1
ونبدأ بالبدايات الأولى أثناء دراسته، ثم تكليفه بالتدريس لمدة عشر سنوات في جامعة يينا. كان أول ما جذبه للانخراط في هذه الجامعة هي الشخصية الساحرة الآسرة لأحد أساتذها، وهو الفيلسوف الملتزم رودلف أويكن (1846-1926م)، الذي راح يدعو ويكافح في سبيل تأسيس مثالية جديدة، تبعث الحياة الأخلاقية والروحية الأصيلة بعثا جديدا يوحد صفوف الجميع؛ لكي يعيشوا حياة مشتركة مفعمة بالنشاط العقلي والأخلاقي والديني الخلاق، ولكي يواجهوا انحراف المدينة الحديثة، وفساد العمل الثقافي المفتقر للمشاركة الشخصية، ويتجاوزوها لحياة عقلية وروحية أصيلة ومتجددة. وقد كان لقرب شيلر من هذا الفيلسوف، واختياره له مشرفا على رسالتيه الصغرى والكبرى للدكتوراه، أثره الكبير على تفكيره المستقبلي في مسارات شتى، كالاهتمام بقيمة الشخص والشخصانية، وتقدير مكانة العقل الحي بين مستويات الوجود الحيوي المختلفة أو بالأحرى فوقها، ثم القراءة النقدية المتأنية لفلسفة كانط، بحيث يتحول - أي شيلر - بعد ذلك إلى أكبر مناهض لها، وأهم قطب مضاد لشكلانية حكيم كونجسبرج، وصوريته الأخلاقية الحاسمة. «ولم يكن من قبيل المصادفة أن يتولى شيلر بعد ذلك رئاسة جمعية كانط في مدينة كولونيا، وأن يؤسس قبل وفاته بأسابيع قليلة جمعية كانط الأخرى في مدينة فرانكفورت. ويبقى أهم ما تأثر فيه بأستاذه هو السؤال الذي لم يكف عن طرحه عن وضع الإنسان في الطبيعة، بحيث صار السؤال عن ماهية الإنسان ومكانه في الوجود - كما سيقول قبل وفاته بسنوات قليلة - هو أهم ما شغله منذ الصحوة الأولى لوعيه الفلسفي، كما بقي هو السؤال المقدم على أي سؤال فلسفي آخر.»
2
والدليل على صدق هذا القول أنه لم يخل فحسب في كتابه الصغير عن وضع الإنسان في الكون، بل كذلك في عناوين بعض كتبه الأخرى، مثل الأبدي في الإنسان، والإنسان في عصر التوازن، والإنسان والتاريخ.
حملت رسالة شيلر الأولى (1897م)، كما سبق القول، هذا العنوان: مساهمات في تحديد العلاقات القائمة بين المبادئ المنطقية والمبادئ الأخلاقية. وقد عالج فيها مشكلات أساسية شغلت كل مراحل تطوره أو تحوله بعد ذلك على دروب الفكر والحياة، وجعلته يحمل على عاتقه مسئولية النهوض بمهمة جليلة وجديدة، وصفها بأنها هي النقد القيمي للوعي. ولا شك أن هذا الوصف يذكرنا بفلسفة كانط النقدي في كتبه الثلاثة المعروفة، كما يوضح كيف أن النقد الثقافي أو التاريخي والحضاري يمثل الأفق الدائم أو الخفية المستمرة لبحوث شيلر الفلسفية، وقد تثنى له في وقت لاحق أن يميز هذه المهمة عن مشروع كانط الضخم في نقد العقل. وأهم أوجه الاختلاف بينهما هو أن ما يفترضه هذا المشروع، وهو وجود تصور مسبق ومكتمل عن العقل، لا يصح أن يفترضه نقد القيم الذي سينهض هو نفسه به؛ إذ يتحتم على هذا النقد أن يتبع منهجا يستفيد فيه من النتائج التي توصل إليها علم النفس الحديث مع غيره من العلوم مثل علم الأحياء وعلم الفيزياء، بحيث تقوم بتحويل الأحداث النفسية المتفرقة إلى قدرات أو ملكات جديدة، ترفعها فوق الوجود النفسي المحض لتصبح وظائف نفسية ذات قيم أخلاقية.
