إهداء
تمهيد
الفلسفة ومستقبل قريتنا الأرضية
الأزمة أم الإبداع
النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت
العقل على عرش العالم
حديث معه
جلجاميش وجذور الطغيان
أحب الكتب إلى قلبي
عالم صوفيا
Unknown page
ثورة إلى الأبد، وتفسير لشذرة جوته المسرحية عن بروميثيوس
ثورة إلى الأبد: شذرة مسرحية لجوته «بروميثيوس»
سيرة وحوار
إهداء
تمهيد
الفلسفة ومستقبل قريتنا الأرضية
الأزمة أم الإبداع
النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت
العقل على عرش العالم
حديث معه
Unknown page
جلجاميش وجذور الطغيان
أحب الكتب إلى قلبي
عالم صوفيا
ثورة إلى الأبد، وتفسير لشذرة جوته المسرحية عن بروميثيوس
ثورة إلى الأبد: شذرة مسرحية لجوته «بروميثيوس»
سيرة وحوار
تجارب فلسفية
تجارب فلسفية
تأليف
عبد الغفار مكاوي
Unknown page
إهداء
إلى ذكرى أصدقائي الأعزاء
محمود فهمي زيدان
ومحمود رجب
وأحمد محمود صبحي
حبا وتقديرا لتجاربهم الفلسفية الحية،
وعرفانا بجهودهم الصادقة في سبيل الحقيقة، المبرأة من الزيف والكذب والمنزهة عن الأنانية والادعاء والاستعراض.
تمهيد
هذه مجموعة من التجارب الفلسفية التي عشتها خلال العشرين سنة الماضية، أحاول اليوم أن أضمها بين دفتي كتاب بعد أن كانت مشتتة في كثير من المجلات الثقافية في القاهرة والكويت.
وما دمت قد أطلقت عليها صفة التجارب أو الخبرات، فليس لهذا الوصف من معنى سوى أنها نابعة من الحياة نفسها كما نعيشها ونكابدها كل يوم، ومن بحثنا عن المعنى الكامن في علاقاتنا بمن حولنا من الناس، وبالحياة والعالم والوجود في مجموعه، وبالرؤية الشاملة التي كوناها أو ما زلنا بصدد تكوينها، لكي يصبح لنا موقف أو دور نؤديه في العالم وفي المجتمع الذي نعيش فيه، ونحاول مع غيرنا أن ننقذه من أوجه الفساد والتدهور والانهيار التي تتهدده في كل لحظة؛ نتيجة للنظرة الضيقة إلى الحياة نفسها، وانحصار تجاربنا الضحلة فيها على قيم - أو بالأحرى لا قيم! - المنفعة والمصلحة، بعيدا عن معايشة الأسرار والأعماق والمنابع الحقيقية للحياة في ثرائها وقيمتها، التي لا تعلو عليها قيمة سوى الحياة ذاتها التي هي القيمة والحقيقة الكبرى والنهائية.
Unknown page
لا شك عندي في أن القارئ قد فطن من الكلام السابق إلى أن التجارب التي أشرت إليها وشيجة القرب من تيار فلسفي ازدهر منذ عشرينيات القرن الماضي حتى أربعينياته، وذلك بفضل فيلسوفين كبيرين هما دلتاي (1833-1911م) الألماني وبرجسون (1859-1941م) الفرنسي، وبعض المعاصرين لهما مثل زيميل وكلاجيس وكيزرلبنج وفرويد وهانز دريش وغيرهم، على الرغم من أن تاريخها بعيد الجذور في الفلسفة والأدب الغربي بدءا من أنبادوقليس وبعض الرواقيين، حتى بعض خصوم عقلانية عصر التنوير المتطرفة، مثل هامان وهيردر وجوته الذي لم يتوقف في إنتاجه الأدبي كله عن الدعوة إلى الاندماج والتوحد مع الكل الحي، ومشاركة الفاعل الأبدي الخلاق في فعل الخلق والإبداع، ثم بعض فلاسفة الحركة الرومانسية والمثالية الألمانية - مثل شيلنج وشلاير ماخر حتى شوبنهور ونيتشه وعدد من الأخلاقيين وفلاسفة الوجود أو الوجوديين الذين تأثروا بغير شك بفلسفة الحياة ومناهجها القائمة على الفهم أو التفهم - لسبر أغوار الحياة وتبين معناها والغاية منها من ناحية، وللبحث في العلوم الإنسانية أو علوم الروح عن طريق هذا الفهم المزود بالتعاطف الوجداني، والبصيرة الكاشفة، والذوق اللماح والحدس - أو العيان - المباشر الذي يمكننا - على حد تعبير برجسون - من التوصل إلى ما هو فريد ونسيج وحده في الإنسان وفي الظواهر التاريخية والاجتماعية والأدبية والفنية التي تحاول أن تصل إلى مضامينها العقلية والروحية؛ وذلك تمييزا له عن منهج التفسير أو التعليل الخاص بالعلوم الطبيعية والمادية. وقد كان من الطبيعي أن يتعرض هذا المنهج الحدسي للنقد الشديد من عدد كبير من العلماء البارزين في العلوم الإنسانية نفسها، مثل ماكس فيبر وريكمان - الذي قدم فلسفة دلتاي للعالم الناطق بالإنجليزية - وهابرماس (الذي يقف اليوم على رأس فلاسفة الحداثة والتنوير والحوار والتواصل مع النزعة النقدية الاجتماعية التي أخذها عن مدرسة فرانكفورت النقدية)؛ إذ حاول هؤلاء العلماء أن يضفوا الصبغة العلمية الدقيقة على منهج الفهم أو التفهم؛
1
حتى لا يسقط في الذاتية والنسبة، أو في النزعة الصوفية والشعرية الخالصة لدى تعمق معاني التجارب الإنسانية عبر العصور، ومحاولة تكرارها أو معيشتها واستعادتها مرة أخرى (كما يفعل المؤرخ والروائي!) وذلك من خلال بعض الخطوات والإجراءات التي تسير عليها العلوم الطبيعية والتجريبية بعد أن يتم تطويعها للتطبيق على علوم الروح، أي العلوم الإنسانية، مثل الملاحظة وفرض الفروض والتحقق منها والقياس الإحصائي والاستقرائي؛ وبذلك لا يكتفي الباحث في العلوم الإنسانية بالفهم الغامض والحدس والتعاطف والحب والمعرفة النابعة منه ومن القلب، بل تخلع عليها الطابع العلمي والتعميمي المقنع.
هكذا نرى أن فلسفة الحياة لا تخلو في نهاية المطاف من الذاتية والنسبية، التي أخذتها - بصورة مباشرة أو غير مباشرة - عن كتابات جوته وبعض الداعين إلى اللامعقولية في مواجهة العقل التنويري الجاف كما سبق القول، وعن الإبداعات الرومانسية سواء في ذلك الإنشائية أو النقدية، وعن الثورة الهائلة التي أطلق نيتشه رياحها العاتية على المفاهيم التقليدية الراسخة عن العقل والحقيقة والتاريخ لكي تصبح مفاهيم حية، تخدم الحياة نفسها وتزيدها حياة عن طريق إرادة القوة - التي هي في النهاية إرادة الحياة - أي إرادة هذه الأرض وهذا العالم الذي نعيش فيه، التي تتجسد أو سوف تتجسد فيما سماه الإنسان الأعلى، الذي سيعلو على نفسه وحياته بالمزيد من عشق الحياة بكل لحظة فيها، وملئها بالإبداع والخلق المتحرر من ثقل الماضي ومن خوف المستقبل؛ حتى يجعل إرادة الحياة أكثر قوة وبراءة وتجددا وحياة.
أعتقد أنني لا أبالغ في شيء إذا قلت إنني قد طبقت على الدوام منهج التفهم أو الحدس والتعاطف القلبي والوجداني مع النصوص الأدبية والفلسفية، التي كنت أعكف على كتابتها أو قراءتها قبل أن أعرف أي شيء يذكر عن فلسفة الحياة وأصحابها وتياراتها وجذورها التاريخية التي سبقت الإشارة إليها. ولعلي - إذا أذن لي القارئ - قد «فهمت» منهج الفهم الحدسي وتقمصت روحه بفضل التعاطف، وهو الموهبة الوحيدة التي حبتنيها السماء والفطرة والوراثة أيضا (كانت أمي - رحمة الله عليها - رمزا حيا ومجسدا للتعاطف مع الخلق كله إلى حد البكاء المر عندما أقرأ عليها أخبار الحوادث أو الكوارث الطبيعية التي تصيب بلادا بعيدة عنا وبشرا لا صلة لنا بهم، ولا تعرف شيئا عن طبيعة حياتهم أو تاريخهم أو لغاتهم ... إلخ).
وإني لأتذكر الآن كيف كنت أتفهم - أي أتغلغل - في أعمق أعماق النص الشعري والأدبي الذي أقرؤه أو أحاول أن أترجمه وأدرسه، سواء كان نصا لبسافو الإغريقية أو لاو-تزو الصيني، أو لدستوفسكي أو تشيخوف اللذين أحببتهما أكثر من كل من حولي وما حولي، إلى الحد الذي كدت معه أن أفقد هويتي، وأصبح شبحا هائما في بيوت ونفوس شخصيات رواياتهم وقصصهم، أو كان نصا عويصا لأبي العلاء الذي أدمنت قراءته منذ أن كنت لا أزال صبيا حالما في المرحلة الثانوية، أو لجبران أو توفيق الحكيم اللذين عاشا في وعشت فيهما إلى حد التقمص أو التوحد اللذين أخشى ألا أكون قد استطعت حتى اليوم الحاضر - بعد أن بلغت العقد الثامن من عمري - أن أنجو من تأثيرهما، أو كان في النهاية نصا لقصيدة من مئات القصائد التي ترجمتها ودرستها، أو نصا فلسفيا من النصوص التي نقلتها من أفلاطون إلى هيدجر. لا أقول ما قلت بدافع من الزهو أو الغرور، فأنا بحمد الله متواضع تواضع القديسين، أو على الأقل أحاول أن أكون كذلك، منذ أن أمسكت القلم ودونت أول مقال أو قصيدة أو قصة أو مسرحية، كانت كلها - وربما ما فتئت كذلك! - متدثرة من الرأس حتى القدم بأثواب السذاجة والرومانسية الراسخة الجذور في كياني، والحزن الذي لم أفلح أبدا في الخلاص من حضور شبحه الجهم المتجهم في كل لحظاتي وكلماتي وأفعالي.
بقي الحال كذلك حتى قدر لي - أو قدر علي - منذ منتصف الستينيات أن أنتظم في سلك التعليم الجامعي، وأقوم بتدريس تاريخ الفلسفة الغربية من طاليس إلى هيدجر! وكان من الضروري أن أتطرق في دروس الفلسفة المعاصرة، إلى جذور فلسفة الحياة الكامنة في مذاهب الكانطيين الجدد، بشقيهم العلمي والتاريخي والأخلاقي، وأن أتعلق بأدب «جوته» وشعره ونثره تعلق الفراشة الصغيرة بالشجرة الضخمة الوارفة الظلال، والغنية بالثمار الناضجة، والزهور العبقة، والأوراق المتجددة الخضرة. ويبدو أن حماسي وانفعالي مع حبي الذي كنت أنقل به معلوماتي القليلة عن فلسفة الحياة، قد أعدى بعض طلابي النابهين الذين واصلوا الدرس الجامعي، ونبغوا فيه بعد أن اختفوا عقودا كاملة عن عيني . يؤكد هذا كتاب قيم أصدره في العام الماضي تلميذي الفاضل الكريم الدكتور محمود سيد أحمد، وتقدمت الإشارة إليه في هامش سابق. والواقع أنني شعرت بعد قراءة الكتاب بالعجز عن التعبير عن سعادتي وشعوري بأنني حققت - مع هذا الطالب السابق أو غيره ممن لا يزالون يذكرونني في جامعات القاهرة والخرطوم وصنعاء والكويت - ذلك المعنى الكبير الذي ينطوي عليه الدرس والتدريس بوجه عام، وهو أن يوجد بين الأجيال التي تجيء بعدنا من يتسلم الأمانة ويحافظ على سطوع شعلتها المضيئة، والأهم من ذلك وجود الأوفياء الذين يتمون ما عجزنا نحن عن إتمامه، ويحققون ما لم تسعفنا ظروفنا البائسة اليائسة من تحقيقه.
من المتفق عليه أن الفلسفات المختلفة، مهما أوغلت في التجريد وأمعنت في التنظير والنسقية، لها جذورها المؤكدة في الظروف والأوضاع التاريخية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي نشأت فيها، وفي «حالة الوعي» العام الذي كان سائدا أثناء عكوف الفيلسوف على بناء نسقه أو رؤيته الشاملة. ويظل من الصحيح أيضا أن الفلسفة، كغيرها من الأبنية الفوقية المختلفة كالأدب والفن، لا بد أن تعكس بصورة غير مباشرة ومتعالية أو متجاوزة نبض اللحظة التاريخية التي تكونت فيها، وتظل كذلك كلمة هيجل أو تعريفه للفلسفة في تقديري المتواضع صادقين صدقا مطلقا، وهو أن الفلسفة بنت عصرها، أو هي عصرها معبرا عنه ومبلورا في الأفكار. وقد سبق لي، في موضعين سابقين من كتاباتي في الفلسفة، تأكيد هذا المعنى بصورة ربما تكون أكثر رومانسية وشاعرية، أو أكثر التصاقا بالتجربة الإنسانية الحية؛ ففي الموضع الأول من كتابي المبكر مدرسة الحكمة (الطبعة الثانية، دار شرقيات، القاهرة، 2006م، ص9) ترد هذه العبارات: «إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ البحث في المشكلات الفلسفية، قبل أن يكون مجموعة من المذاهب والنظم والنظريات. والفلاسفة أناس مثلنا من لحم ودم، لا آلات مفرغة تصنع أفكارا مجردة وكلمات جافة مخيفة. لقد واجهوا مشكلات عذبتهم، ووقفوا أمام ألغاز في الكون وفي أنفسهم حاولوا أن يجدوا لها حلا.» وفي الموضع الثاني (من مقدمة كتابي «لم الفلسفة؟» منشأة المعارف بالإسكندرية، 1981م، ص11 ) ترد العبارات التالية: «إن المشروعات الفلسفية بطبيعتها متعددة الأهداف، وهي بالرغم من طموحها إلى المطلق، أعمال بشرية مؤقتة ومحدودة كسائر أعمال البشر. ومع ذلك فأنت محق إذا وجدت نفسك تختار إحداها وتفضلها على غيرها؛ فطبع الإنسان هو الذي يحدد فلسفته - كما تقول عبارة وليم جيمز - واختيار الإنسان لإحدى الفلسفات يتوقف على طبيعته كإنسان كما يقول فشته. وكل واحد منا يميل في النهاية إلى فلسفة دون غيرها. قد تكون وراء هذا الميل نزعة عقلية أو علمية أو واقعية، رغبة في الإصلاح والتغيير الاجتماعي، أو حاجة إلى الراحة والتدبر والعزاء، شغف بالمعرفة لذاتها أو ... إلخ، ولكنه في النهاية يميل إليها بدافع غلاب يمتد إلى جذوره نفسها؛ إذ لا يكفي - إذا كان جادا ومخلصا بحق - أن يكون له حظ من البراعة والذكاء لمعرفة إحدى الحقائق، بل لا بد أن تملك هذه الحقيقة عليه نفسه، أن يجربها ويتعذب بها بما هو شخص وإنسان، خاصة إذا كانت تتعلق بمعنى وجوده وبمعنى العالم وحقيقة الحياة.»
من هذين النصين «القديمين» نلاحظ مدى قربي «الفطري» من فلسفة الحياة، حتى قبل أن أقرأ في بعض أعمال أصحابها، وفي مقدمتهم برجسون (من خلال الكتاب الرائع عنه لأستاذي وزميلي الدكتور زكريا إبراهيم رحمة الله عليه) ودلتاي (لا سيما من خلال كتابه التجربة والأدب)، وبعض الأعمال القليلة للودفيج كلاجيس وجورج زيميل وماكس شيلر القريب منهم، وكذلك مدى قربي بحكم العاطفة والتعاطف والفهم عن طريق القلب والحب قبل العقل، من فلاسفة الوجود أو الوجوديين (من باسكال ونيتشه وشوبنهور، وبعض أعلام التصوف في الشرق والغرب، إلى هيدجر وكاسبرز وكامي، الذين وضعنا لكل منهم كتابا مستقلا ...)
بهذه المعاني السابقة التي تتحول معها الفلسفية والانشغال بها والكتابة فيها إلى تجربة حية، أعتقد - إن لم أكن مخطئا أو مبالغا - أن معظم المقالات والدراسات التي ستطالعك وتطالعها في هذا الكتاب هي تجارب عشتها؛ أي كابدتها وعانيتها، حتى ولو كانت تتسم في بعض الأحوال بالنزعة النقدية والتحليلية، أو تميل إلى أن تكون علمية، ولا تخلو من موضوعية بعيدة عن الذات وهمومها وتجاربها، حتى هذه الدراسات والمقالات من النوع الأخير كنت كثيرا ما أحولها أو تتحول عند صياغتي لها إلى تجارب ذاتية وشخصية.
Unknown page
بعد هذا التمهيد يمكنني أن أستعرض مع القارئ باختصار شديد بعض الظروف النفسية والاجتماعية التي أحاطت بنشأة هذه المقالات، وبعض التجارب الحياتية والفكرية التي دفعتني إلى تدوينها في لحظتها قبل أن تغرق كالأسماك الصغيرة في بحور النسيان والغياب والسأم التي تكتسحنا موجاتها كل يوم وبلا رحمة، ولعل هذه البحوث والمقالات - إذا جاز هذا التعبير - أن تكون جزءا لا يتجزأ من سيرة حياتي العقلية والروحية التي تمزقت طويلا بين البحث والإبداع، وتكسرت أمواجها على صخور الغدر والتجاهل اللذين طالما واجهتهما وحاولت أيضا أن أتجاهلهما؛ حتى أستطيع على الأقل أن أواصل التنفس.
