[1 - سورة الفاتحة]
[1.1-7]
الباء حرف معنى وذكر لها النحاة معاني كثيرة ولم يذكر لها سيبويه إلا معنى الازلاي الالصاق والاختلاط ثم قال فمن اتسع من هذا اتسع في الكلام فهذا أصله وذكروا أنها هنا للاستعانة وما يتعلق به محذوف فقدره الكوفيون بدأت وجعل البصريون ذلك في موضع خبر مبتدأ محذوف تقديره ابتدائي.
بسم الله أي كائن، بسم الله وخالف الزمخشري الفريقين فقدره متأخرا عن التسمية قال: تقديره بسم الله اقرأ أو أتلو لأن الذي يجيئ بعد التسمية مقروء والتقديم على العامل عنده يوجب الاختصاص وليس كما زعم قال سيبويه وقد تكلم على ضربت زيد ما نصه وإذا قدمت الإسم فهو عربي جيد كما كان ذلك يعني تأخيره عربيا جيدا فذلك قولك زيد ضربت والاهتمام والعناية ها هنا في التقديم والتأخير سواء مثله في ضرب زيد عمرا وضرب عمرا زيد " انتهى " والاسم ها هنا هو اللفظ الدال بالوضع على موجود في العيان إن كان محسوسا وفي الأذهان ان كان معقولا من غير تعرض بسببيته للزمان وهو ثلاثي حذفت منه واو فقال البصريون: هي لام الكلمة لأنه عندهم مشتق من السمو.
وقال الكوفيون: هي فاء الكلمة لأنه عندهم مشتق من الوسم وبعض العرب لم يعوض من المحذوف فقال: سم بكسر السين وضمها، والمشهور بهمزة وصل مكسورة وبعضهم يضمها ولا نعلم اسما أوله: همزة وصل مضمومة غيره. وزعم بعض النحويين أنه ردت لأمه وبني على فعل فقالوا: سمى كهدى فإن صح هذا ففيه خمس لغات.
وحذف ما تتعلق به الباء لأنه موطن لا ينبغي أن يقدم فيه سوى ذكر الله تعالى، فلو ذكر ما يتعلق به لم يكن ذكر الله مقدما ففي حذفه مشاكلة اللفظ للمعنى فطابق ذكر اللسان ذكر القلب وحذفت الألف من بسم الله تخفيفا لكثرة الاستعمال " والله " لفظ عربي لا سرياني معرب وهو علم لموجود العالم وليس بمشتق عند الأكثر وألفه منقلبة عن أصل عند من يرى أنه مشتق فعن ياء إن كان من لاه يليه ارتفع أو عن واو إن كان من لاه يلوه لوها احتجب أو زائدة عند من يرى أنه مشتق من ألة أو وله فأصله إلاه أو ولاه فأبدلت واوه همزة كاعاء في وعاء ثم حذفت الهمزة اعتباطا فقالوا: لاه كما قال بعضهم في ناس أن أصله أناس ودخلت عليه أل فقيل الله أو كان أصله الاه فنقلت حركة الهمزة إلى اللام بعد حذفها فأدغمت اللام في اللام ولزم النقل والادغام فقيل: الله، وصار لا ينطلق إلا على المعبود بحق وعلى هذا يكون فعال بمعنى مفعول كالكتاب بمعنى المكتوب وال هذه لازمة وشذ حذفها مع حذف حرف الجر في قولهم: لاه أبوك، يريدون لله أبوك.
{ الرحمن } لفظ عربي خلافا لمن زعم أنه ليس عربيا بل أصله رخمان بالخاء المعجمة فعرب بالحاء وهو بناء على فعلان من الرحمة والظاهر أنه وصف على فعلان وإن كان شذ بناؤه من المتعدي وذهب الاعلم وابن طاهر وغيرهما إلى أنه اسم علم مشتق من المتعدي كما اشتقوا الدبران من دبر صيغ للعلمية ويدل على علميته وروده غير تابع الاسم قبله في أكثر الكلام فعلى قول هؤلاء يكون الرحمن بدلا من اسم الله.
قال السهيلي: البدل فيه عندي ممتنع وكذلك عطف البيان لأن الاسم الأول لا يفتقر إلى مبين لأنه أعرف الاعلام كلها وأبينها ألا تراهم قالوا: وما الرحمن ولم يقولوا وما الله فهو وصف يراد به الثناء وإن كان يجري مجرى الاعلام.
" الرحيم " صيغة مبالغة فعلى القول بأن الرحمن صفة قيل دلالتهما واحدة كندمان ونديم وقيل معناهما مختلف فالرحمن أكثر مبالغة وأردف الرحيم ليكون كالتتمة ليتناول ما دق منها ولطف وقيل الرحيم أكثر مبالغة والذي يظهر ان جهة المبالغة مختلفة فلا تكون من باب التوكيد فمبالغة فعلان من حيث الاستيلاء والغلبة ومبالغة فعيل من حيث التكرار والوقوع بمحال الرحمة ولذلك لا يتعدى فعلان ويتعدى فعيل ومن ذهب إلى أنهما بمعنى واحد وليس توكيدا احتاج أن يخص كل واحد منهما بشيء فقيل رحمن الدنيا ورحيم الآخرة وقيل العكس وقيل لأهل السماء والأرض وقيل غير هذا وسمعت إضافة الرحمن في قولهم رحمن الدنيا والآخرة وسمع أيضا استعماله بغير أل وبغير إضافة في قولهم لا زلت رحمانا ووصفه تعالى بذلك مجاز عن إنعامه على عباده ألا ترى أن الملك إذا عطف على رعيته ورق لهم أصابهم إحسانه فعلى هذا هي في حق الله صفة فعل وقيل صفة ذات وهي إرادة الخير لمن أراد الله له ذلك.
" الحمد " مصدر حمد يحمد والأصل في المصدر أن لا يجمع. وحكى ابن الاعرابي جمعه على أحمد.
قال الشاعر:
وأبلج محمود الثناء خصصته بأفضل أقوالي وأفضل أحمدي
وأل في الحمد الظاهر أنها لتعريف الجنس فتدل على استغراق الأحمد كلها بالمطابقة وقراءة الجمهور والحمد بالرفع وهو يدل على ثبوت الحمد واستقراره لله تعالى فيكون قد أخبر بأن الحمد مستقر له تعالى أي حمده وحمد الحامدين وقرىء بالنصب على إضمار فعل قيل من لفظه تقديره حمدت الحمد لله فيتخصص الحمد بتخصيص فاعله وأشعر بالتجدد والحدوث ويكون من المصادر التي حذف فعلها وأقيمت مقامه وذلك في الاخبار نحو قولهم شكرا لا كفرا وقيل التقدير اقرؤوا الحمد لله أو الزموا الحمد لله واللام في قراءة الرفع تكون للاستحاق وفي قراءة النصب تكون للتبيين فيتعلق بمحذوف تقديره.
" لله " أعني نحو قولهم سقيا لزيد. وقرىء بكسر الدال اتباعا لحركة اللام فاحتمل أن يكون الاتباع في مرفوع أو منصوب وقرىء بضم لام الجر اتباعا لحركة الدال.
" الرب " السيد والمالك والمعبود والمصلح وهو اسم فاعل حذفت ألفه كما قيل بار وبر وقيل مصدر وصف به ويطلق الرب على الله وحده وبقيد الاضافة على غيره نحو رب الدار وقرىء رب بالنصب على المدح ويضعف الخفض الصفات بعدها إلا أن فرع على أن الرحمن علم.
" العالمين " العالم لا مفرد له كالأنام واشتقاقه من العلم أو العلامة والمختار أنه كل مصنوع وجمع لاختلاف أنواع المصنوعات بالواو والياء على جهة الشذوذ ورب والرحمن والرحيم صفات مدح لأن ما قبله علم لم يعرض بالتسمية فيه اشتراك فيتخصص وبدئ بالرب لأن له التصريف في المسود والمملوك والعابد بما أراد من خير أو شر واتبع بالرحمانية والرحيمية لينبسط أمل العبد في العفو إن زل وإن كان الرب بمعنى المصلح كان الوصف بالرحمة مشعرا بعلة الاصلاح لأن الحامل للشخص على إصلاح العبد العمل رحمته له ومعنى سياق هذه الأوصاف ان المتصف بها مستحق للحمد وقرىء بنصب الرحمن الرحيم ورفعهما وإذا قلنا بأن التسمية من الفاتحة كان تكرار هاتين الصفتين تنبيها على قدر عظمهما. قرىء في السبعة.
" مالك " وملك وقرىء ملك على وزن سهل وملكي بإشباع كسرة الكاف وملك على وزن عجل وبرفع الكاف ومالك بنصب الكاف ومالكا بالألف والنصب والتنوين وبالرفع والتنوين ومليك وملاك ومالك بالامالة المحضة وملك فعلا ماضيا فينتصب بعده وبعد المنون يوم وهذه القراءات بعضها راجع لمعنى الملك وبعضها لمعنى الملك وكلاهما قهر وتسليط فالملك على من تأتت منه الطاعة باستحقاق وراجع بغيره والملك على من تأتت منه ومن لا تتأت وذلك باستحقاق فبينهما عموم وخصوص. واليوم هو المدة من طلوع الفجر إلى غروب الشمس ويطلق أيضا على مطلق الوقت.
" والدين " الجزاء دناهم كما دانوا والقضاء ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله والطاعة في دين عمرو والعادة كدينك من أم الحويرث قبلها.
والملة ورضيت لكم الاسلام دينا والاضافة إلى يوم الدين اتساع إذ متعلق الملك والملك غير اليوم والاضافة على معنى اللام والظاهر تغاير ملك ومالك فقيل هما بمعنى واحد كالفره والفاره واليوم هنا زمان يمتد إلى أن ينقضي الحساب فيستقر كل فيما قدر له من جنة أو نار ومتعلق الملك، أو الملك هو الأمر أي ملك أو مالك الأمر في يوم الدين وفائدة الاختصاص بهذا اليوم وإن كان ملكا أو مالكا للأزمنة كلها التنبيه على عظم هذا اليوم بما يقع فيه ولما اتصف تعالى بالرحمة انبسط أمل العبد فنبه بالصفة بعدها ليكون من عمله على وجل وان لعمله يوما تظهر له فيه ثمرته من خير أو شر.
" إياك " ضمير نصب منفصل وفيه خلاف مذكور في النحو وقرىء بفتح الهمزة وشد الياء وكسرها وتخفيف الياء وبإبدال الهمزة المفتوحة هاء والقول باشتقاق أيا ضعيف والكلام على وزنها فضول.
" نعبد " العبادة التذلل عبدت الله تذللت له وقرىء نعبد بكسر النون ونعبد مبنيا للمفعول وهي قراءة مشكلة وتوجيهها أن فيها استعارة والتفاتا فالاستعارة إحلال المنصوب موضع المرفوع فكأنه قال أنت ثم التفت فأخبر عنه اخبار الغائب فقال نعبد وغرابة هذا الالتفات كونه في جملة واحدة.
" نستعين " والاستعانة طلب العون والطلب أحد معاني استفعل وهي اثنا عشر معنى وقرىء نستعين بكسر النون وإياك مفعول مقدم والتقدم للاعتناء والتهمم.
قال الزمخشري: التقدم للتخصيص وقد تقدم الرد عليه في بسم الله وإياك التفات من غيبة إلى خطاب ومن أعرب ملك منادى فلا التفات لأنه خطاب بعد خطاب ودعوى الزمخشري ثلاث التفاتات في تطاول ليلك وما بعدها خطأ إنما هما التفاتان وفائدة الالتفات أنه لما ذكر أن الحمد لله المتصف بالربوبية والرحمة والملك لليوم المذكور أقبل على المحمود وأخبر أنه وغيره يعبده ويخضع له ولذلك أتى بالنون لانها تكون له ولغيره فكما أن الحمد يستغرق الحامدين كذلك العبادة تستغرق المتكلم وغيره وقرنت العبادة بالاستعانة للجمع بين ما يتقرب به العبد إلى الله وبين ما يطلبه من جهته وليكون ذلك توطئة للدعاء في قوله اهدنا وقدمت العبادة على الاستعانة لتقدم الوسيلة قبل طلب الحاجة لتحصل الاجابة إليها وأطلق العبادة والاستعانة ليتناول كل معبود به ومستعان عليه وكرر وإياك ليكون كل من العبادة والاستعانة سيقا في جملتين وكل جملة منهما مقصودة وللتنصيص على أن الذي يطلب العون منه هو تعالى.
" اهدنا " الهداية هنا الإرشاد والدلالة وتتعدى إلى الثاني بالى وباللام وهنا تعدى بنفسه.
" والصراط " الطريق وأصله السين وقرىء به وبين الزاي والصاد وبالزاي خالصة وهي لغة لعذرة وكعب وبني القين والصاد لغة قريش وعامة العرب على اشمام الصاد الزاي وتذكير الصراط أكثر من تأنيثه ويجمع في الكثرة على صراط وقياسه في القلة أصرطة ان كان مذكرا واصرط إن كان مؤنثا.
" المستقيم " اسم فاعل من استقام وهو استفعل بمعنى الفعل المجرد وهو قام والقيام هو الانتصاب والاستواء من غير اعوجاج.
" والذين " اسم موصول والخلاف في لغته وفيما يعرف به الموصول مذكور في كتاب النحو والذين يخص العقلاء وما أجرى مجراهم.
" أنعمت " والنعمة لين العيش ونعم الرجل إذا كان في نعمة والهمزة في أنعمت لجعل الشيء صاحب نعمة وهو أحد المعاني التي لأفعل وضمن معنى التفضيل فعدي بعلى وأصله التعدية بنفسه أنعمته جعلته صاحب نعمة والتاء في أنعمت ضمير المخاطب المذكر المفرد وعلى حرف جر عند الأكثرين ظرف عند سيبويه وجماعة ومعنى على الاستعلاء حقيقة أو مجازا وقرىء.
" عليهم ": بضم الهاء وسكون الميم وبكسر الهاء والميم بغير ياء وكذا بياء بعدها وبكسر الهاء وضم الميم بواو بعدها وبضمهما وواو بعدها وبضمهما بغير واو وبكسر الهاء وضم الميم بغير واو وبضم الهاء وكسر الميم بياء بعدها وكذلك بغير ياء.
" اهدنا " صورته صورة الأمر. ومعناه الطلب والرغبة ولما أخبر المتكلم أنه ومن معه يعبدون الله تعالى ويطلبون منه العون سأل له ولهم الهداية إلى الطريق الواضح لأنهم بالهداية إليه تصح منهم العبادة.
" صراط الذين " بدل عين المبدل منه إذ فيه بعض إبهام ليكون المسؤول الهداية إليه قد جرى ذكره مرتين وصار يذكر البدل منه حوالة على طريق من أنعم الله عليهم فكان ذلك أثبت وأؤكد، والبدل على الصحيح على نية تكرار العامل فكأنهم كرروا طلب الهداية وفسر المنعم عليهم بأقوال أولاها الأنبياء ومن ذكر معهم في قوله فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، الآية. ولم يقيد الانعام ليعم جميع المنعم به على سبيل البدل وبناء أفعل للفاعل استعطاف لقبول التوسل بالدعاء في الهداية أي طلبنا منك الهداية إذ سبق إنعامك فمن إنعامك إجابة سؤالنا ومضمون الجملة طلب استمرار الهداية إلى طريق من أنعم عليهم لأن من صدر منه حمدا لله وأخبر بأنه يعبده ويستعينه فقد حصلت الهداية له لكنه يسأل استمرارها.
" غير " مفرد مذكر دائما ومدلوله المخالفة بوجه ما وأصله الوصف ويستثنى به ويلزم الاضافة لفظا أو معنى وإدخال أل عليه خطأ ولا يتعرف وان أضيف إلى معرفة.
" المغضوب " والغضب يغير الطبع كما يروه.
" عليهم " وعليهم الأولى في موضع نصب والثانية في موضع رفع وغير بدل من الضمير في عليهم أو من الذين. وهو ضعيف وان قاله أبو علي أو نعت على مذهب سيبويه إذ قد تتعرف غير إذا أضيفت إلى معرفة أو على مذهب ابن السراج في أنها تتعرف إذا وقعت على مخصوص لا شائع وقرىء غير وهو حال من الضمير في عليهم.
وقال المهدوي من الذين والحال من المضاف إليه الذي لا موضع له من رفع أو نصب، المشهور أنه لا يجوز.
وقال الأخفش والزجاج: نصب على الاستثناء المنقطع والمغضوب عليهم اليهود لأنهم كفروا عن علم وعاندوا والنصارى ضالون أي كفروا جهلا فلهذا خص كل بوصف ولا في قوله " ولا الضالين " حرف خلافا للكوفيين ودخلت لتأكيد معنى النفي الذي تدل عليه غير أنه كأنه قيل لا المغضوب عليهم ولا الضالين وأشعر أن الضالين هم غير المغضوب عليهم وإن كان كلهم قد اشتراك في الغضب والضلال، ولتقارب معنى غير ولا أجاز الزمخشري أنا زيدا غير ضارب قال: كما جاز أنا زيدا لا ضارب فأوردهما مورد الوفاق وفي المسألتين خلاف.
" والضلال " سلوك سبيل غير القصد. ضل عن الطريق سلك غير جادتها، والضلال: الهلاك والضلال الحيرة والغفلة وكانت صلة الذين فعلا ماضيا وصلة أل اسما لأن المقصود طلب الهداية إلى صراط من ثبت إنعام الله عليهم وصله أل بالاسم ليشمل سائر الأزمان وبناه للمفعول لأن من طلب منه الهداية ونسب الانعام إليه لا يناسب أن يواجه بوصف الانتقام وليكون المغضوب توطئة للختم بالضالين فيعطف موصول بال على موصول بال مثله والمراد بالانعام الانعام الديني.
وروي عدي بن حاتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن المغضوب عليهم هم اليهود وإن الضالين هم النصاري "
والغضب من الله تعالى إن كان إرادة الانتقام من المعاصي فهو من صفات الذات وإن كان إحلال العقوبة به كان من صفات الفعل ومناسبة ذكر الغضب أثر النعمة لأن الغضب يقابل الانتقام لا الضلال فبينهما تطابق معنوي. وأيضا تشجيع فقد جمعت هذه الصورة حسن الافتتاح وبراعة المطلع إذ كان مفتتحا باسم الله تعالى. والمبالغة في الثناء بعموم أل في الحمد لله، والاختصاص باللام في لله، وبالإضافة في ملك يوم الدين، وحسن التقديم والتأخير في نعبد ونستعين والمغضوب عليهم والضالين، والتفسير بعد الابهام في صراط الذين، والالتفات في إياك نعبد وما بعده، وطلب الشيء والمقصود استدامته. وسرد الصفات لبيان خصوصيته في الموصوف أو مدح أو ذم، والتشجيع في الرحيم والمستقيم وفي نستعين والضالين.
[2 - سورة البقرة]
[2.1-3]
" الم " حروف التهجي هذه التي في أوائل السور اختلف الناس في المراد بها اختلافا كثيرا ولم يقم دليل على تعيين شيء مما ذكروه والذي اختاره هو ما ذهب إليه الشعبي والثوري وجماعة من المحدثين قالوا: هي سر الله في القرآن وهي من المتشابه الذي انفرد الله تعالى بعلمه نؤمن بها ونمرها كما جاءت وإلى هذا ذهب الوزير الحافظ أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب الظاهري رحمه الله تعالى قال: هذه الحروف التي في فواتح السور هو المتشابه الذي استأثر الله بعلمه وسائر كلامه تعالى محكم " انتهى ". وهذه الحروف أوردت مفردة من غير عامل ولا عطف فاقتضت أن تكون مسكنة كأسماء الأعداد إذا أوردت من غير عامل ولا عطف فلا محل لها من الاعراب وقال الكوفيون: ألم ونظائرها آية في خلاف لهم في بعضها.
وقال البصريون وغيرهم: ليس شيء من ذلك آية ولم ينضبط لي ما سمى العادون في القرآن آية ولا عرفت مقدار ما لحظوا في ذلك ووقف أبو جعفر على كل حرف من حروف التهجي وقفه وقفة وأظهر النون من طسم، ويس، وعسق ون الا من طس تلك فلم يظهر ذلك.
" ذلك " اسم إشارة واللام مشعرة ببعد المشار إليه والكاف للخطاب وإذا كان على موضوعه من البعد فأقوال كثيرة مضطربة: الأولى: أن تكون إشارة لما نزل بمكة من القرآن أو البعد بالنسبة إلى الغاية التي هي بين المنزل، والمنزل إليه . وسمعت شيخنا الأستاذ أبا جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي يقول ذلك إشارة إلى الصراط المستقيم كأنهم لما سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم قيل لهم ذلك الصراط الذي سألتم الهداية إليه هو الكتاب وبهذا الذي ذكره الأستاذ يتبين وجه ارتباط سورة البقرة بسورة الحمد وهذا القول أولى لأنه إشارة إلى شيء سبق ذكره لا إلى شيء لم يجر له ذكر وقد ركبوا وجوها من الإعراب في قوله.
" ذلك الكتاب لا ريب فيه " والذي اختاره أن يكون ذلك الكتاب جملة مستقلة لأنه متى أمكن حمل الكلام على الاستقلال دون إضمار ولا افتقار كان أولى.
" ولا ريب " جملة مستأنفة لا موضع لها من الاعراب أو في موضع نصب أي مبرأ من الريب وقرىء لا ريب بالرفع وسياق الكلام يدل على أن المراد نفي كل ريب في هذه القراءة والفتح نص في العموم والذي نختاره أن الخبر محذوف للعلم به إذ لغة تميم إذا علم لا يلفظ به ولغة الحجاز كثرة حذفه إذ ذاك ولا ريب يدل على نفي الماهية أي ليس مما يحله الريب ولا يدل على نفي الارتياب لأنه قد وقع ارتياب من ناس ضلال، وعلى هذا لا يحتاج إلى حمله على نفي التعليق والمظنة كما حمله الزمخشري ولا يزد علينا وإن كنتم في ريب لاختلاف الحال والمحل فالحال في كنتم المخاطبون والريب هو المحل والحال هنا الريب منفيا والمحل الكتاب فلا تعارض بين كونهم في ريب من القرآن وكون الريب منفيا عن القرآن واختيار الزمخشري أن فيه خبر ولذلك بني عليه سؤالا وهو ان قال هلا قدم الظرف على الريب كما قدم على الغول في قوله:
لا فيها غول
[الصافات: 47]، وأجاب بأن التقديم يشعر بما يبعد عن المراد وهو أن كتابا غيره فيه الريب، كما قصد في قوله: لا فيها غول، تفضيل خمر الجنة على خمور الدنيا بأنها لا تغتال العقول كما تغتالها هي، كأنه قيل: ليس فيها ما في غيرها من هذا العيب والنقيصة. وقد انتقل الزمخشري من دعوى الاختصاص بتقديم المفعول إلى دعواه بتقديم الخبر ولا نعلم أحدا يفرق بين ليس في الدار رجل، وليس رجل في الدار. والأولى جعل كل جملة مستقلة من قوله: ذلك الكتاب لا ريب وفيه هدى. ولم يحتج إلى حرف عطف لأن بعضها آخذ بعنق بعض، فالأولى أخبرت أن المشار إليه هذا الكتاب الكامل. كما تقول: زيد الرجل، أي الكامل في الأوصاف. والثانية نفت أن يكون فيه شيء من الريب. والثالثة أخبرت أن فيه الهدى للمتقين.
والمجاز في فيه " هدى " أي استمرار هدى لأن المتقين مهتدون، والمتقي في الشريعة هو الذي يقي نفسه أن يتعاطى ما توعد عليه بعقوبة من فعل أو ترك وعلى ما اخترناه من الاعراب تكون الجملة. الأولى: كاملة الأجزاء حقيقة، والثانية: فيها مجاز الحذف إذا اخترنا أن خبر لا محذوف، والثالثة: فيها تنزيل المعاني منزلة الأجسام إذ جعل الكتاب ظرفا والهدي مظروفا وأتى بلفظة في التي للوعاء فهو مشتمل على الهدى كاشتمال البيت على زيد في قولك زيد في البيت.
و " الإيمان " التصديق وأصله من الأمان أو الأمان أو الأمن، ومعناها: الطمأنينة. والهمزة فيه للصيرورة وضمن معنى الاعتراف أو الوثوق فعدى بالباء أو باللام.
و " الغيب " مصدر غاب يغيب إذا توارى. والأجود أن يكون أطلق على الغائب لا أنه فعيل من غاب فخفف كلين والباء متعلقة بيؤمنون.
والصلاة وزنها فعلة، وألفه منقلبة من واو وهي مشتقة من الصلا وهو عرق متصل بالظهر أو من صلى بمعنى دعا.
و " الرزق " العطاء. وبفتح الراء المصدر.
و " الانفاق " الانفاد وللمتقين في موضع الصفة فلا يتعلق بهدي.
[2.4-5]
و " الذين " يجوز في إعرابه الأوجه الثلاثة لأنه صفة مدح والغيب المؤمن به هو ما غاب عن المؤمن مما كلف الإيمان به وتضمن الاعتقاد القلبي والفعل البدني وإخراج المال وهذه الثلاثة عمد الاسلام وإفعال المتقي ومن للتبعيض والأولى حمل الانفاق على الزكاة لكثرة ورودها مقترنة مع الصلاة في القرآن والسنة، وأضاف الرزق إليه لا إلى كسب العبد ليعلم أن الذي ينفقه العبد هو بعض مما رزقه الله تعالى وجعلت صلاة الذين افعالا مضارعة لا صلات لأل لأن المضارع على ما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث والتجدد في صفة المتقين أمدح.
وال قالوا تدل على الثبوت وكان هذا الموصول بصلاته شرح للمتقين فدل المتقين على الثبوت والمضارعات على الحدوث فتعددت وأخرت الصلة الثالثة لأجل الفواصل وحذف العائد على ما وتقديره رزقنا همو، وترتيب هذه الصلات من باب ترتيب الأهم فالأهم والألزم فالألزم فالايمان لازم للمكلف دائما والصلاة في كثير من الأوقات والنفقة في بعض الأوقات.
و " الانزال " الإيصال والإبلاغ ولا يشترط أن يكون من علو. وقرىء بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك مبنيين للفاعل وهو التفات إذ هو خروج من ضمير متكلم في رزقناهم إلى ضمير غائب وقرىء بما أنزل إليك ووجهه أنه سكن لام أنزل ونقل إليها حركة همزة إليك بعد حذفها ثم أدغم والذين معطوف على الذين ويظهر أنه تفسير للإيمان بالغيب وهو أن يؤمن بما أنزل إلى الرسول وبما أنزل إلى الرسل قبله.
و " بالآخرة " هي صفة غالبة وهي في الأصل تأنيث آخر وحملها على الدار الآخرة أولى من حملها على النشاة الآخرة، والمضي في وما أنزل من قبلك متحقق وفي بما أنزل إليك لأن أكثره كان نزل بمكة والمدينة فقام الأكثر مقام الجمع أو غلب الموجود لأن الإيمان بالمتقدم الماضي يقتضي الايمان بالمتأخر، والإيقان: التحقق للشيء لسكونه ووضوحه، يقن الماء: سكن وظهر ما تحته، ولم تعد بآء الجر في ما الثانية ليدل على أنه إيمان واحد إذ أعادته تشعر بأنهما إيمانان وأكد أمر الآخرة بتعلق الإيقان الذي هو أجلى وآكد مراتب العلم والتصديق وإن كان لا تفاوت في الحقيقة بينهما رفعا لمجاز إطلاق العلم على الظن فذكر أن الإيمان والعلم بالآخرة لا يكون إلا إيقانا، وغاير بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة لا يكون إلا إيقانا، وغاير بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة في اللفظ لزوال كلفة التكرار وكان الإيقان هو الذي اختص بالآخرة لكثرة غرائب متعلقاتها ولكون المنزل مشاهدا أو كالمشاهد والآخرة غيب صرف فناسب الإيقان:
قالوا: والإيقان هو العلم الحادث سواء كان ضروريا أم استدلاليا فلذلك لا يوصف به الباري سبحانه وتعالى وقدم المجرور اعتنآء به وإبراز هذه الجملة اسمية وإن كانت معطوفة على فعلية آكد في الاخبار عن هؤلاء بالإيقان والتصدير بالمبتدأ يشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه كما أن التصدير بالفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به ولم يذكرهم في: ومما رزقناهم، لأن الوصف بالإيقان أعلى من الوصف بالانفاق ولكونه يكون فيه قلق لفظي.
" أولئك " اسم إشارة للجمع مطلقا وهو للرتبة الوسطى وهو مبتدأ خبره الذي بعده، وهي جملة استئنافية ولا تختار ما أجتازه الزمخشري من كون هذه الجملة في موضع خبر عن الذين يؤمنون وإعراب الذين مبتدأ والذهاب بالذين مذهب الاستئناف لأن تعلقه واتصاله بما قبله في غاية الوضوح.
على هدى إلا أنه لما وصف المتقين بصفات مدح فصلت جهات التقوى أشار إليهم بأن من حاز هذه الأوصاف الشريفة هو على هدى جعل رسوخهم في الهداية كأنهم استعلوه، ووصف الهدى بأنه من ربهم تعظيم للهدى الذي هم عليه، ومن: لابتداء الغاية أو للتبعيض، أي من هدى ربهم. وذكر الرب هنا في غاية المناسبة.
والفلاح: الفوز والظفر بإدراك البغية والبقاء. وقرىء من ربهم بضم الهاء كان ضمير جمع لمذكر أو مؤنث ولا يراعي سبق كسر أو ياء وهذان خبران مختلفان لذلك كرر أولئك ليقع كل منهما في جملة مستقلة أخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة وهم فصل أو بدل أو مبتدأ.
[2.6-7]
والكفر: الستر. وسواء: اسم بمعنى استواء مصدر إستوى وقد يوصف به بمعنى مستو.
و " الانذار ": الاعلام مع التخويف. والهمزة في أأنذرتهم للتسوية.
" والختم " الوسم بطابع أو غيره.
" والقلب " اللحمة الصنوبرية سميت بالمصدر.
" السمع " مصدر سمع. وكني به عن الأذن.
" البصر " العين.
" والغشاوة " الغطاء.
و " العذاب " أصله الاستمرار في الألم ولما ذكر أوصاف المتقين المؤدية بهم إلى الفوز ذكر أوصاف الكافرين المؤدية بهم إلى العذاب وافتتح قصتهم بحرف التأكيد ليدل على استئناف الكلام فيهم والظاهر أن الذين كفروا للجنس ملحوظا فيه قيد وهو أن يقضي عليه بالكفر والموافاة عليه ويحتمل أن يكون لمعينين ممن وافى على الكفر كأبي جهل وأبي لهب وغيرهما. وسواء وما تعلق به جملة اعتراض فلا موضع لها من الاعراب. وسواء مبتدأ والجملة الداخلة عليها الهمزة خبر عن سواء وجوزوا العكس.
ولا يؤمنون خبران وجملة الاعتراض لتأكيد مضمون جملة ان وخبرها، لأن من أخبر الله عنه أنه لا يؤمن استوى إنذاره وعدم إنذاره أو يكون خبر ان سواء والجملة التي فيها الهمزة في موضع الفاعل عند من يجيز أن تكون الجملة فاعلة. أو سواء مبتدأ وما بعده خبره أو العكس. ولا يؤمنون خبر بعد خبر أو على إضمار مبتدأ تقديره هم لا يؤمنون، أولا موضع لها من الاعراب فتكون تفسيرية لأن عدم الإيمان استواء الانذار وعدمه. وقرىء أأنذرتهم بتحقيق الهمزتين وهي لغة تميم، وبتسهيل الثانية وهي لغة الحجاز، وبإدخال ألف بينهما حققت الثانية أو سهلت، وبإبدال الثانية ألفا وقد أنكره الزمخشري وزعم أنه لحن، وقرىء بحذف الهمزة الأولى وبحذفها ونقل حركتها إلى الميم الساكنة قبلها، ومفعول أأنذرتهم الثاني محذوف تقديره العذاب على كفرهم والظاهر أن لا يؤمنون.
وختم خبر لادعاء. والختم على القلب كني به عن كونه لا يقبل شيئا من الحق استعار المحسوس للمعقول. أو مثل القلب بالدعاء الذي ختم عليه صوتا لما فيه ومنعا لغيره من الدخول إليه. وقيل: الختم حقيقة وهو انضمام القلب وانكماشه. وإسناد الختم إلى الله حقيقة لا مجاز كما تأوله الزمخشري. وعلى سمعهم معطوف على قلوبهم لا انه مشارك السمع للأبصار في الغشاوة وان جوزوه وأفرد السمع لكونه لمح فيه الأصل وهو المصدر، أو للإستغناء بالمفرد عن الجمع لدلالة ما قبله وما بعده عليه، أو على حذف مضاف أي وعلى حواس سمعهم. وقرى: وعلى أسماعهم، والمشهور في قراءة غشاوة - بكسر الغين ورفع التاء - فتضمن الكلام إسنادين فعلية وإسمية ليدلا على التجدد والثبوت وقدمت الفعلية لأن ذلك قد فرغ منه ووقع وقدم خبر الاسمية ليطابق الفعلية في تقديم المحكوم به على المحكوم عليه. وقرىء غشاوة - بالنصب - أي وجعل. وقرىء غشاوة - بضم الغين ورفع التاء وبفتحها والنصب وسكون الشين -. وعشوة وعشية وعشاوة - بالعين المهملة - من العشا وهو شبه العمى في العين. وتقديم القلوب من باب التقديم بالشرف وهو أحد التقديمات الست ولما ذكر تعالى حال هؤلاء الكفار في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة من العذاب ولما كان أعد لهم ذلك صيروا كان العذاب ملك لهم لازم.
و " العظيم " أصله للجثة.
[2.8-9]
و " الناس " اسم جمع لبني آدم. وقالوا: ناس من الجن. وهو مجاز وأصله عند سيبويه والفراء أناس حذفت همزته فوزنه عال. وعند الكسائي نوس من ناس تحرك. وعند غيرهما نسي من النسيان قلب، ويدل عليه قولهم في تصغير إنسان أنيسان.
ومن هنا موصولة وجوزوا أن تكون موصوفة وهي مبتدأ والخبر في الجار والمجرور قبلها ولا بد من قيد في الناس وإلا كان أخبارا لا تستقل به فائدة. فالتقدير ومن الناس السابق ذكرهم الذين اندرجوا في قولهم: إن الذين كفروا فليس هؤلاء إلا بعضا من أولئك شاركوهم في جميع ما أخبر به عن أولئك وزادوا أنهم ادعوا الإيمان واكذبهم الله تعالى وليسوا غير مختوم على قلوبهم كما زعم الزمخشري.
وجعل من موصولة أكثر في لسان العرب من كونها موصوفة ويدل على أنها موصولة انها نزلت في ناس بأعيانهم معروفين. بما صدر منهم من أقوالهم وأفعالهم كعبد الله بن أبي بن سلول وأصحابه ومن وافقه من غير أصحابه ممن أظهر الاسلام مقالا وأبطن الكفر اعتقادا واقتصروا على قولهم.
{ آمنا بالله وباليوم الآخر } منهم أن يعترفوا بالايمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما أنزل إليه وايهاما انهم من طائفة المؤمنين وحمل في قوله يقول على لفظ من وفى.
{ وما هم بمؤمنين } على المعنى. وقول ابن عطية: إنه لا يجوز أن يرجع من لفظ الجمع إلى لفظ الواحد مخالفة لقول النحويين من أنه يجوز أن يبدأ بالحمل على المعنى ثم على اللفظ وإن كان الحمل أولا على اللفظ ثم على المعنى أولى. وقد ثبت ما أنكره في كتاب الله تعالى وفي لسان العرب وبمؤمنين في موضع نصب. وأكثر لغة الحجاز جر الخبر بالباء وعليه أكثر ما جاء في القرآن. وزيدت الباء في الخبر للتأكيد ولأجل التوكيد بولغ في نفي إيمانهم بأن جاءت الجملة إسمية، وسلط النفي على اسم الفاعل الذي ليس مقيدا بزمان ليشمل جميع الأزمان ولم يجيىء التركيب مبنيا على قولهم فيكون وما آمنوا.
والخداع، قيل: إظهار غير ما في النفس. وقرىء: يخدعون الله مضارع خدع. وجاز في يخادعون أن يكون مستأنفا، كان قائلا يقول: لم يتظاهرون بالإيمان وليسو بمؤمنين؟ فقيل: يخادعون. قيل: وأن يكون بدلا من يقول أو حالا من ضمير، يقول ولا يجوز أن يكون حالا من الضمير في بمؤمنين، والعامل فيها اسم الفاعل كما ذهب إليه أبو البقاء وهذا إعراب خطأ وذلك ان ما دخلت على الجملة فنفت نسبة الإيمان إليهم، فإذا قيدت تلك النسبة بحال تسلط النفي على تلك الحال وهو القيد فنفته. ولذلك طريقان في لسان العرب أحدهما، وهو الأكثر: أن ينتفي ذلك القيد فقط، ويكون إذ ذاك قد ثبت العامل في ذلك القيد.
فإذا قلت: ما زيد أقبل ضاحكا فمفهومه نفي الضحك. ويكون قد أقبل غير ضاحك وليس معنى الآية على هذا إذ لا ينفى عنهم الخداع فقط فيثبت لهم الإيمان بغير خداع بل المعنى نفي الإيمان عنهم مطلقا والطريق الثاني وهو الأقل هو أن ينتفي القيد وينتفي العامل فيه، فكأنه قال في المثال السابق: لم يقبل زيد ولم يضحك، أي لم يكن منه إقبال ولا ضحك. وليس معنى الآية على هذا إذ ليس المراد نفي الإيمان عنهم ونفي الخداع والعجب من أبي البقاء كيف تنبه لشيء من هذا فمنع أن يكون يخادعون في موضع الصفة فقال ولا يجوز أن يكون في موضع جر على الصفة لمؤمنين لأن ذلك يوجب نفي خداعهم والمعنى على إثبات الخداع إنتهى كلامه فأجاز ذلك في الحال ولم يجز ذلك في الصفة وهما سواء، ولا فرق بين الحال والصفة في ذلك بل كل منهما قد يتسلط النفي عليه ومخادعة المنافقين الله هو من حيث الصورة لا من حيث المعنى من حيث تظاهروا بالإيمان وأبطنوا الكفر ومن حيث عدم عرفانهم بالله ولصفاته أو يكون ذلك على حذف مضاف أي يخادعون رسول الله وليس اسم الجلالة مقحما كما ذهب إليه الزمخشري وذكر مثلا نازعناه في الاستدلال بها ومخادعتهم المؤمنين كونهم امتثلوا إجراء أحكام المسلمين عليهم مع مخالفتهم لهم في الإعتقاد. وقرىء: وما يخادعون مضارع خدع بفتح الياء وضمها مبني للمفعول. ويخدعون بفتح الخاء وتشديد الدال المكسورة من خدع مشددا وبفتح الياء والخاء وكسر الدال مشددة ويخادعون بكسر الدال وفتحها مبنيا للمفعول فمن بناه للمفعول نصب.
" أنفسهم " تمييزا على مذهب الكوفيين في غبن زيد رأيه، واما على التشبيه بالمفعول به، واما على إسقاط حرف الجر أي في أنفسهم، ويختدعون مضارع اختدع بمعنى خدع كاقتدر وقدر والمعنى ان وبال ذلك ليس راجعا للمخدوع بل للخادع فكأنه ما كاد إلا نفسه بإيرادها موارد الهلكة وهو لا يشعر بذلك جهلا بقبيح أفعاله.
" وما يشعرون " معطوف على يخادعون الله، أي وما يشعرون إطلاع الله نبيه على خداعهم، أو وما يشعرون إيقاع أنفسهم في الشقاء بكفرهم ونفاقهم. أو جملة حالية، أي وما يخادعون إلا أنفسهم غير شاعرين بذلك إذ لو شعروا بذلك ما خادعوا الله والمؤمنين وجاء يخادعون بصيغة المضارع اشعارا بالديمومة إذ هو في معرض الذم.
[2.10-12]
قرىء مرض بسكون الراء وهي لغة كالحلب والحلب وكينونة المرض في قلوبهم مجاز عن ما حل فيها من الشك والحسد والغل. وقيل: حقيقة وهو الفساد والظلمة التي حدثت فيها بظهور الرسول صلى الله عليه وسلم وإعلاء كلمته.
{ فزادهم الله مرضا }. هذا خبر وإسناد الزيادة إلى الله تعالى حقيقة. وقيل: دعاء حقيقة بوقوع زيادة المرض وقيل مجاز فلا تقصد به الإجابة لكون المدعو به واقعا بل المراد به السب واللعن والتنقص نحو: قاتلهم الله.
ومرض نكرة تعم على طريق البدل وتعداد المحال يدل على تعداد الحال فاكتفى بالمفرد عن الجمع.
و " فزادهم ": أي قلوبهم أو ذواتهم، لأن مرض القلب مرض لسائر الجسد اليم اما للمبالغة ووصف العذاب به مجاز وهو من مجاز التركيب أو معناه مؤلم جآء فعيل من أفعل وهو من مجاز الأفراد وجمع وصف العذاب بالعظم والألم للمنافقين إذ هم أشد عذابا من غيرهم من الكفار وما في بما كانوا مصدرية.
وقال أبو البقاء: الا ظهر أن تكون موصولة. وقرىء: يكذبون مخففا ومشددا مضارع كذب وكذب.
