Tamalluk Faransawiyya Aqtar Misriyya
ذكر تملك جمهور الفرنساوية الأقطار المصرية والبلاد الشامية
Genres
وكان الفرنساوية مؤانستهم غريبة وطول أناتهم عجيبة، وكانوا أحسن سلوكا من ساير الجنوس، واشهروا بالأمن وطولة البال، وطيبة النفوس، ونشروا العدل وحسن الأحكام، وقد احتووا الشرايع الحقيقية على التمام، ومع كل ذلك قلوب الإسلام غير آمنة، والأحقاد في ضمايرهم كامنة، ويشتهون لهم المهالك والوقوع في أضيق المسالك؛ فهذا ما ألجأ أمير الجيوش إلى المخافة، فبدأ الاحتيال بحسن الرقة واللطافة؛ لجذب القلوب وتحصيل المطلوب، وكان هذا الأمير المشتهر أسد من الأسود ونادرا في الوجود، رهط من الأرهاط العظام حكيما عليما بمكايد الأيام.
ذكر ما صنعه أمير الجيوش في جريان النيل
إنه من بعد دخول الفرنساوية إلى القاهرة بمدة قليلة جبر النيل السعيد، فأحضر أمير الجيوش علماء الديوان وسألهم عن العوايد في جريان النيل والقوانين، وحررها عنده، ثم أمر بإخراج العساكر من المدينة إلى خارج البلد، وأن يصطفوا صفوفا في مراتبها، وأحضر لديه أعيان المدينة وعلماءها والحكام والتجار من النصارى والإسلام، وركب من منزله الكاين على البركة اليزبكية، وركبوا جميعهم معه، وخرجت أهالي مدينة القاهرة من ساير الملل، وكان موكبا عظيما ومحفلا جسيما يذكر جيلا فجيلا، وفرق مالا غزيرا، وضربت في ذلك النهار مدافع كثيرة من ساير الأماكن ومن القلعة الكبيرة، وصنعت الفرنساوية في تلك الليلة حراقات عظيمة، لم تكن صارت في المدن القديمة، وكان أمان شاملا لكل الناس وتخرج النساء والرجال من دون باس، وصنع أمير الجيوش وليمة عظيمة لساير الأعيان والعلماء وأهل الديوان والجنرالية والفيسالية وحكام الخطوط المصرية، وقد أعجبت أهل القاهرة تلك الأحوال الباهرة والأمور الصايرة.
ذكر ما صنعه أمير الجيوش في مولد النبي الواقع في 12 ربيع أول سنة 1213
إن أمير الجيوش بعد تملكه القاهرة في اثني عشر ربيع أول كان مولد النبي محمد، فصنع في ذلك الأوان مولدا عظيما على بركة اليزبكية، كعادة أهل القاهرة، وكانت ليلة عظيمة؛ لأنه صف جميع العساكر الموجودة داخل القاهرة صفوفا بطبولهم والآلات الموسيقية، وأمر بحراقات عظيمة، وضرب مدافع كثيرة، وكان احتفالا عظيما ومولدا فخيما، وحضر في الوليمة بمنزل الشيخ خليل البكري؛ لأن هذا المولد مختص بالسادات البكرية، وذلك مع كامل الجنرالات والفيسالية والعلماء والأعيان وأصحاب الديوان، ثم أولى الشيخ خليل البكري منصب النقابة عوضا عن السيد عمر مكرم نقيب الأشراف؛ لأنه قد كان هرب مع الغز إلى الشام، وقد كان الشيخ خليل البكري محبا لجمهور الفرنساوية؛ فلأجل ذلك بغضته الإسلام المصرية.
