التحصيل من المحصول
تأليف
سراج الدين محمود بن أبي بكر الأرموي
(المتوفى سنة ٦٨٢ هـ)
دراسة وتحقيق
الدكتور عبد الحميد علي أبو زنيد
[الجزء الأول]
Unknown page
هَذَا الْكتاب قدم لنيل دَرَجَة الدكتوراة
ونوقش مسَاء الِاثْنَيْنِ الْمُوَافق للتاسع من شهر شَوَّال سنة ١٣٩٨ هـ
ونال مقدمه مرتبَة الشّرف الأولى مَعَ التوصية بالطبع والتداول بَين الجامعات.
1 / 2
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة
الطبعة الأولى
١٤٠٨ هـ - ١٩٨٨ م
مؤسَّسَة الرسَالة للطباعةِ والنشر والتوزيع
مؤسَّسَة الرسَالة بَيرْوت - شَارع سُوريَا - بنَاية صَمَدي وَصَالحَة
هَاتف: ٣١٩٠٣٩ - ٢٤١٦٩٢ - صَ. بَ: ٧٤٦٠ برقيًّا، بيوشران
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله رب العالمين الذي هدانا لطريق الحق وجعلنا مسلمين.
ووفقنا لتحقيق التحصيل من المحصول، وأعاننا في البدء ويسّر لنا الختام.
وكان عونًا لنا على مرِّ الليالي والأيام. وأمدّنا بالصبر والمثابرة، كلما غزا القلب والعينين الملل والسهاد. فله الحمد والشكر اللذان يليقان بكماله وجلاله سبحانه. وصلواته وسلامه على من أدّى الأمانة وبلَّغ الرسالة، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلَّا هالك، وعلى الآل
والصحب الطيبين الطاهرين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فإن الله جلَّ شأنه لم يخلقنا عبثًا بل خلقنا لأمر عظيم. قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ (١). ولم يتركنا جلَّ شأنه هملًا بل بعث إلينا الرسل، وأيدهم بالمعجزات فمن أطاعهم واتبع سبيلهم دخل جنةً عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين. ومن عصى وتولى أعدَّ له نارًا وقودها الناس والحجارة. قال تعالى: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ (٢). وقال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ (٣).
وأوحى لرسله شرائع تصلح حال الناس في المعاش والمعاد. وكان آخر هذه الشرائع شريعة خاتم الأنبياء والمرسلين محمدٍ ﷺ التي امتازت عن
_________
(١) [الذاريات: ٥٦].
(٢) [النساء: ١٦٥].
(٣) [طه: ١٢٤].
1 / 5
سائر الشرائع بالعموم والشمول. قال ﷺ: "أعطيت خمسًا لم يعطهن نبي قبلي". ومنها (كان كل نبي يبعث في قومه خاصة "وبعثت إلى الأحمر والأسود" (١).
واحتفظ جلَّ شأنه بحق التشريع لنفسه، وأمر عباده بالاحتكام إلى ما نزَّل قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (٢). وقال تعالى: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ﴾ (٣) وقال تعالى: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ (٤) وقال تعالي: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (٥) وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾ (٦) وما ذلك إلَّا لعلم اللُه ﷾ بالإنسان، وما أودع فيه من غرائز، كحب النفس وحب المال
والبنين وإيثار الحياة الدنيا، وما ركب فيه من شهواتٍ، كشهوة البطن والفرج وحب الظهور وحب الاستطلاع، فيعلم ما يكنه صدره وما توسوس به نفسه.
زد على ذلك أن العلم الذي منحه إياه علم محدود، والعقل الذي وهبه إياه له مجال لا يتخطاه، فتحقيق هذه الغرائز والرغبات والمصالح المختلفة معوقات عن كون الإنسان أهلًا للتشريع.
وما عليه البشرية اليوم من الحيرة وعدم استقرار النفوس وكدر العيش والقلق المستمر، والعداوة والبغضاء والتقاطع بين الأرحام والتهارش على هذه الدنيا، إنما سببه الاحتكام إلى شريعة وضعها البشر لا يكاد يستقر لها قرار، ولا يثبت لها حال، فكل يوم مرسوم يعدل ما مضى ونظام ينسخ ما سلف وسرعان ما ينقض الجديد بالأجد. ولعلَّ هذا التبديل والتغيير يكون لمصلحة أفرادٍ معدودين، حتى إذا حصلت لهم المصلحة استبدل بنظام آخر وهلم جرًا. قال تعالى: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾ (٧).
_________
(١) متفق عليه (الفتح الكبير: ١/ ١٩٩).
(٢) [النساء: ٦٥].
(٣) [الأنعام: ٥٧].
(٤) [المائدة: ٤٩].
(٥) [المائدة: ٤٤].
(٦) [الأحزاب: ٣٦].
(٧) [النساء: ٨٢].
1 / 6
ولا خروج للبشرية مما هي فيه إلَّا بالرجوع لدين الله الذي لا يقبل سواه قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (١). ولن يُصلح شأن هذه الأمة إلا ما صلح به أولها. وهي ليست في حاجة لاستيراد التعاليم، بل مأمورة بالتصدير إلى البشرية جمعاء.
وكل ما يجري في أرجاء المعمورة الآن هو برهان قاطع ودليل ساطع على أن المستقبل لهذا الدين.
