إهداء الكتاب
كلمتان كبيرتان
مقدمة المعرب
مقدمة المؤلف
1 - الدول العظام والمسألة المصرية
2 - فرنسا وإيطاليا
3 - سياسة بريطانيا الاستعمارية
4 - المركز الكاذب
5 - المصريون و«حياد» مصر
الخاتمة
Unknown page
رأي الطان في «تحرير مصر»
إهداء الكتاب
كلمتان كبيرتان
مقدمة المعرب
مقدمة المؤلف
1 - الدول العظام والمسألة المصرية
2 - فرنسا وإيطاليا
3 - سياسة بريطانيا الاستعمارية
4 - المركز الكاذب
5 - المصريون و«حياد» مصر
Unknown page
الخاتمة
رأي الطان في «تحرير مصر»
تحرير مصر
تحرير مصر
تأليف
أ. ز.
ترجمة
محمد لطفي جمعة
إهداء الكتاب
إلي الشعب المصري الكريم ...
Unknown page
كلمتان كبيرتان
1
لست ممن يقولون بأن مصر مدينة للإنكليز في كل ما سبب التقدم الذي بلغته منذ سنة 1882، إنما أنا أول من يعترفون بالأعمال النافعة التي قام بأعبائها الوطنيون والأجانب غير الإنكليز في سبيل إنهاض البلاد وإقالة عثرتها. ولا أعتقد أن نجاح مصر النهائي متوقف على بقاء النفوذ البريطاني فيها بشكله الحاضر أمدا غير محدود.
صحيفة 167 «كتاب إنجلترا في مصر» تأليف اللورد ملنر
2
إن حكم مصر بالمصريين هو الغرض الوحيد الذي يسعى إليه الإصلاح والمصلحون.
صحيفة 9 تقرير اللورد كرومر عن مصر والسودان في 1904
مقدمة المعرب
أيها القارئ الكريم:
إنا لا نعرف واضع هذا الكتاب، وقد قيل منذ أيام في الصحف الأجنبية التي تصدر في مصر إنه يظن أن واضعه من كبار الساسة الغربيين.
Unknown page
على أن الكتاب بليغ في لغته متين في أسلوبه، وكأن واضعه قد شاء أن يكون كتابه «قضية منطقية» فكان ... فإنك لا تزال تتنقل فيه من مقدمة إلى نتيجة ومن حقيقة إلى حقيقة ومن دليل إلى برهان حتى يخيل لك أن الكاتب لم يغادر في كتابه صغيرة ولا كبيرة مما يتعلق بسياسة الدولة كافة في مصر إلا أحصاها.
ويعز علينا أن نقول إن هذا الكتاب ليس إلا «كأس ملام» يسقيه الأجنبي لأفاضل مصر وعلمائها الذين أسكتهم الكسل وقبض الخمول على أقلامهم بيد من حديد. فلعل الذين سكتوا حتى تكلم عنهم غيرهم بلسان غير لسانهم لا يسكتون مذ اليوم، ولعل هذا الكتاب يكون مقدمة لغيره من أقلام أبناء هذه البلاد ليبرهنوا للملأ أن همتهم لم تثبط وأن الآمال التي كانت تجول في صدورهم لا تزال حية لم تمت.
حديقة الحلمية
30 يناير سنة 1906
مقدمة المؤلف
لقد صدق اللورد ملنر في قوله: «إن مصر بلد التناقض والتخالف، فإنه لا يوجد في العالم بلد فيه ما في مصر من الحقائق والأفكار المتناقضة المتباينة، وقد يصل هذا التناقض إلى حد مدهش فيصير مضحكا.»
فيليق إذن بمن يرقب أمور هذه البلاد ويشاهد أحوالها أن يكون متنبها أبدا متوفيا لئلا يلقيه حسن الظن والإسراع في الحكم في الخطأ والندم، ويليق بمن يمعن النظر في تاريخ مصر في القرن الماضي ويرغب أن يخرج منه وهو على بينة من أمر تلك البلاد أن يكون قوي العزيمة ثابت الجأش، فإنه إذا أراد أن يطالع عشر الكتب والرسائل التي شوه فيها كاتبوها تاريخ مصر تشويها قبيحا يرى نفسه في حاجة شديدة إلى جهاد قوي يستطيع به أن يقاوم تأثير تلك الكتب التي ما كتبت إلا لتكون سهاما تصيب أغراض أصحابها، فينبغي للمطالع العاقل أن يقف موقف الحكيم فيتمكن بعد عناء شديد من الوقوف على شيء من الحقيقة؛ لأن كل ما كتب عن مصر من رسائل وكتب لم يكتب إلا ليكون لسان حال دولة من الدول التي لها في وادي النيل نفع أو ترجو منه خيرا. فمثلها كمثل الصحف السياسية التي تبتذل الحقائق حبا بالمطامع الشخصية والمنافع الذاتية؛ من أجل هذا لم تأت هذه الكتب بنفع يذكر وجلبت ضررا لا يقدر.
فيجب إذن على المراقب العادل أن يمسح لوح فكره، وأن يزيل ما كتب في صحيفة صدره من معاني التحزب لفريق دون آخر، أو التحامل على فئة دون فئة، فإن التغرض والتعصب والتحامل والمدح والقدح والطعن لا تؤدي جميعها إلا إلى الجدل الباطل الذي يضر ولا ينفع، وقد رأينا نتائج ذلك الجدل الباطل وهي أنه هاج سخط الوطنيين وحرك مراجل عواطفهم حينا من الدهر كما تهيج الخمر شاربها، ولكنه لم يؤثر أقل تأثير في الدول الأجنبية صاحبة المنافع والمآرب في وادي النيل.
ونحن نرى أن أول واجب على الكاتب إذا أراد أن يفحص المسألة المصرية فحصا جيدا ويكتب عنها كتابا نافعا يصور فيه البلاد وأهلها كما هم هو أن يعرف الشعب النازل على ضفاف النيل حق المعرفة، وأن يعلم أن هذا الشعب خليط من وطنيين ودخلاء وأجانب، وأن لكل طائفة من الطوائف التي يتكون منها هذا الخليط دينا ولغة ومبادئ ومنافع خاصة بها، وأن كل تلك الديانات واللغات والمبادئ والمنافع مهما تباينت فإن أصحابها لا يرون أمامهم إلا غرضا واحدا هو التماس الرزق والكسب، وأن يعلم أن كل دولة أوروبية لها في مصر غرض تسعى لتدركه ويختلف سعي هذه الدول باختلاف نفوذها في أرض الفراعنة قوة وضعفا.
فإذا حالت هذه الصعوبات بأسرها ووقفت في طريق المطالع المؤرخ الراغب في أن يؤلف عن مصر رأيا واضحا عادلا مستندا فيه إلى تاريخها الماضي، فكيف بمن يرغب أن يتخذ تاريخ مصر الماضي مرقاة ووسيلة للحكم على مستقبلها؟ بيد أن من يطالع كتب تاريخ مصر في القرن التاسع عشر لا يجد أمامه إلا حقائق متباينة متخالفة، ولئن كان هذا التناقض والتخالف هو مادة تلك الكتب، فإن ذلك يكون من حسن حظ القارئ، ولكن مؤلفي كتب تاريخ مصر في القرن التاسع عشر جعلوها مجموعة للحقائق الناقصة؛ لذلك يحتاج المطالع إلى قوة فكرية كبيرة وقدرة عقلية هائلة يستطيع بهما أن يزن الأقوال والبراهين، فيتمكن بعد عناء شديد من حل الشلة المعقدة التي يسميها السياسيون والصحافيون بالمسألة المصرية.
Unknown page
وإذا منح المطالع قوة يميز بها بين الغث والسمين وبين الحقيقة والخيال، وكانت في غريزته قوة خارقة للعادة تخرق حجب الباطل حتى تصل إلى الحق، فإنه ولا جرم يبلغ نتيجة ترضيه ويقف على حقائق كثيرة لم يقف عليها غيره، فإذا وقف على تلك الحقائق فقد خطا الخطوة الأولى ولم يبق عليه إلا أن يلم بتأثير العوامل الخارجية والداخلية التي لها في حالة مصر السياسية وهيئتها الاجتماعية أيد فعالة، وبهذه الوسيلة وحدها يمكن للمطالع أن يهتدي إلى الحكم على مستقبل تلك البلاد. وغرضنا في هذا الكتاب أن نحاول جهد طاقتنا أن نشرح الحاضر ونتكهن بكنه المستقبل.
وقد وطدنا النفس على الثبات وسنزن أقوالنا في ميزان الحكمة والعقل، ونرجو أن لا يميل هذا الميزان مع هوى أو يعدل عن حق، ولعل المحك الذي سنحك عليه ما نكتب لا يخدعنا كما خدع غيرنا فننطق عن جهل كما نطق سوانا من قبل.
على أننا لا نستطيع أن نبلغ هذه الغاية إلا إذا وقفنا على تاريخ مصر بالتفصيل في خلال الثلاثين سنة الماضية، ولا ندرك هذه النتيجة إلا إذا قدرنا نفوذ إنكلترا وفرنسا في مصر حق قدرهما، ولا نستطيع نيل هذه النتيجة إلا إذا وسعنا نطاق دائرة الفكر وتخلصنا من آراء التحزب والتحامل المنبعثة عن كل مسألة سياسية خطيرة مثل المسألة المصرية، وغضضنا النظر عن المنادين بالوطنية رياء وكذبا لأغراض أخرى في نفوسهم ولبانات يتوقعون قضاءها.
فإذا استعددنا هذا الاستعداد لفحص تلك المسألة فنكون قد وضعناها في مكان تشرق عليها فيه أنوار الحقيقة، ونظرنا لها بمنظار المؤرخ السياسي الحكيم الذي يراعي الحقيقة ويحرص على منفعة البلاد حرص الجبان على نفسه قبل أن يراعي المبادئ الذاتية والأغراض الشخصية.
ولذلك سنلقي نظرة صغيرة على تاريخ مصر في تلك السنين الثلاثين ونضع أساسا متينا نبني عليه (تخت رمل) ننظر فيه نظر المنجم إلى طالع هذه البلاد، ونتكهن بما تخبئه لها الأيام والليالي.
