54

وتأتي إلى العلوم الحديثة، وتقسيم شيلر السابق لها إلى ثلاثة أشكال أساسية، هي: المعرفة التي يوجهها النزوع إلى الهيمنة والسيطرة (وتمثلها العلوم الوضعية التي تقوم عليها الحضارة الغربية)، والمعرفة الثقافية (المتعلقة بالتثقيف والتهذيب، سواء في الفنون والآداب أو في العلوم الإنسانية)، والمعرفة الهادفة إلى النجاة والخلاص (وتقوم على أساس الإيمان في كل الأديان). ونلاحظ في هذه المرحلة المتأخرة من تفكير شيلر أنه يعدل في هذا التقسيم، فيجعل المعرفة الموجهة للخلاص معرفة ميتافيزيقية، ويدمج الفعل الديني - سواء في العبادات أو في الممارسة «العملية» - في ميتافيزيقا المطلق. وهذه المعرفة تتطلب في رأيه أو تتجاوب مع نوع من التفاني الديونيزي، الذي يتمثل في الشعور بالتوحد مع الدافع؛ أي مع القطب الأول لعملية الصيرورة الكونية والبشرية، المتجهة نحو المطلق، والمشاركة فيه؛ وبهذا يصبح المبدأ أو الأساس الكوني دينيا بقدر ما هو ميتافيزيقي.

بهذه النظرة الجديدة يراجع الفيلسوف تقسيمه للعلوم، فيضيف إليه معرفة جديدة يسميها المعرفة بالماهيات. وهي ليست معرفة جديدة على كل حال؛ إذ تشمل عند أرسطو الميتافيزيقا كلها، أو ما سماه بالفلسفة الأولى، بينما تشغل عند شيلر جزءا واحدا من الميتافيزيقا، كما تتصل اتصالا وثيقا بأسس العلم، وما يتعلق بحدوده وماهيته وغايته؛ أي باختصار بما بعد العلم.

والمعرفة بالماهيات لا شأن لها بالهيمنة أو السيطرة، التي هي هدف العلوم الوضعية. إن هدفها هو التوصل لماهيات الأشياء نفسها، لا السيطرة عليها كما دعا إلى ذلك بيكون مع بداية العصر الحديث، وتابعته الحضارة الغربية العلمية والتقنية حتى يومنا الراهن. فلسفة الظاهريات والهدف الأسمى من كل مناهجها الدقيقة، ليست سوى سلوك أو فعل يحركه الحب والتعاطف لإدراك ماهية العالم؛ أي الأفكار والمبادئ والظواهر الأولية التي تقوم عليها، أو تكمن فيها ماهيته.

29

ونحن حين نطبق هذه المعرفة الماهوية على العلوم الوضعية التي تسعى للهيمنة والسيطرة على الأشياء، فإنما نحاول معرفة الافتراضات أو المبادئ والمصادرات الأولية التي تقوم عليها تلك العلوم. بهذا نربط المعارف التي توفرها العلوم الوضعية والعقلية بوجه عام بالفلسفة الأولى ونظم القيم الأخلاقية؛

30

أي بالميتافيزيقا العامة التي تنصب في هذه الحالة على بحث حدود هذا النوع من المعرفة. هذه الميتافيزيقا يصفها شيلر بأنها تمثل المستوى الأول، ويتم فيها السؤال عن ماهية الحياة والمادة ... إلخ، ومن خلال هذه الميتافيزيقا وحدها تنتقل إلى ميتافيزيقا المستوى الثاني؛ أي ميتافيزيقا المطلق نفسه.

ولا بد من الانتباه هنا إلى وجود نسق فلسفي تزداد أهميته والاهتمام به في الوقت الحاضر، ويشغل مكانا وسطا بين ميتافيزيقا المشكلات الحديثة للعلوم المختلفة (كالرياضيات والفيزياء وعلمي الحياة والنفس والقانون والتاريخ) وميتافيزيقا المطلق. هذا النسق الهام هو الأنثروبولوجيا الفلسفية. إن سؤالها الأساسي هو السؤال الذي جعل كانط (في محاضراته عن المنطق) يلخص فيه بقية الأسئلة الفلسفية الكبرى (عن حدود المعرفة الممكنة، والأمل في الخلود، ومبادئ السلوك الأخلاقي)، بحيث تصب جميعها فيه وتلتقي عنده، وهو: ما هو الإنسان؟

31

هكذا يبدأ بناء الميتافيزيقا - إذا جاز التعبير - من أسفل؛ أي من التجارب الواقعية المباشرة، التي تحصلها الرؤية الطبيعية الشاملة للعالم، بالإضافة إلى المعارف التي توفرها العلوم الدقيقة بمجالاتها المختلفة، ثم يتناول التأمل الفلسفي فروضها وحدودها وغاياتها ... إلخ، فينشأ من ذلك العلوم البعدية التي تؤلف في مجموعها المستوى الأول للميتافيزيقا (ما بعد الفيزياء، ما بعد البيولوجيا، ما بعد الرياضيات ... إلخ). أما المستوى الميتافيزيقي الثاني؛ أي ميتافيزيقا المطلق، فينهض على أساس الأنثروبولوجيا الفلسفية وجميع العلوم البعدية ونظم القيم الأخلاقية، وذلك من خلال عملية منهجية يسميها شيلر بالاستخلاص أو الاستنتاج الترنسندنتالي (المتعالي)، وتقود كل إنسان إلى حقيقته الميتافيزيقية الخاصة به. من ثم يكون من الضروري أن يقوم مبحث الأنثروبولوجيا الفلسفية على مبحث الميتافيزيقا، وأن يهتم الفيلسوف بمستويات هذا البناء اهتماما متساويا، بحيث لا يقتصر على ذروة هذا البناء؛ أي على ميتافيزيقا المطلق وحدها. والسبب في هذا بسيط، فهو لا يقف جهوده على المنهجيات والتحليلات النظرية والمعرفية كما فعل هسرل، الذي اتهمه شيلر بأنه «يشحذ سكاكينه باستمرار دون أن يأكل شيئا!» إن المشكلات والمعارف والقيم المادية هي التي تعنيه بالدرجة الأولى، وهي التي يحرص على متابعة ظهورها في السياق التاريخي وارتباطها به، وبغير هذا لا يمكن أن نفهم طبيعة المستوى الأول من بنائه الفلسفي ولا ضرورته، ونقصد به مستوى معارف العصر وعلومه البعدية، بل جميع ألوان المعارف البشرية التي نهمل في العادة بحث «بعدياتها»، وإدراك أهمية أسئلتها ومشكلاتها. ولا يقتصر هذا الإهمال على العلوم الوضعية، كذلك على سائر العلوم الإنسانية التي لا تقف كثيرا عند هذا الجانب البعدي المتصل اتصالا مباشرا بالمستوى الأعلى للميتافيزيقا؛ أي بالمطلق وبالأساس الأول والأخير للوجود؛ ومن ثم تقصر في حق المعرفة الكلية الشاملة، أو الحكمة العالمية كما سماها القدماء.

Unknown page