Tajriba with Scientific Miracles in the Prophetic Sunnah
تجربتي مع الإعجاز العلمي في السنة النبوية
Publisher
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
Genres
المقدمة:
الحمد لله الذي جعلنا من أمة محمد ﷺ التي أضاء القرآن دربها، الحمد لله الذي أنار العقول المسلمة بنور الوحي الإلهي، فلم تتخبط في الظلام، ولم تَضِعْ في متاهات الدنيا، الحمد لله الذي حفظ لنا الإسلام بحفظ كتابه المنزل، وحفظ سنة نبيه محمد ﷺ المرسل. والصلاة والسلام الأتمّان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، وهدى، وسلامًا، وأمنًا للعالمين، الذي علمه من العلوم ما لم يطلع عليه أحد من قبله، فأنار العقول، وأوضح الكثير مما لم يعرفه ويطلع عليه أحد إلا في القرون الحالية، فكان علمه إعجازًا ربانيًا للعالمين.
أما بعد.
فإنني منذ علمت بانعقاد هذه الندوة في المدينة المنورة، وأنا أفكر في البحث الذي أريد أن أتقدم به إليكم فيه، حتى قابلت صاحب الفضيلة " محمد سالم بن شديد العوفي" حفظه الله تعالى في ندوة " القرآن الكريم" التي عقدت في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالشارقة، فطلب مني أن أتقدم بموضوع عن الإعجاز، وذلك بعدما اطلع على كتابي الموسوم بـ " الإعجاز العلمي في السنة النبوية" فكان ذلك إشارة بأن أكتب حول الإعجاز العلمي في السنة النبوية. ولما كان المحور الموجود في أعمال هذه الندوة الوحيد المتعلق بالإعجاز هو" قواعد تناول الإعجاز العلمي والطبي في السنة النبوية، وضوابطه" جعلت هذا البحث بهذا العنوان"تجربتي مع الإعجاز العلمي في السنة النبوية"، وأقصد تجربتي مع هذا الكتاب، وما فيه من الإعجاز، ولهذا سأتناول موضوعات الكتاب بعد أن أضع الضوابط، لأطبق القواعد على ما عملته، والله ولي التوفيق.
1 / 1
خطة البحث:
سأسير في هذا البحث وفق الخطة التالية:
١- معنى الإعجاز–لغة واصطلاحًا- وتحرير التعريف المختار.
٢- معجزة رسول الله ﷺ.
٣- سر الإعجاز في القرآن العظيم.
٤- وجوه الإعجاز كما تؤخذ من كتاب الله تعالى.
٥- وجوه الإعجاز في السنة النبوية.
٦- ضوابط القول بالإعجاز.
٧- عملي في الكتاب.
والله أسأل أن أكون قد وفقت، وأصبت السداد في ذلك، فهو وليي عليه توكلت، وإليه أنبت.
1 / 2
تجربتي مع الإعجاز العلمي في السنة النبوية
إعداد الدكتور/ صالح أحمد رضا
بسم الله الرحمن الرحيم
الإعجاز لغة واصطلاحًا
العجز– في اللسان العربي-: الضعف، وأصله التأخر عن الشيء، والقصور عن فعله، وهو ضد القدرة.
وأعجزت فلانًا، وعجزته، وعاجزته: جعلته عاجزًا، وجاء في القرآن الكريم: ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ في آيات كثيرة (١)، والمقصود بها أن المخاطب بها لا يعجز الله تعالى، بل هو سبحانه قادر عليهم، وهم في قبضته، وتحت قهره، ومشيئته.
وجاء على لسان ابن آدم أنه قال: ﴿أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ﴾ [المائدة: ٣١] أي ضعفت في عقلي وتفكيري أن أفعل هذا الفعل، ولم أهتد إليه لضعفي وعجزي، وظاهر أن العجز هنا في هذه الآية هو ضعف في التفكير، وعدم التوصل بفكره إلى حفر حفرة يواري فيها جثمان أخيه المقتول، فإنه بعد أن رأى فعل الغراب واراه فقد كان عاجزًا في فكره قادرًا بعمله، فالعجز يطلق على الأمور المادية والمعنوية. ومصدر أعجز: إعجاز،
_________
(١) الأنعام: ١٣٤- ويونس: ٥٣ – وهود: ٣٣ – والعنكبوت: ٢٢- والشورى: ٣١-
وجاء ﴿لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ [هود: ٢٠] و﴿فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [النحل: ٤٦] و﴿لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ﴾ [النور:٥٧] و﴿وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ [الزمر: ٥١]
وجاء: ﴿غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ﴾ [التوبة: ٢و٣]
وجاء: ﴿وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ﴾ [الاحقاف: ٣٢]
وجاء: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ﴾ [فاطر: ٤٤]
1 / 3
ومنه اشتقت "المعجزة" وهي اسم فاعل ألحقت به التاء للمبالغة (١) .