وأول ما ينبغي لنا أن ننظر فيه هو علاقة فرنسا بمصر، وألا نبخس هذه الدولة حقها، فإن نفوذها يمتد إلى عهد حملة نابوليون سنة 1798، فكانت فرنسا أول دولة غربية مدت يدها إلى مصر وسعت للاستيلاء عليها، ولئن خاب سعيها فإنها فازت فوزا مبينا في ترك آثار لها في مصر لا يمحوها كرور الأيام ومرور الأعوام، وليس لدينا شهادة أكبر وأقوى من شهادة اللورد ملنر صاحب كتاب «إنكلترا في مصر»، فإنه قال فيه: «إن المنافع المادية والأدبية التي تمت لمصر على أيدي فرنسا كثيرة لا تحصى.»
فنحن لا نظن أن الذين ينكرون جميل فرنسا أكثر من الذين يعترفون به، ولا نغالي في المقال إذا قلنا إن المدنية المصرية الحديثة هي مدنية فرنسوية صرفة، ويكفي لتصديق هذا القول أن نلقي نظرة واحدة على أعمال فرنسا في هذه البلاد، فمن من العالمين لم يسمع باسم فرنكو شامبوليون الذي سهل لنا باجتهاده وثباته قراءة تاريخ مصر القديم باللسان الهروغليفي، وأضاف باكتشافه حلا لتلك الرموز إلى مصر شهرة فوق شهرتها السابقة، وجعلها ملتقى الأنظار ومحط الرحال، ومن ينكر أن إصلاح الري في عهد محمد علي وبناء القناطر الخيرية وعمل الخزانات لخزن ماء النيل، وأن كل ما نراه اليوم في مصر مما يتعلق بالانتفاع بماء النيل ليس إلا من عمل المهندسين الفرنسويين الذين كانوا عضد محمد علي ويده اليمنى.
ومن ينكر أن المهندسين الفرنسويين كانوا قائمين بكل الأعمال الهندسية عندما كان المستخدمون الفرنسويون قائمين بالأعمال الإدارية؛ بل من ينكر علينا أن قنال السويس - وهو أكبر عمل فني تم في القرن التاسع عشر - هو من صنع الفرنسويين فكرا وعملا؟ فيرى القارئ مما تقدم أن الإصلاح الذي جلب لمصر أكثر من نصف ثروتها الحاضرة ليس إلا من غرس الفرنسويين وما جاء الإنكليز إلا منفذين ومكملين.
هذا ومن يفحص نظام التعليم الحالي في مصر يرى لأول وهلة أنه منقول عن نظام التعليم الفرنسوي، وأكبر دليل على ذلك هو سيادة اللغة الفرنسوية على كل لغة أخرى في مصر، فإنها لا تزال لغة مصر الرسمية ولا تزال اللغة المحكية بين الخاصة من المتعلمين، ولا نرى دليلا على وصول المدنية الفرنسوية إلى قلوب المصريين أكبر من بلوغ لسانهم هذا الشأو البعيد في وادي النيل، وقد سرى هذا النفوذ إلى بعض المستخدمين من الإنكليز، فهم لا يزالون حتى اليوم يكتبون أوراقهم الرسمية باللغة الفرنسوية!
ولكن الذي يذكر عن فرنسا بالثناء والشكر هو أنها لم تكن تعمل في وادي النيل لتمتص ثروة البلاد، فإن الفرنسويين أفرغوا جهدهم ولم يدخروا وسعا في القيام بأعمال توازي ما يأخذونه من مال مصر وتزيد، ومن المعلوم أن ثروة مصر منذ خمسين سنة لم تكن كافية لتمهد لها سبيل التقدم الباهر الذي وصلت إليه، فمدت أوروبا يدها بالمال لمساعدة مصر وأقرضتها أكثر من مائة ألف ألف جنيه، فكانت فرنسا أول ملبية لدعوة مصر، وكان معظم هذا القدر الجسيم من مال الفرنسويين.
Unknown page
وقد يصعب علينا كثيرا أن نهتدي إلى كل المنافذ التي نفذت إليها المدنية الفرنسوية في مصر، فإنا لا نجد مجالا في مصر ماديا كان أو أدبيا إلا ونرى للفرنسويين فيه جولة، ونخص بالذكر العلماء الفرنسويين الذين تركوا في كل واد أثرا من آثارهم.
وأعظم الآثار النافعة التي تركها الفرنسويون في مصر تلك المدرسة الكبرى المسماة ب «متحف الآثار» الذي يديره الرجل الفاضل المسيو ماسبرو العالم (الأجيبتولوجيست) الشهير ومؤلف كتاب «تاريخ مصر القديم» الذي هو من أمهات الكتب التي يرجع إليها في تاريخ مصر.
وحسب القائلين بأن الفرنسويين لا يحسنون إدارة المستعمرات لأنهم ليسوا مستعمرين بطبيعتهم ما ذكرناه من أعمال فرنسا وأبنائها في أرض الفراعنة دليلا واضحا وبرهانا بينا، فمن الجهل أن يعترض على المصريين لأنهم أحبوا فرنسا والفرنسويين بعد أن تشبعوا بأفكارهم وآرائهم، وبعد أن امتزجوا بهم امتزاج الماء بالراح.
ويكفينا أن نقول إن حب المصريين لفرنسا هو أكبر دليل على قوة فرنسا والفرنسويين على الاستعمار وتوثيق عرى الوداد بينهم وبين أهل البلاد التي يستعمرونها.
لقد رأينا الآن تأثير فرنسا في مصر ونحن نرى أن ما ذكرناه عن تأثير فرنسا في مصر كاف لغرضنا الذي نسعى إليه، فنحن لا نحتاج بعد ما تقدم لي تتبع أدوار السياسة الفرنسوية في مصر أو إلى البحث في السياسة التي اتبعها كل وزير فرنسوي في أثناء نفوذ هذه الدولة في وادي النيل، ولا نرى للقارئ نفعا فيما إذا كانت سياسة دي فريسينه سابقة لأوانها أو أنها سياسة رجل متراخ كسول أو سياسة مجنون متهور، فإن لدينا ما هو أهم من مثل تلك الأبحاث وهو أن ننظر في سياسة فرنسا مراعين سياسة إنكلترا، فنقول: إذا استطعنا أن نقرأ قصة احتلال إنكلترا لمصر كما كتبها من امتلأت قلوبهم حقدا من الكتاب على إنكلترا وانطوت جوانبهم على بغضها دون أن نقرأ ما يتخلل السطور؛ بل إذا استطعنا أن ننسى كل ما عرفناه عن الاحتلال وأسبابه وقرأنا هذه القصة على نحو ما يقرأ التلميذ درسه، أي بلا ريب في صدقها ولا احتراس من الوقوع في الأحبولة التي نصبها لنا مؤلفوها، فإننا نقوم لا محالة بعد قراءتها ونحن نسب الأرض والسماء قائلين: «ما أظلم الإنسان وما أشد قسوته على أخيه وما أبشع جوره عليه.»
أجل إننا لو قرأنا قصة احتلال إنكلترا لمصر كما يكتبها هؤلاء الكتاب الناقمون الحاقدون لدهشنا من تلك الجزيرة الصغيرة التي أخرجت ذلك العدد الكبير من السياسيين الذين قاموا بأعمال ودبروا مكايد سياسية يعجز عن أمثالها «ماكيافيلي» على ما اشتهر به من التفنن في أساليب الخداع والبراعة في أنواع الغدر بالأمم لمصلحة الملوك.
نعم إن «ماكيافيلي» نفسه لو بعث حيا لخجل من أعمال هؤلاء الساسة؛ بل إن خجله ينقلب حقدا وحسدا لهؤلاء الساسة الإنكليز الذين فاقوه في المكر وأربوا عليه في ميدان الغدر.
هذا ما يخطر ببالنا بعد أن نقرأ القصة ولكننا نعود فلا نتمالك من الدهشة، وقد نرى أن هؤلاء الساسة أنفسهم لم يتجاوز غدرهم وخيانتهم الحد المحدود في السياسة في كل معاملاتهم الأخرى مع أمم العالم وممالكه كافة، فكأن خداعهم لم يكن إلا لاحتلال مصر وكأن غدرهم ومكرهم لم يخلقا فيهم إلا لينالوا بهما مآربهم في وادي النيل!
عند ذلك يبلغ الدهش والاستغراب من القارئ حدا كبيرا.
على أن عددا عظيما من الناس في أوروبا لا يزالون يعتقدون صدق هذه القصة، ولا يزالون يقرءون هذه الكتب الكاذبة التي يتهم فيها كتابها الأبرياء بما ليس فيهم، والأغرب من هذا هو أن هؤلاء القراء لا يدور في خلدهم أن تلك الكتب لم تكتب إلا لتشعل نار غضب العقلاء وتسيل دموع ضعاف القلوب ممن لا يرون سلب حرية شعب من العدل في شيء، ولئلا نتهم بما اتهم به كتاب هذه الكتب فقد قصدنا في هذا السفر أن نبتعد جهد طاقتنا عن أي قول تشتم منه رائحة الملام أو الاتهام.
Unknown page
ولا نتطال إلى أن نؤنب أية دولة على ما اقترفته في الماضي؛ فإن ما فات فقد فات ولذلك نرى من الواجب علينا أن نعلن على رءوس الأشهاد أن الظن بأن إنكلترا كانت تدبر لمصر سياسة غدر وخيانة ظن سيء فاسد مبني على جهل القائلين به.
ولذلك ستظهر للملأ أن مصر لم تكن في زمن من الأزمان الغابرة العامل الأول في سياسة إنكلترا الخارجية، وأن ما اتخذته إنكلترا من الذرائع في مصر لم يكن إلا من الضرورة والاحتياج لاتساع نطاق السياسة البريطانية في الشرق فصارت مصر حينئذ عاملا مهما من عوامل السياسة البريطانية الخارجية ولكنها لم تكن غرض إنكلترا الوحيد.
ورغم كل هذه الحقائق فإن التهم التي ألصقت بوزارة خارجية إنكلترا ظلما لم تزل ولن تزال بدون دحض ولا نقض.
