يؤكد كل ما سبق أن الأنثروبولوجيا الفلسفية أو الميتافيزيقية، هي النقطة التي تلتقي فيها العلوم البعدية؛ ذلك أن الإنسان هو الموضوع الأول والأثير للتجربة الميتافيزيقية، وتحديد ماهيته وأصله هي القضية الأولى أو هي السؤال الأول والأساسي الذي تتلاقى عنده كل القضايا والأسئلة الميتافيزيقية الأخرى. فالإنسان «حالة» لا تنفك العلوم المختلفة تتناولها من زواياها المختلفة، سواء كانت هذه العلوم هي الميكانيكا والفيزياء والكيمياء والبيولوجيا، أو كانت هي علوم النفس والتاريخ والأثنولوجيا واللاهوت أو علم أصول الدين، وذلك بقدر ما في الإنسان من قبس إلهي أو من عنصر أبدي. فالإنسان - كما سبق القول - «كون مصغر»، أو هو بمعنى من المعاني كل شيء كما يعبر عنه المفهوم اللاتيني القديم. بهذا نستطيع أن نقول إن الدراسة الميتافيزيقية للإنسان لا تقتصر على الإنسان وحده، بل تمتد إلى الكون بكل دوائر وجوده ومستوياته، سواء كان هو الوجود «الفعلي» الذي ندركه في فعل المقاومة الإرادية المباشرة للواقع، أو الوجود «الكيفي» الذي نعيه من خلال الانفعال والمعاناة، أو من خلال ما يسميه شيلر - كما رأينا - بفعل الرد الماهوي المتسم بطابع الزهد في الواقع؛ أي الذي نضعه بين قوسين ونقول له «لا»؛ لنجرده من واقعيته، ونستخلص ماهيته؛ أو في الوجود القيمي؛ أي المحمل بالقيمة، الذي يتضح لنا كما سبق القول عن طريق الشعور، ومن خلال الحب والتعاطف؛ إذ إننا، كما قال القديس أوغسطين، لا نعرف إلا ما نحب.
وأخيرا فإن المشاركة المزدوجة للإنسان في أساس الوجود المتناهي ومبدئه نفسه، وفي الدافع الإلهي والروح أو العقل الإلهي، إلى حد التماهي معه في هوية جدلية دائمة، ذلك هو الذي يسمح بقيام الميتافيزيقا، ويجعلها ممكنة. لهذا لم يكن عجيبا أن يوصف الإنسان بأنه كون مصغر، وأن يشتط الفيلسوف في نزعته الوحيدية، فيزعم أنه - أي الإنسان - ألوهية مصغرة. وقد سبق أن ناقشنا هذا التعبير، وبينا بطلانه واستحالته من وجهة النظر الدينية نفسها؛ لأن أقصى ما يمكن قوله إن في الإنسان شعاعا من القبس الإلهي. أما القول بالهوية أو التوحد بالحلول - سواء من وجهة نظر صوفية موغلة في التطرف كما فعل الحلاج أو غيره، أو من وجهة نظر القائلين بوحدة الوجود كما نجد عند اسبينوزا على سبيل المثال لا الحصر - فذلك زيغ وضلال، لا يستقيم مع الرؤية الجدلية للمطلق التي تذهب على حد تعبير الفيلسوف نفسه إلى أن الإنسان على الطريق إلى الله، وأن سعيه متجه إليه وحده.
هنا ينبغي أن نوضح أن الإنسان الذي نقصده ليس هو الإنسان الفرد وحسب، وإنما هو الإنسان المنغمس في التاريخ، والإنسان الذي صنع التاريخ كما صنعه التاريخ. فالتاريخ هو العملية التي تقوم ب «فرز» وتحديد إمكانات «الدافع والعقل»، وتحقيقها خلال الزمن وعبر الحضارات المختلفة، غير أننا لا نستطيع أن نقول بأي نوع من الحتمية التاريخية، وتظل شوكة السؤال عبر الأجيال حادة بقدر ما هي مؤلمة: هل يتطور التاريخ البشري إلى الأفضل، وهل يمكن أن ينتصر فيه الخير ويتحقق العقل؟ ذلك للأسف شيء لا يقين فيه. كل ما نملكه هو أن نسعى إليه ونأمل فيه. ولو قدر للفيلسوف الذي عاصر مجازر الحرب العالمية الأولى أن يمتد به الأجل سنوات قليلة لكي يعاصر الجحيم النازي ورعيه وشره، ثم ما تلا هذه الحرب من مآسي الظلم والعدوان والهمجية والإرهاب باسم القضاء على الإرهاب! أقول لربما كان الفيلسوف قد هرب إلى البرية يصرخ فيها، أو رجع للكاثوليكية مرة أخرى، ولجأ إلى دير يتبتل فيه، أو كف على أقل تقدير عن التطلع إلى أي رجاء أو عزاء! لكنه مهما كان رد فعله على مآسي العصر ومجازره، ومقابر الجماعية وطغاته وسفاحيه الكبار والصغار، كان سينكر أي حتمية في التاريخ البشري، ولعله كان سيرجع إلى التزامه الأخلاقي السياسي الذي حرك إبداعه الفلسفي على الدوام، فيردد هذه العبارات التي دونها قبل رحيله بقليل في إحدى شذراته المتناثرة: إن قيمة التاريخ ومعناه لا يكمنان في حال البداية كما تصور الرومانسيون، ولا في النهاية الأخيرة، كما يحلو للمتنبئين والمتطيرين أن يتخيلوها! وإنما تكمنان في التعاون المثمر للأجيال والعصور والشعوب والأجناس والحضارات، خلال الأحقاب جميعا؛ التعاون على المشاركة في تحقيق الخير والقيم العليا.
