إن ابن الأمير لا يخفى عليه طريقة أولئك الرجال في النظر في تاريخ الرجال وعقائدهم، وفي حديثهم الذي يعتقدونه سليما من المناكير، سليما من التخليط أو بالعكس، ونقول لابن الأمير: إذا لم يكن للبخاري إلا قول مشائخه: فلان ثقة ضابط دون نظر ولا ترجيح اجتهادي، فلماذا يختار قبول بعض من قد جرح أو ترك بعض من قد عدل ؟ فإذا كان البخاري يعرف حديث الرجال وينتقده ويبني على انتقاده معرفة الرواة كما يعرفهم بتاريخهم وعقائدهم، فكيف يقاس عليه من يقلده أو يقاس البخاري على من يقلده ؟ حتى يقول ابن الأمير بناء على الحصر والقصر الذي ادعاه وذكرناه، يقول بناء على ذلك: فإذا كان الواقع من مثل البخاري من تصحيحه الأحاديث تقليدا لأنه بناه على أخبار غيره عن أحوال الرواة الذين صحح حديثهم كان كل قابل لخبر من أخبار الثقات مقلدا وإن كان الواقع من التصحيح من البخاري مثلا اجتهادا مع قبول لأخبار من قبله عن صفات الرواة، فيكون أيضا قبولنا لخبر البخاري عن صحة الحديث المتفرع عن أخبار الثقات اجتهادا، فإنه لا فرق بين الإخبار بأن هؤلاء الرواة ثقات حفاظ وبين الإخبار بأن الحديث صحيح إلا بالإجمال والتفصيل....
والجواب: ان الإخبار إذا اعتمد بدون حجة فاعتماده تقليد كما حققنا فيما مر، فنسلم أنه لا فرق في كون قبول التوثيق وقبول التصحيح كلاهما تقليد، لأن التوثيق والتصحيح كلاهما ينبني على نظر واجتهاد كما بيناه، فلا فرق في أن اتباعهما بدون حجة تقليد.
هذا: والمقصود بيان الفرق من هذا الوجه بين البخاري ومسلم وأحمد وابن معين مثلا وبين من قلدهم. وبهذه الجملة يظهر لمن أنصف أن من يعمل بتصحيح الحديث أو تضعيفه بدون معرفة وجه ذلك وصحة الاعتماد على ذلك الوجه يكون مقلدا، فتبين صحة قولي لمقبل: إنه مقلد، وإنه يعيب التقليد وهو مقلد في إثبات صحة أحاديث البخاري ومسلم وفي توثيق الرواة وضعفهم.
Page 28