تجريد التوحيد المفيد
تأليف: تقي الدين أحمد بن علي المقريزي المتوفى سنة ٨٥٤ هجرية
مقدمة المؤلف
الحمد لله ربّ العالمين، والعاقبة للمتقين، وصلّى الله على نبيّنا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فهذا كتاب جمّ الفوائد، بديع الفرائد، ينتفع به من أراد الله والدّار الآخرة، سمّيته: "تجريد التّوحيد المفيد".
والله أسأل العون على العمل به بمنّه.
تجريد التوحيد المفيد ... اعلم أن الله سبحانه هو ربّ كل شيءِ ومالكه وإلهه: فالرّب:
تجريد التوحيد المفيد ... اعلم أن الله سبحانه هو ربّ كل شيءِ ومالكه وإلهه: فالرّب:
1 / 4
مصدر ربَّ يَرُبُّ ربًّا فهو رابٌّ، فمعنى قوله تعالى: ﴿رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: رابُّ العالمين، فإن الربّ ﷾ هو الخالق الموجد لعباده، القائم بتربيتهم وإصلاحهم، المتكفّل بصلاحهم من خلقٍ ورزقٍ وعافيةٍ وإصلاح دين ودنيا.
والإلهيّة: كون العباد يتّخذونه سبحانه محبوبًا مألوها، ويفردونه بالحب والخوف والرجاء والإخبات، والتّوبة والنّذر والطّاعة، والطّلب والتّوكل ونحو هذه الأشياء.
فإن التوحيد
1 / 5
حقيقته: أن ترى الأمور كلها من الله - تعالى - رؤية تقطع الالتفات إلى الأسباب والوسائط، فلا ترى الخير والشر إلاّ منه تعالى، وهذا المقام يثمر التّوكل، وترك شكاية الخلق، وترك لومهم، والرضا عن الله - تعالى -، والتسليم لحكمه.
وإذا عرفت ذلك فاعلم أن الربوبية منه تعالى لعباده، والتألّه من عباده له سبحانه، كما أن الرحمة هي الوصلة بينهم وبينه ﷿.
واعلم أن أنفس الأعمال وأجلّها قدرًا: توحيد الله - تعالى -، غير أن التّوحيد له قشرتان:
الأولى: أن تقول بلسانك: لا إله إلاّ الله، ويسمّى هذا
1 / 6
القول توحيدًا، وهو مناقض للتثليث الذي تعتقده النصارى، وهذا التّوحيد يصدر أيضا من المنافق الذي يخالف سرّه جهره.
والقشرة الثانية: أن لا يكون في القلب مخالفة ولا إنكار لمفهوم هذا القول، بل يشتمل القلب على اعتقاد ذلك والتصديق به، وهذا هو توحيد عامة النّاس.
ولُبَاب التّوحيد: أن يرى الأمور كلها لله - تعالى -، ثم يقطع الالتفات إلى الوسائط، وأن يعبده سبحانه عبادة يفرده بها، ولا يعبد غيره.
ويخرج عن هذا التّوحيد: أتباع الهوى، فكلّ من اتّبع هواه فقد اتّخذ هواه معبوده، قال الله - تعالى -: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ .
وإذا تأملت عرفت أن عابد الصنم لم يعبده إنما عبد هواه، وهو ميل نفسه إلى دين آبائه، فيتبع ذلك الميل، وميل النفس إلى المألوفات أحد المعاني التي يعبر عنها بالهوى.
ويخرج عن هذا التوحيد: السخط على الخلق، والالتفات إليهم، فإن من يرى الكل من الله كيف يسخط على غيره أو يأمل سواه؟.
وهذا التوحيد مقام الصديقين.
ولا ريب أن توحيد الربوبية لم ينكره المشركون، بل أقرّوا بأنه سبحانه وحده خالقهم، وخالق السموات والأرض، والقائم بمصالح العالم كله، وإنما أنكروا توحيد الإلهيّة والمحبّة، كما قد حكى الله - تعالى - عنهم في قوله: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾، فلما سووا غيره به في هذا التّوحيد كانوا مشركين،
1 / 7
كما قال تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ .
وقد علّم الله ﷾ عباده كيفية مباينة الشّرك في توحيد الإلهيّة، وأنه تعالى حقيق بإفراده وليًّا وحكمًا وربًّا، فقال تعالى: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا﴾ وقال: ﴿أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا﴾ وقال: ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا﴾، فلا وليّ ولا حكم ولا ربّ إلاّ الله، الذي من عدل به غيره فقد أشرك في ألوهيّته ولو وحّد ربوبيّته، فتوحيد الربوبيّة هو الذي اجتمعت فيه الخلائق مؤمنها وكافرها، وتوحيد الإلهيّة مفرق الطرق بين المؤمنين والمشركين، ولهذا كانت كلمة الإسلام: لا إله إلاّ الله، ولو قال: لا ربّ إلاّ الله أجزاه عند المحققين، فتوحيد الألوهيّة هو المطلوب من العباد، ولهذا كان أصل "الله" الإله، كما هو قول سيبويه، وهو الصحيح، وهو قول جمهور أصحابه إلاّ من شذّ منهم.
وبهذا الاعتبار الذي قررنا به الإله وأنه المحبوب، لاجتماع صفات الكمال فيه، كان الله: هو الاسم الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى والصفات العليا، وهو الذي ينكره المشركون، ويحتج الربّ ﷾ عليهم بتوحيدهم ربوبيّته على توحيد ألوهيّته، كما قال الله - تعالى -: ﴿قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
1 / 8
وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾، وكلما ذكر تعالى من آياته جملة من الجمل قال عقبها: ﴿أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾؟، فأبان ﷾ بذلك أن المشركين إنما كانوا يتوقفون في إثبات توحيد الإلهيّة لا الربوبيّة، على أن منهم من أشرك في الربوبيّة كما يأتي بعد ذلك إن شاء الله - تعالى -.
وبالجملة فهو تعالى يحتج على منكري الإلهيّة بإثباتهم الربوبيّة.
والملك: هو الآمر الناهي الذي لا يخلق خلقًا بمقتضى ربوبيّته ويتركهم سدى معطلين لا يؤمرون ولا ينهون، ولا يثابون ولا يعاقبون، فإن الملك هو الآمر الناهي، المعطي المانع، الضار النافع، المثيب المعاقب، ولذلك جاءت الاستعاذة في سورة الناس وسورة الفلق بالأسماء الحسنى الثلاثة: الربّ والملك والإله، فإنه لما قال: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ﴾ كان فيه إثبات أنه خالقهم وفاطرهم، فبقي أن يقال: لَمّا خلقهم هل كلّفهم وأمرهم ونهاهم؟، قيل: نعم، فجاء: ﴿مَلِكِ النَّاسِ﴾، فأثبت الخلق والأمر ﴿أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ﴾، فلما قيل ذلك، قيل: فإذا كان ربا موجدًا، وملكا مكلفا، فهل يحب ويرغب إليه، ويكون التوجه إليه غاية الخلق والأمر، قيل: ﴿إِلَهِ النَّاسِ﴾ أي: مألوههم ومحبوبهم، الذي لا يتوجّه العبد المخلوق المكلّف العابد إلا له، فجاءت الإلهيّة خاتمة وغاية، وما قبلها كالتوطئة لها.
وهاتان السورتان أعظم عوذة في القرآن، وجاءت الاستعاذة بهما
1 / 9
وقت الحاجة إلى ذلك، وهو حين سحر النبي ﷺ، وخيّل إليه أنه يفعل الشيء ﷺ وما فعله، وأقام على ذلك أربعين يوما، كما في الصحيح،
1 / 10
وكانت عقد السّحر إحدى عشرة عقدة، فأنزل الله المعوّذتين إحدى عشرة آية، فانحلّت بكلّ آيةٍ عقدةٍ. وتعلقت الاستعاذة في أوائل القرآن
1 / 12
باسمه الإله، وهو المعبود وحده، لاجتماع صفات الكمال فيه. ومناجاة العبد لهذا الإله الكامل، ذي الأسماء الحسنى والصفات العليا، المرغوب إليه؛ في أن يعيذ عبده الذي يناجيه بكلامه من الشيطان الحائل بينه وبين مناجاة ربّه. ثم استحب التعليق باسم الإله في جميع المواطن الذي يقال فيها: " أعوذ بالله من الشيطان الرّجيم "، لأن اسم الله - تعالى - هو الغاية للأسماء، ولهذا كان كل اسم بعده لا يتعرف إلاّ به، فتقول: الله هو السّلام، المؤمن، المهيمن، فالجلالة تعرّف غيرها، وغيرها لا يعرفها.
والذين أشركوا به تعالى في الربوبيّة منهم من أثبت معه خالقًا آخر، وإن لم يقولوا: إنه إله مكافئ له، وهم المشركون ومن ضاهاهم من القدريّة.