32
وهي بطبيعة الحال مشاركة يحركها الحب والتعاطف مع البشر الذين نحيا معهم في زمن واحد وعلى أرض واحدة، كما يدفعها الإحساس بالمسئولية أمامهم وأمام العالم الذي هو في صميمه تاريخ، وتجاه التاريخ البشري العام بأسره، شريطة ألا تجف الآبار الحية - إذا صح هذا القول - من الخير والحب والتعاطف، وألا تملأها الأحداث والأزمات والتطورات السلبية المفاجئة، بأفاعي الكراهية وعقارب الحقد والشر وسوء الفهم، التي لم تتوقف وربما لن تتوقف أبدا عن نشر السموم، وإشعال حرائق الجحيم التي تلتهم العقل والقيم ودوافع الحياة المباشرة نفسها كلما استطاعت. وكل هذا يؤكد أن العوامل الواقعية والمادية والدوافع الحيوية، هي الأسس التاريخية التي يشيد عليها بناء الميتافيزيقا، وإن لم يكن في وسع العقل ونظم القيم إلا أن تحاول توجيهها نحو الخير ونحو المطلق، دون أن نستطيع أبدا أن نقلل من جبروتها وواقعيتها، ولا أن تكون بديلا عنها.
أنا أحيا ولا أدري إلى متى يمتد بي العمر، وسوف أموت وإن كنت لا أعلم متى، وأنا في سفر دائم ولا أعرف إلى أين، مع ذلك يدهشني دوما أني مبتهج وسعيد.
يقول مؤرخ سيرة «شيلر» إن هذه الأبيات فيما يبدو قد صحبته طوال العمر، وإذا كان قد كتب في رسالته المبكرة للدكتوراه هذه العبارة «لم يعد أحد يعرف أو يشعر بأنه سيموت لا محالة موته الخاص»، فالعجيب أن هذه العبارة إن كانت تصدق على غيره من الناس، فإنها لا تصدق عليه أبدا؛ ذلك أنه - فيما تقول زوجته الأخيرة وراعية تراثه الأمينة ماريا شيلر، في تقرير شامل كتبته في سنة 1947م - قد خالجه الحدس بموته الخاص خلال العام الأخير من حياته. يشهد على هذا اندفاعه المحموم إلى الكتابة، ولهاثه وراء تدوين أفكاره الكبرى عن ميتافيزيقاه التي لم يدون منها سوى شذرات مشتتة، وكأني به قد أحس - وقلبه دليله - أنه يحاول أن يبني عمارة ضخمة من بضع أكوام متناثرة من الرمال والأحجار والهياكل المبتورة.
ظل الفيلسوف يكتب ويكتب حتى فاجأته نوبة قلبية حادة، بعد منتصف الليلة الفاصلة بين الثاني عشر والثالث عشر من شهر مايو سنة 1928م، وفي مدينة فرانكفورت على نهر الراين، التي كان قد لبى دعوتها للتدريس بجامعتها قبل موته المباغت بشهور قليلة. كان طبيبه المعالج قد أسر في أن زوجته تنتظر طفلا منه، لكنه لم يعش حتى يرى الولد الذي طالما اشتاق لرؤيته؛ إذ شاء القدر أن يفتح ابنه - ماكس جورج شيلر - عينيه على نور هذا العالم في الثامن والعشرين من شهر ديسمبر، من نفس العام الذي مات فيه أبوه ودفن جثمانه في مدينة كولونيا على نهر الراين.
وألقى صديقه الباحث الكبير وعالم الرومانيات «إرنست روبرت كورسيوس» خطبة الوداع على قبره، بالنيابة عن نفسه وعن أصدقاء الفقيد: «إن الأصدقاء لمحزونون على الإنسان الذي غمرت طيبته السخية حياتهم بثروة لا تقدر. نحن، أصدقاءه، نحفظ صورته في قلوبنا؛ فقد كان من حسن حظنا أن تدرك نظرته المتعاطفة كل ما يكمن في شخصياتنا من إمكانيات وقيم. لم يقدم تحليلا لنفوس أصدقائه، وإنما أعطاهم تفسيرا بناء لحقيقة وجودهم. وكل من اقترب منه ودخل معه في حوار، قد عرف نفسه بصورة جديدة، وشعر بأن هناك من يعرفه بطريقة مدهشة وغير مسبوقة، وأنه قد استنار بدفء موقده العقلي والروحي. بذلك اتسع أفق حقيقته واتضح، وارتفع وسما بفضل إشعاع عبقريته التي تجلت بقوة في إحساسه وفي تفكيره على السواء.»
هوامش
Unknown page