باب في الدخول على الملوك
دخول الأشراف
إن كان الداخل من الأشراف والطبقة العالية، فمن حق الملك أن يقف منه بالموضع الذي لا ينأى عنه، ولا يقرب منه، وأن يسلم عليه قائمًا. فإن استدناه، قرب منه، فأكب على أطرافه يقبلها، ثم تنحى عنه قائمًا، حتى يقف في مرتبة مثله. فإن أومأ إليه بالقعود، قعد. فإن كلمه، أجابه بانخفاض صوتٍ، وقلة حركة. وإن سكت، نهض من ساعته، قبل أن يتمكن به مجلسه بغير تسليمٍ ثانٍ، ولا انتظار أمرٍ.
دخول الأوساط
وإن كان الداخل من الطبقة الوسطى، فمن حق الملك، إذا رآه، أن يقف، وإن كان نائيًا عنه. فإن استدناه، دنا خطى ثلاثًا أو نحوها، ثم وقف أيضًا. فإن استدناه، دنا نحوًا من دنوه الأول، ولا ينظر إلى تعب الملك في إشارة أو تحريك جارحة؛ فإن ذلك، وإن كان فيه على الملك معاناة، فهو من حقه وتعظيمه.
كيفية الدخول على الملك
وإن كان دخوله عليه من الباب الأول الذي يقابل وجه الملك ويحاذيه - وكان له طريق عن يمينه أو شماله - عدل نحو الطريق الذي لا يقابله فيه بوجهه، ثم انحرف نحو مجلس الملك، فسلم قائمًا ملاحظًا للملك. فإن سكت عنه، انصرف راجعًا من غير سلام
1 / 6
ولا كلام؛ وإن استداناه، دنا خطى وهو مطرق، ثم رفع رأسه. فإن استدناه، دنا خطى أيضًا ثم رفع رأسه حتى إذا أمسك الملك عن إشارة أو حركةٍ، وقف في ذلك الموضع الذي يقطع الملك فيه إشارته، قائمًا.
فإن أومأ إليه بالقعود، قعد مقعيًا أو جاثيًا. فإن كلمه، أجابه بانخفاض صوتٍ، وقلة حركة، وحسن استماع. فإذا قطع الملك كلامه، قام فرجع القهقرى. فإن أمكنه أن يستتر عن وجهه بجدارٍ أو مسلكٍ لا يحاذيه إذا ولى، مشى كيف شاء.
استقبال الملك للملوك
وعلى الملك، إذا دخل عليه من يساويه في السلطان والتبع والعز والولادة والبيت، أن يقوم فيخطو إليه خطىً ويعانقه، ويأخذ بيده فيقعده في مجلسه، ويجلس دونه؛ لأن هذه حال يحتاج الملك إلى مثلها، من الداخل عليه، إذا زاره؛ فإن بخسه حظه ومنعه ما يجب له، لم يأمن الملك أن يفعل به مثل ذلك. ومتى فعل كل واحدٍ منهما بصاحبه ماهو خارج عن النواميس والشرائع، تولد من ذلك فساد، وحدثت ضغائن بين الملوك يقع بسببها التباغض والتعادي والتحاسد. وإذا اجتمع ذلك في المملكة، كان سببًا للبوار، وداعيةً إلى التجارب.
وداع الملك للملوك
وعلى الملك، إذا أراد هذا الذي قدمنا صفته، الأنصراف، أن يقوم معه إذا قام، ويدعو بدابته ليركب حيث يراه، ويشيعه ماشيًا، قبل ركوبه، خطى يسيرةً، ويأمر حشمه بالسعي بين يديه.
