فبدل أن نقول مع كوندياك: إن تطور العلم هو نفسه تطور مصطلحه الرمزي، يقول ديجراندو: إن تطور هذا المصطلح واكتمال دقته يأتي بعد أن يكون العلم قد حقق لنفسه التقدم والدقة، كما تأتي الآثار بعد وقوع التاريخ، وبدل أن نقول مع كوندياك إنه مع دقة الرموز اللغوية ترتفع درجات التفاوت بين العلوم المختلفة، وتصبح كلها قائمة على البرهان؛ إذ لا فرق - على حد قوله - بين «المعادلات الرياضية والقضايا المنطقية وأحكامنا على الأشياء»، فكلها تصنع منهجا واحدا، بدل ذلك ينبهنا «ديجراندو» إلى أن هنالك مصادر أخرى للخطأ والاختلاف غير دقة الرمز، كاختلاف الناس في المزاج وفي الظروف وفي آرائهم المسبقة وفي اهتماماتهم ومصالحهم، فمع هذه الاختلافات كلها لا يجدي أن يتفقوا على دقة في الرمز الذي يستخدمونه ... إلى آخر ما ملأ به «ديجراندو» مجلداته الأربعة من نظرات. •••
بمثل هذا شغل المفكرون في صبيحة الثورة الفرنسية؛ إيمانا منهم - كما أسلفت - بأن الثورة الفكرية مستحيلة بغير معاودة النظر في اللغة المستخدمة، للعلاقة الوثيقة بين الفكر واللغة، فسواء كان الصواب مع «كوندياك» في دمج الفكر واللغة دمجا يجعلهما عملية واحدة، أو كان الصواب مع «ديجراندو» في التفرقة بينهما تفرقة تجعلهما متتابعين، وإن يكن اللاحق منهما ضروريا للسابق، فهنالك بينهما تلك الصلة القوية على كل حال.
والآن فلنصرف الحديث إلى أنفسنا، في نهضتنا هذه الراهنة، التي تريد لها أن تكون قوية من جذورها إلى فروعها.
وأول ما أود أن ألفت إليه النظر، هو أننا حين نربط الفكر باللغة، فلسنا نقصد أن كل نطق بألفاظ من اللغة يكون فكرا؛ إذ من النطق ما هو هراء وتخليط كتخليط المجانين، فلا بد إذن من شروط ينبغي لها أن تتوافر في المنطوق ليكون ذا علاقة بما نسميه فكرا، لقد كان أول ما افتتح به «ابن جني» حديثه في الجزء الأول من كتابه «الخصائص» هو أن يفرق بين «القول» و«الكلام»، بحيث جعل «القول» ما تتحرك به الشفتان، وأما «الكلام» فلا يكون إلا إذا اكتمل اللفظ حتى بات مستقلا بنفسه، مفيدا لمعناه، فلئن كان كل كلام قولا، فليس كل قول كلاما.
تلك ملاحظة أولى، والثانية هي أنني أود أن ألفت النظر إلى تقسيم بالغة الأهمية، يفرقون به بين نوعين من اللفظ الذي يكون فكرا: فنوع منهما يربط - الكلام - بالواقع الخارجي المحسوس، ونوع آخر يربط الكلام بكلام آخر، بحيث يجيء الكلام الأول والكلام الثاني كلاهما - وإن ارتبط أحدهما بالآخر - ولا علاقة بينهما قط بما هو واقع في العالم الخارجي المحسوس، فمثلا إذا قلت: «إن الكويت واقعة على الخليج العربي»، فهذا كلام ذو علاقة بأمر واقع يمكن رؤيته ويمكن رسمه على الورق، وأما إذا قلت - مثلا - «إن ركوب البحر أمتع من ركوب الطائرة، ولما كانت الطائرة أسرع من السفينة، كانت المتعة غير متوقفة على السرعة»، فها هنا كلام ارتبط بكلام آخر ارتباطا أنتج نتيجة، لكن لا «الكلامان» ولا «النتيجة التي لزمت عنهما» تشير إلى أي شيء في دنيا الأشياء الواقعة، وإني لأرجو القارئ أن يدقق النظر في هذه النقطة؛ لأننا سنرتكز عليها - مع نقاط أخرى - في تحديد النقص في طرائق استخدامنا للغة، وهو نقص لا مندوحة لنا عن معالجته إذا أردنا لأنفسنا فكرا ذا أثر. •••
وبعد هاتين الملاحظتين أقول بصفة عامة - وهو قول أتفق فيه مع جاك بيرك في كتابه عن «العرب»: إن اللغة العربية كما نراها في التراث الأدبي، وكما لا تزال تستخدم عند كثيرين ممن يظنون أنهم يكتبون أدبا، توشك ألا تنتمي إلى دنيا الناس، فلا تكاد ترى علاقة بينها وبين مجرى الحياة العملية؛ ولذلك لم يجد المتكلمون بالعربية مفرا لهم من أن يخلقوا - إلى جانب الفصحى - لغات عامية يباشرون بها شئون حياتهم اليومية، وقد تقول: أليست لغة الصحافة - مثلا - من الفصحى، وهي تعالج شئون الحياة العملية من سياسة واقتصاد وأحداث وما إلى ذلك، فأجيب بأن هذه فصحى قد اقتربت من العامية لتنجح، وليست هي من قبيل الفصحى التي تراها في التراث الأدبي.