وأما في الاصطلاح: فيدور تعريف من عرفها من علمائنا السابقين على المعنى التالي: "أمر خارق للعادة، مقرون، مع عدم المعارضة".
بين مطول في التعريف ومختصر له.
وجاء في شرح العقيدة الطحاوية–نقلًا عن ابن تيمية دون ذكره: "المعجزة في اللغة تعم كل خارق للعادة، وفي عرف أئمة أهل العلم المتقدمين كالإمام أحمد بن حنبل، وغيره، ويسمونها"الآيات" (٢) .
هذا، ولم تكن كلمة إعجاز ولا معجزة شائعة في الاستعمال، وإنما جاء في القرآن الكريم إطلاق اسم"الآية" و" البينة"و"البينات"، وجاء وصف معجزات الأنبياء–﵈ بأنها برهان (٣) .
وقد بدأ استعمالها- أي المعجزة- في أواخر القرن الثاني، وأوائل القرن الثالث في كتابات العلماء الذين ألفوا في بيان دلائل الإعجاز في القرآن
_________
(١) انظر: الصحاح للجوهري٣/٨٨٤/ معجم مقاييس اللغة لابن فارس ٤/٢٣٢/ مفردات غريب القرآن للأصفهاني (عجز)، لسان العرب لابن منظور، تاج العروس شرح القاموس للزبيدي.
(٢) شرح العقيدة الطحاوية ٢/ ٧٤٦ ومجموع الفتاوي ١١/٣١١-٣٣٥.
(٣) جاء لفظ (آية) بمعنى العلامة البينة على صدق الرسل دافعة إلى الإيمان بالله تعالى أكثر من ثمانين مرة في القرآن.
وجاء لفظ (آيات) بهذا المعنى أكثر من ذلك.
كما جاء لفظ (بينة) بهذا المعنى اثنتي عشرة مرة.
وجاء لفظ (بينات) بالمعنى المذكور أربعين مرة.
وأما لفظ (برهان) في المعنى المذكور فورد في آيتين الأولى ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [النساء: ١٧٤] .
وبالتثنية في قوله تعالى ﴿فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَأِهِ﴾ [القصص: ٣٢] .
1 / 4
الكريم، فاستعملوا كلمة "الإعجاز والمعجزة".
هذا بالنسبة لما في القرآن الكريم أما خوارق العادة التي جاءت في السنة النبوية، فقد أطلق عليها علماء السنة "علامات النبوة" كما جاء في أبواب صحيح البخاري، وكذا " دلائل النبوة " ألف بهذا الاسم كتبًا أئمة مثل: أبي نعيم، والبيهقي، والماوردي، والفريابي"
ولكن العلماء لم يفرقوا بين الدلائل والمعجزات، لأن الأصل في المعجزة أن تكون أمام من ينكر النبوة، وأما الدلائل فهي أعم من ذلك فقد تكون أمام المؤمنين تقوي إيمانهم، وأمام غيرهم تدلهم على أن من ظهرت على يده هو مؤيد من قبل الله تعالى.
وقد قام كثيرون ممن تحدث عن المعجزة بتعريفها تعريفًا جديدًا ليدخل فيها ما عُدّ حديثًا من أوجه الإعجاز، وقد اخترت تعريفًا أرجو أن يكون موفقًا، ويكون جامعًا مانعًا، وهو: "المعجزة أمر يجريه الله تعالى على يد نبيه، أو علم يبديه في قوله، لا يقدر أحد من الخلق على الإتيان بمثله في زمانه، يكون دليلًا على نبوته لخروجه عن طاقة الخلق".