1 / 7
وعلى هذا كانت أخلاق آل ساسان من الملوك وأبنائهم، وبهذه السياسة أخذهم أردشير بن بابك، فلم تزل فيهم حتى ملك كسرى أبرويز، فغيرها؛ فكان مما اعتد عليه شيرويه، ابنه، في ذكر مثالبه ومعايبه وقد قلنا إن من حق الملك أن لا يطيل أحد عنده القعود؛ فإن اخطأ مخطيء في ذلك، فمن إذن الملك له بالانصراف أن يلحظه. فإذا عرف ذلك فلم يقم، كان ممن يحتاج إلى أدبٍ، وكان الذي وصله بالملك ظالمًا له ولنفسه.
1 / 8
باب في مطاعمة الملوك
ومن حق الملك، إذا تبذل مع أحد، وأنس به حتى طاعمه، أن لا ينبسط بين يديه في مطعمه؛ فإن في ذلك خلالًا مذمومةً: منها، أن انبساطه يدل على شرهه؛ ومنها، أن في ذلك سوء أدب، وقلة تمييز؛ ومنها، أن فيه جرأةً على الملك ببسط اليد، ومدها، وكثرة الحركة.
وليس في كثرة الأكل مع الملك معنىً يحمد، إلا أن يكون الآكل كميسرة التراس أو حفصٍ الكيال، الذين إنما يحضرون لكثرة الأكل فقط. فاما أهل الأدب، وذوو المروءة، فإنما حظهم من مائدة الملك المرتبة التي رفعهم إليها، والأنس الذي خصهم به.
1 / 9
المنصور والفتى الهاشمي
قال: وحدثني ابراهيم بن السندي بن شاهك، عن أبيه، قال: دخل شاب من بني هاشم على المنصور، فاستجلسه ذات يومٍ، ودعا بغدائه، وقال للفتى: أدنه فقال الفتى: قد تغديت. فكف عنه الربيع، حتى ظننت أنه لم يفطن لخطاه. فلما نهض للخروج، أمهله.
فلما كان من وراء الستر، دفع في قفاه. فلما رأى الحجاب ذلك منه، دفعوا في قفاه حتى أخرجوه من الدار.
فدخل رجال من عمومة الفتى، فشكوا الربيع إلى المنصور. فقال المنصور: إن الربيع لا يقدم على مثل هذا، إلا وفي يده حجة؛ فإن شئتم أغضيتم على ما فيها، وإن شئتم سألته، وأنتم تسمعون. قالوا: فسله.
فدعا الربيع، وقصوا قصته. فقال الربيع: هذا الفتى كان يسلم من بعيد، وينصرف. فاستدناه أمير المؤمنين، حتى سلم عليه من قريب، ثم أمره بالجلوس. ثم تبذل بفضيلة المرتبة التي صيره فيها أن قال، حين دعاه إلى طعامه: قد فعلت. وإذن ليس عنده لمن أكل مع أمير المؤمنين إلا سد خلة الجوع. ومثل هذا لا يقومه القول دون الفعل.
1 / 10
على مائدة اسحق بن ابراهيم
حدثني أحمد بن عبد الرحمن الحراني، قال: كنت أحضر على مائدة اسحق بن إبراهيم، أنا وهاشم ابن أخي الأبرد والناقدي؛ فكنت أعد على مائدته ثلاثين طائرًا. فأما الحلو والحامض والحار والقار، فاكثر من أن أحصيه. فلا نرزأ من ذلك كله إلا مقدار ما يأكل الطائر. إنما نكسر الخبز بأظفارنا.
قلت: فما كان ينشطكم؟. قال: لا ولو فعل ما فعلناه قال: فما هو إلا أن نتوارى عن عينه حتى ننتهب.
شرف مؤاكلة الملوك
وكذلك يجب للملوك أن لا يشره أحد إلى طعامهم، ولا يكون غرضه أن يملأ بطنه، وينصرف إلى رحله، إلا أن يكون الآكل أخا الملك، أو ابنه، أو عمه، أو ابن عمه، أو من أشبه هؤلاء؛ ويكون أيضًا ممن يقصر بعد الأكل ويطيل المنادمة، ويجعل ما يأكل غذاء يومه وليلته، إذ كان لا يمكنه الانصراف متى شاء.
