ليس عندي كذلك ما أضيفه إلى هذا المقال سوى بعض المعلومات التي لا تهم القارئ العادي، وإن كان من الممكن أن تفيد أحد الباحثين أو المؤرخين «لأم المحن» وتوابع زلازلها الجهنمية، التي ما زالت تهز العراق الشقيق، وتغرقه في جحيم دموي، وتمزق الصف العربي، وتكسر أجنحة حلم الوحدة العربية التي لا بديل عنها إن أردنا أن نوجد ونكون: (أ)
كنت في أوائل التسعينيات قد كلفت من قبل رئيسي فؤاد زكريا، الذي هو في الوقت نفسه أستاذي وصديقي العظيم، بتدريس الفلسفة الشرقية بجامعة الكويت. قبلت التكليف راضيا وشاكرا، ورحت أشبع جوعي وظمئي القديمين (طوال أربع أو خمس سنين) للاطلاع على ما أقدر عليه من نصوص الفلسفة الشرقية؛ من الحكماء الدينيين والأخلاقيين في مصر القديمة وفي سومر وبابل وآشور، إلى الزرادشتية والبوذية والطاوية والكونفوشيوسية، وذلك على الرغم من التحفظ الذي أبديته للأستاذ والصديق الكريم، وهو أن دراسة «الحكمة» أو الفلسفة الشرقية دراسة جادة لا تتسنى أبدا بغير العلم بالنصوص الأصلية، وما أقل العارفين بها في بلادنا العربية! (ب)
وشاء حظي - السعيد في هذه المرة! - أن أعثر في مكتبة جامعة الكويت (كنا في أواخر الثمانينيات، وقبل المحنة التي أطبقت كوارثها على الكويت وعلينا جميعا في أول شهر أغسطس سنة 1990م)، أقول شاء حظي أن أعثر على كتاب قيم لعالم الآشوريات الإنجليزي الكبير لامبرت، يضم صورا للألواح الأكدية للنصوص الكاملة لما يسمى بأدب الحكم البابلية (صدر الكتاب تحت عنوان أدب الحكمة البابلية، سنة 1967م، أكسفورد، مطبعة كلاريندوز). شدني الكتاب كما جذبتني الحضارة البابلية بجلالها وسحرها وغموضها أكثر من أربع سنوات، تسنى لي فيها أن أعرف عن السومريين - شعب الثقافة الأولى في وادي الرافدين - ما لم أكن أعرف، وأن أعيش تجربة حية وإن تكن كئيبة وقاسية مع التاريخ البابلي والآشوري السياسي والاجتماعي، بل مع عالمهم الأخروي الذي لم ألمح فيه شعاع أمل واحد، وعكفت على ترجمة أدب الحكمة البابلية بأكمله، وقدمت له بمقدمة طويلة عن الحكمة الشرقية بوجه عام، وجدارتها بأن تكون هي فجر الفلسفة العقلية التي نعيش تراثها العظيم، منذ طاليس وفيثاغورس حتى هيدجر وهابرماس ورورتي وغيرهم، وكان أن أتممت كتابي «حكمة بابل» بعد جهد ثلاثة أعوام متصلة، وسلمته لسلسلة عالم المعرفة، التي ظهر فيها في عدد ديسمبر سنة 1994م تحت عنوان مختلف وهو جذور الاستبداد، قبل رجوعي للقاهرة في إجازة العام الدراسي، ثم صدمتي في أم المحن التي أطلق كارثتها شيطان العراق الأحمق وطاغيته الغبي. وكان من الطبيعي أيضا أن أغرق في دراسة درة الحضارة البابلية، وهي ملحمة جلجاميش، التي توفرت عليها في «الإجازة الاضطرارية» التي سبق أن أشرت إليها، واستوحيتها في نفس الوقت مسرحية ملحمية ظهرت في سلسلة كتاب الهلال سنة 1992م. ولما رجعت إلى مقر عملي بعد التحرير بدا لي من الواجب أو من الخير أن ألحق المسرحية بترجمة جديدة للملحمة الشهيرة (إذ لم ترضني الترجمات العربية السابقة كل الرضا)، وتفضل قسم النشر بجامعة الكويت بنشر هذه الترجمة عن الألمانية بعد أن تكرم صديق العمر العزيز والمتخصص في الساميات، وهو الدكتور محمد عوني عبد الرءوف، بمراجعتها على الأكادية مراجعة دقيقة (وقد نشرتها بعد ذلك دار النشر أبولو، ثم هيئة قصور الثقافة ...)