وربوبيّته سبحانه للعالم الربوبيّة الكاملة المطلقة الشاملة تبطل أقوالهم، لأنها تقتضي ربوبيّته لجميع ما فيه من الذوات والصفات والحركات والأفعال.
وحقيقة قول القدرية المجوسية: أنه تعالى ليس ربا لأفعال الحيوان ولا تتناولها ربوبيّته، إذ كيف يتناول ما لا يدخل تحت قدرته ومشيئته وخلقه.
1 / 13
وشرك الأمم كله نوعان: شرك في الإلهيّة، وشرك في الربوبيّة
فالشرك في الإلهيّة والعبادة: هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عبّاد الأصنام، وعبّاد الملائكة، وعبّاد الجّن، وعبّاد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات، الذين قالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾، ويشفعوا لنا عنده، وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قرب وكرامة، كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه وخاصته.
والكتب الإلهيّة كلها من أولها إلى آخرها تبطل هذا المذهب وتردّه، وتقبّح أهله، وتنص على أنهم أعداء الله - تعالى -، وجميع الرسل - صلوات الله عليهم - متفقون على ذلك، من أولهم إلى آخرهم، وما أهلك الله - تعالى - " من أهلك " من الأمم إلاّ بسبب هذا الشرك، ومن أجله. وأصله: الشرك في محبّة الله، قال تعالى: ﴿يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾، فأخبر ﷾ أنه من أحبّ مع الله شيئًا غيره كما يحبّه فقد اتّخذ ندًّا من دونه. وهذا على أصح
1 / 14
القولين في الآية: أنهم يحبونهم كما يحبون الله، وهذا هو العدل المذكور في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾، والمعنى على أصح القولين: أنهم يعدلون به غيره في العبادة، فيسوون بينه وبين غيره في الحبّ والعبادة. وكذلك قول المشركين في النار لأصنامهم: ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾، ومعلوم قطعًا أن هذه التسوية لم تكن بينهم وبين الله في كونه ربّهم وخالقهم، فإنهم كانوا كما أخبر الله عنهم مقرّين بأن الله - تعالى - وحده هو ربّهم وخالقهم، وأن الأرض ومن فيها لله وحده، وأنه ربّ السّموات السّبع وربّ العرش العظيم، وأنه ﷾ هو الذي بيده ملكوت كل شيءٍ، وهو يجير ولا يجار عليه، وإنما كانت هذه التسوية بينهم وبين الله - تعالى - في المحبّة والعبادة، فمن أحبّ غير الله - تعالى - وخافه ورجاه، وذلّ له كما يحبّ الله - تعالى - ويخافه ويرجوه؛ فهذا هو الشرك الذي لا يغفره الله، فكيف بمن كان غير الله آثر عنده وأحبّ إليه، وأخوف عنده، وهو في مرضاته أشد سعيًا منه في مرضاة الله؟. فإذا كان المسوّي بين الله وبين غيره في ذلك مشركًا، فما الظن بهذا؟، فعياذًا بالله من أن ينسلخ القلب من التّوحيد والإسلام كانسلاخ الحيّة من قشرها، وهو يظن أنه مسلم موحّد، فهذا أحد أنواع الشرك.
والأدلة الدّالة على أنه تعالى يجب أن يكون
1 / 15
وحده هو المألوه يبطل هذا الشرك، ويدحض حجج أهله، وهي أكثر من أن يحيط بها إلاّ الله، بل كل ما خلقه الله - تعالى - فهو آية شاهدة بتوحيده، وكذلك كل ما أمر به، فخلقه وأمره، وما فطر عليه عباده وركبه فيهم من القوى؛ شاهد بأنه الله الذي لا إله إلاّ هو، وأن كل معبود سواه باطل، وأنه هو الحق المبين، تقدس وتعالى.