وكانت ملوك فارس، إذا رأت أحدًا في هذه الحال التي وصفنا من شره المطعم والنهم، أخرجوه من طبقة الهزل، ومن باب التعظيم إلى باب الاحتقار والتصغير.
1 / 11
والملك، وإن بسط الرجل لطعامه، فمن حقه على نفسه، وحق الملك عليه أن لا يترك استعمال الأدب، ولا يميل إلى ما تهوى طبيعته؛ فإنه من عرف بالشره، لم يجب له اسم الأدب، ومن عرف بالنهم، زال عنه اسم التمييز.
وإذا وضع الملك بين يدي أحدٍ طعامًا، فليعلم ذلك الرجل أنه لم يضعه بين يديه ليأتي عليه، بل لعله، إن كان لم يقصد بذاك إلى إكرامه أو مؤانسته، أن يكون أراد أن يعرف ضبطه نفسه، إذا رأى ما يشتهي من بسطه لها.
وحسب الرجل، إذا أتحفه الملك بتحفة على مائدته، أن يضع يده عليها. فإن ذلك يجزئه، ويزيد في آدابه.
بين معاوية والحسن بن علي
ألا ترى إلى معاوية بن أبي سفيان، حين وضع بين يدي الحسن ﵇، دجاجةً، ففكها، نظر إليه معاوية، فقال: هل كان بينك وبينها عداوة؟ فقال له الحسن: هل كان بينك وبين أمها قرابة؟.
1 / 12
إن هذا الكلام الذي دار بينهما قد قرح في قلب كل واحدٍ منهما. ومعاوية لم يقل هذا القول، لأنه كان يعظم عليه قدر الدجاجة.
فكيف يكون ذلك، وهو يكتب إلى أطرافه وعماله، ولى زيادٍ بالعراق بإطعام السابلة، والفقراء، وذوي الحاجة؟ وله في كل يومٍ أربعون مائدة يتقسمها وجود جند الشام؟ ولكن علم أن من حق الملك توقير مجلسه وتعظيمه، وليس من التوقير والتعظيم مد اليد، وإظهار القرم، وشدة النهم، وطلب التشبع بين يدي الملوك وبحضرتها. وعلى هذا كانت ملوك الأعاجم من لدن أردشير بن بابك إلى يزدجرد.
شره القضاة
ويقال إن سابورذا الأكتاف، لما مات موبذان موبذ، وصف له رجل من كورة إصطخر، يصلح لقضاء القضاة في العلم والتأله والأمانة. فوجه إليه، فلما قدم، دخل عليه، ودعا بالطعام إليه، فدنا، فأكل معه، فأخذ سابور دجاجةً فنصفها،
1 / 13
ووضع نصفها بين يدي الرجل، ونصفها بين يديه، ثم أومأ إليه أن كل من هذه، ولا تخلط بها طعامًا، فإنه أمرأ لطعامك، وأخف على معدتك. وأقبل سابور على النصف، فأكل كنحو ما كان يأكل. ففرغ الرجل من النصف، قبل فراغ سابور، ثم مد يده إلى طعام آخر، وسابور يلحظه.
فلما رفعت المائدة، قال له: ودع وانصرف إلى بلدك. فإن آباءنا وسلفنا من الملوك، كانوا يقولون: من شره بين يدي الملك إلى الطعام، كان إلى أموال الرعية والسوقة والوضعاء أشد شرهًا. فلم يستكفه على ما كان أحضره له.
الملك وضيوفه على المائدة
ومن حق الملك أن لا يرفع أحد إليه طرفه، إذا أكل، ولا يحرك يده معه في صحفة.
ومن قوانين الملك أن توضع بين يدي كل رجلٍ صحفة، فيها كالذي بين يدي الملك من طعام غليظٍ أو دقيقٍ أو حارٍ أو قار، ولا يخص الملك نفسه بطعام دون أصحابه، لأن في ذلك ضعةً على الملك، ودليلًا على الاستئثار.