وأبدأ بالمقال الأول في هذا الكتاب، فأقول إنني كتبته في العام 1993م متأثرا بالصور المؤلمة التي كانت تبثها وسائل الإعلام عن الحرب أو بالأحرى المجزرة التي أقامها «أبطال» الصرب لمسلمي البوسنة، ووقف العالم فترة طويلة من مذابحهما موقف المتفرج. كنت أيامها أعمل في جامعة الكويت، وأفكر كثيرا في جدوى الفلسفة ودورها الممكن والضروري في الاهتمام بحياة الناس اليومية وبالقضايا التي تشغل وعي وضمير الإنسان العادي البسيط (أو الرجل الصغير)، وإمكانات تواصل الفلسفة معه لتوسيع آفاق هذا الوعي، ومعرفة المعايير التي يبني عليها أحكامه وقيمه، ومساعدته على تكوين رؤية للعالم والحياة تساهم في دفع حركة تاريخه ومجتمعه المحلي نحو التطور والاستنارة، وترسيخ قيم الحرية والعدل والخير والتسامح، والتواصل مع الغير أفرادا وشعوبا وثقافات لزرع شجرة الأمل في مستقبل بشري أفضل وأجمل. ودفعتني مذابح البوسنة أيضا إلى التفكير الطويل في إمكان وضرورة قيام محكمة للضمير على المستوى المحلي والدولي، على غرار محكمة راسل وسارتر وغيرهما من كبار حكماء العالم وعلمائه وكتابه، لا لإدانة حرب فيتنام وحدها، بل كل أشكال الظلم والقهر والقمع وإذلال الإنسان وتشويهه وإهدار كرامته وحقوقه الطبيعية في الحرية والسعادة والتفكير والتعبير الحر.
مرت الأيام ولم أستطع أن أبدأ المشروع الأول، ولا حتى استطعت أن أعرف من أين أبدؤه، ثم داهمتنا أشكال أخرى من العنف وإرهاب الجماعات المتطرفة والدول، وتابعنا العدوان الوحشي على لبنان، والعدوان اليومي المستمر على أشقائنا في فلسطين، والغزو الهمجي للعراق الذي حول أم التراث والشعر والعلم العربي الإسلامي إلى عماء دموي، أو مقبرة جماعية لا ندري متى سيخرج منها هذا البلد العزيز. لقد آن الأوان للدعوة الملحة لتشكيل محكمة الضمير من كبار حكماء البشرية وعلمائها وكتابها بكل وسيلة ممكنة، كما آن أوان مساهمة المتفلسفين الصادقين من شتى البلاد في جعلها حقيقة حية لإنقاذ مصير البشرية من حمق الإرهابيين والمستبدين وكل مجانين العصر. هل ستصادف الكلمات السابقة أي صدى لدى شباب المشتغلين بالفلسفة وبالمعرفة بوجه عام؟ وهل يمكن أن يظهر من بين الأمواج العكرة والاضطراب والإحباط واللامبالاة من يهتم بالكتابة عن «فلسفة» رجل الشارع أو الرجل العادي البسيط؟ ربما لا تتحقق هذه الآمال - إن قدر لها أن تتحقق وترى النور! - إلا بعد أن أصبح أنا وأمثالي ترابا وذكرى لا يتذكرها أحد، لكن المهم قبل كل شيء وبعد كل شيء هو بقاء شجرة الأمل باسقة وشعلة نجمته متوهجة، مهما ادلهمت الظلمات من حولنا.
وتأتي مقالة «الأزمة أم الإبداع» التي أشعر اليوم - بعد كتابتها بأكثر من خمس عشرة سنة - أنها كانت صدى «نظريا» أو انعكاسا تجريديا غير مباشر للأزمة الناجمة عن أم المحن (الغزو العراقي الغاشم الأحمق لدولة الكويت الصغيرة المستنيرة) في تاريخنا العربي والإسلامي الحديث والقديم على كثرة محنه وفتنه. كنت أيامها أعيش مع أسرتي في القاهرة خلال الإجازة الصيفية. قضت المحنة بأن أمضي عاما كاملا في انتظار تحرير الكويت والعودة إلى عملي بجامعتها، وكان من الطبيعي أن تجدد أم المحن تفكيري وانشغالي الدائم بمشكلة التسلط والطغيان، وأن تؤكد سوء ظني به وإلحاحي المستمر في معظم كتاباتي الفلسفية والأدبية السابقة، بل في أكثر قصصي ومسرحياتي، على التخلص من جميع أشكاله وصوره المحبطة في شتى ميادين حياتنا، وكنت قبل ذلك بشهور قليلة قد فرغت من كتاب ضخم عن أدب الحكمة البابلية، وأتاح لي أن أتعمق «جذور الاستبداد» والطغيان في العراق القديم، وأن أطيل التفكير في قضية الحرية الغائبة عن حياتنا العربية لا عن العراق وحده، وأنشغل بطبيعة الحال بطاغيته وبطله الملحمي «جلجاميش»، واغتنمت فرصة الإجازة الإجبارية، فعكفت على تجسيد المخطط القديم عن هذا البطل في مسرحية ملحمية سميتها «محاكمة جلجاميش» (ونشرتها دار الهلال في كتابها الشهري سنة 1992م)، ثم فاجأني صديقي العزيز العالم الكبير والناقد الأدبي الفذ الدكتور عز الدين إسماعيل - رحمة الله عليه - بأن طلب مني مقالا عن الإبداع في الفلسفة لينشر في أحد أعداد مجلة «فصول» المرموقة التي كان يرأس تحريرها. لم يكن همي في الحقيقة هو الوقوف عند نقد الفلاسفة لمذاهب بعضهم البعض ومناهجهم لإبداع مذاهبهم وأذواقهم ومناهجهم الجديدة؛ فتاريخ الفلسفة منذ أن نقد أنكسمسمندروس أستاذه طاليس هو تاريخ النقد المتصل ونقد النقد. أضف إلى ذلك أنني كنت مشغولا بتهيئة نفسي لإعداد بحث عن المقولة التي شاعت في السنوات الأخيرة، خصوصا عند هيدجر ورورتي - كما سبق القول - وإن كانت جذورها واضحة عند ماركس ونيتشه، وهي مقولة نهاية الفلسفة والميتافيزيقا التقليدية، وضرورة تجاوزها بلغتها ومصطلحاتها ومشكلاتها الأبدية لإبداع «فكر وجود» جديد، أو تكييفها للممارسة العملية والثقافية في الواقع العملي. صحيح أنني لم أتم هذا البحث أبدا، ولم تبق لدي رغبة ولا قدرة على إتمامه، لكن الأمر في نظري كان وما يزال هو إبداع الذات العربية لذاتها ووجودها وقدرها وحاضرها ومستقبلها من خلال كفاحها التقدمي المستنير وعلى ضوء تراثها العظيم، إبداعا جديدا تؤكد به حريتها ورسالتها وجدارتها بالإسهام في الجهد المشترك لإنقاذ البشرية التي تقف على شفا الاندثار.
وحتى لا أقع في التعميم الإنشائي كتبت هذا البحث عن أزمات التناقض المنطقي والتاريخي، التي رأى بعض الفلاسفة أن يخرجوا منها بإبداع رؤى ومناهج أخرى جديدة. هل وقع في ظني آنذاك أن تخرج أمتي العربية - التي شقت المحنة جسدها، وصرعت حلمها بالوحدة والتضامن - من تلك الأزمة، وتبدع ذاتها وحاضرها إبداعا جديدا؟ وكيف تصورت هذا وما زلت أتصور إمكانه مع تفاقم المحنة، وتحول العراق بعد الغزو الأمريكي إلى جحيم دموي، واستمرار العدوان الصهيوني اليومي على شعب فلسطين، وتصميم القوة الكبرى وحلفائها على التربص بنا ونهب ثرواتنا وإذلالنا؟ إنني لم أتخل أبدا حتى في شيخوختي الراهنة عن التمسك براية الأمل، ويقيني أن «أم المحن» قد أكدت في الوعي العربي العام حتمية الحرية والديمقراطية إذا أردنا أن يكون لنا إبداع أو حتى أثر للوجود في أي مجال. ولقد أخذت بعض دولنا بالتجربة الديمقراطية، حتى ولو بقيت في بعضها على المستوى الشكلي والقانوني وحده، واقتنع الجميع - الذين تكتل بعضهم بالفعل لتحقيق مصالح مشتركة - بحتمية الوحدة العربية على أسس واقعية ومصلحية جديدة، وبقي على المشتغلين بالفلسفة وبالهموم الثقافية بوجه عام أن يواصلوا إضاءة الطريق نحو إبداع وجود عربي يرتكز على بديهية الحرية، وتحرك تاريخه وحاضره القيم الحية والضمائر اليقظة الطاهرة. والواقع أن تتابع موجات الاجتهادات الفلسفية المبدعة، منذ جيل أساتذتنا إلى الجيل الحاضر من إخوتنا وأبنائنا الذين يصعب حصر أسمائهم، يجعلني أزداد تشبثا براية الأمل على الرغم من كل المحن، ومن خطر الوقوع كل لحظة - أنا ورايتي! - في مستنقع التشرذم والفساد والغدر والتآمر والتبلد، الذي تزكم روائحه الكريهة أنف كل عربي مؤمن بأن التوحد هو قارب الإنقاذ الوحيد من مشانق المصاب التي تزحف ليل نهار على رقابنا.
أما عن «النظرية النقدية»، فقد كتبت هذه المقالة أثناء الإجازة الاضطرارية التي سبق أن أشرت إليها، وكانت مجلة «الوحدة» التي يصدرها المجلس القومي للثقافة العربية هي التي طلبتها مني لتنشر في عدد نوفمبر 1992م، الذي كرسته للفلسفة والفكر المعاصر. وقد رحبت بهذا التكليف - على الرغم من كراهيتي لأي تكليف من أي نوع كان - لأنني كنت وما زلت مقتنعا بأن الحياة والفكر لا يستقيمان بغير نقد حر مستقل، وأن ممارسة النقد في كل ميادين الحياة الاجتماعية والروحية هو الدليل الناصع على الاعتراف بحرية الناس وحقهم المقدس في التعبير والتفكير بعيدا عن كل المخاوف والضغوط. والحقيقة أن قصتي مع النقد قصة طويلة وطريفة؛ فقد بدأت أومن بضرورته القصوى بعد أن فرغت من قراءة «نقد العقل الخالص» كلمة كلمة وسطرا سطرا أثناء دراستي في جامعة فرايبورج تحت إشراف أستاذي فولفجانج شروقه، الذي درس على يدي هسرل وهيدجر عندما كانا من أبرز الأساتذة فيها، تشرفت بعد رجوعي إلى الوطن بترجمة كتابه الأساسي «فلسفة العلو» (حوالي سنة 1972م). لم يكن أستاذي من النقديين بأي شكل من أشكالهم وتياراتهم العديدة؛ إذ اتجه نحو تصوف دنيوي أو عالمي لم يزل يتابع كتابة حكمه وشذراته العميقة فيه. كان أستاذي الأول إذن في النقد هو كانط صاحب الفلسفة النقدية المعروفة، لكني - مع إعجابي به إلى حد الانبهار والإكبار - لم ألبث أن مارست عليه النقد المعروف، وهو أن نقده للعقل معرفي بحت، ويفتقر إلى الأبعاد التاريخية والاجتماعية المتغيرة التي تغير معها بنية العقل وأدواته، ثم حانت فرصة أخرى للتعرف على أحد التيارات النقدية المعاصرة التي لم تخل من العدوانية والتهجم الشديد على التيارات الفلسفية المعاصرة لها، كما لم تخل - في تقديري - من الرومانسية ومحاولات التشويه المغرض لكل من الماركسية في الشرق والليبرالية الديمقراطية في المجتمعات الصناعية الغربية دون تقديم بديل مضاد ومقنع. كان ذلك عندما عكفت في أواخر سنة 1978م، وفي ليل صنعاء الطيبة الأصيلة المنعم بالصمت والسكينة والهدوء، على قراءة بعض أعمال رواد النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت. وكنت منذ الأيام الأولى لوجودي باليمن قد بدأت الإعداد لكتابين؛ عن أفلاطون (وهو الذي ظهر بعد ذلك تحت عنوان: المنقذ، قراءة لقلب أفلاطون)، وعن جدوى الفلسفة أو عدم جدواها بالنسبة لعالمنا العربي المتخلف والممتحن بالهزائم والمصائب والأخطار التي تهدده من داخله ومن خارجه. وظهر الكتاب في سنة 1981م تحت عنوان «لم الفلسفة؟» كان من المحتم علي أن أقدم دفاعا نقديا عن ضرورة الفلسفة في ذلك الوقت وحتى الآن أكثر من أي وقت مضى. وتيسر لي أن أطلع على بعض كتابات أدورنو، مثل كتابه عن المصطلح الفلسفي ومقاله عن ضرورة الفلسفة، إلى جانب كتاب زميله ومؤسس مدرسة فراكفورت النقدية ماكس هوركهيمر عن الوظيفة الاجتماعية للفلسفة، والكتاب الشهير الذي اشتركا في تأليفه، وهو «جدل التنوير». لم تف هذه القراءات بالحاجة إلى معرفة هذه المدرسة معرفة كافية، وجاء تكليف مجلة «الوحدة» بعد ذلك، فنبهني إلى ضرورة التعمق في أفكار هذه المدرسة على قدر الطاقة، وبلغ إلى علم أستاذي الحبيب فريتس شتيبات - رحمة الله عليه ورضوانه - من إحدى رسائلي إليه أنني مشغول بالنقد وبهذه المدرسة، فأرسل إلي على الفور كتاب فيجرهاوس الضخم عن مدرسة فرانكفورت النقدية - تاريخها وتطورها النظري وأهميتها السياسية. وغرقت في الكتاب، وفي تدوين ملاحظاتي النقدية على هذه المدرسة، في مقال طويل نشر في المجلة السابقة الذكر، ورجعت إليه بعد ذلك فنشرته في سلسلة حوليات كلية الآداب بجامعة الكويت (الحولية الثالثة عشرة، الرسالة الثانية والثمانون، 1413ه/1993م)، وذلك بعد إضافة تعريفات وافية بأهم أعلام هذه المدرسة (أدورنو - وهوركهيمر - وماركوز - وهابرماس، إلى جانب أهم الرواد الذين أثروا عليهما، وهما جورج لوكاتش والفيلسوف الطوباوي إرنست بلوخ).
سأكون مقصرا في حق نفسي وثقافتي لو اقتصرت على ذكر المصادر والمنابع الغربية السابقة؛ فقد طالما تأثرت ببعض الأعلام العرب المعاصرين من أساتذتي الذين أدين لهم بكل العرفان والتقدير؛ لفضلهم العظيم في تكوين عقلي ورؤيتي النقدية. وإذا كانوا أكثر من أن تحصيهم الذاكرة، فأكتفي بتسجيل هذه الأسماء الكريمة: زكي نجيب محمود رحمة الله عليه، الذي هزتني وزلزلتني - منذ استمعت إلى محاضراته التي كان يلقيها علينا في أواخر الأربعينيات - ثوريته النقدية ونقده الثوري لمعظم المفاهيم والمعايير والقيم، التي صور لنا التلقين والتقليد أنها راسخة وثابتة وأبدية؛ وأستاذي وصديقي العظيم فؤاد زكريا - شفاه الله وعافاه - الذي طالما بهرتني بصيرته النقدية الحادة الثاقبة في كل ما كتبه على وجه التقريب. وأخيرا يسعدني تزايد الاهتمام بهذه المدرسة في السنوات الأخيرة في كل من لبنان ومصر، وإقبال بعض أبنائنا على تسجيل رسائلهم العلمية عن بعض أعلامها البارزين، وبعض القضايا التي تركتها معلقة ودون حسم، ومن أهمها قضية «النظرية النقدية» نفسها التي لم يوفق أصحابها إلى بلورتها في صورة مقنعة.
ونأتي إلى المقال التالي عن ماكس شيلر، الذي أعده نموذج الفيلسوف الذي اقترب على الدوام من هموم الناس وقضاياهم ومشكلاتهم اليومية الملحة، كما لم يغب عنه شيء من تطورات العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية في عصره . كان في نيتي أن يكون هذا المدخل مجرد مقدمة عامة لكتاب كبير عن فيلسوف «القيم المادية» القائمة على عواطف وانفعالات الشخص الإنساني، وأن يكون تمهيدا للأنثروبولوجيا الفلسفية التي احتشد لها سنوات طويلة، وكان في عزمه أن يصدرها في مجلد ضخم، لكن الظروف والمشاغل والهموم التي عصفت بحياته المضطربة لم تسعفه لتحقيق مشروعه الكبير، فتمخض في أواخر حياته عن كتاب صغير هو «وضع الإنسان في الكون»، استطاع بشق النفس أن يرسم فيه المعالم الرئيسية لتلك الأنثروبولوجيا التي يعد أحد مؤسسيها الكبار، وصدر قبل رحيله المفاجئ (عن دار فراتكه في برن وميونيخ) بأسابيع قليلة عندما داهمته أزمة قلبية غادرة، وكنت كذلك قد نويت على ترجمة هذا الكتاب الصغير، لكن قراءتي المتأنية له أثبتت عجزي عن فهم المعلومات والمصطلحات العلمية الواردة فيه فهما صحيحا، بجانب عجزي عن متابعة التطورات اللاحقة في العلوم الطبيعية والإنسانية، التي لا شك في أنها غيرت كثيرا من الحقائق والمعطيات التي ذكرها، واستند إليها في تمييزه لوضع الإنسان العاقل والقادر على الحب عن أوضاع جميع الكائنات الأخرى في سلم الوجود الطبيعي والحيوي والعقلي. أضف إلى هذا ندرة المراجع التي وجدتها تحت يدي، لا سيما في مؤلفاته التي تعذر علي التوصل إليها، بجانب ما أصابني مع التقدم في السن من ضعف الصحة والبصر؛ لذلك اكتفيت بهذا المدخل الشامل الذي لا يخرج في الحقيقة عن أن يكون تضمينا أمينا لكتاب واف عن حياة الفيلسوف وفكره الفلسفي للأستاذ فيلهلم مادير، وهو الكتاب الوثائقي الذي صدر سنة 1980م في سلسلة «روفولت» الشهيرة، التي تضم وثائق مصورة عن حياة وأعمال عدد كبير من مشاهير الفلاسفة والأدباء والفنانين في كل العصور والثقافات. للأمانة أقول أيضا إن الإشارات إلى أعمال شيلر نفسه مأخوذة عن الكتاب المذكور، وإنني لم أتصرف فيه إلا في القليل النادر. وأملي أن يكون فيه بعض الفائدة لشباب المشتغلين بالفلسفة الذين أتمنى أن يهتموا، في دراسات أعمق وأوسع، بفيلسوف القيم الكبير في وقت ما أحوجنا فيه إلى القيم الحقيقية، التي كادت أن تنسى وتداس بالأقدام بعد أن غلبت على حياتنا وفكرنا وسلوكنا «اللاقيم» السلبية والنفعية التي شوهت شخصية المصري، وسلبته الوعي بحاضره ومستقبله ورسالته الإنسانية والأخلاقية والقيمية، على يد عدد هائل من الشطار والانتهازيين واللصوص الكبار والصغار، الذين لم يرعوا للوطن ولا للحرية والعدل الاجتماعي حرمة ولا ذمة، ولا تذكروا للحظة واحدة أن بلدهم هي مهد الضمير، وموطن «معات» حارسة الحقيقة، والناموس الأخلاقي والكوني الخالد.