" وإذا قيل ": لغة أهل الحجاز إخلاص الكسر في نحو قيل: وبيع والاشمام لغة كثير من قيس وبني أسد وعقيل وقرىء بهما. والفساد التغير عن حالة الاعتدال والصلاح نقيضه وهذه الجملة الشرطية هي من باب عطف الجمل استئنافا ينعى عليهم قبائح أفعالهم وأقوالهم. قيل: وتحتمل أن تكون معطوفة على يقول صلة من فلا موضع لها من الإعراب وهي جزء كلام لأنها من تمام الصلة (وأجاز الزمخشري وأبو البقاء) أن تكون معطوفة على يكذبون فلها موضع من الإعراب وهو النصب ويكون جزأ من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم وهذا الاعراب خطأ على جعل ما في بما موصولة وقراءة التشديد لغة وجملة الشرط من ضمير يعود على ما والجملة بعد إذ هذه في موضع خفض على مذهب الجمهور والعامل في إذا الجواب، والذي نختاره انها لا موضع لها من الإعراب والفعل الذي يلي إذا هو العامل فيها كسائر حروف الشرط وحذف فاعل القول للعلم به إذ هو الله تعالى ويظهر أن المفعول الذي لم يسم فاعله هو الجملة من قوله: لا تفسدوا في الأرض ولا يجوز ذلك عند جمهور البصريين ويجوز عند الكوفيين فتخريجه على مذهب جمهور البصريين أن يكون في قيل مضمر، أي وإذا قيل هو أي قول سديد فأضمر هذا القول الموصوف وجاءت الجملة بعده مفسرة فلا موضع لها من الإعراب وزعم الزمخشري أن الجملة هي المفعول الذي لم يسم فاعله وجعله من باب الاسناد اللفظي ونظره بقوله: الف حرف من ثلاثة أحرف، وإذا أمكن أن يكون إسنادا معنويا لم يعدل إلى الاسناد اللفظي.
" ولا تفسدوا " نهي عن إيقاع الفساد بأي طريق كان من كفر أو غيره من جهات الفساد وهو من باب النهي عن المسبب، والمراد النهي عن السبب فمتعلق النهي حقيقة هو إيطان الكفر وممالاة الكفار وإفشاء سر المؤمنين وذلك هو المفضي إلى الهيج للفتن المؤدية الى الإفساد وذكر محل الإفساد وهي الأرض التي نشأتم فيها وانتفعتم بها أحياء وأمواتا فما كان محل إصلاحكم لا يناسب أن يجعل محل إفساد ومعمول جواب الشرط أبرزوه جملة إسمية ليدل على ثبوت الوصف لهم وأكدوها بانما دلالة على قوة اتصافهم بقوة الاصلاح كل ذلك بهت وكذب على عاداتهم في الكذب فأكذبهم الله فقال؛
{ ألا إنهم هم المفسدون } فأتى بألا الدالة على التنبيه على كذبهم وبأن المقتضية التأكيد في قولهم: وبهم وبال واستفتحت بألا لتكون الاسماع مصغية لما جاء في حقهم وهم تأكيد للضمير أو فصل أو مبتدأ وتختار في ألا التي للتنبيه انها حرف بسيط، وزعموا انها مركبة من همزة الاستفهام ولا النافية للدلالة على تحقق ما بعدها، والاستفهام إذا دخل على النفي أفاد تحقيقا كقوله:
أليس ذلك بقادر
[القيامة: 40] ولكونها من المنصب في هذا ألا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرية بنحو ما يتلقى به القسم، وقاله الزمخشري. ودعوى التركيب على خلاف الأصل ولأن ما زعموا خطأ لأن مواقع ألا تدل على أن لا ليست للنفي فيتم ما ادعوه ألا ترى انك تقول إلا أن زيدا منطلق ليس أصله لا أن زيدا منطلق إذ ليس من تراكيب العرب بخلاف ما نظر به من قوله تعالى:
أليس ذلك بقادر
[القيامة: 40]، لصحة تركيب ليس زيد بقادر ولوجودها قبل رب وليت وحرف النداء وغيرها مما لا يتعقل فيه أن لا نافية فتكون الهمزة للاستفهام دخلت على لا النافية فأفادت التحقيق. وقوله: لا تكاد تقع إلى آخره غير صحيح ألا ترى أن الجملة بعدها تستفتح برب وبليت وبفعل الأمر وبالنداء وبحبذا ولا يتلقى بشيء من هذا القسم وعلامة الا هذه التي هي حرف تنبيه واستفتاح صحة الكلام دونها، وكون انما مركبة من ما النافية دخل عليها أن التي للإثبات فأفادت الحصر قول ركيك فاسد صادر عن غير عارف بالنحو، والذي نذهب إليه انها لا تدل على الحصر بالوضع، كما أن الحصر لا يفهم من اخواتها التي كفت بما، فلا فرق بين: لعل زيدا قائم، ولعلما زيد قائم. فكذلك: ان زيدا قائم، وإنما زيد قائم. وإذا فهم الحصر فإنما يفهم من سياق الكلام لا ان إنما دلت عليه وبهذا الذي قررناه يزول الاشكال الذي أوردوه في نحو قوله تعالى:
إنمآ أنت منذر
[الرعد: 7]
قل إنمآ أنا بشر
[الكهف: 110]
إنما تنذر من اتبع الذكر
[يس: 11]
إنمآ أنت منذر من يخشها
[النازعات: 45]. انتهى.
" ولكن لا يشعرون " لكن تقع بين متنافيين وظهوره ذلك هنا أنه تعالى أخبر أنهم هم المفسدون وقد علم ذلك منهم ولكن هم لا يعملون ذلك فاستدرك هذا المعنى الذي فاتهم من عدم الشعور بأنهم هم المفسدون ومفعول يشعرون محذوف تقديره ولكن لا يشعرون بإفسادهم.
[2.13-15]
{ وإذا قيل لهم آمنوا } هذه الجملة الكلام عليها أهي معطوفة على صلة من أو على يكذبون أو مستأنفة وما العامل في إذا وما المقام مقام الفاعل كالجملة الشرطية السابقة، ولما نهوا عن الافساد أمروا بالإيمان وبحصوله يزول إفسادهم وبدأ بالمنهي عنه لأنه الأهم وهو ترك والترك أسهل من امتثال المأمور فكان في ذلك تدريج لهم وأكثر المعربين يجعل الكاف في " كما آمن " ونظيره نعتا لمصدر محذوف أي إيمانا مثل إيمان الناس. ومذهب سيبويه: إن الكاف في موضع الحال وذو الحال ضمير مصدر محذوف دل عليه الفعل، وما مصدرية ينسبك منها ومن صلتها مصدر هو في موضع جر بالكاف. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء، أن تكون ما كافة للكاف عن العمل كهي في: ربما قام زيد، والظاهر أن أل في الناس للعهد وهم المؤمنون الذين سبقوا بالإيمان فأحيلوا عليهم. والسفه: خفة الحلم والجهل، ويقال سفه - بكسر الفاء وضمها - وهو القياس لمجيىء سفيه وجمعه على فعلى قياس مطرد في فعيل الصحيح الوصف لمذكر عاقل.
" أتؤمن " استفهام انكار واستهزاء ، ولما كان المأمور به مشبها أتوا بإنكارهم مشبها وأل في السفهاء للعهد ويعنون بهم المؤمنين الخلص في الإيمان اعتقدوا أنهم سفهاء.
{ ألا إنهم هم السفهآء } وهذا كما رد عليهم في قوله
ألا إنهم هم المفسدون
[البقرة: 12] إن الله تعالى هو العالم بأنهم السفهاء.
{ ولكن لا يعلمون } إنهم سفهاء لغباوتهم وجاء هناك لا يشعرون لأن الافساد يدرك بأدنى تأمل لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فكر كثير، فنفي عنهم ما يدرك بالمشاعر وهي مبالغة في تجهيلهم إذ الشعور الثابت للبهائم منفي عنهم والأمر بالإيمان يحتاج إلى إمعان كر واستدلال ونظر قام يفضي إلى الإيمان والتصديق، ولم يقع منهم المأمور فناسب ذلك نفي العلم عنهم، ولأن السفه هو خفة العقل والجهل بالأمور والعلم نقيض الجهل فقابله بقوله: لا يعلمون، ويجوز في نحو السفهاء إلا تحقيق الثانية مع تحقيق الأولى وجعلها بين الهمزة والواو وأبوابها واوا مع تحقيق الأولى أو جعلها بين الهمزة والواو وأجاز بعضهم جعل كل منهما بين الهمزة والواو.
{ وإذا لقوا } قرىء لاقوا وهي فاعل بمعنى الفعل المجرد وآمنا فعل مطلق غير مؤكد بشيء تورية منهم وإيهاما سموا النطق باللسان إيمانا وقلوبهم معرضة.
وخلا يتعدى بالباء وبالى والى على معناها من انتهاء الغاية وليست هنا بمعنى مع خلافا للنضر بن شميل.
و { شياطينهم } اليهود ورؤساءهم. وشيطان عند البصريين فيعال من شطن وقالوا: في معناه شاطن، وفي التصغير مشيطن. وعند الكوفيين فعلان من نشاط ويشهد لهم قولهم شيطان مسمى به ممنوع من الصرف.
وقرىء " معكم " بسكون العين وهي لغة ربيعة وغنم وانظر الفرق بين قولهم للمؤمنين آمنا وبين قولهم لشياطينهم.
هناك اكتفوا بالمطلق وهنا أكدوا المعية والموافقة بقولهم. انا ثم لم يكتفوا حتى ذكروا سبب قولهم آمنا وهو الاستخفاف بالمؤمنين وأبرزوا ذلك في جملة مؤكدة بانما وبنحن ومستهزؤون باسم الفاعل وكأنهم لما قالوا أنا معكم أنكر عليهم الاقتصار على هذا وانكم كيف تكونون معنا وأنتم مسالمون أولئك بإظهار تصديقكم وتكثيركم سوادهم والتزام أحكامهم من الصلاة وأكل ذبائحهم فأجابوا بذلك وإنما نستخف بهم في ذلك القول لصون دمائنا وأموالنا وذريتنا.
وقرىء " مستهزئون " بهمزة وبإبدالها ياء وبحذفها وضم ما قبلها وقلبها ياء هو قول الأخفش، وأما سيبويه فيخففها بجعلها بين بين، والاستهزاء: هو الاستخفاف واللهو واللعب، والله سبحانه منزه عن ذلك. فجاء قوله:
{ الله يستهزىء بهم } على سبيل المقابلة والمعنى أنه يجازيهم على استهزائهم وفي افتتاح الجملة باسم الله التفخيم والتعظيم والاخبار عنه بالمضارع وهو يدل على التجدد. ولم يذكروا هم متعلق الاستهزاء لتحرجهم من إبلاغ المؤمنين فينقمون ذلك عليهم فابقوا اللفظ محتملا وليذبوا عن أنفسهم لو حوققوا وان كانوا عنوا المؤمنين وقال: { يستهزىء بهم } فذكر متعلق الاستهزاء فهو أبلغ من قولهم.
{ يستهزىء بهم } فذكر متعلق الاستهزاء فهو أبلغ من قولهم.
وقرىء " ويمدهم " من مد ومن أمد وإسناد المد أو الامداد لله تعالى حقيقة إذ هو المنفرد بإيجاد ذلك وهو الممكن من المعاصي والزيادة منهما.
وقرىء طغيانهم - بكسر الطاء وضمها - وأضيف الطغيان إليهم لأنهم فاعلوه كسبا وان كان الله تعالى هو مخترعه.
والعمه التحير عن الرشد وركوب الرأس عن اتباع الحق. " وفي طغيانهم " متعلق بيمدهم وقيل بيعمهون. و " يعمهون " حال من مفعول يمدهم أو من ضمير طغيانهم. ومنع أبو البقاء أن يكون في طغيانهم ويعمهون حالين.
قال: لأن العامل لا يعمل في حالين وهذا فيه خلاف وتفصيل.
[2.16-18]
" أولئك " إشارة إلى الذين تقدم ذكرهم الجامعين للأوصاف الذميمة كما تقدم في المتقين حيث ذكرت أوصافهم أشير إليهم بأولئك.
وقرىء اشتروا بضم الواو وكسرها وفتحها والاشتراء هنا مجاز كني به عن الاختيار لأن المشتري للشيء مختار له مؤثر.
و " الضلالة " الكفر والهدى الإيمان جعل تمكنهم من اتباع الهدى كالثمن المبذول في المشتري.
" فما ربحت " عطف بالفاء الدالة على تعقب نفي الربح وبنفس ما وقع الاشتراء تحقق عدم الربح. وإسناد الربح إلى التجارة مجاز لأن الرابح هو التاجر ولما صور الضلالة والهدى مشترى وثمنا وكان ذلك مجازا رشحه ببعض أوصاف الحقيقة بقوله:
{ فما ربحت تجارتهم } فانضاف مجاز إلى مجاز وقرىء تجاراتهم على الجمع والافراد. ونفي الربح لا يدل على إنتقاص رأس المال لكن عبر بنفيه عن ذهاب المال لما في الكلام من الدلالة على ذلك لأن الضلالة والهدى نقيضان فاستبدالهم الضلالة دل على ذهاب الهدى بالكلية ويتخرج عندي على أن يكون من باب. على لا حب لا يهتدي بمنارة.
لما ذكر اشتراء شيء بشيء توهم أن ذلك تجارة فنفي الربح والمقصود نفي التجارة أي لا تجارة فلا ربح نحو لا منار فلا هداية.
{ وما كانوا مهتدين } تتميم للمعنى المقصود بهذه الجملة ويقال: لهذا في علم البيان التتميم ويقول هذه الجملة إخبار بأن هؤلاء ما سبقت لهم هداية بالفعل لئلا يتوهم من قوله: بالهدى، انهم كانوا على هدى فيما مضى فبين وما كانوا مهتدين مجاز قوله بالهدى ودل على أن الذين اعتاضوا الضلالة به إنما هو التمكن من إدراك الهدى فالمثبت في الاعتياض غير المنفي أخيرا لأن ذلك بالقوة وهذا بالفعل المثل والمثل كالشبه والشبه وأصله الوصف، والمثل القول السائر الذي فيه غرابة وضرب المثل يؤثر في القلب ما لا يؤثر وصف الشيء نفسه إذ فيه تشبيه الخفي بالجلي والغائب بالشاهد ولما ذكر تعالى أوصافا لهم سابقة ضرب المثل زيادة في كشف أحوالهم فقال:
{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } أي قصتهم ووصفهم مثل وصف الذي استوقد أي الجمع الذي استوقد. ويدل على ذلك قوله: ذهب الله بنورهم. فالذي وصف لمفرد في معنى الجمع وليس الذي مثل من لفظ ومعنى. كما نقل عن أبي علي والأخفش وقرىء الذين جمعا وتخريجه اما على انها كمن على ما قالاه واما أنه أفرد على ما توهم أنه نطق بمن، واستوقد بمعنى أوقد حكاه أبو زيد. وقيل: هي للطلب ونكر نارا لأن مقابلها من وصف المنافق نزر يسير من اليقين بالاسلام وجوانحه منطوية على الكفر والنفاق فاكتفى بالمطلق.
ويقال: ضاء المكان وأضاء النور ويستعمل أضاء أيضا لازما وإلا ظهر أن ما مفعول أي أضاءت النار المكان الذي حوله وجوزوا أن تكون ما نكرة موصوفة وأن تكون ما هي الفاعلة وأضاء لازم أي الجهة التي حوله أنت الفعل على معنى ما وجواب لما هو.
{ ذهب الله بنورهم } وأجاز الزمخشري أن يكون جواب لما محذوفا تقديره حمدت قال: وهو أولى وذهب الله بنورهم.
قال الزمخشري: الضمير في بنورهم عائد على المنافقين والجملة جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما بالهم قد أشبهت حالهم حال هذا المستوقد فقيل ذهب الله بنورهم أو هي بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان، ولم يكتف الزمخشري بأن جوز حذف هذا الجواب حتى ادعى أن الحذف أولى، قال: وكان الحذف أولى من الاثبات لما فيه من الوجازة مع الاعراب عن الصفة التي حصل عليها المستوقد بما هو أبلغ من اللفظ في أداء المعنى. كأنه قيل: فلما أضاءت ما حوله خمدت فبقوا خابطين في ظلام متحيرين متحسرين على فوات الضوء خائبين بعد الكدح في أحياء النار " انتهى ".
وهذا الذي ذكره نوع من الخطابة لا طائل تحتها لأنه كان يمكن له ذلك لو لم يكن تلى قوله:
{ فلمآ أضآءت ما حوله ذهب الله بنورهم }. وأما باقي كلامه بعد تقدير خمدت إلى آخره فهو مما يحمل اللفظ ما لا يحتمله ويقدر تقادير وجملا محذوفة لم يدل عليها الكلام وذلك عادته في غير ما كلام في معظم تفسيره ولا ينبغي أن يفسر كلام الله بغير ما يحتمله ولا أن يزاد فيه بل يكون الشرح طبق المشروح من غير زيادة عليه ولا نقص منه ولما جوزوا حذف الجواب تكلموا في قوله تعالى:
{ ذهب الله بنورهم } فخرجوا ذلك على وجهين، أحدهما: أن يكون مستأنفا جواب سؤال مقدر كأنه قيل ما بالهم قد اشبهت حالهم حال هذا المستوقد فقيل: ذهب الله بنورهم. والثاني: أن يكون بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان قالهما الزمخشري. وكلا الوجهين مبنيان على أن جواب لما محذوف وقد اخترنا غيره، وأنه قوله تعالى:
{ ذهب الله بنورهم } بدلا من جملة. والوجه الثاني من التخريجين اللذين تقدم ذكرهما وهو أن يكون قوله:
{ ذهب الله بنورهم } بدلا من جملة التمثيل على سبيل البيان ولا يظهر لي صحته لأن جملة التمثيل هي قوله.
{ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا } ، فجعله ذهب الله بنورهم، بدلا من هذه الجملة على سبيل البيان لا يصح لأن البدل لا يكون في الجمل إلا إذا كانت الجملة فعلية تبدل من جملة فعلية فقد ذكروا جواز ذلك وأما ان تبدل جملة فعلية من جملة اسمية فلا أعلم أحدا أجاز ذلك والبدل على نية تكرار العامل. والجملة الأولى لا موضع لها من الإعراب لأنها لم تقع موقع المفرد فلا يمكن أن تكون الثانية على نية تكرار العامل، إذ لا عامل في الأولى فيتكرر في الثانية فبطلت جهة البدل فيها " انتهى ".
والظاهر أن نارا حقيقة في النار التي استوقدت وإذهاب الله نورهم بأمر سماوي والباء في بنورهم للتعدية مرادفة للهمزة والله تعالى لا يوصف بالذهاب.
{ وتركهم في ظلمت لا يبصرون } في ظلمات متعلق بتركهم ولا يبصرون في موضع الحال أو في ظلمات في موضع الحال فيتعلق بمحذوف ولا يبصرون حال أيضا أما من الضمير في تركهم، واما من الضمير المستكن في المجرور قبله فإن كان ترك يتعدى إلى اثنين كان في ظلمات الثاني ولا يبصرون حال ولا يجوز العكس لأن الخبر لا يكون مؤكدا.
وقرىء { صم بكم عمي } بالرفع أي هم وهي إخبار متباينة الوضع لكنها في معنى خبر واحد وهو عدم قبولهم الحق وقرىء بنصب الثلاثة وجوزوجوها أحسنها النصب على الذم والظاهر أن هذا كله من أوصاف من شبه وصف المنافقين وبوصفهم بالغ في ذلك.
{ فهم لا يرجعون } أي جوابا لأن من اشتدت عليه تلك المشاعر لا يمكن أن يرجع جوابا لمن يخاطبه وجهة المماثلة بين المنافقين والمستوقد ان قلنا أنه من تمثيل المفردات أن استيقاد النار مقابل بما أظهروا في الاسلام إذ حقنوا به دمآءهم وعصموا به ذرياتهم وأموالهم وإضآءة النار كونهم جرت عليهم أحكام الإسلام وذهاب النور مقابل بما فضحهم الله به أنهم ليسوا بمؤمنين وتركهم في ظلمات مقابل لتماديهم على كفرهم ونفاقهم. وصم وما بعده مقابل لكونهم لا يقبلون الحق والإيمان أبدا فهم لا يرجعون مقابل لكونهم لا كلمة لهم ولا مراعاة فهم كمن حرم مراجعة من يقهره.
[2.19-21]
{ أو كصيب } معطوف على كمثل وأوهنا للتفصيل وكان من نظر في حالهم منهم من شبهه بحال المستوقد ومنهم من شبهه بحال ذي صيب فهو على حذف مضاف يدل عليه الضمير في يجعلون. والصيب: المطر النازل والسحاب أيضا، ووزنه عند البصريين فيعل بكسر العين، وعند البغداديين بفتحها، وعند القراء فعيل فقلب.
" والسماء " المظلة والسماء ما علاك من سقف ونحوه، وجمعت على سماوات واسمية وسماء وهي جموع لا تنقاس وقرىء أو كصايب اسم فاعل من صاب يصوب وصيب أبلغ.
" والرعد " الصوت المزعج المسموع من جهة السماء.
" والبرق " الجرم النوراني الذي يشاهد ولا يثبت وجعل الصيب مقرا لهذه الأشياء على سبيل المجاز مجاز المصاحبة.
{ يجعلون أصبعهم في آذانهم } إن كان بمعنى يلقون تعدى إلى واحد وفي آذانهم متعلق يجعلون وإن كان بمعنى يصيرون كان في آذانهم في موضع المفعول الثاني.
" والصاعقة " الوقعة الشديدة من صوت الرعد معها قطعة من نار تسقط مع صوت الرعد لا تمر بشيء إلا أتت عليه وهي سريعة الخمود والصاعقة لغة تميم والتصريف جاء على التركيبين فلا تكون صاقعة مقلوبا من صاعقة خلافا لمن ذهب إلى ذلك.
وقال ابن عرفة: والصاعقة أيضا العذاب ومن في من السماء متعلق بصيب أو في موضع الصفة أي كائن من أمطار السماء وظلمات الصيب بتكاثفه وانتساجه وتتابع قطره وظلمة ظلال غمامه وظلمة الليل وأفرد ورعد وبرق وإن كانوا قد قالوا رعود وبروق أما لأنهم أرادوا المصدر فكأنه إرعاد وإبراق وإما أن أريد بهما المعنيان فلان كلا منهما يسمى بالمصدر فروعي حكم أصلهما وإن كان المعنى على الجمع ونكرت الثلاثة لأنه ليس المقصود العموم، والظاهر أن يجعلون جواب سؤال مقدر، أي فكيف حالهم لا في موضع جر صفة لذوي المحذوفة، ولا في موضع حال من الضمير في فيه والعائد محذوف ثابت عنه أل في الصواعق أي من صواعقة ومن سببية متعلقة بيجعلون.
وقرىء { من الصواقع وحذر الموت } أعربوه مفعولا من أجله ولا يكون للفعل إلا مفعول له واحد إلا بالعطف فقد يتعدد أو بالبدل وقيل: حذر مصدر، أي يحذرون حذر الموت. وقرىء: حذار مصدر حاذر، وإحاطته تعالى بهم كناية عن كونه لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط به وإحاطته بالعلم والقدرة على إهلاكهم.
{ يكاد } مضارع كاد وفيها لغتان فعل وفعل ولذلك تقول كدت وكدت وهي من أفعال المقاربة.
{ يخطف } و " الخطف " أخذ الشيء بسرعة وجوزوا في يكاد أن يكون جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: كيف حالهم في ذلك البرق. وأن يكون في موضع جر صفة لذوي المقدر حذفه في صيب وأل في البرق نائب مناب الضمير وهي للعهد إذ قد تقدم ذكره.
وقرىء يخطب - بكسر الطاء - مضارع خطف - بفتحها وكسرها - في الماضي لغة قريش ويتخطف ويخطف ويخطف ويخطف، وما مصدرية ظرفية وانتصاب كل على الظرف سرت إليه الظرفية من إضافته لما المصدرية الظرفية وما مثل هذه يراد به العموم. تقول: أصحبك ما ذر شارق يريد العموم فكل في مثل هذا أكدت العموم الذي أفادته ما الظرفية ولا يراد مطلق الفعل والتقدير كل وقت اضاءة واضاءان كان متعديا فالمفعول محذوف أي أضاء لهم الطريق وعاد الضمير في فيه على الطريق أو يكون التقدير.
{ مشوا } في نوره فيعود على البرق وإن كان لازما أي كل ما لمع البرق مشوا في نوره وهذه الجملة استئناف كأنه قيل: فما حالهم في حالتي وميض البرق وخفائه قيل كذا.
وقرىء { أظلم } مبنيا للمفعول وتخريجه على أن التقدير وإذا أظلم الليل بنفسه وقال: قد جاء في شعر حبيب متعديا " قال ": هما أظلما جائي ثمت أجليا ظلاميهما عن وجه أمرد أشيب. " قاموا " ثبتوا لا يبرحون لشدة الظلمة. وفاعل أظلم ضمير يعود على الليل المفهوم من سياق الكلام وصدرت الجملة بكلما والثانية بإذا.
قال الزمخشري: لأنهم حراص على وجود ما هممهم به معقودة من إمكان المشي وثابتة فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها وليس كذلك التوقف والتجسد " انتهى ".
ولا فرق هنا بين كلما وإذا لأنه متى فهم التكرار من كلما لزم منه التكرار في إذا لأن الأمر دائر بين إضاءة البرق والاظلام فمتى وجد هذا فقد هذا يلزم من تكرار وجود هذا تكرار عدم هذا ومفعول شاء محذوف وكثيرا ما يحذف لدلالة المعنى عليه خصوصا بعد لو وأدوات الشرط وتقدم ذكر الآذان والأبصار فقال: " لذهب بسمعهم وأبصارهم " وقرىء بأسماعهم وأعقب تعالى ما علقه على المشيئة بالقدرة، لأن بالمشيئة والقدرة تمام الأفعال وكان بصيغة المبالغة إذ لا أحق بها منه ولما بالغ في حال المستوقد وما عرض له بالغ في حال هؤلاء النفر وما عرض لهم من الحيرة والمبالغة في حال المشبه بهما تقتضي شدة المبالغة في حال المشبه ونحن نختار أن هذين التشبيهين هما من التمثيلات المركبة ومن المفسرين من جعل ذلك من قبيل التمثيلات المفردة فقابل شيئا من أوصاف المشبه به لشيء من أوصاف المشبه وقد تقدم شيء من ذلك في تمثيل المستوقد وأما هنا فقال قابل الله القرآن بالصيب لنزوله من علو وعماهم عن تعقله بالظلمات، والوعيد والزجر بالرعد، والنور والحجج الباهرة بالبرق وتخويفهم بجعل أصابعهم في آذانهم وتكاليف الشرع بالصواعق، ولما ذكر الله تعالى المكلفين من المؤمنين والكفار المختوم عليهم بالموافاة على الكفر والمنافقين وصفاتهم وأحوالهم وما يؤل إليه حال كل منهم وأبرز حال المنافقين في أسوأ صور الأمثال خاطب جميع الناس فقبلا عليهم بالنداء لأن فيه هدى لما يلقيه إليهم من أمر العبادة له.
ويا حرف نداء ومع كثرة النداء في القرآن لم يناد إلا بيادون سائر حروف النداء.
وأي: لها محامل وهي هنا المنادى يوصل بها إلى نداء ما فيه أل. وهما: حرف تنبيه لازم لا يجوز حذفه.
و { الناس } صفة لأي واجب رفعهما.
ولفظ { ربكم } مناسب إذ هو السيد والمصلح ومن كان مالكا أو مصلحا أحوال العبد فجدير أن يعبد ولا يشرك به ونبه بوصف الخلق على استحقاقه للعبادة دون غيره أفمن يخلق كمن لا يخلق. والخلق والاختراع والإيجاد على تقدير وترتيب.
{ والذين من قبلكم } قدم خلف المخاطبين وإن كان من قبلهم تقدم زمان خلقهم لأن علم الانسان بحال نفسه أظهر من علمه بأحوال غيره ولأنهم المواجهون بالأمر بالعبادة فتنبيههم أولا على أحوال أنفسهم أهم وآكد. وبدا أولا بصفة الخلق إذ كانت العرب مقرة بأن الله خالقها وهم المخاطبون والناس تبع لهم إذ نزل القرآن بلسانهم ودخلت من هنا على الزمان، إذ التقدير من زمن قبل زمان خلقكم وقرىء في بفتح الميم قبل منصوبا. وخرج الزمخشري ذلك على إقحام الموصول الثاني كما أقحم في يا تيم تيم عدي والأحسن في تخريج هذه القراءة الشاذة أن يكون على إضمار مبتدأ محذوف تقديره والذين هم من قبلكم وذكر خلق من قبلهم لأنهم أصولهم فخلق أصولهم إنعام على الفروع.
ولعل فيها لغات ولم يجيىء في القرآن إلا أفصحها وهي للترجي والاطماع وذلك بالنسبة إلى المخاطبين والمعني إذا عبدتم ربكم رجوتم حصول التقوى وهي التي تحصل بها الوقاية من النار والفوز بالجنة فتعلقت جملة الرجاء باعبدوا. وذكر الزمخشري وابن عطية تعلقها بخلقكم والذي تؤدوا لأجله هو الأمر بالعبادة والموصول وصلته على سبيل المدح الذي تعلقت به العبادة فلم يجيىء الموصول ليحدث عنه بل في ضمن المقصود بالعبادة وأما صلته فلم يجيىء لإسناد مقصود إنما جيء بها لتتميم ما قبلها فلا يتعلق بها ترج بخلاف اعبدوا فإنها الجملة المفتتح بها أولا والمطلوبة من المخاطبين وإذا تعلقت باعبدوا ناسب خطاب لعلكم تتقون.
[2.22-23]
الذي جعل يجوز رفعه خبر مبتدأ محذوف ونصبه صفة لما قبله أو على القطع وأجيز رفعه على الابتداء والخبر.
{ فلا تجعلوا لله أندادا } وهو في نهاية الضعف لمضي الصلة فلا يناسب دخول الفاء في الخبر وللربط بالاسم الظاهر وهو لله فلا تجعلوا له وأجاز مكي رحمه الله أن ينتصب على أعني وليس بالتفسير فيحتاج إلى إضمار أعني وأن ينتصب بتتقون وهو إعراب تنزه القرآن عنه، والأحسن جعل جعل بمعنى صير، فينتصب فراشا وبناء على المفعول لا يمعنى خلق فينتصبان على الحال. ومعنى فراشا: تستقرون عليها. والفراش والمهاد والبساط والقرار والوطاء نظائر، والبناء مصدر يراد به المبني فهو تشبيه بما يفهم كقوله:
والسمآء بنيناها بأييد
[الذاريات: 47] شبهت بالقبة المبنية على الأرض. ومن السماء متعلق بانزل أو في موضع الحال فتتعلق بمحذوف إذ لو تأخر لكان صفة لما فيكون التقدير من مياه السماء ونكر ماء لأن المنزل لم يكن عاما فتدخل فيه أل.
{ فأخرج به } أي بالماء. والباء للسببية وهذه السببية مجاز، إذ هو تعالى قادر على أن ينشىء الأجناس وقد أنشأها من غير مادة ولا سبب ولكن لما وجد خلقه بعض الأشياء عنه أمر ما أجرى ذلك الأمر مجرى لسبب لا انه سببه حقيقة ومن للتبعبيض وأل في الثمرات لتعريف الجنس وجمع لاختلاف أنواعه ولا حاجة إلى ارتكاب أن الثمرات من باب الجموع التي يتعاور بعضها موضع بعض لاكتفائها في الجمعية نحو: كم تركوا من جنات وثلاثة قروء، فقامت الثمرات مقام الثمر أو الثمار كما ذهب إليه الزمخشري وأبعد من جعل من زائدة وأل في الثمرات للاستغراق لأن زيادة من في الواجب وقيل: معرفة انفرد بجوازه الأخفش ولأن من الثمرات ما لا يكون رزقا لنا فلا يصح الاستغراق واحتمل رزقا أن يكون كالطحن. فينتصب على الحال. وأن يكون مصدرا فيكون مفعولا من أجله وقرىء من الثمرة على التوحيد ولكم في موضع الصفة ان كان رزقا بمعنى المرزوق وفي موضع المفعول إن كان مصدرا وجوز أن يتعلق بأخرج. وقدم خلق الانسان لأنه أقرب إلى معرفته ثم بخلق الآباء ثم بالأرض لأنها أقرب إليه من السماء، وقدم السماء على نزول المطر وخروج الثمرات لأنه كالمتولد بين السماء والأرض؛ والأثر متأخر عن المؤثر. قال أبو عبيدة: النداء الضد وقيل: الكفؤ والمثل. ولما كانوا اتخذوا أندادا جاء النهي عن جعل أنداد لله تعالى على حسب الواقع. وهذه الجملة متعلقة بقوله: اعبدوا، أي فوحدوه وأخلصوا له العبادة لأن أصلها هو التوحيد. وقال الزمخشري: تتعلق بلعل على أن ينتصب تجعلوا انتصاب فأطلع في قوله
لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموت فأطلع
[غافر: 36-37] في رواية حفص عن عاصم أي خلقكم لكي تتقوا وتخافوا عقابه ولا تشبهوه بخلقه " انتهى ".
فعلى هذا لا تكون لا ناهية بل نافية. وتجعلوا منصوب على جواب الترجي ولا يجوز على مذهب البصريين وفي كلامه تعليق لعلكم تتقون بخلقكم على ما مر من مذهبه الاعتزالي ويجوز أن يكون متعلقا بالموصول وصلاته إذا جعلت. الذي خبر مبتدأ محذوف أي هو الذي جعل لكم هذه الآيات العظيمة والدلائل النيرة على توحيده.
{ فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون } جملة حالية فيها هزء لترك الأنداد أي أنتم من أهل العلم والتمييز بين الحقائق فلا تفعلوا فعل أجهل العلم أو أبعدهم عن الفطنة. وقدروا مفعول تعلمون أنواعا من التقادير والأولى أن يكون متروكا إذ المقصود إثبات أنهم من أولي العلم.
قال ابن عطية: هذه الآية تعطي أن الله تعالى أغنى الإنسان.. إلى آخر كلامه وهذا خطأ في التركيب لأنه لا ينوب أن ومعمولاها مناب مفعولي أعطى بخلاف باب ظن.
{ وإن كنتم في ريب }: " الآية " ليست ان بمعنى إذ ولا كان هنا ماضية المعنى واللفظ ولم تخلصه ان للاستقبال وإن كان الريب وقعوا فيه حقيقة كما زعموا بل أخرج هذا الشرط في صورة المستقبل أي هو مما يعرض وقوعه وإن كان لا يمكن وجوده إذ وضوح انتفاء أن يكونوا في ريب من جهته غير خاف، وفي ريب هو من تنزيل المعاني منزلة الاجرام. ومن: تحتمل ابتداء الغاية والسببية. وما موصولة، أي من الذي نزلنا والعائد محذوف أي نزلناه وأجيز أن تكون نكرة موصوفة ونزلنا تضعيفه مرادف للهمزة التي للنقل. وقرىء: أنزلنا وليس التضعيف هنا دالا على نزوله منجما في أوقات مختلفة خلافا للزمخشري قال: فإن قلت: لم قيل مما نزلنا على لفظ التنزيل دون الانزال؟ قلت: لأن المراد النزول على سبيل التدريج والتنجيم وهو من مجازه لمكان التحدي. " انتهى ".
وهذا الذي قاله الزمخشري في تضعيف عين الكلمة هو الذي يعبر عنه بالتكثير أي يفعل ذلك مرة بعد مرة فيدل على هذا المعنى بالتضعيف وذهل الزمخشري عن كون ذلك إنما يكون في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية، نحو: خرجت زيدا وفتحت الباب وقطعت وذبحت. فلا يقال: جلس زيد ولا قعد ولا صوم.
ونزلنا لم يكن متعديا قبل التضعيف إنما تعدى بالتضعيف أو الهمزة فإن جاء التكثير في لازم فهو قليل ويبقى على حاله لازما قالوا مات المال وموت إذا كثر ذلك فيه وأيضا فالتضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة الفعل إما أن يصير اللازم متعديا فلا ونزلنا كان قبل التضعيف لازما تقول نزل القرآن، ويدل على بطلان ما ذهب إليه قوله تعالى:
لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة
[الفرقان: 32]. ففي قوله تعالى:
{ نزلنا على عبدنا } التفات إذ هو خروج من غائب إلى متكلم ويفيد التفخيم للمنزل والمنزل عليه، وفي إضافة العبد إليه تعالى تنبيه على عظم قدره واختصاصه بخالص العبودية. ولفظ العبد عام وخاص وهذا من الخاص لا تدعني إلا بيا عبدها لأنه أشرف أسمائي.
وقرىء على عبادنا. يعني الرسول وأمته. قيل: ويحتمل أن يراد بالعباد النبيون الذين أنزل عليهم الكتب والرسول عليه السلام أول مقصود بذلك. والسورة المنزلة الرفيعة وسميت سورة القرآن بذلك لأنه يشرف بها قارئها. وقيل: قطعة من القرآن من أسأرت من السؤر والهمزة في سؤرة لغة وطلب منهم الإتيان بمطلق سورة وهي التي أقلها ثلاث آيات وتقدم وإن كنتم في ريب مما نزلنا ولم يكن التركيب في ريب من عبدنا، فناسب أن يكون الضمير في من مثله عائدا على المنزل لا على المنزل عليه. والمطلوب في غير هذا أن يأتوا بسورة مثله وبعشر سور مثله، وقال علي أن يأتوا بمثل هذا القرآن. ومن في موضع الصفة: أي من كلام مثله. وقول من قال: انها لبيان الجنس أو زائدة مرغوب عنه. والمثلية في حسن النظم وبديع الوصف وغرابة الأسلوب والأخبار بالغيب مما كان وما يكون ومما احتوى عليه من الأمر والنهي والوعد والوعيد والقصص والحكم والمواعظ والأمثال والصدق والأمن من التحريف والتبديل. وقيل: الضمير في مثله عائد على المنزل عليه فمن متعلقة بقوله: فاتوا، أي فاتوا من مثل الرسول بسورة. أو في موضع الصفة، أي بسورة كائنة وصادرة من رجل مثله. وفي كلا التقديرين من الابتداء الغاية والمثلية تتجه على كونه على الفطرة الأصلية أميا لا يحسن الكتابة ولا دارس العلماء ولا جالس الحكما ولا فارق وطنه الذي نشأ فيه. وإذا كان الضمير في من مثله عائدا على المنزل فذكر المثل على سبيل الفرض.
والشهداء جمع شهيد للمبالغة كعليم وعلماء. وكونه جمع شاهد كشاعر وشعراء وليس من باب فاعل. وقال الزمخشري: ولا قصد إلى مثل ونظير هنا ولكنه مثل قوله القبعثري للحجاج.
وقال له: لا حملنك على الأدهم مثل الأمير يحمل على الأدهم والأشهب. أراد من كان على صفة الأمير من السلطان والقوة وسط اليد، ولم يقصد أحدا يجعله مثلا الحجاج. " انتهى ". وقد فسر هو المثلية: في كونه بشرا عربيا أميا لم يقرأ الكتب. فقوله لا مثل ولا نظير ليس بظاهر لأن المماثل في هذا الشيء الخاص موجود ومن دون الله يحتمل أن يتعلق بشهداءكم أي ادعوا من اتخذتم آلهة من دون الله وزعمتم أنهم يشهدون لكم أنكم على الحق أو أعوانكم من دون الله أي من دون أولياء الله ومن تستعينون بهم دون الله أو يتعلق بادعوا أي وادعوا من دون الله أي لا تستشهدوا بالله فتقولوا الله يشهد ان ما ندعيه حق ولم يكتف في تعجيزهم بأن يعارضوه حتى أمرهم أن يدعوا شهداءهم فيستعينون بهم على ذلك وهو أمر تعجيز.
والظاهر أن { إن كنتم صدقين } في كونكم في ريب من المنزل على عبدنا، وجواب الشرط محذوف أي فأتواه
[2.24-27]
ولما كان الأمر أمر تهكم وتعجيز أخبر أنهم ليسوا قادرين على المعارضة بقوله: ولن تفعلوا. وجاء بلن وإن كان الغالب أنها تدخل على الممكن تهكما بهم على أنها ربما تدخل على الممتنع وعبر بالفعل عن الاتيان لأنه ما من شيء من الاحداث إلا يصح أن يعبر عنه بالفعل. وفي كتاب ابن عطية تعليل غريب لعمل لم الجزم. قال: وجزمت لم لأنها أشبهت لا في التبرئة في أنهما ينفيان وكما تحذف لا تنوين الاسم كذلك تحذف لم الحركة ولن تفعلوا إثارة لهممهم ليكون عجزهم بعد ذلك أبلغ وفيه دليل على إثبات النبوة إذ هو إخبار بالغيب ولم يقع من أحد معارضة أصلا ولن تفعلوا جملة اعتراض لا موضع لها من الإعراب.
وقال الزمخشري: واقتران الفعل بلن في هذه الجملة دون لا وان كانتا أختين في نفس المستقبل، لأن في لن توكيد أو تشديد أتقول لصاحبك لا أقيم غدا. فإن أنكر عليك قلت: لن أقيم غدا كما تفعل في أنا مقيم واني مقيم. " انتهى ".
وهذا مخالف لما حكي عنه أن لن تقتضي التأبيد فيما نفي. وقال ابن خطيب: زملكا لن تنفي ما قرب ولا يمتد النفي فيها وهذا يكاد يكون عكس قول الزمخشري وكون لن تقتضي التأكيد أو التأبيد أو نفي ما قرب أقوال متأخرين والرجوع ذلك لمستقرىء اللسان سيبويه ومن في طبقته قال سيبويه: لن نفي لقول سيفعل، ولا نفي لقول يفعل. " انتهى ". وهو نص على أنهما ينفيان المستقبل.
{ فاتقوا النار } جواب على الشرط الذي هو فإن لم تفعلوا وكني به عن ترك العناد لأن من عاند بعد وضوح الحق له استوجب العقاب بالنار واتقاء النار من نتائج ترك العناد. قيل وعرفت النار ووصفت بالتي وصلت لتقدم ذكرها في سورة التحريم إذ تلك الآية نزلت بمكة وهذه بالمدينة.
وقرىء { وقودها } على أن يراد به الذي توقد به. ووقودها - بضم الواو - وهو مصدر أي ذووا وقودها أو جعلوا المصدر مبالغة وحكي المصدر بالفتح أيضا وقرىء وقيدها أي موقودها.