وما يقذف به الإسلام وأنظمته من عدم صلاحيته للحكم لتغير الحياة واختلاف الزمان، سواء أكان هذا الهراء من أعداء الدين الظاهرين، أم ممن تسموا بأحمد ومحمد وعاشوا بين أظهرنا، فهو إما نابع عن حقدٍ خبيث أو جهل بالإسلام. فالإسلام قد سيَّر دفةَ الحكم ونظم الحياة للخلافة الإسلامية، لما كان امتدادها من الصينِ شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا ومن فينَّاَ شمالًا إلى أواسط إفريقيا جنوبًا، فكيف يرمى الآن بالجمود ويتهم بالقصور؟. بل هو صالح لكل زمانٍ ومكان، ولكن يحتاج إلى علماء أفذاذ لا
تأخذهم في الحق لومة لائم، ينكبون عليه تنقيحًا وتنظيمًا ودرسًا واستنباطًا، فيكشفون لنا عن عظمة هذا الدين ومدى صلاحيته لأن يسود الأرض.
وما دام أن الهدف من وجودنا في هذه الحياة هو تحقيق العبوديَّة لله، وما دام أن الله جل شأنه لم يكلنا لأنفسنا في تحقيق ذلك، بل أرسل إلينا الرسل وأيدهم بالوحي، فلابد لنا من فهم هذا الوحي ومعرفة مراميه وأهدافه، وما فيه من التعاليم التي تصلح لنا المعاش والمعاد. فكتاب الله وسنّة رسول الله-ﷺ-هما النبعان الصافيان اللذان تكفلا بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة لمن تمسك بهما.
ولكن فهم ما فيهما بعد أن فسدت السليقة وأصاب اللسان العجمة لا يتسنى لكل فردٍ من الأمة. فاختص بالفهم الشامل والاستنباط جماعة توفرت فيهم شروط وظهرت فيهم مميزات، تؤهلهم لذلك، فأحاطوا بدقائق علمٍ خاص سموه علم أصول الفقه، ونص العلماء على أن حكم تعلمه فرض
_________
(١) [آل عمران: ٨٥].
1 / 7
كفاية لحاجة الأمة إلى استنباط الأحكام الشرعية للحوادث المتجددة.
وعلم أصول الفقه من أشرف (١) علوم الشريعة، وذلك لعموم موضوعه بالنسبة لسائر علوم الشريعة، لحاجة الفقيه والمفسر والمحدث وغيرهم إليه.
وبالتالي يكون أفضل العلوم على الإطلاق لشرف علوم الشريعة على غيرها، وبعضهم فضل العلم الذي يبحث في ذات الله تعالى وذلك لشرف موضوعه.
وقد ذكر علماء الأصول فضل هذا العلم في بداية مصنفاتهم فقال حجة الإسلام محمد الغزالي في مقدمة كتابه المستصفى (٢): (وأشرف العلوم ما ازدوج فيه العقل والسمع واصطحب فيه الرأي والشرع. وعلم الفقه وأصوله من هذا القبيل. فإنه يأخذ من صفو الشرع والعقل سواء السبيل. فلا هو تصرفٌ بمحض العقول بحيث لا يتلقاه الشرع بالقبول ولا هو مبني على محض التقليد الذي لا يشهد له العقل بالتأييد والتسديد).
ومن أهم فوائد هذا الفن التي لا تحصى (٣):
١ - التمكين من نصب الأدلة السمعية على مدلولاتها ومعرفة كيفية استنباط الأحكام الشرعية منها. إذ بدون معرفة قواعد هذا الفن لا يتسنى للإنسان النظر في الأدلة، وذلك لأنه لا بد للمستنبط من معرفة أشياء منها:
دلالات الألفاظ من حيث الحقيقة والمجاز، والمجمل والمبين والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمنطوق والمفهوم، والناسخ والمنسوخ، والمجمع عليه والِإجماع الذي يعتد به، ومعرفة ظنية الأخبار من قطعيتها، وما يحتج به منها وما لا يحتج به، ثم إذا تعارضت الأدلة فلابد وأن يكون متمكنًا من مسالك النظر فيها. وهذه كلها تتوفر في الأصولي. فالمتقن لهذا الفن يصل إلى مرتبة الاجتهاد والاستنباط.
وحتى إذا لم يصل إلى مرتبة الاجتهاد فعلى الأقل تؤهله للنظر في أقوال
_________
(١) مذكرة لم تطبع لشيخنا الدكتور عبد الغني محمد عبد الحق.
(٢) المستصفى ص ٩.
(٣) مذكرة لشيخنا الدكتور عبد الغني محمد عبد الخالق لم تطبع.
1 / 8
المتقدمين وحججهم، وبسبرها يتوصل للقول الراجح من المرجوح، ويعرف عقيم الأدلة وصحيحها بواسطة القواعد التي اكتسبها من هذا الفن، فيخرج من دائرة التقليد الذي هو طريق معرفة الأحكام للعامي ومن في منزلته.
٢ - العالم بهذا الفن يشعر بالاطمئنان إلى ما نقل إليه من أحكام في كتب المتقدمين من الأئمة الأعلام، الذين ملكوا ناصية هذا الفن ودونوا لنا أحكامًا تدل على علو كعبهم ورسوخ أقدامهم، وأنها كانت بناء على قواعد ثابتة وأسس حكيمة فليست تبعًا لميل النفس وتلبيةً للرغبة والشهوة.