وهذا الحوار الذي أثبته هنا مع الأب والمعلم الحكيم، الذي أتمنى أن يستمد منه الشباب المثل الأعلى والقدوة السامية، هو في الحقيقة تجربة حية بالمعنى الذي وصفته في بداية هذا التمهيد، وهي تجربة لا أكف عن استعادتها بالمعنى الذي ألح عليه فيلسوف الحياة دلتاي، ولا أمل اللجوء إلى دفئها وحنان صاحبها وحكمته ورعايته (التي أسبغها على عدد كبير من أبنائه العقليين والروحيين الذين تشرفت بأن أكون واحدا منهم).
أقول إنني كثيرا ما أستعيد هذه التجربة الحية النادرة بين تجارب حياتي القليلة، التي قدر لي فيها أن أحب أو أفرح أو أسعد لحظات برعاية راع أو بنظرة محب وفي، وذلك كلما ضربتني شمس صحراء الغربة والوحدة والإحباط والمرارة. إن في تجربة هذا الحوار الشيق والعميق عزاء أي عزاء، وهو يغنيني ويغني القارئ عن المزيد.
Unknown page
ليس عندي كذلك ما أضيفه إلى هذا المقال سوى بعض المعلومات التي لا تهم القارئ العادي، وإن كان من الممكن أن تفيد أحد الباحثين أو المؤرخين «لأم المحن» وتوابع زلازلها الجهنمية، التي ما زالت تهز العراق الشقيق، وتغرقه في جحيم دموي، وتمزق الصف العربي، وتكسر أجنحة حلم الوحدة العربية التي لا بديل عنها إن أردنا أن نوجد ونكون: (أ)
كنت في أوائل التسعينيات قد كلفت من قبل رئيسي فؤاد زكريا، الذي هو في الوقت نفسه أستاذي وصديقي العظيم، بتدريس الفلسفة الشرقية بجامعة الكويت. قبلت التكليف راضيا وشاكرا، ورحت أشبع جوعي وظمئي القديمين (طوال أربع أو خمس سنين) للاطلاع على ما أقدر عليه من نصوص الفلسفة الشرقية؛ من الحكماء الدينيين والأخلاقيين في مصر القديمة وفي سومر وبابل وآشور، إلى الزرادشتية والبوذية والطاوية والكونفوشيوسية، وذلك على الرغم من التحفظ الذي أبديته للأستاذ والصديق الكريم، وهو أن دراسة «الحكمة» أو الفلسفة الشرقية دراسة جادة لا تتسنى أبدا بغير العلم بالنصوص الأصلية، وما أقل العارفين بها في بلادنا العربية! (ب)
وشاء حظي - السعيد في هذه المرة! - أن أعثر في مكتبة جامعة الكويت (كنا في أواخر الثمانينيات، وقبل المحنة التي أطبقت كوارثها على الكويت وعلينا جميعا في أول شهر أغسطس سنة 1990م)، أقول شاء حظي أن أعثر على كتاب قيم لعالم الآشوريات الإنجليزي الكبير لامبرت، يضم صورا للألواح الأكدية للنصوص الكاملة لما يسمى بأدب الحكم البابلية (صدر الكتاب تحت عنوان أدب الحكمة البابلية، سنة 1967م، أكسفورد، مطبعة كلاريندوز). شدني الكتاب كما جذبتني الحضارة البابلية بجلالها وسحرها وغموضها أكثر من أربع سنوات، تسنى لي فيها أن أعرف عن السومريين - شعب الثقافة الأولى في وادي الرافدين - ما لم أكن أعرف، وأن أعيش تجربة حية وإن تكن كئيبة وقاسية مع التاريخ البابلي والآشوري السياسي والاجتماعي، بل مع عالمهم الأخروي الذي لم ألمح فيه شعاع أمل واحد، وعكفت على ترجمة أدب الحكمة البابلية بأكمله، وقدمت له بمقدمة طويلة عن الحكمة الشرقية بوجه عام، وجدارتها بأن تكون هي فجر الفلسفة العقلية التي نعيش تراثها العظيم، منذ طاليس وفيثاغورس حتى هيدجر وهابرماس ورورتي وغيرهم، وكان أن أتممت كتابي «حكمة بابل» بعد جهد ثلاثة أعوام متصلة، وسلمته لسلسلة عالم المعرفة، التي ظهر فيها في عدد ديسمبر سنة 1994م تحت عنوان مختلف وهو جذور الاستبداد، قبل رجوعي للقاهرة في إجازة العام الدراسي، ثم صدمتي في أم المحن التي أطلق كارثتها شيطان العراق الأحمق وطاغيته الغبي. وكان من الطبيعي أيضا أن أغرق في دراسة درة الحضارة البابلية، وهي ملحمة جلجاميش، التي توفرت عليها في «الإجازة الاضطرارية» التي سبق أن أشرت إليها، واستوحيتها في نفس الوقت مسرحية ملحمية ظهرت في سلسلة كتاب الهلال سنة 1992م. ولما رجعت إلى مقر عملي بعد التحرير بدا لي من الواجب أو من الخير أن ألحق المسرحية بترجمة جديدة للملحمة الشهيرة (إذ لم ترضني الترجمات العربية السابقة كل الرضا)، وتفضل قسم النشر بجامعة الكويت بنشر هذه الترجمة عن الألمانية بعد أن تكرم صديق العمر العزيز والمتخصص في الساميات، وهو الدكتور محمد عوني عبد الرءوف، بمراجعتها على الأكادية مراجعة دقيقة (وقد نشرتها بعد ذلك دار النشر أبولو، ثم هيئة قصور الثقافة ...)
وأخيرا لا أجد ما أقوله عن الملحمة وافتتاني بكنوزها الأدبية والفلسفية التي لا تنفد، أكثر مما قلته في المقدمة المسهبة للترجمة، وفي سياق كتابي «جذور الاستبداد». ها هي المحنة ما زالت مستمرة، وها هو شعب العراق الحبيب الموهوب، والغني بتراثه من العلماء والشعراء منذ عهد العباسيين، بل منذ الألف الرابعة قبل الميلاد، ها هو يذبح أبناؤه كل يوم، وينهب تراثه، ويدمر تدميرا. والمؤامرة الصهيونية-الأمريكية تحكم على رقبته شبكتها العنكبوتية الدموية، وأخطبوطها الكابوسي الرهيب، ومشنقتها الكئيبة التي قضت على الطاغية المغرور بطريقة مهينة لكل العرب. ولسنا ندري متى يرجع العراق الحبيب لأمته مرفوع الرأس موفور الكرامة، ولا متى نخرج نحن من موقفنا المخجل المهين، موقف المتفرج، فيشارك كل منا على قدر طاقته في البعث الجديد لنهضة هذا الشعب البطل، الذي جنى عليه وعلينا الطاغية الذي طالما تمسح في جلجاميش، ووضع صورته - كما سمعت - إلى جانب صورة للبطل السومري القديم على مدخل مدينة كربلاء، وليته تعلم شيئا منه أو حاول أن يتطهر مثله من ذنوبه القاتلة التي أوقع شعبه في حفرتها المميتة كما أوقع العرب أجمعين. «تا-وتي-كنج»: لست في حاجة للكلام عن هذا الكتاب الشهير عند كل المثقفين الحقيقيين، سوى أنه كان وما يزال أحب كتاب إلى قلبي. والمقال الذي ستطالعه عنه كان في الواقع استجابة لمجلة الهلال، وجوابا على سؤالها الطريف عن أحب الكتب إلى قلبك. لم أتردد في القول بأنه هو كتاب الطريق (أو التاو، وهو مصطلح فلكي في الأصل، لكنه أصبح عند أتباعه الطاويين هو طريق الحقيقة أو طريق الحكمة)، والفضيلة (تي) التي تترجم أحيانا بالحياة وأحيانا أخرى بالحقيقة.
وقد سبق أن نقلت هذا الكتاب الخالد إلى العربية حوالي سنة 1964م، وظهر في سلسلة الألف كتاب الأولى عن دار النشر سجل العرب، وقرأه الكثيرون الذين أمكنهم التوصل إليه، وأحبه الكثيرون ممن تجاوبوا مع فلسفته الصوفية التي تتلخص في البساطة والوداعة وعدم الفعل؛ أي البعد عن كل ما يجرح السكينة ويورث العنف والقلق والصراع. إنه كتاب الديانة الطاوية التي تدعو للرجوع إلى الطبيعة أم الخير كله، والتمسك بالهدوء الذي يغلب القوة والطغيان والجبروت، كما تفتت الصخر الجامد قطرات الماء الرقيقة.
قلت إني لا أجد عندي ما أضيفه عن هذا الكتاب؛ لأن المقال يكاد أن يكون تلخيصا وافيا لمعناه ومضمونه الذي عرضه الحكيم لاو-تزو (من القرن الخامس قبل الميلاد) في واحد وثمانين مقطوعة شعرية، قمت بنقلها إلى العربية (عن الترجمتين الألمانية والإنجليزية لكل من ديبون وآرثر والي ...)
أستطرد قليلا فأقول إني قلت في مقدمة الكتاب الذي مرت على ترجمته للعربية أربعون سنة ما معناه أنني أدعو الله أن يقيض له من أبنائنا من يترجمه عن الصينية مباشرة. وقد سمعت قبل أيام أن أحد أساتذة اللغة الصينية في كلية الألسن، وهو الدكتور محسن سيد الفرجاني، قد ترجمه إلى العربية ونشره ضمن سلسلة المشروع القومي للترجمة (التي سبق للمترجم الفاضل نفسه أن نشر فيها محاورات كونفوشيوس). لا أملك الآن إلا الترحيب بهذه الترجمة التي لم أطلع بعد عليها ولا أستطيع الحكم عليها، ولكنني آمل أن تكون قد وفقت في التعبير عن المعاني الصوفية والإنسانية العميقة في هذا الكنز الصوفي بلغة عربية مكافئة للنص. ويبقى في النهاية أنني استلهمت من هذا الكتاب قصة طويلة نشرت في الكتاب التذكاري الذي أعده الأبناء والتلاميذ الأوفياء لأستاذهم الناقد الكبير الدكتور محمد حسن عبد الله (كلية دار العلوم، الفيوم، 2001م).
لا أحسبني في حاجة لإطالة الكلام عن «عالم صوفيا»، ولا عن «ثورة إلى الأبد»؛ فالأولى رواية تحقق الزواج السعيد بين الفلسفة والفن؛ إذ تعرض أهم الأفكار والشخصيات والمذاهب في تاريخ الفلسفة الغربية، وتضعها في قبضة صبية صغيرة؛ ومن ثم في قبضة أي إنسان عادي بسيط، ليعرف نفسه، ويسأل السؤالين الكبيرين: من أنا؟ وما العالم أو الوجود الذي يحيط بي؟ ولم يكن هدف المؤلف النرويجي هو إلقاء دروس في الفلسفة على فتاة صغيرة بريئة، وبلبلة خاطرها بالاندهاش والحيرة والارتباك التي هي أصل التفلسف، بل كان هدفه في تقديري هو إيقاظ وعي البشر العاديين على حقائق عالمهم وأباطيله، ودعوتهم لجعل الحقائق الفلسفية حقائق حية، والتكاتف مع بعضهم لتغيير الواقع وتخليصه من الظلم والجهل والقبح والشر والعدوان. هو في النهاية حلم يوتوبي جميل في رواية شديدة الجمال، ليتنا نظل نحلم به، ونواجه به واقع العالم السيئ والعصي على التغيير! أما الثورة إلى الأبد فتعود إلى أب الثوار في كل العصور والحضارات، بل أب البشر وخالقهم العطوف عليهم في الأساطير الإغريقية، وهو بروميثيوس سارق النار الشهير من آلهة الأوليمب، وذلك من خلال شذرة مسرحية ألفها جوته الشاب في مرحلة الجموح والإيمان بالعبقرية لدى الفرد العبقري المبدع، وهي التي تسمى مرحلة العصف والدفع في تاريخ الأدب الألماني. هل ينجح هذا المقال في إقناع القارئ بضرورة الإيمان بالثورة الخالدة والتمسك بها في كل مجال؟ وهل يغري المبدعين بأن يكونوا بروميثيين في كل ما يبدعون؛ أي يكونوا ثوريين بحق؟
وأخيرا تأتي سيرة قصيرة وحوار قصير أيضا، ربما ساعدا مع التجارب السابقة على إلقاء شيء من الضوء على تجربتي الفلسفية المتواضعة والمحدودة. في هذه السيرة وفي الحوار شيء من الاعتراف الصادر عن القلب بعد رحلة العمر مع الفلسفة والأدب، نشرت السيرة في باب التكوين الذي دأبت مجلة الهلال على مدى سنوات طويلة على استكتاب عدد كبير من الأدباء والفنانين والعلماء والأعلام في شتى الميادين ودعوتهم للمشاركة فيه، وذلك في عدد سبتمبر سنة 1990م أثناء الإجازة الإجبارية التي سبقت الإشارة إليها، وربما انعكست عليه ظلال من نيران الحزن والفجيعة التي أشعلتها أم المحن التي لم نزل نعيش في آثارها المدمرة.
أما الحوار فقد أجراه معي صديقي الرقيق شاعر قصيدة النثر جرجس شكري، ونشرته مجلة «نزوي» العمانية، التي يرأس تحريرها الشاعر سيف الرحبي، وقد وقعت عليه بالصدفة ضمن ركام أوراق منسية، فراجعته ووجدت أنه يستحق أن يضاف إلى هذه التجارب بما فيها من اعترافات ظاهرة أو مضمرة.
Unknown page
وفي النهاية أسأل هذا السؤال: هل يوحي هذا التمهيد مع المقالات والدراسات التالية، بالإضافة إلى ما سبق أن نشرته قبلها، بأنني قد أصبحت فيلسوفا؟ أجيب على الفور: قطعا لا! إنما هي طرقات على باب الفلسفة، كما قال لي الأب والمعلم العظيم زكي نجيب محمود في حديثي معه. لقد كانت غاية جهد جيلنا كله وجهود الأجيال التي سبقتنا هو تمهيد الأرض للتفلسف الحقيقي المبدع، والأمل معقود على الأجيال التالية لتحقيق هذا الهدف الكبير، ولن تحققه حتى تبدأ من القضايا والمشكلات والعلاقات اليومية من حولها، ثم تعمم وتنظر على طريقة الفلسفة، وعلى هدي خلفية واسعة من تراثها العريق في الشرق والغرب. وليتها تبدأ بالاهتمام بفلسفة الأخلاق ومبحث القيم؛ فما أشد حاجتنا لاستعادة القيم الحية التي داستها أقدام العصر، ومرغتها ثقافة الانحطاط في الوحل والطين!
القاهرة
في شهر شعبان 1428ه
الموافق شهر سبتمبر 2007م
هوامش
الفلسفة ومستقبل قريتنا الأرضية
هذه أفكار دامعة أو دموع فكرية، أذرفها استجابة لطوفان الدموع التي تفيض أمامنا كل يوم في نشرات الأخبار وفي الصحف اليومية، من عيون الألوف المؤلفة من ضحايا العدوان الصربي الوحشي والقتل الجماعي وذبح النساء والعجائز والأطفال، ومن عيون الرضع والشيوخ والشباب الجائعين في جنوب السودان والصومال، ومن فواجع اللاجئين والمشردين نتيجة الاضطراب الشامل على أعتاب ما يسمى بالنظام العالمي الجديد. وهي تنبع من حيرة المتفلسف أو المشتغل بالفلسفة (ولا أقول الفيلسوف؛ لأنه لم يزل غائبا عن ساحة الاضطراب العالمي والمحلي)، كما تعبر عن يأسه وغضبه من عجزه وعجز معرفته وفكره عن مواجهة البركان المتفجر في كل مكان بأدواته وإمكاناته التقليدية، وعن خيبة «الحكمة الخالدة» إزاء الجنون الذي يوشك أن يغرق جنس «الحيوان العاقل» ويدمر وجوده، ويزري بكل ما يعتز به من تقدم وتطور واستنارة وحضارة وعلم وفن ... إلخ، كادت كلها - أمام أهوال الفظائع الفاجعة - أن تستحق الإلقاء بها في أقرب صندوق للقمامة.
وهي تنطلق من فكرة توقفت عندها طويلا لفيلسوف الحياة والاجتماع جورج زيميل (1858-1918م)، عبر فيها عن دهشته من أن الفلسفة في تاريخها الطويل لم تكترث بعذاب الإنسان وتعذيبه عبر العصور.
1
وقد التقط هذه الفكرة فيلسوف آخر معاصر - هو أدورنو (1903-1969م) - أحد أعضاء الجيل الأول البارزين للمدرسة النقدية الجدلية المعروفة باسم مدرسة فرانكفورت، فأقام عليها فلسفة متشائمة عن التاريخ الذي لم يكن في رأيه سوى تاريخ القمع والقهر والتسلط على الإنسان والطبيعة، كما اعتمد عليها في مراجعته النقدية مع زميله هوركهيمر لفكرة التنوير بوجه خاص بعد نكسته المروعة مع زحف جحافل النازية والفاشية، وبشاعة الكوارث التي تسببت فيها أسطورتها اللاعقلانية المدمرة. ومن الصعب إذن أن أكون «عقلانيا» وأنا أرى العقل يتردى في ظلمات «اللاعقل» الإرهابي المتشدد، والمهووس بالتعصب الديني أو العرقي أو القومي؛ هذا اللاعقل المجنون الذي يجوس خلال العالم كالكابوس، ويتربص بنا جميعا في حياتنا اليومية وفي كل الزوايا والأركان؛ على الرغم من اقتناعي الكامل بأن تحكيم العقل والإهابة به هو المطلب الأسمى في وجه الكوارث العاصفة.
Unknown page
ومن الصعب أن أكون نقديا وتحليليا لأضع عناصر الموقف الإنساني الراهن في ميزان النقد الموضوعي الهادئ بينما تختل كل الموازين وتهتز، وذلك على الرغم من اقتناعي أيضا بأن «النقد الفلسفي» مدعو، في هذه اللحظة أكثر من أي لحظة أخرى، إلى القيام بدوره في تحليل الواقع بكل أبعاده، وتجاوز أوضاعه القائمة، ومراجعة قيمه ومعاييره السائدة بغية تغييره من جذوره، كما أنه مدعو كذلك، أو ربما قبل ذلك، إلى ممارسة النقد على الفلسفة ذاتها؛ على مفهومها وطبيعتها ومناهجها والغاية منها، على نحو ما حدث على الدوام في أوقات الأزمات والتحولات الكبرى، ومع ولادة كل فيلسوف عظيم وكل فلسفة أصيلة منذ القدم وحتى اليوم.