{ والحجارة } يناسب أن تفسر بالأصنام لقوله تعالى:
إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم
[الأنبياء: 98]. أعدت للكافرين الكثير في لسان العرب ان الاعداد لا يكون إلا للموجود وهو التهيئة والارصاد. قال الشاعر:
أعددت للحادثان سابغة وعداء علندا
وقد تكون فلما هو في معنى الموجود كقوله تعالى:
أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما
[الأحزاب: 35].
قال ابن عطية في قوله: أعدت، رد على من قال بأن النار لم تخلق حتى الآن وهذا القول الذي سقط فيه منذر بن سعيد. " انتهى ".
ولفظه للكافرين لا تدل على اختصاصهم بدخول النار وإنما نص تعالى عليهم لانتظام المخاطبين فيهم والجملة استئناف إخبار.
وقال أبو البقاء في موضع: الحال من النار والعامل، واتقوا. " انتهى ".
وجعلها حالا لا يظهر إذ يصير المعنى فاتقوا النار في حال إعدادها للكافرين وهي معدة للكافرين اتقى هؤلاء النار أو لم يتقوها فيكون إذ ذاك حالا لازمة.
والبشارة أول خبر يرد على الإنسان وأكثر ما يستعمل في الخير، ولما ذكر الكفار ومآلهم ذكر مقابلهم المؤمنين ومآلهم لتكون الموعظة جامعة بين الوعيد والوعد والمأمور بالتبشير الرسول صلى الله عليه وسلم أو كل من تصح البشارة منه من غير تعيين. قال الزمخشري: وهذا أحسن وأجزل فإنه يؤذن بأن الأمر لعظمه وفخامة شأنه محقوق بأن يبشر به كل من قدر على البشارة. " انتهى ".
والوجه الأول عندي أولى لأن أمره عليه السلام بالبشارة مخصوصا بها أفخم وأجزل وكأنه ما اتكل على أن يبشر المؤمنين كل سامع بل نص على أعظمهم وأصدقهم ليكون ذلك أوثق عندهم وأقطع في الاخبار بهذه البشارة العظيمة إذ تبشيره تبشير من الله تعالى والجملة من " وبشر " معطوفة على ما قبلها وليس الذي اعتمدت بالعطف عليه هو الأمر حتى يطلب مشاكل من أمر أو نهي يعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة وصف ثواب المؤمنين فهي معطوفة على جملة وصف عقاب الكافرين كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والإزهاق، وبشر عمرا بالعفو والاطلاق: قاله الزمخشري وتبعه أبو البقاء. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون قوله: وبشر، معطوفا على قوله: فاتقوا النار، ليكون عطف أمر على أمر.
قال الزمخشري: كما تقول: يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، وبشر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم. " انتهى ".
وهذا خطأ لأن قوله: فاتقوا النار، جواب للشروط وموضعه الجزم والمعطوف على الجواب جواب ولا يمكن في قوله: وبشر، أن يكون جوابا لأنه أمر بالبشارة مطلقا لا على تقدير فإن لم تفعلوا، بل أمر أن يبشر الذين آمنوا أمرا ليس مترتبا على شيء قبله. وليس قوله: وبشر، على إعرابه مثل ما مثل به من قوله: يا بني تميم إلى آخره. لأن قوله: احذروا لا موضع له من الاعراب، بخلاف قوله: فاتقوا فلذلك أمكن فيما مثل به العطف ولم يمكن في: وبشر. وقرىء: وبشر ماضيا مبنيا للمفعول.
قال الزمخشري: عطفا على أعدت. " انتهى ".
وهذا الاعراب لا يتأتى على قول من جعل أعدت جملة في موضع الحال، لأن المعطوف على الحال حال، وبشر لا يكون حالا وبشر يتعدى إلى مفعول بنفسه وإلى آخر بحرف الجر وهو قوله: إن لهم جنات، وحذف منه الحرف وهو في موضع نصب على مذهب الخليل لا في موضع جر خلافا لمن قال: مذهب الخليل انه في موضع جر وهو ابن مالك قاله في التسهيل وهو كان قليل الالمام بكتاب سيبويه وجاءت صلة الموصول بالماضي لا باسم فاعل دلالة على أن المستحق للتبشير بفضل الله من وقع فيه الإيمان وتحقق به وبالعمل الصالح.
و { الصلحت } صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل فانتصبت على أنها مفعول به مأل فيها للجنس لا للعموم، والظاهر أن من اقتصر على الإيمان فقط دون العمل الصالح لا يكون مبشرا بالجنة من هذه الآية.
والجنة: البستان الذي سترت أشجاره أرضه والنهر دون البحر وفوق الجدول وفتح الهاء اللغة العالية. وقال الزمخشري: الجنة: اسم لدار الثواب كلها وهي مشتملة على جنان كثيرة مرتبة مراتب على حسب استحقاق العاملين لكل طبقة منهم جنة من تلك الجنان. " انتهى ".
وقوله: على حسب استحقاق العاملين فيه دسيسة الاعتزال. واللام في لهم للاختصاص وتقديم الخبر هنا آكد من تقديم المخبر عنه لقرب عود الضمير على الذين آمنوا فهو أسر للسامع وليست من زائدة. ولا: بمعنى في، فإن كانت الجنة الأشجار الملتفة ذوات الظل فلا حذف أو الأرض فعلى حذف أي من تحت أشجارها أو غرفها ومنازلها ومن لابتداء الغاية وأحسن أوصاف الجنة جريان الماء الذي هو كالروح لها لذلك لا يكاد يأتي ذكرها إلا مشفوعا بجري الأنهار.
وقال ابن عطية: نسب الجري إلى النهر وإنما يجري الماء وحده توسعا وتجوز، كما قال:
وسئل القرية
[يوسف: 82]. وكما قال الشاعر:
واستب بعدك يا كليب المجلس
ثم ناقض فقال بعد ذلك بنحو من خمسة أسطار:
والأنهار المياه في مجاريها المتطاولة الواسعة.
وأل في الأنهار للجنس.
وقال الزمخشري: أو يراد أنهارها فعوض التعريف باللام من تعريف الاضافة. كقوله تعالى:
واشتعل الرأس شيبا
[مريم: 4]. " انتهى ".
وهذا شيء قاله الكوفيون ولا تكون أل عند البصريين تنوب مناب الاضافة: قيل: أو تكون أل للعهد الثابت في الذهن من الأربعة المذكورة في سورة القتال.
والجملة من قوله: { كلما رزقوا } مستأنفة. لما ذكر تبشير المؤمنين بالجنة ووصفت بجري الأنهار تشوقت الجملة النفوس إليها وإلى ذكر حال المؤمنين فيها فبدأ بذكر ملاذها والأهم منها فقيل: كلما. وجعل الجملة صفة للجنان أو في موضع رفع على الابتداء مضمرا هي كلما أوهم كلما مرجوح لافتقارها في هذين الوجهين إلى موصوف أو إلى محذوف واستقلالها إذا كانت استئنافا. وأجاز أبو البقاء أن تكون حالا من الذين آمنوا أي مرزوقين على الدوام ولا يتم إلا إن كانت حالا مقدرة لأنهم وقت التبشير لم يكونوا مرزوقين ولا قائلين هذا الذي رزقنا من قبل.
والضمير في " منها " عائد على الجنات ومن ثمرة بدل اشتمال أعيد معه الجار.
ومن لابتداء الغاية فيهما ويتعلقان برزقوا على جهة البدل. وجاز الزمخشري أن يكون من ثمرة بيانا قال على منهاج قولك: رأيت منك أسد. " انتهى ".
وكون من للبيان ليس بمذهب للمحقين وقد تأولوا ما استدل به القائلون بأن من تكون للبيان. وعلى تقدير أن تكون من تأتي للبيان لا يتمشى هذا، لأن البيانية ان كان قبلها معرفة قدر مكانها مضمر صدر الموصول يكون كتلك المعرفة وإن كان قبلها نكرة قدر ضمير مكان من، ويكون ما دخلت عليه خبرا لذلك الضمير، وهذان التقديران تفسيرا معنى لا تفسير إعراب ولا يجيئان هذان التقديران هنا. وأما: رأيت منك أسدا، فمن لابتداء الغاية. إذ للغاية ابتداء وانتهاء، نحو: أخذته منك ولا يراد بالواحد الشخص الواحد من التفاح مثلا، بل المراد والله أعلم: النوع من أنواع الثمار.
وقال الزمخشري: وعلى هذا، أي على تقدير أن تكون بيانا يصح أن يراد بثمره النوع من الثمار والجنات الواحدة. " انتهى ". وهذا تقريع على أن من تكون بيانا.
ورزقا أي مرزوقا وتبعه فيه المصدرية لقوله هذا " واتوا " وهذا الذي مبتدأ وخبر أي مثل الذي وحذف مثل لاستحكام الشبه حتى كان هذه العين تلك.
ومن قبل متعلق برزقنا وهو مقطوع عن الإضافة والتقدير من قبل المرزوق.
وهذا (وقال) ابن عطية: هذا إشارة إلى الجنس أي هذا من الجنس الذي رزقناه من قبل. " انتهى ".
فيصير التركيب هذا الجنس من هذا الجنس ولعل الناسخ صحف مثل بمن أي هذا الجنس مثل الجنس ومعنى قالوا أي قال بعضهم لبعض، وذلك على سبيل التذكر لنعم الله. وقيل: ذلك على سبيل التعجب يرزقون الثمرة ثم مثلها صورة والطعم مختلف فيتعجبون. " وأتوا " مبني للمفعول والآتي بتلك الخدم والولدان. وقرىء وأتوا مبنيا للفاعل وهو إضمار الآتين دل عليه المعنى ألا ترى إلى قوله:
ويطوف عليهم ولدان
[الإنسان: 19]. الآية.
والضمير في " به " عائد على الرزق الذي هو من الثمار كما أن هذا إشارة إليه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: إلى (م) يرجع الضمير في قوله: وأتوا به؟ قلت: إلى المرزوق في الدنيا والآخرة لأن قوله: هذا الذي رزقنا من قبل انطوى تحته ذكر ما رزقوه في الدارين. " انتهى ".
وهذا غير ظاهر بل الظاهر أن يعود به على المرزوق في الآخرة لأنه هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل مع أنه إذا فسرت القبلية بما في الجنة تعين عود الضمير إلى المرزوق في الجنة ولا سيما إذا أعربت الجملة من قوله: وأتوا حالا، أي قالوا كذا وقد أتوا به، أو كانت معطوفة على قالوا: لأن ما في حيز كلما والعامل فيها مستقبل المعنى لأنها لا تخلو من معنى الشرط، أو كانت مستأنفة لأن هذه الجمل إنما جيىء بها محدثا عن الجنة وأحوالها وكونه مخبرا عن المرزوق في الدنيا والآخرة انه متشابه ليس من حديث الجنة إلا بتكلف.
و { متشبها } حال من الضمير في به، أي بالمرزوق في حال تشابهه وأطلق التشابه ولم يقيده وقيده المفسرون بمحتملات. وقال الزمخشري: إن ثمر الجنة متشابه بثمر الدنيا وأطال القول في ذلك والذي يظهر أن المتشابه فيه كونه يشابه بعضه بعضا في أعلا غاية الجودة ليس فيه تنافر كما في ثمر الدنيا إذ تجد النوع الواحد مختلفا في الجودة والرداءة اختلافا كثيرا ويتباين حتى يساوي بعض النوع إضعاف ما يساوي بعضه ولما كانت مجامع اللذة في المسكن البهي والمشرب الروي والمطعم الشهي والمنكح الوضي ذكرها تعالى فيما بشر به المؤمنين وبدأ بالمسكن لأن به الاستقرار، ثم بالمشرب والمطعم لأن بهما قوام الجسم، ثم بالأزواج لأن لها تمام اللذة والأنس.
فقال: { ولهم فيهآ أزوج مطهرة } والأولى أن تكون جملة مستأنفة كما اخترنا في كلما لأن في جعلها استئنافا اعتناء بالجملة إذ سيقت كلاما تاما لا يحتاج إلى ارتباط صناعي. وأزواج مبتدأ ورفعه يدل على الاستئناف إذ لم يشرك مع جنات في العامل. والمراد بالأزواج القرناء من النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره. ففي الحديث الصحيح ما يدل على كثرة الأزواج للرجل الواحد. وجاء أزواج جمع قلة لأن استعماله هو الكثير وهو المقيس في فعل المعتل العين وقد جمع زوج على زوجة جمع الكثرة لكن استعماله قليل وليس بالقياس. ومطهرة: صفة للأزواج مبنية على طهرت كالواحدة المؤنثة. وقرىء مطهرات على طهرن وبناؤه للمفعول أفخم إذا فهم إن لها مطهرا وليس إلا الله تعالى وتطهيرهن من الأوصاف القبيحة في الخلق والخلق: وقرىء مطهرة وأصله متطهرة فادغم ولما ذكر مجامع اللذة أعقب بما يزيل تنغيص العيش بذكر الخلود. وظاهر اللغة ان الخلود هو البقاء الدائم الذي لا ينقطع.
قال زهير:
فلو كان حمد يخلد الناس لم تمت
ولكن حمد الناس ليس بمخلد.
والحياء تغير في الوجه يعتري من خوف لوم أو ذم، وضده الوقحة.. قيل لما ضرب تعالى المثل بالعنكبوت والذباب وغيرهما وسبق في هذه السورة ضرب المثل بالمستوقد والصيب أنكر بعض الكفار أن يكون الله تعالى يضرب الأمثال بهذه فنزلت:
{ إن الله لا يستحى أن يضرب مثلا } واستحيا موافق للمجرد وهي حي بمعنى استحيا واستحا يستحي لغة تميمية واستحيا لغة حجازية. وأكثر نصوص أئمة النحو أن المحذوف في استحا في لغة تميم عين الكلمة فوزنه استغل. ومعنى لا يستحي: لا يترك، لأن الاستحياء محال حقيقة على الله تعالى والترك من ثمرة الحيا لأن من استحيا من شيء تركه وضرب الشيء مثلا تصييره وقد عد بعض النحاة في باب ظننت ضرب مع المثل وغيره.
قال المعنى وضع وبين.
و " البعوضة ": حيوان معروف. والمشهور نصب بعوضة وقرىء بالرفع فالنصب على أن يكون صفة لما وصفت باسم الجنس وما بدل من مثلا ومثلا مفعول بيضرب أو عطف بيان من مثل أو بدلا منه أو مفعولا بيضرب ومثلا حال من نكرة تقدمت عليها أو مفعولا ثانيا ليضرب أو أول ليضرب ومثلا ثانيا أو منصوبا على إسقاط الجار التقدير ما بين بعوضة فما فوقها. والذي نختاره أن مثلا: مفعول يضرب، وما: صفة لمثلا زادت النكرة شياعا وبعوضة بدل واما الرفع أي رفع بعوضة فخبر مبتدأ على أن ما موصولة بمعنى الذي وهو بدل من مثلا أو على أن يكون ما استفهاما وبعوضة خبر ما أو خبر هو محذوفة، وما: زائدة أو صفة وهو بعوضة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام السابق.
{ فما فوقها } أي في العظم كالذباب والعنكبوت المضروب بهما المثل. وقيل: فما فوقها في الصغر أي يزيد عليها في قلة الحجم ولو أريد هذا المعنى لكان التركيب فما دونها.
{ فأما الذين آمنوا } جاءت الجملة باما لا بقوله: فالذين، لأن ما في حيز اما من الخبر كان واقعا لا محالة ومفيدة أنه مترتب على ما تضمنته اما من الشرط والضمير في أنه عائد على المصدر المفهوم من يضرب أو على المصدر المفهوم من انتفاء الاستحياء أو على المثل وهو الظاهر. لقوله:
{ ماذآ أراد الله بهذا مثلا } وأخبر تعالى عن المؤمنين بالعلم وهو الجزم المطابق بدليل، وعن الكافرين بالنطق اللساني، المتضمن لاستغراب الاستهزاء. وماذا اما استفهام كله ركب ذا مع ما فيكون منصوبا بأراد أي أي شيء أراد الله بهذا أو ما استفهام وهو مبتدأ، وذا موصول بمعنى الذي خبر عن ما والعائد محذوف وجعل ابن عطية هذين القولين مسألة اختلاف بين النحويين وليست كذلك بل كل من شذا شيئا من علم العربية أجاز هذين الوجهين وعلى تجويزهما المعربون والمفسرون وانتصب مثلا على التمييز المؤكد قيل أو الحال من اسم الاشارة أي ممثلا به أو عن الفاعل أي ممثلا وعن الكوفيين نصبه على القطع.
{ يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا } جملتان مستأنفتان جاريتان مجرى البيان والتفسير للجملتين السابقتين وجعل ذلك صفة لمثلا بعيد جدا إذ يكون من كلام الكفار وإسناد الإضلال إلى الله حقيقة. والزمخشري في مثل هذا على مذهب الاعتزال. وتجوز ابن عطية أن يكون يضل به كثيرا من كلام الكفار ويهدي به كثيرا من كلام الله تفكيك للكلام وهو غير ظاهر. وقرىء يضل به كثير ويهدي به كثير وما يضل به إلا الفاسقون مبنيا للمفعول وقرىء مبنيا للفاعل وياء المضارعة مفتوح ورفع الثلاثة وقرىء يضل بضم الياء وما يضل بفتح الياء ورفع الفاسقين.
والضمير في به: عائد على المثل أي يضربه والفاسق الخارج عن طاعة الله تعالى.
{ الذين ينقضون } صفة للفاسقين صفة ذم لازمة أو نصب على الذم أو رفع على هم الذين، وإعرابها مبتدأ، والخبر جملة أولئك.
{ هم الخسرون } استئناف لا تعلق له بما قبله والظاهر تعلقه بما قبله. وكل فاسق ناقص لعهد الله قاطع ما أمره بوصله ثم لما وصفه بهذا أخبر بخسرانه. وعهد الله تعالى هو ما ضمنه تعالى في كتبه المنزلة وعلى ألسنة أنبيائه من أمره بطاعته ونهيه عن معصيته وإقراره بالعباد والميثاق وفعال من الوثاقة والأصل في مفعال أن يكون صفة كمعطار أو آلة كمحراث. وظاهر كلام الزمخشري وابن عطية: أنه اسم بمعنى المصدر أو أنه مصدر.
قال الزمخشري: بمعنى التوثقة كما أن الميعاد بمعنى الوعد ، والميلاد بمعنى الولادة.
وقال ابن عطية: اسم في معنى المصدر كما قال: اكفرا بعد رد الموت عني وبعد عطائك أي إعطائك ولا نعلم مفعالا جاء مصدرا ولا عدوه في أبنيته والضمير في ميثاقه عائد على العهد وقيل على الله.
وقال أبو البقاء: إن أعدته إلى الله كان المصدر مضافا إلى الفاعل، وإن كان أعدته إلى العهد كان مضافا إلى المفعول، وما بمعنى الذي عامة في كل ما أمر الله بوصله. وأمر حذف مفعوله الذي يتعدى إليه بنفسه أي ما أمرهم. وبه: عائد على ما وأن يوصل بدل منه أي بوصله وإعرابه بدلا من ما أو مفعولا من أجله تقديره كراهية أن يوصل أو تقديره لئلا يوصل أو خبر مبتدأ تقديره هو أن يوصل أعاريب ضعيفة وإن كانت منسوبة لمشهورين.
والفساد في الأرض ناشىء عما تقدم من الأوصاف الذميمة وبدا في ترتيب هذه الصلات. أولا بنقض العهد وهو أخص، ثم يقطع ما أمر الله بوصله وهو أعم. من نقض العهد ثم بالافساد في الأرض وهو أعم من القطع، وكلها ثمرات الفسق. وجاء بالفسق في صلة أل مشعرا بالثبوت وهذه الصلات بالمضارع مشعرة بالتجدد ثم أشار إلى من جمع هذه الأوصاف وأخبر عنه بالخسران بفوات المثوبة ولزوم العقوبة.
[2.28-33]
{ كيف } استفهام عن حال وهو استفهام توبيخ وتعجب وإنكار حال وقع فيها الفعل إنكار للفعل نفسه. تقول: كيف تؤذي زيدا وقد أحسن إليك. فالمعنى على إنكار اذايته في هذه الحال.
و { تكفرون } التفات إذ هو خطاب بعد غيبة وناسب الانكار لأن الانكار على المخاطب أبلغ من الانكار على الغائب ولعل الانكار لا يصل إليه.
{ وكنتم } جملة حالية ومجيىء الماضي حالا بالواو دون قد في القرآن وكلام العرب كثير.
وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف صح أن يكون حالا وهو ماض ولا يقال جئت وقام القوم ولكن جئت وقد قام القوم إلا أن تضمر قد؟ قلت: لم تدخل الواو على كنتم أمواتا وحده ولكن على جملة. قوله:
كنتم أمواتا إلى ترجعون، كأنه قيل: كيف تكفرون بالله وقصتكم هذه وحالكم أنك كنتم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم فجعلكم أحياء.
{ ثم يميتكم } بعد هذه الحياة.
{ ثم يحييكم } بعد الموت ثم يحاسبكم. " انتهى ". وهذا الذي قدره حالا من تصديره بجملة اسمية وإضمار أنكم خبرا لمبتدأ تلك الجملة تركيب غير محتاج إليه فقد ذكرنا وقوع الماضي حالا بالواو دون قد وأنه كثير وإنما أحوجه إلى تقدير الحال جملة إسمية اعتقادان جميع الجمل مندرجة في الحال ولذلك قال البعض: القصة ماض وبعضها مستقبل والماضي والمستقبل كلاهما لا يصح أن يكون حالا حتى يكون فعلا حاضرا وقت وجود ما هو حال عنه فما الحاضر الذي وقع حالا.
قلت: هو العلم بالقصة كأنه قيل: كيف تكفرون وأنتم عالمون بهذه القصة وبأولها وآخرها. " انتهى ". ولا يتعين أن تكون جميع الجمل مندرجة في الحال ولا سيما قوله:
{ ثم يحييكم ثم إليه ترجعون } فإنهم منكرون. البعث، والحساب وهو عندهم في حيز المستحيل عقلا أو عادة والتصريح بذلك موجود عندهم في غير آية من القرآن بل الحال قوله:
{ وكنتم أموتا فأحيكم } ويكون المعنى: كيف تكفرون بالله وقد خلقكم. فعبر عن الخلق بذلك كقوله عليه السلام:
" ان تجعل لله ندا وقد خلقك "
أي أن من أوجدك بعد العدم الصرف حر أن لا تكفر به ولما كان مركوزا في الطباع وفي العقول ان لا خالق إلا الله كانت حاله تقتضي أن لا يجامع الكفر فلا يحتاج إلى تكلف ان الحال هو العلم بهذه الجملة وعلى هذا الذي شرحناه يكون قوله تعالى:
{ ثم يميتكم } إلى آخره جملا أخبر الله تعالى بها مستأنفة لا داخلة تحت الحال ولذلك غاير فيها بحرف العطف وبصيغة الفعل ما قبلها من الحرف والصيغة والتعبير عن العدم الصرف بالموت مجاز وللمفسرين هنا والمنسوبين إلى علم الحقائق أقوال اخترنا منها هذا القول وهو اختيار ابن عطية.
واختار الزمخشري أن الموت الأول كونهم نطفا في أصلاب آبائهم ثم إليه أي إلى جزائه. وقرىء ترجعون مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول لازما ومتعديا. ولما ذكر تعالى هذه الأطوار التي جعلها لهم ذكر امتنانه عليهم.
فقال: { هو الذي خلق لكم } أي لأجلكم.
{ ما في الأرض جميعا } عام فمنه للاعتبار ومنه للإنتفاع الدنيوي. ثم ذكر تعالى عظيم قدرته في العالم العلوي وأنه والعالم السفلي بالنسبة إلى قدرته على السواء وإن علمه محيط بكل شيء. وثم تقتضي التراخي في الزمان ولا زمان ولما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال من جعل الرواسي والسمك وتقدير الأقوات عطف بثم إذ بين خلق الأرض وما فيها وبين الاستواء تراخ وإن لم يقع ذلك في زمان.
والاستواء مجاز عن تعلق قدرته بما يفعل بالسماء وضمن معنى عمد فلذلك عدي بإلى والسماء جمع سماوة أو اسم جنس والتسوية جعلهن سواء بالنسبة إلى سطوحها واملاسها.
والضمير في " سواهن " عائد على السماء وانتصب سبع سموات على الحال أو على البدل من الضمير وقال الزمخشري: والضمير في سواهن ضمير مبهم وسبع سموات تفسيره كقولهم ربه رجلا. " انتهى ".
مفهوم كلامه أن هذا الضمير يعود على ما بعده وهو مفسر به فهو عائد على غير متقدم الذكر والمواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده ليس هذا منها وكونه يعود على ما بعده يكون الكلام مفلتا مما قبله ويصير أخبارا بجملتين إحداهما أنه استوى إلى السماء والأخرى سوى سبع سموات. وتقدم الربط بين الجملتين والظاهر أن الذي استوى إليه هو المسوى سبع سموات وجعل سوي بمعنى صير فينتصب سبع على أنه مفعول ثان غير معروف في اللغة وإعراب سبع على أنه مفعول سوي والتقدير فسوى منها غير مستقيم لا لفظا ولا معنى وناسب مقطع هذه " الآية " بالوصف بمبالغة العلم لما تقدم من الأفعال التي فعلها الله تعالى في العالم السفلي والعالم العلوي ثم ذكر تعالى فبدأ عالم الانسان وحاله.
{ وإذ قال ربك للملئكة } والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والناصب لإذ قالوا أتجعل أي وقت قول الله للملائكة:
{ إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها } كما تقول إذ جئتني أكرمتك أي وقت مجيئك أكرمتك وللمفسرين والمعربين في العامل في إذ ثمانية أقوال تنزه القرآن عنها والملك ميمه أصلية وجمعه على ملائكة أو ملائك شاذ واشتقاقه من الملك وهو القوة وكأنهم توهموا أنه فعال. وقيل: الميم زائدة من لاك إذا أرسل قالوا ملاك فخفف بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام وقيل من الالوكة وهي الرسالة فاصلة مالك ثم قلب فصار ملاك ثم نقل وحذفت الهمزة فوزنه فعل وقيل من لاك الشيء إدارة في فيه وهو مفعل كمعاد ثم قذفت العين فوزنه مفك وهمزها في ملائكة شاذ كهمز مصائب والتاء في الملائكة لتأنيث الجمع وإسناد القول إلى ربك في غاية من المناسبة وفيه خروج من الخطاب العام في قوله: { هو الذي خلق لكم ما في الأرض } إلى الخطاب الخاص في قوله:
{ ربك } وفي الخطاب هو لاستماع ما يذكر بعده من غريب افتتاح هذا العالم الإنساني وشيء من أحواله ومآله وإشارة إلى الخطاب الأعظم من الجملة المخبر بها إذ هو عليه السلام أعظم خلفائه والخليفة فعيلة بمعنى الفاعل والهاء للمبالغة وقيل بمعنى المفعول كالنطيحة والهاء للمبالغة واللام في الملائكة للتبليغ.
والجعل الظاهر أنه الخلق وقيل التصيير ويقال سفك وسفك مضعفا وأسفك ومضارع سفك يسفك ويسفك بكسر الفاء وضمها والسفك الصب.
والدماء جمع دم محذوف اللام ووزنه فعيل وقيل فعل وقصره وتضعيفه مسموع. والتقديس التطهير والتسبيح التنزيه والبراءة من السوء.
وقرىء خليقة بالقاف والظاهر عموم الملائكة وقيل الذين كانوا يسكنون الأرض وعموم الأرض وقيل أرض مكة وذكروا في قول الله للملائكة ما قال امورا لا تقطع بصحتها ولله سبحانه وتعالى أن يخاطب من شاء بما شاء وإن خفيت الحكمة.
ولما كانت الملائكة لا تعلم الغيب ولا تسبق بالقول لم يكن قولهم أتجعل فيها " الآية " إلا عن نبأ سابق ومقدمة لم تذكر في القرآن فنعلمها قيل وهو استفهام على معنى التعجب من استخلاف الله من يعصيه وقيل على طريق الاكبار للاستخلاف والعصيان ولما كان قول الملائكة مع عصمتهم ظاهرة الاعتراض تأول العلماء جوابهم على وجوه أحسنها عندي أنهم كانوا حين القول لهم فجملين وإبليس مندرج في جملتهم فورد منهم الجواب مجملا فلما انفصل إبليس عن جملتهم بآبائه واستكباره انفصل الجواب إلى نوعين فنوع الاعتراض كان عن إبليس وأنواع التقديس والتسبيح كان عن الملائكة فانقسم الجواب إلى قسمين كانقسام الجنس إلى نوعين وناسب كل جواب من ظهر عنه وقرىء ويسفك بضم الياء ويسفك بشد الفاء وقرىء ويسفك بنصب الكاف على جواب الاستفهام.
وقال ابن عطية: النصب بواو الصرف. " انتهى ". وليس ذلك من مذاهب البصريين ولما كانت صلة من يفسد وهو مضارع مثبت فلا يدل على التعميم في الفساد نصوا على أعظم الفساد وهو سفك الدماء إذ هو إفساد للهياكل الجسمانية التي خلقها الله وتكرر فيها تنبيها على أن ما كان محلا للعبادة لا يكون محلا للفساد والباء في { بحمدك } للحال أي ملتبسين بحمدك.
{ ونقدس لك } قيل: أي نطهر أنفسنا لك من الادناس. وقيل: اللام زائدة. وقيل: مقوية للفعل. وأعلم مضارع وما موصولة وكون ما نكرة موصوفة وكون أعلم أفعل التفضيل أي أعلم منكم وما منصوب بفعل محذوف أو اعلم بمعنى عالم وما مجرور بالاضافة أو منصوب باعلم وهو لا يتصرف أقوال لا يناسب أن
{ ما لا تعلمون } إبهام تعرض المفسرون لتعيينه بأقوال مضطربة والأحسن أن يفسر بما أخبر به تعالى في قوله تعالى:
{ ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموت والأرض } " الآية ".
{ وعلم ءادم الأسمآء كلها } قيل هنا جملة محذوفة يتم بها المعنى ويصحح لعطف وتقديرها فجعل في الأرض خليفة وسماه آدم ولما كان محذوفا مع الجملة أبرزه في قوله:
{ وعلم ءادم } ، ونص عليه منوعا باسمه ومبينا من فضله ما لم يكن معلوما عند الملائكة. وعلم منقول من علم التي تتعدى إلى واحد بالتضعيف فتعدت إلى اثنين والمنقولة بالهمزة من علم التي تتعدى إلى اثنين فتعدت إلى ثلاثة فرقوا بينهما قال الأستاذ أبو علي: وآدم فاعل ان كنا نزن الأعجمية كآزر وعابر منع الصرف للعلمية والعجمة ودعوى الاشتقاق في ألفاظ العجم من ألفاظ العرب غير صواب والظاهر أن الله تعالى علمه لا بواسطة ملك ولا إلهام. وقرىء وعلم مبنيا للمفعول والتأكيد بكلها يدل على العموم في الأسماء ولا يدل على التعليم بجميع اللغات ولا على عرض المسميات عليه وقدروا أسماء المسميات فحذفت المسميات.
(قال) الزمخشري: وعوض منه اللام كقوله: واشتعل الرأس شيبا. " انتهى ". وتقدم أن اللام عوض من الاضافة ليس مذهب البصريين وعلى تقدير ذلك لا يصح هنا لأن اللام عند من جعلها عوضا انما يكون المعوض عنه المضاف إليه ضمير وهنا لم يقدروه إلا إسما ظاهرا فلا يجوز لا على رأس بصري ولا كوفي وقدروا أيضا مسميات الأسماء ولا يظهر لقوله تعالى:
{ فقال أنبئوني بأسمآء هؤلاء }.
{ ثم عرضهم } الضمير عائد على غير مصرح بذكره بل دل عليه ما قبله إذ معلوم أن الأسماء لها مسميات ودلت ثم على تراخ بين التعليم والعرض ليتقرر التعليم في قلبه ويتحقق ثم يستخبره عما تحقق، كما قال تعالى:
لا تحرك به لسانك لتعجل به
[القيامة: 16]. فقال أنبئوني أعقب العرض بهذا القول للملائكة ولما لم يتقدمهم تعليم لم يخبروا ولما تقدم. لآدم أخبر أظهارا لعنايته السابقة له منه تعالى وهم في عرضهم تدل على العقلاء أو يكون فيهم غير العقلاء فغلب العقلاء وقرىء فعرضها وفعرضهن والجيد أن يكون ضمير المسميات فتتفق القراءات وظاهر
{ على الملئكة } العموم وقيل: الملائكة الذين كانوا في الأرض مع إبليس بأسماء هؤلاء يدل على حضور أشخاص حالة العرض على الملائكة
و { أنبئوني } أمر تعجيز لا تكليف وقرىء أنبؤني بضم الباء بلا همز.
{ إن كنتم صدقين } أي مصيبين. عبر عن الاصابة بالصدق كما يعبر عن الخطأ بالكذب، ومتعلق الاصابة كونهم قالوا: أتجعل " الآية ". وفيها ظهور شفوق على من جعله خليفة فأراهم مما أودع في خليفته شيئا لم يودعه فيهم وهو العلم وجواب الشرط محذوف تقديره فأنبؤني دل عليه انبؤني وهذا مذهب جمهور البصريين ووهم المهدوي وتبعه ابن عطية فنسبا إلى المبرد أن جواب الشرط محذوف كما قلنا والنقل المحقق عن المبرد ان جواب الشرط في مثل هذا هو انبؤني السابق.
وكذلك وهم ابن عطية وغيره فزعما أن مذهب سيبويه جواز تقديم الجواب على الشرط وان قوله: انبؤني المتقدم هو، الجواب وعن القراء في نحو هؤلاء ان مما التقت فيه الهمزتان مكسورتين تحقيقهما وتليين الأولى وتحقيق الثانية وتحقيق الأولى وإبدال الثانية ياء وإسقاط الأولى وتحقيق الثانية وانتصب.
{ سبحنك } على معنى المصدر والعامل فيه واجب الحذف وكونه مبنيا ومنادى مضافا قولان مرغوب عنهما، والكاف في سبحانك مفعول أضيف إليه سبحانك أي تنزيهك وقيل فاعل أي تنزهت، وقدموا بين يدي الجواب تنزيه الله تعالى اعتذارا وأدبا منهم في الجواب وإشعارا بأن ما صدر منهم قبل يمحوه هذا التنزيه لله تعالى، ثم أجابوا بنفي العلم بلفظ لا والنكرة التي تستغرق كل فرد فرد من أنواع العلوم ثم استثنوا من ذلك مما علمهم هو تعالى وهذا غاية في ترك الدعوى والاستسلام التام للمعلم الأول الله تعالى وانظر إلى حسن هذا الجواب قدموا بين يديه تنزيه الله سبحانه وتعالى ثم اعترفوا بالجهل ثم نسبوا العلم لله تعالى واردفوا صفة العلم بصفة الحكمة إذ بان لهم وصف الحكمة في قوله:
{ إني جاعل في الأرض خليفة } وقدم وصف العلم لأن الذي ظهرت به المزية لآدم هو العلم ولأن الحكمة من آثار العلم.
{ قال يآءادم } ناداه باسمه العلم وكذا نادى أنبياءه يا نوح يا موسى يا داود ونادى محمدا صلى الله عليه وسلم يا أيها الرسول يا أيها النبي فانظر تفاوت ما بين النداءين، وحين خاطب الملائكة قال: أنبؤني، وقال: يا آدم أنبئهم، فجعل من اعترضوا به معلما لهم ومنبئهم بما تقاصرت عنه علومهم ليظهر بذلك شفوقه عليهم.
{ فلمآ أنبأهم بأسمآئهم } بين هذه الجملة والتي قبلها جملة محذوفة والتقدير فأنباهم وقرىء أنبئهم بالهمزة وضم الهاء وبالهمز وكسر الهاء. وأنبهم بإسقاط الهمزة.
وغيب السماوات والأرض هو ما تقاصرت عنه علوم الخلق والهمزة من " الم " للقرير.
{ وأعلم ما تبدون } أي من الطاعات. واعلم مضارع، وما: مفعول فالخلاف فيه كالخلاف في واعلم ما لا تعلمون.
{ وما كنتم تكتمون } من شفوفهم على من يجعله خليفة وفي قوله: وما كنتم تكتمون، دلالة على أن الكتم وقع فيما مضى، وليس المعنى كتمه عن الله لأنهم أعرف بالله واعلم، فلا يكتمون الله شيئا، وإنما المعنى أنهم هجس في أنفسهم شيء كتمه بعضهم عن بعض والابداء والكتم طباق من علم البديع.
[2.34-36]
{ وإذ قلنا } قيل إذ زائدة أو معطوفة على إذ في وإذ قال وقيل: منصوبة باذكر وقيل بأبي واختار أن العامل محذوف تقديره انقادوا فسجدوا لأن السجود كان ناشئا عن الانقياد وفي قلنا خروج عن ضمير المتكلم المفرد إلى ضمير الجمع أو المعظم نفسه وناسبت النون الآمر لأنه في غاية التعظيم والتعظيم ادعى لامتثال الأمر من غير بطىء ولا تأول ولذلك نظائر.
وقلنا يا آدم اسكن وقلنا يا نوح اهبط، قلنا يا نار كوني، وقلنا لبني إسرائيل اسكنوا، وقلنا لهم ادخلوا، والخلاف في الملائكة أهو عام أم الذين في الأرض كهو في وإذ قال ربك للملائكة.
وقرىء { للملئكة اسجدوا } بضم التاء وغلطت هذه القراءة وخطئت ونقل انها لغة لا زد شنوءة، وهذا الضم اتباع لضمة جيم اسجدوا، واسجدوا أمر بالسجود أمر تكليف وفهموا منه أنه على الفور وظاهر السجود وضع الجبهة وانه كان " لآدم " تكرمة له وقيل لله تعالى ونصبه قبله فالمعنى إلى آدم واللام في لآدم للتبيين.
{ فسجدوا }. أي له.
{ إلا إبليس } استثناء من واجب فيرجح النصب وهو متصل عند الجمهور وامتنع إبليس من الصرف للعلمية والعجمة ومن جعله مشتقا. قال: وشبه العجمة لكونه لم يسم به أحد من العرب فصار خاصا بمن أطلقه الله تعالى عليه وكأنه دخيل في لسانهم وهو علم مرتجل والظاهر أنه مندرج في الملائكة فهو منهم ولذلك ترتب الذم له والطرد. وقيل: هو استثناء منقطع وأنه أبو الجن كما أن آدم أبو البشر.
{ أبى } امتنع وأنف من السجود.
{ واستكبر } تعاظم في نفسه واحتقر من أمر بالسجود له والاستكبار من أفعال القلوب وقدم الآباء عليه وإن كان أول لأن الآباء هو الظاهر وهو ناشىء عن الاستكبار ولما كان الاستناد إلا على أن إبليس ترك السجود ذكر سبب امتناعه من السجود فكأنه قيل : وما له لم لم يسجد؟ فقيل: أبى. ومفعوله محذوف أي أبى السجود وأبى فعل واجب. ومعناه النفي، وأبى كذا، أبلغ من لم يفعل كذا، لأن النفي بلم قد يكون لعجز أو غيره وأبى يدل على الامتناع والانفة وإن كان متمكنا من فعل الشيء.
{ وكان من الكفرين } أي كان في علم الله ممن سيكفر أو وصار من الكافرين ولا تدل صلة أل على أنه سبقه كفار في الأرض. ولما شرف تعالى آدم برتبة العلم وإسجاد الملائكة امتن عليه بإسكان الجنة التي هي دار النعيم وأسكن من السكون.
{ وقلنا } معطوف على وإذ قلنا لا على ما بعد إذ. وفائدة النداء تنبيه المأمور لما يلقى إليه من الأمر واسكن وما بعده مشتمل على إباحة وهو الأمر بالسكنى والاذن في الأكل وتكليف وهو النهي الوارد ويدل وزوجك على وجودها زوجة له.
قيل: الأمر بالسكنى واللغة الفصيحة زوج وقالوا: زوجة وزوجك معطوف على الضمير المتصل المستكن في أسكن المؤكد بانت ودعوى أنه من عطف الجمل والتقدير وليسكن زوجك ليست بصحيحة.
والجنة: دار الثواب. وقيل: كانت في الأرض.
{ وكلا منها رغدا } أي واسعا كثيرا لا عناء فيه وتميم تسكن غين رغدا وقرىء به.
و { حيث } ظرف مكان أذن لهما في الأكل في أي ناحية منها أرادا.
وقول ابن عطية: ان النون حذفت من كلا للأمر لا يجوز إلا على مذهب الكوفيين، إذ يعتقدون أنه مجزوم بلام الأمر إذ أصله عندهم لتأكلا.
{ ولا تقربا } مبالغة في النهي عن الأكل لأن النهي عن قربان الشيء أكد من النهي عن الشيء وان كان المعنى لا تقربا.
{ هذه الشجرة } بالأكل لأن المأذون فيه هو الأكل وقرىء ولا تقربا - بكسر التاء -.
وهذه: إشارة للحاضر القريب من المخاطب وقرىء هذه والشجرة نعت أو عطف بيان ويظهر أنها شجرة معينة من الجنس المعلوم وقيل الاشارة إلى جنس من الشجر معلوم ولهم في تعيين أي شجرة هي أقوال: وقرىء الشجرة - بكسر الشين، وبإبدال الجيم ياء وكسر الشين - وتصغر على هذه اللغة شييرة.
{ فتكونا } منصوب على جواب النهي وأجازوا أن يكون مجزوما عطفا على المجزوم ولا يدل العطف على السببية بخلاف النصب.
{ من الظلمين } لأنفسهما بمخالفة النهي ودل ذلك على أن النهي نهي تحريم.
{ فأزلهما } أزل من الزلل، وهو عثور القدم. يقال منه: زلت قدمه وأزال من الزوال وهو التنحية. وقرىء فازالهما.
و { الشيطان } هنا إبليس بلا خلاف وذكروا في كيفية محادثة إبليس وأين كان منه اضطرابا. وقد قص الله تعالى ذلك مستوفى في سورة الأعراف وغيرها فيعتمد ذلك.