فيكون التعريف جامعًا لجميع الوجوه التي تعد من الإعجاز حسب ما أرى، وإني أرى أن ما عُدّ من دلائل النبوة، وعلاماتها هو من الإعجاز بلا شك ولا ريب؛ لأن خرق العادة فيها كان لإثبات نبوة محمد ﷺ أجراه الله ﷿ ليؤكد للمؤمنين إيمانهم، ويزيدهم رسوخًا في هذا الإيمان، والتسليم لرسول الله المصطفى ﷺ ما قاله، وشرعه، وأمر به، وذلك لأن خرق العادة له بمنزلة قول الله سبحانه"صدق عبدي بما يقول"، والفاعل فيها هو الله تعالى وحده لا شريك له إذ ليست من طبيعة فعل البشر.
1 / 5
وأما قولي"في زمانه" فذلك لتدخل الأمور العلمية التي تحدث عنها القرآن العظيم في ثنايا آياته، وتحدث عنها رسول الله ﷺ في أحاديثه المتنوعة، حيث كانت غير مدركة في زمانه، وأصبحت اليوم يستطيع تبينها، ومعرفة كنهها الكثير، وذلك لأن كثيرًا من الأمور التي تحدث عنها الوحي أصبحت تفهم شيئًا فشيئًا كلما حدثت اكتشافات جديدة أوضحت أمورًا في هذا الكون الفسيح، تكشف ما احتواه الوحي من السبق في الإخبار عن حقائق علمية كانت في أذهان المؤمنين أمرًا عاديًا، بينما هي في نظر علماء الهيئة، وعلماء الكون حقيقة لم يتوصل إليها الإنسان إلا في عصر العلم الذي نعيش، ولذلك نرى أن الله تعالى قال في كتابه العظيم بصيغة المستقبل: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: ٥٣] . فاكتشاف الحقائق العلمية في الكون، وفي النفس الإنسانية دليل واضح بأن ما أنزل على محمد النبي الأمي ﷺ حق لا مرية فيه لمن ينظر بعين باصرة، وعقل متفتح.
1 / 6
معجزة رسول الله محمد ﷺ
لكل نبي من أنبياء الله الكرام معجزة يعرف بها، يظهرها الله تعالى على يديه تكون دافعًا لقومه على الإيمان به وتصديقه بأنه نبي من عند الله تعالى، لأن كل دعوى لا بد أن يكون عليها دليل، وجرت سنة الله تعالى في هذه المعجزات أن تكون وفق ما مهر فيه قوم كل نبي، مع التفوق الكبير الذي تتصف به المعجزة في ذلك المجال ذاته ليظهر صدق النبي بصورة واضحة للعيان لا ريب فيها، وليعظم أثر تلك المعجزة في النفوس. فنوح–﵇ أوتي من الجدل الذي اضطر معه قومه أن يقولوا له عند فقدانهم للحجة عليه: ﴿قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [هود: ٣٢] .
وقوم فرعون عندما كانوا يعتمدون على السحرة في كثير من شؤونهم، وكان للسحرة مكانتهم في المجتمع، حيث كان الساحر يخيل لأعين الناس بفعل غير واقع، وكأنه واقع، جاءت معجزة موسى-﵇-على وفق ذلك، فلما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم خيل للناس من سحرهم أنها تسعى، فلما ألقى موسى-﵇ عصاه انقلبت ثعبانًا حقيقيًا ابتلع حبال السحرة وعصيَّهم، علم السحرة– وهم أدرى الناس بنوع أفعال السحرة- أن هذا الأمر الذي جاء به موسى- ﵇-ليس من جنس أفعالهم، فكانوا لذلك أول من أذعن لهذه المعجزة.
وهكذا كانت معجزة عيسى-﵇ في إحياء الموتى، وإبراء الأكمه، والأبرص من جنس ما برع اليهود فيه من علم الطب.
1 / 7
وهكذا كل نبي من أنبياء الله تعالى كانت معجزته من النوع الذي برع فيه قومه، ولما كان العرب ليس لهم إلا اللسان، والمقدرة الكاملة على البيان، والرفعة المشهودة في جودة التعبير، كانت المعجزة التي جاءت متحدية لهم من جنس ما برعوا به، ولما كانت الرسالة المحمدية خاتم الرسالات، وكانت ستبقى إلى آخر الدنيا تشهد تقدم الإنسان في العقل والتفكير والعلم، حتى يملك ناصيته، كان لابد أن تكون هذه المعجزة مستمرة مع الدعوة في كل عصر، تمد الدعاة بأنواع من المعجزات توافق كل عصر يظهرونها للناس حتى يؤمنوا بصدق نبوة محمد ﷺ.