وأخيرا لا أجد ما أقوله عن الملحمة وافتتاني بكنوزها الأدبية والفلسفية التي لا تنفد، أكثر مما قلته في المقدمة المسهبة للترجمة، وفي سياق كتابي «جذور الاستبداد». ها هي المحنة ما زالت مستمرة، وها هو شعب العراق الحبيب الموهوب، والغني بتراثه من العلماء والشعراء منذ عهد العباسيين، بل منذ الألف الرابعة قبل الميلاد، ها هو يذبح أبناؤه كل يوم، وينهب تراثه، ويدمر تدميرا. والمؤامرة الصهيونية-الأمريكية تحكم على رقبته شبكتها العنكبوتية الدموية، وأخطبوطها الكابوسي الرهيب، ومشنقتها الكئيبة التي قضت على الطاغية المغرور بطريقة مهينة لكل العرب. ولسنا ندري متى يرجع العراق الحبيب لأمته مرفوع الرأس موفور الكرامة، ولا متى نخرج نحن من موقفنا المخجل المهين، موقف المتفرج، فيشارك كل منا على قدر طاقته في البعث الجديد لنهضة هذا الشعب البطل، الذي جنى عليه وعلينا الطاغية الذي طالما تمسح في جلجاميش، ووضع صورته - كما سمعت - إلى جانب صورة للبطل السومري القديم على مدخل مدينة كربلاء، وليته تعلم شيئا منه أو حاول أن يتطهر مثله من ذنوبه القاتلة التي أوقع شعبه في حفرتها المميتة كما أوقع العرب أجمعين. «تا-وتي-كنج»: لست في حاجة للكلام عن هذا الكتاب الشهير عند كل المثقفين الحقيقيين، سوى أنه كان وما يزال أحب كتاب إلى قلبي. والمقال الذي ستطالعه عنه كان في الواقع استجابة لمجلة الهلال، وجوابا على سؤالها الطريف عن أحب الكتب إلى قلبك. لم أتردد في القول بأنه هو كتاب الطريق (أو التاو، وهو مصطلح فلكي في الأصل، لكنه أصبح عند أتباعه الطاويين هو طريق الحقيقة أو طريق الحكمة)، والفضيلة (تي) التي تترجم أحيانا بالحياة وأحيانا أخرى بالحقيقة.
وقد سبق أن نقلت هذا الكتاب الخالد إلى العربية حوالي سنة 1964م، وظهر في سلسلة الألف كتاب الأولى عن دار النشر سجل العرب، وقرأه الكثيرون الذين أمكنهم التوصل إليه، وأحبه الكثيرون ممن تجاوبوا مع فلسفته الصوفية التي تتلخص في البساطة والوداعة وعدم الفعل؛ أي البعد عن كل ما يجرح السكينة ويورث العنف والقلق والصراع. إنه كتاب الديانة الطاوية التي تدعو للرجوع إلى الطبيعة أم الخير كله، والتمسك بالهدوء الذي يغلب القوة والطغيان والجبروت، كما تفتت الصخر الجامد قطرات الماء الرقيقة.
قلت إني لا أجد عندي ما أضيفه عن هذا الكتاب؛ لأن المقال يكاد أن يكون تلخيصا وافيا لمعناه ومضمونه الذي عرضه الحكيم لاو-تزو (من القرن الخامس قبل الميلاد) في واحد وثمانين مقطوعة شعرية، قمت بنقلها إلى العربية (عن الترجمتين الألمانية والإنجليزية لكل من ديبون وآرثر والي ...)