والضمير في عنها عائد على الجنة قيل أو الشجرة أي أصدر زلتهما عن الشجرة: وعن: للتسبيب، كقوله:
إلا عن موعدة
[التوبة: 114]، والأول أظهر لقراءة فازالهما إذ يبعد فأزالهما عن الشجرة.
{ مما كانا فيه } من نعيم الجنة إلى شقاء الدنيا - والهبوط الخروج والدخول من الأضداد والمضارع يهبط - بكسر الباء وضمها - وقرىء: اهبطوا - بضم الباء وقيل: قوله:
{ فأزلهما } جملة محذوفة، أي فأكلا من الشجرة ولما كان الأمر بالهبوط من الجنة فيه إنحطاط المنزلة لم يناده بخلاف ويا آدم اسكن واهبطوا أمر لجماعة آدم وحواء. قيل: وإبليس. وقيل: هما والحية أو هما فقط. لأن التثنية جمع في المعنى. ولقوله:
قال اهبطا
[طه: 123]. وقيل: هما وذريتهما، واندرجوا في الخطاب وإن لم يكونوا موجودين تغليبا للموجود والظاهر أنه هبوط واحد إلى الأرض لا هبوط إلى سماء الدنيا ثم هبوط إلى الأرض. وقالوا: هبطت حواء بجدة، وآدم عليه السلام بسرنديب بواد يقال له واشم، والحية بسجستان.
وهي أكثر بلاد الله حيات.
و { اهبطوا } أمر تكليف وإزعاج. والعداوة تفسر تفسير الضمير في اهبطوا. والجملة حال أي متعادين وليس خلوها من الواو شاذا خلافا للفراء وتبعه الزمخشري وليست حالا منتقلة بل لازمة إذ لا ينفك وقوع الفعل إلا ملتبسا بها. وقال مكي: جملة مستأنفة إخبار من الله تعالى بأن بعضهم لبعض عدو وتخيل أن الحال بعد الأمر يقتضي أن يكون مأمورا بها ومستقر مكان استقرار أو استقرار وهو من القرار وهو اللبث والاقامة.
{ ولكم } هو الخبر. و { في الأرض } متعلق بما تعلق به الخبر وتقديمه مسوغ الجوز الابتداء بالنكرة ولا يتعلق لكم بمستقر سواء أكان مكانا أو مصدرا ولا يجوز أن يكون في الأرض حالا والعامل فيه العامل في الخبر ولا أن يكون خبرا ولكم حال لامتناع: في الدار قائما زيد على الصحيح، وامتناع قائما في الدار زيد بإجماع.
و { إلى حين } أي إلى أجل أو إلى قيام الساعة وفيه دليل على عدم البقاء في الأرض ويتعلق بمتاع بمحذوف صفة لمتاع أوله ولمستقر وأفرد عدو على لفظ بعض أو لكونه يصلح للجمع.
[2.37-39]
{ فتلقى } تفعل من اللقاء وافق تفعل في المعنى المجرد وهو لقي، نحو: تعداك الأمر عداك. وقول من قال: أصله تلقن فأبدل من النون ألفا لا يصح. وقرىء برفع آدم ونصب كلمات وبالعكس والتلقي الوصول ومن يلقاك فقد تلقيته. واختلفوا في تعيين الكلمات وقد أبهمها الله تعالى وقال سبحانه في سورة الأعراف:
قالا ربنا ظلمنآ أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين
[الآية: 23]. فلا يبعد أن تكون هذه الكلمات.
{ فتاب عليه } قبلها جمله محذوفة أي فقالها فتاب عليه أي فتفضل عليه بقبول توبته وأخبر عنه وحده لأنه هو المواجه بالأول والنهي وهي تابعة له أو طوى ذكرها كما طوى ذكرها في قوله وعصى آدم ربه فغوى وطي ذكر النساء في القرآن والسنة كثير.
وقرىء أنه بفتح الهمزة على التعليل وفي المكسورة أيضا ربط معنوي كقوله:
ومآ أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء
[يوسف: 53]. وبالغ بقوله: هو وبالصفتين اللتين للمبالغة وتأخر الرحيم لأجل الفاصلة.
{ قلنا اهبطوا } تأكيد للأول أو لاختلاف ما جاء بعدهما فالأول معلق بالعداوة، والثاني بآيتان الهدى أو هما هبوطان كما تقدم.
" وجميعا " حال.
فقال ابن عطية: كأنه قال هبوطا جميعا أو هابطين جميعا جعله نعتا لمصدر محذوف أو لاسم فاعل محذوف كل منهما يدل عليه الفعل. قال: لأن جميعا ليس بمصدر ولا اسم فاعل وهذا التقدير مناف للحكم الذي صدره لأنه قال: أولا وجميعا حال من الضمير في اهبطوا فإذا كان حالا على ما قرر أولا فكيف يقدر ثانيا ذلك التقدير.
{ فإما يأتينكم } كثر مجيىء مثل هذا التركيب في القرآن فاما نذهبن واما ينزغنك.
وقال المهدوي وتبعه ابن عطية: اما هي إن التي للشرط زيدت عليها ما للتوكيد في الفعل ولو سقطت يعني ما لم تدخل النون فما تؤكد أول الكلام والنون تؤكد آخره. وقال ابن عطية: دخلت ما مؤكدة ليصح دخول النون المشددة فهي تشابه لام القسم التي تجيء لمجيء النون. " انتهى ".
وكون النون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت أن بما قول للمبرد والزجاج واما سيبويه والفارسي وجماعة فجوزوا حذف النون في الكلام إذا وصلت ان بما وان كان الحسن إثباتها ولم يخصوا ذلك بضرورة الشعر كما ذهب إليه المبرد والزجاج.
و { مني } متعلق بيأتينكم وانتقل من ضمير المعظم نفسه أو ضمير أكثر من الواحد إلى ضمير المتكلم الخاص به إشعارا بأن الهدى لا يكون إلا منه تعالى وأن الحيز كله منه ودخلت ان وإن كانت للمحتمل وقوعه وهداه واقع لا محالة لأنه ابهم وقت الاتيان، وهذا الخطاب يدل على اندراج الذرية فيه وإن كانوا وقت خطاب أصلهم غير موجودين والتقسيم إلى متبع الهدى والكافر يدل عليه والهدى هو الكتب الالهية على أيدي الرسل عليهم السلام فمن تبع هداي جعل الهدى بمنزلة الامام المتبع المقتدي به وفي إضافته إليه تعالى من التعظيم ما لا يكون فيه لو أتى معرفا باللام وإن كان ذلك سبيل ما يكون نكرة ثم يعاد وجواب فاما يأتينكم فمن تبع هداي.
وقال السجاوندي: جوابه محذوف تقديره فاتبعوه. " انتهى ".
وذهل عن أنه لا يحذف الجواب ألا ويكون فعل الشرط ماضي اللفظ أو منفيا بلم وعن الكسائي جواب الشرطين معا فلا خوف، ونصوص المعربين والمفسرين على أن من في. " فمن تبع " شرطية ويجوز عندي أن تكون موصولة بل يترجح لقوله في قسمه.
{ والذين كفروا وكذبوا } فأتى به موصولا ودخول الفاء على الجملة الخبرية جائز هنا قرىء هداي بسكون الياء وهدي وهي لغة هذلية. وقرىء فلا خوف بالفتح في جميع القرآن وبالرفع من غير تنوين خوف لكثرة الاستعمال أو على نية أل وبالرفع والتنوين عادل بين دخولها على مبتدأ أولا وآخرا.
(وقال) ابن عطية: والرفع على أعمالها أعمال ليس ولا يتعين ما قاله لأن أعمالها ليس قليل جدا وينبغي أن لا ينقاس ولأنه يزول التعادل فلا خوف عليهم نزل المعنى منزلة الجرم وقدم انتفاء الخوف على انتفاء الحزن لأن انتفاء الخوف فيما هو آت آكد من انتفاء الحزن على ما فات ولذلك أبرزت جملة مصدرة بالنكرة التي هي أوغل في باب النفي وأبرزت الثانية مصدرة بالمعرفة. وفي قوله:
{ ولا هم يحزنون } ، إشارة إلى اختصاصهم بانتفاء الحزن وإن غيرهم يحزن والظاهر عموم نفي الخوف والحزن عندهم لكن يختص ذلك بما بعد الدنيا لأنه قد يلحق المؤمن الخوف والحزن في الدنيا فلا يمكن الحمل على العموم.
{ والذين كفروا } قسيم لقوله: { فمن تبع هداي } ، وهو أبلغ من قوله: " ومن لم يتبع هداي " ، وإن كان التقسيم اللفظي يقتضيه لأن نفي الشيء يكون بوجوه عدم القابلية بخلقه أو غفلة أو تعمد تركه فأبرز القسم في صورة ثبوتية مزيلة للاحتمال الذي يقتضيه النفي. { وكذبوا بآيتنآ } معين أنه يراد بالكفر هنا الشرك لا كفر النعمة ولا كفر المعصية والتكذيب بالآيات يدل على أنه بالكتب الالهية والاخبار الربانية لأن محل التصديق والتكذيب هو الخبر. { أولئك } مبتدأ وجوز أن يكون عطف بيان وبدلا. فيكون { أصحب } خبرا والذين. و { هم فيها } خبر ثان لأولئك وتفسير وتبيين أن الصحبة أريد بها الملازمة لا مجرد الاقتران بل الخلود الدائم وحذف من القسيم الأول ذكر كونه في الجنة وعبر بانتفاء الخوف والحزن وحذف من الثاني لحاق الخوف والحزن وعبر بخلوده في النار.
[2.40-41]
" إسرائيل " اسم أعجمي ممنوع من الصرف وهو مركب، قيل: من اسرا: وهو العبد، وآيل: اسم الله تعالى. وعن من قال باشتقاقه أقوال وفي كيفية النطق به لغات إسرائيل واسراييل واسراءل واسرأل وتقول في جمعه اساريل وحكي اسارل وأسار له وأقبل عليهم بالنداء هزالهم لسماع ما يلقى إليهم وهم اليهود والنصارى وهذا أول افتتاح الكلام معهم. والذكر باللسان وبضم الذال ما كان بالقلب وإضافتهم إلى إسرائيل وهو يعقوب على نبينا وعليه السلام تنبيه لهم على اتباعه في الخير. والنعمة: اسم للشيء المنعم به فالنداء والأمر لبني إسرائيل الذين هم بحضرته عليه السلام بالمدينة وما والاها ويتنزل غيرهم في ذلك منزلتهم والوصف بالتي { أنعمت عليكم } مشعر بسبق علمهم، إياها وتعظيم لها إذ اسندها إلى ذاته في قوله: نعمتي وأنعمت ونعمه تعالى عليهم كثيرة وأعظمها الكتاب الالهي من التوراة والانجيل المبشرة بنوبة محمد صلى الله عليه وسلم.
{ وأوفوا بعهدي } يقال أوفى ووفى ووفى والعهد هو ما كانوا يذكرون من إيمانهم بالرسول المبعوث في زمانهم إذ كانوا يستفتحون به كما أخبر تعالى فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به.
{ أوف بعهدكم } وهو ترتيب إنجاز ما وعدهم على ذلك، الإيفاء سماه عهدا على سبيل المقابلة أبرزه في صورة المشروط الملتزم به والمصدران مضافان للمفعول. وقرىء أوف من وفي مشددا وانجزم أوف على جواب الأمر وهل ضمن الأمر معنى الشرط فانجزم أو نابت عن الشرط إن حذفت جملته قولان. والرهب الخوف وانتصب إياي بفعل محذوف تقديره وإياي ارهبوا وقدره السجاوندي قبله قال وارهبوا إياي وهو وهم منه لانفصال الضمير وناسب النصب لأن قبله أمر ولأنه آكد إذا برز في قالب جملتين.
قال الزمخشري: وهو أوكد في إفادة الاختصاص من إياك نعبد. وتقدم كلامنا معه في دعوى الاختصاص إذا تقدم المعمول على العامل والفاء في فارهبون دخلت في جواب أمر مقدر التقدير تنبهوا فارهبون. وقرىء فارهبوني بإثبات الياء وهو الأصل.
وآمنوا أمر لبني إسرائيل إذ هم المأمورون قيل ولا يخص كعب بن الأشرف وأصحابه علماء اليهود.
{ بمآ أنزلت } وهو القرآن.
{ مصدقا لما معكم } أي من التوراة واللام في لما مقوية للتعدية ومصدقا حال مؤكدة وذو الحال الضمير المحذوف العائد وقيل ما.
{ ولا تكونوا أول كافر به }: لا مفهوم هنا لقوله أول فيكون قد أبيح لهم ثانيا وآخرا فمفهوم الصفة غير مراد وإنما ذكرت الأولية لأنها أفحش لما فيها من الابتداء بالكفر ونظيره قول الشاعر:
من أناس ليس في أخلاقهم عاجل الفحش ولا سوء جزع
فعاجل لا مفهوم له وأضيف أول إلى المفرد وإن كان قبله جمع لأن المفرد إذ كان صفة جاز أن يطابق وأن يفرد وقد جاء ذلك في قوله:
وإذ طعموهم فالأم طاعم وإذا هم جاعوا فشر جياع.
أفرد في طاعم وطابق في جياع وتأوله النحاة فقدره الفراء الأم من طعم وقدره غيره إلام فريق طاعم وهنا يتقدر على قول الفراء أول من كفر. وعلى قول غيره: أول حزب كافر وبه عائد على المنزل.
{ ولا تشتروا بآيتي ثمنا قليلا } الشراء هنا مجاز يراد به الاستبدال ولذلك دخلت الباء على الآيات وإن كان القياس أن تدخل على الثمن والمعنى بتغيير آياتي ووضعكم مكانها غيرها كما قال تعالى:
فويل للذين يكتبون الكتاب
[البقرة: 79] الآية وآياته ما أنزل الله تعالى من الكتب الإلهية المحتوية على التكاليف والمعنى. والله أعلم. ولا تستبدلوا بآياتي العظيمة أشياء حقيرة خسيسة ولا مفهوم لقوله قليلا بل في ذلك التنبيه على خساسة أنفسهم إذ تبدلون الشيء العظيم في تحصيل الشيء الحقير من مطعم أو مشرب أو غير ذلك أو لأن ما حصل عن آيات الله كائنا ما كان هو قليل حقير.
{ وإيي فاتقون } الكلام على هذا إعرابا فالكلام على وإياي فارهبون والفرق بين الفاصلتين أن ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعهد ظاهره أنه من المعاصي التي تجوز العقاب إذ يجوز أن يقع العفو عن ذلك وترك الإيمان بما أنزل الله تعالى والاشتراء بآيات الله الثمن اليسير من المعاصي التي تحتم العقاب وتعينه إذ لا يجوز أن يقع العفو عن ذلك فلذلك ختم تلك بالرهبة وهي الخوف وهذه باتخاذ الوقاية من النار.
[2.42-43]
{ ولا تلبسوا الحق بالبطل } أي لا تخلطوا الصدق بالكذب وكذبهم أنواع قد قص الله تعالى منها. والباء في الباطل للإلصاق نحو خلطت الماء باللبن نهوا عن ذلك فلا يتميز الحق من الباطل. وأجاز الزمخشري أن تكون الباء للاستعانة كهي في كتبت بالقلم. قال: كأن المعنى ولا تجعلوا الحق ملتبسا بباطلكم. " انتهى " وفيه بعد عن هذا التركيب وصرف عن الظاهر بغير ضرورة تدعو إلى ذلك.
{ وتكتموا الحق } مجزوم عطفا على تلبسوا نهى عن كل واحد من الفعلين كما في قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، نهى عن كل منهما وجوزوا فيه أن يكون منصوبا وليس بجيد لأن النهي إذ ذاك يكون منسحبا على الجمع بين الفعلين كما في: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، إذا نصبت وتشرب ويكون بالمفهوم يدل على جواز الالتباس بواحد منهما وذلك منهي عنه، ولذلك رجح الجزم. وقرىء وتكتمون ويخرج على الحال ولا يكون ذلك على إضمار مبتدأ أي وأنتم تكتمون ويكون إذ ذاك حالا لازمة لأنه لا يقع لبس الحق بالباطل إلا ويكون الحق مكتوما. وقدره الزمخشري كلمتين وهو تقدير معنى لا تقدير إعراب ويجوز أن تكون جملة خبرية نعى الله تعالى عليهم كتمهم الحق وعطفت على جملة النهي ولم يراع التناسب في عطف الجمل وهو مذهب سيبويه ولوحظ المعنى لأنهم لم ينهوا إلا عن شيء فعلوه فتضمن معنى أنتم تلبسون الحق بالباطل والحق المكتوم هو أمر محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وما جاء به وهو مذكور في كتبهم كانوا يعلمون ذلك ويظهرون خلافه ومعمول. تعلمون الأولى أن يكون حذف اقتصارا أي وأنتم من ذوي العلم فلا يناسب من كان عالما أن يكتم الحق ويلبسه بالباطل وقدروا حذفه اختصارا أي الحق من الباطل. قال الزمخشري: وأنتم تعلمون في حال عملكم أنكم لابسون كاتمون قال وهو أقبح لأن الجهل بالقبيح ربما عذر راكبه إنتهى. جعل مفعول العلم اللبس والكتم وكأن ما قدره على حذف مضاف أي وأنتم تعلمون قبح أو تحريم اللبس والكتم. وقال ابن عطية: حملة في موضوع الحال ولم يشهد تعالى لهم بعلم وإنما نهاهم عن كتمان ما علموا. " انتهى ". فمفعول تعلمون هو الحق. وقال أيضا: ويحتمل أن تكون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق. قال: ولا تكون الجملة على هذا في موضع الحال. " انتهى ". فتكون جملة نبوتية معطوفة على جملة النهي من غير مراعاة مناسبة في عطف الجمل.
{ وأقيموا الصلوة وآتوا الزكوة } أي التي في الشريعة الاسلامية.
{ واركعوا } لما كان الخطاب مع بني إسرائيل ولا ركوع في صلاتهم نبهوا بالأمر به على أنه مطلوب في هذه الشريعة.
وفي قوله: { مع الركعين } دليل على إيقاع ذلك في جماعة افتتح سبحانه وتعالى هذه الآيات بذكر النعم واختتمها بذكر الانقياد للمنعم وما بينهما تكاليف اعتقادية وأفعال بدنية ومالية وهذه الأوامر والنواهي وإن كانت خاصة في الصورة ببني إسرائيل إذ هم المخاطبون بها هي عامة في المعنى والأمر طلب وجود الفعل والنسيان السهو الحادث بعد حصول العلم ويطلق أيضا على الترك والتلاوة القراءة والعقل والادراك المانع من الخطأ.
[2.44-46]
{ أتأمرون } استفهام توبيخ وتقريع والبر فعل الخير من صلة رحم وإحسان وطاعة لله تعالى نعى عليهم أمر { الناس بالبر } الذي في فعله النجاة الأبدية وتركهم فعله حتى صار نسيا منسيا.
و { أنفسكم } هي ذواتهم.
{ وأنتم تتلون الكتب } وأنتم قارئون وعالمون بما انطوى عليه فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم وخالفتموه أنتم.
وفي و { أنتم تتلون } تبكيت عظيم وهي جملة حالية أبلغ من المفرد.
و { الكتب } التوراة والإنجيل وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم.
{ أفلا تعقلون } تنبيه على أن ما صدر منهم خارج عن أفعال العقلاء ومركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل مصلحة لنفسه فكيف يحصلها لغيره ولا سيما مصلحة تكون فيها نجاته، والفاء: للعطف كان الأصل تقديمها لكن الهمزة لها صدر الكلام فقدمت على الفاء هذا مذهب سيبويه، وذهب الزمخشري إلى أن الفاء واقعة موقعها ويقدر بين الهمزة والفاء فعلا محذوفا يصح العطف بالفاء عليه وحكم الواو وثم حكم الفاء في نحو: أو لم يسيروا أثم إذا ما وقع. وقد رجع الزمخشري في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة.
{ واستعينوا } اطلبوا المعونة
{ بالصبر } وهو حبس النفس على ما تكره وقدمت الاستعانة بالصبر لتقدم تكاليف عظيمة يشق التزامها على من لم يألفها.
و " ثنى " ب " الصلاة " اذ هي عمود الاسلام وبها يتميز المسلم من غيره ويحصل بها الاشتغال عن الدنيا وتطلع بالتلاوة على الوعد والوعيد وناهيك من عبادة يناجي ربه فيها خمس مرات في اليوم والليلة يناجي ربه ويستغفر ذنبه.
{ وإنها } أي الصلاة. وقيل: الاستعانة.
{ لكبيرة } شاقة كبر على المشركين ما تدعوهم إليه أي شق.
{ إلا على الخشعين } استثناء مفرع أي الكبيرة على كل شخص لانطوائها على أوصاف هم يتحلون بها كخشوعهم من القيام لله والركوع والسجود له والرجاء لما عنده إذ مآلهم إلى السعادة فسهل عليهم ما صعب على غيرهم من المنافقين والمرائين.
{ الذين يظنون أنهم } يوقنون والظن بمعنى اليقين أو الترجيح مشهور عن العرب. ويتعدى في الدلالتين إلى مفعولين وتسدان مسدهما ولا يحتاج إلى تقدير ثان محذوف كما ذهب إليه الأخفش والمبرد.
{ ملقوا ربهم } فاعل بمعنى المجرد ومن حيث الوضع يقتضي المشاركة لأن من لقيك فقد لقيته والمعنى والله أعلم ملاقوا جزاء ربهم. وقيل: كني بالملاقاة عن رؤية الله تعالى. وقيل: عن انقضاء آجالهم من مات فقد لقي. الله عز وجل غدا نلقى الأحبة محمدا وصحبه. وقيل: ملاقوا اثواب ربهم وعقابه. فعلى هذا يكون الظن بمعنى الترجيح.
{ وأنهم إليه } أي إلى ربهم. { رجعون } أي إلى أمره.
[2.47-48]
{ يبني إسرائيل } نودوا ثانيا على طريق التوكيد لينبهوا على سماع ما يرد عليهم من شكر النعم. والفضل الزيادة في الخير وعطف الفضل على النعمة من عطف الخاص على العام وهو مما انفردت به الواو ويسمى التجريد كأنه جرد من الجملة على سبيل التفضيل.
{ على العلمين } أي عالم زمانهم أو على كلهم بما أوتوا من الخصائص ككثرة الأنبياء وجعلهم ملوكا وإيتائهم ما لم يؤت أحدا.
{ واتقوا يوما } أي العذاب يوما أو جعل اليوم متقي توسعا أو على حذف مضاف أي عذاب يوم.
{ لا تجزي } أي لا تقضي. وقرىء لا تجزي أي لا تغني. وقيل: جزا وأجزأ بمعنى واحد. ولا تجزي جملة صفة فلا بد من تقدير حذف واصلة فيه فهل الحذف بتدريج أو حذف برمته ابتداء قولان.
و { نفس عن نفس } نكرتان في سياق النفي فيعمان.
و { شيئا } في سياقه فيعم وقيل عن نفس كافرة وشيئا مفعول. وقيل: مصدر أي شيئا من الجزاء أو الأجزاء، نحو: ضربت شيئا من الضرب.
وقرىء { ولا تقبل } بالتاء وبالياء مبنيا للمفعول. وتقبل بفتح التاء ونصب شفاعة وهو التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير الخطاب والضمير في.
{ منها } عائد على النفس المتأخرة لقربها ويجوز على المتقدمة لأنها المحدث عنها وظاهر هذا التركيب أنه قد توجد الشفاعة وينتفي قبولها، ويجوز أن يكون من باب. على لا حب لا يهتدي بمنارة.
واجمع أهل السنة على أن شفاعة الأنبياء والصالحين تقبل في العصاة من المؤمنين لثبوت الأحاديث الصحيحة في ذلك وخصوا ما ورد من عدم القبول بالكفار.
{ ولا يؤخذ منها عدل } أي فداء من مال أو جزية.
{ ولا هم ينصرون } والنصر هو العون وأتى الضمير مجموعا وان تقدم مفردا لأنه في سياق النفي فيعم كقوله:
فما منكم من أحد عنه حاجزين
[الحاقة: 47]. وحسن ذلك الفاصلة وذكر الضمير لأنه أريد بالنفوس الأشخاص. كقولهم. ثلاثة أنفس. وانسحب حرف النفي على جملة اسمية ليتكرر الضمير فيتأكد نفي النصر بذكر من نفى عنه مرتين وارتفع هم على الابتداء. أو على المفعول الذي لم يسم فاعله وهو أرجح لأن لا من الأدوات المرجحة للحمل على الفعل ولأن ما قبل هذه الحملة جملة فعلية فيحصل التشاكل والضمير في هم عائد على النفس الأولى أو الثانية أو كلتيهما أقوال وكان النفي بلا التي تكون للمستقبل غالبا لاستقبال الأربعة التي دخلت عليها لا، وجاءت الجمل مرتبة في الذكر على حسب الواقع في الدنيا لأن المأخوذ بحق إما أن يؤدي عنه، وإلا شفع فيه وإلا فدى وإلا تعوون على تخليصه. وهنا جاءت الشفاعة مقدمة على الفدية، وفي غير هذا جاءت الفدية مقدمة على الشفاعة لاختلاف الناس، فمن أحب الرياسة قدم الشفاعة على الفدية ومن أحب المال قدم الفدية على الشفاعة. وبدىء هنا بالشفاعة لأنها أليق بعلو النفس وجاء هنا بلفظ القبول وهناك بلفظ إشارة إلى انتفاء أصل الشيء وانتفاء ما ترتب عليه أعطى المتقدم وجودا تقدمه ذكرا هنا وهنالك أعطى المتأخر وجودا تأخره ذكرا.
[2.49-50]
وفي العامل في " وإذ " تقديرات اخترنا أن يكون فعلا محذوفا يدل عليه ما قبله أي وأنعمنا عليكم
{ إذ نجينكم } وجاء بنون العظمة لأن الانجاء من عدوهم من أعظم النعم فناسب الأعظم نسبته للمعظم وقرىء نجيناكم والهمز والتضعيف للتعدية وقرىء نجيتكم فوافق الضمير ضمير نعمتي والمعنى خلصناكم.
{ من آل فرعون } وهم الذين كانوا يبشارونهم بأمر فرعون وفرعون علم لمن ملك العمالقة وآله أتباعه على دينه وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة واشتقوا منه. قالوا: تفرعن الرجل تجبر وعتا والمشهور في اسمه الوليد بن مصعب وهو من بني عمليق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح، ولا يضاف آل إلا للرئيس الأعظم: قاله الأخفش. ويقال: سامه كلفه العمل الشاق.
{ يسومونكم } حال من آل فرعون أي سائميكم أو استئناف حكاية حال. ويقال: سامه خطة خسف أي كلفه.
فيكون { سوء العذاب } منصوبا مفعولا ثانيا ليسوم وسوء العذاب الأعمال الشاقة من البناء والتخريب ونحت السواري من الجبال ونقل الحجارة وضرب اللبن وطبخ الأجر والنجارة والحدادة وضرب الخراج على ضعفتهم إلى غير ذلك مما يناسب هذه التكاليف وكان قومه جندا وملوكا.
وقرىء { يذبحون } مشددا دالا على التكثير ويذبحون من ذبح اكتفاء بالمطلق والجملة مستأنفة أو حال من ضمير الرفع في يسومونكم أو بدل من يسومونكم أو معطوفة عليه حذف منها حرف العطف لثبوته في سورة إبراهيم.
{ أبنآءكم } أي الأطفال.
{ ويستحيون } أي يبقونهن أحياء.
{ نسآءكم } سمين بما يؤل إليه أمرهن للخدمة ولمن يفترشهن من أعدائهن. وقدم ذبح الأبناء على استحياء البنات لأنه أصعب وأشق إذ فيه إفساد الصورة بالكلية.
{ وفي ذلكم } إشارة إلى السوم والذبح والاستحياء.
{ بلاء } شدة ومكروه.
{ من ربكم } دليل على أن الخير والشر من الله تعالى. فرق بين كذا وكذا فصل.
{ وإذ فرقنا } قرىء مخففا اكتفاء بالمطلق إذ معلوم التكثير بعدد الاسباط ومشددا دلالة على التكثير. والباء في " بكم " للسبب أو المصاحبة أي ملتبسا بكم. والمعنى: جعلناه فرقا بكم وهذا البحر يكون قريبا من مصر من بحارها يقال له اساف ويسمى اليوم بحر القلزم وفرقه قيل: عرضا من ضفة إلى ضفة، وقيل: طولا خرجوا إلى برية فلسطين وكان انفراق البحر بعدد الاسباط اثني عشر مسلكا.
{ فأنجينكم } أي من الغرق ومن إدراك فرعون لكم وثم محذوف أي وتبعكم فرعون وجنوده في تقحمه فأنجيناكم.
{ وأغرقنا } الهمزة للتعدية ويعدى أيضا بالتضعيف.
{ آل فرعون } لم يذكر آل فرعون فيمن لا غرق لأن وجوده معهم مستقر ولأنهم هم الذين سبق ذكرهم في السوم والتذبيح والاستحياء. وقد نص تعالى في غير هذا الموضع على فرقه وناسب نجاتهم من فرعون بإلقائهم في البحر وخروجهم منه سالمين نجاة موسى على نبينا وعليه السلام من الذبح بإلقائه في البحر وخروجه منه سالما ولكل أمة نصيب من نبيها وناسب دعوى الربوبية والاعتلاء انحطاط المدعى وتغييبه في قعر الماء.
{ وأنتم تنظرون } الجملة حال والنظر هنا من الأبصار أي وأنتم تبصرون هذه الخوارق من فرق البحر وانجاتكم وإغراق عدوكم.
[2.51-53]
وقرىء { وعدنا } ووعدنا فاحتمل واعد أن يكون بمعنى وعد واحتمل أن يكون من اثنين وعد الله موسى الوحي ووعده موسى المجيء للمقيات.
" وموسى " هو ابن عمران بن يصهر بن فاهت بن لؤي بن يعقوب بن اسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام، وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة.
{ أربعين ليلة } ذو الحجة وعشر من المحرم أو ذو القعدة وعشر من ذي الحجة وقرىء أربعين بكسر الباء شذوذا وانتصب على المفعول به إذ هي الموعودة أو على حذف أي تمام أو انقضاء أربعين ولا يجوز نصبه على الظرف لأنه معدود فيلزم أن يكون وقوع العامل في كل فرد فرد منها وليس كذلك. وفسر بليلة لأن أول الشهر ليلة الهلال وهذه الموادعة بعد خروجهم من البحر أو بعدد دخولهم مصر بعد هلاك فرعون ونقل أنهم سألوه أن ينزل الله عليهم كتابا والمعنى فخرج إلى ميقات ربه.
{ ثم اتخذتم العجل } إدغام الذال في التاء وإظهارها فصيحان وقرىء بهما. والعجل أل فيه لتعريف الماهية أو للعهد السابق إذ كانوا قد صنعوه ونسب الاتخاذ إلى جميعهم وإن كان بعضهم لم يتخذ لأن القبيلة قد تذم وقد تمدح بما وقع من بعضها واتخذ إن كان بمعنى عمل تعدي إلى واحد وكان بعد ذلك محذوف مقدر أي وعبدتموه الها وإن كان بمعنى ما تعدي الى اثنين كان الثاني محذوفا لدلالة المعنى أي ثم اتخذتم العجل الها وظاهر العجل انه عجل حقيقة وقيل شكل عجل.
{ من بعده } أي من بعد مواعدته أو من بعد ذهابه إلى الطور.
{ وأنتم ظلمون } أي باتخاذكم العجل الها أو أخبار بأن سجيتهم الظلم وعبادتهم العجل تدل على انهم مجسمة أو حلولية.
{ ثم عفونا عنكم } أي لم نؤاخذكم باتخاذكم العجل.
{ من بعد ذلك لعلكم تشكرون } أي بالثناء على المنعم المطابق لما يعتقده المنعم عليه من حق المنعم.
{ وإذ آتينا موسى الكتاب } وهو التوراة.
{ والفرقان } أي تفرق بين الحق والباطل.
{ لعلكم تهتدون } أي باتباع الكتاب المنزل والعمل بما فيه إذ اتباع الكتب الالهية سبب للهداية انا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين وآتيناه الإنجيل فيه هدى ونور.
[2.54]
{ وإذ قال موسى لقومه } القوم اسم جمع لا واحد له من لفظه ويختص بالرجال. والبارىء الخالق وقيل: المبدع للشيء والخالق المقدر الناقل من حال إلى حال ونداؤه لهم مضافين إليه مشعره بالثخن عليهم وهزلهم لما يلقيه إليهم من أمر التوبة ونبههم على أن عبادة غير الله من الظالم وظلم الانسان نفسه أفحش من ظلم غيرها.
والباء سببية في { باتخاذكم العجل } أي وعبادته أو إلها. وقرىء بارئكم بكسر الهمزة وباختلاس حركتها وبإسكانها إجراء للمنفصل مجرى المتصل كابل في إبل ولا التفات لقول المبرد أن التسكين لحن. وقرىء بالياء مكسورة فاما إبدال الهمزة ياء على غير قياس وإما أن يكون من براغير مهموز وحرك الياء، نحو قول الشاعر: ويوما يوافينا الهوى غير ماضي.
{ فاقتلوا أنفسكم } أمر بإزهاق الروح بالقتل لمن اتخذ العجل ولا يكون إلا بوحي من الله تعالى، والظاهر أنهم أمروا بقتل انفسهم فيباشر الواحد قتل نفسه وإن كانت التوبة هي القتل فيكون فاقتلوا بدلا من فتوبوا وإن كان القتل من تمام التوبة فالفاء للتعقيب والمعنى فأتبعوا التوبة القتل تتمة لتوبتكم.
{ ذلكم خير لكم } إشارة إلى القتل وجهة الخيرية إنه مفض إلى الخلاص من دخول النار، وخير أحد الخيور أو أفعل التفضيل أي الهلاك العاجل خير من الهلاك الدائم على حد العسل أحلى من الخل. ولكم في موضع الصفة إن كان خيرا من الخيور ومتعلق بخير إن كان أفعل التفضيل وتكرر لفظ.
{ بارئكم } لكونه في جملتين.
{ فتاب عليكم } إخبار بالتوبة عليهم وثم محذوف، أي فامتثلتم ذلك فتاب عليكم، وهاتان الجملتان مندرجتان تحت الاضافة إلى الظرف الذي هو إذ في قوله: { وإذ قال }. (وأجاز) الزمخشري أن يكون مندرجا تحت قول موسى على تقدير شرط محذوف كأنه قال: فإن فعلتم فقد تاب عليكم، فتكون الفاء إذ ذاك رابطة لجملة الجزاء بجملة الشرط المحذوف وما ذهب إليه الزمخشري لا يجوز وذلك لأن الجواب يجوز حذفه كثيرا للدلالة عليه و فعل الشرط وحده دون الأداة فيجوز حذفه إذا كان منفيا بلا في الكلام النصيح، نحو: وان لا يعل مفرقك الحسام. فإن كان غير منفي بلا فلا يجوز إلا في ضرورة، وكذلك حذفه وإبقاء إن اما حذفهما معا وإبقاء الجواب فلا يجوز إذ لم يثبت في كلامهم وجزم الفعل بعد الأمر والنهي ليس من هذا الباب.
[2.55-57]
{ وإذ قلتم يموسى } يعدد عليكم ما صدر منهم من سوء الاقتراح وفي ندائهم كليم الله باسمه دليل على سوء أدبهم معه وقد تكرر ذلك منهم في ندائه.
{ لن نؤمن لك } أي لن نصدقك فيما جئت به من التوراة وكانوا مؤمنين به ولذلك قالوا لك:
{ حتى نرى الله جهرة } أي ينتفي إيمانهم إلى هذه الغاية فإذا رأوا آمنوا له والرؤية بصرية وأكدت بجهرة مبالغة في الأبصار وانتصب على أنه مصدر نوع من الرؤية قيل: أو على أنه في موضع الحال أي ذو جهرة أو جاهرين بالرؤية وقرىء - بفتح الهاء - مصدرا كالغلبة أو جمع جاهر.
{ فأخذتكم الصعقة } أمر حدث عنه الموت.
{ وأنتم تنظرون } ما حل بكم.
{ ثم بعثنكم من بعد موتكم } الظاهر أنهم ماتوا أو عبر بالموت عن الغشي وبالبعث عن الافاقة.
{ لعلكم تشكرون } نعمته ببعثكم بعد الموت.
{ وظللنا عليكم الغمام } أي سترناكم من حر الشمس بالسحاب والغمام، مفعول على إسقاط الباء أي بالغمام، أو مفعول به أي جعلناه عليكم ظلة.
{ وأنزلنا عليكم المن } وهو صمغة حلوة تسقط على الشجر.
{ والسلوى } وهو طائر وهو السماني قيل أو شبهه.
{ كلوا } أمر إباحة، أي وقلنا كلوا.
{ من طيبات } أي مستلذات إذ لا أشرف في المأكول من اللحم والحلو.
{ وما ظلمونا } نفي أن يقع منهم ظلم لله تعالى وفيه دليل على أنه ليس من شرط النفي إمكان وقوعه وكانت صدرت منهم قبائح كثيرة. فالمعنى لم يصل إلينا من ذلك ضرر بل وبال ذلك يختص بأنفسهم ولما كان قد وقع منهم ظلم ونفي أن يصل إلى الله تعالى تشوقت النفس إلى ذكر من وقع به الظلم فاستدرك أن ذلك الظلم الحاصل منهم إنما كان واقعا وباله بهم.
و { يظلمون } مضارع ماض من حيث المعنى.
[2.58-59]
{ وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية } هي بيت المقدس ويقال: قرية بكسر القاف لغة يمانية.
{ فكلوا منها حيث شئتم } إباحة في أي مكان شاؤا وتأخر
{ رغدا } وإن كان تقدم في قصة آدم لمناسبة الفاصلة بعده في قوله: سجدا، وتقدم هناك إذ لاصق الأكل. وهذا الباب الآن يسمى باب حطة أمروا بالدخول من الباب واضعي جباههم بالأرض.
(وقال) الزمخشري: امروا بالسجود عند الانتهاء إلى الباب شكرا لله تعالى وتواضعا. انتهى. ولم يؤمروا بالسجود بل هو قيد في وقوع المأمور به وهو الدخول والأحول نسب تقييديه والأوامر نسب إسنادية فتناقضتا وذكرت هيئات في الدخول وفي الصحيح دخلوا الباب يزحفون على استاههم.
{ وقولوا حطة } أي مسألتنا حطة وهو مصدر، كنشدة أو هيئة كقعدة.
وقرىء بالنصب لقوله: صبر جميل، أو صبرا جميلا، لما سألوا حط ذنوبهم رئب على ذلك غفران الخطيئة.
(وقال الزمخشري): فإن قلت هل يجوز أن ينصب حطة في قراءة من نصبها بقولوا على معنى قولوا هذه الكلمة؟ قلت: لا يبعد. انتهى.
وما جوزه ليس بجائز لأن القول لا يعمل في المفردات إلا إن كان المفرد مصدرا أو صفة له أو معبرا به عن جملة نحو قلت شعرا أو خطبة ليس واحدا من هذه ويكون على قوله من الاسناد اللفظي فلا يترتب على قوله إلا مجرد الامتثال بالنطق باللفظ فلا فرق بينه وبين اللفظ الغفل. ويبعد أن يترتب الغفران للخطايا على النطق بمجرد لفظ لم يدل على معنى كلام.
وقرىء " يغفر " بالياء والتاء مبنيا للمفعول وبهما مبنيا للفاعل ونغفر بالنون.
وقرىء { خطيكم } وخطيئتكم وخطياتكم بهمز الألف الأولى دون الثانية وخطاياكم بهمز الثانية دون الأولى وتقدم الأمر بالدخول والأكل ودخول الباب. وقول حطة والجواب مترتب على دخول الباب بقيد السجود وقول حطة لقوة المناسبة والمجاورة. ويدل على ذلك قصة الاعراف وادغم قوم راء نغفر في اللام وسنزيد وفي الاعراف سنزيد، والذي فيها مختصر من هذه الا ترى إلى سقوط الواو من سنزيد وحذف رغدا فأرسلنا عليهم بالضمير.
{ وسنزيد المحسنين } أي على غفران الخطايا ثوابا ودرجات من أحسن منهم.
{ فبدل الذين ظلموا } انقسموا إلى ظالم وغير ظالم فإن كانوا كلهم ظالمين كان من وضع الظاهر موضع الضمير أي فبدلوا ونبه على علة التبديل وهو الظلم والمبدل به محذوف تقديره فبدل الذين ظلموا بقولهم حطة.
{ قولا غير الذي قيل لهم } ولما حذف ناسب إضافة غير إلى الاسم الظاهر ولو لم يحذف لكان التركيب بقولهم حطة قولا غيره وابهم الذي قالوه وفي الصحيح هو مفسر قالوا حبة في شعرة أمروا بأن يسألوا حط ذنوبهم فقالوا ذلك استهزاء وعدم مبالاة فاستحقوا النكال.
{ فأنزلنا على الذين ظلموا } اشعار بعلية نزول الرجز وهو العذاب ولم يعين في القرآن نوعه.
وقرىء " رجزا " بضم الراء.
{ من السمآء } إشارة إلى الجهة التي نزل منها العذاب.
وقرىء " يفسقون " بضم السين وكسرها.
[2.60-61]
{ وإذ استسقى موسى } طلب السقيا وهذا هو الانعام التاسع ومفعول استسقى محذوف أي ربه كما قال: إذ استسقاه قومه أي طلبوا منه السقيا فعداه إلى المستسقى منه وجاء معدي إلى المستسقي. قال الشاعر:
" وأبيض يستسقى الغمام بوجهه "
فاحتمل أن يكون المحذوف ماء والاستسقاء يدل على فقدهم الماء أو قلته بحيث لا يكفيهم وثم محذوف أي إذا عطشوا.
