هوامش
ثورة إلى الأبد، وتفسير لشذرة جوته المسرحية عن بروميثيوس
من منا لم يسمع أو يقرأ عن الجد الأكبر للثورة والثوار في الحضارة الغربية كما صورته أساطير الإغريق الفياضة بالذكاء والجمال والحكمة؟
ومن منا لم يصل إلى سمعه ويهز قلبه وعقله نبأ ذلك الثأر العنيد الذي تمرد على آلهة الأوليمب، وخدع زيوس نفسه، وسرق سر النار الذي حجبه عن البشر، فجعلهم يخطون الخطوة الأولى على طريق الحضارة، ومكنهم من ممارسة الحرف وسائر الصنائع والفنون، ومن بناء المسكن وإشعال المرقد، ووقاية أنفسهم من كوارث الطبيعة وعدوان الوحوش؟ إنه هو بروميثيوس صديق البشر المتعاطف معهم؛ لأنه (كما يقول المأثور الأسطوري) هو الذي خلقهم من صلصال، وسواهم على صورته، وجعل الإنسان يمشي منتصب القامة وقد رفع رأسه للنجوم، وذلك بعون من الربة أثينا أو مينرفا التي أرشدته إلى نبع الحياة، ودفعته بإذن من زيوس أو جوبيتر كبير الآلهة إلى أن يبث في صورهم وأشكالهم وتماثيلهم أنفاس الحياة؛ ليعيشوا ويعملوا ويحبوا ويمرحوا ويرقصوا ويتعذبوا أيضا، ثم يموتوا في النهاية، وهو المارد العملاق «الطيطان» أو نصف الإله، شيء وسط بين الآلهة والبشر، ورمز أبدي لتوهج شعلة الإبداع، وتفجر ينابيع الخلق عند الشاعر والأديب والفنان العبقري، الذي هو صورة مصغرة من الخالق والمبدع الأعظم.
تفيدنا المراجع الكلاسيكية أن أباه هو «الطيطان» أو المارد العملاق يابتوس، وأن أمه هي كلمينه، وأشقاءه هم إيميثيوس وأطلس ومينويتيوس. وتقول أيضا إنه خدع زيوس كبير الآلهة أكثر من مرة. احتال عليه في إحداها فأعطاه عظام الأضحية وذهبها، واحتفظ للبشر الذين يحبهم بلحمها الطيب، فما كان من زيوس إلا أن استأثر بسر النار الذي سرقه المارد الثائر من سماء الأوليمب، وهبط به إلى أرض البشر، فيما تقول إحدى الروايات المأثورة، داخل برعم نبته يجوف، فأسدى بذلك للبشر أهم وأجل صنيع في تاريخهم كما سبق القول. ويروى أن صناع الفخار في أثينا لم ينسوا له هذا الصنيع، فكانوا يحتفلون بذكراه في أعياد «البرورميثيا»، التي يطوفون فيها بشوارع المدينة في مواكب حاشدة من حملة المشاعل الذين يتغنون باسمه ويرددون سيرته.
كان جزاء أب الثوار أن أمر جوبيتر (أو زيوس) بصلبه على شفا هاوية سخيفة بحبل القوقاز، وأطلق عليه نسرا متوحشا ينهش كبده، وكلما طلع الصباح كساه كبدا جديدا ليطعم به النسر، كما أرسل وفدا من ربات الانتقام يعذبنه تعذيبا، ويفتحن في قلبه جراحا معنوية أشد فتكا بالأبطال من الجراح الجسدية. هل يسقط إمام الثائرين بسبب لعناته وحقده على الإله الأكبر سقطة مأسوية، أم ينتصر بسلاح الخير على الشر بعد أن صفت نفسه بفعل العذاب الذي تحمله؟ وأصاب الحكمة من طول هذا العذاب كما تصور شيلي في قصيدته المسرحية الكبرى، وتعلم الحب والغفران، فانتصرت قوة الخير، وهوى جوبيتر عن عرشه، وظهر هرقل رمز القوة، ففك أغلال رمز الحرية. إن التفسيرات مختلفة باختلاف الأدباء والعصور، وسنكتفي هنا بتفسيره شذرة جوته المسرحية ومصيرها المحزن (راجع لشيلي، بروميثيوس طليقا، ص110-120، ترجمة الدكتور لويس عوض، القاهرة، هيئة الكتاب، 1987م).
