يمكن التنويع عليها فيما نحن بصدده، فنقول: (ربما بثقة أكبر مما يفعل ناقد الأدب ومؤرخه؛ لأن عالمية الفكر الفلسفي وعموميته تطغى على خصوصيته وقوميته التي لا تكاد تظهر إلا في ملامح شخصية المفكر وبيئته وعصره ولغته وتراثه، دون أن تؤثر تأثيرا جوهريا على شمولية مشكلاته وتساؤلاته وإجاباته) لقد آن أوان الوعي العالمي الذي طالما حاولت الفلسفة تحقيقه، لا سيما في العصور والمذاهب والحركات العقلية والروحية التي أكدت إنسانية الإنسان ودعت إلى احترام «طبيعته» وعقله وشخصه وحرمة حياته وكرامته وحريته. ولا يتعارض هذا بحال - كما قد يتصور البعض - مع تأكيد الوعي الذاتي للشعوب والثقافات والمجتمعات «والبنى» السياسية والأخلاقية والقانونية والفكرية والفنية ... إلخ، ولا مع ضرورة استمرار الكفاح المتصل للتعرف على الهوية أو على الأصح إيجادها وتجديدها وإبداعها؛ لأنه (أي الوعي العالمي) سيكون بمثابة الوحدة الكلية التي تؤلف بين الأفراد والذوات المتنوعة، وستكون أداته هي الحوار الحر الذي تنخرط فيه الأطراف الحرة. وإذا كان الأمر يقتضي - في تقديري المتواضع على الأقل - تجاوز مشكلة الشرق والغرب (التي اشتعلت في السنوات الأخيرة، واحتدم حولها اللجج واللغط، وارتفعت الأصوات المتشنجة والمشوشة!) إلى مشكلة القرية البشرية المهددة بالدمار والتلوث بكل أشكاله؛ فإن هذا يزيد من ضرورة تكاتف كل العقلاء لإطفاء الحريق الجنوني الذي يلتهم كل القيم التي صارع «تراث الحكمة» المشترك لإقرارها ووضعها في مرتبة البداهات الواضحة المتميزة. وعندما تصل المأساة إلى حد تصليب الطفل الرضيع أمام عيني أمه، واغتصاب العجوز ذات الثمانين عاما أمام أبنائها وأحفادها - كما حدث ويحدث اليوم على يد «أبطال» الصرب - وعندما يحاصر إرهاب الدولة المنظم شعوبا بأكملها على مرأى ومسمع من العالم المتواطئ أو غير المكترث - كما يجري الآن لأبناء أمتنا في الأرض المحتلة أو للسود في جنوب أفريقيا - فلا بد أن يصحو الوعي العالمي والضمير الإنساني، ويرتفع فوق المصالح والتحيزات والتميزات والخلافات، وإلا فمتى يصحو؟ وكيف تستحيل الحياة إلى كابوس مرعب ولا يتحرك؟!
وتسألني: ما الموضوعات التي يمكن أن تناقشها محاكم الضمير والعقل المحلية والعالمية التي حان الوقت للم شملها من العقلاء في كل مكان، سواء أكانوا علماء وأدباء وفلاسفة أو مشتغلين بالفلسفة، أم كانوا من الشباب العالمي الضائع المضيع وبسطاء الناس العاديين الذين كانوا على الدوام ضحايا كل عدوان على العقل والضمير؟ وأرد على سؤالك بقولي: إن الموضوعات لا حصر لها، والإضافة إليها أو التعديل فيها أمر ممكن، وما يحضرني منها يمكن أن يفتح آفاقا للنظر والعمل ظلت مغلقة أو مهملة حتى الآن. ومن يدري؟ فربما تصل إلى جمهور الرأي العام، فتساهم في التغيير الحقيقي من أسفل إلى أعلى، وربما «تفلح في إقناع المتشككين بقدرة الفكر على التأثير على الواقع؛ إعادة التفكير في حقيقة الإنسان وتأسيس ماهيات» وجوده وقيمه الباقية في مواجهة احتمالات الفناء والدمار الشامل، على ضوء مكابداته التاريخية وإنجازاته الفنية والعلمية والتقنية وإمكاناته المستقبلية، وعلى ضوء الدراسات المتنامية ل «الأنثروبولوجيا الفلسفية» بشتى فروعها التي أهملناها في عالمنا العربي إهمالا شبه كامل. استكناه أبعاد إنسانيته، وإطلاق طاقاته الخلاقة - وفق برنامج عالمي - لا كحيوان ناطق وحسب، بل كحيوان مبدع ولاعب ومصور وفاعل وصانع للحضارة وسائر على الطريق إلى المستقبل الإنساني الحق؛ السلام العالمي والأمن من الخوف والقلق والفقر والجوع والحرمان والعدوان؛ الحب والتعاطف والأمل والتواصل والحوار؛ الحرية والمسئولية والضمير والخير والحب والحق والعدل والجمال، وسائر القيم المادية (على حد تعبير ماكس شيلر!) المغروسة في طبيعته، في إطار نظام أو ميثاق أخلاقي عالمي؛ وحدة البشر المشتركة التي لا تتعارض كما سبق القول مع فروقهم الفردية وخصوصياتهم الثقافية والحضارية والدينية؛ تكامل الجهود العلمية