{ فقلنا اضرب بعصاك الحجر } أي فامتثل الأمر فضرب وفي هذا دليل على قدرة الصانع وإثبات نبوة موسى عليه السلام إذ هو خارق عظيم والاضافة في بعصاك إشعار بأنها التي كان يلازمها، ولعلها التي سأله الله تعالى عنها في قوله:
وما تلك بيمينك
[طه: 17]. والظاهر أن أل في الحجر للعهد قيل كان حجرا معينا حمله معه من الطور. وقيل: أل للجنس فأي حجر ضرب. وفي وصفه ومن أي شيء كان أقوال مضطربة.
{ فانفجرت } معطوف على ذلك المحذوف أي فضربت فانفجرت ودعوى إن فاء فانفجرت هي فاء فضرب فحذف ضرب لدلالة فائه عليه وحذفت فاء. فانفجرت لدلالة انفجرت عليها تخرص على العرب بغير دليل. (وزعم) الزمخشري أن الفاء ليست للعطف بل هي جواب شرط محذوف، كأنه قال: فإن ضربت فقد انفجرت كما ذكرنا في قوله:
فتاب عليكم
[البقرة: 54]، وهي على هذا فاء فصيحة لا تقع إلا في كلام فصيح. انتهى. كلامه. وتقدم ردنا عليه ذلك في قوله:
فتاب عليكم
[البقرة: 54]. ورددنا عليه هنا في الكتاب الكبير في تقديره بعد الفاء قد أي فقد تاب عليكم فقد انفجرت، والظاهر أن معنى انفجرت وانبجست واحد إذ هي قصة واحدة. وقيل: الانفجار اتساع الماء وكثرته وانبجاسه رشحه وأول خروجه ومن في.
منه لابتداء الغاية والضمير عائد على الحجر وفيه من الاعجاز ظهور الماء من حجر لا اتصال له بالأرض فتكون مادته منها وخروجه كثيرا من حجر صغير وبقدر حاجتهم وعند الضرب بالعصا وانقطاعه عند الاستغناء عنه وعدد عيونه على عدد الاسباط. وقرىء عشرة بسكون الشين وكسرها وفتحها.
و { اثنتا } معرب.
و { عشرة } مبني في موضع خفص بالاضافة.
{ عينا } تمييز لازم الافراد وأجاز الفراء في مثل هذا جمعه.
{ قد علم } أي عرف.
{ كل أناس } أي من قومه الذين استسقى لهم.
{ مشربهم } أي العين الذي هو مشرب أي مكان شربه فلا يتعداه إلى عين غيرها والاضافة في مشربهم تدل على التخصيص وأعاد الضمير على معنى كل لا على لفظه فلا يجوز مشربه، والمعنى: مشربهم من تلك الأعين. وذكر المشرب تنبيه على المنفعة العظيمة التي هي سبب الحياة.
{ كلوا واشربوا } أمر إباحة.
{ من رزق الله } من للابتداء أو للتبعيض ولما كان من غير تعب أضيف إلى الله ويتعلق من بقوله:
{ واشربوا } ، على أعمال الثاني.
والرزق المرزوق وهو المن والسلوى والمشروب من ماء العيون ولما كان قد تهيأ لهم المأكول والمشروب من غير تعب نهوا عن الفساد إذ كان ذلك مما ما قد يدعو إلى الفساد. كما قال الشاعر:
ان الشباب والفراغ والجدة
مفسدة للمرء أي مفسده.
والعثي أشد الفساد. ويقال: عثا يعثو وعثى يعثى عثيا فهو مما لامه ياء وواو.
" ومفسدين " حال مؤكدة.
ولما سئموا من أكل طعام واحد مالوا إلى أكل ما كانوا ألفوه من اختلاف المأكل، قالوا:
{ لن نصبر على طعام واحد } وسألوه أن يدعو الله لهم إذ كان سؤال النبي أقرب للإجابة ولما كان ما يأكلونه لا يتبدل وصفوه بأنه طعام واحد ومتعلق الدعاء محذوف أي بأن يخرج لنا كذا ولفظة " ربك " تدل على الاختصاص به لما كان فيه من المناجاة وإنزال التوراة عليه.
{ مما تنبت الأرض } من تبعيضية.
{ من بقلها } بدل أعيد معه الجار وأسند الانبات إلى الأرض مجازا لما كان الله جعل فيها قابلية الإنبات، والبدل من التبعيض تبعيض. وفي البحران المهدوي وابن عطية وأبا البقاء قالوا: إن من في من بقلها لبيان الجنس، والبقل النعناع والكرفس والكراث وأشباهها. والقثاء معروف، وقرىء - بكسر القاف وضمها. والفوم: الثوم وقراءة عبد الله وثومها - بالثاء - فاحتمل أن يكون مما أبدلت ثاؤه فاء واحتمل أن يكون مادة أخرى.
والهمزة في { أتستبدلون } للإنكار أي أتعتاضون واستفعل هنا للطلب أي أتطلبون تبديل الذي هو أدنى والمنصوب هو الحاصل والذي تدخل عليه الباء هو الزائل.
وأدنى أفعل تفضيل من الدنو أي أقرب. قيل: أو من الدون وهو الرديء فقلب أو أصله أدنأ فسهلت همزته بإبدالها ألفا من الدناءة، وقد قرىء بالهمز فلم يقيد الأدنوية والخيرية إذ معلوم ثبوت الخيرية لما كانوا فيه، وثبوت الأدنوية لما سألوه، والضمير في: قال لموسى، أي فدعا فأجابه الله تعالى لما دعاه فقال: أي موسى بإذن الله أو الله تعالى.
{ اهبطوا مصرا } وقرىء بالتنوين أي من الأمصار وبغير تنوين بدليل أنهم سكنوا الشام بعد التيه وبغير تنوين على أنها مصر المعروفة دار فرعون.
{ فإن لكم } أي فيها.
{ ما سألتم } وقرىء سألتم بكسر السين وهو من تداخل اللغتين أي من البقول والحبوب.
{ وضربت عليهم الذلة والمسكنة } أي الزموا ذلك من قولهم ضرب الأمير البعث على الجيش، فالذلة بما الزموا من الجزية وإظهار الزي المخالف لزي المسلمين، والمسكنة: الخشوع والتطامن والفقر والشج، ولم تكن الجزية مضروبة عليهم من أول أمرهم فيكون من الاخبار بالغيب إذ كان ذلك في ملة الرسول عليه الصلاة والسلام ضربت عليهم الجزية. وقيل: الذلة كونهم ذليلين في أنفسهم ليس فيهم من الشهامة ما يقاتلون بها من عاداهم ألا ترى إلى قولهم: اذهب أنت وربك فقاتلا.
وقوله:
فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم
[البقرة: 246].
{ وبآءو بغضب } ارجعوا فالباء للحال أو استحقوا فالباء صلة زائدة أو نزلوا وتمكنوا فالباء ظرفية. والغضب هنا ما حل بهم من البلاء والنقم.
{ من الله } متعلق بباء أو بمحذوف في موضع الصفة وبكونه.
{ من الله } فيه تعظيم للغضب.
{ ذلك } إشارة إلى الضرب والمباءة وهو مبتدأ خبره " بأنهم " أي كائن بكفرهم والباء للسبب.
{ كانوا يكفرون } أي في حالهم السابقة.
و { بآيات الله } أي التي أظهرها على يد أنبيائه موسى وغيره ممن سبق كالمعجزات التسع والتوراة.
{ ويقتلون النبيين } يحيى وشعيا وزكريا، وقرىء بتاء الخطاب فيكون التفاتا وبالتشديد مع الياء دلالة على التكثير. فقيل: قتلوا ثلثمائة، وقيل: سبعين.
{ بغير الحق } ليس احتراز بل لا يقع قتل بني إلا بغير الحق فهو قيد لازم، نحو: دعوت الله سميعا وجاء شنيعا عليهم أي لم يدعوا وجها في القتل.
{ ذلك بما عصوا } تأكيد للجملة قبله أو الحامل على الكفر والقتل هو سوء عصيانهم واعتدائهم إذ المعاصي بريد الكفر قابل الضرب والمباءة بالكفر والقتل وقابل الكفر والقتل بالعصيان والاعتداء، وأل في النبيين للعهد في من قتلوا أو للجنس وفي بغير الحق كذلك أي الحق الذي من شأنه أن يقع القتل أو لتعريف الماهية.
[2.62-64]
{ هادوا } هم اليهود هاد يهود تاب وقرىء هادوا بفتح الدال من هادي فاعل من الهداية بمعنى فعل كجاوز وجازى أي هدوا أنفسهم وهم اليهود.
{ والنصارى } جمع نصران كندمان وندامى والألف للتأنيث يدل عليه منع الصرف في قوله
إنا نصارى
[المائدة: 14]. وقيل جمع نصري كمهري ومهارى.
{ والصابئين } قيل عباد الكواكب القائلون بتدبيرها وقرىء مهموزا صبأت النجوم طلعت وثنية الغلام خرجت وبغير همز صبا مال.
و { من ءامن } يدل من المعاطيف الثلاثة التي بعد اسم أن أي أن الذين آمنوا من غير الأصناف الثلاثة ومن آمن من الأصناف الثلاثة ومن موصولة ودخلت الفاء في خبر أن لأن الذين ضمن معنى اسم الشرط وهو جائز في كلام العرب ولا مبالاة لمن خالف في ذلك. والأجر الثواب المرتب على العمل من الإيمان والعمل الصالح أفرد الضمير في أمن وعمل حملا على لفظ من وجمع في
{ فلهم أجرهم } حملا على المعنى ودعوى ابن عطية أنه إذا حمل على اللفظ ثم على المعنى فلا يجوز أن يعود إلى اللفظ باطلة وقرىء ولا خوف بنصب الفاء.
والخطاب في { ميثاقكم } لبني إسرائيل وهو الانعام العاشر وهو العهد عليهم بالاعلام بما تضمنته التوراة وتبيينه وعدم كتمه ولما فيه من إظهار نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و { الطور } الجبل الذي ناجى عليه الله تعالى موسى عليه السلام امتنعوا من أخذ التوراة. والتزامها فرفع فوقهم الطور. قيل: مقدار العسكر وصار كالظلة.
{ خذوا مآ ءاتينكم } أي وقلنا خذوا والذي أوتوه الكتاب.
{ بقوة } أي بجد واجتهاد. وقرىء: ما آتيتكم بقوة وهو التفات:
{ واذكروا ما فيه } أمر بحفظه وعدم تناسيه قولا وعملا. وقرىء: واذكروا من الادكار ويفهم من سياق الكلام أنهم امتثلوا الأمر وعملوا بمقتضاه.
{ ثم توليتم من بعد ذلك } أي أعرضتم عن الميثاق والعمل به ورفع الجبل وهذا كله تذكير لليهود.
{ فلولا فضل الله عليكم } بقبول التوبة.
{ ورحمته } بالعفو من الزلة وارتفاع فضل على الابتداء هو مذهب البصريين وعليكم متعلق بفضل والخبر محذوف واجب الحذف على المختار.
{ لكنتم } جواب لولا ويكثر دخول اللام عليه إذا كان موجبا وزعم بعض النحويين أنها لا تحذف منه إلا في الشعر.
{ من الخاسرين } أي من الهالكين في الدنيا والآخرة.
[2.65-66]
{ ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت } علم هنا تعدي إلى واحد أي عرفتم أعيانهم واعتداؤهم فيه أنه حرم عليهم العمل فيه وصيد الحيتان فيه فكان يكثر ظهورها فيه وتذهب بعد ذهابه فتحيلوا في صيده بنوع من الحيل كحفر حفيرة أو ربط الحوت بخرمة فإذا مضى السبت أخذوه ثم كثر ذلك حتى صادوه يوم السبت علانية وباعوه في الأسواق. ومنكم: في موضع الحال أي كائنين منكم. وفي السبت: متعلق باعتدوا أي في العمل يوم السبت بالاصطياد منه.
{ فقلنا لهم كونوا قردة } أمر يدل على سرعة الكون بهذا الوصف وكأنهم ممتثلون ذلك وإلا فليسوا بقادرين على ذلك والظاهر صيرورتهم قردة حقيقة وقد جاء في الحديث أن أمة مسخت ولا ينكر ذلك من قدرة الله تعالى ألا ترى إلى انقلاب عصا موسى حية ثم عودها عصا. والقرد حيوان معروف. وفعل الاسم القياس فيه فعول نحو قرود وجمعه على فعلة لا ينقاس نحو قردة وحسلة في جمع قرد وحسل والخسؤ الصغار والطرد وفعله خسأ يجيىء متعديا ولازما.
{ فجعلناها } أي الكينونة قردة.
{ نكالا } عبرة. واصل النكال: المنع. والنكل: القيد.
{ لما بين يديها } أي لمن قرب منها.
{ وما خلفها } أي من جاء بعدهم.
{ وموعظة } أي إذكارا.
{ للمتقين } لأن الذين ينتفعون بالموعظة إنما هم المتقون.
[2.67-71]
{ وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة } وجد قتيل في بني إسرائيل وجهلوا قاتله فاختلفوا فيه فأمرهم الله بذبح بقرة فتعنتوا فيها مرة بعد مرة وقرىء يأمركم بإخلاص ضمة الراء واختلاسها وبإسكانها ، والبقرة الأنثى من البقر وقد تطلق على الذكر. وكان المأمور بذبحه بقرة إذ كانوا ممن يعظم البقر حتى عملوا عجلا وعبوده.
وقرىء { أتتخذنا } بتاء الخطاب أي يا موسى، وبالياء أي الله.
{ هزوا } أي ذوي هزء استغربوا لما سألوا موسى عن تعيين القاتل فأجابهم بهذا على ما هم عليه من سوء عقيدتهم في أنبيائهم وتكذيبهم لهم ولو وفقوا لكان الجواب منهم امتثال الأمر.
{ قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } أي ممن يخبر عن الله بأمر لم يأمر به ولما استعاذ موسى بالله تعالى علموا أن ما أخبرهم به هو عزيمة من الله بما أمرهم به من ذبح بقرة:
{ قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي } ففي الحديث لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ولكن شددوا فشدد الله عليهم. وما هي: مبتدأ وخبر في موضع مفعول يبين وهي معلقة لأن التبيين إعلام في المعنى وما هي ليس سؤالا عن الماهية إنما هو سؤال عن الوصف ولذلك جاء الجواب بالوصف فكأنهم قالوا ما صفتها وكما علموا ما لموسى عند الله من الخصوصية قالوا ربك.
{ لا فارض ولا بكر } وصفة للبقرة وإذا وصفت النكرة بما دخل عليه لا كررت وكذا الخبر والحال إلا ما ندر. والفارض المسن التي انقطعت ولادتها في الكبر يقال فرضت وفرضت بفتح الراء وضمها يفرض فروضا. والبكر الصغيرة التي لا تلد من الصغر. قيل: أو ولدت ولدا واحدا. والعوان النصف وهي التي ولدت مرة بعد مرة. يقال: عونت المرأة.
و { عوان } تفسير لما تضمنه الوصفان.
{ بين ذلك } أي بين الفروض والبكارة وافرد ذلك إذ قد يشار به للمفرد والمثنى والمجموع بصيغة واحدة. فيقال: كيف ذلك الرجال يا رجال، وكذا كان الخطاب قد تكون مفردة للمفرد والمثنى والمجموع من المذكر والمؤنث أو حذف معطوف كما حذف في قوله: فما كان بين الخير إذ بين تقتضي شيئين أو أشياء.
{ فافعلوا ما تؤمرون } أمر بامتثال ما أمروا به فلم يفعلوا وتعنتوا في السؤال فسألوا عن لونها. والصفرة هنا المعهودة لا السواد تقول العرب أصفر فاقع وأبيض ناصع ويقق وأسود حالك وأحمر قاني وأخضر ناضر فهذه التوابع تدل على شدة الوصف كأنه قيل أصفر شديد الصفرة ومن غريب ما وقع في لغة الترك انهم إذا أرادوا المبالغة في وصف اللون ركبوا من الحرف الأول مع الباء الساكنة ما يدل على الوصف بشدة ذلك اللون يقولون في أسود قرا فإذا أرادوا شدة السواد قالوا قبقرا، وكذا صرى الأصفر يقولون صبصرا، وقزل الأحمر يقولون قبقزل، وكذا باقي الألوان والوصف بفاقع ونحوه مما يدل على شدة اللون يطابق ما قبله فتقول سوداء حالكة وصفراء فاقعة، وهنا رفع الظاهر المذكر فلذلك لم تلحق التاء.
و { تسر } صفة أيضا أي تبهج.
{ الناظرين } بحسنها شكلا ولونا وسنا فالوصف بالسرور ناشىء عن تقدم الأوصاف التي نشأ عنها السرور.
ثم لم يكتفوا بهذا البيان وتعنتوا على عادتهم في السؤال وعللوا الحامل لهم على تكرار السؤال بقولهم:
{ إن البقر تشابه علينا } إذ موجود كثير مما تشابه ما تقدم ذكره في الوصف واللون. وقرىء تشابه على تذكير البقر وتشابه مضارعا على تأنيثه وحذف التاء وتشابه على التأنيث وإدغام التاء في الشين والأصل تتشابه وشبه مضارع تشبه حذفت منه التاء وتشبه ماضيا ويتشابه مضارعا وتشابهت وتشابهت ومتشبه ومتشابه.
{ وإنآ إن شآء الله لمهتدون } إلى تعيين البقرة المأمور بذبحها وجواب الشرط محذوف، أي إن شاء الله اهتدينا دل عليه بمهتدون. وقيل: الشرط الذي حذف جوابه للدليل كقولك أنت ظالم إن فعلت لكن الشرط توسط بين اسم إن وخبرها ليحصل توافق رؤوس الآي وجاؤوا بالشرط على سبيل الأدب مع الله تعالى إذ أخبروا بثبوت الهداية.
{ لا ذلول تثير الأرض } صفة للبقرة وتثير صفة لذلول داخلة تحت النفي والمقصود نفي إثارتها الأرض.
{ ولا تسقي الحرث } نفي معادل لقوله: لا ذلول. والمعنى انها لم تذلل بالعمل في حرث ولا سقي. وما ذهب إليه الزمخشري من جعل لا في ولا تسقي الحرث زائدة للتوكيد، وان المعنى تثير وتسقي على أن الفعلين صفتان لذلول، كأنه قال: لا ذلول مثيرة وساقية. ليس بشيء لأنه يلزم منه الوصف بلا غير مكررة والتقابل منفي. وقلنا: إنه لا يكون إلا في الشعر. وقال ابن عطية: لا يجوز أن تكون هذه الجملة، يعني: تثير في موضع الحال لأنها من نكرة. " انتهى ".
والنكرة ان عني بقرة فقد وصفت، والحال من النكرة الموصوفة جائز جوازا حسنا وإن عني من لا ذلول، فالحال من النكرة غير الموصوفة فيبعد على قول الجمهور ممن لم يحصل مذهب سيبويه. وقد نص سيبويه على جواز ذلك وقاسه وقيل: تثير: حال من الضمير المستكن في ذلول، أي لا تدل في حال إثارتها. وقرىء: لا ذلول بفتح اللام، أي لا ذلول هناك. وتثير قيل: صفة لاسم لا منفية من حيث المعنى ولذلك عطف عليه جملة منفية وهي ولا تسقي الحرث والذي نختاره في هذه القراءة أن يكون تثير وتسقي خبرا للاذلول اعتراض بين بقرة وصفتها التي هي " مسملة " وانتفاء الاثارة والسقي من حيث المعنى لا من حيث الوصف " مسلمة " أي من العيوب.
{ لا شية فيها } أي لا لون فيها يخالف الصفرة لا بياض ولا سواد ولا غير ذلك لأن الشيء قد يوصف بلون لكونه غالبا فيه ويكون في بعضه لون يخالفه لكنه لقلته لا يعبأ به وقالوا ثوب اشية للذي فيه بلقة وليس مأخوذا من الوشي لاختلاف المادتين.
{ قالوا الآن جئت بالحق } أي الواضح لنا. أي نطقت به لأنه كان غائبا فجاء. وقرىء: قالوا الآن بسكون اللام وبنقل حركة الهمزة للام وحذفها مع حذف واو قالوا: ومع إثباتها. والآن ظرف للوقت الحاضر وناصبه جئت بالحق متعلق بجئت أي نطقت بالحق أو للتعدية أي أجأت الحق الذي لم يبق معه إشكال.
{ فذبحوها } قبله محذوف أي فطلبوها وحصلوها وفي كيفية تحصيلها أقوال تظافرت أقوال المفسرين على اشترائها من الشاب الباربابويه.
{ وما كادوا يفعلون } كني عن الذبح بالفعل لقلق تكرار يذبحون واختلف زمان نفي الكدودة وزمان الذبح أي وما قاربوا ذبحها قبل ذلك أي وقع الذبح بعد أن انتفت مقاربته أي تعسروا في ذبحها ثم ذبحوها بعد ذلك.
[2.72-73]
{ وإذ قتلتم نفسا } معطوف على قوله:
{ وإذ قال موسى }. والظاهر ترتيب وجود القضيتين ونزولهما على ترتيب وجودهما فيكون الله تعالى قد أمرهم بذبح البقرة فذبحوها وهم لا يعلمون بما له تعالى فيها من السر، ثم وقع بعد ذلك أمر القتيل فأظهر لهم ما كان أخفاه عنهم من الحكمة بقوله:
{ اضربوه ببعضها } ولا ضرورة تدعوا إلى اختلاف في الوجود والنزول والتلاوة اعتبارا بما رووا من القصص إذ لم يصح لا في كتاب ولا سنة والحمل على الظاهر أولى إذ العدول إلى غير الظاهر إنما يكون لمرجح ولا مرجح هنا بل تظهر الحكمة البالغة في تكليفهم أولا بذبح بقرة هل يمتثلون ذلك أم لا وامتثال التكاليف التي لا يظهر فيها ببادىء الرأي حكمة أعظم من امتثال ما يظهر فيه حكمة لأنها طواعية صرف وعبودية محضة واستسلام خالص بخلاف ما تظهر له حكمة فإن في العقل داعية إلى امتثاله وحضا على العمل به.
والخطاب في قتلتم اما لورثة المقتول. وقد روي أنهم اجتمعوا على قتله أو خطاب للجماعة بما يقع من بعضهم وكني بقوله: نفسا عن الشخص، كما قال: ثلاثة أنفس وثلاث ذود أو اطلاقا لبعض الشيء على الشيء أو على حذف أي ذا نفس وجعل نسمة مكان نفسا تفسير لا قرآن.
وقرىء { فادارأتم } وتدارأتم والتدار في الادراء التدافع.
{ فيها } أي في تعيين قاتلها.
{ والله مخرج ما كنتم تكتمون } من أمر القتيل وقاتله وهي جملة اعتراض بين المعطوف، والمعطوف عليه مشعرة بأن التدار لا يجدي إذ الله مظهر ما كتمتوه.
{ فقلنا اضربوه } الهاء عائدة على النفس على لغة من ذكر النفس أو على مراعاة الشخص أو على ذي في تقدير من قدر ذا نفس.
والبعض غير معين وفيه أقوال مضطربة والهاء عائدة على البقرة المذبوحة وثم محذوفان فضربوه يدل عليه اضربوه وفحيي القتيل يدل عليه.
{ كذلك يحيي الله الموتى } أي مثل هذا الاحياء للقتيل يحيي الله الموتى والمثيلة في مطلق الاحياء لا في الكيفية.
{ ويريكم آياته } في إحياء ميت بضربة بقطعة من ميت وجاز أن يكون ويريكم معطوفا على يحيى وأن يكون استئناف أخبار وجمع آيات إذ أراهم الله تعالى هذا الاحياء والعصا والحجر والغمام والمن والسلوى والسحر والبحر والطور وغير ذلك.
[2.74]
{ ثم قست قلوبكم من بعد ذلك } الخارق العظيم الخارج عن مقدور البشر الموجب للاعتبار ولين القلوب. والضمير في قلوبكم ضمير وإذ قتلتم حتى نقل أنه لم حيي القتيل وأخبر بمن قتله قالوا كذبت. والقسوة بنو القلب عن الاعتبار وعدم تحركه وتأثره للمواعظ.
{ فهي كالحجارة } أي في عدم تأثرها صلبة لا تتخلخل مع ظهور المعجزات.
{ أو أشد قسوة } فصل ونوع قلوبهم إلى شبه الحجارة في الصلابة وإلى أشد قسوة من الحجارة. وانتصب قسوة على التمييز ويقتضيه أشد وكاف التشبيه وهذا التمييز الذي بعد أفعل التفضيل منقول من المبتدأ وهو نقل غريب أو أشد معطوف على قوله كالحجارة من قبيل عطف المفرد على المفرد كما تقول زيد على سفر أو مقيم (ولا) حاجة إلى تقدير الزمخشري أو هي أشد فيكون من عطف الجمل ولا إلى إضمار مثل أي أو مثل أشد حذف مثل وأقيم أشد مقامه فيكون الضمير في أشد غير عائد على القلوب إذ كان الأصل أو مثل شيء أشد قسوة من الحجارة. وقرىء أو أشد بنصب الدال ويتخرج على هذا التخريج الثاني وقرىء قساوة.
ثم قال: { وإن من الحجارة } تبيينا ان قلوبهم لا تتأثر وإن الحجارة قد يوجد فيها ما يتأثر وانها متفاوتة في التأثر وقرىء وإن مشددة في ثلاثتها فما اسم إن دخلت اللام عليه وقرىء مخففة في ثلاثتها فاحتمل أن تكون معملة وما اسمها، واحتمل أن تكون ملغاة، نحو: إن في الدار لزيد، فما: مبتدأ خبره المجرور قبله، واللام: هي لام الابتداء لزمت للفرق أو لام غيرها اجتلبت للفرق قولان للنحاة وقول الكوفيين أن إن نافية واللام بمعنى إلا.
وقرىء { لما } مخففة الميم وما موصولة بمعنى الذي وهي اسم ان. وقرىء: لما مشددة الميم. قال ابن عطية: وهي قراءة غير متجهة. وما قاله ابن عطية لا يستوي إلا أن نقل عمن قرأ بالتشديد تشديدان فيعسر إذ ذاك توجيهها إما إن قرأ بتخفيف إن وهو المظنون به فيظهر توجيهها بأن تكون إن نافية، ولما بمعنى: الا. كقوله تعالى:
إن كل نفس لما عليها حافظ
[الطارق: 4] في قراءة من شدد لما. ويكون حذف منه المبتدأ تقديره. وما من الحجارة حجر ألا يتفجر منه الأنهار وكذلك ما بعد هذا كقوله تعالى:
وما منآ إلا له مقام معلوم
[الصافات: 164]. أي: وما منا أحد وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمن به أي وإن من أهل الكتاب أحد وحذف هذا المبتدأ أحسن لدلالة المعنى عليه إلا أنه يشكل معنى الحصر إذ يظهر من هذا التفصيل أن الأحجار متعددة فمنها كذا وإذا حصرت أنهم العموم إن كل فرد فرد من الحجارة فيه هذه الأوصاف كلها أي يتفجر منه الأنهار ويشقق فيخرج منه الماء ويهبط من خشية الله ولا يبعد ذلك إذا حمل على القابلية إذ كل حجر يقبل ذلك، ولا يمتنع إذا أراد الله ذلك فإن كان الذي قرأ بالتشديد وإن بالتشديد فيعسر توجيهه.
ومن زعم أن إن ان المشددة بمعنى ما النافية فقوله: لا يصح ولا يثبت في لسان العرب ويمكن توجيه ذلك على أن يكون اسم ان محذوفا، أي وان منها منقادا كما حذف في قوله:
ولكني زنجي عظيم المشافر، أي: ولكنك ولما بمعنى حين على مذهب الفارسي أو حرف وجوب لوجوب على مذهب سيبويه والمضارع بمعنى الماضي.
وقرىء { يتفجر } مضارع تفجر مطاوع فجر وينفجر مضارع انفجر وطلوع فجر بتخفيف الجيم والتفجر التفتح بالسعة والكثرة.
وقرىء { منه الأنهار } ومنها الأنهار حملا على المعنى والتشقق: التصدع بطول أو عرض فينبع منه الماء بقلة.
وقرىء: يشقق بشد الشين ويتشقق وينشقق بنون وقافين والفك شاذ. والهبوط التردي من علو إلى سفل.
وقرى: يهبط بكسر الياء وضمها.
والخشية الخوف وهو من. مجاز الاستعارة كناية عن الانقياد لأمر الله وانها لا تمتنع على ما يريد بين أن الحجارة إلى التأثير فيها أقرب من قلوبهم ثم ذكر تفاوت الحجارة في التأثير فمنها ما هو متخلخل تتفجر منه الأنهار بسرعة ومنها ما فيه صلابة لكنه يتشقق ومنها ما هو سريع الانقياد فينهار بخلاف قلوب هؤلاء فإنها أشد قسوة من الحجارة ولما كانت قساوة القلوب تنشأ عنها الأعمال القبيحة قال تعالى على سبيل التهديد لهم:
{ وما الله بغافل عما تعملون } قال ابن عطية: بغافل في موضع نصب خبر ما لأنها الحجازية. يقوي ذلك دخول الباء في الخبر وإن كانت الباء قد تجيىء شاذة في التميمية. " انتهى ".
ولم يذهب نحوي إلى أن دخول الباء في التميمية شاذ فيما علمناه بل النحاة قائلان قائل لا تدخل الباء وهو قول أبي علي في أحد قوليه. وتبعه الزمخشري وقائل تدخل وهو الصحيح وهو كثير في اشعار بني تميم.
وقرىء: تعملون بتاء الخطاب على نسق: ثم قست قلوبكم وبالياء التفاتا.
[2.75-76]
كان المؤمنون من الأنصار بينهم وبين اليهود حلف وجوار فكانوا يودون إسلامهم.
والطمع تعلق النفس بإدراك مطلوب تعلقا قويا.
{ وقد كان فريق منهم } أي من اليهود لبعدهم عن الإيمان.
{ يسمعون كلام الله } أي من كتابهم التوراة أو من الوحي المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ ثم يحرفونه } أي يميلون به إلى غير جهته ويبدلون.
{ من بعد ما عقلوه } أي فهموه ومع عقلهم له على وضعه يحرفونه عن وضعه.
{ وهم يعلمون } ما في تحريفه من الاثم واستحقاق غضب الله فمن كانت حاله هذه لا يطمع في إيمانه وأبناؤهم تابعو أسلافهم في البعد عن الخير والإيمان. ثم ذكر من نفاقهم موافقة المؤمنين بقولهم.
{ قالوا آمنا } ومن خبثهم كونهم لا ينطقون بمتعلق آمنا. والجملة من قوله: { وقد كان فريق } في موضع الحال، أي في طماعيتكم في إيمان هؤلاء مع أن حال أسلافهم أو حال فريق من الحاضرين منهم هذه الحال مستبعدة لا تجامع هذه الحال.
{ وإذا خلا بعضهم إلى بعض } أي انفرد بعضهم ببعض.
{ قالوا } أي المنفرد على سبيل العتاب.
{ أتحدثونهم بما فتح الله عليكم } من وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم وما جرى لأسلافكم من المغازي وما حل بهم من النقم والفتح الاعلام أي بما أعلمكم أو الحكم أي بما حكم الله عليكم أو على أسلافكم وحدث هنا تعدت إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر واللام في.
{ ليحآجوكم } تتعلق بأتحدثونهم وهي لام كي على تجوز لأن الناشىء عن شيء وإن لم يقصد كالعلة وكونها للصيرورة قول مشهور والضمير في " له " عائد على ما الموصولة الاسمية.
{ عند ربكم } أي في الآخرة. فقول ابن أبي الفضل: ان الصحيح أن يكون عند ربكم متعلقا بقوله:
{ بما فتح الله عليكم } ، أي من عند ربكم ليحاجوكم. قال: لأن الاحتجاج عليهم بما كان في الدنيا ليس بصحيح للفصل بين عند والعامل فيها الذي هو فتح بقوله:
{ ليحآجوكم } وهو أجنبي منهما إذ هو متعلق بأتحدثونهم على الأظهر.
{ أفلا تعقلون } داخل تحت قوله:
{ قالوا أتحدثونهم } أي بما يكون حجة لهم عليكم.
{ أفلا تعقلون } ما في ذلك من التسليط عليكم وإظهار الحجة وذهب الزمخشري إلى أن بين الهمزة والفاء في نحو: أفلا تعقلون وبين الهمزة والواو في نحو: أولا، وكذا! فلم يسيروا، أو لم يروا فعلا محذوفا عطف عليه ما بعده كأنه يقدر أجهلتم أفلا تعقلون أمكثوا فلم يسيروا ومذهب النحاة ان الواو والفاء وثم بعطف ما بعدها على الجملة التي قبل الهمزة والهمزة متأخرة في التقدير وقدمت لأن الاستفهام له صدر الكلام وقد رجع الزمخشري إلى قول النحاة في ذلك إذ لم يطرد له الحذف في مواضع.
[2.77-78]
{ أولا يعلمون } قرىء بالياء والضمير للكفار، وبالتاء خطاب للمؤمنين، ينبههم على جهل الكفار بعالم السر والعلانية. أو: خطاب للكفار على سبيل الالتفات ثم أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة إهمالا لهم.
{ ما يسرون وما يعلنون } عام وسدت أن مسد المفعول ان قدر ان تعلمون متعد إلى واحد ومسد مفعولين إن قدر تعدية إلى اثنين.
{ ومنهم } أي من اليهود المذكورين.
{ أميون } أي عوام واتباع لا يحسنون الكتابة ولا القراءة فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها.
{ لا يعلمون الكتاب } أي التوراة.
{ إلا أماني } استثناء منقطع إذ ليس من جنس الكتاب إلا ما هم عليه من أمانيهم إن الله يعفو عنهم وتشفع أنبياؤهم لهم، أو ما يمنيهم احبارهم ان النار لا تمسهم إلا أياما معدودة، أو الا أكاذيب مختلفة تلقفوها من احبارهم تقليدا. وقرىء: أماني بتشديد الياء وبتخفيفها.
{ وإن هم إلا يظنون } الظن هنا على بابه من ترجيح أحد الأمرين ولا يلزم من الترجيح عندهم أن يكون ترجيحا في نفس الأمر.
[2.79-80]
{ فويل } أي هلكه وخسار.
{ للذين يكتبون الكتاب } هم اليهود.
{ بأيديهم } تأكيد يرفع المجاز أي يباشرون بأنفسهم لا يأمرون بالكتابة كانوا يكتبون محرفا عن ما في كتابهم كما ذكر أنهم غيروا صفة الرسول صلى الله عليه وسلم التي في التوراة فجعلوه آدم سبطا طويلا على خلاف ما في التوراة والمعنى يكتبونه مختلفا.
{ ثم يقولون } لاتباعهم الأميين.
{ هذا من عند الله } مع علمهم بالتبديل والتحريف.
{ ليشتروا به ثمنا قليلا } من وضائع وما كل ورشا ووصفه بالقلة لفنائه وحقارته.
{ فويل لهم مما كتبت أيديهم } هذه مقدمة.
{ وويل لهم مما يكسبون } هذه نتيجة تلك المقدمة وكرر الويل حتى يتحقق أن الخسارة والهلكة تترتب على كل واحد من المكتوب والمكسوب وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" اليهود من أهل النار. قالوا: نحن، ثم تخلفونا أنتم. فقال: كذبتم لقد علمتم انا لا نخلفكم "
فنزلت:
{ وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } أي قلائل يحصرها العد، فروي: أنهم قالوا: سبعة أيام، وعنهم أربعون يوما عدد عبادتهم العجل.
{ قل أتخذتم عند الله عهدا } هذا رد لدعواهم الكاذبة أي مثل هذا الاخبار الجازم لا يكون إلا ممن اتخذ عند الله عهدا بذلك وأنتم لم تتخذوه فقولكم كذب وافتراء. واتخذ تعدت إلى واحدا وإلى اثنين، فيكون الظرف هو الثاني وهمزة اتخذتم همزة استفهام. وقرىء بنقل حركتها إلى قل وحذفها، والمعنى عهدا بما قلتم ان النار لا تمسكم إلا أياما معدودة.
{ فلن يخلف الله عهده } قيل جواب الاستفهام الذي ضمن معنى الشرط وفي هذا القول نظر، لأن الاستفهام عن ماض لفظا ومعنى. (قال) ابن عطية: فلن يخلف الله عهده اعتراض أثناء الكلام كأنه يريد أن:
{ أم تقولون } معادل لقوله:
{ أتخذتم } فصارت هذه الجملة اعتراضا بين المتعادلين فلا موضع لها من الإعراب وكان التقدير أي هذين واقع اتخاذكم العهد عند الله أم قولكم.
{ على الله ما لا تعلمون } أخرج مخرج التردد في تعيينه على سبيل التقرير وإن كان قد علم وقوع أحدهما وهو قولهم على الله ما لا يعلمون. وقيل: ام، بمعنى بل. والهمزة أي أتقولون استفهام إنكار إذ قد علم أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون.
[2.81-82]
{ بلى } نقض لقولهم: لن تمسنا النار، أي تمسكم النار.
{ من كسب سيئة } من شرطية أو موصولة ويترجح بقسميها والذين آمنوا والسيئة الكفر.
{ وأحاطت به خطيئته } بأن يوافي على الكفر والاحاطة احتفافها به من كل جانب. وقرىء: خطيئته وخطيآته وخطاياه وذكر الخلود دال على الموافاة على الكفر. { والذين آمنوا } لما ذكر حال الكفار ذكر حال من يقابلهم وهم المؤمنون وهناك رتب الخلود في النار على شيئين وهنا رتب الخلود في الجنة على شيئين.
[2.83-84]
{ وإذ أخذنا } وإذ معطوف على الظروف السابقة وهذه الآيات من الواردة في توبيخ بني إسرائيل.
{ ميثاق بني إسرائيل } على لسان موسى والأنبياء عليهم السلام أو ما أخذ عليهم في الكتاب المنزل على نبيهم.
وقرىء { لا تعبدون } بياء الغيبة وبتاء الخطاب ولا تعبدوا نهيا وأخذنا ميثاق في معنى القسم ولا تعبدون جوابه
{ إلا الله } استثناء مفرغ وفيه التفات إذ لو جرى على أخذنا لكان إلا إيانا لكن في هذا الإلتفات من الفخامة والدلالة على سائر الصفات والتفرد بالتسمية ما ليس في المضمر.
{ وبالوالدين } أي الأب والأم ويقال للأم والد ووالدة. والاحسان برهما واكرامهما وإحسانا مصدر في معنى الأمر أي وأحسنوا ببر الوالدين. وتقدم معمول المصدر على سبيل الاعتناء والاهتمام بأمرهما.
{ وذي القربى } أي وصاحب القرابة وفي ذلك صلة الرحم إذ هو مشارك للوالدين في القرابة.
{ واليتامى } وهم الذين مات آباؤهم ولا قدرة لهم تامة على الاكتساب وجاء أنا وكافل اليتيم لهاتين في الجنة.
{ والمساكين } وتأخروا إذ يمكن أن يتعهد نفسه باستخدام وإصلاح معيشة وأريد بذي القربى الجنس ولذلك أفرد ذو وإضافته إلى المصدر تدرج الجميع.
{ وقولوا للناس حسنا } لما اتبع عبادة الله بالاحسان لمن ذكر وهو فعل اتبع ذلك بالقول ليكون الاحسان بالفعل والقول ولما كان إنما هو مجرد لفظ لا بذل مال كان متعلقة الناس عموما. وقرىء حسنا وبضم السين وحسنا بفتحتين وحسنى فعلى.
و { إحسانا } قال ابن عطية في قراءة من قرأ حسني على فعلى قال: رده سيبويه لأن أفعل وفعلى لا تجيىء إلا معرفة إلا أن يزال عنها معنى التفضيل وتبقى مصدرا كالعقبى فذلك جائز وهو وجه القراءة بها. " انتهى ".
وفي كلامه ارتباك كأنه قال: لأن افعل وفعلى لا يجيىء إلا معرفة وليس على ما ذكر اما أفعل فله استعمالات، احدها: أن يكون بمن ظاهرة أو مقدرة أو مضافا إلى نكرة، فهذا لا يتعرف بحال بل يبقى نكرة. والاستعمال الثاني: أن يكون بالألف واللام فإذ ذاك لا يكون إلا معرفة بهما. والاستعمال الثالث: أن يضاف إلى معرفة وفي التعريف بتلك الاضافة خلاف، وذلك نحو: أفضل القوم. واما فعلى فلها استعمالات، احدها: بالألف واللام وتكون معرفة بهما. والثاني: بالاضافة إلى معرفة، نحو: فضلى النساء وفي التعريف بهذه الاضافة الخلاف الذي في أفعل. فقول ابن عطية لأن أفعل وفعلي لا يجيىء إلا معرفة ليس بصحيح وقوله: إلا أن يزال عنها، معنى التفضيل وتبقى مصدرا كالعقبى فذلك جائز ظاهر كلامه ان المعنى إلا أن يزال عن فعلى معنى التفضيل ويبقى مصدرا فيكون فعلى الذي هو مؤنث أفعل إذا أزلت منه معنى التفضيل يبقى مصدرا فليس كذلك بل لا ينقاس مجيىء فعلى مصدرا، إنما جاءت منه ألفاظ يسيرة فلا يجوز أن يعتقد في فعلى التي مذكرها أفعل انها تصير مصدرا إذا زال منها معنى التفضيل.
{ وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } أمر بهاتين العبادتين البدنية والمالية اهتماما بهما وتوكيدا لأمرهما.
{ ثم توليتم } عما طلب منكم من العبادة والاحسان بالفعل والقول والصلاة والزكاة.
{ إلا قليلا منكم } أي أشخاصا قليلين وهم من آمن حقيقة الإيمان من أسلافهم وإن كان خطايا لمن بحضرته عليه السلام كان من القليل عبد الله ابن سلام وأصحابه واحتمال القلة في الإيمان لا في الأشخاص كما قاله ابن عطية بعيد.
