مسألة في إبطال قولهم بقدم العالم مذهب الفلاسفة تفصيل المذهب: اختلفت الفلاسفة في قدم العالم. فالذي استقر عليه رأي جماهيرهم المتقدمين والمتأخرين القول بقدمه وأنه لم يزل موجودًا مع الله تعالى ومعلولًا له ومسوقًا له غير متأخر عنه بالزمان مساوقة المعلول للعلة ومساوقة النور للشمس، وأن تقدم الباري عليه كتقدم العلة على المعلول، وهو تقدم بالذات والرتبة لا بالزمان. وحكي عن أفلاطن أنه قال: العالم مكون ومحدث. ثم منهم من أول كلامه وأبى أن يكون حدث العالم معتقدًا له. وذهب جالينوس في آخر عمره في الكتاب الذي سماه "ما يعتقده جالينوس رأيًا" إلى التوقف في هذه المسألة. وأنه لا يدري العالم قديم أو محدث. وربما

1 / 88

دل على أنه لا يمكن أن يعرف وأن ذلك ليس لقصور فيه بل لاستعصاء هذه المسألة في نفسها على العقول، ولكن هذا كالشاذ في مذهبهم وإنما مذهب جميعهم أنه قديم وأنه بالجملة لا يتصور أن يصدر حادث من قديم بغير واسطة أصلًا. اختيار أشد أدلتهم وقعًا في النفس إيراد أدلتهم. لو ذهبت أصف ما نقل عنهم في معرض الأدلة وذكر في الاعتراض عليه لسودت في هذه المسألة أوراقًا، ولكن لا خير في التطويل. فلنحذف من أدلتهم ما يجري مجرى التحكم أو التخيل الضعيف الذي يهون على كل ناظر حله. ولنقتصر على إيراد ما له وقع في النفس، مما لا يجوز أن ينهض مشككًا لفحول النظار، فإن تشكيك الضعفاء بأدنى خبال ممكن. وهذا الفن من الأدلة ثلاثة:

1 / 89

الأول يستحيل حدوث حادث من قديم مطلقًا قولهم يستحيل صدور حادث من قديم مطلقًا، لأنا إذا فرضنا القديم ولم يصدر منه العالم مثلًا فإنما لم يصدر لأنه لم يكن للوجود مرجح بل كان وجود العالم ممكنًا إمكانًا صرفًا، فإذا حدث بعد ذلك لم يخل إما أن تجدد مرجح أو لم يتجدد، فإن لم يتجدد مرجح بقي العالم على الإمكان الصرف كما قبل ذلك، وإن تجدد مرجح فمن محدث ذلك المرجح؟ ولم حدث الآن ولم يحدث من قبل؟ والسؤال في حدوث المرجح قائم. وبالجملة فأحوال القديم إذا كانت متشابهة فإما أن لا يوجد عنه شيء قط وإما أن يوجد على الدوام، فأما أن يتميز حال الترك عن حال الشروع فهو محال. لم لم يحدث العالم قبل حدوثه؟ ... وتحقيقه أن يقال: لم لم يحدث العالم قبل حدوثه؟ لا يمكن أن يحال على عجزه عن الأحداث ولا على استحالة الحدوث، فإن ذلك يؤدي إلى أن ينقلب القديم من العجز إلى القدرة والعالم من الاستحالة إلى الإمكان، وكلاهما محالان. ولا أمكن أن يقال: لم يكن قبله غرض ثم تجدد غرض، ولا أمكن أن يحال على فقد آلة ثم على وجودها، بل أقرب ما يتخيل أن يقال: لم يرد وجوده قبل ذلك. فيلزم أن يقال: حصل وجوده لأنه صار مريدًا لوجوده

1 / 90

بعد أن لم يكن مريدًا، فيكون قد حدثت الإرادة. أو قبل حدوث الإرادة؟ وحدوثه في ذاته محال لأنه ليس محل الحوادث، وحدوثه لا في ذاته لا يجعله مريدًا. ولنترك النظر في محل حدوثه. أليس الإشكال قائمًا في أصل حدوثه! وأنه من أين حدث؟ ولم حدث الآن ولم يحدث قبله؟ أحدث الآن لا من جهة الله؟ فإن جاز حادث من غير محدث فليكن العالم حادثًا لا صانع له، وإلا فأي فرق بين حادث وحادث؟ وإن حدث بإحداث الله فلم حدث الآن ولم يحدث من قبل؟ ألعدم آلة أو قدرة أو غرض أو طبيعة؟ فلما أن تبدل ذلك بالوجود وحدث عاد الإشكال بعينه. أو لعدم الإرادة؟ فتفتقر الإرادة إلى إرادة وكذى الإرادة الأولى، ويتسلسل إلى غير نهاية. يستحيل حدوث حادث من غير تغير .. فإذن قد تحقق بالقول المطلق أن صدور الحادث من القديم من غير تغير أمر من القديم في قدرة أو آلة أو وقت أو غرض أو طبع محال، وتقدير تغير حال محال، لأن الكلام في ذلك التغير الحادث كالكلام في غيره

1 / 91

والكل محال، ومهما كان العالم موجودًا واستحال حدثه ثبت قدمه لا محالة.

1 / 92