1 / 14
ومن حق الملك أن لا يغسل أحد بحضرته يديه من خاصته وبطانته، إلا أن يكون معه من يساويه في الجاه، والعز، والبيت والولادة. فقد بينا ما يجب لأولئك آنفًا.
ومن العدل أن يعطي الملك كل أحد قسطه وكل طبقةٍ حقها، وأن تكون شريعة العدل في أخلاقه كشريعة ما يقتدي به من أداء الفرائض والنوافل التي تجب عليه رعايتها والمثابرة على التمسك بها، وإيناس الناس في بسط أيديهم في الطعام، حتى يسوي في ذلك بين الملوك والنمط الأوسط والعامة.
وليس أخلاق الملوك كأخلاق العامة. وكانوا لا يشبهون في شيء. وإنما تحسن كثرة الأكل مع الصديق والعشير والمساوي في منازل الدنيا من الرفعة والضعة. فأما الملوك، فيرتفعون عن هذه الصفة، ويجلون عن هذا المقدار.
ومن حق الملك، إذا رفع يديه عن الطعام، أن ينهض عن مائدته كل من الحاف بها، حتى يواروا عنه بجدارٍ أو حائلٍ غيره. فإن أراد الدخول، كان ذلك بحيث لا يرون قيامه، وإذا أراد القعود لهم، دخلوا إليه بإذن ثانٍ.
ومن قوانين الملك أن يكون منديل غمره كمنديل وجهه، في النقاء والبياض، وأن لا يعاد إليه إلا أن يغسل أو يجدد.
1 / 15
الحديث على المائدة
ومن حق الملك أن لا يحدث على طعامه بحديث جدٍ ولا هزل. وإن ابتدأ بحديثٍ، فليس من حقه أن يعارض بمثله. وليس فيه أكثر من الاستماع لحديثه، والأبصار خاشعة.
ولشيءٍ ما، كانت ملوك آل ساسان، إذا قدمت موائدهم، زمزموا عليها، فلم ينطق ناطق بحرفٍ حتى ترفع. فإن اضطروا إلى كلام، كان مكانه إشارة وإيماء يدل على الغرض الذي أرادوا، والمعنى الذي قصدوا.
1 / 16
وكانوا يقولون: إن هذه الأطعمة بها حياة هذا العالم، فينبغي للإنسان أن يجعل ذهنه في مطعمه، ويشغل روحه وجوارحه فيه، لأن تأخذ كل جارحةٍ بقسطها من الطعام، فيغتذي بها البدن والروح الحيوانية التي في القلب، والطبيعة التي في الكبد، اغتذاءً تامًا، وتقبله الطبيعة قبولًا جامعًا.
وفي ترك الكلام على الطعام فضائل كثيرة، وهي في آيينهم تركنا ذكرها، إذ كانت ليست من جنس كتابنا هذا.
1 / 17
قال: وحدثني بعض المحدثين، قال: قال بعض الأمراء، وأظنه بلال بن أبي بردة، لأبي نوفل الجارود بن أبي سبرة: ماذا تصنعون عند عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر بن كريز القرشي، إذ كنتم عنده؟ فيقول: ما عندك؟ فيقول: عندي لون كذا، ودجاجة كذا، ومن الحلواء كذا. قال: ولم يسأل عن ذلك؟ قال: ليقصر كل رجلٍ عما لا يشتهيه، حتى يأتيه بما يشتهي قال: ثم يؤتى بالخوان، فيتضايق ويتسع، ويقصر ويجتهد. فإذا استغنى، خوى تخوية الظليم، ثم أكل أكل الجائع المقرور.
قال: والجارود هذا هو الذي قال: سوء الخلق يفسد العمل، كما يفسد الخل العسل.
1 / 18
باب في المنادمة
طبقات الندماء
ومن أخلاق الملك أن يجعل ندماءه طبقات ومراتب، وأن يخص ويعم، ويقرب ويباعد، ويرفع ويضع، إذ كانوا على أقسامٍ وأدوات.