وقرىء إلا قليلا - بالنصب - وهو الأفصح. وقرىء - بالرفع - وجعله بدلا من ضمير توليتم لأن في التولي معنى النفي كأنه قال: لم يفوا بالميثاق إلا قليل: قاله ابن عطية. ولا تجيز النحاة البدل من الموجب.
{ وأنتم معرضون } حال مؤكدة إلا أن اختلف متعلق التولي والأعرض كما قال بعضهم توليتم عن عهد ميثاقكم وأنتم معرضون عن هذا النبي صلى الله عليه وسلم.
{ وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون } كقوله: { لا تعبدون } إعرابا وقرىء - بكسر الفاء وضمها - وتسفكون مشدد ومخففا، أي لا تتعاطون ما يؤدي إلى سفك دمائكم، أو لا يسفك بعضكم دم بعض.
{ ولا تخرجون } أي لا يخرج بعضكم بعضا من داره أي بالاساءة فيضطر إلى الإخراج.
{ ثم أقررتم } بالتزام الميثاق وقبوله.
{ وأنتم تشهدون } أن الله أخذه عليكم.
[2.85-86]
{ ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } هذا استبعاد لما أخبر به عنهم من القتل والاجلاء والعدوان بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارهم وشهادتهم، وأنتم: مبتدأ وخبره اسم الاشارة.
وتقتلون: حال ومن كلامهم ها أنت ذا قائما، وها لنا ذا قائما والمقصود من حيث المعنى الاخبار بالحال. وترى: تقتلون - مخففا ومشددا -.
{ وتخرجون فريقا منكم من ديارهم } كان بنو قينقاع حلفاء الأوس وأعداء قريظة، وكان بنو قريظة والنضير حلفاء الخزرج وقريظة والنضير إخوان كما أن الأوس والخزرج إخوان ثم افترقوا فصارت النضير حلفاء الخزرج، وقريظة حلفاء الأوس، فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه فإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم، وإذا أسر الرجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه فعيرتهم العرب بذلك وقالوا: كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم فيقولون أمرنا أن نفديهم وحرم علينا قتالهم ولكنا نستحي أن نذل حلفاءنا.
وقرىء { تظاهرون } بإدغام التاء في الظاء، وتظاهرون بحذف التاء، وتتظاهرون بتاءين، وتظهرون بشد الظاء والهاء، وتظاهرون: مضارع ظاهر. والتظاهر: هو التعاون والتناصر والاثم ما يستحق متعاطيه الذم أو ما تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب. والعدوان: الاعتداء وهو مجاوزة الحد في الظلم.
وقرىء { أسارى } وأسرى.
{ تفادوهم } وتفدوهم: أي لا يناسب من أسأتم إليهم بالإخراج أن تحسنوا إليهم بالفداء.
{ وهو محرم عليكم إخراجهم } تقدم قتل النفس والاخراج من الديار والتظاهر والمفاداة وأكد الاخراج بالنص على تحريمه وإن كان ما سبق محرما لما فيه من الجلاء والنفي لا ينقطع شره إلا بالموت، بخلاف القتل وإن كان فيه إفساد الصورة لكن فيه انقطاع الشر وهو ضمير الشأن. ومحرم: خبر مقدم. وإخراجهم: مبتدأ. والجملة: خبر عن ضمير الشأن. (ووقع لابن عطية في إعراب وهو محرم عليكم إخراجهم أقوال) تنتقد ذكرناها في البحر.
{ أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض } استفهام توبيخ أي ببعض الكتاب الالهي من التوراة وما أنزل على أنبيائكم وتكفرون ببعض من الكتاب الالهي كالانجيل والقرآن المنزل على محمد وذلك كله حق منزل من عند الله فالتفريق بينهما كفر وضلال.
{ فما جزآء من يفعل ذلك منكم } الجزاء يطلق في الخير. وجزاءهم بما صبروا جنة. وفي الشر فجزاؤه جهنم. والخزي: الفضيحة والقصاص فيمن قتل فإن كان الخطاب في أفتؤمنون لمعاصري الرسول صلى الله عليه وسلم جاز أن يراد بالخزي.
{ في الحياة الدنيا } ضرب الجزية عليهم وقتل قريظة وإجلاء النضير إلى اريحاء واذرعات.
{ ويوم القيامة يردون } أي يصيرون.
{ إلى أشد العذاب } وهو الخلود في النار دائما وقرىء يردون بالياء اعتبارا بقوله: من يفعل ذلك، وبالتاء اعتبارا بقوله:
{ أفتؤمنون } أو التفات بالنسبة إلى من يفعل. وقرىء يعملون بالياء وبالتاء.
{ أولئك } إلى الذين تقدم ذكرهم من اليهود الجامعين لتلك الأوصاف القبيحة.
{ اشتروا } مجاز عن إيثار العاجل الفاني على الأجل الباقي والمشتري للشيء هو المؤثر لتحصيله والثمن المبذول فيه مرغوب عنه. وأولئك: مبتدأ. والذين: خبره.
{ فلا يخفف } معطوف على الصلة من عطف الجمل فلا يشترط اتحاد الزمان، كما تقول: جاءني الذي قتل زيدا أمس وسيقتل أخاه غدا فلا يخفف أي يبقى على شدته.
{ ولا هم ينصرون } أى لا يجدون من يدفع عنهم ما حل بهم من عذاب الله وهي جملة اسمية معطوفة على فعل أو يرتفع هم على أنه مفعول لم يسم فاعله فيكون من باب الاشتغال.
[2.87]
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } هو التوراة.
{ وقفينا } ضمن معنى وجئنا.
{ من بعده بالرسل } يقفوا بعضهم بعضا ومن لابتداء الغاية يحكى أن موسى عليه السلام لم يمت حتى نبىء يوشع وبالرسل يوشع وشمويل وشمعون وداود وسليمان وشعيبا وأرميا وعزير وحزقيل والياس ويونس وزكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام وآخرهم وخاتمهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالرسل متعلق بقفينا وقرىء بضم السين وبإسكانها.
{ وآتينا عيسى ابن مريم } إضافة إلى أمه ردا على اليهود والنصارى فيما أضافوه إليه. والبينات الحجج الواضحة الدالة على نبوته من إنزال الانجيل عليه وإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى والاخبار بالمغيبات وخلقه من الطين صورة طائرة فينفخ فيه الله الروح إلى غير ذلك مما دل على نبوته وأجمل ذكر الرسل لأنهم كانوا متبعي شريعة موسى ونص على عيسى لأن شرعه نسخ كثيرا من شرع موسى عليهما السلام وعيسى وزنه عند سيبويه فعلى والألف فيه للإلحاق كألف معزى. وقال أبو عمرو: الداني وزنه فعلل. ومريم باللسان السرياني معناه: الخادم، وباللسان العربي: المرأة الكبيرة خلطة الرجال ومريم مفعل لا فعيل لعدم ثبوته في أبنية كلام العرب وصحة حرف العلة على غير قياس كمزيد.
وقرىء { وأيدناه } وأأيدناه أيد فعل وأأيد أفعل وكلاهما من الأيد وهو القوة أي قويناه.
{ بروح القدس } جبريل عليه السلام. والقدس: الطهارة. وقرىء القدس بضمتين وبإسكان الدال وبواو بعد ضمة الدال وفي الحديث اهج وروح القدس معك. ومرة قال: وجبريل معك. قيل: وخص عيسى بذكر جبريل عليهما السلام معه إذ كان هو الذي بشر مريم بولادته وتولد عيسى بنفخه ورباه في جميع أحواله وكان يسير معه حيث سار وكان معه حين صعد إلى السماء.
{ أفكلما } الاستفهام للتوبيخ وكلما تقتضي التكرار.
{ جآءكم رسول } والخطاب لبني إسرائيل إذ كانوا على طبع رجل واحد من سوء الأدب وتكذيب الرسل وكثرة سؤالهم والشك فيما أتوهم به واجتمع في الخطاب الأسلاف والأخلاف الذين هم معاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هم راضون بأفعال أسلافهم وقد كذبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعموه السم وسحروه. وأسند الهوى إلى الأنفس لا إلى ضمير الخطاب اشعار بأنها تسند إليها السيئات غالبا.
{ استكبرتم } أي تكبرتم من قبول ما أتى به.
{ ففريقا كذبتم } والعطف بالفاء فيه تعقيب التكذيب أي لم تنظروا فيما أتى به بل استكبرتم عن قبول ما أتى به وأعقبتموه بالتكذيب إذ لم يقدروا على قتله.
{ وفريقا تقتلون } واستغنى بذكر قتله عن ذكر تكذيبه وذكر أقبح فعلهم وثم محذوف أي ففريقا منهم كذبتم وآخر تقتلون مضارعا محكيا به الحالة الماضية وتصورت كأنها ملتبس بها مشروع فيها ولمناسبة رؤوس الآي.
[2.88-89]
{ وقالوا } الضمير لأبناء اليهود الذين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ قلوبنا غلف } جمع أغلف وهو الذي لا يفقه كاحمر وحمرا والغلاف: الغشاء، وأصله: التثقيل كخمار وخمر قالوا ذلك بهتا.
{ بل لعنهم الله } أي طردهم الله وأبعدهم. وقرىء غلف بسكون اللام وبضمها.
{ فقليلا ما يؤمنون } ما زائدة وانتصب قليلا على أنه حال على رأي سيبويه، أو نعت لمصدر محذوف على المشهور وتقليل إيمانهم بحسب متعلقة. (وقال) الزمخشري: ويجوز أن تكون القلة بمعنى العدم. تبع ابن الأنباري إذ قال: المعنى: فما يؤمنون قليلا ولا كثيرا. وهذا لا يصح لأن قليلا انتصب بالفعل المثبت فصار نظير ممت قليلا وللقليل الذي يراد به النفي المحض مواضع ذكرها النحويون وهو قولهم أقل رجل يقول ذلك وقل رجل يقول ذلك وقلما يقوم زيد وقليل من الرجال يقول ذلك وقليلة من النساء تقول ذلك. وإذا تقرر هذا فحمل القلة هنا على النفي المحض ليس بصحيح.
{ ولما جآءهم } الضمير عائد على اليهود نزلت فيهم حين كانت غطفان تقاتلهم وتهزمهم وكانوا يلقون من العرب أذى كثيرا حتى أن الأوس والخزرج حاربوهم فغلبوهم.
{ كتاب من عند الله } هو القرآن وصفه بكونه من عند الله جدير أن يقبل ويتبع ما فيه ويعمل بمضمونه إذ هو وارد من عند خالقهم وفي مصحف أبي.
{ مصدق } بالنصب أي.
{ لما معهم } من التوراة والإنجيل ونصبه على الحال من كتاب تخصص بالوصف.
{ وكانوا من قبل } أي من قبل مجيء الكتاب.
{ يستفتحون } أي يستنصرون.
{ على الذين كفروا } وهم المشركون الذين يقاتلونهم أو يفتحون عليهم بأنه قد أظل زمان نبي يبعث نتبعه ومجيء الكتاب يستدعي من ينزل عليه الكتاب وهو النبي وجواب لما تقديره كذبوه.
{ فلما جآءهم ما عرفوا } أي ما سبق لهم تعريفه للمشركين كفروا به وجحدوه وهذا أبلغ في ذمهم إذ كفروا بما علموا كقوله:
وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم
[النمل: 14]. وما: كناية عن الكتاب إذ هو المتقدم في الذكر لما كفرا بما جاءهم من عند الله، وتضمن كفرهم بالكتاب كفرهم بمن جاء به استهانة بالمرسل والمرسل قابلهم تعالى بالاستهانة والطرد وجعل اللعنة مستغلية عليهم جللهم بها. وأل في الكافرين للعموم واندرج فيهم اليهود أو أقيم الظاهر مقام المضمر إشعارا بالوصف الذي استحقوا به اللعنة. (وقال) الزمخشري: ويجوز أن تكون للجنس ويدخلون فيه دخولا أوليا ويعني بالجنس العموم، ودلالته على كل فرد فرد دلالة متساوية فليس بعض الأفراد أولى من بعض.
[2.90-91]
{ بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بمآ أنزل الله } اختلف في إعراب تركيب بئسما اختلافا كثيرا والذي نختاره مذهب سيبويه إن ما: معرفة تامة. كأنه قال: بئس الشيء. والمخصوص بالذم محذوف تقديره شيء اشتروا به أنفسهم وإن يكفروا بدل من ذلك المحذوف. ومذهب الكسائي والفراء: ان ما موصولة اسمية وان يكفروا المخصوص بالذم. وقد عزى ابن عطية هذا القول إلى سيبويه وهو وهم على سيبويه. واشتروا: باعوا. والذي أنزل الله القرآن والتوراة والانجيل إذ فيهما التبشير برسول الله صلى الله عليه وسلم والتنبيه على اسمه وصفته.
{ بغيا } حسدا وظلما وانتصاب بغيا على أنه مفعول من أجله والعامل أن يكفروا.
{ أن ينزل الله } ان مع الفعل بتأويل المصدر أي بغوا لإنزال الله. وتخفيف ينزل وجميع المضارع وتشديده قراءتان إلا ما وقع الاجماع من السبعة على تشديده وهو وما ننزله إلا بقدر معلوم.
{ من فضله } من لاتبداء الغاية.
{ على من يشآء من عباده } هو محمد صلى الله عليه وسلم حسدوه لما لم يكن منهم وكان من العرب وعز النبوة من يعقوب عليه السلام كان في إسحاق فختم بعيسى عليه السلام ولم يكن من ولد إسماعيل نبي سوى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فختمت النبوة على غيرهم.
{ فبآءو بغضب على غضب } أي مترادف متكاثر.
{ وللكافرين } أل للعهد أو للجنس.
{ وإذا قيل لهم آمنوا } هم من بحضرته عليه السلام من اليهود ذموا بما صدر من آبائهم وأسلافهم من قتل الأنبياء إذ كانوا راضين بأفعالهم.
{ بما أنزل الله } هو القرآن أو الكتب الالهية التي منها القرآن.
{ قالوا نؤمن بمآ أنزل علينا } وهو التوراة وما جاءهم على لسان أنبيائهم.
{ ويكفرون بما ورآءه } جملة مستأنفة الاخبار عنهم. بما وراءه أي بما جاء بعد كتابهم وهو القرآن.
{ وهو الحق مصدقا لما معهم } حال مؤكدة لأن كتب الله تعالى يصدق بعضها بعضا فالتصديق لازم لا ينتقل.
{ قل فلم تقتلون } الفاء جواب شرط مقدر دل عليه المعنى أي قل لهم إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم تقتلون أنبياء الله لأن الإيمان بالتوراة واستحلال قتل الأنبياء لا يجتمعان وجاء تقتلون وإن كان قتل أسلافهم الأنبياء قد مضى تنبيها على أن جاحدي الرسول لهم حظ في ذلك بالرضا. وفي إضافة أنبياء إلى الله تشريف عظيم لهم وإن من جاء من عند الله جدير أن يعظم وأن ينصر.
{ إن كنتم مؤمنين } شرط جوابه محذوف أي فلم فعلتم ذلك وهي جملة مؤكدة حذف الشرط أولا وجوابه فلم وحذف الجواب ثانيا وشرطه مذكور.
[2.92-95]
{ ولقد جآءكم موسى بالبينات } أي الآيات الواضحة.
{ ثم اتخذتم العجل من بعده } أي من بعد مجيئه لكم بالآيات.
{ وإذ أخذنا ميثاقكم } كرر هذا لدعواهم أنهم مؤمنون بما أنزل عليهم وهم كاذبون إذ في التوراة افراد الله تعالى بالعبادة لا عبادة العجل وهناك أعقب عبادة العجل بذكر العفو عنهم وتعداد النعم عليهم وهنا أعقب ذلك بالتقريع لهم والتوبيخ.
{ واسمعوا } أي متدبرين لما سمعتم أو أطيعوا.
{ قالوا سمعنا وعصينا } قال ابن عباس: كانوا إذا نظروا العذاب قالوا سمعنا وأطعنا وإذا نظروا إلى الكتاب.
{ قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا } معطوف على قالوا أو حال أي وقد اشربوا والعامل قالوا.
{ في قلوبهم العجل } أي حب العجل والاشراب المخالطة.
{ بكفرهم } الباء للسبب أي الحامل لهم على عبادة العجل كفرهم السابق.
{ قل بئسما يأمركم به إيمانكم } تقدم اختيارنا في إعراب ما والمخصوص بالذم محذوف أي عصيانكم وعبادتكم العجل وإيمانكم على سبيل التهكم أو إيمانكم الذي زعموا في قلوبهم نؤمن بما أنزل علينا.
{ إن كنتم مؤمنين } قد يخرج الشرط على جهة الامكان ومعلوم من خارج أنه ليس على جهة الامكان بل متعين امتناعه كقوله:
إن كنت قلته فقد علمته
[المائدة: 116] ومعلوم أنه لم يقله. وكذلك هذا معلوم أنهم غير مؤمنين. وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله أي فبئسما يأمركم به إيمانكم.
(وقال ابن عطية): الجواب متقدم ولا يتمشى قوله هذا إلا على مذهب من يجيز تقدم جواب الشرط وليس مذهب جمهور البصريين ولو فرضناه جوابا للزوم دخول الفاء، لأن الفعل الجامد أو الدعاء إذا وقع جوابا لزمته الفاء. وقيل: إن نافية، قالت اليهود: إن الله لم يخلق الجنة إلا لإسرائيل وبنيه، فنزلت:
{ قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة } والدار الآخرة الجنة وذلك معهود في إطلاقها أو على حذف مضاف أي نعيم الدار الآخرة وحضرتها ومعنى عند الله: في حكم الله. كقوله:
فأولئك عند الله هم الكاذبون
[النور: 13]. وخالصة: مختصة بكم لاحظ لغيركم فيها وخبر كانت لكم. وخالصة حال. ولا يجوز أن يكون الظرف إذ ذاك الخبر لأنه لا ليستقل معنى الكلام به وحده ودون لفظة تستعمل للاختصاص وقطع الشركة تقول: هذا لي دونك أو من دونك، أي لا حق لك فيه ولا نصيب وفي غير هذا الاستعمال تأتي بمعنى الانتقاص في المنزلة أو المكان أو للمقدار والمراد بالناس غير اليهود.
{ فتمنوا الموت } أي بقلوبكم وسلوه بالقول.
{ إن كنتم صادقين } في دعواكم خلوص الجنة لكم وحدكم. وقرىء: فتمنوا الموت - بكسر الواو وبالفتح والضم - وجواب الشرط محذوف، أي فتمنوه لأن من أيقن أنه من أهل الجنة اختار أن يتخلص من دار الأكدار وينتقل إلى دار القرار.
{ ولن يتمنوه أبدا } هذا من المعجزات لأنه اخبار بالمغيب كقوله:
فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا
[البقرة: 24]. وفي الحديث:
" لو تمنوا الموت لغص كل إنسان بريقه فمات مكانه ولما بقي على وجه الأرض يهودي إلا مات "
ولما علم اليهود صدقه أحجموا عن تمنيه فرقا من الله أن يميتهم. وابدا: يقتضي استغراق أعمارهم خلافا لمن زعم أن ذلك مختص بعهد الرسول عليه السلام ثم ارتفع بوفاته أو كان ذلك في أيام كثيرة عند نزوله.
{ بما قدمت أيديهم } من تكذيب الأنبياء وقتلهم إياهم وعبادة العجل وغير ذلك من مخازيهم وأسند التقديم لليد إذ هي عظم الأعضاء في التصرف.
{ والله عليم بالظالمين } تهديد.
[2.96]
{ ولتجدنهم أحرص الناس على حياة } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم. ووجد بمعنى علم يتعدى إلى اثنين وهو قول من وقفت على كلامه من المفسرين في تجد هنا ويحتمل أن يكون بمعنى لقي وأصاب وأحرص حال أن قلنا أن إضافته غير محضة وقد أضيفت إلى اسم معرفة فيجوز الافراد كهذا والمطابقة كقوله: أكابر مجرميها، وتعين الافراد ليس بصحيح خلافا لمن قاله والضمير عائد على اليهود.
و { الناس } أل فيه للجنس.
{ ومن الذين أشركوا } هم المجوس أو مشركوا العرب لأن من لا يؤمن ببعث فليس عنده إلا نعيم الدنيا أو بؤسها ونكر حياة أي أدنى حياة وهو أقل ما ينطلق عليه اللفظ وقرىء على الحياة ومن يحتمل أن يكون مندرجا تحت ما قبله مراعاة للمعنى، إذ معناه: إحرص من الناس. أو يكون التقدير واحرص من الذين أشركوا وحذف إحرص لدلالة السابق عليه وهو تخصيص بعد تعميم وفيه أعظم توبيخ لليهود إذ هم أهل الكتاب يرجون ثوابا ويخافون عقابا ويحتمل أن لا يكون مندرجا بل أخبر أنه من الذين أشركوا قوم.
{ يود أحدهم } وحذف المبتدأ كما حذف في قولهم: منا ظعن ومنا أقام. وعلى القول الأول يكون يود استئناف إخبار أحدهم، أي واحد منهم وهو عام عموم البدل. و " لو " عند بعض الكوفيين مصدرية بمعنى أن التقديران " يعمر " وعلى قواعد البصريين لو على بابها ومفعول يود محذوف أي التعمير لدلالة لو يعمر وجواب لو محذوف أي لسر لذلك ووده.
وقال الزمخشري: فإن قلت كيف اتصل لو يعمر بيود أحدهم؟ قلت: هو حكاية لودادتهم ولو في معنى التمني وكان القياس لو أعمر إلا أنه جرى على لفظ الغيبة قوله: يود أحدهم. كقولك: حلف بالله ليفعلن. انتهى كلامه وفيه بعض إبهام وذلك أن يود فعل قلبي وليس فعلا قوليا ولا معناه معنى القول، وإذا كان كذلك فكيف يقول هو حكاية لودادتهم إلا أن ذلك لا يسوغ إلا على تجوز وذلك أن يجري يود معنى يقول، لأن القول ينشأ عن الأمور القلبية فكأنه قال: يقول أحدهم عن ودادة من نفسه لو أعمر ألف سنة وما هو أي أحدهم وهو اسم ما إن كانت حجازية ومبتدأ إن كلت تميمية.
و { بمزحزحه } في موضع الخبر. وان يعمر: فاعل بمزحزحة، أي: وما أحدهم بمزحزحة.
{ من العذاب } تعميره وقالت مزقة: هو عماد وذلك أن العماد في مذهب بعض الكوفيين يجوز أن يتقدم مع الخبر على المبتدأ فإذا قلت: ما زيد هو القائم. جوزوا أن يقول: ما هو القائم زيد. فتقدير الكلام عندهم وما تعميره هو بمزحزحة ثم قدم الخبر مع العماد فجاء وما هو بمزحزحة من العذاب.
{ أن يعمر } أي تعميره ولا يجوز ذلك عند البصريين لأن شرط الفصل عندهم أن يكون متوسطا. وأجاز أبو علي في الحلبيات ان يكون هو ضمير الشأن وهذا ميل منه إلى مذهب الكوفيين وهو أن نفسر ضمير الشأن وهو المسمى عندهم بالمجهول يجوز أن يكون غير جملة إذا انتظم اسنادا معنويا نحو: ظننته قائما زيد وما هو بقائم زيد، فهو مبتدأ ضمير مجهول عندهم، وبقائم في موضع الخبر، وزيد فاعل بقائم، فكأن المعنى عندهم: ما هو يقوم زيد. ولا يجوز في مذهب البصريين أن يفسر إلا بجملة مصرح بجزأيها سالمة من حرف جر .
وقرىء { بما يعملون } بالياء جريا على الغيبة، وبالتاء على سبيل الالتفات ويتضمن التهديد والوعيد وكنى ببصير عن عليم مبالغة في إدراك الخفيات.
[2.97-98]
{ قل من كان عدوا لجبريل } جبريل: اسم ملك علم ممنوع الصرف للعلمية والعجمة وليس مشتقا ولا مركبا تركيب حضرموت. وأجمع أهل التفسير أن اليهود قالوا: جبريل عدونا لكونه يأتي بالهلاك والخسف والجدب ولدفاعه عن بخت نصر، حين أردنا قتله حتى خرب بيت المقدس وأهلكنا، ولكونه يطلع محمدا على سرنا والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم بقل ومن شرطية.
{ فإنه } أي جبريل.
{ نزله } أي القرن. وصرح الزمخشري: بأن الجواب فإنه نزله وهو خطأ لعرو الجملة من ضمير يعود على اسم الشرط بل الجواب محذوف لدلالة ما بعده عليه، أي فعداوته لا وجه لها ولا يبالي بها.
و { مصدقا } حال من مفعول نزله ومناسبة دليل الجزاء للشرط هو أن من كان عدوا لجبريل فعداوته لا وجه لها لأنه هو الذي نزل القرآن المصدق للكتب والهادي والمبشر لمن آمن ومن كان بهذه المثابة فينبغي أن يحب ويشكر إذ كان به سبب الهداية والتنويه بما في أيديهم من كتب الله وأتى بلفظ على التي تقتضي الاستعلاء، إذ هو حمليه متابع لما يلقى إليه مطيع بالعمل بما يقتضيه والقلب محل العقل والعلم وتلقي الواردات وجاء قلبك بكاف الخطاب تشرفا له عليه السلام.
{ بإذن الله } أي بأمره وتمكينه إياه من هذه المنزلة.
{ من كان عدوا لله } عداوة العبد لله مجاز ومعناه مخالفة الأمر.
{ وملائكته } اندرج فيهم جبريل.
{ ورسله } أي من بني آدم وممن أرسله الله من الملائكة.
{ وجبريل } قرنه تعالى باسمه واندرج تحت عموم الملائكة والرسل، ثم أفرده بالذكر تخصيصا له وتشريفا. ونص على ميكال وهو الذي قالت اليهود: لو كان ميكائيل صاحب محمد لابتغاه لأنه يأتي بالخصب والسلم وقرنهما معا تنويها بهما وإن من بغض جبريل ببغض ميكال وقرىء جبريل وجبريل وجبرئيل وجبرئل وجبرييل وجبرآئيل وجبرايل وجبرال وجبرين وجبرآئن. وقال أبو جعفر النحاس: جمع جبريل جمع التكسير على جباريل على اللغة العالية، وميكال اسم ملك. وقرىء: وميكال وميكاييل وميكائيل وميكايل وميكييل وجواب الشرط محذوف أي فهو كافر لدلالة ما بعده عليه أو فإن الله وأقام الظاهر مقام المضمر أي عدو له وفيه نص على علة العداوة وعداوة الله للعبد مجازاته على مخالفته.
[2.99-100]
{ ولقد أنزلنآ } هو التفات.
{ إليك آيات بينات } أي واضحة الدلالة لا الباس فيها فعدم الإيمان بها ليس بشبهة.
{ وما يكفر بهآ إلا الفاسقون } أي الكافرون. وأل للجنس أو للعهد في اليهود لأن سياق ما قبله وما بعده يدل عليهم.
{ أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم } نزلت في مالك بن الصيف. ويقال: ابن الصيب، قال: والله ما أخذ علينا عهد في كتابنا أن نؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وتدل كلما على تكرير العهد فيدخل فيه العهد الذي أخذ عليهم أن محمدا إن بعث ليؤمنن به وليكونن معه وعهد قريظة والنضير وقرىء بفتح الواو ويقدره الزمخشري اكفروا بالآيات البينات. وكلما وتقدم ان مذهب النحاة في هذا ونظائره واكلما وقدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وقرىء أو بسكون الواو وخرجه الزمخشري على العطف على الفاسقين وقدره وما يكفر بها إلا الذين فسقوا أو نقضوا عهد الله مرارا كثيرة. " انتهى ".
وينبو هذا التركيب عن إفادة هذا المعنى وخرج على أن أو بمعنى بل وهو رأي كوفي. والأولى عندي تخريج ذلك على أن أو بمعنى الواو إذ قد ثبت وجود ذلك في لسان العرب، وانتصب عهدا على أنه مصدر على غير المصدر أي معاهدة أو على أنه مفعول به لتضمن عاهدوا معنى أعطوا. نبذة: أي طرحه كناية عن نقضه كأن العهد شيء مجسد رمي به فريق منهم. الفريق: اسم جمع لا واحد له يطلق على القليل والكثير وهنا استعمل في القليل لدلالة قوله:
{ بل أكثرهم لا يؤمنون } وبل للانتقال من خبر إلى خبر. والضمير في أكثرهم عائد على من عاد عليه ضمير عاهدوا أو عائد على الفريق وأكثرهم لا يؤمنون مبتدأ وخبر.
[2.101-102]
{ ولمآ جآءهم } أي اليهود.
{ رسول من عند الله } هو محمد صلى الله عليه وسلم ففيه التفات إذ خرج من خطاب إليك إلى اسم الغائب ووصف بأنه من عند الله تفخيما لشأنه إذ الرسول على قدر المرسل ووصفه بأنه:
{ مصدق لما معهم } وتصديقه كونه على الوصف الذي ذكر في التوراة وعلى ما جاء في الكتب الالهية وكونه مصدقا لما معهم من الكتب الالهية. وقرىء مصدقا على الحال.
{ نبذ فريق من الذين أوتوا الكتب } وهو التوراة.
{ كتب الله } وهو القرآن.
{ ورآء ظهورهم } هو مثل يضرب لمن أعرض عن الشيء جملة تقول العرب: جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه.
و { كأنهم لا يعلمون } جملة حالية. أي لا يعلمون أنه كتاب الله لا يداخلهم فيه شك لثبوته عندهم وإنما نبذه على سبيل المكابرة والعناد أو لا يعلمون ما أمروا به من اتباع الرسول عليه السلام.
{ واتبعوا ما تتلوا الشيطين } قتلوا أي تتبع أو تقرأ وهو مضارع في معنى الماضي أي ما قلت والظاهر أن الشياطين هم الجن وقرىء الشياطون. وقالت العرب: بستان فلان حوله بساتون.
{ على ملك سليمن } أي على شرعه ونبوته وحاله كتبت الشياطين السحر واختلقته ونسبته إلى سليمان وآصف.
{ وما كفر سليمن } تنزيه له عليه السلام من الكفر. أي ليس ما اختلقته الجن تعاطاه سليمان لأنه كفر. وفيه نفي الشيء عن من لا يمكن وقوعه منه. وفي الحديث لما ذكر الرسول عليه السلام سليمان في الأنبياء قال بعض اليهود: انظروا إلى محمد يذكر سليمان في الأنبياء وما كان إلا ساحرا.
{ ولكن الشيطين كفروا } وقرىء ولكن بالتشديد ونصب الشياطين وبالتخفيف والرفع ووقعت لكن بين نفي وإثبات وهي بسيطة وجهة الاستدراك أنه لما نفي الكفر عن سليمان وكان الشياطين قد سخرت له بحيث يستعلمهم فيما يشاء فقد يتوهم أنهم لا يكفرون إذ هم في خدمة نبي فاستدرك أنهم كفروا.
{ يعلمون الناس السحر } وهو الظاهر والأقرب أو اليهود العائد عليهم ضمير واتبعوا وهي استئناف اخبار واختلفوا في حقيقة السحر على أقوال ونص القرآن والحديث أنه تخييل ولا شك في وجوده في زمان الرسول عليه السلام وأما في زماننا الآن فكلما وقفنا عليه من كتبه فهو كذب وافتراء لا يترتب عليه شيء ولا يصح منه شيء البتة.
{ ومآ أنزل على الملكين } وما أنزل معطوف على السحر قيل أو على ما تتلو أو على ملك سليمان وهما ضعيفان للفصل بينهما بثلاث جمل والذي قال: ما نافية ينافي قوله.
{ وما يعلمان } وقرىء الملكين - بفتح اللام وكسرها - وقال ابن عباس: هما رجلان ساحران كانا ببابل لأن الملائكة لا تعلم الناس السحر.
" انتهى ".
وعلى فتح اللام إطلاق الملكين عليهما مجاز وجه المجاز أنهما يعلمان ما قذف في قلوبهما وعبر عنه بالانزال فكأنهما ملكان يلقيان للناس ما ليس معهودا لهم.
{ ببابل } قال ابن مسعود: هي في سواد الكوفة.
{ هروت ومروت } عطف بيان أو بدل وهما أعجميان وقول من قال مشتقان من الهرت والمرت خطأ.
{ وما يعلمان من أحد } قرىء بالتشديد والتخفيف واحد هنا المستعمل في النفي لا بمعنى واحد.
{ حتى يقولا } غاية أي إلى أن يقولا.
{ إنما نحن فتنة فلا تكفر } قال علي كرم الله وجهه: كانا يعلمان تعليم إنذار لا تعليم دعاء إليه كأنهما يقولان لا تفعل كذا فيكون منه كذا.
{ فيتعلمون } أي فهم يتعلمون أو هو معطوف على يعلمان المنفية لكونها موجبة في المعنى.
{ منهما } أي من هاروت وماروت.
{ ما يفرقون به بين المرء وزوجه } أي يفرقون الالفة والمحبة بحيث تقع البغضاء أو تفريق الذين بحيث إذا تعلم فقد كفر. وقرىء المرء بتثليث الميم وبالهمز والمر بكسر الراء وبشدها من غير همز فيهما.
{ وما هم بضآرين به } أي بما يفرقون.
{ من أحد } وقرىء بضاري وخرج على حذف النون من اسم الفاعل وإن لم يكن فيه أل وله نظير في نثر العرب ونظمها وقيل حذفت لأجل الاضافة إلى أحد وفصل فيه بين المتضايفين كقوله: هما إخواني في الحرب من لا أخاله إذا خاف يوما بنوه فدعاهما.
وهذا اختيار الزمخشري ثم استشكل ذلك لأن أحدا مجرور بمن فكيف يمكن أن يعتقد فيه أنه مجرور بالاضافة فقال: فإن قلت: كيف يضاف إلى أحد وهو مجرور بمن قلت جعل الجار جزأ من المجرور. " انتهى ".
وهذا التخريج ليس بجيد لأن الفصل بين المتضايفين بالظرف والجار والمجرور من ضرائر الشعر وأقبح من ذلك أن لا يكون ثم مضاف إليه لأنه مشغول بعامل آخر فهو المؤثر فيه لا الاضافة وأما جعل حرف الجر جزأ من المجرور فهذا ليس بشيء لأنه يؤثر فيه وجزء الشيء لا يؤثر في الشيء. ومن في من أحد زائدة وقياسها أن تزاد في المفعول المعمول للفعل الذي يباشره حرف النفي نحو: ما ضربت من أحد وهنا حملت الجملة من غير الفعل والفاعل على الجملة منهما لأن المعنى وما يضرون من أحد.
{ إلا بإذن الله } استثناء مفرع من الأحوال فهو حال من فاعل بضارين.
{ ويتعلمون ما يضرهم } لم يقتصر على ضرر من يفعل به ذلك بل يحصل الضرر لمن يفرق بينهما.
{ ولا ينفعهم } معطوف على جملة ما يضرهم والضمير في علموا عائد على من عادت عليه الضمائر. قيل: وعلموا معلقة فإن كانت متعدية لواحد كانت الجملة في موضعه أو لاثنين كانت في موضعهما ويظهر الفرق في العطف واللام في:
{ ولقد } جواب قسم محذوف. ومن، موصولة، واللام فيهما معلقة، ويبعد أن تكون من شرطا، ولمن: جواب قسم وضمن فعل الشرط لفظا ومعنى والضمير المنصوب في:
{ لمن اشتراه } عائد على السحر.
{ ما له في الآخرة من خلق } الجملة خبر من أن كانت موصولة وجواب القسم إن كانت شرطا. والخلاق: النصيب.
{ ولبئس ما شروا } تقدم الكلام في بئسما. شروا: باعوا.
{ به } أي بالسحر.
[2.103-107]
{ ولو أنهم آمنوا } في موضع مبتدأ وعلى مذهب المبرد في موضع الفاعل بفعل محذوف، أي ولو ثبت إيمانهم ولو هنا هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره.
(وتجويز) الزمخشري فيها التمني بعيد جدا وجواب لو محذوف تقديره لأثيبوا وحذف جواب لو لدلالة المعنى عليه كثير، واللام في لمثوبة لام قسم، وقيل: اللام في " لمثوبة " هي الداخلة في جواب لو، والجواب هو الجملة الاسمية وهو اختيار الزمخشري. ولم يعهد في لسان العرب مجيء جواب لو جملة إسمية إلا هذا المختلف في تخريجه ولا تثبت القواعد الكلية بمثل هذا المحتمل الخارج عن النظائر والمثوبة الثواب وقرىء لمثوبة - بفتح الميم - كمشورة والتصحيح شاذ وكان القياس لمثابة.
(ح) ذو تكون بمعنى صاحب وتثني وتجمع وتؤنث وتلزم الاضافة لاسم جنس ظاهر وفي إضافتها إلى ضمير الجنس خلاف المشهور المنع ولا خلاف أنه مسموع لكن من منع ذلك خصه بالضرورة وإضافته إلى العلم المقرون به في الوضع أو الذي لا يقرن به في أول الوضع مسموع فمن الأول قولهم ذو يزن وذو جدن وذرو عين وذو الكلاع فتجب الاضافة إذ ذاك.
ومن الثاني قولهم في تبوك وعمرو وقطري ذو تبوك وذو عمرو وذو قطري والأكثران لا يعتد بلفظ ذو بل ينطق بالاسم عاريا من ذو وما جاء من إضافته لضمير العلم أو لضمير مخاطب لا ينقاس كقولهم اللهم صل على محمد وعلى ذويه وقول الشاعر:
وإنا لنرجو عاجلا منك مثل ما
رجوناه قدما من ذويك الأفاضل
وسيبويه يذهب إلى أن وزنه فعل بفتح العين وقال الخليل فعل بسكونها واتفقوا على أنه يجمع على أفعال في التكسير قالوا اذواء وذو من الأسماء الستة التي تكون في الرفع بالواو وفي النصب بالألف وفي الجر بالياء وإعراب ذو كذا لازم بخلاف غيرها من تلك الأسماء فذلك على جهة الجواز وفيما أعربت به هذه عشرة مذاهب ذكرت في النحو وقد جاءت ذو موصولة وذلك في لغة طيء ولها احكام ولم يقع في القرآن والوصف بذو أشرف عندهم من الوصف.
{ ياأيها الذين آمنوا } هذا أول خطاب خوطب به المؤمنون في هذه السورة بالنداء الدال على الاقبال عليهم.
{ لا تقولوا راعنا } هو أمر من المراعاة يقتضي المشاركة مع من يعظم غالبا أي ليكن منك رعى لنا ومنا رعى لك نهوا أن ينطقوا بلفظ يقتضي المشاركة مع من يعظم وتضمن هذا النهي. والنهي عن كل ما يكون فيه استواء مع النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما إن صح أن اليهود لعنهم الله كانوا يخاطبون النبي صلى الله عليه وسلم بلفظ يقصدون به الغض منه عليه السلام.
قال محمد بن جرير رحمه الله: هي كلمة كره الله أن يخاطب بها نبيه عليه السلام. وقرىء راعنا - بالتنوين - وخرج على أنه نعت لمصدر محذوف، أي قولا راعنا أي: متصفا بالرعن.
{ وقولوا انظرنا } قراءة الجمهور موصول الهمزة مضموم الظاء والأصل في نظر البصرية ان تعدى بالى ثم يتسع فيه فيعدي بنفسه كقوله تعالى:
انظرونا نقتبس من نوركم
[الحديد: 13]. وقال الشاعر:
ظاهرت الجمال والحسن ينظرن
كما تنظر الأراك الظباء
أي إلى الاراك فيكون أنظرنا من نظر العين الذي يصحبه التدبر في حال المنظور إليه وقرىء انظرنا بقطع الهمزة وكسر الظاء أي اخرفا وامهلنا حتى نتلقى عنك.
{ واسمعوا } أي سماع قبول وطاعة لما نهيتم عنه وما أمرتم به.
{ وللكافرين } عام في اليهود وغيرهم ذكر أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم. فقالوا: وددنا لو كان خيرا مما نحن عليه فنتبعه فاكذبهم الله بقوله:
{ ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب } وهم اليهود والنصارى الذين بحضرته عليه السلام.
{ ولا المشركين } مشركوا العرب وغيرهم ومن للتبعيض ومن أثبت أن من لبيان الجنس قال ذلك هنا وبه قال الزمخشري: ولا المشركين معطوف على أهل الكتاب، وكونه معطوفا على الجوار كلام لغير نحو ودخلت لا للتوكيد.
ومن في:
{ من خير } زائدة تدل على استغراق الجنس وحسن زيادتها وإن كان ينزل لم يباشر حرف النفي لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى لأنه إذا نفيت الودادة للإنزال كان كأنه نفي لمتعلقها وهو الانزال.
ومن في: { من ربكم } لابتداء الغاية فيتعلق بخير، أو للتبعيض فيتعلق بمحذوف أي من خيور ربكم.
و { يختص } إن كان لازما فمن فاعل أو متعديا فمفعول وفي يختص ضمير يعود على الله.
والرحمة النبوة. والقرآن وهو الخير الذي لا يوده الكفار. وذو بمعنى صاحب. وقيل: والوصف به أشرف من الوصف بصاحب. والفضل عام في جميع أنواع التفضلات ولما تقدم إنزال الخير وكان من المنزل ما نسخ وحولت القبلة إلى الكعبة طعن في ذلك اليهود وقالوا: يأمر أصحابه اليوم بأمر وينهى عنه غدا. فنزلت:
{ ما ننسخ من آية } وما شرطية مفعول بننسخ. وقرىء: ننسخ من نسخ وننسخ من أنسخ والهمزة عند الفارسي للوجود كهي في أحمدت الرجل وجدته محمودا. قال: وليس نجده منسوخا إلا بأن نسخه فتتفق القراءتان وعند الزمخشري وابن عطية الهمزة للتعدية.
قال الزمخشري: وإنساخها الأمر بنسخها بأن الأمر جبريل أن يجعلها منسوخة.
وقال ابن عطية: ما ننسخك من آية، أي: ما نبيح لك نسخه. جعل الاباحة إنساخا. ومن في: من آية، للتبعيض وآية مفرد وقع موقع الجمع أي من الآيات، وليس: تمييزا ولا من زائدة فتكون آية حالا، أي: أي شيء ننسخ قليلا أو كثيرا.