والفلسفية والقانونية ... إلخ المشتركة في مركب جديد لمجتمع عالمي مفتوح؛ مراجعة التراث الفلسفي وتاريخ الفلسفة في الشرق والغرب والقديم والحديث، من منظور وحدة البشر ومحبتهم الشاملة وتضافرهم الممكن وطبيعتهم الأصلية الخيرة لمقاومة العوامل التي أدت إلى تشويهها والانحراف بها، لا سيما من قبل بعض الفلاسفة والفلسفات والأيديولوجيات المتعصبة، ومن جانب صغار الطغاة وكبارهم في كل العصور وعلى كل المستويات؛ أولئك المتلذذين بالنظر في مراياهم، المصابين بنزعات التدمير الفردية والجماعية أو عشق الموت - النيكروفيليا على حد تعبير إريك فروم - نتيجة نرجسيتهم المرضية المستفحلة؛
8
الاهتمام بظواهر التعذيب عبر التاريخ حتى بلوغها ذروة التفنن التقني في عصر التقنية، لا سيما في أكثر البلاد تخلفا في العلم والتقنية، بحيث باتت أرض البشر جحيما يمكن بالقياس إليه أن يعد جحيم دانتي والمعري روضة من رياض الجنة؛ تأسيس «فلسفة بعدية» تحلل وتراجع الفلسفات المتباينة من منظور الوعي العالمي والإنساني الشامل، وتجدد مسيرة الحركة الإنسانية التي طالما انتكست قديما وحديثا، كما تؤكد قيمها الأساسية في التنوير والتحرير والتقدم والتسامح بين الأديان والمذاهب. التفاؤل بمستقبل العربة البشرية الواحدة، التي يقودها العلم والعقل والإخاء، وانتشالها من مستنقع تاريخها المعاصر الملطخ بالأوحال والدماء والدموع.
ربما تقول: إن هي إلا آمال «يوتوبية» عريضة، غارقة في ضباب الشك والقلق والقنوط، مما يجري اليوم وفي هذه اللحظات التي تقرأ فيها هذه السطور. لكن الإنسان هو كائن الأمل والمستقبل، وعليه أن يرفع راية الأمل حتى لو امتلأت الأرض من حوله وتحت قدميه بالأنقاض والأشلاء، بل إن من واجبه أن يرفعها في هذه الأرض بالذات التي لم تعترف حتى الآن بقيمة الإنسان كإنسان.
ومع أن هذه الآمال تبدو «يوتوبية» حالمة كما قلت، فإن أحلامها ليست مستحيلة كأحلام اليوتوبيين على اختلاف العصور والثقافات والحضارات، وعند مختلف الأدباء والمفكرين الذين طالما رسموا لنا جزرا ومشروعات ومدنا سعيدة أو شقية، ونظما إيجابية أو سلبية، ومجتمعات مثالية كأنها الفردوس الأرضي أو مجتمعات ضدية وعدمية كأنها الجحيم البشري. والدليل على هذا أن بشائر الأمل تلوح في الأفق وإن كانت أضواؤها ما تزال شحيحة خافتة. ألم تتحرك ضمائر الناس وقلوبهم في كل شبر من قريتنا العالمية الصغيرة تعاطفا مع ضحايا الفظائع الوحشية في البوسنة، وضحايا المجاعة المخجلة في الصومال وجنوب السودان، وضحايا الحرب الأهلية في لبنان وأفغانستان، وضحايا الإرهاب الإسرائيلي الذي يحاصر شعب فلسطين ويجوعه ويعربد في أرضه، وضحايا الصراعات الطائفية والمذهبية في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وضحايا العدوان العراقي الوحشي على الكويت وكردستان؟ ألم يتحرك قبل ذلك لضحايا الزلازل والبراكين والفيضانات وكوارث الطيران؟ ألم يتكون حزب للخضر في معظم بلاد العالم يقاوم بوسائله المحدودة تلويث البيئة ومخاطر التجارب والنفايات النووية؟ ألم تتحرك الأمم المتحدة ووكالاتها وهيئاتها - على الرغم من ترددها وعجزها وسيطرة القوى الكبرى عليها، وعلى الرغم من أنها لا تزال بعيدة عن تمثيل الحكومة العالمية المأمولة، أو تجسيد الضمير العالمي الرادع - وأخيرا فلنسأل أنفسنا: ألم يتحرك ضمير الجنس البشري لإنقاذ «شركائه» على الأرض وفي المياه من الدببة والحيتان والأسماك المهددة بالانقراض؟!
إن العقبات أكبر من كل التوقعات، والسلام والسعادة والأمن والتضامن والتراحم والأخوة البشرية ما فتئت تضرب رءوسها على جدران المستحيل، لكن الفلسفة تعمل على الدوام في دائرة الممكن الذي يبدو أحيانا على صورة المستحيل، وفلسفة المستقبل العالمية والإنسانية هي أخطر تحد يواجه المشتغلين بها والمنتمين إليها. إنها من قبيل المستحيل الممكن، أو قل من قبيل الممكن الذي يبدو اليوم كالمستحيل.
هوامش
الأزمة أم الإبداع
محاولة لتفسير بدايات الإبداع الفلسفي
Unknown page