لم تكن الفصحى في تراثنا الأدبي أداة للاتصال بمشكلات العالم الأرضي، ولا وسيلة للثقافة المتصلة بحياة الناس وأزماتهم، بل كانت مجالا للفن الذي يهوم في السماء أو ما يشبه السماء، كان الكاتب بها يعني بالقول في ذاته كيف يجيء مسبوكا، ثم بالقول الآخر كيف يتولد منه تولدا يراعى فيه الظرف أكثر مما يراعى منطق التسلسل الفكري. ولن أنسى ما حييت قصة صبي من ذوي قرباي، كان تلميذا في مدرسة ابتدائية، طلب أستاذ اللغة العربية منه - ومن زملائه معه - أن يكتبوا موضوعا إنشائيا، خطابا يوجهه الكاتب إلى أبيه بمناسبة بدء العام الدراسي، فكتب الصبي الذي أعنيه خطابا إلى أبيه، مهتديا فيه بالسليقة السليمة الحية، فجعله متصلا بحياته المباشرة، وذكر له بعض الصعاب التي لقيها في حياته المنزلية مع من كان يساكنهم في المدينة والوالد في الريف، فطعامهم ليس على ما يشتهي، ومخادع النوم تقض المضاجع، والبيت ينقصه المواد الغذائية الأساسية؛ ولذلك أخذ يطلب في خطابه أن يرسل إليه أبوه مع فلان الفلاني شيئا من البيض والسمن والرقاق ... فدهش الأستاذ أن يكون هذا «إنشاء» عربيا، وكانت الدرجة عنده «صفرا»، وجاءني الصبي يشكو، ويسأل في حيرة: ماذا - إذن - يكتب في خطاب إلى أبيه؟ فعندئذ تذكرت ما لم أستطع أن أرويه للصبي؛ لأنه كان أصغر من أن يتابعه، تذكرت ما روي لي عن شيخ مرموق من أعلام اللغة كيف علم «الإنشاء» لمن كان مصيرهم أن يكونوا أساتذة للغة في المدارس؛ إذ أخذ يمليهم بادئ ذي بدء قائمة «بما يقال في مدح الشيء»، ثم قائمة «بما يقال في ذم الشيء»، لا يهمه أي شيء هو، وبعد ذلك بدأت كتابة الموضوعات الإنشائية على هذا الأساس، وداخل ذلك الإطار، يطرح على طلابه موضوعا في «إكرام الضيف»، ثم يسأل: أهو مما يمدح أو مما يذم؟ فيقال له: إنه مما يمدح ... إذن فعليكم «بما يقال في مدح الشيء»، ثم يعقب عليه بموضوع في «النفاق»، فهل النفاق مما يمدح أو مما يذم؟ إنه مما يذم، إذن فعليكم «بما يقال في ذم الشيء». •••
تلك هي وقفتنا من «اللغة» حين تكتب من أجل ذاتها، إنها عالم وحدها غير هذا العالم، بل إن الأمر لا يقتصر عليها مكتوبة، وإنما يتعدى ذلك إليها مقروءة، أفتحسب أن العرف قد جرى بيننا على أن نقرأ العربية - حين تكون في مستواها الأدبي التقليدي - كما يقرأ عباد الله ما يقرءون ليفهموا؟ كلا، وإن شئت فاستمع إلى التلاميذ في مدارسهم وهم «يطالعون»، المطالعة شيء من الخطابة، وبذلك يتعاون المكتوب والمقروء على الإيحاء بأننا - إذ ندخل في اللغة - فإنما ندخل عالما مسحورا لا عالما مألوفا، هو هذا العالم الذي يطعم فيه الطاعمون ويشرب الشاربون.
الفجوة فسيحة فسيحة فسيحة بين دنيانا الفكرية كما يصورها لنا الكاتبون وبين خبراتنا الشعورية كما يكابدها المكابدون، ليست تلك هي هذه؛ ولذلك لا يقرأ منا أحد مقالا أو كتابا، إلا ويحس كأنما خرج من نفسه ليتقمص أنفسا أخرى ليست هي أنفسنا، إنما هي أنفس الذين ننقل عنهم إذا نقلنا، أو يحس كأنما خرج من نفسه ليدخل في مجموعة نغمية تقصد أجراسها إلى الآذان ولا تقصد إلى العقول أو القلوب، وليس ببعيد عن ذاكرتنا ما كان يحدث بصغار الأطفال في الكتاتيب، حين يطالبون بحفظ أجزاء من القرآن الكريم، فلا يحفظون إلا نغما صوتيا، لا يدركون من معناه ذرة، وإني لأخجل أن أقول عن نفسي كم عاما مضى من عمري قبل أن أتبين المفردات التي ركبت مها آيات حفظتها صغيرا، كالآية:
لإيلاف قريش * إيلافهم ... ، أو كالآية الكريمة:
Unknown page