ومع اعترافي بعجزي تجاه المحن والمآسي المتلاحقة عن أن أكون عقلانيا ونقديا كما ينبغي لكل منتم إلى الفكر الفلسفي، فسوف أجدني مضطرا - بحكم الطبع أو بحكم الضرورة التاريخية القاسية - إلى اتخاذ موقف أقرب ما يكون إلى مواقف فلاسفة الحياة، الذين يلجئون إلى الشعور والتعاطف والحب والتفهم أكثر مما يلجئون للعقل، الذي يحددون مجاله ويقصرون استخدامه على ميادين العلم والعمل، كما يتبنون منهج الحدس، أو الفهم الأقدر في رأيهم على النفاذ إلى صميم الحقيقة الحية، والتغلغل في نهر الصيرورة والفعل المتدفق؛ هذا الفعل الذي بلغ كما أشرت من قبل حد التفجر والتدهور والجنون الوحشي المستعر.
لذلك لن أستطيع أن أعد القارئ بأكثر من أفكار مؤقتة تحتاج إلى جهد أكبر، وقراءات وتأملات وتأويلات أعمق ربما تتيحها الأيام في وقت لاحق وتساعدها على النضوج، وسيكون حالي أشبه بمن يحاول التأمل بينما ينهار السقف فوق رأسه ويهتز الأساس تحت قدميه، أو بمن يحاول رسم لوحة أو وضع لحن موسيقي في الوقت الذي تشتعل فيه نيران الحرب من حوله، أو تنهال سياط الجلادين في معتقلات العذاب والتعذيب على جسده.
أمامنا المسرح العالمي المخيف تدور على خشبته الأحداث المخيفة؛ تطرف وتعصب، عنف وإرهاب، عصابات «مافيا» وشركات احتكار عابرة للقارات ومصاصة للدماء، شعوب كاملة مهددة بالإبادة والتشريد والأوبئة والمجاعات، حوالي بليونين من البشر يعيشون تحت المستوى الأدنى للحياة الإنسانية، حكام بالاسم وحده وهم في حقيقتهم سفاحون بالجملة، كأنما انشقت عنهم قبور الآشوريين أو الرومان أو المغول والتتار، تخريب للبيئة والأرض - مهد البشر ولحدهم - تحت ضغط الضرورات الاقتصادية أو التجارب النووية أو التكنولوجيا الصناعية التي أفلتت من كل الحدود، وأوشكت أن تغتال الخضرة في كل مكان، سخط وتمرد وبطالة وجريمة وضجيج وفقدان للمعنى، لا سيما بين الشباب الثائر بلا ثورة في أرجاء العالم كله. وعلى الجملة، غياب الحكمة واغترابها عن الواقع اليومي للبشر العاديين الذين تزداد تعاستهم وشقاؤهم، واغتراب البشر العاديين والمتخصصين المحترفين على السواء عن الحكمة ومقاصدها العالمية، والإنسانية التي لم تغب أبدا عن ألباب الحكماء الحقيقيين في الشرق والغرب منذ آلاف السنين.
ونسأل السؤال الخالد الأليم: ماذا نفعل؟ ماذا يفعل المتفلسف لإنقاذ الفلسفة أو الحكمة من اغترابها عن الواقع، وينقذ الواقع من اغترابه عنها؟ ماذا يفعل لإنقاذ الإنسان من أهوال القوى الوحشية التي تشوه إنسانيته، وتمسخ حقيقته، وتزيف معناه ورسالته على الأرض؟ هل يبقى في مقاعد المتفرجين، مع العلم بأن النار التي تلتهم المسرح يمكن أن تمتد ألسنتها إلى القاعة؟
هل يمكن أن يشارك بجهده وشخصه وكتاباته مع زملائه، في الاقتراب من الغايات والأهداف الكبرى المنوطة بالعقل والفلسفة، منذ أن وجد الإنسان وبدأ الوعي التأملي في حقائق الوجود والفعل والقيم والمصير، وفي وضع الإنسان في الكون ودوره فيه، والأمانة التي يحملها خلال الفترة القصيرة لوجوده في العالم، بعد أن أبت أن تحملها السموات والأرض والجبال؟
قبل محاولة الإجابة عن هذه الأسئلة لا بد من تأكيد الاحترام والتقدير للمعرفة الفلسفية بأنظمتها وفروعها المختلفة؛ فهذه الأنظمة المتخصصة تتقدم وتمضي في طريقها المعرفي الدقيق، ولا بد أن تتابع السير فيه وأن يساهم كل منا بجهده في هذه المسيرة. هذا شيء لا غنى عن تأكيده منذ البداية بكل ما نملك من قوة ومن احترام للمعرفة العلمية الدقيقة، التي لا يشك أحد في كونها شعاع الأمل المضيء، وربما الوحيد، وسط الظلمات المدلهمة التي تزحف اليوم على وجود «الحيوان العاقل»، وتحاصر حقه في الحياة والسعادة والأمن والسلام والوعي والمعرفة.
والأسئلة التي طرحناها الآن قد لا تدخل بصورة مباشرة في الكثير من التخصصات الفلسفية الدقيقة، التي أمعنت في التخصص استجابة لروح العصر العلمي والتقني؛ لأنها إما أن تقع وراءها أو فوقها، دون أن تكون لهذا السبب هامشية أو من قبيل التزيد والفضول. أضف إلى هذا أن الإجابات الممكنة عنها والغايات المأمولة منها قد تنعكس عليها، فتخرجها قليلا من أبراج تخصصها أو تؤثر على اتجاهها، أو تقرب بينها وتساعد في النهاية على تحقيق الوحدة الكلية المنشودة، وهي وحدة الثقافة والمعرفة والإنسانية (التي طالما تطلع إليها وفكر فيها الفلاسفة بأشكال مختلفة، من بعض حكماء الشرق القديم إلى بعض السفسطائيين إلى أفلاطون والرواقيين، إلى ديكارت وليبنتز وهيجل وهسرل وياسبرز وراسل وتوينبي وعدد من الماركسيين الجدد والوضعيين المناطقة ...) ويزيد من ضرورة التفكير والعمل في سبيل هذه الوحدة الشاملة ما يتردد اليوم على كل لسان من أن الأرض قد أصبحت قرية عالمية صغيرة، وأنها مهددة بالفناء على يد أعظم وأتعس المخلوقات التي تدب عليها وأخطرهم على مصيرها، وهو الإنسان.
إننا نلاحظ اليوم أن الحكمة قد خلعت عن عرشها، وأن الفلسفة قد اغتربت عن مجتمعاتها كما اغتربت هذه المجتمعات عنها في الغرب والشرق على السواء. وطبيعي أن تختلف الأسباب هنا وهناك، وأن يبلغ الأمر حد تحريمها أو تشويه سمعتها والافتراء عليها عندنا أكثر مما هو الحال عند غيرنا. وإذا صبرت عليها «السلطة» هنا أو هناك؛ فلأنها جزء من الترف الأكاديمي الذي يستكمل به الديكور الثقافي، أو لأنها ثرثرة محصورة بين الجدران الجامعية ولا خطر منها ولا أثر لها. ولعل السبب الأعمق هو فقدان الثقة في الفلسفة، والاعتقاد بعجزها عن التأثير في مجرى الأحداث العامة وفي الوعي والرأي العام، أو في الحياة الخاصة للمواطنين المشغولين عنها بهمومهم الخاصة. وحتى إذا قلنا إن لكل إنسان بالضرورة فلسفته، فلن تكون هذه في النهاية سوى فلسفة شعبية غامضة، تتكون في الغالب من أخلاط متناقضة يحصلها الإنسان العادي من التقاليد والآراء الشائعة والأفكار والعواطف المتدفقة ليل نهار، من أجهزة الإعلام ووسائطه وأبواقه وأقماره الصناعية (التي حجبت ظلماتها المنهمرة وجه قمرنا القديم الحنون!)
إن الأسباب الحقيقية لاغتراب الحكمة وعجزها يمكن أن تنحصر في نوعين: أسباب داخلية تتعلق بالمشهد الفلسفي المعاصر عند الآخرين وعندنا، وأسباب خارجة عن الفلسفة نفسها أو خارجة عن إرادتها. وسوف أناقش هذه الأسباب على ضوء الغايات والأهداف والمثل الإنسانية العامة، التي يمكن أن تسعى الفلسفة لتحقيقها «هنا والآن»، أو بالأحرى التي يبغي عليها أن تسعى لتحقيقها على نحو أكثر تصميما، وعلى نطاق أوسع مما حدث حتى الآن.
Unknown page
أما فيما يتعلق بالأسباب الداخلية، فأقصد بها فجوة الاختلافات والفروق الفنية والموضوعية الدقيقة التي تفصل بين الاتجاهات والتيارات الفلسفية المختلفة، سواء بين القارة الأوروبية والأمريكية من ناحية، أو بينهما وبين الاتجاهات والتيارات المتأثرة بها أو المنقولة عنها ، أو التي تحاول مع افتراض حسن الظن الشديد أن تتميز وتستقل عنها في عالمنا الثالث من ناحية أخرى.
والسبيل إلى التقريب بين هذه الاتجاهات والتيارات وتحقيق نوع من التقارب في الأهداف والغايات والمثل المشتركة ليس مستحيلا كما يبدو لأول وهلة، لا سيما إذا تذكرنا أن هذا التقارب والتفاعل قد تم على سبيل المثال في الفلسفة الأمريكية، التي تأثرت في العقود الأخيرة، وفيما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، بفلسفة الظاهرات (الفينومينولوجيا) وفلسفة التأويل (الهيرومينويطيقا)، خصوصا في الدراسات المتصلة بفلسفة الفن والجمال وبالنقد الأدبي. كما أن التقارب والتفاعل قد تحقق أيضا في الفلسفة الأوروبية المعاصرة، التي أدمج بعض أعلامها عناصر هامة من العقلانية العلمية والفلسفة التحليلية وفلسفة اللغة التي ازدهرت جميعها في العالم الأنجلو-أمريكي، وذلك مثل «هابرماس» الماركسي الجديد في فلسفته النقدية. وسبل التقارب والتفاعل الذي تم وينبغي التوسع فيه هي من الوضوح بحيث يمكن الاستغناء عن ذكرها: تعميق الحوار بين الأطراف المختلفة في المؤتمرات واللقاءات المحلية والعالمية، التقريب بين الاتجاهات والمدارس المتعددة؛ بتمثيلها وإفساح المجال لسماع أصواتها في أقسام الفلسفة ومعاهدها في الجانبين. ولا شك أن التوسع في الحوار ليشمل الأقسام التي تدرس الفلسفة الغربية خارج نطاق العالم الغربي كله، سيساعد على تنمية بذور الاتجاهات المستقلة داخل العالم الثالث نفسه، بشرط أن يعتمد في كل الأحوال على المعايير والأسس التي تضمن تحقيق الحوار الحر القائم على الاحترام والتفاهم المتبادل، والمعرفة الكافية من الأطراف كافة بالخصوصيات الثقافية المتميزة والعموميات والقيم المشتركة في وقت واحد. وإذا كان المفكرون والعلماء وأساتذة الفلسفة من أبناء حضارة «اللوجوس» الغربية لا يكفون عن اللقاء والتعاون في مشروعات مشتركة، فما أحرانا نحن أبناء العالم الثالث بالسعي إلى التواصل فيما بيننا من ناحية، وفيما بيننا وبين أبناء الغرب من ناحية أخرى؛ بغية التعرف على العوامل المشتركة، ومحاولة تجاوز الحدود المصطنعة بين شرق وغرب كما سيأتي بعد قليل! ستبقى الفروق النوعية في أساليب البحث والتفكير قائمة بغير شك، ولكن ربما يتم قدر كبير من التقارب والتلاقي إذا تواصل الحوار حول موضوعات وإشكالات تهم البشرية العاقلة بأسرها، وقد يتم هذا التقارب إذا تصورنا أن موضوع الحوار هو، على سبيل المثال، غياب الحكمة والعقل في السنوات الأخيرة من القرن العشرين الذي استشرت فيه مختلف ظواهر الجنون الجماعي، بحيث لم يعد يكفي أن نسميه عصر القلق، ومشكلة السلام العالمي التي تركت حتى الآن للساسة والقادة العسكريين، وقضية الحكومة العالمية التي تجسد الضمير العالمي، وتردع الحكومات الفردية المعتدية - كما تصورها كانط مثلا في مشروعه المشهور عن السلام الدائم - وتغيير النظم التربوية على أساس الاحترام المتبادل بين شتى الثقافات، وتنمية هذا الاحترام عند أبناء الغد، والعمل على زيادة التواصل «والتثاقف» بينها؛ للتخلص تدريجيا من أشكال التعصب العرقي والقومي والتطرف الديني والمذهبي. التفكير المشترك - بصوت مسموع يصل إلى آذان الساسة والعامة - في مستقبل البشرية - المهددة في كل لحظة بالفناء والاندثار - والعوائق التي تسد الطريق إلى وحدة الحيوانات التي نسيت أو كادت تنسى أنها حيوانات عاقلة، وآن أوان إعادة الذاكرة إليها. باختصار: تشكيل محكمة ضمير عالمي دائمة تمارس الإدانة والضغط المعنوي على كل معتد على الضمير العام، وكل آثم في حق الإنسان وحريته وكرامته وحرمة حياته وجسده وشخصيته وحقوقه الأولية. والمهم أن نتذكر على الدوام أن «السعي إلى الحكمة» لم تكن الحاجة إليه أشد إلحاحا منه في هذه السنوات الأخيرة من القرن العشرين؛ قرن العنف والتدمير والضوضاء وسعار الانتحار الجماعي المجنون.
غير أن أخطر الأسباب الداخلية يأتي من الفلسفة نفسها؛ فعليها أن تراجع طبيعتها ومفهومها وتعريفاتها التقليدية ومناهجها وأساليب رؤيتها، إذا شاءت أن تصبح «حكمة عالمية» كما سماها كانط، أو «حكمة خالدة» كما وصفها ليبنتز وياسبرز وهكسلي وغيرهم. ولا يقتصر الأمر على تغيير الوصف والتسمية، وإنما يتعداه إلى المهام الجديدة التي تلزمها اليوم، أكثر من أي يوم مضى، بأن تكون عالمية وإنسانية، وأن تتحول - على الأقل في المجالات المختصة بالقيم والغايات الأخلاقية والمثل والأحلام والأهداف المستقبلية التي يمكن الإجماع عليها - إلى حكمة مناضلة تتسلح بأسلحة النقد والمقاومة لكل من يعطل العقل، ويغيب الوعي، ويشوه الإنسانية، ويطمس البديهيات الأولية التي انكفأت اليوم على وجهها في بحور الدم المراق، وطوفان الكذب والتزييف المنهمر من أجهزة البث المرئي والمسموع، ووسائل غسل المخ وأبواقه ليل نهار . وعليها أخيرا أن تحافظ على حريتها؛ لكي تستطيع الدفاع عن الحرية، وإلا سقطت في الهاوية التي سقطت فيها فلسفات سيئة الحظ تبنتها سلطات إرهابية (كما حدث أخيرا للماركسية وللصحوة الإسلامية، في ظل النظم الأيديولوجية المتحجرة والنظم العسكرية الطاغية المختلفة).
قلت إن غياب الحكمة من أبرز سمات العقود الأخيرة للقرن العشرين، سواء أخذناها بالمعنى المألوف أو بمعناها في التراث السقراطي والأفلاطوني والأرسطي.
إن الحكمة بأوسع معانيها تدل على الحكم الصائب الرزين على الأمور المتعلقة بالحياة والسلوك، وتقترن باتساع المعرفة وحدة الذكاء وعمق التأمل، لكن هذه ليست شروطا ضرورية لوجودها؛ إذ يمكن أن تستغني عنها بالفطنة والبصيرة. إنها (كما يقول الفيلسوف المثالي بلانشار)
2
لا تعنى بتأكيد حقائق أو تكوين نظريات، بقدر ما تعنى بوسائل الحياة العملية وغاياتها، وربما أضفنا إلى هذا أنها تتضمن نوعا من السعي إلى تحقيق الحياة الطيبة المتجانسة، كما تكشف عن بصيرة بالنفس في علاقتها بالعالم والمجتمع المحيط بها.
أما في التراث السقراطي، فيقصد بالحكمة معرفة «الأمور القصوى» أو «الحقائق النهائية». وطبيعي أننا لا نطالب الإنسان العادي أن يملك «الحقيقة النهائية»، سواء كانت هي معرفة الله أو المثل الأفلاطونية أو أي حقيقة أخرى؛ فحكمة الحكيم تتجلى قبل كل شيء في معرفته بنفسه وبغيره، وفي نفاذ بصيرته إلى الطبيعة الإنسانية والحياة بوجه عام، بحيث يكون قادرا على الرؤية الكلية لهذه الحياة في وحدتها وشمولها، كما يكون أقدر من كثيرين غيره على أن يهتدي بالعقل في أفعاله، ويدرك الأهداف الصحيحة إدراكا واضحا، ويحسن اختيار الوسائل المؤدية إلى بلوغها. ولا حاجة للقول بأن من مقومات حكمته كذلك أن يرى الأشياء رؤية نزيهة ومن مسافة بعد كافية، وأن يتحكم في عواطفه وانفعالاته ليحتفظ بهدوئه واتزانه العقلي في الأوقات العصيبة، والظروف التي تفرض عليه اتخاذ القرارات والمواقف من الأشخاص والأشياء قبل الإقدام على الفعل. وكلها ألوان من الحكمة التي يمكن أن نجدها عند فلاح بسيط ولا نجدها عند أغلب من نسميهم «أساتذة» الفلسفة. ويكفي «محب الحكمة» بهذا المعنى القريب المألوف أن يسعى لفهم «الموقف » أو «الشرط الإنساني»، ورؤيته رؤية كلية من خلال مظاهره وتجلياته وتعبيراته المختلفة في خضم ملحمة التاريخ البشري. ولا شك أن هذه الرؤية ستنطوي على التأمل في فناء الإنسان أو تناهيه، وفي دلالة هذا الفناء والتناهي على مقومات وجوده التي أفاض في شرحها الوجوديون، وسينعكس هذا أيضا على موقفه من الزمان؛ إذ لن يكون حكيما من لا يتأمل ماضي الإنسان وحاضره؛ لكي يكون أقدر على التبصر بمستقبله، والإعداد له، والاستجابة لمطالبه، واستشراف آفاقه وممكناته، والتأهب لمواجهته بالمعرفة والإرادة، وفي هذا يقول شاعر الألمان الأكبر «جوته»: «من لم يحط علما بما مر بالبشرية عبر ثلاثة آلاف عام، فسيبقى طوال حياته تائها يتخبط في الظلام.»