وسنبحث فيما إذا كانت إنكلترا قد انتهزت في الحقيقة فرصة الحركة العرابية لتضع يدها على مصر كما انتهزت أية دولة قوية ضعف جارتها، أو أن ذلك الاحتلال جاء عفوا صفوا، ثم نبحث فيما إذا كان هذا التداخل الإنكليزي قد ألحق بمصر نفعا أو ضرا. بعد أن بررنا هذا التداخل والتمسنا لإنكلترا فيه عذرا لدخولها في ميدان الاستعمار الذي جعل احتلال مصر ضربة لازب، فنقول: كل من له إلمام بتاريخ إنكلترا ومستعمراتها يذكر أن إنكلترا قامت نحو سنة 1757 بأعمال سياسية وحربية في الهند استمرت سبع سنوات، تمكنت بريطانيا عقبها من القبض على صولجان السيادة في ولايات الهند الشمالية الشرقية كافة، فكتب على مصر من ذاك الحين أن تكون عاملا مهما في سياسة إنكلترا الاستعمارية، على أن مصر كانت لها أهمية تجارية قبل ذلك العهد، وهي أنه قبل افتتاح قنال السويس كانت معظم التجارة المستعجلة الآتية من الغرب إلى الشرق تنتهي إلى الإسكندرية، ومن هناك تحمل على ظهور الجمال إلى ثغر السويس.
ومن هنا تظهر أهمية مصر التجارية قبل افتتاح ترعة السويس نفسه، ومن يتتبع تاريخ التجارة بين الشرق والغرب يلاحظ أن طريق البحر الأبيض كان يدخل في دور الأهمية سنة عن سنة، ويتجلى له أن عدد المسافرين الذين كانوا ينزلون مصر قبل سفرهم إلى الشرق الأقصى كان يزيد عاما فعاما، وفي سنة 1780 ازدادت قوة إنكلترا في الهند وساعدها الحظ فحصلت على ولاية كارناتيك، فأصبح الاستيلاء على مصر في مقدمات الأمور المهمة لضمان بلاد الهند.
ثم رأت إنكلترا أن أملاكها ومستعمراتها في أفريقية لا تكون أبدا في مأمن من غارة الأعداء إلا إذا ضمت إليها بلاد الكاب، ثم نظرت فشهدت العلم الفرنسوي يخفق فوق جزيرة موريتيس فهاج من ذلك سخطها ولحقها الجزع لعلمها أن جزيرة موريتيس «ركن خطر»، وإن بقاءها في يد دولة معادية أيا كانت يعرض إنكلترا لأخطار دائمة، فلو بقيت فرنسا في تلك الجزيرة فإنها تتمكن في أي حين من أن تبعث بسفن حربية من سفنها لمناوأة السفن البريطانية، أو أن تبعث بثلة من جندها لسلب السفن البريطانية التجارية.
وغني عن البيان أن إنكلترا لم تكن لتتحمل كل تلك المتاعب إذا أرادت أن تتوسع في سياستها الاستعمارية، فهل تلام إنكلترا إذن إذا كانت لا تدخر وسعا في امتلاك بلاد الكاب وجزيرة موريتيس؟ أفنسمي سياسة دولة تنظر في العواقب وتحسب للمستقبل ألف حساب سياسة مكر وخداع؟
ألا نعلم أن السياسة الدولية مبنية على الأنانية وحب الأثرة وتفضيل الذات على الغير، وأن الدولة التي تفضل دولة أخرى على نفسها تداس بالأرجل وتسقط في أقرب زمان.
على أن المقام لا يسمح لنا بالإفاضة في هذا البحث والنظر فيما إذا كانت سياسة الاستعمار التي تتخذها كل دولة لتوسيع أملاكها سياسة حكيمة عادلة مبنية على الفضيلة وحب الخير للإنسانية أم لا، وكل ما نقول هو إن الاستعمار قد أصبح الغرض الوحيد الذي تسعى إليه كل الدول، فلم تبق دولة من دول العالم وضربت فيه بسهم، فإن كانت سياسة الاستعمار جديرة باللوم والذم فإن الدول جمعاء جديرة بهما، ومن الظلم أن نرى عيوب دولة ونغض الطرف عن عيوب دولة أخرى.
وغني عن البيان أننا لا نبرر استيلاء إنكلترا على الهند لأننا لا نرى لها حقا أدبيا في ذلك، ولكن إذا كانت إنكلترا قد وضعت يدها فإنها لا تستطيع أن ترى وهي قريرة العين هادئة البال عدوا قويا ذا بأس شديد كفرنسا على قيد ذراع من الطريق إلى الهند؛ لأن مثل هذا العدو في آونة الحرب الحقيقية يمكنه أن يضرب إنكلترا في مستعمراتها ضربة قاضية قبل أن تصل النجدة الحربية إلى نصف الطريق من ثغر بليموث إلى البحار الهندية.
Unknown page
فإذا كان هذا اهتمام إنكلترا بجزيرة صغيرة في وسط المحيط الهندي فكيف باهتمامها بمصر؟ يرى المتأمل أنه من المستحيل أن ترضى إنكلترا باحتلال نابوليون وادي النيل؛ لأن مثل هذا الاحتلال كان ينذرها بضياع أملاكها في الهند في أقل من لمح البصر، فكانت واقعة أبي قير هي الكلمة الفاصلة بين إنكلترا ونابوليون، وبانتصار الإنكليز وهزيمة بونابرت عادت الطمأنينة إلى قلب إنكلترا لأنها أمنت على مصر وهي أقرب واسطة بين الغرب والشرق.
ونحن لا نرى في عمل إنكلترا لنجاة طريق الهند ختلا أو خداعا، فإن ما عمدت إليه إنكلترا من الأسباب كانت تعمد إليه كل دولة في أمثال هذه الأحوال.
ولو كانت إنكلترا تضمر لمصر شرا من قديم كما يقول المكابرون لانتهزت فرصة فوزها على نابوليون في أبي قير واستولت على مصر، وربما يرد بعضهم علينا بقوله: إن إنكلترا كانت في ذلك العهد ضعيفة في داخليتها فلم تر في نفسها الكفاءة للتغلب على بلاد كمصر، أو أنها لم تجد من نفسها ميلا لاحتلال هذه البلاد خوفا من عودة نابوليون إليها بقوة وشدة.
وسنقص على القارئ الكريم في الحوادث التي وقعت بعد هذه الحادثة ما يفسر لنا إحجام إنكلترا عن احتلال مصر في ذلك الحين تفسيرا مرضيا، على أن إنكلترا بعد واقعة أبي قير بقيت ساكتة عن مصر أربعين سنة.
وتفسير هذا السكوت هو أنها لا ترى فائدة في الحركة والعمل إذا لم يكن هناك موجب لهما، وما دامت مصر في ضعف وقراها في انحلال، وما دامت ليست في يد قوية، فإنكلترا مطمئنة من جهتها كل الاطمئنان، واستمر هذا السكوت حتى جاء محمد علي، وظهر منه أنه يستطيع تهديد مركز إنكلترا في الشرق ويعيد إلى الحكومة الإنكليزية الآلام التي سببها لها نابوليون، فنهضت إنكلترا حينئذ للعمل وتداخلت في شئون محمد علي وهو في قمة مجده، على أننا لا نرى أن إنكلترا ملومة فيما عملته مع محمد علي، ولا نرى وجها لانتقادها انتقادا شديدا كما يصنع سوانا.
فإن أعمال إنكلترا لم تكن إلا دفاعا عن نفسها وحفظا لمركزها السياسي، ونحن لا نؤيد رأي القائلين بأن إنكلترا رأت من الحكمة أن تقتل «الفرخة قبل أن تخرج من البيضة» بأن تفسد ما أصلحه محمد علي لتوقف مصر عند حدها ولا تسمح لها بالتقدم في طريق المدنية، ولكننا نقول بأن إنكلترا لم يرق في عينها أن ترى محمدا علي سائرا بمملكته وشعبه في طريق التقدم، وتنظر بسكون وهدوء اليوم الذي تعادل فيه قوة محمد علي قوة نابوليون الكبير ويعود التعقيد إلى مسألة الهند وطريقها.
لأنه كان من المستحيل على الحكومة الإنكليزية أن تغير سياستها الاستعمارية التي قضت في تدبيرها السنين الطويلة حبا بالإنسانية وإكراما لخاطر مصر والمصريين. إن إنكلترا لا تطيق أن ترى في مصر يدا قوية غير يدها، وبذلك تستوي عندها يد إمبراطور فرنسا ويد الألباني المجدود (محمد علي)، على أن يد محمد علي كانت أشد خطرا عليها من نابوليون؛ لأنه لم يجتهد في إخفاء عواطفه الحبية نحو فرنسا، وأكبر دليل على ذلك كونه قد غمس مصر في المدنية الفرنسوية، ولا يخفى أن محمدا علي بإظهاره هذا الميل أظهر أيضا أنه إذا قام نزاع بين الدول ونشبت بينها حرب فإنه لا محالة ينضم إلى فرنسا، فهل يعقل إذن أن إنكلترا كانت تقف مغلولة الأيدي وهي ترى بعينيها نفوذ فرنسا وطيد البنيان ثابت الأركان في أهم بلاد تستطيع تهديد أملاكها؛ لأن فرنسا إذا كانت نافذة الكلمة في مصر فإنها بلا ريب تكون أبدا على أهبة الاستعداد لتنقض على أملاك إنكلترا في الهند.
وفي عام 1840 عقدت إنكلترا مؤتمرا دوليا في لندن لتؤيد فيه سياستها المستمرة التي حافظت عليها من يوم وضعت يدها على بلاد الهند وصارت لها بالشرق علاقة.
وعند قولنا: «السياسة المستمرة» فإنا نصيب كبد المسألة؛ لأن استمرار السياسة البريطانية وصبر الساسة الإنكليز هو الذي جعل الناس يرمونها بالمكر والخداع والغدر، ولا ذنب لإنكلترا إلا استطاعتها أن تنتظر حتى يقع أعداؤها في الضيق فإذا سنحت تلك الفرصة فإنها لا تفر من يد إنكلترا مهما كلفها ذلك، فإن إنكلترا إذا رأت عدوها عاجزا عن الدفاع عن نفسه ورأت أمامها مقتله معرضا للضرب فإنها ترمي بسهمها الصائب وهي تعلم أنه ينال من خصمها فوق ما ترغب، فيصرخ العدو الجاهل وأمثاله قائلين: «لله ما أقبح المكر والخداع اللذين تخفيهما إنكلترا تحت طيات سكونها وسكوتها ...»
على أننا لا نلوم في هذا المقام إلا الخصيم الجهول الذي لم يتق الضربة الصائبة قبل وقوعها مع علمه بأن العدو القوي لا يشفق عليه إذا رأى عجزه وضعفه ما دام يرى لنفسه في وقوع هذه الضربة نفعا.