ولا مفعولا به. وما شرط مصدر أي: أي نسخ ننسخ آية.
وقرىء { أو ننسها } مضارع انسى من النسيان أي أو ما ننسك من آية. وفسر النسخ بالرفع لفظا وحكما أو حكما دون لفظ، وقراءة الهمزة من التأخير.
{ نأت } هو جواب الشرط.
{ بخير منها } الظاهر أن خيرا أفعل التفضيل والخيرية ظاهرة لأن المأتى به إن كان أخف من المنسوخ أو المنسوء فخيريته بالنسبة لسقوط أعباء التكليف وان كان أثقل فخيريته بالنسبة إلى زيادة الثواب.
{ أو مثلها } أي مساو لها في التكليف والثواب.
{ ألم تعلم } تقرير أي قد علمت أيها السامع. وجعله استفهاما محضا ومعادلة أم علمت أو أم تريدون قول من لم يذق فصاحة كلام العرب وبلاغته ووصفه تعالى بالقدرة فلا يعجزه شيء فلا ينكر النسخ لأنه تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا مراد لأمره.
{ ألم تعلم } تقرير ثان لما ذكر صفة القدرة ذكر صفة الاستيلاء والملك. ولما ذكر هاتين الصفتين اعلم أنه تعالى لا يعجزه عما يريد شيء ولا مغالب له فيما يريد اقترحوا على النبي صلى الله عليه وسلم أنواعا من الاقتراحات كجعل الصفا ذهبا وتوسيع أرض مكة وغير ذلك.
[2.108-109]
و { أم } منقطعة تقدير ببل، والهمزة وهو استفهام على معنى الانكار، وأبرز ذلك في صورة الانكار بصيغة المستقبل وإن كان قد وقع ذلك منهم استبعادا لوقوعه ولإرادته.
{ كما سئل موسى من قبل } من نحو قولهم: اجعل لنا إلها لما لهم آلهة ولن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. وما مصدرية في كما. وقرىء: سئل بإخلاص الضم وبالاشمام وبالياء وبتسهيل الهمزة بين بين وضم السين وبكسرها وبالياء ومن قبل تأكيد لأن سؤال اليهود موسى متقدم.
{ ومن يتبدل الكفر بالإيمان } هذه كناية عن الإعراض عن الإيمان والاقبال على الكفر، إذ لم يكن لهم إيمان سابق تبدلوا به الكفر.
{ فقد ضل سوآء السبيل } أي وسطه واعتداله وأبرز ذلك في صورة الشرط وكأنه لم يقع تنفيرا لهم وتبعيدا عن ذلك.
{ ود كثير من أهل الكتاب } هم اليهود. والكتاب: التوراة.
وتقدم الكلام في { لو } عند قوله: يود أحدهم لو يعمر. ومن جعل للو جوابا قدره لسروا بذلك أو لفرحوا وقول من قدره لودوا ذلك مناقض لقوله ود ويود بمعنى تصير.
و { حسدا } مفعول من أجله وانتصابه على أنه مصدر لفعله المحذوف أو مصدر في موضع الحال ليس بجيد.
{ من عند أنفسهم } أي كائنا من عند أنفسهم أي الحامل لهم على الحسد هو أنفسهم الخبيثة الأمارة بالسوء.
{ من بعد ما تبين لهم الحق } أي كفرهم عناد والحق وضوح رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعجزاته.
{ فاعفوا واصفحوا } هذا موادعة.
{ حتى يأتي الله بأمره } من قتالهم وتمكينه منهم ونصره عليهم. ثم أنس المؤمنين بذكر قدرته على كل شيء وبمخاطبتهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وهما قوام الدين.
[2.110-111]
{ وما تقدموا لأنفسكم من خير } يندرج في عموم هذا الخير الصلاة والزكاة.
{ تجدوه } أي ثوابه.
{ عند الله } وكني بقوله:
{ بصير } عن علمه بحيث أنه لا يخفى عليه شيء وبصير من بصر أو فعيل من أفعل.
اختصم يهود المدينة ونصارى نجران وتناظروا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكى الله عنهم ما قالوه ولفوا في الضمير في وقالوا لأن القول صدر من الجميع ثم جيء (با) والتي للتفصيل فعاد هودا لمن قال: كونوا هودا ونصارى، لمن قال: كونوا نصارى ، وهذه كقوله:
كونوا هودا أو نصارى تهتدوا
[البقرة: 135]. ومعلوم أن اليهوي لا يأمر بالنصرانية ولا النصراني يأمر باليهودية وهود جمع هائد كعائد وعود وهو جمع لا ينقاس في فاعل وحمل الضمير في من كان على لفظ من، فأفرد وحمل الخبر على معنى من فجمع وفي هذا وقول الشاعر:
* وأيقظ من كان منكم نياما *
رد على من زعم أنه لا يجوز الجمع بين الجملتين في مثل هذه الصورة. ولن في النفي أبلغ من لا.
{ تلك أمانيهم } جملة معترضة بين قولهم وبين طلب الدليل على صحة دعواهم أي تلك المقالة أمانيهم فإن حمل على ظاهره فذلك من الأماني التي لا تقع بل يستحيل وقوعها والا فأمانيهم أكاذيبهم وتلك يشار بها إلى الوحدة المفردة وإلى الجمع غير المسلم من المذكر والمؤنث فحمله الزمخشري على الجمع قال: أشير بها إلى الأماني المذكورة وهي أمنيتهم أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربهم وأمنيتهم أن يردوهم كفارا وأمنيتهم أن لا يدخل الجنة غيرهم، أي تلك الأماني الباطلة. " انتهى ". وما ذهب إليه في الوجه الأول ليس بظاهر لأن كل جملة ذكر فيها ودهم لشيء قد انقطعت وكملت واستقلت في النزول فيبعد أن يشار إليها وما ذهب إليه في الوجه الثاني فيه مجاز الحذف وفيه قلب الوضع إذ الأصل أن تكون تلك مبتدأ، وأمانيهم خبرا، فقلب هذا الوضع إذ قال: أمانيهم في البطلان مثل أمنيتهم هذه، وفيه أنه متى كان الخبر مشبها به المبتدأ فلا يجوز تقديمه، مثل: زيد زهير. نص على ذلك النحويون. فإن تقدم ما هو أصل في أن يشبه به كان من عكس التشبيه ومن باب المبالغة إذ جعل الفرع أصلا، والأصل فرعا، كقولك: الأسد زيد شجاعة.
{ قل هاتوا برهانكم } إذا ادعى شيء طولب المدعي بالدليل على صدق دعواه وهات فعل متصرف. يقال: هاتي يهاني مهاناة. ويتصل بها الضمائر يقلل: هاتي وهايتا وهاتوا وهاتين، يتصرف تصرف راعي، والبرهان مشتق من البره وهو القطع، أو من البرهنة وهي البيان.
{ إن كنتم صادقين } في دعواكم فهاتوا البرهان.
[2.112-113]
{ بلى } رد لقولهم لن يدخل الجنة. والمعنى: يدخلها غيركم ممن اتصف بالوصف الذي يأتي بعد والظاهر أن من مبتدأة موصولة أو شرطية وجوز أن تكون فاعلا بمضمر، أي: يدخلها.
{ من أسلم } وعبر بالوجه عن الجملة إذ هو أشرف الأعضاء، وفيه الحواس والاسلام الانقياد.
{ لله } تعالى.
{ وهو محسن } أي بالعمل ومراقب من يعمل له.
{ ولا خوف عليهم } حمل على معنى من بعد تقدم الحمل على اللفظ - واليهود: ملة معروفة وهو جمع يهودي كروم ورومي يعرف الجمع بال ويهود اسم علم للقبيلة تمتنع من الصرف للعلمية والتأنيث والياء أصل، يقال: يهده وليس من مادة هود، يقال في هذا: هوده. وجاز أن يكون اليهود والنصارى الذين تخاصموا بحضرة الرسول عليه السلام. وجاز أن تكون أل للجنس إذ كل منهم يعتقد في مقابلة ذلك ألا ترى أن اليهود أنكرت نبوة عيسى والانجيل وقالوا في عيسى عليه السلام ما قالوا وأنكرت النصارى ما عليه اليهود.
وعلى شيء مبالغة في عدم الاعتداد بما هم عليه.
{ وهم يتلون الكتاب } جملة حالية تزري عليهم ما هم فيه إذ هو ناطق بخلاف ما يقولونه شاهده توارثهم ببشارة عيسى ومحمد عليهما السلام وانجيلهم بنبوة موسى ومحمد عليهما السلام والكتاب هنا التوراة والانجيل.
{ كذلك قال الذين لا يعلمون } وهم مشركوا العرب قالوا: مثل قول اليهود والنصارى قالوا لكل ذي دين ليسوا على شيء.
و { مثل قولهم } توضيح وتأكيد لمدلول كذلك لأن معناه مثل ذلك القول قال الذين لا يعلمون.
{ فالله يحكم } أي يفصل.
[2.114-115]
{ ومن أظلم ممن منع مساجد الله } الآية. لما جرى ذكر اليهود والنصارى وان مشركي العرب تقول مثل مقالتهم، وكانوا ساعين في خراب المواضع التي أعدت لذكر الله تعالى نزل: ومن أظلم. وكان قد تقدم لبعض ملوك الروم خراب بيت المقدس وبقي خرابا إلى زمان عمر بن الخطاب وكان المشركون أيضا صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام وكثر في القرآن مجيء: ومن أظلم. قيل: والمعنى لا أحد أظلم. فهو استفهام معناه النفي فكان خبرا وهو نفي الأظلمية ونفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظالمية، وإذا لم: يدل على نفي الظالمية لم يكن في تكرير ومن أظلم تناقض لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية. وإذا ثبتت التسوية فيها لم يكن أحد ممن وصف بذلك يزيد على الآخر، وصار المعنى: لا أحد أظلم ممن منع وممن افترى وممن ذكر. ولا يدل على أن أحد هؤلاء أظلم من الآخر كما أنك، إذا قلت: لا أحد أفقه من زيد وعمرو وبكر، لا يدل على أن أحدهم أفقه من الآخر، بل نفي أن يكون أحد أفقه منهم، لا يقال: إن من منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ولم يفتر على الله الكذب أقل ظلما ممن جمع بينهما فلا يكون مساويا في الأظلمية لأن هذه الآيات كلها في الكفار فهم متساوون في الأظلمية وإذا اختلفت طرق الأظلمية فكلها صائرة إلى الكفر فهو شيء واحد لا يمكن فيه الزيادة لإفراد من اتصف به وإنما يمكن الزيادة في الظلم بالنسبة لهم ولعصاة المؤمنين بجامع ما اشتركا فيه من المخالفة. فنقول: الكافر أظلم من العاصي. ونقول: لا أحد أظلم من الكافر. ومن في ممن موصولة.
{ أن يذكر } مفعول ثان لمنع أو على إسقاط حرف الجر أو بدل اشتمال أو مفعول له على حذف مضاف، أي دخول مساجد الله وكني بذكر اسمه عن ما يوقع فيها من الصلوات.
{ وسعى في خرابهآ } أما حقيقة كتخريب بيت المقدس أو مجازا بانقطاع الذكر منها ومنع قاصديها إذ تؤل بذلك إلى الخراب.
{ أولئك ما كان لهم } أي ما ينبغي لهم.
{ أن يدخلوهآ إلا خآئفين } وجلين من عقابه. فكيف لهم أن يمنعوا من ذكر اسم الله فيها ويسعوا في خرابها إذ هي بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، أولئك حمل على معنى من ومن إذا كانت موصولة أو استهاما أو شرطا يجوز مراعاة المعنى فيها أما إذا كانت موصوفة كما أجازه أبو البقاء في ممن منع وفي مررت بمن محسن لك فليس في محفوظي من كلام العرب مراعاة المعنى فيها.
{ لهم في الدنيا خزي } وهو الهوان والإذلال وهو مناسب لإخمال المساجد بمنع ذكر الله فيها.
{ ولهم في الآخرة عذاب عظيم } وهو مناسب لتخريب المساجد بتخريب هياكلهم وصورهم بالعذاب مرارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها.
{ فأينما تولوا فثم وجه الله } أباح لهم ابتداء أن يصلوا حيث توجهوا ونسخ ذلك.
ويظهر انتظامها بما قبلها أنه لما ذكر منع المساجد من ذكر الله والسعي في تخريبها نبه على أن ذلك لا يمنع من أداء الصلوات ولا من ذكر الله، إذ المشرق والمغرب لله فأي جهة أديتم فيها العبادة فهي لله يثيب على ذلك، ولا يختص مكان التأدية بالمسجد. ومعنى تولوا: تستقبلوا بوجوهكم. فثم وجه الله، أي: جلاله وعظمته. ويستحيل أن يحمل على العضو أو على الذات.
{ واسع } أي واسع المغفرة والقدرة.
[2.116-117]
{ وقالوا اتخذ الله ولدا } قالت اليهود: عزير بن الله. وقالت النصارى: المسيح بن الله. وقال المشركون: الملائكة بنات الله. والضمير في قالوا شامل للجميع ومتى ذكر اتخاذ الولد في القرآن فلا يأتي إلا متعديا إلى واحد ولما كان اتخاذ الولد في غاية الاستحالة قال:
{ سبحنه } أي تنزيها له عن ما نسبه إليه الكفار. ثم بين أن جميع ما في السماوات والأرض ملك له والولادة تنافي الملكية وأن الجميع.
{ قانتون } له مطيعون خاضعون. وما شامل لمن يعقل وما لا يعقل. وجمع بالواو والنون التي هي حقيقة فيما يعقل فاندرج فيه ما لا يعقل على حكم تغليب من يعقل. فحين ذكر الملك أتى بلفظة ما، وحين ذكر القنوت أتى بجمع من يعقل، و " جنح " الزمخشري: إلى أن ما وقعت على من يعلم، قال: تحقيرا لهم وتصغيرا لشأنهم. وقانتون: خبر كل مراعي فيه معنى كل لأنه حذف ما يضاف إليه كل والحمل على المعنى إذ ذاك أكثر وأفصح ولمراعاة الفاصلة.
{ بديع السموت والأرض } لما ذكر المظروف ذكر الظرفين وخصهما بالبداعة، لأنهما أعظم ما نشاهده من المخلوقات. والاضافة من باب الصفة المشبهة أصله بديع سماواته والاضافة من نصيب. وقال الزمخشري: من رفع وهو قول قيل. وقيل: بديع بمعنى مبدع. ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه. وقرىء: بديع بالرفع والنصب والجر بدل من ضمير له. ولما ذكر ما دل على الاختراع ذكر سرعة تكوين ما يريد تكوينه.
{ إذا قضى أمرا } أي أنشأ.
{ فإنما يقول له كن فيكون } كناية عن سرعة تكوين ما أراد ولا خطاب هناك لأن المعدوم لا يؤمر والموجود لا يؤمر بإيجاده وهو من مجاز التمثيل. وقرىء: برفع فيكون أي فهو يكون وبالنصب على جواب الأمر شبه الأمر المجازي بالأمر الحقيقي إذ الأمر الحقيقي ينتظم منه شرط وجزاء فلا بد من التغاير، إذ لا يصح تقدير أن يكن يكن ومن قال: إن النصب لحن فهو مخطىء والقراءة في السبعة فهي من المتواتر.
[2.118-120]
{ وقال الذين لا يعلمون } هم كفار العرب وبعض اليهود اقترحوا ذلك.
{ لولا } بمعنى هلا.
{ يكلمنا الله } كما كلم موسى عليه السلام.
{ أو تأتينآ آية } أي مقترحة لهم.
{ من قبلهم } وهم أسلافهم.
{ تشابهت قلوبهم } في القسوة والتعنت والاقتراح. وقرىء: تشابهت بشد الشين وتخريجها مشكل.
{ قد بينا الآيات } أي أوضحناها. فاقتراح آية مع تقدم الآيات تعنت.
{ لقوم يوقنون } أي لمن ليس في شك ولا ارتياب ولا تغافل ولا جهل.
{ بشيرا } لمن آمن.
{ ونذيرا } لمن كفروا وفي ذلك تسلية له عليه السلام وبالحق أي مصحوبا بالحق لا يفارقك وهما صفتا مبالغة فبشيرا من بشر مخففا، ونذيرا من أنذر ومحسنه العطف فيما لا ينقاس على ما ينقاس.
{ ولا تسأل } عن الكفار ما لهم لا يؤمنون. لأن هذا إليه تعالى. وقرىء: لا تسأل خبرا محضا منفيا مستأنفا سلى عليه السلام بذلك ويبعد فيه الحال. روي أن اليهود والنصارى طلبوا منه عليه السلام الهدنة ووعدوه أن يتبعوه بعد مدة خداعا منهم وترجئة من وقت إلى وقت فأطلعه الله على سرهم، فنزلت:
{ ولن ترضى عنك اليهود } علق رضاهم بغاية يستحيل صدورها منه عليه السلام والمعلق على المستحيل مستحيل.
{ قل إن هدى الله هو الهدى } أتى به مضافا إلى الله ومؤكدا بهود ومحصورا بأل ثم ذكر ان ما هم عليه إهواء وضلالات. واللام في:
{ ولئن } تسمى الموطئة والمؤذنة بقسم مقدر قبلها ولذلك جاء الجواب:
{ ما لك } وكان فعل الشرط ماضيا في اللفظ لأن جوابه محذوف يدل عليه جواب القسم وجمع الاهواء دلالة على كثرة الاختلاف فأضيفت إليهم لأنها بدعهم.
{ بعد الذي جآءك من العلم } وهو الدين والشرع الذي جاء به. وجعله علما لأنه معلوم بالبراهين الصحيحة.
{ ما لك } جواب القسم المحذوف المقدر قبل لام التوطئة.
[2.121-123]
{ الذين آتيناهم الكتب } قال ابن عباس: نزلت في أهل السفينة الذين قدموا مع جعفر بن أبي طالب وكانوا اثنين وثلاثين وعلى هذا السبب فالكتاب التوراة والانجيل
{ يتلونه حق تلاوته } من حسن التلفظ به وتتبع معانيه. ويتلونه: حال، والخبر: الجملة بعد ذلك، وحق: مصدر لإضافته إلى المصدر، والضمير في به: عائد على الكتاب.
{ ومن يكفر به } أي بالكتاب. حمل أولا على لفظ من، وثانيا بأولئك على المعنى ودل الحكم بالخسران على الكافر على حصول الربح والفوز للمؤمنين.
{ يابني إسرائيل } كرر نداءهم تذكيرا بنعمته وكان النداء الأول عقيب ذكر متبع الهدى والكافر المكذب. وهذا الثاني عقيب ذكر المؤمنين والكافرين. وتخللت بين النداءين اخبار لبني إسرائيل كثيرة تشتمل على مخالفاتهم وتعنتهم فوعظوا وخوفوا. وتقدم الكلام على هذه الآيات والفرق بين التعيين في قوله: ولا يقبل ولا تنفعها وتقابلهما.
[2.124]
{ وإذ ابتلى إبراهيم ربه } الآية لما كانوا من نسل إبراهيم عليه السلام وعيرت اليهود المؤمنين بتوجههم إلى الكعبة، ذكر ما ابتلي به إبراهيم واستطرد منه إلى ذكر البيت وبنائه على يد إبراهيم واسماعيل. والابتلاء: اختبار. وإبراهيم: اسم أعجمي. ويقال: ابراهام وابراهم وابراهم وابرهم وابرهم وهو الجد الحادي والثلاثون لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وهو خليل الله بن تارخ بن ناحور بن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عابر، وهو هود عليه السلام. وقرأ الجمهور: بنصب إبراهيم ورفع ربه.
ومعنى { بكلمات } أي كلفه بأوامر ونواه. وهذا التركيب يوجب تقديم المفعول على الفاعل عند الجمهور وقد سمع ضرب غلامه زيدا وهو مقيس عند بعض النحويين. ومن قرأ بالرفع في إبراهيم والنصب فيما بعده فكني عن الدعاء بالابتلاء به ربه أي يطلب من ربه في تلك الكلمات التي دعا بها الاجابة. وللمفسرين في تعيين الكلمات أقوال كثيرة مضطربة.
{ فأتمهن } ان كان الضمير عائدا على الله فالمعنى أكملهن الله له من غير نقص، أو على إبراهيم فالمعنى: قام بهن وبأعبائهن من غير نقص.
{ قال } استئناف فالعامل في إذ محذوف أو ليس باستئناف وهو العامل في إذ. وجاعل هنا بمعنى: مصير فيتعدى إلى اثنين.
و { للناس } اما متعلقة بجاعلك أي لأجل الناس واما في موضع الحال لأنه نعت نكرة تقدمت أي.
{ إماما } كائنا للناس. وإماما: أي صاحب شرع يقتدي بك فيه.
{ قال ومن ذريتي } قال الزمخشري: عطف على الكاف كأنه قال وجاعل بعض ذريتي كما يقال لك: سأكرمك. فتقول: وزيدا. " انتهى ".
ولا يصح العطف على الكاف ولو صرح بالمعطوف لأنها ضمير مجرور فالعطف عليها لا يكون إلا بالعامل ولم يعد ولأن من لا يمكن تقدير الجار مضافا إليها لأنها حرف فتقديرها بأنها مرادفة لمعنى حتى يقدر جاعلا مضافا إليها لا يصح والذي يقتضيه المعنى وسياق الكلام أن يكون التقدير قال: واجعل من ذريتي إماما، لأنه فهم من قوله: جاعلك للناس إماما: الاختصاص. فسأل الله تعالى أن يجعل من ذريته إماما. وقرىء: بضم الذال وبكسرها وبفتحها. والذرية: النسل وفي وزنها وفيما اشتقت منها اختلاف والظاهر أن وزنها فعلية مشتقة من الذر.
{ قال لا ينال عهدي } أي قال الله. وفي العهد أقوال أظهرها الامامة لأنه المصدر به والمطلوب من إبراهيم لذريته. وهذا الجواب يربي على السؤال، لأن إبراهيم طلب من الله أن يجعل من ذريته إماما فأجابه أنه " لا ينال " عهده الظالم. ودل مفهوم الصفة أنه يناله من ليس بظالم. ودل الجواب على انقسام ذريته إلى ظالم وغير ظالم. وفيه دليل على أن الفاسق لا يصلح للإمامة.
[2.125]
{ وإذ جعلنا البيت } الظاهر أنه الكعبة. وقيل: جميع الحرم.
{ مثابة } أي مرجعا ومكانا يثوبون إليه والهاء في مثابة، قال الأخفش: للمبالغة لكثرة من يثوب إليه.
{ للناس } ظاهره العموم.
{ وأمنا } أصله مصدر. وجعل البيت أمنا مبالغة لكثرة ما يقع فيه من الأمن والظاهر أن جعله " أمنا " هو في الدنيا، إذ كان العرب يقتتلون ويغير بعضهم على بعض ومكة آمنة من ذلك فيلقى الرجل قاتل أبيه فيها فلا يهيجه، فأمن الناس فيه والطير والوحش إلا الخمس الفواسق.
{ واتخذوا } قرىء - بكسر الخاء - أي: وقال الله اتخذوا، وهو أمر والمواجه به إبراهيم وذريته. وقرىء - بفتح الخاء - خبرا معطوفا على جعلنا أي اتخذه الناس لاهتمام إبراهيم به وإسكانه ذريته فيه. والمقام مكان القيام.
{ مصلى } مكان صلاة.
{ وعهدنآ إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا } يجوز أن تكون أن تفسيرية فسر بها العهد وإثبات كون أن مفسرة يقوله البصريون. وأنكر الكوفيون أن تكون أن تفسرية ويجوز أن تكون مصدرية، وصلت بفعل الأمر. نص سيبويه وغيره: على أن المصدرية توصل بفعل الأمر وفي هذا نظر لأنه إذا سبك من ذلك مصدرا فات معنى الأمر. وجميع ما ذكروا من ذلك محتمل ولا أحفظ من كلامهم عجبت من أن أضرب زيدا ولا يعجبني أن أضرب زيدا.
والتطهير المأمور به هو التنظيف من كل ما لا يليق به من طرح القاذورات والانجاس وما لا يناسب كالأوثان والحيض. إذ هو بيت عظيم من بيوت الله معد للعبادات.
ولفظ بيتي يدل على سبق وجوده.
للطائفين عام فيمن يطوف به من حاضر أو باد.
والعاكفين المقيمين به.
{ والركع السجود } وهم المصلون إذ الداخلون إلى الحرم اما طائف أو مقيم غير طائف أو مصل. وجمعا جمع تكسير مقابلة لما قبلهما من جمع التصحيح تنويعا في الفصاحة وخولف بين وزني تكسيرهما تنويعا في الفصاحة أيضا، وآخر السجود لأنه أنسب بالفواصل وعطفت تلك الصفتان لفرط التباين بينهما فلم يكن عطف في المتأخرتين لأن المقصود المصلون وان اختلفت الهيآت لأنهما يجمعهما شيء واحد وهي الصلاة وفي ذلك دلالة على جواز الصلاة فرضا ونفلا فيه.
[2.126]
{ وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا } ذكر بلدا توطئة للصفة، كما تقول: كان هذا اليوم يوما حارا. تريد كان هذا اليوم حارا. إذ لم يشر إليه إلا وهو بلد. وآمنا: ذا أمن، أو على الاتساع نحو نهاري صائم ولما بنى في أرض مقفرة لا ماء يجري ولا مزرعة للقطان بها دعا الله بالأمن وبجباية الأرزاق إليها وآيس من الله بقبول الامامة في ذريته سأل الله تعالى. فقال:
{ وارزق أهله من الثمرات } ، ومن آمن بدل من أهله ولم يكن ليدعو لمن كان كافرا بل يدعو عليه، كما في الحديث:
" اللهم اشدد وطأتك على مضر "
ولما كانت مكة قفر الاماء بها ولا نبات بارك الله فيما حولها كالطائف وغيره وأنبت فيه أنواعا من الخير.
{ قال ومن كفر }.
قرىء { فأمتعه } مشددا ومخففا.
" واضطره " بفتح الهمزة وكسرها وبإدغام الضاد في الطاء وبضم الطاء وبالنون في فتمتعه ثم نضطره. ومن في موضع رفع إما موصولة وإما شرطية. ولا يجوز أن تكون في موضع نصب على الاشتغال والضمير في قال الله تعالى. وجوزوا أن تكون في موضع نصب بفعل محذوف تقديره قال، وارزق من كفر. قال الزمخشري: ومن كفر عطف على من آمن كما عطف ومن ذريتي على الكاف في جاعلك. " انتهى ".
ولا يصح لأن عطفه عليه يقتضي التشريك في العامل فيصير التقدير قال إبراهيم وارزق من كفر. وينافي هذا التركيب قوله: فأمتعه قليلا ثم اضطره. ثم قد ناقض الزمخشري قوله هذا وأساء الأدب على إبراهيم عليه السلام بما يوقف عليه في كتابه.
وفي تفسيرنا هذا الموضع من كتابنا الكبير ولأبي البقاء هنا منع أن يكون من مبتدأ موصولا ورددناه عليه هناك. وقرىء: فأمتعه قليلا ثم أضطره، أمرا فيهما. فالضمير في: قال لإبراهيم، ومن شرطية أو موصولة، ويجوز كون النصب على الاشتغال وانتصب قليلا على تقدير زمانا قليلا أو تمتعا قليلا. (وقول) ابن عطية في قراءة من قرأ اضطره بكسر الهمزة: انه على لغة قريش في قولهم لا إدخال بكسر الهمزة مخالف لما نقله النحاة من أن الحجازيين يفتحون حرف المضارعة مما أوله همزة وصل، ومما كان ماضيه على فعل يفعل ، أو من ياء مزيدة في أوله. نحو: يعلم، وينطلق، ويتعلم. وقال الزمخشري في قراءة إدغام الضاد في الطاء: هي لغة مرذولة. وظاهر كلام سيبويه أنها ليست لغة مرذولة، ألا ترى إلى نقله عن بعض العرب في مجمع مضطجع قال: ومضطجع كثير. فدل على أن مضطجعا كثير والاضطرار الالجاء واللز إلى العذاب والمصير مصدر أو مكان والمخصوص بالذم محذوف أي صيرورته إلى العذاب أو النار.
[2.127-128]
{ وإذ يرفع إبرهيم } ذكروا قصصا كثيرة في حال البيت من ماهيته وقدمه وحدوثه ومن أي شيء كان باباه ومن أي شيء بناه. " إبراهيم " ومن ساعده على البناء واستطردوا إلى أشياء يناقض بعضها بعضا على قاعدتهم وعادتهم في ذلك.
و { القواعد } الجدر. وقيل: الأسس.
{ من البيت } متعلق بيرفع. أو في موضع الحال من القواعد.
{ وإسمعيل } عطف على إبراهيم فهما مشتركان في الرفع.
{ ربنا تقبل } أي يقولان ربنا تقبل.
{ منآ } أي هذا العمل الذي قصدنا به رضاك.
{ إنك أنت السميع } لسؤالنا وضراعتنا في التقبل.
{ العليم } بنياتنا في إخلاص عملنا.
{ ربنا واجعلنا مسلمين } أي مناقدين.
{ لك } وهو سؤال بالديمومية.
{ ومن ذريتنآ أمة مسلمة لك } أي منقادة مطيعة. ولما تقدم لا ينال عهدي الظالمين أتى هنا بالتبعيض في وفي ذريتنا أمة.
{ وأرنا مناسكنا } أي معالم الحج وهي من رؤية العين أي بصرنا. ويقال: منسك ومنسك والكسر شاذ. والناسك: المتعبد. وقرىء: وأرنا بإشباع حركة الراء وباختلاسها وباسكانها. وقد جعل الزمخشري أرنا من رؤية القلب وشرحها بقوله: عرف فهي عنده تأتي رأى بمعنى عرف أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب. (وحكى) ابن عطية عن طائفة انها من رؤية البصر وعن طائفة انها من رؤية القلب. قال ابن عطية وهو الأصح: ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفعولين وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب كغير المعدي قال حطائط ابن يعفر أخو الأسود:
أريني جوادا مات هزلا
لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا
إنتهى كلامه وقوله. ويلزم قائله أن يتعدى إلى ثلاثة مفعولين إنما يلزم لما ذكرناه من أن المحفوظ إن رأي إذا كانت قلبية تعدت إلى اثنين وبهمزة النقل تصير تتعدى إلى ثلاثة. وقوله: وينفصل بأنه يوجد معدي بالهمزة من رؤية القلب كغير المعدي، يعني: أنه قد استعمل في اللسان متعديا إلى اثنين ومعه همزة النقل، كما استعمل متعديا إلى اثنين بغير الهمزة وإذا كان كذلك ثبت أن لرأي إذا كانت قلبية استعمالين أحدهما: أن تكون بمعنى علم المتعدية لواحد بمعنى عرف، والثاني: أن تكون بمعنى علم المتعدية إلى اثنين. واستدلال ابن عطية ببيت ابن يعفر على أن أريني: قلبية، لا دليل فيه بل الظاهر أنها بصرية. والمعنى على أبصريني جوادا. ألا ترى إلى قوله: مات هزلا فإن هذا هو من متعلقات البصر فيحتاج في إثبات رأي القلبية متعدية لواحد إلى سماع. وقد قال ابن ملك وهو حاشد لغة وحافظ نوادر حين عد ما يتعدى إلى اثنين، فقال في التسهيل: ورأى لا لإبصار ولا رأي ولا ضرب، فلو كانت رأى بمعنى عرف لنفي ذلك كما نفى عن رأي المتعدية إلى اثنين كونها لا تكون لا بصار ولا رأي ولا ضرب.
{ وتب علينآ } أي ادم توبتنا.
{ إنك أنت التواب } هي صفة مبالغة.
و { الرحيم } كذلك.
[2.129-131]
{ ربنا وابعث فيهم } أي أرسل في أهل البيت.
{ رسولا منهم } أي من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه ونشأته. كما قال تعالى:
لقد جآءكم رسول من أنفسكم
[التوبة: 128]. وقبل الله تعالى دعاءه بأن كان المبعوث في الأميين هو محمد صلى الله عليه وسلم ووصفه إبراهيم بقوله:
{ يتلوا عليهم آيتك } أي يقرأ آيات الله وهو القرآن الذي هو أعظم المعجزات الباقي إلى آخر الدهر.
{ ويعلمهم الكتب } أي يلقيه إليهم مفهما لهم ومتلطفا في إيصال معانيه إلى أفهامهم.
{ والحكمة } وهي السنة التي لم تكن في الكتاب كقوله:
واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة
[الأحزاب: 34].
{ ويزكيهم } أي يطهرهم باطنا وظاهرا والذي جاء بهذه الأوصاف هو محمد صلى الله عليه وسلم.
{ إنك أنت العزيز } أي الغالب. أو: الذي لا مثل له.
{ ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه } الآية روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجرا إلى الإسلام فقال لهما قد علمتما أن الله قال في التوراة إني باعث من ولد إسماعيل نبيا اسمه أحمد من آمن به فقد اهتدى ورشد ومن لم يؤمن به فهو ملعون فاسلم سلمة وأبي مهاجر فانزل الله هذه الآية.
ومن استفهام فيه معنى الانكار ولذلك دخلت الا بعده والمعنى لا أحد يرغب فمعناه النفي العام. و " من " بدل من الضمير الذي في يرغب وهو أجود من النصب على الاستثناء. وانتصب " نفسه " على أنه مفعول به حكى المبرد وثعلب: ان سفه بكسر الفاء يتعدى كسفه المشدد. وحكى أبو الخطاب أنها لغة. والمعنى استخف بها وامتهنها.
{ ولقد اصطفيناه في الدنيا } أي جعلناه صافيا من الادناس واصطفاؤه بالرسالة والخلة والكلمات التي وفى بها وبناء البيت والامامة واتخاذ مقامه مصلى وتطهير البيت والنجاة من نار نمروذ والنظر في النجوم وما ترتب على ذلك وغير ذلك مما ذكره الله في كتابه.
{ وإنه في الآخرة لمن الصالحين } ذكر حاله في الآخرة فمن كان مصطفى في الدنيا صالحا في الآخرة فكيف يرغب عن اتباعه وفي الآخرة متعلق بمحذوف يدل عليه من الصالحين تقديره وانه لصالح في الآخرة.
والعامل في إذ قال أسلمت أي حين أمره الله بالإسلام قال: أسلمت وأسلم أمر بالديمومة. والاسلام: الانقياد.
[2.132-133]
وقرىء ووصى وأوصى أي عهد والضمير في بها عائد على الملة في قوله: عن ملة إبراهيم. وبنوا إبراهيم اسماعيل وهو ابن هاجر. القبطية، واسحاق، وأمه سارة، ومدين ومديان، ونقشان، ورمزان، تشناق وشواح وأم هؤلاء الستة فطورا بنت يفطن الكنعانية، والعقب الباقي فيهم لإسماعيل وإسحاق فقط. ويعقوب: هو اسم أعجمي منع من الصرف للعلمية والعجمة ويعقوب عربي وهو ذكر القبيح فلو سمي به انصرف وارتفع عطفا على إبراهيم أي ووصى يعقوب بنيه أو على الابتداء أي ويعقوب وصى بنيه. وقرىء ويعقوب بالنصب عطفا على بنيه ، أي: ووصى إبراهيم ويعقوب ابن ابنه اسحاق. " يا بني " أي قال وفي ندائه بلفظ بني تلطف غريب وترجية للقبول وهز لما يلقى إليهم من الموافاة على الاسلام. ولذلك صدر كلامه بقوله:
{ إن الله اصطفى لكم الدين } وما اصطفاه الله لا يعدل عنه العاقل وان عند البصريين كسرت على إضمار القول وعند الكوفيين لإجراء الوصية مجرى القول. واصطفى: استخلصه وتخيره لكم.
{ فلا تموتن } نهي عن الموت إلا على هذه الحالة من الاسلام. والنهي في الحقيقة إنما هو عن كونهم على خلاف الاسلام لا إن ذلك نهي عن الموت ونظيره في الأمر مت وأنت شهيد ليس أمرا بالموت بل أمر بالشهادة نهوا عن تعاطي الأشياء التي تكون سببا للموافاة على غير الاسلام. لما دخل يعقوب عليه السلام مصر وجدهم يعبدون الأوثان والنبيين فجمع بنيه وسألهم ما ذكر الله تعالى. وقالت اليهود: ألست تعلم أن يعقوب أوصى باليهودية فأنزل الله تعالى:
{ أم كنتم شهدآء } أي بل كنتم شهداء، وهو استفهام إنكار، أي: لم تشهدوا وقت حضور أجل يعقوب فكيف تنسبون إليه ما لا يليق به. ودعوى الطبري ان أم يستفهم بها في وسط كلام تقدم صدره وهذا منه قول غريب (وقول) ابن عطية انها بمعنى همزة الاستفهام وانها لغة يمانية يحتاج إلى نقل صحيح والظاهر أن الخطاب لأهل الكتاب ولذلك جاء بعد وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا.
" وإذ " بدل من إذ. وقال الزمخشري: أم متصلة قبلها محذوف كأنه قال أتدعون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذ أراد بنيه على التوحيد وملة الاسلام فما لكم تدعون على الأنبياء ما هم منه برآء " انتهى ".
ولا نعلم أن أحدا أجاز حذف هذه الجملة ولا نحفظ ذلك لا في شعر ولا غيره لكن جاء في شعر حذف أم مع المعطوف المعادل للهمزة نحو قوله:
فما أدرى أرشد طلابها
يريد أم غي
{ ما تعبدون } استفهام بما وهي مبهمة تقع على ذوي العلم وغيرهم.
{ من بعدي } أي من بعد موتي خاف أن يتغيروا من بعد موته وكانوا حال حياته لا يعبدون إلا الله وشمل قوله آبائك: الجد، والعم، والأب، فالجد: إبراهيم. والعم: إسماعيل. والأب: إسحاق. والثلاثة بدل تفصيلي من آبائك وقدم إبراهيم لأنه الأصل ثم العم لأنه أسن ومن ذريته خير العالم محمد صلى الله عليه وسلم. وانتصب.
{ إلها واحدا } على أنه بدل من الهك أو على الحال والها توطئة. (وجوز) الزمخشري أن ينتصب على الاختصاص أي يريد بآلهك آلها واحدا ونص النحاة على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا شبهها وفائدة هذه الحال أو البدل هو التنصيص على أن معبودهم واحد فرد إذ يوهم إضافة الشيء إلى معدودين تعداد ذلك المضاف.
{ ونحن له مسلمون } أحد جملتي الجواب أجابوه عن الذي سألهم عنه والثاني مؤكدة لما أجابوا به. وأجاز الزمخشري أن تكون جملة اعتراض مؤكدة أي ومن حالنا أناله مسلمون مخلصون التوحيد ومذعنون. والذي ذكره النحاة: إن جملة الاعتراض تأتي مقوية بين شيئين وقد بينا ذلك في كتابنا الكبير وفي كتب النحو. ونحن له مسلمون ليست من هذا الباب وعطفها على جملة الجواب منتظمة تحت قالوا أولى مما جوزوه ابن عطية أن تكون في موضع الحال.
[2.134-136]
{ تلك أمة قد خلت } أي انقضت وصارت إلى الخلاء وهي الأرض التي لا أنيس بها. تلك: إشارة إلى إبراهيم ويعقوب وما بينهما.
{ لها ما كسبت } أي تختص بجزائه.
{ ولكم ما كسبتم } خطاب لليهود والنصارى والجملة من قوله لها ما كسبت استئناف أو حال من ضمير خلت ولكم ما كسبتم: عطف على لها ما كسبت على تقدير الاستئناف لا الحال.
{ ولا تسألون عما كانوا يعملون } جملة توكيدية لما قبلها. { وقالوا } أي رؤساء اليهود ونصارى نجران لفهم معا والضمير والمأمورون من آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم واو للتفصيل فاليهود قالوا: كونوا هودا والنصارى قالوا كونوا نصارى فالمجموع قالوا للمجموع وقال كل من الفريقين ما ناسبه.
{ بل ملة إبراهيم } قرىء بالنصب أي نتبع لأن الأمر بكينونة اليهودية والنصرانية معناه اتبعوا. وقرىء بالرفع أي الهدى أو أمرنا ملة وانتصب.
{ حنيفا } على الحال من ملة لأن معناه دين إبراهيم وهي حال لازمة وأجازوا فيه الحال من إبراهيم والنصب على القطع والحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الحق.
{ وما كان من المشركين } أي من اليهود القائلين بنبوة عزير ولا من النصارى القائلين بنبوة المسيح ولا من الذين اتخذوا الأوثان والملائكة وقالوا هم بنات الله.
و { قولوا } أمر للمؤمنين.
{ ومآ أنزل إلينا } لما ألزموا تكاليف القرآن قيل فيه أنزل إليهم.
{ ومآ أنزل إلى إبراهيم } هي عشر الصحف.
{ وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } عطفوا على إبراهيم لما كلفوا العمل بشريعته صارت الصحف كأنها منزلة إليهم، والاسباط: أولاد يعقوب وأكبرهم روبيل وشمعون ولاوي ويهودا ورفالون. وقال الجواني: النسابة فيه وزيولون ونساقا. وقال ابن عطية فيه وتشجر وذينة بنته، وامهم ليا. ثم خلف يعقوب على اختها راحيل فولدت له يوسف وبنيامين. وولد له من سريتين ذان وتفتالي وياشير. وقال ابن عطية فيه آشر. وكان. وقال فيه ابن عطية: جاد.
{ ومآ أوتي موسى } من التوراة والآيات.
{ وعيسى } من الإنجيل والآيات وكرر الموصول في وما أنزل لأن القرآن غير صحف إبراهيم ولم يكرر ما أوتي لأن شريعة عيسى هي شريعة موسى إلا في النزر.
{ وما أوتي النبيون } تعميم بعد تخصيص.
{ لا نفرق بين أحد } أي بين الجميع واحد هو المستعمل في النفي للعموم أو أحد بمعنى واحد فحذف ما عطف عليه أي بين أحد منهم والآخر.