أستطرد قليلا فأقول إني قلت في مقدمة الكتاب الذي مرت على ترجمته للعربية أربعون سنة ما معناه أنني أدعو الله أن يقيض له من أبنائنا من يترجمه عن الصينية مباشرة. وقد سمعت قبل أيام أن أحد أساتذة اللغة الصينية في كلية الألسن، وهو الدكتور محسن سيد الفرجاني، قد ترجمه إلى العربية ونشره ضمن سلسلة المشروع القومي للترجمة (التي سبق للمترجم الفاضل نفسه أن نشر فيها محاورات كونفوشيوس). لا أملك الآن إلا الترحيب بهذه الترجمة التي لم أطلع بعد عليها ولا أستطيع الحكم عليها، ولكنني آمل أن تكون قد وفقت في التعبير عن المعاني الصوفية والإنسانية العميقة في هذا الكنز الصوفي بلغة عربية مكافئة للنص. ويبقى في النهاية أنني استلهمت من هذا الكتاب قصة طويلة نشرت في الكتاب التذكاري الذي أعده الأبناء والتلاميذ الأوفياء لأستاذهم الناقد الكبير الدكتور محمد حسن عبد الله (كلية دار العلوم، الفيوم، 2001م).
لا أحسبني في حاجة لإطالة الكلام عن «عالم صوفيا»، ولا عن «ثورة إلى الأبد»؛ فالأولى رواية تحقق الزواج السعيد بين الفلسفة والفن؛ إذ تعرض أهم الأفكار والشخصيات والمذاهب في تاريخ الفلسفة الغربية، وتضعها في قبضة صبية صغيرة؛ ومن ثم في قبضة أي إنسان عادي بسيط، ليعرف نفسه، ويسأل السؤالين الكبيرين: من أنا؟ وما العالم أو الوجود الذي يحيط بي؟ ولم يكن هدف المؤلف النرويجي هو إلقاء دروس في الفلسفة على فتاة صغيرة بريئة، وبلبلة خاطرها بالاندهاش والحيرة والارتباك التي هي أصل التفلسف، بل كان هدفه في تقديري هو إيقاظ وعي البشر العاديين على حقائق عالمهم وأباطيله، ودعوتهم لجعل الحقائق الفلسفية حقائق حية، والتكاتف مع بعضهم لتغيير الواقع وتخليصه من الظلم والجهل والقبح والشر والعدوان. هو في النهاية حلم يوتوبي جميل في رواية شديدة الجمال، ليتنا نظل نحلم به، ونواجه به واقع العالم السيئ والعصي على التغيير! أما الثورة إلى الأبد فتعود إلى أب الثوار في كل العصور والحضارات، بل أب البشر وخالقهم العطوف عليهم في الأساطير الإغريقية، وهو بروميثيوس سارق النار الشهير من آلهة الأوليمب، وذلك من خلال شذرة مسرحية ألفها جوته الشاب في مرحلة الجموح والإيمان بالعبقرية لدى الفرد العبقري المبدع، وهي التي تسمى مرحلة العصف والدفع في تاريخ الأدب الألماني. هل ينجح هذا المقال في إقناع القارئ بضرورة الإيمان بالثورة الخالدة والتمسك بها في كل مجال؟ وهل يغري المبدعين بأن يكونوا بروميثيين في كل ما يبدعون؛ أي يكونوا ثوريين بحق؟
وأخيرا تأتي سيرة قصيرة وحوار قصير أيضا، ربما ساعدا مع التجارب السابقة على إلقاء شيء من الضوء على تجربتي الفلسفية المتواضعة والمحدودة. في هذه السيرة وفي الحوار شيء من الاعتراف الصادر عن القلب بعد رحلة العمر مع الفلسفة والأدب، نشرت السيرة في باب التكوين الذي دأبت مجلة الهلال على مدى سنوات طويلة على استكتاب عدد كبير من الأدباء والفنانين والعلماء والأعلام في شتى الميادين ودعوتهم للمشاركة فيه، وذلك في عدد سبتمبر سنة 1990م أثناء الإجازة الإجبارية التي سبقت الإشارة إليها، وربما انعكست عليه ظلال من نيران الحزن والفجيعة التي أشعلتها أم المحن التي لم نزل نعيش في آثارها المدمرة.
أما الحوار فقد أجراه معي صديقي الرقيق شاعر قصيدة النثر جرجس شكري، ونشرته مجلة «نزوي» العمانية، التي يرأس تحريرها الشاعر سيف الرحبي، وقد وقعت عليه بالصدفة ضمن ركام أوراق منسية، فراجعته ووجدت أنه يستحق أن يضاف إلى هذه التجارب بما فيها من اعترافات ظاهرة أو مضمرة.
Unknown page