٣ - يشعر العالم بهذا الفن بأن هذا الدين وقد جعله الله خاتم الشرائع، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن المستقبل له وسيظهر فساد كل ما عداه من القوانين الوضعية البشرية مهما كان واضعها. ومهما رُفع لترويجها من شعارات، فالعدالة الاجتماعية هي روح الِإسلام ومنه نبعت، والتعاون الذي يلوحون به طَبَّقه الِإسلام في صورةٍ مثالية. قال تعالى: ﴿وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ (١). وقال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ (٢) وأما الإحسان فيكفينا فيه
قوله-ﷺ: "دخلت امرأة النار في هرةٍ حبستها لا هيَ أطعمتها ولا تركتها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت" (٣). وأما الإِحسان للِإنسان فيقول تعالى فيه: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (٢٤) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ (٤). بل جعل الِإسلام هذا الحق ركنًا من أركان الإِسلام لا يتم إسلام المؤمن إلَّا بالاعتراف به. فإذن كل ما يدعونه من الخير، فقد جاء به الِإسلام قبل أربعة عشر قرنًا فأخذوا من الِإسلام جذوة بل بصيصًا من عدله ورحمته
_________
(١) [الحشر: ٩].
(٢) [المائدة: ٢].
(٣) متفق عليه عن ابن عمر (كشف الخفا ١/ ٤٠٣).
(٤) [المعارج: ٢٤، ٢٥].
1 / 9
ورفقه وادَّعوه لأنفسهم، والأغرب من ذلك استوردناه من عندهم متجاهلين أن ما عندنا خير منه.
٤ - وبهذا العلم نستطيع أن نرد على الفِرَق الضالة الملحدة التي تنتسب للِإسلام وتكيل إليه التهم في أصله الأصيل. سواء أكان ذلك بالنسبة للقرآن الكريم أن فيه ألفاظًا مهملة (كالحشوية). أو أنه لا دلالة فيه على حلالٍ أو حرام كالهشامية (١) من الشيعة الِإمامية. أم بالنسبة للسنة المطهرة كقول بعض المعتزلة (لا حجة في أخبار الآحاد) وكإنكار كون القياس والِإجماع من الحجج الشرعية (كالنطام وبعض الرافضة) (٢).
وقد أجمل جمال الدين الأسنوي المتوفى سنة ٧٧٢ هـ فوائد هذا الفن، وغايته في مقدمة كتابه التمهيد بقوله: (فأصول الفقه هو المعلم الذي يكوَّن المجتهد المبدع والفقيه المثمر المنتج، ويقضي على أُكذوبة غلق باب الاجتهاد، ويذهب بأسطورة سد طريق الاستنباط، وأنه لا يمكن أن يستغني عنه من أراد أن يتأهل للنظر والاجتهاد. ولا من يهتم بعلم الفقه والخلاف ويتعرض لمقارنة المذاهب المختلفة والموازنة بين الآراء المتباينة، ويعنى بإظهار أدلتها وعللها وكيفية دلالتها عليها، ويحرص على التقريب بينها أو
إظهار الحق فيها وبيان قويها من ضعيفها وصحيحها من سقيمها. ومعرفة أسرار آيات القرآن وأحاديث السنة المطهرة والوصول للأحكام التي تؤخذ منها).
عملي في الكتاب:
١ - ترجمت للمؤلف بترجمة وافية تبين نَسبه ومولده ونشأته ومنزلته بين العلماء وشيوخه وأقرانه وتلاميذه ومؤلفاته. والكتب التي تأثر بها وتأثرت بكتاب التحصيل وبينت مسلك الأرموي في الاختصار. كما أظهرت قيمة الكتاب العلمية.
_________
(١) نسبة لهشام بن الحكم "الملل والنحل للشهرستاني" ١/ ١٨٤.
(٢) لها ترجمة في القسم التحقيقي ص ٢/ ٣٩.
1 / 10
٢ - قمت بنسخ إحدى النسخ وهي التي غلب على ظني أنها أفضل النسخ الموجودة، وسلكت في ذلك أنني كنت أكتب سبعة أسطرٍ في كل صفحة من الصفحات اليسرى، وتركت الصفحة اليمنى خالية وذلك لتدوين الحواشي، وإثبات المقابلات بين النسخ عند الاختلاف وتوضيح ما يحتاج إلى ذلك.
٣ - قمت بمقابلة الصورة المنسوخة بما نسخت للتأكد من صحة النسخ. ثم قابلت باقي النسخ مع إثبات مخالفة كل نسخةٍ للنسخة المنسوخة في الهامش وبعد أن وضعتُ لكل نسخة رمزًا خاصًا، وقد بينتُ الرمز المستعمل لكل نسخةٍ في المبحث الخاص بنسخ كتاب التحصيل ولم أترك من هذه الفروق إلا ما لا تدعو الحاجة إلى إثباته ومن ذلك:
أ- ألفاظ تنزيه الله تعالى الواردة بعد لفظ الجلالة، فاخترت منها لفظ تعالى.
ب - ألفاظ الصلاة والسلام على الرسول-ﷺ-فكنت أثبت أكملها في الغالب، مثل-ﷺ-أو ﵊.
جـ - ألفاظ الترضي، والترحم، فاخترت ﵁ للصحابة، ورحمه الله لغيرهم من المسلمين.