Unknown page
أوليس من العجيب أن تنال إنكلترا جماع أمانيها وتبلغ من أعدائها ما تبلغ دون أن تظهر سرعة أو تهورا ودون أن يشعر أحد بأعمالها؟
يرى القارئ مما تقدم أن النصر والنجاح كانا حليفي إنكلترا في أعمالها وحركاتها كافة، فلماذا لم تحذ جميع دول أوروبا حذوها وتتخذ سياستها نموذجا تجري عليه، هل أحجمت تلك الدول لما في أخلاقها من الكمال ولأنها رأت أعمال إنكلترا تدل على الخبث والغدر؟ كلا، فإن دول أوروبا لا تتأخر طرفة عين عن إيصال الأذى إلى أي عدو من أعدائها إذا سنحت لها فرصة ورأت أن ذلك يعود عليها بالخير؛ إذن الجواب عن هذا السؤال هو أن إنكلترا اكتسبت مركزا ساميا خاصا بها دون سواها من الدول، وقد عرف ساسة الإنكليز كلهم قدر ذلك المركز واستعملوه فيما عاد على إنكلترا بالخير العميم، ومن هؤلاء الساسة ديزرائيلي (بيكو نسفيلد) الذي صرح في محال كثيرة من روايته «سيبيل» بذكر المنافع الجمة والقوة العظيمة التي اكتسبتها إنكلترا من وضع «الكنيسة والتاج» «على الرف »، وقد يظن بعض الناس أن استشهادنا برواية يكون استشهادا لا قيمة له؛ سيما ونحن نكتب في موضوع جدي كهذا، فنقول لهم إن رواية من قلم وزير كبير وسياسي خطير ك «بيكو نسفيلد» ليست كأية رواية أخرى يكتبها أي رجل آخر، على أن بيكو نسفيلد لم يقل غير الحق، فإن المتتبع لتاريخ إنكلترا يرى أنها بقيت أربعة قرون بلا شقاق داخلي، ومنذ طردت الأمة الإنكليزية أسرة ستيوارت الكاثوليكية في سنة 1688 لم تحس البلاد بشبه ثورة داخلية، ولولا بعض الشغب الذي لا يهم أمره لبقيت سياسة إنكلترا الداخلية أنقى من مرآة الحسناء، على أننا لا ننكر أن بعض المتاعب نشأت من حين إلى آخر، ولكن كانت نار هذه المشاغب الطفيفة بأسرها لا تلبث أن تشتعل حتى تخمد.
ومنذ اتفاق إنكلترا مع اسكوتلندا (إيقوسيا) في سنة 1707 اطمأنت إنكلترا من جهة الحدود التي كانت تهددها من حين إلى آخر، وقد زاد ذلك الاطمئنان أن إنكلترا وإيقوسيا اتفقتا اتفاق التوءمتين والتاريخ لا يحفظ ذكر اتفاق بين دولتين أمتن من اتفاق إنكلترا واسكوتلندا، فإنهما اتفقتا اتفاقا لا تفصم عروته ولا تحل عقدته، والذي زاد هدوء إنكلترا وساعدها على استتباب الأمن في داخليتها عدم وجود أشراف وأمراء منقسمين يطالبون بالملك أو يحاربون بعضهم بعضا، وبالإجمال فإن تاريخ إنكلترا في كل ذلك الزمن الطويل لا يحفظ إلا ذكر ثورة أهلية بسيطة ثارها العمال مطالبين ببعض حقوق لهم حسبوها مهضومة، فهي أشبه بحركة اجتماعية منها بثورة داخلية، ولكن تلك الحركة ما كادت تتنفس حتى قضي عليها في ليلة ويوم.
ومن المعلوم أن المشاغل الداخلية هي العقبة الكئود التي تقف أبدا في طريق سياسة الدول الأوروبية، وكثيرا ما يعترض كبار الساسة في أعظم فرصة لديهم فتتلف عليهم في لحظة واحدة ما أخذوا في تدبيره سنين طويلة، ومن حسن حظ إنكلترا أنها كانت آمنة مثل تلك المشاكل التي تعرقل مساعي السياسة الخارجية، ومن يعرف دخائل السياسة الإنكليزية يعلم أن من كان من ساستها يرمي إلى غرض في سياسة بلاده الخارجية وكأن هذا الغرض بعيدا، كان يدبر له من يريد تدبيره بصبر وعزم لعلمه بأن تلك التدابير ستنال فوق ما يرغب، فكان يتفرغ لهذا الغرض كل التفرغ ضاربا صفحا عن كل ما سواه؛ لأنه يرى نفسه في مأمن من المشاكل الداخلية والمشاغب الأهلية التي تعوقه عن تنفيذ مشروعه وإتمام عمله.
فيظهر من هذا أن إنكلترا لم تضع سياستها الخارجية لأجل مشاكلها الداخلية لأنها كانت آمنة شر تلك المشاغب التي تحصل في كل مملكة بدون علم وانتظار، فتقلب نظام السياسة الخارجية رأسا على عقب، وهذا هو السبب الوحيد في نجاح سياسة بريطانيا الخارجية.
وليس من الصعب على من يقارن بين التاريخ السياسي لبريطانيا والتواريخ السياسية عند سائر الدول الأوروبية في القرنين الماضيين أن يرى لأول وهلة حقيقة واحدة واضحة كل الوضوح وهي أن السلام الدائم في أي مملكة هو الشرط الوحيد للنجاح خارجا؛ لأنه لا توجد دولة في قارة أوروبا يمكنها أن تنظر بهدوء إلى حدودها وتقول إنها تبقى آمنة طوارق الحدث زمنا محدودا من السنين، فإذا لم تكن كل دولة على جانب عظيم من التيقظ والحذر فإنها تكون دائما معرضة للخطر، وهذه الحقيقة السياسية الواضحة تقلل عدد الجند والقوة الحربية التي تكون في يد أية دولة إذا أرادت أن تقيم حربا خارجيا؛ لأن قواها الحربية يجب دائما أن تكون على استعداد تام لتتقي بها ضربات العدو المهاجم لها في بلادها، ولا نظن أن ألمانيا أو فرنسا تستطيعان إرسال 200000 من جنودهما أو أقل من ذلك إلى خارج بلادهما بدون أن يختل ميزان قوتهما في داخليتهما؛ لأن تغيب مثل هذا العدد من جنود أية دولة يدعو إلى ضعفها ويسبب عجزها في داخلية البلاد ويضطرها إلى الإذعان لجاراتها القوية، وقد أثبت التاريخ ذلك، فإن فرنسا بعد تجريد حملة نابوليون على مصر أحست بضعف شديد في أوروبا، فاضطر نابوليون إلى العودة إلى بلاده لحمايتها وتخلى عن أعماله الحربية، وترك السياسة الاستعمارية التي كان قد بنى أساسها في مصر.
وكأن فرنسا لم تكتف بهذا الدرس فأعادت الكرة ، فبعثت بحملة المكسيك المشهورة في أواسط القرن التاسع عشر ففازت في أمريكا وانهزمت شر هزيمة في حرب السبعين بواقعتي «متز» و«سيدان»، على أن فرنسا لو استطاعت أن تقاوم أعداءها في أوروبا سنة 1866 فنحن لا نشك في أنها ربما كانت ألغت حرب السبعين، ولو لم تقع حرب السبعين لكانت السياسة الأوروبية كلها تغيرت، ولكن من سوء حظ فرنسا أنها وجدت نفسها في أزمة ولم تجد لنفسها منها مخرجا، وعندما كانت جنودها المظفرة تتغلب على أعدائها في المكسيك كانت حدودها الشرقية مهددة بجيوش ألمانيا في أوروبا.
هذا وأضر شيء بسياسة الدول الخارجية بعد ما ذكرناه هو كون الدولة منقسمة في داخليتها، وهذه فرنسا لم تنجح في سياستها الخارجية يوما لأن داخليتها أبدا في شقاق وانقسام، وهذا مسبب من مزاحمة سلطة الكنيسة لسلطة الحكومة، فلو نجحت فرنسا كما نجحت إنكلترا في وضع «الكنيسة على الرف» لما فشلت في سياستها الخارجية ذلك الفشل الذي جعلها مثلا بين الدول.
ونحن لا نود أن نطيل هذا البحث الذي يخرجنا عن الموضوع الأصلي على ما فيه من اللذة، بيد أننا لا نتمالك من أن نشير إلى أن لكل دولة آفة، فآفة ألمانيا حزب الاشتراكيين، وآفة النمسا خوف الانقسام الذي يعقبه الانحلال، وآفة فرنسا الكنيسة، وآفة إيطاليا فقر أهلها، وآفة روسيا اتساع سلطانها واستبداد حكومتها، ولكن إنكلترا لا آفة لها؛ ولذلك نرى سياستها الخارجية سائرة على الدوام في طريق النجاح والفوز، فهذه الدول جمعاء تحسد بريطانيا وترميها بالمكر والخداع والغدر والمخاتلة، وما أبعد هذا القول عن الصواب!
إن إنكلترا عمدت إلى سياسة بسيطة سهلة، هي سياسة التأني والانتظار لانتهاز فرصة ضعف عدوها وعجزه، وكثيرا ما يحدث أن ترى إنكلترا دولة أخرى قد وقفت في طريقها فتسكت إنكلترا وتربض كما يربض الأسد وتتحين فرصة تقع فيها هذه الدولة المعاكسة في أزمة تلجئها إلى المعاونة أو تضعفها عن العمل فتتقدم إنكلترا وتضطرها للتخلي عن طريقها فتتخلى تلك الدولة مختارة أو مضطرة، وتستمر إنكلترا في طريقها، فإذا رأت الدول استمرار إنكلترا في طريقها عادت تسلقها بألسنة حداد وترميها بالظلم والغدر والخداع، وهذا هو الذي دعا بعض المتقولين أن يتقولوا على بريطانيا بأنها كانت تضمر لمصر سوءا من زمن بعيد، فلو سلمنا جدلا لهؤلاء المتقولين بصحة زعمهم فما الذي عاق إنكلترا عن وضع يدها على مصر عقيب نصرها الباهر في واقعة أبي قير؟ يقول المتقولون إن مركز إنكلترا السياسي في ذلك الحين لم يكن ليسمح لها بإضافة مصر إلى مستعمراتها، نقول قبلنا فأجيبونا عن سبب تخلي إنكلترا عن مصر في سنة 1840؟ تقولون إن محمدا علي كان واقفا في وجه إنكلترا وخلفه فرنسا تشد أزره. كل هذا حسن ولكن قولوا لنا سبب تخلي إنكلترا عن مصر سنة 1870 عندما سنحت لها فرصة لا تسنح في العمر إلا مرة. وكلنا يعلم أن إنكلترا كانت في هذه السنة مطلقة الأيدي وكان الجو لها خاليا، ولم يكن أمامها من يحرك لسانه أو يرفع يده. يقول المتقولون إن نتيجة حرب السبعين كانت لا تزال مجهولة فخشيت إنكلترا إن هي وضعت يدها على مصر أن يعقد النصر لفرنسا فتنتقم هذه الدولة الظافرة من إنكلترا انتقاما رهيبا.