فإنا قد نرى الملك يحتاج إلى الوضيع للهوه، كما يحتاج إلى الشجاع لبأسه، ويحتاج إلى المضحك لحكايته، كما يحتاج إلى الناسك لعظته، ويحتاج إلى أهل الهزل، كما يحتاج إلى أهل الجد والعقل ويحتاج إلى الزامر المطرب، كما يحتاج إلى العالم المتقن.
وهذه أخلاق الملوك، أن يحضرهم كل طبقةٍ، إذ كانوا ينصرفون من حال جدٍ إلى حال هزلٍ، ومن ضحك إلى تذكير، ومن لهوٍ إلى عظةٍ. فكل طبقةٍ من هذه الطبقات ترفع مرةً وتحط أخرى، وتعطي مرةً وتحرم أخرى، خلا الأشراف والعلماء، فإن الذي يجب لهم رفعة المرتبة، وإعطاء القسط من الميزة، والنصفة من المعاشرة، ما لزموا الطاعة ورعوا حقها.
1 / 19
في حضرة الملك
وليس من حق الملك أن يبرح أحد من مجلسه إلا لقضاء حاجة. فإذا أراد ذلك، فمن الواجب أن لا يلاحظه، فإن سكت الملك قام بين يديه، ثم لاحظه، فإن نظر إليه، مضى لحاجته. فإذا رجع، قام ماثلًا بين يديه أبدًا، وإن طال ذلك، حتى يوميء إليه بالقعود، فإذا قعد، فمقعيًا أو جاثيًا. فإن نظر إليه، بعد قعوده، فهو إذنه له بالتمكن في قعوده.
وليس له أن يختار كمية ما يشرب ولا كيفيتها، إنما هذا إلى الملك، إلا أن من حقه على الملك أن يأمر بالعدل عليه، والنصفة له، ولا يجاوز به حد طاقته، ولا وسع استطاعته، فيخرج به من ميزان القسط، وحد القصد: لأنه لا يأمن أن يتلف نفسًا، وهو يجد إلى إحيائها سبيلًا.
ومن أخلاق الملك السعيد أن يحرص على إحياء بطانته، حرصه على إحياء نفسه، إذ كان بهم نظامه.
مراتب الندماء والمغنين
لدى الفرس وفي الإسلام
وإذ قد انتهينا إلى هذا القانون من القول، فبنا حاجة إلى الإخبار عن مراتب الطبقات الثلاث من الندماء والمغنين، وإن كانت مراتبهم في كتاب الأغاني محصورة، فقد يجب ذكرها في هذا الموضع أيضًا، لأنها داخلة في أخلاق الملوك.
1 / 20
ولنبدأ بملوك العجم، إذ كانوا هم الأول في ذلك، وعنهم أخذنا قوانين الملك والمملكة، وترتيب الخاصة والعامة، وسياسة الرعية، وإلزام كل طبقة حظها، والاقتصار على جديلتها: كان أردشير بن بابك أول من رتب الندماء، وأخذ بزمام سياستهم، فجعلهم ثلاث طبقات:
1 / 21
فكانت الأساورة وأبناء الملوك في الطبقة الأولى، وكان مجلس هذه الطبقة من الملك على عشرة أذرع من الستارة؛ ثم الطبقة الثانية، كان مجلسها من هذه الطبقة على عشرة أذرع وهم بطانة الملك وندماؤه ومحدثوه من أهل الشرف والعلم؛ ثم الطبقة الثالثة، كان مجلسهم على عشرة أذرع من الثانية، وهم المضحكون وأهل الهزل والبطالة.
غير أنه لم يكن، في هذه الطبقة الثالثة، خسيس الأصل ولا وضيعه ولا ناقص الجوارح، ولا فاحش الطول والقصر، ولا مؤوف، ولا مرسي بأبنةٍ، ولا مجهول الأبوين، ولا ابن صناعة دنيئة، كابن حائك أو حجام، ولو كان يعلم الغيب مثلًا.
