page