Unknown page
ولكن ما أبعد هذا الجواب عن الحقيقة، فإن الحرب أعلنت في يوم 19 يوليو سنة 1870، وفي 2 سبتمبر من السنة نفسها سقطت سيدان ودفنت الآمال وهدأت المخاوف التي كانت متعلقة بتلك الحرب، ومع كل هذا فإن إنكلترا بقيت ساكتة ولم تقدم رجلا نحو مصر، فلو كان الحق ما قال هؤلاء المتقولون وكانت إنكلترا حقيقة تسعى في الحصول على مصر منذ سبعين سنة لما تأخرت لحظة واحدة عن انتهاز هذه الفرصة لتضع يدها على مصر، وقد ثبت للقارئ الآن أن هؤلاء المتقولين هم الذين أساءوا الظن بسياسة إنكلترا ولم يفقهوا ما ترمي إليه تلك الدولة العظيمة.
وقد يعترض علينا معترض ويقول ما هذا المدح للإنكليز، وما تلك المحاباة إذا سلمنا بأن سياسة إنكلترا نحو مصر لم تكن سياسة مكر وخداع، فلماذا أظهرت بريطانيا إباء شديدا ومعارضة قوية عندما أذيع مشروع قنال السويس؟
على أننا لو نظرنا إلى مسألة قنال السويس بنفس المنظار الذي نظرنا به إلى المسألة الماضية لتغيرت المسألة في طرفة عين، فنقول: لا ننكر أن إنكلترا أظهرت استياء شديدا عندما أذيع مشروع ترعة السويس وحاولت جهد طاقتها أن تلقي في سبيل القائمين به كل ما تستطيع إلقاءه من العقبات والعراقيل، فهل لذلك من سبب؟
نعم ... إن لذلك أسبابا شتى؛ منها: أولا الصعوبات الطبيعية التي كانت تعترض القائمين بهذا المشروع؛ سيما في ذلك الزمن الذي كانت فيه فنون الهندسة لم تبلغ ما بلغته الآن، وأن ديلسبس نفسه وهو صاحب المشروع وخالقه كان يتهيب الإقدام على العمل.
وكل معاصريه يذكرون لنا أنه كان يقدم رجلا ويؤخر أخرى، فلا يستغرب إذن من المهندسين الإنكليز قولهم باستحالة خروج هذا المشروع من حيز الفكر إلى العمل، وهنا يخطر ببال القارئ خاطر ولكننا نجل مقام هؤلاء المهندسين عن أنهم كانوا يقولون ما لا يعتقدون ...
ومما جعل إنكلترا تظهر معارضة شديدة للمشروع أسباب سياسية أخرى أهمها أن إتمام عمل ترعة السويس كان يقف في طريق سياستها الشرقية؛ لأنه يسهل الطريق من الشرق إلى الغرب على كل الدول، ولنعلم أن نابليون الثالث كان في ذلك الحين في قمة مجده، ولم يكن نابليون الثالث في ذلك العهد بالرجل الذي تستهين به إنكلترا وتصغر من شأنه، وغني عن البيان أن من التف حول نابليون الثالث من السياسيين كانوا يهمسون في آذان بعضهم قائلين لبعضهم: «سيكون لهذا الملك شأن كبير»؛ لأنهم لم يطلعوا على صحف الغيب ولم يقرءوا ما كانت تخبئه الأيام لذلك الملك من مثل الحرب الألمانية التي كذبتهم شر تكذيب، وعكست آمالهم، وقلبت تدابيرهم رأسا على عقب.
وكلنا يعلم أن إنكلترا لم تدخر وسعا في الزمن الماضي في سبيل إبعاد أعدائها عن مصر، فكيف ترضى بافتتاح ترعة السويس مع العلم بأن هذه الترعة تجعل مصر مملكة دولية تتنازعها كل مملكة، وتدعي كل أمة بحق لها فيها؟ بل وكيف ترضى إنكلترا بنابليون الثالث وقد رأيناها أنفقت ما أنفقت من مال وأزهقت ما أزهقت من نفوس رجال في محاربة نابليون الأول ومحمد علي؟ فهل تسمح إنكلترا بأن تذهب أعمال سبعين سنة هباء منثورا؟
بعد هذا كله يتبين للقارئ الكريم عذر إنكلترا في معارضتها الشديدة إبان فتح ترعة السويس وبقي علينا أمر واحد لم نعره لفتة، وآن لنا أن نتناوله بالبحث، وهو أن بعض الجهلة من الوطنيين وغيرهم لا يزالون يحسبون أن إنكلترا أشعلت نيران فتنة عرابي، وسنزن هذا القول بميزان الحكمة والتعقل، فنقول: ستمضي قرون طويلة قبل أن يعلم العالم تاريخ مصر الحقيقي في الثلاثين سنة الماضية؛ لأن وزراء الدول لا يخطر ببالهم أن يفتحوا خزائن أسرارهم لمعاصريهم، وكثيرا ما تبقى بعض دخائل الأعمال الصغرى في أعماق قلوب الذين قاموا بها، فكيف بمسائل السياسة التي تتناول الأمم والشعوب؟
على أننا لا نغالي في المقال إذا قلنا بأنه لو حدث أن بريد سفارات أوروبا يفتح كله لا يتم اليوم حتى تشتعل نار حرب دولية لا يعرف نتيجتها إلا الله، وعلى ذلك فنحن لا ننتظر من الحكومة الإنكليزية أن تفتح خزائنها وترينا أوراقها السرية لأننا لا نرى فائدة في مثل هذا العمل، ولو فرضنا أن الحكومة الإنكليزية نشرت في كتاب من كتبها السياسية كل أسرار المسألة المصرية (إن كان هناك أسرار)، فإن ذلك لا يقنع الجهلة، ولا يخرص ألسنة المتقولين، هذا ونحن لا نعتقد بأن الحكومة الإنكليزية دبرت الثورة العرابية؛ لأن إثبات هذه التهمة السياسية يحتاج إلى أدلة أقوى من الأدلة التي يستند عليها القائلون بهذا الرأي الفاسد.
ويكفي لدحض هذا الرأي كلمة واحدة وهي أن ما قام به الأسطول البريطاني الذي كان تحت قيادة الأميرال سيمور أمام ثغر الإسكندرية لم يكن إلا بإشارة فرنسا ونصيحتها، فكيف يصدق الظن بأن إنكلترا دبرت هذه الثورة مع أنها لو لم تشر فرنسا عليها بضرب الإسكندرية لما حركت ساكنا؟ ألم يكن ذلك السكون يؤدي بالطبع إلى قلب تدابيرها الثورية رأسا على عقب؟
Unknown page
وحقيقة الأمر هي أن احتلال إنكلترا لمصر لم يكن إلا لوضع المسألة المصرية «على الرف» مؤقتا؛ لأن هذه المسألة كانت أبدا تهدد سلام أوروبا تارة وتهدد إنكلترا في الهند تارة أخرى، ولكن لا نحسب أن أحدا يظن أن هذا الاحتلال هو الحل النهائي لهذه المسألة، ولو أن إنكلترا لم تعين ميعادا للجلاء فإنها بلا ريب لم يخطر ببالها أمر البقاء على كر الدهور.
بقي علينا أن ننظر لحظة في الأعمال التي قامت بها إنكلترا في مصر، فنقول: إنه من المحقق أن إنكلترا من عهد احتلالها مصر لم تمثل دور المحب لذاته، ولا ينكر أحد أن عهد الاحتلال كان على الدوام عهد نجاح مادي لم تر مصر له مثيلا في تاريخها الماضي، وأول دليل على ذلك أن إنكلترا عندما استلمت قياد مصر وجدت المالية في حال يرثى لها، وقد ظن كثيرون من الذين شاهدوا فساد المالية المصرية أنه من المستحيل إعادة النظام إليها بعد الفوضى الهائلة التي سادت عليها.
على أن هؤلاء لو عاشوا إلى عهد الاحتلال البريطاني لاندهشوا من التقدم الباهر الذي حازته المالية المصرية تحت المراقبة الإنكليزية، وغني عن البيان أن مثل هذا التغيير لا يتم إلا بالعمل المتواصل الخالي من كل غاية وغرض، ولم تحصل إنكلترا على هذه النتيجة الحسنة إلا بوضع الاقتصاد العادل في موضع الإسراف الفاحش، فلم تقتر ولم تبذر على أن الأرقام في مثل هذه الموضوعات هي أعدل الشاهدين، فنحن ننتخب من كتاب «السياسي» لسنة 1905 ما يأتي عن تاريخ المالية والديون المصرية:
إن دين مصر ابتدأ سنة 1862 عندما عقدت قرضا قدره 4292800ج، ثم عقدت غيره على التتابع وفي سنة 1870 بلغت الديون الأجنبية 38307000، وقد أضيف إلى هذا الدين في سنة 1873 قرض قدره 32000000 لتسديد الدين الأصلي الذي بلغ 28000000، وفي سنة 1875 أعلن الخديوي إسماعيل أنه في ضيق مالي شديد، وفي سنة 1876 أصدر الخديوي قرارا وحد فيه الديون المصرية فصارت كلها دينا واحدا قدره 91000000، وفي سنة 1877 اجتمع مندوبو المداينين الإنكليز والفرنسويين لتوحيد الدين المصري فقسموه إلى قسمين: الدين المفضل وقدره 17000000 بسعر 5 في المائة، والدين الموحد وقدره 59000000 بسعر 7 في المائة.