د- تصحيح صور كتابة بعض الكلمات التي تخالف قواعد الِإملاء العصرية، ولم أنبه على ذلك في كل موضع لكثرته، وخاصة إبدال الهمزة ياء.
٤ - قابلت التحصيل مع المحصول فقرة فقرة وكلمة كلمة لأعرف مدى الاختصار، ودونت ما دعت إليه الحاجة لتوضيح التحصيل، واستعنت بالمحصول في ترجيح الراجح من الألفاظ المختلفة بين النسخ.
٥ - قابلت التحصيل مع نهاية السول للعلامة جمال الدين الأسنوي، وذلك لأنه أكثر من النقل عنه وتأكدت من صحة ما عزاه له.
٦ - رقمت الآيات القرآنية الموجودة في المتن مبينًا لسورة ورقم الآية.
1 / 11
٧ - خرجت الأحاديث النبوية الشريفة وآثار الصحابة والتابعين، وعزوتها للكتب التي وردت فيها وبينت درجتها من الصحة.
٨ - خرجت الأشعار والأمثال بذكر قائليها ومناسبتها ومكان ورودها.
٩ - ترجمة للأعلام والأماكن والفرق الواردة في المتن.
١٠ - تأكدت من صحة نسبة الأقوال الفقهية والأصولية لأصحابها، مع ذكر مكان ورودها في كتبهم كلما أمكن ذلك.
١١ - شرحت بعض الألفاظ الغريبة والعبارات المشكلة والمصطلحات العلمية.
١٢ - أجبت عن معظم اعتراضات القاضي الأرموي على الإمام الرازي - رحمهما الله تعالى-، وأحصيتها إحصاءً كاملًا فوجدتها أربعةً وثمانين اعتراضًا.
١٣ - نسخت الكتاب مرة أخرى مثبتًا اللفظ الصحيح أو الأصح في المتن، مشيرًا للفظ المخالف ذاكرًا في الغالب سبب اختيار اللفظ المختار في الهامش.
١٤ - أثناء نسخ الكتاب في المرة الأخيرة وضعتُ عناوين مناسبةً بشكل بارزٍ مع إضافة ألفاظٍ لا بد منها. ووضعتُ الفواصل والنقط بما يسهل فهم المعنى، لأن الكتاب كان كسائر كتب ذلك العصر لا يوجد فيه فواصل وعناوين بارزة، بل مقسمًا تقسيمًا جيدًا إلى أبواب وفصول ومسائل مدموجة بين السطور.
١٥ - صححت بعض الألفاظ المخالفة لقواعد الصرف والنحو وهي نادرة جدًا.
١٦ - ألحقت بالكتاب ثمانية فهارس:
فهرسًا للآيات، وفهرسًا للأحاديث والآثار، فهرسًا للشعر والأمثال، فهرسًا للأعلام، فهرسًا للطوائف والأماكن، فهرسًا للكتب، فهرسًا للمراجع، فهرسًا لمحتويات الرسالة.
هذا وانني لا أدّعي الكمال فيما قمت به بل هو جهد المقل، فإن كان صوابًا فهو من توفيق الله جلَّ شأنه وله الحمد والشكر، وإن كان غير ذلك- لا
1 / 12
سمح الله- فهو مني وأستغفر- الله من ذلك. وحسبي أنني بذلت قصارى جهدي وعملت ما في وسعي.
وإنني والحمد لله ممن يثلج صدره أن تهدى إليه عيوبه فرحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا. وكل إِنسان يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب هذا القبر، كما قال الإمام مالك مشيرًا لقبر رسول الله-ﷺ، سائلًا المولى أن يوفقنا للعمل بما علمنا لأنه هو الغاية والمبتغى.
المحقق
1 / 13
ترجَمَة المؤلّف
نَسَبهُ وَمَولدهُ وَنشْأته
هو أبو الثناء سراج الدين محمود بن أبي بكر بن أحمد بن حامد الأرموي (١) الأذربيجاني التنوخي (٢) الدمشقي الشافعي. ولد في مدينة أُرمية من أعمال أذربيجان وهي الآن تسمى رضائية تابعة لدولة إيران. وذلك سنة ٥٩٤ هـ. وقد زار هذه المدينة ياقوت الحموي، ووصفها في كتابه العظيم
_________
(١) نسبة إلى أُرمية بضم الهمزة وسكون الثاني وميم مكسورة وياء مفتوحة خفيفة وهاء. ونقل في هذه النسبة ياقوت الحموي عن الفارسي بحثًا أذكره بتمامه إتمامًا للفائدة قال الفارسي: أما قولهم في اسم بلدة أرمية متجوَّز في قياس اللغة العربية تخفيف الياء وتشديدها. فمن خففها كانت الهمزة على قوله أصلًا، وكان حكم الياء أن تكون واوًا للِإلحاق ببَيْرين ونحوه. ولكن الكلمة لما لم تجئ على التأنيب كعنصرة أبدلت ياءً كما أبدلت في جمع عرقوه إذ قالوا: عرق. وقال: حتى تقضي عرقي الدلي.
ويجوز في الشعر أن تكون الياء للنسبة وتخفف كما قال ابن الخواري: من شدد الياء احتملت الهمزة وجهين. أحدهما: أن تكون زائدة فإذا جعلتها أفعولة من رميت. والآخر: أن تكون فعلية إذا جعلتها من أرم فتكون الهمزة فاء.