ولقد بين الله تعالى في كتابه العزيز أن ما امتاز به رسول الله محمد ﷺ على غيره من البشر الذين يعيشون فوق هذه الأرض إنما هو الوحي الذي يصله برب السموات والأرضين، قال تعالى ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ﴾ [الشورى: ٥٢-٥٣] .
وقال-جل ذكره-: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠] فذكر الله تعالى أن محمدًا ﷺ لا يفترق عن البشر إلا بالوحي الذي يصله برب السماء، هذا الوحي الذي يأتيه من إله الكون الذي بيده ملكوت كل شيء، فهو سبحانه الذي يُعلِّمه من علمه، ويُلْقي في قلبه هذه العلوم التي تفيض على لسانه حقائق لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها في زمن خيَّم عليه الظلام والجهل،
1 / 8
اللهم إلا إذا كان يوحى إليه، وقد أعلمنا الله تعالى أن محمدًا ﷺ هو خاتم رسل الله تعالى، وأن رسالته هي خاتم الرسالات، وأنه أرسل للناس كافة بينما كان من قبله من الرسل يرسل إلى أمته، وقومه، وكذا جاءت أحاديث تبين ذلك، ولن أعرض لذلك خوف الإطالة.
ولعل ذلك- أقصد عالمية الرسالة وختم النبوة- كان لما علم الله تعالى من أن البشرية ستصل في عهد هذه الأمة إلى نهاية النضج العقلي، والتقدم العلمي، وعند إدراكها ذلك تدرك تمامًا ما حواه "الوحي" الذي جاء محمدًا ﷺ من علوم دقيقة لم تكن تعرف الإنسانية عنها الكثير، سواء أكان ذلك في كتاب ربنا أم في سنة نبينا.
وقد بيّن الله تعالى لنا أنه عَلَّم هذا الرسول من العلوم ما لم يعلم، قال
-جل وعز-: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا﴾ [النساء: ١١٣] وقد أمر الله تعالى رسوله أن يدعوه بزيادة هذه العلوم، والفهوم التي أعطيها فضلًا من الله ونعمة، وكأنها مقصودة بعينها، قال سبحانه: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤] فهذه العلوم التي جاءت عن رسول الله ﷺ إنما هي من الوحي الرباني الذي أوحاه الله إليه، ومن العلوم التي علَّمها رسول الله ﷺ ولذا قال النبي ﷺ:
"ما من الأنبياء نبي إلا أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيت وحيًا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم
1 / 9
القيامة" (١) .
فبين رسول الله ﷺ أن معجزات الأنبياء–عليهم الصلاة والسلام-كانت من النوع الذي يقر به أهل أزمنتهم معه على صدق من تظهر منه لأنها كانت خارقة للعادة بصورة لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله في زمانهم من الأمور الحسية التي تبهر الأسماع والأبصار، ومن ثَم العقول، فتذعن لصاحبها بالصدق.
وأما محمد ﷺ فكانت معجزته علمية عقلية مصدرها الوحي الرباني الذي يكون لإدراكه، ومعرفة كنهه، وحقيقته فسحة عمر الإنسانية، ومضي الزمان الذي يعيش فيه الإنسان فوق هذه الأرض، فلا تنقضي عجائبه، ففي كل زمان يظهر من هذا الوحي علامة بينة، وبرهان ساطع، وآية واضحة على صدق من جاء بهذا الوحي، وأنه نبي مرسل من عند الله تعالى العليم الخبير.
وكلمة "الوحي" هنا تشمل القرآن الكريم المنزل على محمد ﷺ والسنة المطهرة التي عُلِّمها رسول الله ﷺ لأن كليهما من الوحي الذي جاء به محمد من قبل ربه–ﷻ: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ
_________
(١) رواه البخاري في فضائل القرآن باب كيف نزل الوحي، وأول ما نزل (٤٩٨١) ٨/٦١٩ وطرفه (٧٢٧٤) ورواه مسلم في الإيمان (١٥٢) ١/١٣٤/ وأبو عوانة في المسند١/،١١٠وأحمد في المسند ٢/٣٤١و٤٥١، والبيهقي في دلائل النبوة٧/١٢٩.