إن الإنسان في هذا القرن يفتقر إلى الحكمة؛ لأسباب يصعب حصرها وتحديد أنواعها. ربما يكفي القول بأنه في لهفته على معرفة الطبيعة والسيطرة عليها بمعلمه ووسائله التقنية، قد أهمل السعي الذي لا يقل عنه أهمية لمعرفة نفسه ورعاية باطنه وضميره وأخلاقياته، وكانت النتيجة - كما يقول أينشتين في عبارة معروفة - أن اكتملت وسائله، واضطربت غايته، وظهر عجزه عن مواجهة حقيقة نفسه وعالمه الذي صنعه، ثم أخذ يدمره بأشكال مختلفة؛ في خداعه لنفسه أو استسلامه لمختلف الأساطير والأوهام والخرافات التي خدعته بها قوى نسجت شباكها حوله (كالقوى والمصالح الموجهة للسوق الاستهلاكية العالمية، والاتجاهات العنصرية والطائفية والمذهبية المتعصبة، التي تصورت أنها استأثرت بالحقيقة المطلقة؛ مما جعله في النهاية أداة لأعمالها الإرهابية أو ضحية لها). ولا شك أن من أخطر مظاهر انعدام الحكمة هذا الانفلات الصاخب من كل الحدود والمعايير على كل المستويات، باسم التجديد والتجريب تارة، وباسم الحياة أو الحب أو الثورة على كل الأنظمة المتسلطة تارة أخرى. وليس من قبيل المصادفة أن تكثر الطقوس العجيبة وممارسات الجماعات الشاذة والجرائم البشعة كثرة هائلة في أقوى الدول وأعظمها سيطرة على العلم والتقنية.
كان من نتائج ذلك أيضا أن اتسم عصرنا كما قلت بالانفلات من كل الحدود، وما نسميه عادة بإيقاع العصر المتسارع ليس إلا تعبيرا عن التطرف والشطط والاندفاع الجنوني الذي انجرفت إليه الأفراد والشعوب بدرجات وصور مختلفة. ولقد ظهر هذا التطرف وما يزال يظهر في أشكال وأفعال متباينة في شتى الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية والعسكرية والثقافية، تاركا وراءه الموت والدم والخراب والاضطراب والفوضى، وشاهدا على تدمير العقل والمعقول والضمير والحكمة.
Unknown page
3
نعود إلى السؤال: ما العمل لإنقاذ الإنسان من نفسه؟
ما العمل لإيقاف اندفاعه إلى اللاعقل والجنون المدمر؟
وبماذا يمكن أن يساعد الفلاسفة في هذا الإنقاذ؟
إن هذه الأسئلة تقع بالضرورة في التبسيط والتعميم، والمشكلات التي يدعى الفيلسوف لمواجهتها شديدة التشابك والتعقيد، والدور الذي يمكن أن يقوم به مشكوك فيه منذ البداية؛ بسبب الشك أصلا في قدرة الفكر على التأثير والتغيير، بجانب الشك الشائع في ثقافتنا في قيمة الفلسفة وضرورتها ووجودها أصلا.
مع ذلك فإن المتفلسف لا يمكنه - كما سبق القول - أن يقف موقف العاجز المتفرج، في الوقت الذي يدمر فيه العقل، وتهدد فيه «القرية الأرضية» بأسوأ مصير. وأول ما يخطر على البال هو دعوته للقيام مرة أخرى بدوره السقراطي،
4
حتى ولو أن بدا هذا الدور قد أصبح مستحيلا أو باعثا على السخرية. صحيح أن دور «لغز» الفلسفة ونموذجها الحي كان محدودا بحدود دولة «المدينة»، كما كان في صميمه دورا عقليا وجدليا يتوسل بالاستقراء والحوار والتوليد الذهني للوصول إلى الحد والماهية (اللهم إلا إذا صدقنا كيركجارد، وجعلناه - أي سقراط - أول الوجوديين والذاتيين في تاريخ الغرب، أو حملناه من ناحية أخرى مسئولية تحلل الغرب وانهياره، كما زعم نيتشه في هجومه الغاضب عليه عندما حمله مسئولية بداية مسيرة العقلانية والجدلية المسرفة على حساب إرادة الحياة وقواها الأصيلة ...) لكننا لو تذكرنا وصف سقراط لنفسه - منذ أن بدأ تساؤله وحواره مع الناس العاديين في شوارع أثينا ومجالسها حتى خطبته الطويلة في محاكمته الأخيرة - لو تذكرنا وصفه لنفسه بأنه «الذبابة» التي تلسع ظهر الحصان الأثيني كلما أخلد للنعاس وغاب عن الوعي، بحقيقة نفسه ومجتمعه وعالمه؛ لاستطعنا القول بأن دور المتفلسف السقراطي المعاصر سيكون أشمل، ومهمته أصعب وأخطر؛ فهو مطالب بإيقاظ الحصان العالمي المندفع اندفاع المجنون الأعمى على أرض «القرية العالمية الصغيرة»، ومعنى هذا - بعيدا عن لغة المجاز - أن يكون حارس هذه القرية الضئيلة البائسة، كما كان سقراط وكل «الموقظين» العظام في الشرق والغرب حراس مدن العقل والقيم والاستنارة والحرية والوعي.
هذه الكلمة الأخيرة تنبهنا على الفور لدور المتفلسف في الدعوة إلى «الوعي العالمي والإنساني»، الذي كان وما يزال غائبا عن كثير جدا من كبار المفكرين في الغرب بوجه خاص (من أرسطو إلى هيجل وحتى ياسبرز وفلاسفة مدرسة فرانكفورت. دع عنك غيابه عن كثير جدا من أساتذة الفلسفة في نفس البلاد والمناطق، التي تتم فيها في هذه الأيام واللحظات أبشع مذابح الإبادة والتطهير العرقي والتعصب الديني والاضطهاد العنصري، وسجن شعوب بأكملها ومحاصرتها من قبل بعض الدول الإرهابية، بجانب الألوف المؤلفة من الجرائم التي تنفذ في غياهب السجون والمعتقلات وزنازين التعذيب، فضلا عن المقابر الجماعية التي لا يسمع الناس عنها إلا عن طريق بعض الصحفيين والمتطوعين الشجعان أو مؤسسة العفو الدولية، وإذا سمعوا عنها أصلا فبعد فوات الأوان).
إن الفلسفة - في مجموع تراثها العريق وفي شتى الحضارات - أقدر من غيرها من أنظمة المعرفة على تكوين هذا الوعي العالمي، وتأكيد وحدة البشر على كوكبنا الضئيل أو قريتنا الصغيرة. والذين يحملون على أكتافهم أمانة تعليم الفلسفة يمكنهم، إذا استقام فهمهم لرسالتها، وتجردوا من تحيزاتهم وتطلعاتهم وصراعاتهم الصغيرة، يمكنهم أن يلقوا الضوء على المسلمات والافتراضات، والقيم وأساليب الحياة، والاتجاهات والنزعات الخفية، والتحيزات المغرضة العميقة الجذور في عقول الناس في كل مكان، وربما استطاعوا كذلك بأساليب تحليلهم ونقدهم «العلاجية» - على حد تعبير فتجنشتين - أن يشفوا أصحاب السلطة من أفراد ومؤسسات سياسية واجتماعية وعلمية ودينية من نزعاتهم اللاعقلية واللاإنسانية، ويقربوهم من آفاق الوعي العالمي والإنساني الشامل الذي يتحد فيه الأنا مع الأنت، بل يصبح هو الأنت، وفي استطاعتهم أخيرا أن يفيدوا من تخصصاتهم المحددة في فلسفة القيم والأخلاق والميتافيزيقا وتاريخ الفلسفة ونظرية المعرفة والأنثروبولوجيا الفلسفية والتفكير المستقبلي ... إلخ، في فحص وتحليل ونقد العديد من أمراض العصر التي كادت أن تصبح أمراضا مزمنة، كالعنف وتغييب الوعي بالمخدرات والشعارات والتهالك على اللذات والتطرف العنصري والقومي والطائفي والديني، وانتشار مشاعر اليأس والإحباط واللامبالاة، خصوصا في المدن المكدسة بملايين البشر المقضي عليهم بالعذاب اليومي في جحورها وأوكارها ومكاتبها ومصانعها وسجونها وحافلاتها وأماكن لهوها، وكأنهم جيوش فيران شرسة تعسة، ناهيكم عن كثير من المشكلات الطاحنة التي تستحق ألا يشيح المتفلسف «البرجوازي» ببصره واهتمامه عنها، بينما هي تصدمه كلما فتح جريدة الصباح أو أدار مفتاح التلفاز؛ مشكلات الطفولة والشيخوخة وصراع الأجيال، الشذوذ الجنسي وإدمان الشباب، ضياع ملايين اللاجئين المشردين الجائعين من ضحايا صراعات القوة والسيطرة بين النظم والحكام والأفراد، وركام التخلف والاستبداد والعجز واليأس والحرمان الذي ما فتئ ينهال على رءوس التعساء في الشرق التعس منذ الألف الثالث قبل الميلاد.
Unknown page
لن يستغني النقد والفحص والتحليل «العلاجي» الفلسفي الذي أشرت إليه عن التعاون والتفاعل مع بقية العلوم الإنسانية والإفادة من نتائج بحوثها النظرية والميدانية، كالاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا واللغة والتاريخ والقانون والاقتصاد السياسي ... وربما انعكس على مناهج النظر والبحث في هذه العلوم نفسها، كما سينعكس بالضرورة على تخصصاته النوعية الدقيقة في مباحث الأخلاق والقيم وتاريخ الفلسفة والعلم ... إلخ، فيخلصها من العناصر الذاتية والاهتمامات المحلية والتمركز الشعوبي والاجتماعي والحضاري، بحيث يوسع من آفاق عالميتها وإنسانيتها وتجردها وتسامحها، بل إن المتفلسف لن يستطيع أن يغفل دور العلم والتقنية في خلق الوعي العالمي من الناحية العقلية، وتوحيد أساليب الحياة ونماذج السلوك لأعداد متزايدة من البشر في كل القارات، بصرف النظر عن الآثار المدمرة للتقنية، والأضرار الفادحة الناجمة عن التهاون في الاهتمام بأخلاقيات العلم وعدم ربط نتائجه بالقيم الإنسانية، وأخيرا فإن المتفلسف لن يستغني عن النظر بقدر الطاقة في الأعمال الأدبية والفنية المعبرة عن معاناة البشر ومشقاتهم وآمالهم وآلامهم في مختلف الآداب والفنون المعاصرة؛ لأن قدرة الأدب والفن على توحيد الوجدان الإنساني - بغض النظر عن اللون والجنس والقومية والعقيدة - ومد جسور التفاهم والتجانس والاحترام المتبادل بين الشعوب والحضارات؛ أمر معروف ومشهود منذ أن وجد الأدب والفن. وتبقى المهمة «الهرقلية» - كما يقول أستاذ الفلسفة الأمريكي الأرمني الأصل هيج خاتشا دوريان في مقال أخير له بمجلة «الفلسفة البعدية»
5
تبقى هذه المهمة ملقاة من الناحية العقلية البحتة على أكتاف الفلاسفة، أو بالأحرى على ضمائرهم ومدى قدرتهم على استشراف المستقبل.
والأمر الثاني الذي يخطر كذلك على البال، ويتصل مباشرة بما ذكرته عن دور الفلسفة في التعجيل ب «الوعي العالمي والإنساني»، هو مساهمة المشتغلين بها في الجهود العالمية والإقليمية الموجهة لإيجاد عالم يسوده السلام والتضامن والأمن، وتسترد فيه القيم الأخلاقية والجمالية قيمتها بعد طول ضلال وضياع؛ عالم لا يروعه الإرهاب المنظم من بعض الحكومات والمنظمات والعصابات، ولا تهدده الانقلابات العسكرية المفاجئة وأشكال العنف والاضطهاد السياسي والتعذيب والأحكام الجائرة بالسجن والإعدام على أصحاب الرأي الآخر (وكفى البشر ما يلقونه من الأعاصير والزلازل وانفجارات البراكين والفيضانات، وما يعانونه من الأورام والآلام النفسية والجسدية، بسبب تدخل الإنسان في الدورة الطبيعية وإخلال ساعتها الحيوية وتخريب البيئة بغير وازع أخلاقي). ويستطيع أصحاب الفلسفة أن يشاركوا في الجمعيات والمنظمات والهيئات العالمية والمحلية، المعنية بالسلام العالمي، ورعاية البيئة والطفولة والشيخوخة، والدفاع عن حقوق الإنسان (مثل منظمة العفو الدولية، وحركة السلام العالمي، واليونيسيف، وأحزاب الخضر ...)، وذلك عن طريق التعليم والبحث والكتابة والقدوة الشخصية وإقامة الندوات والمؤتمرات والمحاضرات، أو بالتعاون على تأسيس اتحادات فلسفية تختص بدراسة الموضوعات والمشكلات التي تهم البشر كافة ولم تعد مقصورة على شعب دون شعب أو مكان دون مكان.
6
والمهم بعد كل شيء أن يخرجوا أحيانا من ثياب وظائفهم التي تفرضها لقمة العيش وتأدية الدور الاجتماعي، ويتشجعوا - كما يقول كانط في مقاله المشهور عن التنوير - على الاستخدام العلني العام لعقولهم، ويستمعوا للنداء الذي أطلقه ماركس وزميله إنجلز ذات يوم في بيانهما المعروف بعد تعديله على هذه الصورة: يا فلاسفة العالم، اتحدوا في سبيل إنقاذ العقل والإنسان!
وطبيعي أنهم لن يتمكنوا من الاقتراب خطوة واحدة من الوعي العالمي والإنساني أو من التضامن والسلام بين البشر، حتى يبدءوا بتحقيق هذا السلام بينهم كأشخاص واتجاهات وتيارات، ويراجعوا مفاهيمهم التقليدية عن الفلسفة وفاعليتها ووظيفتها وغايتها، ويتذكروا المهام والآمال المعقودة عليها، لا كمعرفة موضوعية دقيقة وحسب، بل كأداة تحرير - بطيء ولكنه أكيد! - للإنسان العادي أو «الرجل الصغير»، الذي طالما تجاهلته وأهملته مع أنه هو الضحية الأولى والأخيرة لما يحدث اليوم من مآس وفواجع ترتبت - في جزء منها على الأقل - على بعض أنظمتهم و«أيديولوجياتهم» وشطحاتهم. ويزداد هذا المطلب إلحاحا في وقتنا الحاضر الذي تعلو فيه بعض الأصوات التي تعلن نهاية الفلسفة (مثل هيدجر ورورتي).
لا شك أن تعريف أرسطو للإنسان بأنه الحيوان الناطق أو العاقل قد يبدو اليوم خطأ لا يغتفر، اللهم إلا إذا وضعناه في إطار فلسفته النسقية المحكمة، ومنطقه الصوري الذي كان منطق الثبات والتحدد. فلم يزل العقل الحي يصارع خلال التاريخ لإثبات جدارته وإبداعه وحيويته، ولم يزل يتصادم مع القوى العمياء للشر والجنون واللاعقل واللامنطق (وهي القوى التي لم تغب عن بال أرسطو نفسه، وإن لم يتصور أنها يمكن أن تبلغ ما بلغته اليوم وفي أوقات المحن والكوارث الكبرى من تدمير للعقل والمعنى). نعم! ليس الإنسان مجرد حيوان ناطق، وإنما هو قيمة مجسدة وشخص حي حر مريد، يغير الواقع، ويتمرد على المألوف، وينزع للامحدود ويصنع الحضارات، ويبدع الفنون والآداب والعلوم، ويشرع نفسه على الممكن والمستقبل لتحقيق ما لم يتحقق بعد، ويعقل اللامعقول، وينظم الفوضى، ويقفز فوق ظلال جسده وبيئته وجنسه ولونه ومعتقده، بل يتخطى حدود عالمه وكل ما هو في عالم لعله يعرف نفسه التي لا تنفك تعذبه وتفلت كل تحديد؛ حتى يدرك وحدتها الجوهرية مع كل ما ينبض بالحياة أو يسمو على الحياة. وهنا أيضا يثبت سقراط أنه الحكيم الذي لم يزل واقفا على عتبة باب الغرب المتسلط المغرور بمنجزات عقله وعلمه وصناعته، ولم يزل هو اللغز الساخر والسؤال المحير الذي يلح عليه أن يعرف نفسه، كما يلح علينا أيضا أن نعرف أنفسنا!
إن الأدب القومي لم يعد له اليوم من معنى. لقد آن أوان الأدب العالمي، وعلى كل امرئ أن يشارك بجهده في التعجيل به. هذه العبارة الشهيرة التي قالها «جوته» (1749-1832م) قبل وفاته بسنوات قليلة في أحد أحاديثه العذبة مع صديقه وتلميذه الوفي الأمين «إكرمان»،
7
Unknown page
يمكن التنويع عليها فيما نحن بصدده، فنقول: (ربما بثقة أكبر مما يفعل ناقد الأدب ومؤرخه؛ لأن عالمية الفكر الفلسفي وعموميته تطغى على خصوصيته وقوميته التي لا تكاد تظهر إلا في ملامح شخصية المفكر وبيئته وعصره ولغته وتراثه، دون أن تؤثر تأثيرا جوهريا على شمولية مشكلاته وتساؤلاته وإجاباته) لقد آن أوان الوعي العالمي الذي طالما حاولت الفلسفة تحقيقه، لا سيما في العصور والمذاهب والحركات العقلية والروحية التي أكدت إنسانية الإنسان ودعت إلى احترام «طبيعته» وعقله وشخصه وحرمة حياته وكرامته وحريته. ولا يتعارض هذا بحال - كما قد يتصور البعض - مع تأكيد الوعي الذاتي للشعوب والثقافات والمجتمعات «والبنى» السياسية والأخلاقية والقانونية والفكرية والفنية ... إلخ، ولا مع ضرورة استمرار الكفاح المتصل للتعرف على الهوية أو على الأصح إيجادها وتجديدها وإبداعها؛ لأنه (أي الوعي العالمي) سيكون بمثابة الوحدة الكلية التي تؤلف بين الأفراد والذوات المتنوعة، وستكون أداته هي الحوار الحر الذي تنخرط فيه الأطراف الحرة. وإذا كان الأمر يقتضي - في تقديري المتواضع على الأقل - تجاوز مشكلة الشرق والغرب (التي اشتعلت في السنوات الأخيرة، واحتدم حولها اللجج واللغط، وارتفعت الأصوات المتشنجة والمشوشة!) إلى مشكلة القرية البشرية المهددة بالدمار والتلوث بكل أشكاله؛ فإن هذا يزيد من ضرورة تكاتف كل العقلاء لإطفاء الحريق الجنوني الذي يلتهم كل القيم التي صارع «تراث الحكمة» المشترك لإقرارها ووضعها في مرتبة البداهات الواضحة المتميزة. وعندما تصل المأساة إلى حد تصليب الطفل الرضيع أمام عيني أمه، واغتصاب العجوز ذات الثمانين عاما أمام أبنائها وأحفادها - كما حدث ويحدث اليوم على يد «أبطال» الصرب - وعندما يحاصر إرهاب الدولة المنظم شعوبا بأكملها على مرأى ومسمع من العالم المتواطئ أو غير المكترث - كما يجري الآن لأبناء أمتنا في الأرض المحتلة أو للسود في جنوب أفريقيا - فلا بد أن يصحو الوعي العالمي والضمير الإنساني، ويرتفع فوق المصالح والتحيزات والتميزات والخلافات، وإلا فمتى يصحو؟ وكيف تستحيل الحياة إلى كابوس مرعب ولا يتحرك؟!