ذكر العيد الذي صنعه أمير الجيوش للمشيخة في ربيع ثاني سنة 1213
إنه حين دخل شهر ربيع الثاني صنعت الفرنساوية عيدا عظيما للمشيخة في البركة اليزبكية، وذلك أنهم اصطنعوا عامودا طويلا مرصعا وغرسوه في البركة اليزبكية، وصوروا عليه صورة سلطانهم وصورة زوجته اللذين قتلوهما في مدينة باريز، ثم جعلوا من العامود إلى البر أخشاب مثلثة الألوان، وصوروا عليها صورة الموقعات التي حدثت في بر إمبابة وفتوح القاهرة، وصورة الأشخاص المحاربين من الفريقين، وصورة أيوب بيك المقتول في هذه المعركة، ومن مات من الغز وانهزامهم، وكل ما تم في هذه المعركة، وكانوا يقولون: إن هذه شجرة الحرية، وأما أهالي مصر كانوا يقولون: إن هذه إشارة الخازوق الذي أدخلوه فينا واستيلايهم على مملكتنا، واستمر هذا العامود نحو عشرة أشهر، وحينما رفعوه استبشرت أهل مصر وابتهجت بالفرح، وكانت الفرنساوية تصنع هذا العيد أينما وجدوا بفرح عظيم في كل سنة.
ذكر أمير الحج لما خرج في الحج قبل دخول الفرنساوية
إنه في سنة 1212 خرج الحج الشريف من مدينة مصر وكان صالح بيك أمير الحج، وبعد رجوعه من الزيارة الشريفة في الطريق وصلت له الأخبار عن دخول الفرنساوية إلى الديار المصرية وخروج الغز، فبكى صالح بيك على خراب أوطانه وتفرق خلانه وذهاب ماله وسبي أعياله، وغاص في بحر الأفكار وخاف من رجوعه إلى تلك الديار، وصار حايرا من تلك المصايب وفرقة الحبايب، وقطع رجاه والأمل ولم يعرف كيف العمل؟ وأخذ بالمشورة مع أصحابه وخلانه، فثبت رأيه أن يتوجه إلى القدس الشريف صحبته المحمل المنيف، ولم يزل سايرا بعزم ضعيف إلى أن وصل إلى القدس الشريف، فحينما شاهدوه أهالي المدينة بدوا يشتمون ويقولون: لعنكم الله يا ملاعين ويا أظلم الظالمين، سلمتم مدينة الإسلام إلى الفرنساوية اللئام، وهربتم من وجه الكفار، وابتديتم تخربوا هذه الديار، فلما سمع صالح بك تلك الشتايم المغمة والألفاظ المسمة، فاتقدت بقلبه النيران، وغاص في البحران، ونزل في منزله وهو مثل النشوان، ومرض جملة أيام من قهره ثم توارى في قبره، وهكذا جرى إلى إبراهيم بيك ولمن معه لما حضروا إلى أراضي الشام، فكانوا يسمعون من الناس غليظ الكلام، وقد ذاقوا المشقة والأتعاب وقضوا الإهانة والعذاب في البراري والقفار من الذل والأضرار، وكانوا أهالي الشام يعيرونهم في الكلام، ويلومونهم وهم لا يستحقون الملام، وما كانوا يدرون ما قاست الغز في الحرب والصدام من الكفرة اللئام، وكانوا يظنون أن الغز هربت من تلك البلدان من دون حرب ولا طعان، ولم يدروا ما جرى عليهم من أوليك الشجعان، فهذا ما كان من الغز بأرض الشام.
وأما ما كان من أمير الجيوش؛ فإن بعد قيام الفرنساوية بمدة طويلة في مصر علموا أن عداوتهم في سراير الإسلام مستكنة؛ فلذلك لم تكن قلوبهم مطمئنة، وكانوا يخشون تسليم كتاباتهم للسعاة من أهل تلك البلاد، فأمر أمير الجيوش بإبطال السعاة من مصر إلى البنادر، وكانوا يرسلون المكاتيب في المراكب، وكانوا يضعون فيها عدة من الصلدات؛ لأن المراكب كانت لأهل تلك البلاد والنوتية منهم، ومن كون أن أهل تلك البلاد عازمين على ضرر الفرنساوية ومهمين على تلك النية، فكانوا يضيعون كثيرا من الصلدات مع الذين يسافرون إلى البنادر، فالتزم أمير جيوش أن يبطل ذلك، ورجع السعاة من أهل البلاد كالمعتاد.
Unknown page