وقد تطهو سيدة المنزل أو ابنتها، ولكن لا بد أن يصل إليها الطعام الفج ليكون على يديها مطهوا.
وحين زار حلمي بيت صديقه وزميله في الدراسة أحمد عبد المتعال لم يكن بالبيت فرج الخادم، وكانت الأم مشغولة في شئون المنزل فلم تجد وصفية بدا من أن تجيب الطارق، فلم تكن الأجراس معروفة في ذلك الحين. ولم تقل من؟ وإنما ظنت أن فرج عاد من السوق ففتحت بسرعة، وما إن رأت غريبا حتى توارت في لمحة وراء ضلفة الباب. - أفندم؟ - أحمد بك هنا؟ - لا يا أفندم. - شكرا. - نقول له من؟ - حلمي. - حاضر. - شكرا.
كانت اللمحة كافية لأن يرى حلمي وصفية.
الفصل الثالث
ولم لا؟ وتزوج حلمي من وصفية وانتقل إلى بيت جديد وترك أخاه حفني في البيت، وبدأ صديقي عدلي يتشكل في عالم الغيب.
وكانت السيدات في ذلك الحين يسيرات المأخذ قريبات الرضى، فبحسب الزوجة أن تجد رجلا يحميها من ضراوة الحياة ويمد قلبها وروحها بدفء الطمأنينة حتى تسلم إليه حياتها كلها، وقد كانت حياة السيدات كلها موهوبة لبيوتهن؛ فالنجيبات منهن النجيبات من أصابت بعض تعليم في المنزل الأول، سواء كان هذا المنزل بيت أبيها أو بيت أخيها كشأن وصفية التي مات عنها أبوها وهي في باكر الصبا تولى أخوها أحمد أمرها. ولما كان واسع الأفق واسع الآمال حين يفكر في بلاده فقد كان مؤمنا بتعليم المرأة، وهكذا ذهبت وصفية إلى مدرسة السنية وبقيت بها حتى أتقنت القراءة والكتابة واللغات أيضا، ثم أصرت أمها منيرة هانم أن تكتفي من التعليم بما أصابت خشية أن ينصرف عنها الرجال، أو ذلك ما صرحت به لابنها على الأقل فقبله في غير اقتناع، ولو كانت قد ساقت له السبب الحقيقي لرفضه بغير جدال، ولو أن الرجال في هذه الأيام لم يكونوا ليجرءوا أن يرفضوا لأمهاتهم مطلبا مهما يكن حظ الأبناء من التعليم والمكانة ومهما يكن حظ الأمهات من الجهل، فقد استطاعت الحياة أن تعلم نفسها لأولئك الجاهلات، فهن في شئون حياتهن وخاصة أمورهن أعلم من العلماء إن فات الرأي السديد هؤلاء العلماء في هذه الشئون.
كانت منيرة هانم ترى وصفية متفوقة في الدراسة وقد خشيت إن أمعنت في هذا التفوق أن تنصرف عن الزواج إلى الدراسة، فرأت أن تحسم الأمر في مهده وتقضي عليه قبل أن يستفحل، واصطنعت هذا السبب الذي اصطنعته لتبقى ابنتها في البيت، ولم يستطع أحمد أن يجادل مكتفيا بأن وصفية أصبحت تستطيع أن تثقف نفسها إذا شاءت ما دامت أصبحت تعرف الكتابة واللغات قراءة وكتابة. •••
مر على الزواج شهور والزوج سعيد بزوجته سعادة يتوقعها؛ فقد كانت أغلب الزيجات تتم دون أن يرى العريس عروسه، أما هو فقد رآها، وهو يعرف البيت الذي نشأت فيه، فأبوها رجل من علماء الأزهر الأجلاء وإن يكن قد رحل وهي طفلة إلا أنه ترك نور إيمانه في البيت وفي زوجه وفي ابنه أحمد صديق حلمي وزميل دراسته منذ هما في الخديوية الثانوية حتى نالا شهادة الحقوق وعمل حلمي بالداخلية وأحمد بالنيابة العامة. وحين تم هذا الزواج كان أحمد قاضيا.
ولم يكتمل العام على الزواج، فقد سرعان ما قبضت عليه السلطات المحتلة وألقت به إلى السجن، وذهب أحمد إلى أخته. - تعودين معي إلى البيت. - أترضى لي هذا؟ - ولا أرضى لك أن تعيشي وحيدة. - كنت تعرف حين زوجتني أن زوجي قد يقبض عليه في أي لحظة. - وكنت تعرفين. - وقبلت أنا الزواج وقبلته أنت، أفأترك البيت حين يحدث ما توقعه كل منا؟ - لو كان مسافرا لجئت معك، أما وهو في السجن السياسي فلا. أأجعل سجانه يحس ولو للحظة أنه هدم بيته، وأن زوجته تخلت عنه؟ - إن واجبي قبلك وقبل حلمي يحتم علي ألا أتركك وحدك. - هذا حق. - إذن؟ - تأتي أنت وتقيم معي. - وأمي؟ - سلها. ••• - وأقيم أنا أيضا معكما عند حلمي.
والناس اليوم لا تدري أية تضحية كبرى قدمتها الأم العظيمة منيرة هانم وهي تترك بيتها، فترك البيت في ذلك الحين كان أمرا تقف دونه أهوال جسام، ولكن الأم أدركت أن هذا وقت التضحية التي تملكها في سبيل مصر أولا ثم من بعد، من أجل ابنتها وزوجها البطل.
Unknown page