1 / 10
رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُون﴾ [يونس: ١٥-١٦] .
وقد بين الله تعالى للمشركين الذين طلبوا من النبي ﷺ الآيات الباهرات، والمعجزات الواضحات أن القرآن كافيهم حيث قال: ﴿وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [العنكبوت: ٥٠-٥١] وسكوت القرآن عن النوع الثاني من الوحي الذي هو السنة النبوية ليس إلا لأنه بشري الأسلوب لا يستطيع أن يُدرِك ما فيه من المعرفة والعلم إلا المؤمن المتعمق، والعالم المدقق، فأشار إليهم بالقرآن الذي هو كلام الله تعالى الذي لا يستطيع العربي إلا أن يذعن لقرعه القلوب، وامتلاكه الأسماع.
وقال سبحانه: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ [إبراهيم: ١] فأنت يا محمد قد أنزل إليك القرآن لتقوم بهداية الناس إلى الله تعالى بالقرآن، وبالسنة الموحاة إليك مما يتأتى إخراجهم مما هم فيه من الظلمات بما تبينه لهم من الحق، وذلك بإذن الله تعالى لك في ذلك.
وانظر في هذا إلى قوله تعالى: ﴿وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ [النجم: ١-٤]، فالله
1 / 11
تعالى يبين لقريش أن محمدًا ﷺ رسوله الأمين، ما أضاع الحق الذي أرسل به، ولا ابتعد عن الطريق الصحيح في دعواه النبوة، ودعوته لكم بتوحيد الله تعالى، وقال عنه"صاحبكم" يعني الذي صحبكم وصحبتموه في طفولته وصباه وشبابه، ورجولته، وعرفكم بكل ما عندكم من العقائد والعبادات والعادات، وعرفتموه بالعقل الصريح، والرأي السديد، والأمانة التامة، والصدق الكامل، ولم يتبع سبل الغواية، والفساد التي تعرفونها تمام المعرفة، وإنما الذي دعاكم به، وخاطبكم به إنما هو وحي من عند الله تعالى يوحيه إليه، فهو لا يتكلم عن هوى نفسه، وأمنياته التي تتصورونها يطلب بذلك مكانة من الدنيا، فيكذب أو يفتري على الله تعالى، بل هو بار راشد صادق لا ينطق إلا عن الوحي الذي يأتيه، سواء أكان هذا الذي يتكلم به من عنده أم كلامًا ينسبه إلى الرب سبحانه.
والدليل على أن المقصود بالوحي هنا الكتاب والسنة أنه ﷺ لما جمع قريشًا ودعاهم إلى التوحيد تحدث إليهم بحديثه، ولم يخاطبهم بآيات من القرآن الكريم.
[انظر الأحاديث الواردة في أول الدعوة (١)] وقال عبد الله بن عمرو- ﵄: " كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله ﷺ أريد حفظه، فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء سمعته من رسول الله؟ ورسول الله ﷺ بشر يتكلم في الغضب والرضا! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول
_________
(١) انظر الإعجاز العلمي في السنة النبوية ١/٢٧-٢٨،والتخريج ١/١٥٢-١٥٧.
1 / 12
الله، فأومأ إلى فيه، وقال: "اكتب، فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق" (١) .
فهذا دليل واضح على أن رسول الله ﷺ ما ينطق عن الهوى، ولا يخرج منه في كلامه إلا الحق، سواء فيما يتكلم به من عند نفسه، أو ما نسبه إلى ربه، فكله وحي من عند الله تعالى عَلَّمه إياه، وملأه في صدره، فهو يصدر عنه.
لذلك نرى في كتاب الله تعالى الآيات الكثيرة التي يأمرنا الله بها أن نطيع هذا الرسول ﷺ واعتبر طاعته من طاعته تعالى، وليس ذلك إلا لأنه يتكلم بالوحي، وينطق به، ويأمر بشريعة الله سبحانه، ويبين سنن الهدى التي أمره الله تعالى أن يبلغها، بل إن العلماء عدوا قوله، وفعله، وسكوته ﷺ سنة متبعة تفيد حكمًا
قال الله تعالى: ﴿مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا﴾ [النساء: ٨٠] .