ووحدت ديون الدائرة السنية في دين واحد قدره 8815430 بسعر 5 في المائة، وفي سنة 1878 عقد قرض على أملاك الدومين قدره 8500000 بسعر 5 في المائة، وفي سنة 1879 ابتدأت مراقبة إنكلترا وفرنسا، وفي يناير 1880 أصدرت هاتان الدولتان تقريرا صرحتا فيه بأن مصر لا تستطيع أن تسوي حسابها، وفي يوليو من هذه السنة ذاتها اجتمعت لجنة من مندوبي الدول العظمى وقررت عمل تصفية مالية؛ وبهذه الطريقة خفض سعر الدين الموحد إلى 4 في المائة، وحدثت تغييرات كثيرة كانت نتيجتها أن الدين الموحد أصبح قدره 60958240ج، وأضيفت ديون شتى لم تكن موحدة إلى الدين المفضل فصار 22743800، وبلغ دين الدائرة السنية 9512880 وخفض سعره إلى 4 في المائة.
وفي سنة 1885 عقد قرض بضمان الدول بمبلغ 9424000 بسعر 3 في المائة. وفي سنة 1888 عقد دين قدره 2330800 بسعر
في المائة لأجل استبدال المعاشات.
وفي سنة 1890 أضيف الدين المفضل إلى دين 1888 الذي ذكرناه آنفا ووحدا في دين مفضل قدره 29400000 بسعر
في المائة، وفصل من هذا الدين المفضل مبلغ 1300000 ج.م لإصلاح الري واستبدال المعاشات.
ثم أصدرت ديون الدائرة السنية البالغة 7299360 بسعر 4 في المائة، وفي سنة 1893 استبدلت ديون الدومين البالغة 8500000 التي كانت بسعر 5 في المائة بدين سعره
Unknown page
في المائة.
وهاك جدول بالديون المصرية في شهر يناير سنة 1904:
الدين
المبلغ
العهدة
الديون المضمونة بسعر 3
8077900
307125ج.م
الدين الممتاز بسعر
31127780
Unknown page
1062556ج.م
الدين الموحد بسعر 4
55971960
2182906ج.م
قرض الدائرة السنية بسعر 4
4952860
198114ج.م
ديون الدومين بسعر
2056420
107962ج.م
Unknown page
المجموع
102186920
3858663ج.م
وتبلغ العهدات على الديون كافة بما فيها الجزية على حساب سنة 1905م 4593602 جنيها مصريا.
وفي سنة 1887 وضعت المبالغ الاحتياطية وحسابها في سنة 1904 كما يأتي:
ما توفر من توحيد الديون
5507055ج.م
المبالغ الاحتياطية
966781ج.م
المبالغ الخاصة
Unknown page
1577381ج.م
مجموع الاحتياطي
8051217ج.م
وهنا لا نستطيع أن نسهب الكلام على الإصلاحات الأخرى التي تمت في مصر على أيدي بريطانيا، وقد يكون ذكرنا لها بعد أن عرفها القاصي والداني تحصيل حاصل؛ لأنه لا ينكر إلا المكابر ما قام به رجال الإنكليز من الأعمال العظيمة في وادي النيل، سيما ما يتعلق منها بإصلاح الري والزراعة، ونذكر في هذا المقام خزان أسوان وقناطر أسيوط التي تشهد لإنكلترا بالفضل على مصر ، وقد وفت الصحف هذين العملين العظيمين حقهما من الوصف والمدح، وذكرت في ذلك الحين أن خزان أسوان يغير مستقبل مصر ولا يجعلها في الأيام الآتية تحت رحمة فيضان النيل، ومهما تكن المبالغ الطائلة التي أنفقت على خزان أسوان، فإن المهندسين قد بنوه بإتقان ما جعل استرداد ما أنفق مضمونا، ولن يضيف هذا الخزان دينا إلى كاهل مصر فوق ديونها التي تئن منها، ولسنا نرى دليلا أقوى من خزان أسوان على حسن نيات إنكلترا في وادي النيل، ويحق لإنكلترا أن تفخر لنجاحها في مشروع خابت فيه آمال غيرها.
الفصل الأول
الدول العظام والمسألة المصرية
ذكرنا فيما مضى من هذا الكتاب الحوادث السياسية التي سببت احتلال إنكلترا لمصر في عام 1882، وشرحنا أسباب هذا الاحتلال وقد بررناه عندما احتاج إلى التبرير.
وثاني مسألة نرغب البحث فيها هي طبيعة هذا الاحتلال، وقد قلنا إنه حتى الآن قد استفادت منه مصر رغما عن كل ما قيل ضده، ولكننا إذا أردنا أن نضع أساسا نستطيع أن نبني عليه بناء حصينا يصور لنا الحال السياسية الحاضرة، ونشرح فيه ما يكنه المستقبل من الأحوال السياسية، يجب علينا أن نوسع دائرة البحث؛ ولذلك فنحن لا نستطيع أن نقصر بحثنا على النفوذ الإنكليزي في القطر المصري مهما كان هذا النفوذ عظيما؛ لأن مثل مصر كمثل الشبكة المختلفة الألوان، فإنها بلا جدال ملك لجميع الناس والممالك لأنها بصفة كونها مركزا للجزء الشرقي من الكرة الأرضية فهي بضرورة الحال محطة يتقابل فيها الشعوب، كما كانت في الزمن الغابر مرمى أبصار الفاتحين ومحط رحال الملوك والسلاطين.
وإذا كانت مصر ملكا للجميع بوضعها الجغرافي، فهي ملك للجميع أيضا من الجهة المالية بالنظر للأموال العظيمة الأوروبية التي أودعت فيها لإنجاحها، فإن كل دولة كبيرة أوروبية وضعت في مصر مبالغ كبيرة فكانت النتيجة أن كل دولة لها في مصر أغراض ذاتية، ورغبة شديدة في أن ترى مصر سائرة في طريق النجاح.
فإذا شئنا إذن أن نتكهن بمستقبل هذه البلاد ونرى بعين عقلنا الطريق التي تسير فيها في المستقبل فلا ينبغي لنا أن نهمل علاقات هذه الدول كلها بمصر؛ بل يجب علينا أن نتعمق في البحث لنعرف بالضبط ما هي هذه العلاقة الدولية؟ وما أهميتها لمصر؟
Unknown page
فإذا بحثنا في ذلك نستطيع حينئذ أن نجد طريقا تؤدي إلى ضمان منافع الدول في مصر وحمايتها، وتؤدي أيضا إلى سعادة وادي النيل وهنائه الدائم.
ولا ينكر علينا أحد أن المسائل التي تهيج ممالك أوروبا وتقلقها قليلة جدا ولكنها من الأهمية بمكان عظيم وقد تفوق المسألة المصرية كل المسائل الأوروبية؛ لأن مصر مبنية على مال جمعته لها أغلب دول أوروبا، وفيها مستعمرات أجنبية كثيرة، وكثير من المحاكم المختلفة المشارب. كل هذا جعل المسألة المصرية أصعب حلا وأعقد إشكالا، وقد يكون حلها مستحيلا، ولكننا إذا أخذنا كل حبل من حبال الشبكة وحللنا كل عامل من العوامل العاملة في مصر فإنا نصل إلى حل مرض.
قد ابتدأنا بالنظر في أعمال بريطانيا في مصر في الماضي وسنقيس الآن المنافع الصغيرة التي تستفيدها الدول في مصر، ثم نجتهد أخيرا في تقدير العاملين القويين المهمين وهما العامل البريطاني والعامل الوطني. وأول مسألة نشرحها هي علاقة تركيا بمصر وتأثيرها، فإن التأثير التركي في مصر هو بدون شك في الدرجة الثانية بعد التأثير البريطاني؛ لأننا إذا نظرنا في الإحصاءات التجارية فإننا نندهش من كثرة الأرقام التابعة لاسم تركيا.
ونحن لا نحتاج هنا إلى البحث في أنواع التجارة، إنما نقصر النظر على كثرتها وعظم أثمانها، فإن الوارد من تجارة تركيا إلى مصر في كل عام لا يقل كثيرا عن نصف الواردات من بريطانيا العظمى، وفي عام 1903 قدرت الواردات إلى مصر من إنكلترا بأقل من 6 ملايين من الجنيهات، وكانت الواردات من تركيا في السنة نفسها تقدر نحو 2400000ج مع أن مصر لا تأخذ من أي دولة أخرى بضائع بمبلغ أكبر من مليون ونصف المليون، وقد يندهش الذي يعلم أن الصادرات من مصر إلى تركيا أقل من ذلك بكثير جدا.
وهذه العلاقة التجارية هي بلا ريب من أهم العلاقات، ولكن لا يجب علينا أن نقدرها أكثر من قدرها؛ لأن التركي ليس بخلقته ميالا للتجارة، وليس في أمياله الطبيعية ميل غريزي للحياة التجارية، والدليل على ذلك أن أغلب التجارة التي ذكرناها ليست إلا تركية بالاسم فقط؛ لأن أغلبها في أيدي تجار الأجانب المشتغلين في بلاد الدولة العلية.
ومعظم هذه التجارة يجيء من مدن آسيا الصغرى وبلادها، ولا يخفى أن هذه البلاد مسكونة باليونانيين والإيطاليين واليهود وغيرهم من سكان شواطئ البحر الأبيض المتوسط، فيظهر من ذلك أن التركي ليست له يد قوية في أهم علاقة بين مصر وتركيا، فليس إذن من الضروري أن تعنينا المسألة التجارية، وينبغي لنا أن ننظر إلى علاقة مصر بتركيا من الجهة السياسية، ومع ذلك فلن نغمض عينينا عن العلاقة الاجتماعية، فنقول: إن التركي لا يزال مجهولا عند الغربي، والكتب التي يقول عنها أصحابها إنها تكشف القناع عن حياة الترك الداخلية، وتظهر في كل آن ويكون غرضها أن تفهم للغربي آراء التركي وطرق أعماله، لم ينجح مؤلفوها إلا نجاحا صغيرا جدا، وقليل جدا من الغربيين اختلطوا بالأتراك.
على أن كتب الأتراك ذاتها تدل على أنهم ليسوا على علم من الحياة والعادات والأخلاق الغربية يسهل لهم الوصف والمقارنة بينهم وبين غيرهم من الأمم، فكانت النتيجة أنهم عجزوا عن نقل صورة الحياة التركية إلينا تماما، وقصروا كتبهم على موضوعات بعيدة وغير مفيدة، فكانت كل تلك الأشياء سببا في إثبات الحكم السابق من أوروبا على الأتراك، وأوروبا غير مستطيعة أن تضع حدا بين حياة التركي السياسية وحياته الاجتماعية، والغربيون القليلون الذين اختلطوا بالأتراك وعاشوا معهم وعرفوا جمال أخلاقهم وحسن طباعهم ووجدوا أنهم أقرب الشرقيين إلى المدنية الحقيقية عجزوا عن أن يقلعوا جذور البغض والاحتقار التي لا تزال في قلوب الغربيين على العموم.