وأما قولهم في اسم الرجل "إرميا" فلا يكون في قياس العربية "إفعلا" ولا يتجه فيه ما يتجه في أرمية من كون الياء منقلبة عن واو. أما ترى أن ما جاء وفيه الألف من المؤنث، لا يكون إلا مبنيًا عليها وليست مثل الياء التي تبنى مرة على التأنيث ومرة على التذكير.
(٢) بعد البحث والتقصي لم أستطع أن أقطع بسبب نسبة القاضي الأرموي إلى تنوخ، مع أن القاضي الأرموي من مواليد أذربيجان من أصل كردي. وتنوخ قبيلة عربية الأصل من اليمن وهي عبارة عن عدة قبائل سكنت البحرين قبل الإسلام، واتحدت وكونت لها دولة في مدينة الحيرة، وكان من ملوكهم النعمان بن المنذر. ومعظم هذه القبائل تنصر قبل الِإسلام، واختلطوا بأجناس أخرى، وقد ورد ذكرهم في عدة جهات في حروب الفتح الإسلامي فمنهم من كان يسكن دومة الجندل. وقسم كان يسكن نواحي مدينة حلب في عهد هارون الرشيد، =
1 / 15
معجم البلدان، وذلك سنة ٦١٧ هـ عندما كان عمر القاضي سراج الدين الأرموي ثلاثة وعشرين عامًا فقال: (هي مدينة عظيمة قديمة بأذربيجان، بينها وبين البحيرة نحو ثلاثة أميال أو أربعة، وهي فيما يزعمون مدينة زرادشت نبي المجوس. رأيتها سنة ٦١٧ هـ. وهي مدينة حسنة كثيرة الماء إلا أنها غير مرعية من جهة السلطان لضعفه وهو (إزبك بن البهلوان بن إيدكز) وبينها وبين تبريز ثلاثة أيام، وبينها وبين أربيل سبعة أيام. ونسب إليها جماعة منهم: أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن محمد الشويخ. وأبو الفضل محمد بن عمر بن يوسف الأرموي ومظفر بن يوسف الأرموي (١).
ونشأ وتلقى علومه الأولية في بلده، ولم أجد من ذكر على من أخذ علومه ومتى كانت بداية طلبه العلم ولا نوع العلوم التي حصلها، ولا متى هجر بلاده ليلتقي بموسوعة العلوم آنذاك في الموصل كمال الدين بن يونس، ولكن يغلب على ظننا أنه كان بعد أن بلغ مبلغ الرجال لأن العلوم العقلية
المنطقية والفلسفية لا يبدؤ بها في الطلب. ولم نعرف شيئًا عن بيئته الخاصة وأسرته التي ترعرع فيها، وأعوذ بالله أن أتكلف ما لم أجد رغم البحث الشديد والتقصي (٢).
_________
= ثم هجروها إلى قنسرين. ويذكر البلاذري في صفحة ١٤٦ أنهم بعد قنسرين ذهبوا إلى تكريت وأرمينية وبلاد بحر الروم وغيرها من الجهات.
وما ذكره البلاذري عن تشتت هذه القبائل، فلا مانع أن تكون قد وصلت إلى أرمية، فيكون القاضي سراج الدين الأرموي من أصل عربي. وقد يكون أنه اكتسب هذه النسبة خلال هجرته من بلاده، لطلب العلم في شمال العراق ثم ملطية ثم بلاد الشام كما حدث لكثير من العلماء، وذلك على سبيل الولاء لأنه سكن بينهم، ومهما يكن من أمرٍ فقد روى مسلم وأحمد وأبو داود والترمذي وابن عساكر عن أبي هريرة: "من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه". ولكن البحث العلمي هو الذي يدفعنا للتنقيب. وقد ورد ذكر قبائل تنوخ والنسبة لها في دائرة المعارف الإسلامية ١٠/ ٨٧ وما بعدها. والقاموس الإسلامي ١/ ٥٠٢، واللباب للسمعاني ١/ ١٨٣.
(١) معجم البلدان ١/ ١٥٩.
(٢) ترجمت للأرموي الكتب الآتية: طبقات الشافعية لابن السبكي ٨/ ٣٧١، طبقات الشافعية للأسنوي ٥/ ١٥٥، روضات الجنان للخوانيساري ٨/ ١١٨، هداية العارفين للبغدادي ٢/ ٤٠٦، والأعلام للزركلي ٨/ ٤١، ٤٢، معجم المطبوعات ١/ ٤٢٧، مفتاح السعادة =
1 / 16
المدارس الأصولية في هذا العصر ومن أيها كان القاضي الأرموي بعد أن دوَّن الإِمام الشافعي ﵁ في أواخر القرن الثاني الهجري قواعد علم أصول الفقه، أخذ العلماء يقتبسون من نوره وينسجون على منواله، ويوسعون ما استنبطه ودونه من أفكار، بالاستدلال عليها والتمثيل لها ووضع التفريعات عليها والذي يظهر من أسماء المصنفات التي صنفت في القرنين الثالث والرابع الهجريين أنها كانت تبحث في موضوع واحد من مواضيع علم أصول الفقه.