وواعجبا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
ولله في كل تحريكةٍ ... وتسكينةٍ أبدًا شاهد
وفي كل شيءٍ له آيةٌ ... تدل على أنه واحد
والنوع الثاني من الشرك: الشرك به تعالى في الربوبيّة، كشرك من جعل معه خالقا آخر، كالمجوس وغيرهم، الذين يقولون: بأن للعالم ربّين، أحدهما خالق الخير، يقولون له بلسان الفارسيّة " يزدان "، والآخر: خالق الشر، ويقولون له بلسانهم: " أهرمن ". وكالفلاسفة ومن تبعهم الذين يقولون: بأنه لم يصدر عنه إلاّ واحد بسيط، وإن مصدر المخلوقات كلها عن العقول والنفوس، وإن مصدر هذا العالم عن العقل الفعّال هو ربّ كل ما تحته ومدبّره. وهذا شرّ من شرك عبّاد الأصنام والمجوس والنّصارى، وهو أخبث شرك في العالم، إذ يتضمن من
1 / 16
التعطيل وجحد الإلهيّة والربوبيّة واستناد الخلق إلى غيره ﷾ ما لم يتضمنه شرك أمة من الأمم. وشرك القدريّة مختصر من هذا، وباب يدخل منه إليه، ولهذا شبّههم الصّحابة ﵃ بالمجوس، كما ثبت عن ابن عمر وابن عبّاس ﵃، وقد روى أهل السنن فيهم ذلك مرفوعًا: أنهم مجوس هذه الأمة.
وكثيرًا ما يجتمع
1 / 17
الشركان في العبد وينفرد أحدهما عن الآخر، والقرآن الكريم بل الكتب المنزلة من عند الله - تعالى - كلها مصرّحةً بالرد على أهل هذا الإشراك، كقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، فإنه ينفي شرك المحبّة والإلهيّة، وقوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ فإنه ينفي شرك الخلق والربوبيّة، فتضمّنت هذه الآية تجريد التّوحيد لربّ العالمين في العبادة، وأنه لا يجوز إشراك غيره معه، لا في الأفعال ولا في الألفاظ ولا في الإرادات، فالشرك به في الأفعال، كالسجود لغيره ﷾، والطواف بغير بيته المحرّم، وحلق الرأس عبوديّةً وخضوعًا لغيره، وتقبيل الأحجار غير الحجر الأسود الذي هو يمينه في الأرض، وتقبيل القبور واستلامها والسجود لها. وقد لعن النبي ﷺ من اتّخذ
1 / 18
قبور الأنبياء والصالحين مساجد، فكيف من اتّخذ القبور أوثانًا تعبد من دون الله؟ ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، وفي الصحيح عنه ﵌ أنه قال: "لعن الله اليهود والنصارى، اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذّر ما صنعوا. وفيه عنه - أيضا -: "إن من شرار النّاس من تدركهم السّاعة وهم أحياء، والذين يتّخذون القبور مساجد"، وفيه - أيضا - عنه ﵌: "إن من كان قبلكم كانوا يتّخذون القبور مساجد، ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد، فإنّي أنهاكم عن ذلك"، وفي مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبّان عنه ﵌: "لعن الله زوّارات القبور، والمتّخذين عليها المساجد والسرج"، وقال: "اشتدّ غضب الله على قوم اتّخذوا قبور أنبيائهم مساجد"، وقال: "إن من كان قبلكم كانوا إذا مات فيهم الرّجل الصّالح بنوا على قبره مسجدًا، وصوّروا فيه تلك الصّور، أولئك شرار الخلق عند الله". والنّاس في هذا
1 / 19
الباب - أعني: زيارة القبور - على ثلاثة أقسام:
قوم يزورون الموتى فيدعون لهم. وهذه هي الزّيارة الشرعيّة.
وقوم يزورونهم يدعون بهم، فهؤلاء هم المشركون في الألوهيّة والمحبّة.
وقوم يزورونهم فيدعونهم أنفسهم، وقد قال النبي ﵌: "اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد"، وهؤلاء هم المشركون في الربوبيّة.
وقد حمى النبيّ ﷺ جانب التّوحيد أعظم حماية، تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، حتى نهى عن الصّلاة في هذين الوقتين لكونه ذريعةً إلى التّشبيه بعبّاد الشّمس الذين يسجدون لها في هاتين الحالتين، وسد الذّريعة بأن منع من الصّلاة بعد العصر والصّبح لاتصال هذين الوقتين بالوقتين اللذين
1 / 20
يسجد المشركون فيهما للشّمس.
وأمّا السّجود لغير الله فقد قال ﵊: "لا ينبغي لأحد أن يسجد لأحد إلاّ لله".
و"لا ينبغي" في كلام الله ورسوله ﷺ إنما يستعمل للذي هو في غاية الامتناع، كقوله تعالى: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ﴾، وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾ .
ومن الشرك بالله - تعالى - المباين لقوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ الشرك به في اللفظ كالحلف بغيره، كما رواه الإمام أحمد وأبو داود عنه ﷺ أنه قال: "من حلف بغير الله فقد أشرك" صحّحه الحاكم وابن حبّان.