أما في مصر فلا يزال التركي عاملا اجتماعيا مهما يلتف حوله عدد عظيم من الأصحاب، وعدد أصحابه اليوم أكثر من عددهم أيام كان التركي نافذ القوة في القطر المصري.
ويجب أيضا أن لا ننسى أن مصر بلاد إسلامية، فهي مربوطة برابطة قوية جدا للسلطان بصفة كونه خليفة وأميرا للمؤمنين، ولأنه لا تزال في يده قوة تعيين القاضي الشرعي، وناهيك بما لهذه الوظيفة السامية من الأهمية السياسية!
وفوق كل هذا فليس الجناب العالي معينا حاكما لمصر من السلطان فقط؛ بل إن نظام الحكومة ذاته مأخوذ عن جلالة السلطان تقريبا، هذا ولا يظهر للناظر أن العلاقات الحاضرة بين تركيا ومصر تحمل معها بذور البقاء، فإنها إن لم تقطع اليوم فستقطع غدا، ولكن من الغريب أن هذه العلاقات استمرت على حالتها الحاضرة زمنا طويلا في الماضي وليس من المستحيل أن تستمر زمنا أطول في المستقبل، هذا ما لا رأي لنا فيه، ولا تكشفه إلا الأيام الآتية.
Unknown page
على أنا لا نرى في باقي ممالك العالم ودوله سلطة تشبه السلطة التي لتركيا على مصر، ونحن لا نستطيع أن نفهم لماذا تستمر مصر على نزح ثروتها وإعطائها لتركيا مع أن هذه لا ترد الجميل بمثله؟! فهل الدول الكبرى تأمر مصر بتلك الطاعة العمياء؟ إننا لا نرجح مثل ذلك، فإننا لو ألقينا نظرة صغيرة على المسألة الشرقية لرأينا أن الدول ترغب وتحب من صميم فؤادها أن تقطع أسباب ثروة الدولة العلية.
فلنفرض إذن أن تلك العلاقة المختلة بين الدولة العلية ومصر ستنقضي من تلقاء نفسها، فماذا يتم بعد ذلك؟ إنا لا نرى أمامنا إلا أحد أمرين؛ وهما: إما أن مصر تعود إلى خضوع تام للدولة العلية وتعود إلى المركز السياسي الذي كانت فيه قبيل عام 1811، أي أنها تصير ولاية عثمانية، وإما أن تلك العبودية الخيالية تنقضي مرة واحد وتصير مصر حرة من كل الحقوق والمطالب التركية.
ونحن نرى أن الأمر لا يتحمل الجدل لاستحالته؛ لأنه من الواضح أن تركيا لا تستطيع أن تضع يدها على مصر مرة ثانية بالقوة الحربية؛ فلذلك لا تستطيع تركيا أن تعود إلى المطالبة بحقوقها في وادي النيل. على أن مركز مصر الجغرافي يجعلها في معزل عن بلاد الدولة العلية وفي مأمن من الجنود العثمانية، وغني عن البيان أن تركيا منذ ثلاثين سنة لم تتحرك حركة عدائية، ويظهر أن الحكومة العثمانية عالمة ومتيقنة من أن مركز مصر ينجيها من هجوم جنودها؛ لأن تركيا بلا أسطول لا تستطيع أن تتسلط أو تسود على البحر الأبيض أو البحر الأحمر، ومصر لا يسهل الوصول إليها إلا بطريق أحد هذين البحرين لأنها محمية جنوبا بحصون السودان الإنكليزية وغربا بالصحراء الكبرى.
ويبقى الآن لدينا سؤال واحد وهو هل بقاء تلك السلطة الخيالية التي تعترف بها مصر للدولة العالية يرضي الدول العظمى؟ إن الجواب عن هذا السؤال يحتاج إلى نظرة عامة إلى حال مسألة الشرق الأدنى في الحال الحاضرة.
ويجب علينا أن نذكر القارئ بأن مفتاح السياسة الأوروبية هو أن كل دولة تنظر إلى النفع الذاتي الذي يصيبها، ونحن نرى أن مقاصد أغلب دول أوروبا نحو الدولة العلية واضحة بينة.
على أن المسألة لا تحتاج في حلها إلى تعب شديد وأسرار السياسة الأوروبية مباحة للعالم كله، ومثلها كمثل الكتاب المفتوح يستطيع قراءته كل إنسان. إن أوروبا تنظر إلى الدولة العلية بعين الشامت وتسمي حكومتها بالحكومة المريضة، وكثيرا ما تعبت حكومات أوروبا في تطبيب تلك الحكومة وإعادتها إلى الصحة، ولكنها يئست وكثيرات منها تتمنى لتلك الدولة قضاء عاجلا، ولسنا في مقام يسمح لنا باستحسان أو استهجان هذا العمل، لكن يظهر لنا بكل جلاء ووضوح أن أوروبا قررت بأن التركي لا بد أن يذهب ويختفي، وكلنا يذكر العمليات الجراحية التي بترت بها أعضاء جسم الدولة العلية في أوروبا؛ وهذه الأعضاء هي: «الصرب، ورومانيا، وبلغاريا»، ويظهر أن الدول تعد أسلحتها لقطع أعضاء أخرى، ويرى العارفون أن مقدونيا لن تستمر في يد الحكومة العثمانية طويلا.
على أن طرد الأتراك من أوروبا سهل جدا، لكن إذا طرد التركي من أوروبا فإنه يلجأ إلى أملاكه الواسعة في آسيا، ويظهر أن العمليات الجراحية التي عملتها الدول الأوروبية في جسم الدولة العلية بأوروبا لفصل أعضائها لم تسد مطامع هذه الدول ولم تقنعها؛ فلذلك اتجهت أنظارها نحو أملاك تركيا في آسيا، لكن يظهر لنا أن هذه الدول ستختلف كعادتها فيما بينها لأن كل دولة تود من صميم فؤادها أن تستولي على الغنيمة التركية بأسرها؛ وحيث إن هذا مستحيل، فأنت ترى الدول في حيرة لا يعرفن كيف يقتسمن تلك الغنيمة الباردة؛ لأن كل واحدة تتطلع إلى المزيد وتظن أنها بإطالة آلام هذه الفريسة تتحقق آمالها ويجيء الوقت الذي تستطيع فيه أن تنال من أملاك الدولة العلية ما تتمنى.
بيد أن هذه الدول لو استطاع بعضها أن يتحد ويطرد إحداها عن تلك الغنيمة ليستأثر الباقي بها لما تأخرت عن ذلك الاتحاد طرفة عين، ومن المعلوم أن مصر لو خرجت من هذه القسمة لسهل حل المسألة وصار أبسط مما لو بقيت.
ولا يخفى أن فتح آسيا الصغرى يستلزم جيشا جرارا وأعمالا حربية كبرى وفتح مصر يستلزم أسطولا؛ وحيث إن إنكلترا لا تستطيع تجريد جيش كبير خارج بلادها، فهي لا تنظر إلى آسيا الصغرى إنما تنظر لمصر؛ لقدرتها على تجهيز أكبر أسطول في أقرب زمن؛ ولذلك سيكون نصيب بريطانيا أنها تحرم من أي جزء من أجزاء الدولة العلية سوى مصر. والفرنسويون ينظرون إلى سوريا شزرا حيث ساد نفوذهم سيادة عظيمة وقوى هذا النفوذ حقهم في حماية المسيحيين الكاثوليك في الأراضي المقدسة.
أما ألمانيا فقد صار لها نفوذ عظيم في وادي الدجلة والفرات لقيامها بتأسيس سكة حديد بغداد، وروسيا أيضا تدعي بأنها صارت صاحبة الحق الأول في نصف بلاد فارس وما والاها من بلاد الدولة العلية، ولا تبقى لتركيا إلا جزيرة العرب وهي البقية الباقية التي لم تعبث بها أيدي الأغراض الأجنبية ولم تدخلها سموم السياسة الأوروبية.
Unknown page
أما النمسا فستكتفي بوضع يدها على ولاية سالونيكا وشاطئ البحر الإيجيني الذي مدت إليه يدها منذ زمن حتى وصلت إلى نوفي بازار.
نقول: وربما يكذب المستقبل كل تلك التكهنات، وربما تكون دول أوروبا قد تنبأت بما لن يتم وقسمت فريسة لم تسقط بعد، فإن تقسيم تركيا ربما يتم في المستقبل القريب وربما لا يتم إلا بعد قرون طويلة.
ويظهر أنه من صالح دول أوروبا كافة أن تحل المسألة المصرية عن قريب لتسهيل حل المسائل الأخر التي يعرض لهن حلها في المستقبل، وكما أن تقسيم تركية أوروبا يتم باستقلال الولايات البلقانية التي كانت تابعة للدولة العلية، كذلك يتم تقسيم أملاك الدولة العلية في آسيا بفصل مصر عن تركيا فصلا تاما ورفع نير تركيا عن وادي النيل نهائيا، وإذا كانت الحال تسير على المنوال الذي نراه الآن، فإن سلطة تركيا على مصر ستنتهي عن قريب وتذهب كل آثار النفوذ التركي من هذه البلاد.