وتسألني: ما الموضوعات التي يمكن أن تناقشها محاكم الضمير والعقل المحلية والعالمية التي حان الوقت للم شملها من العقلاء في كل مكان، سواء أكانوا علماء وأدباء وفلاسفة أو مشتغلين بالفلسفة، أم كانوا من الشباب العالمي الضائع المضيع وبسطاء الناس العاديين الذين كانوا على الدوام ضحايا كل عدوان على العقل والضمير؟ وأرد على سؤالك بقولي: إن الموضوعات لا حصر لها، والإضافة إليها أو التعديل فيها أمر ممكن، وما يحضرني منها يمكن أن يفتح آفاقا للنظر والعمل ظلت مغلقة أو مهملة حتى الآن. ومن يدري؟ فربما تصل إلى جمهور الرأي العام، فتساهم في التغيير الحقيقي من أسفل إلى أعلى، وربما «تفلح في إقناع المتشككين بقدرة الفكر على التأثير على الواقع؛ إعادة التفكير في حقيقة الإنسان وتأسيس ماهيات» وجوده وقيمه الباقية في مواجهة احتمالات الفناء والدمار الشامل، على ضوء مكابداته التاريخية وإنجازاته الفنية والعلمية والتقنية وإمكاناته المستقبلية، وعلى ضوء الدراسات المتنامية ل «الأنثروبولوجيا الفلسفية» بشتى فروعها التي أهملناها في عالمنا العربي إهمالا شبه كامل. استكناه أبعاد إنسانيته، وإطلاق طاقاته الخلاقة - وفق برنامج عالمي - لا كحيوان ناطق وحسب، بل كحيوان مبدع ولاعب ومصور وفاعل وصانع للحضارة وسائر على الطريق إلى المستقبل الإنساني الحق؛ السلام العالمي والأمن من الخوف والقلق والفقر والجوع والحرمان والعدوان؛ الحب والتعاطف والأمل والتواصل والحوار؛ الحرية والمسئولية والضمير والخير والحب والحق والعدل والجمال، وسائر القيم المادية (على حد تعبير ماكس شيلر!) المغروسة في طبيعته، في إطار نظام أو ميثاق أخلاقي عالمي؛ وحدة البشر المشتركة التي لا تتعارض كما سبق القول مع فروقهم الفردية وخصوصياتهم الثقافية والحضارية والدينية؛ تكامل الجهود العلمية والفلسفية والقانونية ... إلخ المشتركة في مركب جديد لمجتمع عالمي مفتوح؛ مراجعة التراث الفلسفي وتاريخ الفلسفة في الشرق والغرب والقديم والحديث، من منظور وحدة البشر ومحبتهم الشاملة وتضافرهم الممكن وطبيعتهم الأصلية الخيرة لمقاومة العوامل التي أدت إلى تشويهها والانحراف بها، لا سيما من قبل بعض الفلاسفة والفلسفات والأيديولوجيات المتعصبة، ومن جانب صغار الطغاة وكبارهم في كل العصور وعلى كل المستويات؛ أولئك المتلذذين بالنظر في مراياهم، المصابين بنزعات التدمير الفردية والجماعية أو عشق الموت - النيكروفيليا على حد تعبير إريك فروم - نتيجة نرجسيتهم المرضية المستفحلة؛
8
الاهتمام بظواهر التعذيب عبر التاريخ حتى بلوغها ذروة التفنن التقني في عصر التقنية، لا سيما في أكثر البلاد تخلفا في العلم والتقنية، بحيث باتت أرض البشر جحيما يمكن بالقياس إليه أن يعد جحيم دانتي والمعري روضة من رياض الجنة؛ تأسيس «فلسفة بعدية» تحلل وتراجع الفلسفات المتباينة من منظور الوعي العالمي والإنساني الشامل، وتجدد مسيرة الحركة الإنسانية التي طالما انتكست قديما وحديثا، كما تؤكد قيمها الأساسية في التنوير والتحرير والتقدم والتسامح بين الأديان والمذاهب. التفاؤل بمستقبل العربة البشرية الواحدة، التي يقودها العلم والعقل والإخاء، وانتشالها من مستنقع تاريخها المعاصر الملطخ بالأوحال والدماء والدموع.
ربما تقول: إن هي إلا آمال «يوتوبية» عريضة، غارقة في ضباب الشك والقلق والقنوط، مما يجري اليوم وفي هذه اللحظات التي تقرأ فيها هذه السطور. لكن الإنسان هو كائن الأمل والمستقبل، وعليه أن يرفع راية الأمل حتى لو امتلأت الأرض من حوله وتحت قدميه بالأنقاض والأشلاء، بل إن من واجبه أن يرفعها في هذه الأرض بالذات التي لم تعترف حتى الآن بقيمة الإنسان كإنسان.
ومع أن هذه الآمال تبدو «يوتوبية» حالمة كما قلت، فإن أحلامها ليست مستحيلة كأحلام اليوتوبيين على اختلاف العصور والثقافات والحضارات، وعند مختلف الأدباء والمفكرين الذين طالما رسموا لنا جزرا ومشروعات ومدنا سعيدة أو شقية، ونظما إيجابية أو سلبية، ومجتمعات مثالية كأنها الفردوس الأرضي أو مجتمعات ضدية وعدمية كأنها الجحيم البشري. والدليل على هذا أن بشائر الأمل تلوح في الأفق وإن كانت أضواؤها ما تزال شحيحة خافتة. ألم تتحرك ضمائر الناس وقلوبهم في كل شبر من قريتنا العالمية الصغيرة تعاطفا مع ضحايا الفظائع الوحشية في البوسنة، وضحايا المجاعة المخجلة في الصومال وجنوب السودان، وضحايا الحرب الأهلية في لبنان وأفغانستان، وضحايا الإرهاب الإسرائيلي الذي يحاصر شعب فلسطين ويجوعه ويعربد في أرضه، وضحايا الصراعات الطائفية والمذهبية في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، وضحايا العدوان العراقي الوحشي على الكويت وكردستان؟ ألم يتحرك قبل ذلك لضحايا الزلازل والبراكين والفيضانات وكوارث الطيران؟ ألم يتكون حزب للخضر في معظم بلاد العالم يقاوم بوسائله المحدودة تلويث البيئة ومخاطر التجارب والنفايات النووية؟ ألم تتحرك الأمم المتحدة ووكالاتها وهيئاتها - على الرغم من ترددها وعجزها وسيطرة القوى الكبرى عليها، وعلى الرغم من أنها لا تزال بعيدة عن تمثيل الحكومة العالمية المأمولة، أو تجسيد الضمير العالمي الرادع - وأخيرا فلنسأل أنفسنا: ألم يتحرك ضمير الجنس البشري لإنقاذ «شركائه» على الأرض وفي المياه من الدببة والحيتان والأسماك المهددة بالانقراض؟!
إن العقبات أكبر من كل التوقعات، والسلام والسعادة والأمن والتضامن والتراحم والأخوة البشرية ما فتئت تضرب رءوسها على جدران المستحيل، لكن الفلسفة تعمل على الدوام في دائرة الممكن الذي يبدو أحيانا على صورة المستحيل، وفلسفة المستقبل العالمية والإنسانية هي أخطر تحد يواجه المشتغلين بها والمنتمين إليها. إنها من قبيل المستحيل الممكن، أو قل من قبيل الممكن الذي يبدو اليوم كالمستحيل.
هوامش
الأزمة أم الإبداع
محاولة لتفسير بدايات الإبداع الفلسفي
Unknown page
لنفترض من البداية أن «الأزمة» هي أم «الإبداع»، وأنها وراء كل جديد ومغاير مغايرة حقيقة لما سبقه في الفلسفة وفي غير الفلسفة، لكن «الأزمة» مفهوم واسع متشعب الأبعاد، وهو معرض لخطر النظرة الذاتية إليه، بحيث تختلف رؤيتك للأزمة عن رؤيتي أو رؤية غيري، وبحيث لا أستبعد أن تتهم العبارة التي وضعت عنوانا لهذا المقال بأنها إنشائية مبتذلة، أو عاطفية حالمة، في مجال لا يسمح بغير المعرفة الدقيقة الصارمة. ولكي لا نضل معا في متاهات الأسئلة عن معنى الأزمة، والأشكال التي يمكن أن تعبر عنها في منهج الفيلسوف أو نسقه الفكري أو اللحظة التاريخية والاجتماعية التي يعيش فيها؛ أسارع فأحصر مفهوم الأزمة في مشكلة «التناقض» بشقيه؛ المنطقي-الجدلي، والزمني- التاريخي. على أن التناقض ليس بالمشكلة الهينة، ولا بد من فهمه بصورة تسمح بتفسير المبدع والجيد في الفكر الفلسفي الذي يوصف بالجدة والإبداع. وهنا أيضا تتعدد مفاهيم التناقض؛ فالحس السليم أو الموقف الطبيعي والعملي للإنسان العادي يرفضه منذ القدم، وسوف يظل على رفضه له، والمنطق الصوري القديم مع المذاهب الفلسفية التي قامت عليه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، من أفلاطون وأرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد حتى «كانط» في القرن الثامن عشر، قد بذلت كل ما في وسعها لاستبعاده وتلافيه، بل جعلته علامة التهافت والخلل، ومصدر الأغلاط والمغالطات، والنقائض والمفارقات التي يلزم الفكر المتسق - أي الخالي من التناقض! - أن يحاربها ويتحاشاها.
1
لكن المهم في هذا السياق أن «الأزمة» قد تجلت بصور مختلفة، لدى الفيلسوف المبدع، في التناقض الذي أحس بوجوده وعرفه وانطلق منه، فكان هو المحرك والدافع لقيام فلسفته التي لا يختلف أحد حول جدتها وأصالتها. ربما اختلفنا في الرأي حول اسم الفيلسوف الذي يمكن أن يستشهد به كل منا، وربما ارتجف القلم في يدي - ومن ورائه القلب - وحاول أن يجمح بي إلى عدد من المفكرين-الشعراء في تاريخ الفلسفة والأدب، من أولئك الذين أحب تسميتهم «المنقذين»، أو إلى بعض الفلاسفة الذين وصفهم ياسبرز ب «الموقظين العظام» (وفي مقدمتهم باسكال وكيركجارد ونيتشه من رواد التفلسف المعاصر)، لكنني سأقصر حديثي في هذا المجال المحدود على أربعة من فلاسفة العصر الحديث، هم ديكارت وكانط وهيجل وهسرل، الذين كانت «أزمة التناقض» وراء إبداعهم لمناهجهم الأصيلة. وسوف أسبق الأحداث فأقول على الإجمال إن ديكارت (1596-1650م) قد رأى التناقض - الذي حاول رفعه والتخلص منه - في حيرة الفكر مع نفسه؛ إذ تشكك في كل شيء، ولم يستطع مع ذلك أن يتشكك في كل شيء؛ أعني أنه لم يجد مناصا من إثبات حقيقة وجود الفكر ويقينه في أثناء الشك نفسه ومن خلاله؛ ومن ثم انتقل إلى إثبات وجود «أناه» المفكرة، ويقين بساطتها وتميزها من الجسم وخلودها، إلى آخر ما هو معروف ومشهور من فلسفة ديكارت.
أما كانط (1724-1804م)، فقد انطلق من معرفته - القائمة على إيمانه بثبات المنطق الأرسطي وصحته - بأن التناقض مظهر ووهم خداع من أوهام العقل الخالص ، ثم بين أن تناقضات المعرفة والنقائض التي يقع فيها هذا العقل بسبب طموحه إلى معرفة المطلق دون أساس تجريبي أو عيني يستند إليه، هي ظواهر حدية أو نهائية للمعرفة ينبغي تلافيها إذا أردنا للفلسفة أن تكون نقدية وعلمية عامة الصدق. ثم يأتي هيجل (1770-1831م) (ومن خلفه موكب الجدليين على اختلاف تصوراتهم لماهية الجدل وأشكاله)، فيؤكد أن التناقض وجود، وأنه عنصر أساسي من عناصر المعرفة، ومحرك هائل للفكر والواقع جميعا، بل إنه ليجعله روح المنهج الجدلي الذي زعم أنه المنهج العلمي الوحيد، وأراد له أن يجب المناهج السابقة ويلقي بها في هوة الموت والبلى والنسيان، وذلك إذا أردنا أن تخلع الفلسفة اسمها القديم، وهو محبة الحكمة، لتصبح علمية بحق. وأخيرا يأتي هسرل (1859-1938م) - صاحب فلسفة الفينومينولوجيا (أو الظاهراتية) ومؤسس منهجها - فيكشف عن تناقضات النزعة النفسية في المنطق والرياضيات، ويعري نسبيتها الخطرة، ثم لا يلبث أن يخرج من هذا التناقض ليؤمن بحقيقة الفكر وموضوعيته، ويردد نداءه الشهير: فلنرجع إلى الموضوعات ذاتها! أو بالأحرى فلنحي حقائقها الموضوعية وماهياتها الثابتة وكأننا نراها رأي العين.
يكمن التناقض، أو بالأحرى التناقض الذاتي الذي انطلق منه ديكارت في بحثه عن المنهج، وفي تشييد البناء المتكامل لفلسفته، في دليل الشك المشهور. وهو الدليل الذي أدى به إلى التوصل إلى يقينه الأول، الذي صاغه في عبارة طالما تعرضت للنقد، وكثرت التنويعات عليها والتندر بها: «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود.» ونستأذن القارئ في أن نقصر حديثنا عن تجربته مع الشك، وعن هذا الدليل في كتابه «التأملات»، الذي قدم فيه أفكاره ببساطة محببة تقربها من الاعتراف المباشر، وبصورة بالغة الدقة والإيجاز والحسم، لن نجد لها بعد ذلك مثيلا في تاريخ الفلسفة كله.
لعل أفضل طريقة لعرض دليل الشك هي طريقة ديكارت نفسه في التأملين الأول والثاني؛ فهو يحدد مهمته في بداية التأمل الأول بتقرير عزمه على إيجاد منهج مأمون في الفلسفة، ويتأكد وعيه أو علمه في الوقت نفسه بأنه كان على الدوام عرضة للوقوع في الخطأ والخداع؛ ولذلك صمم منذ البداية على ألا يسلم بشيء على أنه حق، ما لم يتبين له أنه كذلك على نحو يقيني وموثوق به ثقة مطلقة لا يتطرق إليها الشك. لقد لاحظ على نفسه منذ صباه الباكر أنه كان يأخذ الباطل مأخذ الحق، وأن أكثر ما بناه على هذا الأساس الواهي قد كان لهذا السبب غير مأمون ولا يطمئن عليه؛ ولهذا عقد العزم على أن يبدأ بداية جديدة كل الجدة، ولن يتسنى له أن يفعل هذا حتى يستبعد كل ما ورثه من آراء، وما تلقاه من «حقائق» ومعلومات، وحتى يشك في كل شيء يجد فيه مبررا للشك. وهكذا يبدأ الشك في كل شيء؛ في الحواس وصدق إدراكاتها، في وجود جسمه ووجود العالم الخارجي، في أبسط الحقائق الرياضية، بل إن الشك ليمتد أخيرا - ضمنا وعلى استحياء - في وجود الله نفسه بوصفه منبع كل حقيقة.
بدأ صاحبنا الشك الكامل المطلق إذن وفي نيته ألا يوقفه شيء، وألا يستثني منه شيئا يزعم لنفسه الوجود، حتى لو كان هو وجوده ذاته. ثم يبدأ التأمل الثاني بتأكيد طابع الشمول في هذا الشك، ويسأل سؤالا يوجه حركة فكره في اتجاه جديد، إذا فرض أن كل شيء باطل وخادع، أفلا يوجد ثمة شيء صادق أو حقيقي؟ أيكون هو هذا الشيء الواحد، وهو أن لا شيء يقيني؟ هذه الإجابة - التي يقدمها على سبيل المحاولة - عن سؤاله تنطوي على تحديد سلبي للحقيقة، وتلخص نتائج شكه النهائي الحاسم؛ فعلى فرض أن الحواس تخدعني، وأنه لا يوجد شيء في العالم، وأن روحا شريرا أو جنيا ماكرا قد دأب على مخادعتي وإيقاعي في الخطأ كلما تصورت أنني عثرت على الحق، فلا بد مع ذلك أن يبقى شيء لا يناله الشك، ولن يمكنني، وأنا أشك في كل شيء، أن أشك في كوني أشك.
ويمضي ديكارت في تأمله الذاتي أو في فكره السلبي المنعكس على نفسه، فيقول إنه ما من شيء مما سبق أن افترضته بقادر على أن يجعل مني لا شيء؛ إذ لا بد أن أكون موجودا على نحو من الأنحاء أثناء شكي أو أثناء تفكيري؛ لأن الشك نوع من التفكير. ولا بد أيضا أن أكون موجودا حتى يستطيع الجني الماكر أن يخدعني أو يوسوس لي بأني غير موجود، ولن يستطيع أن يجعلني غير موجود، ما دمت أفكر في أني شيء موجود. ولو اتجهت خلال شكي المطلق نحو هذا الشك نفسه لوجدت أنني كائن أو موجود؛ فكأن عجزي عن الشك في شكي قد حول تفكيري من السلب إلى الإيجاب، ووضع نهاية لحجتي الأساسية في الشك، ونقلني إلى هذه العبارة التي قلتها في التأمل الثاني: «أني أكون، وأني أوجد، أمر صادق بالضرورة كلما نطقت به أو أدركته بذهني.» وبهذا أكون قد انتقلت من تفكير سلبي أو لا موضوعي إلى تفكير موضوعي أو معرفة موضوعية، عثرت معها على الموضوع الفلسفي الأساسي، واليقين الأول الذي سأنطلق منه، ألا وهو الذي تبلور بعد ذلك في عبارتي المشهورة: «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود.»
2
هكذا انطوى دليل الشك على أكثر من تحول؛ فمن الشك إلى التفكير، ومن هذا إلى الوجود (أنا أكون، وأنا أوجد). ولقد بدأه ديكارت وهو يسلم بإمكان الوقوع في الخطأ والخداع بصورة شاملة، وجره التسليم بهذا الإمكان والوعي به إلى تجربة الشك الكامل والشامل، الذي يجري على كل شيء ولا يوقفه شيء. ومع بداية التجربة ظهر التحول الأول: أخفق الشك في كل شيء عندما ارتد على نفسه، وتبين - كما رأينا - أنه لا يستطيع أن يمتد إلى الفكر؛ أي عندما عجز عن الشك في الشك، الذي انطبق على نفسه فألغى نفسه أو «رفعها»، كما يقول أصحاب المنطق الجدلي.