_________
= ١/ ٢٩٧، ريحانة الأدب ١/ ١٠٨، السلوك للمقريزي ١/ ٣٥٤، مفرج الكروب ٤/ ٢٤٧،
كشف الظنون ٦١، ٩٢، ٩٥، ٢٦١، ٨٤٨، ٩٠٢، ١٦١٥، ١٧١٥، ١٨٤٦، ٢٠٠٢، الكنى والألقاب ٢/ ٢٢، آثار البلاد ص ٣٩٢، مجالس المؤمنين (نقل عنه الخوانساري قصة الأرموي مع جلال الدين الرومي) تلخيص الآثار في عجائب الأقطار).
الكتب المخطوطة: التراجم لابن عبد الهادي، طبقات الشافعية الوسطى والصغرى.
الكتب الفارسية:
١ - مناقب أوحد الدين الكرماني فارسي، طبع تهران سنة ١٣٤٧ هـ من ص ١/ ٩ - ٩٥ وصفحة ١٨٥.
٢ - مكتوبات مولانا جلال الدين الرومي، طبع أستانبول سنة ١٣٥٦ ص ٣٦.
٣ - مسامرة الأخبار ومسايرة الأخيار لكريم الدين محمود الأقسرائي، طبع أنقرة سنة ١٩٤٤ م ص ٢٩٠ ص ١٣١.
٤ - مناقب العارفين لأحمد الأفلاكي طبع أنقرة سنة ١٩٥٩ م ١/ ١٦٥ - ١٦٨ (٢٧٤ - ٢٧٦)
٣٢٤ - ٣٢٦، ٤١٠ - ٤١٢، ٥٦١، ٥٦٢، ٢/ ٥٩٣ - ٥٩٤.
٥ - بزورزم للعزيز الأسترابادي، طبع إستانبول ١٩٢٨ م ص ٤٥.
٦ - الأوامر العلائية في الأمور العلائية لحسين محمد علي الجعفري الرودكي الشهير بابن بي بي ص ٧٠٠ - ٧٠١. طبع أنقرة سنة ١٩٥٦ م.
٧ - مقدمة لطائف الحكمة طبع تهران بالفارسية.
٨ - رسالة فريدون بن أحمد سبهسا لار ص ٣٣٨، ٨٦ - ٨٧، ٩٧ - ٩٨، ١١٦.
٩ - رسالة در أحوال مولانا جلال الدين الرومي ص ١٢٦، ١٢٧.
١٠ - لغت نامة دهخدا (دائرة المعارف الفارسية).
١١ - دانشمندان أذربيجان ١٧٥ - ١٧٦.
المعاجم والفهارس:
١ - Brocklman: g،١: ٤٦٧ s،١: ٨٤٨.
٢ - Mingana Catalogue of Arabic Manuscripts ٦٦٩.
1 / 17
ثم ازدهر بعد ذلك علم الكلام بعد أن بدأت في عهد الخليفة العباسي المأمون ترجمة الكتب الفارسية واليونانية، وأقبل العلماء على هذه الترجمات وتأثروا بها وظهر الاعتزال وقامت دولته، وعاش رؤساء الاعتزال في ردهات القصور وفي كنف الحكام. ثم خبت نارهم التي اكتوى بها أهل السنة فعذب
منهم من عذب. ثم قامت دولتهم مرة أخرى في كنف الصاحب بن عباد.
ومعظم مصنفات هذه الفترة قد اندثرت وضاعت فيما ضاع من التراث الإسلامي الضخم، لما أفلت شمس الخلافة في بغداد، ودهى الأمة الإسلامية ما دهاها من غزو التتار، حيث قذف بالمكتبات في دجلة لتكون جسورًا يُعبر عليها. ولكن من النقول التي وصلتنا في بطون كتبٍ كتبَ الله لها البقاء، علمنا أن الكتابة في هذا الفن أصبح لها منحيان، وأخذت تسلك طريقين لم يكن بينهما عظيم فارق في البداية، ولكن الفرق أخذ يظهر بالتدريج ويبرز شيئًا فشيئًا إلى أن انتهى بينهما الأمر إلى فارق واضح، ولكل طريقة ومنهج خاص وميزات لا تشارك إحداهما الأخرى فيها، وقد يصعب على الناظر في هذا الفن تحديد بداية التباين، ولعل ظهور طريقة الشافعية أو المتكلمين كان على يد أحمد بن عمر بن سريج المتوفى سنة ٣٠٦ هـ، الذي ألّف كتابًا في الرد على أبي داود الظاهري في إبطال القياس. فقد نقل ابن السبكي (١) في طبقاته عن القاضي أبي بكر الباقلاني في التقريب وأبي إسحاق الشيرازي في التعليقة أنهما قالا: (إن ابن سريج وغيره كانوا قد برعوا في الفقه وغيره، ولم يكن لهم قدمٌ راسخة في الكلام، فطالعوا على الكبر كتب المعتزلة، فاستحسنوا عباراتهم وقولهم يجب شكر المنعم عقلًا. فذهبوا
إلى ذلك غير عالمين بما تؤدي إليه هذه المقالة. ثم وضحت هذه الطريقة على يد عبد الجبار بن أحمد المعتزلي المتوفى سنة ٤١٥ هـ، حيث وضع كتابه العظيم الذي سماه العمد. ومحمد بن الطيب أبي بكر الباقلاني المالكي الأشعري المتوفى سنة ٤٥٣ هـ، حيث صنف المقنع في أصول الفقه، وأمالي إجماع أهل المدينة، والتقريب الذي قال عنه ابن السبكي:
_________
(١) طبقات ابن السبكي ١/ ١٧٧.