وسيهم ما قدمناه الآن عن تركيا القراء كثيرا عندما نتكلم عن السياسة التي تتخذها النمسا والمجر عند اتساع الخرق في المسألة المصرية، فإن التقريرات التجارية تدلنا على أن العلاقات التجارية بين مصر والنمسا شديدة جدا، وتدل أيضا على أن هذه التجارة تتسع سنة فسنة، وعدا ذلك فإن في مصر من النمسويين الذين اختاروا وادي النيل وفضلوه عن بلادهم عدد عظيم جدا ربما يفوق عدد المستعمرين الألمانيين عددا، ولندع الآن كل ما ذكرناه عن العلائق التجارية والودية بين النمسا والبلاد المصرية، ولننظر إلى المسألة من وجهة أخرى فنقول إنه من المعلوم أن سياسة النمسا الخارجية كانت ولا تزال إلى الآن ميالة إلى مسألة إنكلترا ومصادقتها، ولم تجد إنكلترا مندوحة من رد الجميل بمثله ومصافاة النمسا، وقد كان الفضل في هذه الصداقة وذلك الاتحاد الودي لمكاتب التيمس وغيره من مكاتبي الصحف الإنكليزية الكبرى في فينا عاصمة النمسا، وقد استمرت هذه العلاقات الودية منذ عام 1840 وظهر منها أنها أحسن سياسة تتخذها الحكومة النمسوية نحو الدولة البريطانية، ولا يسمح لنا المقام بتفصيل أسباب هذه الصداقة غير الرسمية، ولكننا سننظر في نتائجها إذا استمرت؛ لأن اتحاد النمسا وإنكلترا يسهل كثيرا حل المسألة المصرية، وغني عن البيان أن النمسا لن تنال من إنكلترا ربحا ماديا جزاء صداقتها لا سيما في مصر، فما هي الأعمال إذن التي تتحد فيها إنكلترا والنمسا في حل مسألة تركيا؛ لأننا لو عرفنا ذلك سهلت علينا معرفة ما يتم في المسألة المصرية؛ لأننا قررنا أهمية العلاقة المتينة الكائنة بين المسألتين التركية والمصرية؛ ولذلك ينبغي لنا أن نعرف تمام المعرفة آمال النمسا في الغنيمة التركية، فنقول: كل من له إلمام بتاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر يعلم أنه منذ هزمت النمسا في سنة 1866 ماتت آمالها في امتداد قوتها فيما وراء نهر «الراين» من الأراضي الألمانية.
ثم قطعت آمال النمسا في إيطاليا بعد تحريرها وانضمام أجزائها المختلفة لتكون مملكة مستقلة، فالنمسا لا تقدر أن تنظر إلى شيء من أراضي إيطاليا بعين شوساء، فلما بان للنمسا أن آمالها خابت في شواطئ البحر الأدرياطيقي الغربية نظرت إلى الشواطئ الشرقية لتحققها من أن سلطتها لا يمكن امتدادها إلا في شبه جزيرة البلقان، فإن هناك ميدانا واسعا لنفوذها وتجارتها معا.
وقد صادقت الدول على هذه السياسة النمسوية في المؤتمر الدولي الذي عقد سنة 1878، ووافقت على كل مشروعات النمسا بشأن الدولة العلية وصرحت لها بوضع يدها على ولايتي البوسنة والهرسك.
أما آمال الروسيا في البلقان فهي آمال وهمية خيالية لا يعتد بها ولا يحسب لها حساب، وسنرى فيما يأتي من هذا الكتاب عندما نفرد فصلا للكلام على سياسة روسيا أن مطامعها في البلقان سوف تتلاشي شيئا فشيئا، وسيجيء عليها زمن لا تكون فيه شيئا مذكورا. ولكن سياسة النمسا وآمالها واضحة بينة ويقويها على السعي وراء تحقيق تلك الأماني أنها مدفوعة بعامل سياسي وعامل استعماري، ومن القواعد المعروفة في السياسة أنه إذا سادت تجارة أي دولة في أي مملكة ضعيفة فإن السلطة السياسية تتبع السلطة التجارية عاجلا أو آجلا.
ومن المعلوم أن النمسا صاحبة النفوذ القوي حالا في البلقان، ولا يقاوم ذلك النفوذ مقاوم، على أن رومانيا، وهي إحدى ولايات البلقان المستقلة، تميل إلى النمسا ميلا شديدا وتنظر إلى أعمالها في البلقان بعين الرضى والسرور.
ولا يفوتنا أن إنكلترا ربما تعاند النمسا في سياستها وتقلب لها ظهر المجن، ونحن لا نفرض هذا الفرض لتحققنا من أن إنكلترا تخون صديقها أو تغدر به أو تنقض عهده فتنتهز فرصة لإيذاء النمسا! كلا، ولكننا فرضنا هذا الفرض لنكون على بينة من كل شيء من المقدمات التي تدل على النتائج؛ ولذلك فنحن نقول إنه ربما ترى إنكلترا أنه من فائدتها الخاصة أن تغدر بالنمسا وتناوئها العداء وتناصبها الشر.
ومن المعلوم أن الباب العالي لن يقبل بأن يسلم آخر ما يملك في أوروبا بدون أن يحرك ساكنا، فإذا حدث أن الدولة العلية لم تستطع أن تعمل شيئا فإنها تفرط في كل عزيز لديها لتحدث نزاعا وشقاقا في جيوش عدوها المحارب - وهذه هي السياسة التي اتخذتها في أيام الحرب الروسية التركية - فإن الباب العالي اشترى في ذلك الحين حياد إنكلترا بالتنازل لها عن جزيرة قبرص.
Unknown page
ومن يدري بأن الباب العالي لا يعد أكلة يضعها في فم إنكلترا فتتداخل تداخلا سياسيا أو حربيا لتعوق النمسا عن الاستيلاء على ولاية سالونيكا؟
هل من المستحيل أن تتنازل تركيا لإنكلترا عن حقوق سيادتها في مصر؟
من هنا يظهر أنه من فائدة النمسا أن تجتهد في حل المسألة المصرية حلا أوليا لخوفها من أن تقف هذه المسألة في طريق سياستها المستقبلة.
لقد جرت العادة منذ عهد طويل جدا بالاعتقاد بأن روسيا هي الدولة السائدة في الشرق الأدنى، والعادة طبيعة ثانية، فإنه رغما عن الأدلة الواضحة التي تدل على أن روسيا ليست هي الدولة السائدة (ولو فرضنا أن روسيا هي السائدة، فإن تلك السيادة قد بدأت شمسها بالأفول من زمن بعيد)، فإن الناس لا يزالون معتقدين بالأفكار القديمة فإذا حدث أي حادث مقلق في جنوب أوروبا الشرقي فلا يقولون إلا أن روسيا هي التي سببت ذلك القلق وهي التي أحدثت هذا النزاع.
على أن المتنبه للحوادث السياسية التي تجري في الشرق الأقصى يرى بكل وضوح أن آمال روسيا متجهة نحو غرض واحد ومهما كلفها هذا الغرض من الذهب والنفوس فإنها أبدا تسعى إليه، ولا يخفى أن هذا الغرض هو رغبتها في الحصول على ثغر بين فلاديفوستك وبورآ رثور.
ونحن لا نستطيع أن نتنبأ بنتيجة الحرب الحاضرة بين روسيا واليابان، ولكن مهما تكن نتيجة تلك الحرب فإن روسيا دائما ستكون مشتغلة بتلك النتيجة عن القسطنطينية.
ولنفرض أن روسيا تفوز على اليابان مع ما في هذا الفرض من الاستحالة في الظروف الحاضرة فإن روسيا لن تنال ظفرا يسحق عدوتها ويجعلها تنام مطمئنة زمنا طويلا؛ لأنه لو حدث أن روسيا طردت اليابانيين من سيبريا ومنشوريا، فإن إمبراطورية اليابان تبقى أبدا عدوا قويا يهدد روسيا في الشرق الأقصى مستعدا لأن ينتهز فرصة اشتغالها بمشاغل السياسة الأوروبية ليشعل نار حرب ثانية وينزل بشواطئ منشوريا مرة ثانية لينتقم للهزيمة الأولى.
ولنفرض ثانيا أن اليابان حازت نصرا باهرا وأرغمت روسيا على التقهقر عن شواطئ المحيط الهادي، فإنا لا نحسب أن هذه الهزيمة تضطر روسيا لأن تترك سياستها القديمة التي عمل لأجلها كبار رجالها قرونا طويلة، فإن روسيا لا يمكن لبالها أن يهدأ حتى تكون حدود أملاكها الشرقية بحرا وهذا هو غرض السياسة الروسية الذي اشتغلت به وسعت لأجله من عهد «إيفان الهائل» في القرن السادس عشر؛ لأن في تلك الأمنية التي تسعى للحصول عليها حياتها وبقاءها دولة قوية بين دول أوروبا وممالكها.
إن الهزيمة لا تضر الروس بل تنفعهم لأنهم يعودون فيقوون أنفسهم ويتقون شر هزيمة ثانية، ويتقدمون بكل سكون وهدوء إلى الغاية المقصودة، ولو فني رجال الروس ومالهم فإنهم لا يرضون من الغنيمة بالقفول، ومن يراجع تاريخ روسيا يعلم أنها صنعت كل ما في وسعها لتتقدم على الشواطئ التي لا تجد فيها مقاومة شديدة، ولكنها فشلت مرارا في محاولتها الحصول على القسطنطينية، فإنها بعد أن تفوز على الأتراك بعد حرب عنيفة تنفق فيها أموالها وتقتل فيها رجالها كانت أوروبا تقف في وجهها متحدة فتعود روسيا إلى الوراء لأنها لا تقدر أن تقاوم بمفردها قارة متحدة لأن باقي دول أوروبا كلها كانت تعمل جهد طاقتها على منع روسيا عن القسطنطينية وكيف لروسيا أن تقاوم هذه الدول كافة؟!
وهناك أسباب أخرى تعوق روسيا عن القسطنطينية؛ منها أن روسيا تنتظر بفروغ صبر نصيبها في الغنيمة التركية عند تقسيمها، وهي تسعى إلى تلك الغاية ببطء وتمهل وترو؛ ولذلك فهي لا تنوي الحصول على القسطنطينية لأنها بحصولها على القوقاز الذي قوى نفوذها في بلاد فارس استطاعت القرب من «ما بين النهرين»، وهناك تطلب روسيا نصيبها لأنها لو تقدمت نحو الغرب قليلا فإنها تمس نصيب حليفتها فرنسا وهو سوريا، ولا ينتظر من روسيا أن تعادي فرنسا إلا بعد قرون طويلة؛ لأن فرنسا هي الدولة الوحيدة في أوروبا التي تستطيع أن تفرج كربة روسيا وقت احتياجها للمال، فإن روسيا وإن كانت تجد النفوس التي تزهقها والدم الذي تريقه في سبيل مطامعها، فإنها لا تجد الذهب الذي يسهل لها أعمالها؛ ولذلك فهي تكتفي من فرنسا بآسيا الصغرى، ولكن دول أوروبا لا تسمح لروسيا بأعمال سياسية إلا في جزيرة البلقان على أن روسيا قد فطنت إلى حيلة الدول الأوروبية؛ ولذلك فهي لن تحاول أبدا أن تمد يدها إلى ولايات البلقان وما والاها إلى القسطنطينية لأنها علمت أنها مهما أحرزت من نصر وفوز فإن أوروبا تضطرها دائما إلى التقهقر.
Unknown page