Unknown page
هكذا تم التحول من السلب إلى الإيجاب؛ أي من الشك في كل شيء إلى التفكير الذي انشق عنه وبقي خارج دائرته. ثم بدأ مع تطور التجربة تحول جديد نتج عنه منطلق جديد هو إثبات وجود «الأنا» بعد إثبات وجود الفكر: «ما دمت أفكر، فأنا موجود.» ولو شئنا أن نضع التحولات السابقة في صورة أحكام لانقسم دليل الشك إلى هذه الأحكام الثلاثة: (أ)
يمكن أن يتعلق الشك بكل شيء. (ب)
لا يمكن أن يتعلق الشك بالتفكير. (ج) «أنا موجود» صادقة بالضرورة ما دمت أفكر فيها.
ربما ذهب بنا الظن - كما ذهب ببعض نقاد ديكارت الذين رد عليهم في مجموعة ردوده الأولى والثانية
3 - إلى أن البناء الثلاثي السابق للأحكام يتخذ شكل قياس صوري، وأن مسار «التجربة السلبية» نوع من أنواع الاستنباط. غير أن ديكارت قد رفض هذا التفسير. صحيح أنه أراد لدليل الشك أن يكون دليلا، ولكنه استنكر أن يفهم منه أنه دليل قياسي. وهنا نقترب من دائرة التفكير الجدلي التي حاولنا أن ندخل إليها في رفق وحذر. والحق أن كل شيء حتى الآن يبرر - من الناحية الموضوعية - أن نتصور الدليل تصورا جدليا لا قياسيا، فنجعل من الحكم الأول قضية، ومن الثاني نقيضها. بيد أن المشكلة تتمثل في الحكم الثالث؛ فنحن لا نجد فيه تأليفا واضحا كما يقضي بذلك المنطق الجدلي، أضف إلى هذا أن الجدل الهيجلي لم تكن ساعته قد دقت بعد، فهل يجوز لنا أن ننسب إلى ديكارت شيئا لم يفكر فيه، أو لم يسمح به تركيب الدليل ولا روح العصر؟ إذا كانت حركة الفكر في هذا الدليل لا تدخل في بنية منطقية صورية ولا جدلية، فكيف نفهم طابع السلب الذي يسوده، والذي اكتشف ديكارت من خلاله نقطة «أرشميدس»، التي سينطلق منها ليقيم منهجه ويصوغ معياري الصدق واليقين عنده (وهما الوضوح والتميز الشهيران، اللذان اعتمد عليهما في إبطال الشك الشامل وإثبات استحالته)، كما يبدأ منها لإثبات يقينية الآخرين (وهما وجود الله، ثم وجود العالم) بطريقة لم تخل في رأي نقاده من رواسب التقاليد الوسيطة، ولم تبرأ من التكلف والتصنع؟
ليس من غرضنا أن ندخل في تفصيلات النقد المتجدد ل «الكوجيتو» الديكارتي منذ أيامه إلى يومنا الحاضر، ولا يدور في الخاطر أن نجعل من ديكارت جدليا على الرغم منه أو برضاه؛ فالمهم لدينا هو الحركة الفكرية التي تحولت من سلب إلى إيجاب، ومن تناقض للفكر مع نفسه إلى رفع لهذا التناقض؛ ومن ثم إلى مجاوزة أزمة منطقية وتاريخية، بإيداع منهج وفلسفة تبلورت فيها حرية إنسان عصر النهضة، وإرادته التي صممت على اكتشاف «الحقيقة» من داخله وبقدراته المستقلة عن كل سلطة أو تقليد، ومضت تستقبل عصرا جديدا، وفكرا وعلما جديدين، لا يلتفتان إلى الظلام الذي تركاه وراءهما.
لم يكن من قبيل المصادفة أن يؤكد ديكارت أنه لم يكتسب بداهة «الكوجيتو إرجوسوم» (أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود) عن أي طريق منطقي أو تأليفي.
4
ولو فهمنا دليله على أنه قياس لأخطأنا حركته الفكرية، وربما أخطأنا كذلك حركة الفكر الحديث كله في عصر النهضة. ولقد أوضح ديكارت نفسه أن الشك في كل شيء يحد من الشك نفسه، وأن هذا التحديد يفضي إلى الاعتراف بوجود الأنا المفكرة؛ ولهذا فإن قوة الدليل تكمن في نوع من الربط الغريب الذي يختلف عن المنطق الصوري والقياس التقليدي، ويؤدي من الحكم الأول إلى الحكمين التاليين. فالربط هنا مختلف عن القياس الذي يتم فيه الربط بين حكمين واستنتاج حكم ثالث عن طريق حد أوسط، وليس لدينا في دليل الشك سوى مفهوم واحد، هو الذي يمثل مضمون أحكامه الثلاثة؛ هذا المفهوم هو الفكر نفسه. وديكارت يضع هذا الفكر - على سبيل التجربة - في صورة تفكير سلبي أو سالب؛ أعني في صورة الشك في كل شيء. ولقد كان من المنتظر أن يؤدي هذا الشك الحاسم إلى العدم أو اللاشيء، غير أنه يتمخض من خلال التأمل الذاتي المنعكس، وبما يتفق مع الرغبة في استبعاد التناقض، عن تجربة غريبة أو عن شيء غريب، هو أن ثمة شيئا واحدا يستثنى منه؛ فلا فعل الشك الذي أقوم به، ولا الخطأ والخداع عن طريق مخادع واسع الحيلة، بقادرين على إبطال وجود الشك بوصفه فكرا. من ثم ينشطر مفهوم الشك هنا إلى فعل الشك وموضوعه؛ إلى تفكير محدد، وموضوع ينصب عليه هذا التفكير. وهنا يتجلى استحالة الشك في الشك نفسه بما هو تفكير، ويبزغ وجود الفكر من ظلمات الشك ومن ضبابه العدمي. ثم يقوم هذا الفهم أو هذا المفهوم المختلف للشك بتحول جديد؛ إذ تبزغ منه الأنا بعد أن أصبح تفكيرا، وتتميز عنه؛ لأن التفكير - كما تصور ديكارت، صوابا أو خطأ - لا يستقيم بغير وجود أنا مفكرة. وما دام الشك والخداع كلاهما عاجزين عن الحيلولة بيني وبين التفكير، فلا بد أن تكون «الأنا» متضمنة في هذا التفكير.
لقد كان في إمكان ديكارت أن يصوغ مفهومه أو تجربته الفكرية بخطواتها الثلاث (من الشك في كل شيء، إلى تناقض هذا الشك مع نفسه، إلى إثبات وجود الفكر الذي لم يستطع - أي الشك - أن يمتد إليه) على هيئة قياس من هذا النوع:
Unknown page
الشك تفكير.
وكل تفكير هو وظيفة الأنا.
إذن فالشك وظيفة الأنا، ويفترض وجودها.
وكان في إمكانه أن يضع «الكوجيتو» في صورة قياس آخر، على نحو ما فعل الفيلسوف المنطقي والرياضي هينريش شولتس (1884-1956م):
في كل مرة أفكر، أوجد.
أنا أفكر الآن؛
فأنا موجود الآن.
5
غير أن هذه الأشكال القياسية وما شابهها لا تستطيع أن تكون بديلا عن دليل الشك؛ ذلك لأنها تغفل نوعية الربط الذي ينطوي عليه، ويختلف - كما سبق القول - عنه في أي شكل من أشكال القياس المعروفة؛ لأن تجربة الشك السلبية قد ألغت نفسها بنفسها، ورفعت تناقضها الذاتي - كما رأينا - على نحو جدلي لا غبار عليه ولا شبهة فيه.
وسواء كان هذا جدلا من النوع المأثور أو لم يكن، فإن جدلية الشك أو النقد السلبي الشامل على عتبة العصر الحديث تشهد من الناحية التاريخية والواقعية شهادة كافية على حرية الإنسان الأوروبي الحديث (التي لم يفقدها بعد ذلك أبدا، كما قال شلينج عن ديكارت)، وربما تشهد كذلك بصورة غير مباشرة على قدرته الإبداعية على مواجهة الأزمة التاريخية والحضارية التي عاناها وخرج منها، ليمضي منذ ذلك الحين على طريق السيطرة على الباطن والظاهر؛ أعني على ذاته وعلى الطبيعة جميعا. والمهم في هذا السياق أنه عاش تجربة الأزمة والتناقض من خلال تأمل ذاتي سلبي، انعكس فيه تفكير فيلسوفه ديكارت على نفسه، وعبر - بتجربته الفكرية والمعرفية - عن تجربة الإنسان الحديث، الذي نفض عن نفسه أغلال القديم المأثور، وخطا أول خطوة إيجابية على طريق الحداثة الطويل، وهو طريق لم تنته أزماته وتناقضاته، ولن ينتهي نداؤه بمواجهتها بالشجاعة والجرأة والصدق؛ أي بمغامرة إبداع الذات والوجود باستمرار. وهل من سبيل للإبداع إلا بالحركة الفكرية المستمرة بين قطبي السلب والإيجاب، ومن أزمة تناقض ترفع إلى حين لكي تتولد عنها أزمة تناقض جديد تتطلب بدورها إبداعا من نوع جديد؟ ألم تجاوز الحركة الفكرية، التي أطلقها ديكارت لأول مرة، منطق أرسطو الصوري وعقلية العصر الوسيط، إلى فكر جديد كان عليه أن ينتظر أكثر من قرن من الزمان، ليجد صورته الجدلية على يدي هيجل وأتباعه من رواد العصر الحديث والتفلسف الحديث؟
Unknown page
هل بدأ مؤسس الفلسفة الحديثة كما بدأ أبوها من التناقض؟ هل انطلق فيلسوف المثالية النقدية في بحثه عن المنهج «الترنسندنتالي» (أي الشارطي المتعلق بالشروط والمبادئ الأولية أو القبلية للمعرفة) من أزمة تبدت في صورة تناقض أرقه وحفزه لالتماس الحل الإيجابي لإشكاله السلبي المدمر للعقل؟ وما هي نقطة الانطلاق إلى منهجه النقدي الذي اختبر به إمكان أن تصبح الفلسفة في النهاية علما دقيقا ووثيقا كسائر العلوم (الطبيعية والرياضية) الجديرة بالاحترام؟!
يبدو الأمر مع «كانط» أصعب مما كان عليه مع ديكارت، ومما سيكون عليه مع «هسرل»، اللذين تطورت بحوثهما عن المنهج، ومحاولاتهما لتأسيسه في خط طبيعي واضح؛ فبناء الكتاب النقدي الأكبر لكانط وللفلسفة الحديثة كلها وهو «نقد العقل الخالص» بناء شديد التعقيد. ومن المحتمل في رأي بعض المؤرخين والدارسين أن يكون كانط قد بدأ حقيقة من النتيجة التي توصل إليها من جهوده التي بذلها طوال سنوات عدة لإيجاد مخرج من الأزمة وحل للتناقض، وإن كان ترتيب فصول الكتاب لا يكشف عن ذلك بسهولة. وبيان هذا أن الباب المهم الذي يتعرض فيه لنقائض العقل الخالص (وهو المعروف تحت عنوان الجدل المتعالي أو الديالكتيك الترنسندنتالي) قد جاء في نهاية الكتاب، وشغل منه أكثر من ثلاثمائة صفحة، وكان حريا أن يبدأ به؛ لأنه هو المنطلق الحقيقي لفلسفته النقدية كلها، لكن الذي حدث هو أن كانط قد وضع آخر ما توصل إليه تطور تفكيره في الأزمة كلها في أول الكتاب (وهو النظرية الشارطية التي قدم فيها نظريته الأصيلة عن «حدسي المكان والزمان»، وهما شرطا كل عيان أو إدراك حسي وإطاراه الملازمان، في حين أخر بداية تفكيره المنهجي كما قلنا، على نحو قد يحمل على الظن بأنه نتيجة بحثه عن المنهج، وهو في الواقع منطلقه ومفجره إن صح التعبير).
سنفترض إذن أن هذا الاحتمال صحيح وإن كان تعقيد بناء الكتاب الشهير لا يوحي به، وتؤيد هذا الافتراض رسالة مهمة كتبها كانط إلى معاصره الفيلسوف (الشعبي) كرستيان جارفة (1742-1789م)، وذكرها مؤرخ الفلسفة الحديثة المعروف «بنو إردمان» في بحث
6
أكد فيه أن المثالية الترنسندنتالية لم تكن هي الفكرة التي قام عليها كتاب كانط الرئيسي، وإنما هي النقائض التي يقع فيها العقل الخالص بسبب تحليقه فوق حدود التجربة الممكنة، وطموحه المتهور إلى تحقيق مثله المطلقة المتعالية كوجود الله وخلود النفس ... إلخ، وإثبات صحتها وضرورتها اعتمادا على قواه التأملية المجردة وحدها.
عبر كانط في الرسالة المذكورة عن أن واقعة وجود المتناقضات هي التي حركت تفكيره، فقال بالحرف الواحد: «لم يكن البحث في وجود الله وخلود النفس ... إلخ، هو النقطة التي انطلقت منها، بل كانت هي نقيضة العقل الخالص (التي تقول في أحد طرفيها إن العالم له بداية، وتقول في طرفها المقابل ليس للعالم بداية ... إلخ)، حتى النقيضة الرابعة التي تثبت وجود الحرية الإنسانية مرة وتنفي وجودها مرة أخرى مؤكدة أن كل شيء فيه (أي في الإنسان) خاضع للضرورة الطبيعية، كانت هذه «النقيضة» هي التي بدأت بإيقاظي من النعاس الدجماطيقي (أي نزعة القطع والتأكيد المتزمت بغير سند من التجربة)، ودفعتني إلى نقد العقل نفسه؛ وذلك بغية القضاء على فضيحة التناقض الظاهر للعقل مع ذاته.»
7
يتضح من هذا النص أن الفكرة التي انطلق منها كانط لتكوين منهجه النقدي، أو إن شئت لإبداعه، متفقة إلى حد كبير مع الفكرة التي انطلق منها ديكارت ثم هسرل من بعده، كما سنرى في الجزء الأخير من هذا المقال. لقد صدروا جميعا عن المنبع نفسه. والمنبع هو الفكر المناقض لذاته، وهو التناقض أو التناقضات التي تظهر في سياقات معرفية معينة، فيدخل الفيلسوف في صراع معها، ويستقصي معانيها، ويحاول تفسيرها والخروج منها، يحدوه في ذلك الاعتقاد - المستند إلى مبادئ المنطق الصوري - بأن المعرفة الصادقة والعلم الدقيق المحكم لا يستقيمان مع وجود التناقض؛ ومن ثم تبدأ عجلة البحث عن المنهج الجديد الكفيل بإزالة هذا التناقض في الدوران.
هنا يفرض هذا السؤال نفسه: أهو تناقض واحد هذا الذي يقع فيه العقل أم هو أكثر من تناقض؟ وهل يصنعه العقل بإرادته أم بغير إرادته؟ يصرح كانط بأنه ليس تناقضا واحدا، بل هو نظام كامل من أفانين الغش والخداع الذي يعشي البصر، يرتبط بعضها ببعض ارتباطا وثيقا، وتتوحد تحت مبادئ مشتركة.
8
Unknown page
فإذا سألنا: وكيف ينشأ هذا التناقض أو النظام الكامل من التناقضات، وجدنا عدة أجوبة تدور حول محور واحد، وترجع إلى أصل واحد؛ فالتناقضات لا تنشأ إلا عندما تؤخذ الظواهر أو عالم الحس الذي يضمها جميعا مأخذ الأشياء في ذاتها، وهي ليست بالمصطلح الكانطي «ظواهر»، وإنما هي «مظاهر» وأوهام، وهي في الأصل لا تنشأ عن التجربة ولا عن العيان
9 (الإدراك الحسي) ولا عن الظواهر، وإنما يوجدها العقل البشري نفسه عندما يندفع (بحكم ميله الطبيعي) إلى مجاوزة عالم التجربة، أو على حد تعبير كانط إلى مجاوزة «الاستخدام التجريبي»،
10
ثم إنها أوهام طبيعية لا مفر منها، ولا سبيل إلى تجنبها؛
11
لأنها ترجع إلى طبيعة العقل نفسه في نزوعه لتخطي عالم التجربة.
وهو يشبه هذه الأوهام بأنواع مختلفة من الخداع البصري الذي يصيبنا - على سبيل المثال - عندما يبدو سطح الماء في وسط البحر وكأنه ليس أعلى من سطحه على الشاطئ، أو عندما يبدو القمر أثناء طلوعه أصغر مما هو عليه في الحقيقة، وكما يتحتم علينا في مثل هذه الأحوال أن نخطئ في إدراك الأشياء، كذلك يصعب علينا أن نتحاشى الوقوع في وهم «المظهر الترنسندنتالي» وخداعه؛ فالأمر هنا يتعلق بنوع من «الديالكتيك» أو الجدل الذي يلتصق بالعقل البشري على نحو ضروري لا مناص منه، بل إنه بعد أن نكشف عن خداعه الذي يغشي البصر، لا يكف عن مخايلة العقل، ولا يتوقف عن الإلقاء به كل لحظة في أنواع من الضلال التي تحتاج على الدوام إلى التخلص منها.
12
هكذا نجد أن تناقضات العقل ذات طبيعة خاصة؛ فهي لا تنشأ بإرادة العقل كما هو الحال - على سبيل المثال - مع التناقض المشهور عن «الدائرة المربعة»، حين أجمع بطريقة تعسفية بين مفهوم المربع ومفهوم الدائرة، ثم إنها (أي تناقضات العقل) لا تنشأ من الواقع؛ لأنها - كما أكد في تشبيهه لها بأنواع الخداع البصري - أوهام فكرية متنوعة الأشكال. ولن نستطيع في هذا المجال المحدود أن نتابع شرح كانط لتناقضات العقل الخالص، كما عرضه في باب الجدال المتعالي على صورة جدول مفصل للنقائض المختلفة والحجج المؤيدة لطرفيها المتضادين (العالم له بداية في الزمان أو العالم قديم ولا بداية له، الجوهر يتألف من أجزاء لا متناهية أو متناهية، افتراض وجود كائن ضروري أو عدم ضرورة افتراضه، افتراض الحرية الإنسانية أو الحتمية ... إلخ)؛ فالذي يعنينا في هذا المقام هو «الأزمة» التي أثارها وجود التناقض - بل فضيحته كما عبر أكثر من مرة! - في تفكير كانط، والجدية التي جعلته يأخذ على عاتقه عبء تخليص العقل الحديث من أخطاره وتحذيره من مهاوي التردي فيه، والرسالة السابقة التي كتبها إلى «جارفة» تشهد على هذا، كما تشهد عليه الشكوى المتصلة من وجود التناقض. ويكفي أن نستمع إلى هذه النغمة الحزينة التي يرددها في «نقد العقل الخالص» وغيره من مؤلفاته؛ لنشعر بمدى إشفاقه على مصير الإنسان الحديث إذا استسلم للتناقضات المغروسة في فطرته العقلية. إن وجود التناقض بوجه عام في العقل الخالص، لأمر يدعو إلى الشعور بالكمد والإحباط، كما أن من المحزن أن يقع هذا العقل في نزاع مع نفسه، مع أنه يمثل أعلى محكمة تفصل في جميع المنازعات.