وقال–جل وعز-: ﴿إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
_________
(١) رواه أبو داود في العلم باب في كتابة العلم (٣٦٤٦) ٣/٣١٨، والدارمي في المقدمة باب فيمن رخص في كتابة العلم (٤٩٠) ١/١٠٣، وأحمد في المسند (٦٥٠٧و٦٧٩٩) ٢/١٦٢و١٩٢و٢٠٧، وابن سعد في الطبقات بسياق آخر وفيه أنه استأذن بالكتابة فأذن له٢/٢٨٥،و٤/١٩٨،و٧/٣٤٣، والخطيب في تقييد العلم١/٧٤-٨٣، وابن عبد البر في جامع بيان العلم١/٧١، والحاكم في المستدرك، وصححه وأقره الذهبي١/١٠٥،والبيهقي في المدخل/٤١٥،وابن أبي شيبة في المصنف (٦٤٧٩) ٩/٤٩، والرامهرمزي في المحدث الفاصل (٣٢١) /٣٦٦.
1 / 13
وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ﴾ [النور: ٥١-٥٢] .
وقال سبحانه: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [النور: ٦٣]، إلى آيات كثيرة.
والقرآن الكريم في أكثر من أربعين آية يأمر بطاعة الله تعالى وطاعة رسوله، وينهى عن معصيته، ومعصية رسوله، ولا ريب أن طاعة الرسول إنما تكون بما جاء في الكتاب أو بما جاء في السنة المطهرة، ولو لم تكن حقًا لما أمر الله تعالى بقبولها، وطاعتها، وأنَّى لرسول الله محمد بن عبد الله أن يتكلم بالحق، ويوافق شرع الله سبحانه، لولا ما أعطاه الله من الوحي، والعلم الذي يقصر عنه كل البشر.
ورسول الله ﷺ المؤيد من الله–جل وعز- في كل أمر يقدم عليه، وفي كل أمر ينطق به قد أوضح أن طاعته من طاعة الله تعالى، وأن سنته من الوحي الذي أنزله الله عليه، وليست من ذاته، فعن أبي رافع ﵁ أن رسول الله ﷺ قال:
"لا ألفين أحدكم متكئًا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري، ما وجدناه في كتاب الله اتبعناه" (١) .
_________
(١) رواه الإمام الشافعي في الرسالة (٢٩٥) وإسناده صحيح رقم (٦٣٣و١١٠٦)،٤٠٢-٤٠٤، والإمام أحمد في المسند ٦/٨، وأبو داود في السنة باب في لزوم السنة (٤٦٠٥) ٤/٢٠٠، والترمذي في العلم باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث رسول الله ﷺ (٢٨٠٢) وقال: حسن صحيح ٤/١٤٥/ وابن ماجه في المقدمةباب تعظيم حديث رسول الله ﷺ (١٣) ١/٦، والحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي١/١٠٨-١٠٩،والبيهقي في دلائل النبوة ٦/٥٤٩، وفي المعرفة (٥٠) ١/١١١، وابن عبد البر في جامع بيان العلم٢/،١٨٩ وابن حبان في الصحيح (١٣) ١/١٤٧،والحميدي في المسند (٥٥١) ١/٢٥٢،والطبراني في الكبير (٩٣٤-٩٣٦) ١/٣١٦و٣١٧و٣٢٧.
1 / 14
وعن المقدام بن معد يكرب ﵁ عن رسول الله ﷺ قال: "ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه وفي رواية"وما يعدله معه "ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال، فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه" زاد في رواية"ألا وإنه ليس كذلك" (١) .
فكل ما حرمه رسول الله ﷺ في سنته إنما هو إخبار عن تحريم الله تعالى لذلك الأمر، أو أمر من الله تعالى بأن هذا الذي حرمه رسول الله ﷺ هو حرام عند الله تعالى، فيجب على المؤمنين أن يأخذوا بما جاءهم في السنة المطهرة، لأنها وحي من عند الله تعالى، وليست من رأي، أو هوى لرسول الله ﷺ، وإن كان هواه ﷺ تبعًا لشريعة الله– ﷿.