قال ابن حبّان: أخبرنا الحسن وسفيان، ثنا عبد الله بن عمر الجعفي، ثنا عبد الرّحمن بن سليمان، عن الحسن بن عبد الله النخعي، عن سعيد بن عبيدة قال: كنت عند ابن عمر ﵄، فحلف رجل بالكعبة، فقال
1 / 21
ابن عمر ﵄: " ويحك، لا تفعل، فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول: "من حلف بغير الله فقد أشرك" ".
ومن الإشراك قول القائل لأحد من النّاس: ما شاء الله وشئت، كما ثبت عن النبيّ ﷺ أنه قال له رجل: ما شاء الله وشئت. فقال: "أجعلتني لله ندًا؟، قل ما شاء الله وحده". هذا مع أن الله - تعالى - قد أثبت للعبد مشيئة، كقوله تعالى: ﴿لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ﴾، فكيف بمن يقول: أنا متوكّل على الله وعليك، وأنا في حسب الله وحسبك، وما لي إلاّ الله وأنت، وهذا من الله ومنك، وهذا من بركات الله وبركاتك، والله لي في السماء وأنت لي في الأرض؟؟، وزن بين هذه الألفاظ الصادرة من غالب النّاس اليوم وبين ما نهى عنه من: ما شاء الله وشئت، ثم انظر أيّها أفحش؟؛ يتبيّن لك أن قائلها أولى بالبعد من ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، وبالجواب من النبي ﷺ لقائل تلك الكلمة، وأنه إذا كان قد جعل رسول الله ﷺ ندًا فهذا قد جعل من لا يدانيه لله ندًا.
وبالجملة فالعبادة المذكورة في قوله تعالى: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ هي السّجود، والتوكّل، والإنابة، والتّقوى، والخشية، والتّوبة، والنّذور، والحلف، والتّسبيح، والتّكبير، والتّهليل، والتّحميد، والاستغفار، وحلق الرأس خضوعا وتعبّدًا، والدعاء، كل ذلك محض حق الله - تعالى -.
وفي مسند الإمام أحمد:
1 / 22
أن رجلًا أتى به إلى النبي صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم قد أذنب ذنبا، فلما وقف بين يديه قال: اللهم إني أتوب إليك ولا أتوب إلى محمّد، فقال ﷺ: "عرف الحق لأهله ". وأخرجه الحاكم من حديث الحسن عن الأسود بن سريع وقال: "حديث صحيح".
وأما الشرك في الإرادات والنيّات: فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقل من ينجو منه، فمن نوى بعمله غير وجه الله - تعالى - فلم يقُم بحقيقة قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، فإن ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ هي الحنيفيّة ملّة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، فاستمسك بهذا الأصل، ورد ما أخرجه المبتدعة والمشركون إليه تتحقق معنى الكلمة الإلهيّة.
فإن قيل: المشرك إنما قصد تعظيم جناب الله - تعالى -، وأنه لعظمته لا ينبغي الدخول عليه إلاّ بالوسائط والشفعاء، كحال الملوك، فالمشرك لم يقصد الاستهانة بجناب الربوبيّة، وإنما قصد تعظيمه، وقال: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، وإنما أعبد هذه الوسائط لتقربني إليه، وتدخل بي عليه، فهو الغاية، وهذه وسائل، فلم كان هذا القدر موجبا لسخط الله - تعالى - وغضبه، مخلدًا في النار، وموجبا
1 / 23
لسفك دماء أصحابه، واستباحة حريمهم وأموالهم؟، وهل يجوز في العقل أن يشرع الله - تعالى - لعباده التقرّب إليه بالشفعاء والوسائط، فيكون تحريم هذا إنما استفيد بالشرع فقط، أم ذلك قبيح في الشرع والعقل، يمنع أن تأتي به شريعة من الشرائع، وما السر في كونه لا يغفر من بين الذنوب، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾؟؟.
قلنا: الشرك شركان:
شرك يتعلق بذات المعبود وأسمائه وصفاته وأفعاله.
وشرك في عبادته ومعاملته، وإن كان صاحبه يعتقد أنه ﷾ لا شريك له في ذاته ولا في صفاته.
وأما الشرك الثاني وهو الذي فرغنا من الكلام فيه، وأشرنا إليه الآن، وسنشبع الكلام فيه إن شاء الله - تعالى-.
أما الشرك الأول: فهو نوعان:
أحدهما: شرك التعطيل، وهو أقبح أنواع الشرك، كشرك فرعون في قوله: ﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾؟، وقال: ﴿يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ
1 / 24