أنجز «جوته» هذه الشذرة المسرحية مع غيرها من الشذرات الشعرية والمسرحية المتنوعة، التي لم يقدر له أن يتمها خلال السنوات الأولى من شبابه الباكر، وهي التي قضاها بين لايبزيج وفرانكفورت قبل تلبية دعوة أمير «قيمار» وبداية إقامته فيها؛ أي بين سنتي 1772 و1774م، فهذه الشذرة نفسها التي ستطالعها كتب في صيف سنة 1773م، وتبعها أنشودة عن بروميثيوس صمتها بعض السطور من المسرحية القصيرة، وسبقها بوقت قصير «أغنية محمد» التي دونها في شتاء 1772 / 1773م. كان من المفروض أن تكون مع أنشودة صغيرة يناجي فيها محمد نفسه، وتكاد أن تكون ترجمة حرفية لعدد من الآيات القرآنية الكريمة التي جاءت على لسان إبراهيم - عليه السلام - في سورة الأنعام، أثناء بحثه بين الكواكب عن الإله الواحد الخالق، وإدراكه بعد ذلك أنه لا يرى وليس كمثله شيء، كان من المفروض أن تكون بداية مسرحية عن محمد لم يستطع أن يتمها.
1
هكذا أتم جوته كتابة هذه الشذرات وغيرها تحت إلحاح جارف وكاسح بحتمية التعبير عن سورة رؤاه الجامحة، وطوفان مشاعره الجياشة كأمواج البحر العالية في صورة حية مباشرة، ومفعمة بالحوار والحركة التي يمكن أن يراها ويسمعها المتلقي. كتب يقول بعد ذلك عن تلك الفترة الفياضة بالإنتاج المذهل:
لو لم أكتب في تلك الفترة أعمالا درامية لحكم علي بالضياع. ولا عجب في ذلك؛ لأن تلك الفترة الزمنية كانت جزءا لا يتجزأ من مرحلة العصف والدفع، التي شارك أزماتها وثورتها جيل كامل من أدباء الشباب، بريادة الأديب وفيلسوف التاريخ يوهان جوتلوب هيردر (1744-1803م) الذي وضع شكسبير كالمثل الأعلى نصب عينيه، ولم يمل أو يكل من دعوة هذا الجيل لتمثل أعماله والتعلم منه؛ هذا الجيل الذي تميز بفورة الوجدان، وسورة العواطف والرؤى، واعتزاز المبدع بعبقريته، وإيمانه بعبارة الأديب الإنجليزي «شافتسبري» التي أثرت على الجميع: «إن الشاعر خالق ثان - أي بعد الخالق الأعظم جل علاه - إنه بروميثيوس حقيقي.» وقد سمي هذا العصر في أوائل القرن الثامن عشر بعصر العبقرية، وبأن عبقرية العبقرية أشبه شيء بظواهر الطبيعة أو كوارثها الكبرى، عندما تباغت الأرض والبشر ببراكينها وزلازلها وصواعقها المدمرة، وكذلك ببروقها الساطعة الخاطفة. وغني عن الذكر أن جوته وصديقه شيلر في شبابهما - بالإضافة إلى عدد كبير من الشعراء والكتاب - قد كانا من أهم الرموز على روح هذه الحركة القصيرة العمر، قبل انتقالهما بحكم التطور إلى مرحلة كلاسيكية أكثر اتزانا ونضجا واحتفاء بالشكل الصارم والبناء المحكم.
Unknown page