1 / 18
وهو أجل كتب الأصول، والذي بين أيدينا مختصره ويبلغ أربعة مجلدات، ويحكى أن أصله كان في إثني عشر مجلدًا) ثم انتهت الكتب المصنفة على هذه الطريقة إلى أربعة كتب.
قال ابن خلدون في تاريخه (١): (وعنى الناس بطريقة المتكلمين فكان من أحسن ما كتب فيه المتكلمون: كتاب البرهان لِإمام الحرمين والمستصفى للغزالي، وهما من الأشعرية وكتاب العمد للقاضي عبد الجبار بن أحمد، وشرحه المعتمد لأبي الحسين البصري، وهما من المعتزلة. وكان الأربعة قواعد هذا الفن وأركانه. ثم لخص هذه الكتب الأربعة فحلان من المتكلمين المتأخرين، وهما الإمام فخر الدين بن الخطيب في كتاب المحصول وسيف الدين الآمدي في كتاب الأحكام، واختلفت طرائقهما بين التحقيق
والحجاج، فابن الخطيب أميل للاستكثار من الأدلة والاحتجاج- والآمدي مولع بتحقيق المذاهب وتفريع المسائل).
وأما جمال الدين الأسنوي (٢): فقد قال: (والمحصول استمداده من كتابين لا يكاد يخرج عنهما غالبًا. أحدهما: المستصفى لحجة الإسلام الغزالي، والثاني: المعتمد لأبي الحسين البصري. حتى رأيته ينقل منهما
الصفحة أو قريبًا منها بلفظها وسببه على ما قيل: إنه كان يحفظهما).
ويظهر مما نقلناه عن العلامة ابن خلدون في تاريخه والإمام جمال الدين الأسنوي في نهاية السول: أن علم الأصول على طريقة المتكلمين، قد انتهى في القرن السادس وأوائل السابع الى الِإمامين فخر الدين الرازي وسيف الدين الآمدي ومعظم من كتب في القرن السابع لم يخرج عن إطارهما، فهم ما بين مختصرٍ لكتابيهما أو شارح أو معلقٍ عليهما، ولقد كانت العناية بكتاب فخر الدين الرازي أشد. وسنذكر في فصل من اشتغل بكتاب المحصول مزيدًا من البيان، ولعل ما رمي به سيف الدين الآمدي كان سببًا في تنفير الناس عن كتابه في ذلك الوقت، وهو في الحقيقة لا يقل فائدةً عن كتاب فخر الدين الرازي.
_________
(١) تاريخ ابن خلدون ١/ ٣٨٠.
(٢) نهاية السول ١/ ٩.
1 / 19
وهذه المدرسة- مدرسة المتكلمين- كانت هي المسيطرة في القرن السابع الهجري، حيث إن المصنفات على هذه الطريقة كانت لا تعد ولا تحصى، وكان القاضي سراج الدين الأرموي- ﵀ ممن أدلى بدلوه مع سائر الدلاء، ولكنه بلغ من البئر غوره، ووصل لما لم يصله غيره، لأن الميدان ميدانه فقد بلغ الأرموي- ﵀ في العلوم العقلية مبلغًا فاق أهل زمانه، لأنه ورد النبع الصافي وأخذه من علامة ذلك الزمان كمال الدين بن يونس وصنف فيه الكتب التي لا تزال المورد العذب والمنبع الصافي، فما إن أراد طاش كبري زاده في كتابه مفتاح السعادة أن يدخل في مصنفات علم المنطق والحكمة والجدل، حتى بدأ بمصنفات سراج الدين الأرموي. وقد كان لعلمه الغزير وحذقه بالفنون العقلية أثر بالغ على كتابه التحصيل، فظهر التنظيم المنقطع النظير، والبحث الدقيق، وإقامة الأدلة العقلية، ونقاش أدلة الخصوم بما يظهر عوارها وزيفها، ولا يكون ذلك إلاَّ لمن له القدح المعلى في الإحاطة بهذا الفن وإدراك عويصات مسائله.
فالقاضي الأرموي- ﵀ هو ابن هذه المدرسة، وما إن بلغ مبلغ الرجال، حتى أصبح شيخها ورئيسها الذي تربع على عرشها بحق. وأما انغمار ذكره في كتب التراجم العربية فله أسباب ومبررات، ولعل من أهمها وأعظمها، أنه عاش فترة نضوج علمه وكمال شخصيته في بلاد الروم في فترة تمزقت فيها الأمة الإسلامية إلى دويلات بينها تقاطِع وتدابر. زد على ذلك أنه عاش هذه الفترة بين جماعة يختلفون عنه مذهبًا وجنسًا، ومع هذا سطرت الصفحات المتلألئة في مزاياه وصفاته الحميدة حتى من أقرانه الذين يخالفهم مسلكًا ومنهجًا في الكتب الفارسية والتركية ككتاب مناقب العارفين وغيره.
وينبغي أن نختم ذكر هذه المدرسة بذكر بعض مميزاتها:
١ - أن القواعد الأصولية في هذه الطريقة تدرس دراسة دقيقة عميقة بقصد إثباتها بأدلة عقلية وبراهين قاطعة، بغض النظر عن الفروع الفقهية المذهبية التي تتعلق بهذه القواعد. وذكر الفروع الفقهية فيها على سبيل التمثيل لا لبناء القواعد.
1 / 20
٢ - تطرق الكاتبون على هذه الطريقة إلى مباحث كلامية هامة وأكثروا منها.