_________
(١) رواه أحمد في المسند ٤/١٣٠-١٣١و١٣٢و١٣٣، وأبو داود في السنة باب لزوم السنة (٤٦٠٤) ٥/١٠، والترمذي في العلم باب ما نهي عنه أن يقال عند حديث رسول الله ﷺ (٢٦٦٦) وقال: حسن غريب من هذا الوجه ٤/ ١٤٤، وابن ماجه في المقدمة باب تعظيم حديث رسول الله ﷺ (١٢) ١/٦، والدارمي في المقدمة باب السنة قاضية على كتاب الله (٥٩٢) ١/١١٧، وابن حبان في صحيحه (١٢) ١/١٨٩،والحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي١/١٠٩، والطبراني في المعجم الكبير (٦٦٩و٦٧٠) ٢٠/٢٧٤-٢٧٥و٢٨٣-٢٨٤، والبيهقي في السنن الكبرى٩/٣٣٢/و٧/٧٦، وفي الدلائل٦/٥٤٩، وفي المعرفة (٥٣) ١/١١٢،والدارقطني في السنن (٥٨-٦٠) ١/٢٨٦-٢٨٧، والآجري في الشريعة/٥١، وابن بطة في الإبانة (٦٢) .
1 / 15
سر الإعجاز في القرآن الكريم
ما السر في كون القرآن الكريم معجزًا؟
سؤال تردد كثيرًا عند الذين كتبوا عن الإعجاز في كتاب الله تعالى، والجواب عنه قريب سهل ميسر، وذلك لأنه كلام الله تعالى، قال الله- ﷿: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ﴾ [التوبة: ٦] .
والكلام صفة من صفات الله تعالى نعتقد بها كما جاءت، وقد قال الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [سورة الإخلاص] وقال – جل ثناؤه-: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ [الشورى: ١١] .
فالله أحد في ذاته، أحد في صفاته- ومنها الكلام- أحد في أسمائه، أحد في أفعاله، ليس كمثله شيء في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فليس لله مثيل، ولا شبيه، ولا مكافئ في ذلك كله يستطيع أن يأتي بكلام مثل كلام الله تعالى! فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه، أو قريب يدانيه، وهو مالك الملك، خالق الخلق تعالى وتقدس، وتنزه عن الشبيه، والمثيل؟
فإعجاز القرآن العظيم كان لأنه صفة من صفات الله تعالى، وصفات الله ﷿ - لا يمكن لأحد أن يتصف بمثلها أبدًا، أو يدانيها، بأي صورة من الصور مهما حاول، وقصد إلى ذلك وجهد، حتى لو اجتمعت كل الجن
1 / 16
وكل الإنس متعاونين متكاتفين ليأتوا بمثل هذا القرآن؛ فلن يستطيعوا إلى ذلك سبيلًا: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٨] .
ولهذا الذي ذكرت جاء في آيات التحدي التي تحدى الله تعالى فيها العرب أن يأتوا بمثل هذا القرآن، الاستفتاح في كل آية منها بزعم المشركين أن القرآن من قول محمد بن عبد الله افتراه، وزعم أنه من عند الله تعالى، فقال لهم: إن كان هذا القرآن بشريًا– على زعمكم-قد افتراه، وتقوله محمد ﷺ وهو بشر مثلكم، فأنتم إذا كنتم تستطيعون أن تأتوا بقرآن مفترى مثل ما جاء به محمد بزعمكم فأتوا به، ولكنكم لا تستطيعون أن تأتوا بمثله لأن القرآن كلام الله، وأنتم بشر مخلوقون، وأنَّى لبشر أن يأتي بمثل صفة الله في الكلام؟! هيهات هيهات. قال الله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ، فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ [الطور: ٣٣-٣٤] .
وقال–جل وعلا-: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [هود: ١٣-١٤] وقال سبحانه: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ [يونس: ٣٨] وقال–ﷻ: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ
1 / 17
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: ٢٣-٢٤] .
فالآيات كلها تبدأ بهذا الشرط، فإن كنتم أيها العرب الفصحاء تقولون: إن محمدًا تقوَّل هذا القرآن على الله تعالى، أو افتراه، ونسبه إلى ربه، أو أصابكم شك وريب في جواز ذلك، فأنتم وهو متماثلون في البشرية وفي كونكم عربًا، متقاربون في الإمكانات فافعلوا فعله، وهاتوا قرآنًا مثل ما جاء به هو– على زعمكم- من عند أنفسكم كما فعل هو فجاء بقرآن من عند نفسه كما تدعون.