3
والحق أن هذا الاهتمام المبكر للشاب البالغ من العمر ثلاثة وعشرين عاما، لا يكشف فحسب عن تأثره بأستاذه السابق الذكر، وبالنزعتين السيكولوجية والوضعية الشائعتين على أيامه، بل يضع الأسس الأولى لعدد من الأعمدة التي يرتكز عليها نسقه الفلسفي في المستقبل: استقلالية كل من الفكر والإرادة والمعرفة والسلوك والخير والحق، وبذل الجهد الخارق لردم الهوة أو الفجوة التي تفصل كلا منهما عن الأخرى، ثم الدخول قبل ذلك كله في حوار أو صراع نقدي حول مشكلة القيم، ومحاولة الكشف عن القوانين التي تتحكم في مملكتها، مع الاستفادة من النتائج التي توصلت إليها علوم عصره. ولعل هذا يبين مدى إحساسه الجاد في ذلك العمر المبكر بعمق الفجوات وألوان التضاد والتناقض القائمة بين الفكر الخالص والواقع التاريخي. ومن أدل عباراته على ذلك قوله:
إنني على وعي تام بأن اتساع وعمق التجربة التاريخية، التي استوعبها أي نسق فكري وفلسفي، إنما تقف موقف التعارض الحاد مع استقامته المنطقية، بل تقف دائما في علاقة عكسية معها. إن التاريخ كما هو معروف هو عالم التناقض، ومن ذا الذي يمكنه أن يحافظ على النقاء المنطقي كلما أراد أن يدخله (أي التاريخ) في تفكيره؟ ومن ذا الذي لا يتحتم عليه أن يستوعبه في ذاته إذا أراد أن يقدم شيئا أكبر من التأمل الوهمي؟
4
بهذه العبارات الواضحة التي تنظر إلى العالم نظرة تاريخية، يكون شيلر الشاب قد ميز نفسه عن زملاء المستقبل من الفلاسفة الظاهراتيين (الفينومينولوجيين )، المعادين للتاريخ أو غير التاريخيين. وينشر شيلر في سنة 1899م - أي في الفترة الواقعة بين رسالة الدكتوراه الأولى ورسالة التأهيل الثانية للتدريس الجامعي - ينشر أول عمل فلسفي مستقل يتناول مشكلة اجتماعية وسياسية، ويعبر عما يمكن وصفه بفلسفة العمل، ونقصد به كتابه «العمل والأخلاق»، الذي يناقش فيه مفهوم العمل عند أصحاب النزعة الليبرالية، وعند أنصار النظريات الاشتراكية. وهو ينطلق في بداية الكتاب من وجهة نظر نقدية لحضارة عصره الذي طغت فيه التطورات التقنية على الفكر، وارتفعت فيه الدعوات الصاخبة للعمل دون التوقف للسؤال عن قيمة هذا العمل والغاية منه، وتضخمت قدرات التقنية على تغيير العالم وأساليب النشاط الاقتصادي للجماهير، فتراكمت الوسائل التي تصدت لتحديد الأهداف أو الغايات، بدلا من أن تترك هذه المهمة للأهداف أو الغايات الأخلاقية التي أزاحتها بعيدا عن رؤية العصر؛ مما أدى إلى تفجير النظم الكبرى للغايات بواسطة الوسائل التي تركت فيها وعليها؛ ذلك أن العمل وحده لا يمكنه أن يوجد قيمة، ولن يكون هناك معنى لأي عمل إنساني إن لم ينتظم داخل نسق اجتماعي له قيمه وغاياته الأخلاقية. ويأخذ شيلر على الليبرالية أنها تعيش في الوهم الصوفي، الذي تتصور معه أن الهدف الموضوعي يكمن في العمل الذاتي لكل فرد على حدة ، وكأن الحياة الاقتصادية في نظرها مجرد آلة كبرى تدور بشكل طبيعي وعقلي، وكأن كل من يعمل بذاته ولذاته يساهم في خلق أفضل مجتمع يمكن تصوره، أو كأن الهدف الموضوعي والقيمي متضمن في بحثه واختياره الذاتي للوسائل. أما النظريات الاشتراكية، وبالأخص الماركسية، فإن نظرتها لمفهوم العمل نظرة متعددة الوجوه، وليس أهم ما يميز المنظرين للاشتراكية أنهم يستبعدون العمل العقلي تماما من مفهومهم للعمل، بل هم يضمونه تارة هذا المفهوم ويغفلونه تارة أخرى، وذلك كلما أرادوا تبرير المعقولية والغائية الكامنة في العمل، وتأكيد طبيعته الخلاقة للقيم، أو كلما فكروا في الطبقة الاجتماعية التي تنطق باسم هذه النظريات، وهي الطبقة التي تعمل عملا جسديا قبل كل شيء. أما شيلر نفسه فيقصر مفهوم العمل على كل نشاط بشري يضع لنفسه نظاما موضوعيا من الغايات والقيم، وبغير ذلك لا يستحق القائم بهذا النشاط أن يوصف بأنه «عامل».
Unknown page