13
Unknown page
وإنه لمما يصيب العقل البشري بالخيبة والخذلان ألا يحقق شيئا من وراء استخدامه المحض (الخالص)، بل أن يحتاج - بالإضافة إلى ذلك - إلى نظام يلجم شطحاته، ويجنبه أسباب الخداع التي تجرها عليه وتعشي بصره.
14
هذا التناقض السلبي أو «الفضيحة» التي يقع فيها العقل بحكم طبيعته هي الدافع والمنطلق لتكوين المنهج النقدي وتطويره. وإذا قبلنا الفرض السابق بأن «الجدال المتعالي» الذي يقوم فيه كانط بتحليل النقائض ونقدها، هو البداية الحقيقة لمذهبه النقدي كله ولكتابه نقد العقل الخالص، فلا بد من القول بأن هذا النقد السلبي أو غير الموضوعي (أي غير المرتبط بموضوع) يذكرنا بدليل الشك عند ديكارت، وتجربته في التأمل الذاتي المنعكس، حيث استطاع كانط أن يخرج من تحليله السلبي للنقائض بمنهج إيجابي وموضوعي في نقد المعرفة وتعيين حدودها؛ أي في نقد العقل البشري لنفسه بنفسه. وها هو ذا يستطرد بعد النص الأخير الذي أكد فيه حاجة العقل لنظام يلجم شطحاته، فيقول: «إلا أن مما يزيد من ثقته (أي العقل) واعتزازه، بأن يكون قادرا على تطبيق هذا النظام بنفسه، وأن يحس بضرورته دون أن يسمح لأي جهة أخرى بممارسة الرقابة عليه، وأن تكون الحدود التي يضطر لوضعها للحد من استعماله التأملي المجرد قادرة كذلك على الحد من المزاعم التي يثيرها أي خصم ويلبسها لباسا عقليا مصطنعا، وأن يؤمن بالإضافة إلى ذلك كل ما تبقى من مطالبه السابقة المبالغ فيها من كل هجوم ممكن.» بهذا يثبت العقل وجوده عندما يطبق نظام النقد، ويبرهن كذلك على أن «هذه المحكمة العليا لكل حقوق تأملنا المجرد وتطلعاته ومطامحه، محال أن تتضمن هي نفسها أي لون من ألوان الغش الفطرية والخداع الذي يعشي البصر.»
15
هكذا يؤدي نقد شطحات العقل الخالص (لإثبات مثله وحقائقه المطلقة المتعالية دون أي سند تجريبي وعلمي كما سبق القول)، أي نقد الأخطاء والتناقضات التي يقع فيها، إلى معرفة العقل لذاته، على نحو ما أدت تجربة الشك عند ديكارت إلى يقينه الذاتي؛ ومن ثم يضع كانط الوحدة المنهجية لتفكير العقل النقدي في مقابل تناقضات التفكير الميتافيزيقي، كما يضع الوحدة الباطنة للعقل نفسه في مواجهة وحدة العالم التي عجز العقل التأملي عن التوصل إليها. وإذا كانت تجربة ديكارت قد أثبتت أن «الأنا» تظل موجودة داخل الشك في كل شيء، وأنها تعطي لنفسها فيه عطاء سلبيا، فإن العقل عند كانط يجرب كذلك يقينه الذاتي من خلال السلب. ويتضح الطابع السلبي للعملية النقدية كلها في هذه العبارة: «يترتب على هذا أن أكبر فائدة تقدمها فلسفة العقل الخالص، وربما تكون الفائدة الوحيدة منه، هي فائدة سلبية فحسب؛ ذلك لأنها (أي فلسفة العقل الخالص) ليست أداة صالحة للتوسع (في المعرفة)، وإنما هي نظام يصلح لتعيين الحدود. وبدلا من أن «تنسب لنفسها فضل» اكتشاف الحقيقة يقتصر فضلها على الحماية في هدوء من الوقوع في الأخطاء.»
16
صحيح أن كانط لم يبسط لنا طريقة ظهور مواقفه المنهجية الإيجابية خطوة خطوة كما فعل ديكارت، ولكنه وصف على كل حال علاقة منهجه بالتناقض وصفا دقيقا في مقدمة الطبعة الثانية لكتابه نقد العقل الخالص، حيث يقول:
17 «إن المنهج المقتبس من دارسي العلوم الطبيعية، يتكون من البحث عن عناصر العقل الخالص فيما يمكن تأييده أو دحضه عن طريق التجربة، بيد أن قضايا العقل الخالص، وبخاصة عندما تخاطر بتجاوز كل حدود التجربة الممكنة، لا تسمح بإجراء أي تجربة مع موضوعاتها (كما هو الحال في العلم الطبيعي) لاختبار تلك القضايا؛ ولهذا لن يكون في وسعنا إجراء هذا الاختيار إلا على مفاهيم ومبادئ نسلم بها قبليا ونتناولها، بحيث يمكن النظر إلى هذه الموضوعات نفسها من وجهتي نظر مختلفتين، فتكون من ناحية موضوعات للحواس وللفهم المتعلقة بالتجربة، ومن ناحية أخرى موضوعات يكتفى بالتفكير فيها بوصفها موضوعات للعقل الخالص المنعزل الذي يسعى جهده لتخطي حدد التجربة. فإذا وجدنا أن النظر إلى الأشياء من وجهة النظر المزدوجة هذه يؤدي إلى الاتفاق مع مبدأ العقل الخالص، وأن النظر إليها من وجهة نظر واحدة يؤدي حتما إلى تصارع العقل مع نفسه؛ فإن التجربة هي التي ستفصل في صحة تلك التفرقة.»
يصف هذا النص عملية نقد العقل الخالص بأنها تجربة. وهي تجربة مختلفة في طابعها عن التجارب التي تتم في العلوم الطبيعية؛ لأنها لا تجري على موضوعات بالمعنى العيني المتعارف عليه لهذه الكلمة؛ ولهذا كانت في الواقع تجربة ذاتية يقوم بها العقل على نفسه. وللتجربة بهذا المعنى شقان: أحدهما سلبي، ينشأ عنه صراع العقل أو نزاعه مع نفسه؛ والآخر إيجابي، يتم فيه التوافق مع مبدأ العقل الخالص. ومن الواضح أن الشق السلبي للتجربة يحمل في تضاعيفه الشق الإيجابي؛ أي إن حل التناقض يقتضي أن يقوم العقل الخالص بوضع ذلك المبدأ الذي يلزمه (أي العقل) بالتوافق معه. لا بد إذن أن يجد العقل مبدأه، وأن يتوافق معه لكي يتسنى التخلص من فضيحته التي جرها عليه اندفاعه لما فوق حدود التجربة الممكنة، ونزوعه للتساؤل غير المحدود عن أمور غير محدودة (الله، والحرية، والخلود، وتناهي العالم في الزمان أو عدم تناهيه ... إلخ). وهل يكون لهذا كله غير تسمية واحدة هي تحديد العقل لحدوده، أو بمعنى آخر نقد العقل؟ وهل يفضي الطريق الذي يمضي عليه العقل في بحثه لتلك المتناقضات إلا إلى التبصير بمبدئه الخاص؟ صحيح أن الأمر هنا لن يكون شبيها بظهور «يقين الأنا» ظهورا مفاجئا من طوايا الشك الشامل كما حدث مع ديكارت؛ لأن التفكير المتأني الدقيق في كل أخطاء العقل وضلالاته، هو الذي سيسمح بمطالعة وجهه الأصيل وتعرف جوهره الحق؛ ولذلك فلن تنهض أمامنا هذه الصورة التي يصفها كانط في ختام كتابه إلا بعد مراجعة الإمكانات السلبية للعقل مراجعة نقدية متعمقة (لا يجوز تشبيه عقلنا بسطح مستو يتعذر تعيين حدود مساحته الشاسعة، بحيث لا يعرف عنها إلا أنها تند عن التحديد، وإنما يجب أن يشبه بشكل كروي يمكن تعيين نصف قطره عن طريق الخط المنحني على سطحه (أي وفق طبيعة القضايا التأليفية القبلية)، كما يمكن كذلك تعيين محتواه وحدوده بطريقة مؤكدة، أما خارج هذا الشكل الكروي (أي خارج مجال التجربة) فليس ثمة شيء يمكن بالنسبة إليه أن يعد موضوعا، بل إن الأسئلة التي تطرح عن أمثال هذه الموضوعات المزعومة، لن تتناول المبادئ الذاتية للتحديد الدقيق للعلاقات التي يمكن أن توجد داخل هذا الشكل الكروي بين تصورات الفهم (أو الذهن)).
18
Unknown page
لا شك أن العبارة السابقة - على الرغم من صعوبتها الكانطية! - قد قدمت لنا صورة حية عن شكل كروي محدد، في مقابل سطح مستو يتعذر تحديده لشدة اتساعه، والعقل هو هذا الشكل الكروي الذي تحدده القضايا التأليفية القبلية (التي يعرف عنها قارئ كانط أنها شرط قيام العلم؛ فلولا توافرها في العلوم الطبيعية والرياضية لما أصبحت علوما بالمعنى الدقيق) كما يحدد الخط المحني نصف قطر الدائرة. أما ما يقع خارج هذه الدائرة فلا ينتمي للعقل، ولا يخضع لمبدئه الذي تحدده كذلك الأحكام التأليفية القبلية. والأمر في النهاية يتعلق بمعرفة الحد؛ فكما كانت ال «أنا أفكر؛ فأنا إذن موجود»، التي اكتسبها ديكارت من تطبيق الشك على كل شيء تحاشيا للوقوع في الخطأ، هي التي وضعت حدا لذلك الشك، وبدأت طريق البحث المنهجي عن اليقين، كذلك كان بحث كانط لتناقضات العقل الخالص هو سبيله للعثور على الحد، ومعرفته بالحد هي التي رسمت الطريق إلى المنهج الشارطي والمعرفة الشارطية (أو الترنسندنتالية التي لا تتعلق بالموضوعات، بل بطريقة معرفتنا بهذه الموضوعات، بقدر ما تكون هذه الطريقة قبلية)، وهي كذلك التي بصرته بمبدأ العقل الخالص، الذي عبرت عنه ثورته «الكوبرنيقية» الشهيرة (نسبة إلى كوبر نقوس (1473-1543م) صاحب التحول الشمسي المعروف، وخلاصتها أن إدراكنا أو عياننا الحسي ومفاهيمنا أو تصوراتنا الذهنية لا تتوجه وفقا للموضوعات، بل إن هذه الموضوعات هي التي تتوجه وفق ملكة عياننا وتصوراتنا)؛ ومن ثم تكون المعرفة السلبية بالمتناقضات التي يقع فيها العقل الخالص بسبب شطحاته الميتافيزيقية المجردة، هي التي أدت به إلى المعرفة الإيجابية بحدود العقل والمعرفة البشرية التي رسمها منهجه الشارطي وفلسفته النقدية الكفيلتان بالتخلص من تلك المتناقضات. والواقع أن الحديث عن تطور هذا التحديد الإيجابي للعقل وتفصيلاته معناه الحديث عن الإستطيقا والأنالوطيقا الترنسندنتالية (نظريته عن المعرفة الحسية والمعرفة الذهنية) اللتين تؤلفان مع الديالكتيك الترنسندنتالي وحدة واحدة لا تنفصم عراها؛ أي عن «النقد» كله في جانبه المعرفي. وهنا يتوقف القلم الذي يعرف حدوده مكتفيا بالغرض الذي قدمه عن المنطق الجدلي لفلسفة النقد التي لا تخرج - في بنائها وغايتها - عن أن تكون معرفة بالحد.
ربما يكون السر الكامن وراء كل منهج فلسفي أصيل - ولعله كذلك أن يكون سر الإبداع، أو جانبا منه على أقل تقدير في التفكير الفلسفي على وجه العموم - هو التحول الذي يحدثه التفكير النقدي السلبي أو غير الموضوعي في أزمة التناقض، فيتجه إلى تفكير إيجابي يبني الموضوع ويكون حقيقة وجوده. ولقد تم هذا التحول عند كل من ديكارت وهسرل، كما سنرى بعد قليل، على أساس البداهة التي تأذت من كون التناقض محالا. لم يحتج أحد منهما لاختبار إمكانية هذا التحول؛ إذ شعرا بما يشبه الإيمان الساذج بأن التناقض الذي تبدى لهما محال، واستند هذا الإيمان على اعتقاد ميتافيزيقي مطلق في صحة المنطق الصوري، واعتقاد لا يقل عنه إطلاقا في صحة العلم (الطبيعي والرياضي) ويقينه. كان كلاهما شديد الإقناع بأن التناقض قيمة سلبية، وأن ظهوره علامة أكيدة على مشروعية «المعطى الإيجابي» الذي وضعاه في مقابله كما يوضع الصدق في مواجهة الكذب والزيف. ويختلف الأمر قليلا مع كانط الذي احتاج للمضي على طريق مضن وغير مباشر، لتدعيم وجهة نظره الإيجابية أو منهجه الشارطي الذي لم يعط له ببساطة البداهة التي عرفناها عند ديكارت، والتي سوف نعرفها عند هسرل، وإن بقي التناقض ومحاولات حله - كما سبق القول - وراء تحوله نحو المنهج الجديد، بحيث لا يمكن فصله عنه إلا إذا أمكن فصل الجذر عن ساق الشجرة وفروعها وثمارها. يدل على هذا قوله في المقدمة المهمة التي أضافها إلى الطبعة الثانية من نقد العقل الخالص (1787م):
فإذا سلمنا بأن معرفتنا التجريبية تتوجه حسب الموضوعات بما هي أشياء في ذاتها، ووجدنا أن المطلق لا يمكن التفكير فيه بغير تناقض، ثم سلمنا - على العكس من ذلك - بأن تمثلنا للأشياء كما هي معطاة لنا لا يتوجه حسب هذه الأشياء بما هي أشياء في ذاتها، بل الأصح أن هذه الموضوعات، بوصفها ظواهر، هي التي تتوجه حسب طريقتنا في التمثل، ووجدنا أن التناقض قد سقط، وأن المطلق - تبعا لذلك - لا يوجد بالضرورة في الأشياء من حيث إننا نعرفها (أو من حيث إنها تعطى لنا)، وإنما يوجد فيها من حيث إننا لا نعرفها؛ أي بما هي موضوعات في ذاتها؛ عندئذ يتبين أن ما سلمنا به في البداية
19
ربما يوافقني القارئ على أن النص الأخير يعبر عن الدافع الذي حرك كانط كما حرك غيره من الفلاسفة إلى إيجاد المنهج، وهو أن استبعاد التناقض والتغلب على أزمته هو الأمر الحاسم في وجود المطلق أو الحقيقة التي يضعها أو التي تعطى له. وطبيعي أن يختلف تصور فيلسوف للتناقض عن الفيلسوف الذي سبقه باختلاف تصورهما للنقد، وأن يحدد اختبار نوع التناقض طريقه المنهجي. والمهم أن موقفه النقدي من التناقض يحدد مبادئه المنهجية ويثبتها، بحيث تصبح الحقائق التي تعطى نفسها حقائق منهجية وموضوعية بقدر ما تتميز من التناقضات، وتستبعدها بسبب كونها محالة. وطبيعي أيضا أن يضيق هذا المنهج من مجال الحقيقة ومن مفهوم الوجود. فالحقيقة عند ديكارت هي حقيقة الأنا؛ ولذلك اقتصر الوجود عنده على وجود الفكر أو «الأنا» المفكرة. وهي عند كانط وجود المعرفة الضرورية العامة الصدق؛ ومن ثم اقتصر الوجود عنده على التحديدات والشروط القبلية الكفيلة بعرفته. أما عند هسرل فسوف نجد أنها هي الحقيقة في ذاتها بوصفها منطقية خالصة؛ ولذلك اقتصر مفهوم الوجود لديه على الوجود الظاهري أو «الفينومينولوجي»، الذي أعطيه عطاء مباشرا حيا في الشعور. ويبقى الشيء المشترك بين «مبدعي» المنهج في كل هذه الأحوال هو انطلاقهم الساخط والناقم على سلبية التناقض، الذي يجعلهم يبحثون عن «الوجود» من خلال محاولاتهم لحل التناقض.
إذا كان الأمر كذلك، فماذا نقول عن فيلسوف أزاح «الحد النقدي» الذي أقامه كانط لتمييز المعرفة العلمية الصحيحة من المعرفة الميتافيزيقية الشاطحة في فراغ التناقض وعدمه، بل جعل من التناقض القلب النابض لفلسفته ومنهجه ورؤيته الجدلية كلها للفكر والوجود جميعا؟ ماذا نقول باختصار عن منهج هيجل، وفيم اتفق مع مناهج السابقين عليه وفيم اختلف عنهم؟
لا شك أن قراء هيجل (وهم بحمد الله كثيرون، ووجودهم يؤكد أن «الجدية الصامتة» لم تنقرض من بلادنا، برغم الضجيج الكاذب الذي يحاصرنا ويكاد أن يصيبنا باليأس القاتل داخل دوائر الثقافة والأدب والفن والفلسفة نفسها وخارجها أيضا) أقول إن قراء هيجل يذكرون بغير شك عبارته الشهيرة الواردة في مقدمة كتابه «ظاهريات الروح»: إن الأمر الذي عقدت عليه العزم هو المشاركة بجهدي في أن تقترب الفلسفة من هدفها، وتتمكن من طرح الاسم الذي توصف به، وهو حب العلم؛ لكي تصبح علما حقيقيا.
20
هذا الجهد الذي يذكره هيجل جهد منهجي قبل كل شيء! وهو يختلف عن كل الجهود التي بذلها أصحابها لكي يسيروا بالفلسفة «على الطريق الأكيد للعلم»، واضعين تقدم المعرفة ودقتها في العلوم الرياضية والطبيعية نصب أعينهم. لم يحاول فيلسوف الجدل الأكبر في العصر الحديث أن يجعل من منهجه الجدلي نموذجا للمعرفة الموثوق بها، بالمعنى المتعارف عليه في العلوم «الدقيقة»، ولم يذهب إلى حد القول بأن يقين الرياضيات هو اليقين العلمي الحق؛ إذ صرح في أكثر من موضع من كتاباته برفض المنهج الرياضي وعدم الاعتماد عليه.
21
Unknown page