ولذلك جاء الرد عليهم في سورة هود: ﴿فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [هود: ١٤] وفي سورة يونس الحكم القاطع بذلك: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: ٣٧] .
فلا أحد إلا الله يمكن أن يأتي بمثل هذا القرآن أما البشر فعاجزون لبشريتهم أن يأتوا بمثله، وكفى بها ضعفًا، قال الله تعالى: ﴿الم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾ [السجدة: ١-٣] .
1 / 18
وجوه الإعجاز في القرآن الكريم
مدخل
...
وجوه الإعجاز في القرآن الكريم (١)
هذا من جهة سبب الإعجاز، ومصدره أما بالنسبة لأوجه الإعجاز فإني قد حاولت أن أستخرجها من كتاب الله تعالى مستقرئًا الآيات التي تحدثت عن القرآن الكريم، وقبل المضي في هذا السبيل سأتحدث عن الوجه المعجز في القرآن الكريم، ولعل أقرب التعاريف لذلك هو:
"كل مزية في القرآن خارجة عن طاقة المخلوقين، أو علمهم وقت نزول القرآن".
وبهذا يدخل كل مزية في القرآن لم تأت في غيره سواء كانت في النظم، أو المعاني البيانية، وكذا ما ورد فيه من القضايا العلمية التي لم يكن للإنسان معرفة بها حين نزول القرآن الكريم، وإن عرفها بعد ذلك.
وإني بالرغم من ذكر الوجه المعجز في القرآن فقد اعتمدت على الآيات القرآنية التي تحدثت عن القرآن العظيم وأخذت منها وجوه الإعجاز، فقد وجدت أن كتاب الله قد أشار إلى جميع الوجوه التي ذكرها الأقدمون
_________
(١) ذكر الكثير من الباحثين وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، في كتبهم، ومن ذلك:
"الإعجاز العلمي في القرآن والسنة" عبد الله بن عبد العزيز المصلح-" تأصيل الإعجاز العلمي"للشيخ عبد المجيد الزنداني- و"الإشارات العلمية في القرآن الكريم بين الدراسة والتطبيق " لكارم السيد غنيم - و"إعجاز القرآن" للسيد محمد الحكيم – و"البيان في إعجاز القرآن" لصلاح عبد الفتاح الخالدي- و" الإعجاز العلمي (وجوهه وأسراره) " لعبد الغني محمد سعد بركة – و"مباحث في إعجاز القرآن" لمصطفى مسلم- و"من الإعجاز العلمي في القرآن الكريم"لحسن أبو العينين-و"إعجاز القرآن الكريم" لفضل حسن عباس وسناء فضل عباس- و" الإيجاز في آيات الإعجاز" للشيخ أبي اليسر عابدين ... إلى غير ذلك من الكتب التي ظهرت في عصرنا هذا.
1 / 19
والمحدثون، وبكلمات أدق، وأجمع للمعاني، وبخاصة في أوائل السور، وبعض الحروف المقطعة التي جاءت في أوائل السور وقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الحروف المقطعة إشارة إلى تحدّى العرب بالقرآن، وأنه مؤلف من حروف تتحدثون بمثلها، ورغم ذلك لا تستطيعون أن تأتوا بمثل هذا القرآن نظمًا وبيانًا، وجمعًا لعلوم شتى، وفنون متنوعة.
هذا ولم تتعد وجوه الإعجاز التي استنبطتها أربعة في الإجمال، وهي:
١- كونه عربيًا.
٢- أنه حق.
٣- أنه هدى.
٤- أنه شريف، وشرف حملته (١) .
هذا ما رأيته، وسأبين ذلك بالتفصيل، وأذكر ما يدخل في كل وجه من هذه الوجوه من نواحي الإعجاز التي ذكرها العلماء في ذلك، والله المستعان، وعليه التكلان.
_________
(١) وهذا الذي استخرجته لا شك أنه جهدي، ومن الممكن أن يأتي غيري من الباحثين، فيصل إلى أكثر أو أفضل مما وصلت إليه، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت، وإليه أنيب.
1 / 20