وكان أردشير يقول: ما شيء أضر على نفس ملكٍ من معاشرة سخيفٍ، أو مخاطبة وضيعٍ؛ لأنه كما أن النفس تصلح على مخاطبة الشريف الأديب الحسيب، كذلك تفسد بمعاشرة الدنيء الخسيس حتى يقدح ذلك فيها، ويزيلها عن فضيلتها؛ وكما أن الربح إذا مرت بطيبٍ، حملت طيبًا تحيا به النفس، وتقوى به جوارحها، كذلك إذا مرت بالنتن، فحملته، ألمت له النفس، وأضر بأعلاقها أضرارًا تامًا.
1 / 22
أقسام الناس
وكذلك جعل الناس على أقسام أربعة، وحصر كل طبقة على قسمتها: فالأول، الأساورة من أبناء الملوك؛ والقسم الثاني، النساك وسدنة بيوت النيران، والقسم الثالث، الأطباء والكتاب والمنجمون، والقسم الرابع، الزراع والمهان وأضرابهم.
وكان أردشير يقول: ما شيء أسرع في انتقال الدول، وخراب المملكة من انتقال هذه الطبقات عن مراتبها، حتى يرفع الوضيع إلى مرتبة الشريف، ويحط الشريف إلى مرتبة الوضيع.
وكان الذي يقابل الطبقة الأولى من الأساورة وأبناء الملوك، أهل الحذاقة بالموسيقيات والأغاني، فكانوا بإزاء هؤلاء نصب خط الاستواء.
وكان الذي يقابل الطبقة الثانية من ندماء االملك وبطانته، الطبقة الثانية من أصحاب الوسيقيات.
1 / 23
وكان الذي يقابل الطبقة الثالثة، من أصحاب الفكاهات والمضحكين أصحاب الونج والمعارف والطنابير، وكان لا يزمر الحاذق من الزامرين إلا على الحاذق من المغنين. وإن أمره الملك بذلك، راجعه واحتج عليه.
وقلما كانت ملوك الأعاجم خاصة تأمر أن يزمر على المغني إلا من كان معه في أسلوب واحد، إذ لم يكن من شأنهم أن ينقلوا أحدًا من طبقة وضيعة إلى طبقة
1 / 24
رفيعة. إلا أن الملك كان ربما غلب عليه السكر حتى يؤثر فيه، فيأمر الزامر الطبقة الثانية أو الثالثة أن يزمر على المغني من الطبقة الأولى، فيأبى ذلك، حتى إنه ربما ضربه الخدم بالمراوح والمذاب فيكون من اعتذاره أن يقول: إن كان ضربي بأمر الملك وعن رأيه، فإنه سيرضى عني إذا صحا، بلزومي مرتبتي.
وكان أردشير قد وكل غلامين ذكيين، لا يفارقان مجلسه، بحفظ ألفاظه عند الشرب والمنادمة. فأخذهما يمل والآخر يكتب حرفًا حرفًا، وهذا إنما يفعلانه، إذا غلب عليه السكر، فإذا أصبح، ورفع عن وجهه الحجاب، قرأ عليه الكاتب كل ما لفظ به في مجلسه إلى أن نام. فإذا قرأ به الزامر، ومخالفة الزامر أمره، دعا بالزامر، فخلع عليه وجزاه الخير، وقال: أصبت فيما فعلت، وأخطأ الملك فيما أمرك به. فهذا ثواب صوابك، وكذلك العقوبة لمن أخطأ، وعقوبتي أن لا نزمزم اليوم غلا على خبز الشعير والجبن. فلم يطعم في يومه ذلك غيرهما.
وما ذاك إلا حثًا على لزوم سنتهم، وحفظ نواميسهم، وأخذ العامة بالسياسة التامة، والأمر اللازم.
1 / 25