واستعملوا الأدلة المنطقية والمباحث الفلسفية في إثبات هذه القواعد، ومن ذلك ما تعرضوا له من التحسين والتقبيح العقليين، وعصمة الأنبياء، وشكر المنعم عقلًا وشرعًا.
٣ - امتازت هذه الطريقة بالترتيب والتنظيم والتقسيم إلى أبواب وفصول ومباحث ومسائل.
وأما المدرسة الأصولية الأخرى، فهي طريقة الفقهاء أو الحنفية وقد وصف العلامة ابن خلدون (١) هذه الطريقة في تاريخه بقوله: (ثم كتب الحنفية فيه وحققوا تلك القواعد وأوسعوا القول فيها، وكتب المتكلمون أيضًا كذلك، إلَّا أن كتابة الفقهاء فيها أمس بالفقه وأليق بالفروع، لكثرة الأمثلة فيها
والشواهد وبناء المسائل فيها على النكت الفقهية ثم قال: فكان لفقهاء الحنفية اليد الطولى في الغوص على النكت الفقهية والتقاط هذه القوانين من مسائل الفقه ما أمكن).
وقال العالم محمد أبو زهرة (٢): وتمتاز هذه الطريقة: بأنها تقرر القواعد تبعًا للفروع الفقهية المنقولة عن الأئمة، ولهذا يلتزمون بعدم مخالفة القاعدة للفروع، ولذا دونت هذه الطريقة بعد تدوين الفروع، ولذا اتسمت بحشد كثيرٍ من الفروع أثناء إثبات القاعدة.
ولعل من أقدم من صنف من الحنفية هو عيسى بن أبان بن صدقة الحنفي المتوفى سنة ٢٢٠ هـ، ثم عبيد الله بن الحسن بن دلال بن دلهم الكرخي المتوفى سنة ٣٤٠ هـ، ثم تلميذه الجصاص أحمد بن علي أبو بكر الرازي المتوفى سنة ٣٧٠ هـ، ثم الدبوسي أبو زيد عبد الله بن عمر المتوفى سنة ٤٣٠ هـ، ثم السرخسي محمد بن أحمد شمس الأئمة وكتابه مطبوع في مجلدين المتوفى سنة ٤٨٢ هـ، ثم الصدر الشهيد الحنفي عمر بن عبد العزيز بن عمر أبو محمد حسام الدين المتوفى سنة ٥٣٦ هـ، له عمدة المفتي
_________
(١) تاريخ ابن خلدون ١/ ٣٧٩.
(٢) أصول أبي زهرة ص ٢٢.
1 / 21
والمستفتي وكتاب أصول حسام الدين، ثم أبو المفاخر الكردي الحنفي عبد الغفور بن لقمان بن محمد شرف القضاة تاج الدين له المفيد والمزيد في أصول الفقه توفي سنة ٥٦٢ هـ، ثم عبد العزيز بن عثمان بن إبراهيم القاضي النسفي المتوفى ٥٦٣ هـ، صاحب كفاية الفحول في علم الأصول.
وأما هذه المدرسة فقد هدأت حالة التصنيف فيها في القرن السابع الهجري، فلم يظهر من المصنفات على هذه الطريقة كما ظهر من المصنفات على طريقة المتكلمين، ومن المصنفات في القرن السابع الهجري على هذه الطريقة: كتاب الفصول في علم الأصول للموفق الخاصي المتوفى ٦٣٤ هـ،
وهو الموفق بن محمد بن الحسن بن أبي سعيد الخاصي صدر الدين الخوارزمي. وكتاب الطريقة الحصيرية في الخلاف بين الحنفية والشافعية لجمال الدين الحصيري محمود بن أحمد بن عبد السيد البخاري الحصيري أبي حامد جمال الدين المتوفى سنة ٦٣٧ هـ. والمجتبى في أصول الفقه للمختار بن محمود بن محمد أبي الرجاء نجم الدين القزميني الفقيه الحنفي، المتوفى سنة ٦٥٨ هـ، وشرح أصول فخر الإسلام البزدوي، للإمام علي بن محمد بن علي نجم العلماء حميد الدين الضرير الرامشي، المتوفى سنة ٦٦٧ هـ، والكتاب الشهير المسمى بالمغنى للشيخ الخبازي عمر بن محمد بن عمر الخبازي الحنفي جلال الدين أبي محمد، المتوفى سنة ٦٧١ هـ.
ثم في آخر هذا القرن ظهر الكتاب العظيم المسمى بالمنار مع شرحه لنفس المؤلف أبي البركات حافظ الدين النسفي عبد الله بن أحمد بن محمود تلميذ شمس الدين الكردري، المتوفى سنة ٧١٠ هـ. وهذا الكتاب كثرت عليه الشروح والحواشي واعتني به كثيرًا.
وبرزت للوجود في هذا القرن طريقة ثالثة قد حاز قصب السبق فيها علامة من علماء الأحناف الأجلاء وهو ابن الساعاتي أحمد بن علي بن ثعلب مظفر الدين، المتوفى سنة ٦٩٤ هـ. فقد ابتكر كتابه العظيم الذي سماه (بديع النظام) الذي جمع فيه بين طريقتي سيف الدين الآمدي الشافعي في
كتابه الأحكام الذي اعتنى فيه الآمدي بالاستدلال على القواعد الكلية
1 / 22