{ ونحن له مسلمون } داخل في القول.
[2.137-139]
{ بمثل مآ آمنتم به } أي بمثل إيمانكم. وما: مصدرية. وبه: بدل من بمثل يفيد التوكيد.
{ وإن تولوا } أي أعرضوا عن الإيمان.
{ فإنما هم في شقاق } صار الشقاق ظرفا لهم وهم مظروفون فيه مبالغة وإن كانت إنما للحصر فذلك أبلغ. والشقاق الخلاف والعداوة والمنازعة وهذا وعيد لهم.
{ فسيكفيكهم الله } أي يكفيك من شقاقهم وعداوتم بما حل بهم من القتل والسبي والنفي والجزية وتفريق كلمتهم.
{ وهو السميع } لأقوالهم.
{ العليم } بنياتهم.
{ صبغة الله } أي دين الله وكن عن الدين بالصبغة لظهور أثره على صاحبه ولزومه كظهور أثر الصبغ في الثوب ولزومه وانتصب انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة من قوله: قولوا آمنا، أي صبغنا الله بالإيمان صبغته.
{ ومن أحسن } استفهام. معناه: النفي أي لا أحد أحسن.
{ من الله صبغة } والتفصيل هنا باعتبار من يظن أن في صبغة غير الله حسنا وصبغة تمييز منقول من المبتدأ نحو زيد أحسن من عمرو وجها والتقدير ومن صبغته أحسن من صبغة الله كما يقدر وجه زيد أحسن من وجه عمرو وقل ما ذكر النحاة هذا التمييز المنقول من المبتدأ روي أن اليهود والنصارى حاجوا المسلمين. فقالوا: كان الأنبياء منا وعلى ديننا ونحن أبناء الله وأحباؤه وأهل الكتاب الأول وقبلتنا أقدم ولم تكن الأنبياء من العرب ولو كان نبيا لكان منا فنزلت.
وقرىء { أتحآجوننا } بنونين وبإدغام نون الرفع في نون الضمير. والهمزة: للاستفهام ومعناه الانكار.
{ وهو ربنا وربكم } جملة حالية أي كلنا مربوبون له تعالى فلا محاجة فيما شاء من أفعاله واختصاص بعض المربوبين بما خصه من الشرف والزلفى وهو المجازي على الأعمال.
{ ونحن له مخلصون } أي العمل لا نبتغي به غير وجهه تعالى وفيه تعريض لليهود والنصارى بالشرك الذي هم عليه.
[2.140-142]
وقرىء { أم تقولون } بتاء الخطاب وبياء الغيبة والأحسن أن تكون أم منقطعة وتجويز الاتصال فيها وكونها معادلة. كقوله: أتحاجوننا. كما قاله بعضهم ليس بجيد لأن الاتصال يقتضي وقوع إحدى الجملتين وصار السؤال عن تعيين احداهما وليس الأمر كذلك بل وقعتا معا أي المحاجة والمقالة فام منقطعة أنكر عليهم هذا القول كما أنكرت المحاجة.
{ قل أأنتم أعلم أم الله } حيث نفى عن إبراهيم ومن ذكر معه ما نسبتم له من اليهودية والنصرانية وتوسط هنا المسؤول عنه وهو أحسن من تقدمه وتأخره وان كانا جائزين فنقول في الكلام: أأعلم أنت أم زيد، وأأنت أم زيد أعلم.
{ ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله } أي لا أحد أظلم ممن كتم شهادة استقرت عنده من الله أي من استرعاه الله لأن يشهدها وكتمها. ودل هذا على أن أحبارهم كانوا عالمين بأن إبراهيم ومن معه كانوا مباينين لليهودية والنصرانية وأنه تعالى كان ذكر في كتبهم ما يباين أقوالهم ولكنهم كتموا.
{ سيقول السفهآء من الناس } وهم اليهود. وجاء بالمستقبل الصريح إخبارا بالشيء قبل وقوعه فهو معجز، إذ هو اخبار بالغيب. وسفههم: هو باعتراضهم على الله سبحانه في فعله ما يشاء أي أي مولي المؤمنين.
{ عن قبلتهم التي كانوا عليها } وهي قبلة بيت المقدس وكان عليه السلام قد صلى إليها ستة عشر شهرا أو سبعة عشر وأضاف القبلة إليهم إذ كانوا قد استقبلوها طويلا ومعنى عليها أي على استقبالها.
{ قل } أمر لنبيه عليه السلام وتعليم لأبطال مقالتهم.
{ لله المشرق والمغرب } كني بهما عن الجهات كلها فله أن يكلف عباده بما شاء من استقبال أي جهة شاء.
[2.143]
{ وكذلك جعلناكم أمة وسطا } لما كان معنى يهدي من يشاء يجعل من يشاء. شبه به أي مثل ذلك الجعل يجعل من يشاء على صراط مستقيم وهو طريق الاسلام، جعلناكم أمة وسطا. والوسط: الخيار. وأصله ما بين الطرفين لما كانت الأطراف محل التغير والوسط محل السلامة استعير للخيار فوصف به.
{ لتكونوا شهدآء على الناس } يشمل الشهادة في الدنيا والآخرة.
{ ويكون الرسول } هو محمد صلى الله عليه وسلم.
{ عليكم شهيدا } انه قد أبلغكم ما أرسل به إليكم من شرائع الاسلام فيشهد على من اتبع الحق وعلى من أباه. وفي الحديث: أن الأمم إذا ناكرت رسلها شهدت أمة محمد عليها بالتبليغ ويؤتى بمحمد صلى الله عليه وسلم فيسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد بصدقهم.
{ وما جعلنا القبلة التي كنت عليهآ } أي ما صيرنا الجهة التي كنت عليها أولا ثم صرفت عنها إلى بيت المقدس قبلتك الآن. فالتي: مفعول أول، والقبلة، المفعول الثاني. والتصيير: الانتقال من حال إلى حال. فالملتبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول والملتبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني (وقال) الزمخشري: القبلة: مفعول أول، والتي: مفعول ثان. فيقال: وما جعلنا القبلة التي تحب استقبالها الجهة التي كنت عليها أولا بمكة. " انتهى ".
{ من يتبع } من للتفصيل وهو معنى غريب لمن كقوله تعالى:
والله يعلم المفسد من المصلح
[البقرة: 220]. وإلا لنعلم استثناء مفرغ من المفعول له وفيه حصر السبب، ولنعلم يستحيل تجدد علم الله تعالى فهو من مجاز الحذف أي ليعلم رسولنا والمؤمنون أو أطلق العلم على التمييز، أي لنميز التابع من الناكص. ولنعلم: متعدية إلى واحد والانقلاب على العقب كناية عن الرجوع عن ما كان فيه، وهو أسوأ أحوال الراجع في مشيه. وقرىء. ليعلم بالياء مبنيا للمفعول، وعقبيه بإسكان القاف.
{ وإن كانت } أي الجعلة المفهومة من قوله: وما جعلنا.
{ لكبيرة } شاقة لأن من ألف شيئا ثم فارقه شق عليه. والقول في أن واللام في، نحو: هذا التركيب مذهب البصريين إن أن هي المخففة من الثقيلة واللام للفرق بينها وبين ان النافية ومذهب الكوفيين أن ان نافية. واللام بمعنى الا.
وقرىء { لكبيرة } بالرفع شاذا وتخريجه على إضمار مبتدأ أي لهي كبيرة وهو توجيه شذوذ.
{ إلا على الذين هدى الله } استثناء من محذوف أي لكبيرة على الناس إلا على الذين وليس استثناء مفرغا لأنه لم يتقدمه نفي ولا شبه نفي إنما سبقه إيجاب سواء أفرغت في أن واللام على مذهب بصري أم كوفي.
{ وما كان الله ليضيع إيمانكم } أي تصديقكم بما جاء من عند الله من نسخ وغيره وقد فسر الإيمان هنا بالصلاة لبيت المقدس. وروي أن أسعد بن زرارة والبراء بن معرور ماتا قبل تحويل القبلة فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فنزلت: وقرىء: ليضيع مشددا واللام في ليضيع لام والجحود. وما كان زيد ليقوم أبلغ من ما كان زيد يقوم وإن يجب إضمارها بعد لام الجحود ومذهب الكوفيين إن اللام هي الناصبة.
{ إن الله بالناس } فيه معنى التعليل.
وقرىء { لرءوف } بواو بعد الهمزة وبغير واو وبواو مضمومة بعدها واو.
[2.144-145]
{ قد نرى } أي قد رأينا. كقوله:
قد يعلم مآ أنتم عليه
[النور: 64]. أي: قد علم. ولقد نعلم: أي علمنا. وقد قيل: قد تصرف المضارع إلى الماضي " فقال " الزمخشري في قد نرى ربما نرى ومعناه كثرة الرؤية كقوله :
قد أترك القرن مصفرا أنامله*
" انتهى ".
ورب على مذهب الجمهور لتقليل الشيء في نظيره أو في نفسه وتركيب قد مع المضارع لا تدل على الكثرة بل ان فهمت الكثرة فمن خارج. والكثرة هنا إنما فهمت من متعلق الرؤية، لأن من رفع بصره إلى السماء مرة واحدة لا يقال فيه: قلب بصره، وإنما يقال: قلب إذا ردد. فالكثرة فهمت من التقلب الذي هو مطاوع التقليب والوجه يراد به ظاهره كان يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبلة مكة أو كني بالوجه عن البصر.
و { في السمآء } متعلق بتقلب. كقوله:
تقلب الذين كفروا في البلاد
[آل عمران: 196]. ومن على حقيقتها أي في نواحي السماء وفي الكلام حال محذوفة والتقدير في السماء طالب قبلة غير التي كنت مستقبلها.
{ فلنولينك } جواب قسم مؤكد مضمون الجملة المقسم عليه، وجاء الوعد قبل الأمر لتفرح النفس بالاجابة، ثم بإيجاز الوعد فيتوالى السرور مرتين ونكر القبلة لأنه لم يتقدم ما يقتضي العهد ووصفت بمرضية لتقرب من التعيين ومتعلق الرضا القلب وهو كان يؤثر ان تكون الكعبة وإن كان لم يصرح بذلك.
{ فول وجهك } أي في استقبال الصلاة.
{ شطر } نحو المسجد الحرام. وفيه دليل على مراعاة جهة الكعبة لا عينها وأفرد أولا بالأمر لأنه كان المنسوب إلى ذلك ثم أمرت أمته بذلك فكان حكمهم حكمه.
{ وإن الذين أوتوا الكتاب } هم احبار اليهود ورؤساؤهم.
{ أنه الحق } أي التوجه إلى المسجد الحرام هو الحق الذي فرضه الله على إبراهيم وذريته. وقرىء يعلمون بالتاء وبالياء.
{ ولئن أتيت } تسلية للرسول عن متابعة أهل الكتاب له.
{ ما تبعوا } جواب للقسم المؤذنة به اللام وهو ماضي اللفظ مستقبل المعنى كقوله:
ولئن زالتآ إن أمسكهما
[فاطر: 41]. أي ما يمسكهما وقوله: لظلوا أي ليظلن من بعده. وقال سيبويه: وقالوا لئن فعلت ما فعل بزيد ما هو فاعل. وما يفعل وجواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه.
{ ومآ أنت بتابع قبلتهم } استئناف اخبار ببراءته عليه السلام من اتباع قبلتهم وأفرد قبلتهم وإن كانت تختلف قبلتاهم لاشتراكهما في البطلان.
{ وما بعضهم } أي اليهود لا تتبع النصارى ولا النصارى تتبع اليهود.
{ ولئن اتبعت أهواءهم } التعليق على المستحيل مستحيل كقوله:
ومن يقل منهم إني إله
[الأنبياء: 29] أو يكون المخاطب غيره من أمته. أي: ولئن اتبعت أيها السامع.
{ من بعد ما جآءك من العلم } أي من الدلالات والآيات التي تفيد العلم إطلاقا لاسم الأثر على المؤثر.
{ إنك } جواب القسم التي تدل عليه لام ولئن.
و " إذن " هنا مؤكدة لجواب ارتبط بمتقدم ولا عمل لها إذا كانت مؤكدة.
[2.146-148]
{ الذين آتيناهم الكتاب } هم علماء اليهود والنصارى وهو مبتدأ خبره.
{ يعرفونه } والضمير المنصوب في يعرفونه عائد على محمد صلى الله عليه وسلم. وليس كما قال الزمخشري. من أنه إضمار لم يسبق له ذكر في قوله: ولئن أتيت إلى سائر المضمرات التي جاء بها خطابه لكن الضمير في يعرفونه جاء على سبيل الالتفات وحكمته أنه لما فرغ من الاقبال عليه السلام أقبل على الناس. فقال: الذين آتيناهم الكتاب واخترناهم لتحمل العلم والوحي يعرفون هذا الذي خاطبناه في الآي السابقة وأمرناه ونهيناه لا يشكون في معرفته ولا في صدق إخباره بما كلفناه من التكاليف التي منها نسخ بيت المقدس بالكعبة لما في كتابهم من ذكره ونعته والنص عليه يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والانجيل. وقال عبد الله بن سلام: لقد عرفته حين رأيته كما أعرف ابني ومعرفتي به صلى الله عليه وسلم أشد من معرفتي بابني واخباره منتزع من قوله:
{ كما يعرفون أبناءهم } وظاهر هذا التشبيه يقتضي أن المعرفة معرفة الوجه والصورة ودل هذا على أن الضمير في يعرفونه للرسول عليه السلام.
{ ليكتمون الحق } هم المصرون على الكفر والعناد كتموا نعت الرسول. وهم يعلمون: حال مؤكدة ان كان متعلق العلم الحق وإن كان.
{ وهم يعلمون } ما على كاتم الحق من العقاب فهي حال مبينة.
{ الحق } مبتدأ خبره.
{ من ربك } أو خبر مبتدأ محذوف أي هو الحق كائنا من ربك. وقرىء: الحق بالنصب بدلا من الحق أو معمولا ليعلمون. والامتراء الشك امترى في كذا شك فيه. والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن تلك الصفة ولذلك كثر النهي عن الكون على الصفة التي يطلب اجتنابها في القرآن.
{ ولكل وجهة هو موليها } وقرىء ولكل وجهة بالاضافة ومولاها. ووجهة: اسم للمكان المتوجه إليه عند بعضهم. فثبوت الواو ليس بشاذ وكلام سيبويه يقتضي أنه مصدر فثبوت الواو فيه شاذ والمحذوف من كل اما طائفة من أهل الأيان أو أهل صقع من المسلمين أي جهة من الكعبة وراء وأماما ويمينا وشمالا ليست جهة من جهاتها أولى من الأخرى وهو مبتدأ عائد على كل على لفظة أي هو يستقبلها وموجه إليها صلاته، ومفعول موليها الثاني محذوف، أي: موليها نفسه وفي قراءة مولاها الأول المستكن في مولاها، والثاني (ها). وهو عائد على الله أي الله موليها إياه واما قراءة الاضافة. فقال الطبري: هي خطأ. (وقال) الزمخشري: المعنى وكل وجهة الله موليها فزيدت اللام لتقدم المفعول كقولك: لزيد ضربت ولزيد أبوه ضاربه. وهذا فاسد لأن العامل إذ تعدى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور باللام لا تقول: لزيد ضربته. ولا لزيد أنا ضاربه الا تراهم تأولوا.
هذا سراقة للقرآن يدرسه. " وقال " ابن عطية المعنى فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها وهو توجيه لا بأس به.
{ فاستبقوا } أي بادروا.
{ الخيرات } أي الأعمال الصالحة.
{ أين ما تكونوا } تضمن وعظا وتحذيرا وإظهار للقدرة.
{ يأت بكم الله جميعا } أي يحشركم للثواب والعقاب.
[2.149-151]
{ ومن حيث خرجت } لما أمر باستقبال الكعبة وهو عليه السلام مقيم بالمدينة بين تساوي الحالين في الاقامة والسفر وبين بقوله وحيث ما كنتم تساوي حالهم وحاله عليه السلام في ذلك وختم هذه الآية. بما ختم به تلك الآية السابقة مبالغة في امتثال هذا التكليف العظيم الذي هو تحويل من جهة إلى جهة وهو تعبد محض.
{ ومن حيث خرجت } توكيد لما قبله وتقرير لهذا النسخ.
{ لئلا } هي لام كي وان في هذا التركيب واجبة الإظهار.
{ يكون للناس } اليهود أو مشركي العرب ونفى الله تعالى أن يكون لأحد على المؤمنين حجة وخبر كان .
{ للناس } و { عليكم } متعلق بما تعلق به للناس وهو كائن وقد أجيز أن يتعلق بحجة بمعنى الاحتجاج وليس بجائز والحجة أن أريد بها البرهان الصحيح فهو استثناء منقطع أي لكن الذين ظلموا فإنهم يتعلقون بالشبهة ويضعونها موضع الحجة وان أريد بها الاحتجاج بالخصومة واللدد فهو استثناء متصل أي الا خصومة من ظلم أو الا من ظلم بخصومته فيما قد وضح له. كقولك: ما له حجة إلا الظلم. وقد اقطرى الا على الذين ظلموا. جعله بدلا من الضمير في عليكم، ولا يجوز إلا على مذهب الكوفيين والأخفش. وقال أبو عبيدة: إلا بمعنى الواو وكان أبو عبيدة يضعف في النحو. وقرىء: الا حرف استفتاح والذين ظلموا مبتدأ خبره فلا تخشوهم، والضمير في فلا تخشوهم يعود على الناس أو على الذين ظلموا وهو أقرب مذكور.
{ ولأتم نعمتي } معطوف على لئلا يكون والمعنى عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم لانتفاء حجج الناس عليكم ولإتمام النعمة، فالتعريف معلل بعلتين والفصل بالاستثناء كلا فصل إذ هو من متعلق العلة الأولى.
{ كمآ أرسلنا } تشبيه متعلقة. ولا تم أي إتماما مثل إتمام إرسال الرسول إليكم أو تهتدون اهتداء مثل ارسالنا. وتشبيه الهداية بالارسال في التحقق والثبوت، أي اهتداء ثابتا متحققا كتحقق إرسال الرسول. ولو قيل: الكاف للتعليل لا للتشبيه لكان سائغا أي لارسالنا رسولا.
[2.152-154]
{ فاذكروني } كما قيل في قوله: واذكروه كما هداكم أي لأجل هدايته إياكم. وقول الشاعر:
* لا تشتم الناس كما لا تشتم *
أي امتنع من شتم الناس لامتناع الناس من شتمك. لكن يخدش في هذا القول وجود الفاء في فاذكروني والأجود التعلق بقوله: ولا تم فيكون إتمام هذه النعمة الحادثة من الهداية لاستقبال قبلة الصلاة التي هي عمود الاسلام. وأفضل الأعمال وأدل الدلائل على الاستمساك بشريعة الاسلام بإتمام النعمة السابقة بإرسال الرسول المتصف بكونه منهم إلى سائر الأوصاف التي وصفه تعالى بها. والذكر يكون باللسان من التحميد والتمجيد والتسبيح وقراءة كتاب الله، ويكون بالقلب كالفكر في الدلائل الدالة على التكاليف والفكر في صفات الاله. وفي سائر مخلوقات الله. وذكره تعالى: إياهم، هو مجازاته على ذكرهم.
{ واشكروا لي } جاء تعدية بغير اللام. قال:
* فهلا شكرت القوم إذ لم تقاتل *
{ ولا تكفرون } أي ولا تكفروا نعمتي. والصبر: قصر النفس على المكاره والتكاليف الشاقة وهو أمر قلبي. والصلاة من ثمرته وهي من أشق التكاليف لتكررها.
{ إن الله مع الصابرين } بالمعونة والتأييد واندرج المصلون في الصابرين اندراج الفرع تحت الأصل قالوا لمن قتل في سبيل الله من أعظم نتائج الإيمان والصبر.
و { أموات } خبر مبتدأ محذوف.
و { أحياء } كذلك والتقدير هم أموات بل هم أحياء.
{ ولكن لا تشعرون } بأنهم أحياء والمراد بالحياة بقاء أرواحهم وليست فانية كما فنيت أجسادهم فنفي شعور المخاطبين بكيفية حياة المقتولين في سبيل الله. وفي هذه الآية ترغيب في الشهادة وتسلية لأقرباء الشهداء وإخوانهم المؤمنين.
[2.155-158]
{ ولنبلونكم } أصل الابتلاء الاختبار. والمعنى هنا: ولأصيبنكم { بشيء } وأفرده ليدل على التقليل وبشيء مقدر في المعاطيف، أي: وبشيء من الجوع وبشيء من نقص. والظاهر أن الخوف هنا هو من العدو. وعبر بالجوع عن القحط إذ هو من أثره.
{ ونقص من الأموال } بالهلاك والخسران.
{ والأنفس } بالقتل والموت.
{ والثمرات } بالحوائج وقلة النبات وانقطاع البركات.
{ الذين } منصوب نعتا أو مقطوعا أو مرفوع قطعا أو استئنافا على تقدير سؤال من الصابرون. قيل: هم الذين.
و { مصيبة } اسم فاعل من أصاب. وصار لها اختصاص بالشيء المكروه وأصابتهم مصيبة من التجنيس المغاير.
{ قالوا إنا لله } إقرار بالملك والعبودية لله فهو المتصرف فينا بما يريد.
{ وإنآ إليه راجعون } إقرار بالبعث وتنبيه على مصيبة الموت التي هي أهم المصائب.
{ أولئك عليهم صلوات } أي ثناء كثير.
{ ورحمة } العطف يشعر بالمغايرة وارتفع صلوات بالفاعلية لأن الجار قد اعتمد وعليهم صلوات تجللهم.
كانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة فلما جاء الاسلام سألوا. فنزل:
{ إن الصفا والمروة من شعآئر الله } والصفا والمروة علمان لهذين الجبلين وألف الصفا منقلبة عن واو والصفا الحجر والمروة الحجارة الصغار التي فيها لين. والواحدة مروة ولزمت ال فيهما كلزومها في البيت للكعبة والنجم للثريا. والشعائر العلائم التي ندب الله إليها واحدها شعيرة أو شعارة، وهو على حذف أي: ان طواف الصفا والمروة من شعائر الله ولما تقدم الأمر بالصلاة والزكاة في غير ما آية، وذكر الصبر والقتل في سبيل الله وهو الجهاد لإقامة الدين وكان الحج من الأعمال الشاقة المنهكة للمال والبدن وهو أحد أركان الاسلام ناسب ذكره بعدما تقدم.
وقرىء { أن يطوف } وقرىء ألا يطوف. فقيل: لا زائدة. ولا نختاره بل إسقاطها يدل على رفع الجناح في فعل الشيء وهو رفع في تركه إذ هو تخيير بين الفعل والترك. نحو: فلا جناح عليهما أن يتراجعا وإثباتها يدل على رفع الجناح في الترك وكلتا القراءتين تدل على التخيير بين الفعل والترك والجناح يراد به الاثم والظاهر أن يكون الطواف بالسعي والمرور فمن سعى بينهما من غير صعود عليهما لم يكن طائفا. ودلت الآية على مطلق الطواف لا على كمية مخصوصة ولا عدد وسؤال عروة لعائشة أنه لا يرى على أحد شيئا أن لا يطوف بهما. وقولها له: يا عرية لو كان كذلك لقال: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما كلام لا يخرج اللفظ عما دل عليه من رفع الاثم عمن طاف بهما. ولا يدل ذلك على وجوب الطواف لأن مدلول اللفظ إباحة الفعل وإذا كان مباحا كنت مخيرا بين فعله وتركه. ومذهب ابن عباس وابن الزبير وأنس وعطاء ومجاهد وأحمد بن حنبل أنه لا شيء على من تركه عمدا كان أو سهوا.
{ ومن تطوع خيرا } التطوع ما تبرعت به مما لا يجب عليك. وقرىء: تطوع ماضيا، ويطوع مضارعا مجروما ويتطوع مضارع، تطوع مجزوما. وخيرا منصوب على إسقاط حرف الجر أي بخير. وقد قرىء: بخيرا ويكون التقدير تطوعا خيرا.
{ فإن الله شاكر } أي مثيب أو مغن.
{ عليم } بما انطوت عليه نية المتطوع.
[2.159-164]
{ إن الذين يكتمون } هم اليهود.
{ مآ أنزلنا من البينات والهدى } أي في التوراة كتموا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتموا الرجم.
وقرىء { من بعد ما بيناه } ومن بعد ما بينه وهو التفات خرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب كما خرج فيما أنزلنا من الغيبة إلى التكلم. في قوله: فإن الله. وقوله: ما أنزلنا.
{ في الكتاب } التوراة أو القرآن أو كتب الله وكتمه بعد تبيينه أعظم في الاثم. وقد يكتم الانسان الشيء ولا يكون مبينا للناس.
{ أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون } أولئك إشارة لمن اتصف بهذه الوصف القبيح وأبرز خبره في صورة جملتين تعظيما لهذا الوصف الذي حل بهم واللاعنون الملائكة. ومن تتأتى منهم اللعنة كمؤمن الثقلين أو كل شيء وغلب العاقل في الجميع.
{ إلا الذين تابوا } عن الكفر والكتمان.
{ وأصلحوا } قلوبهم بالنية الصالحة والأعمال الظاهرة.
{ وبينوا } الحق الذي كتموه.
{ فأولئك أتوب عليهم } أي اعطف.
{ إن الذين كفروا } ذكر حال من كتم، ثم حال من تاب، ثم ذكر حال من وافى مصرا على الكفر، وجعل اللعنة قد تجللتهم وغشيتهم.
{ وهم كفار } جملة حالية ومجيئها بالواو في مثل هذا التركيب أكثر.
و { لعنة } مرفوع على الفاعلية إذ الجار والمجرور قد اعتمد لكونه خبرا. وقرىء والملائكة.
{ والناس أجمعين } وقرىء برفع الثلاث وكل من وقفنا على كلامه من معرب ومفسر جعله عطفا على الموضع وقدروه أن يلعنهم الله وإن لعنهم الله وهذا لا يصح على قول المحققين من النحويين لأن من شرط العطف وجود المحرز الذي لا يتغير. وأيضا فلا يظهر أن لعنة هنا مصدر ينحل لحرف مصدري والفعل إذ لا يراد به العلاج، وكان المعنى أن عليهم لعنة الله كما جاء إلا لعنة الله على الظالمين وأضيف هذا المصدر على سبيل التخصيص لا على سبيل الحدوث وتخرج هذه القراءة على إضمار فعل يدل عليه ما قبل أي وتلعنهم الملائكة. أو على حذف مضاف أقيم المضاف إليه مقامه أي ولعنة الملائكة أو على أن الملائكة مبتدأ خبره محذوف تقديره أخيرا يعلنونهم.
{ خالدين فيها } في اللعنة أو في النار لدلالة اللعنة عليها ودلالة قوله:
{ لا يخفف عنهم العذاب } ولا يخفف حال من ضمير خالدين. وخالدين حال من ضمير عليهم أو هما حالان من ضمير عليهم على مذهب من يجيز حالين من ذي حال واحد وهو الصحيح.
قالوا يا محمد صف لنا ربك فنزلت:
{ وإلهكم } الآية وسورة الاخلاص.
والهكم { إله واحد } أي لا يتجزأ ولا نظير له ولم يكن معه في الأزل شيء.
{ لا إله إلا هو } توكيد لمعنى الوحدانية ودلت على حصر الألوهية فيه تعالى ولا يجوز أن يكون إلا هو خبرا.
عن لا على مذهب الأخفش ولا خبرا عن مجموع لا إله إلا الله إذ هو في موضع مبتدأ على مذهب سيبويه لأن هو معرفة. وقالوا: هو بدل من اسم لا على الموضع وهو مشكل لأنه لا يمكن تقدير تكرار العامل لا تقول: لا رجل لا الا زيد. والذي ظهر لي فيه أنه ليس بدلا من لا إله إلا الله ولا الا زيد بدل من لا رجل. بل هو بدل من الضمير المستكن في الخبر المحذوف إذ التقدير لا رجل كائن أو موجود إلا زيد. كما تقول: ما أحد يقوم إلا زيد. وإلا زيد: بدل من الضمير في يقوم، فهو بدل مرفوع من ضمير مرفوع. وقول من قال: لا يحتاج إلى حذف سهو.
و { الرحمن } خبر مبتدأ محذوف.
و { الرحيم } كذلك أي خبر لمبتدأ محذوف، أو خبر بعد خبر. أو خبران. أو صفة لقوله: والهكم وفصل بالخبر ولا إله إلا الله خبر ثان أو اعتراض.
{ إن في خلق السموت والأرض } لما تقدم اختصاصه تعالى بالالهية استدل بهذا الخلق الغريب استدلالا بالأثر على المؤثر، وبدا بالعالم العلوي وآياتها ارتفاعها من غير عمد تحتها ولا علائق فوقها وما فيها من النيرين الشمس والقمر والنجوم السيارة والكواكب الزاهرة شارقة وغاربة نيرة وممحوة وعظم إجرامها وارتفاعها، حتى قال أرباب الهيئة: إن الشمس قدر الأرض مائة وأربعة وستين مرة، وإن أصغر نجم في السماء قدر الأرض. سبع مرات وآية الأرض بسطها لا علاقة فوقها ولا دعامة تحتها وأنهارها وجبالها ونباتها ومعادنها، واختصاص كل موضع بما هيء فيه ومنافع نباتها ومضارها. وذكر أرباب الهيئة: ان الأرض نقطة في وسط الدائرة ليس لها جهة وان البحار محيطة بها والهواء محيط بالماء والنار محيطة بالهواء والأفلاك وراء ذلك.
{ واختلاف الليل والنهار } بإقبال هذا وإدبار هذا وبالنور والظلمة والطول والقصر والتساوي وقدم الليل لسبقه في الخلق.
{ والفلك التي تجري في البحر } الفلك قيل واحدة. فلك كاسد وأسد ويكون مفردا وجمعا فهو حركاته في الجمع غير حركاته في المفرد وإذا كان مفردا ثنى قالوا: فلكان. وقيل: إذ أريد به الجمع فهو اسم جمع. والذي أذهب إليه أنه لفظ مشترك حركاته في الجمع حركاته في المفرد ولا يقدر بغيرها وإذا كان مفردا كان مذكرا. وقيل: قد يكون مؤنثا وآيتها تسخير الله إياها حتى تجري على وجه الماء ووقوفها فوقه مع ثقلها ولو رميت حصاة لغرقت وتبليغها المقاصد.
والباء في بما للسبب وما موصولة ونفعهم بما يتأتى به من المتجر والبضائع والنقل من بلد إلى بلد والحج والغزو وذكر النفع وإن كانت قد تجري بما يضر لأنه في معرض الامتنان.
{ ومآ أنزل الله من السمآء من مآء } أي من جهة السماء.
ومن ماء: بدل اشتمال.
{ فأحيا } عطفه على صلة ما بالفاء المقتضية للتعقيب وسرعة النبات وكني بالاحياء عن ظهور ما أودع فيها من النبات. وبالموت عن استقرار ذلك فيها وعدم ظهوره.
{ وبث فيها } معطوف على ما قبلها من الصلة أي نشر وفرق. والرابط به أي وبث به أي بالماء وحذف لدلالة قوله به في قوله: فاحيا به الأرض لأن الدواب ينمون بالخصب ويعيشون بالحياة. أو يقدر موصول محذوف لفهم المعنى معطوف على قوله: وما أنزل، أي: وما بث فيها. وكلا هذين التخريجين مسموع من كلام العرب وإن لم يقسه بعض النحويين. وآية الدواب اختلاف أشكالها وصفاتها وانتقالاتها ومنافعها ومضارها وما أودع في كل شكل شكل من الأسرار العجيبة.
{ وتصريف الرياح } هبوبها قبولا ودبورا، وجنوبا وشمالا، حارة وباردة، عاصفة ورخاء، لواقح ونكبا. وقرىء بالجمع والافراد والياء منقلبة عن واو لكسرة ما قبلها.
{ والسحاب المسخر بين السمآء والأرض } السحاب اسم جنس. واحده سحابة ويذكر السحاب ولذلك وصفه بالمسخر ويجوز تأنيثه وقد يوصف بالجمع رعيا لأفراده إذ هو اسم جنس، كقوله:
حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا
[الأعراف: 57] وتسخيره بعثه من مكان إلى مكان وثبوته بين السماء والأرض بلا علاقة وانتصب بين المسخر.
{ لآيات لقوم } أي كائنة لقوم.
{ يعقلون } لأنه لا يتفكر في هذه الآيات العظيمة إلا العقلاء وهذه الآيات منها مدرك بالبصيرة وهو خلق السماوات والأرض ومدرك بالبصر وهو ما بعد ذلك. فقيل: لقوم يعقلون، ولم يقل: يبصرون. تغليبا لحكم العقل إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى الله تعالى.
[2.165-166]
{ ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا } لما قرر التوحيد بالدلائل الباهرة ذكر من لم يوفق فاتخذ اندادا ليظهر تفاوت ما بين العقلاء وغيرهم.
ومن الناس: أي من أهل الكتاب وعبدة الأوثان من يتخذ من دون الله أي من غير الله أندادا رؤساء وأصناما.
{ يحبونهم } أي يعظمونهم. وغلب العقلاء فلذلك جاء بمضيرهم.
{ كحب الله } أي كحبكم. أو كحبهم أي كتعظيم الله تعالى. " وقدره " الزمخشري كما يحب الله على أنه مصدر مبني للمفعول وفي ذلك خلاف والأصح المنع. وقرىء: يحبونهم من حب يحب ومجيئه على يفعل شاذ.
{ والذين آمنوا أشد حبا لله } منهم أي من المتخذين الأنداد لأندادهم أي أطوع وأكثر امتثالا لما أمر ونهى.
{ ولو يرى الذين ظلموا } قرىء بالتاء خطابا للسامع وبالياء ردا. ففاعل يرى: مضمر. أي السامع. والمفعول: الذين ظلموا، أو يكون الفاعل الذين ظلموا والمفعول محذوف أي ما حل بهم وفي قراءة التاء لاستعظمت ما حل بهم. وقرىء أن أي لأن وبكسر الهمزة وفيها معنى التعليل. وقرىء يرون بفتح الياء وبضمها والذين ظلموا هم متخذوا الأنداد أو عام اندرجوا فيه. ويرى في ولو يرى بصرية كهي في يرون ودخلت إذ وهي ظرف ماض تقريبا للأمر وتصحيحا لوقوعه كما وقع الماضي مكان المستقبل في قوله:
ونادى أصحاب النار
[الأعراف: 50] و " جميعا " حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور والعامل فيها هو العامل في الضمير.
{ إذ تبرأ } بدل من إذ يرون.
و { الذين اتبعوا } هم رؤساؤهم. قرىء: اتبعوا الأول مبنيا للمفعول، والثاني مبنيا للفاعل. وقرىء بالعكس. وتبرؤ المتبوعين بالقول انهم لم يضلوا تابعيهم كقولهم: تبرأنا إليك، وتبرؤ المتبوعين بالقول انفصالهم عن متبوعهم والندم على عبادتهم.
{ ورأوا العذاب } معطوف على تبرأ أو الواو واو الحال ويسمى الكلام المسجوع ترصيعا وهو في هاتين الجملتين.
[2.167-170]
{ وقال الذين اتبعوا } تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله ويتبرؤا منهم في الآخرة إذا حشروا جميعا مثل: ما تبرأ المتبوعين منهم أولا ولو هي التي لما كان سيقع لوقوع غيره. اشربت معنى التمني. وجاء النصب بعد الفاء بإضمار إن فقيل إذا استعملت للتمني فجوابها هو الفعل المقرون بالفاء المنصوب وقد جاء في كلامهم التصريح بجواب لو المشربة معنى التمني مصرحا به بعد الفعل المنصوب بعد الفاء ويظهر لي ان فنتبرأ المقدر نصبه بأن مضمرة هو معطوف على كرة أي لو أن لنا كرة.
{ فنتبرأ منهم } لخلصنا وسلمنا من عذاب الله.
{ كذلك } أي مثل اراءتهم تلك الأحوال.
{ يريهم الله أعمالهم } السيئة.
{ حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار } فيه دلالة على دخولهم النار وهذا في الكفار. وليس فيه دلالة على أن من دخل النار من عصاة المؤمنين لا يخرج منها، لأن الضمير في هم عائد على الكفار.
وانتصب { حلالا } على أنه حال من الضمير المستقر في الصلة ووصف بالطيب. وقال ابن عطية: ويصح ان يكون طيبا حالا من الضمير في كلوا تقديره مستطيبين وهذا فاسد في اللفظ والمعنى اما اللفظ فلان طيبا اسم فاعل وليس بمطابق للضمير لأن الضمير جمع وطيب مفرد وليس طيب بمصدر. فيقال: لا تلزم المطابقة. وأما المعنى فلان طيبا مغاير لمعنى مستطيبين لأن الطيب من صفات المأكول، والمستطيب من صفات الآكل. تقول: طاب لزيد الطعام. ولا تقول: طاب زيد الطعام في معنى استطابه. والأصل في الطيب المستلذ ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه، لأن النجس تكرهه النفس فالحرام لا يستلذ به لأن الشرع منع منه والثابت في اللغة ان الطيب هو الطاهر من الدنس.
{ ولا تتبعوا خطوات الشيطان } كناية عن ترك الاقتداء به فيما سن من المعاصي. وقرىء خطوات - سكون الطاء وبفتحها - والخطوة: المكان الذي يخطو فيه. وبفتح الخاء والطاء. والخطوة: المرة الواحدة من الخطو. وقرىء خطوات بضم الخاء والطاء والهمزة وهو جمع خطأة من الخطا ان كان سمع والا فتقدير.
{ إنه لكم عدو مبين } تعليل لسبب هذا التحذير.
{ إنما يأمركم } بوسوسته وإغوائه وما يلقيه على ألسنة الكهنة.
{ بالسوء } بما يسؤوكم في العقبي.
{ والفحشآء } بما يفحش قوله وفعله ومنعت منه الشريعة.
{ وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } من تحريم ما لم يحرم وذلك نحو السائبة والبحيرة. وقولهم: هذا حلال وهذا حرام من غير استناد إلى علم. قيل: وظاهر هذا تحريم القول في دين الله بما لا يعلمه القائل. والضمير في لهم عائد على من اتصف بقوله:
{ بل نتبع } من كفار العرب ومتخذي الأنداد واليهود.
وبل نتبع عطف على جملة محذوفة تقديرها لا نتبع ما تدعونا إليه بل نتبع.
{ مآ ألفينا } أي ما وجدنا.
{ عليه آبآءنآ } أي مما يخالف ما تطلبون منا. وفيه دليل على إبطال التقليد، والذي وجدوا عليه آباءهم هو مخالف لما أنزل الله فاقتدوا في ذلك بآبائهم رؤوس الضلال.
{ أولو } الهمزة فيه للإنكار عليهم والتوبيخ والتعجب. ولو في مثل هذا التركيب تجيء تنبيها على أن ما بعدها غير شامل لما قبلها نحو: اعطوا السائل ولو جاء على فرس. والمعنى على كل حال ولو في هذه الحالة التي لا يناسب من جاء على فرس أن يعطي إذا سأل. وتجيء لاستقصاء الأحوال التي يقع عليها الفعل، ويدل على أن المراد بذلك وجود الفعل في كل حال حتى في هذه الحال التي لا تناسب الفعل، فالمعنى: إنكار اتباع آبائهم في كل حال حتى في الحالة التي لا يناسب أن يتبعوا فيها وهي تلبسهم بعدم العقل وعدم الهداية، ولما أعرضوا عن اتباع ما أنزل الله واتبعوا ما نشؤا عليه من تقليد آبائهم ذكر هذا التشبيه العجيب إذ صار في رتبة البهيمة أو في رتبة داعيها وقدر، ومثل داعي الذين كفروا لآلهتهم التي لا تفقه دعاءه، كمثل الناعق بغنمة لا ينتفع في نعيقه بشيء غير أنه في عناء ونداء، كذلك الكافر في دعائه الآلهة وعبادته الأوثان ليس له إلا العناء وقدر أيضا.
[2.171-173]
{ ومثل الذين كفروا } وداعيهم إلى الهدى.
{ كمثل الذي ينعق } والمنعوق به. شبه داعي الكفار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه وشبه الكفار بالغنم في كونهم لا ينتفعون بما دعوا إليه غير أصوات. حذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني وهو الذي ينعق ومن الثاني ما أثبت نظيره في الأول.
وتقدم { يا أيها الناس } ، وهنا أقبل على المؤمنين بندائهم وأباح لهم أكل ما رزقهم من الطيبات وأمرهم بالشكر على ذلك وكانت وجوه الطيبات كثيرة استطرد إلى ذكر المحرمات. وقرىء حرم وحرم وحزم والميتة بالتخفيف والتشديد، والظاهر أن المحذوف هو الأكل أي أكل الميتة لقوله: كلوا من طيبات. والميتة عام خص منه الحوت والجراد. قال ابن عطية: الحوت والجراد لم يدخل قط في هذا العموم " انتهى ".
فإن عني لم يدخل في دلالة اللفظ فلا نسلم له ذلك وإن عني لم يدخل في الارادة فهو كما قال، لأن المخصص يدل على أنه لم يرد به الدخول في اللفظ العام الذي خصص به.
وقال الزمخشري: فإن قلت في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد، قلت: قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه على العادة ألا ترى أن القائل إذا قال: أكل فلان ميتة لم يسبق الفهم إلى السمك والجراد، كما لو قال: أكل دما لم يسبق إلى الكبد والطحال، ولاعتبار العادة والتعارف قالوا: من حلف لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث وإن أكل لحما في الحقيقة. وقال تعالى:
لتأكلوا منه لحما طريا
[النحل: 14]. وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة فركب كافرا لم يحنث وإن سماه الله دابة في قوله:
إن شر الدواب عند الله الذين كفروا
[الأنفال: 55]. " انتهى ". وملخص ما يقول ان السمك والجراد لم يندرج في عموم الميتة من حيث الدلالة وليس كما قال وكيف يكون ذلك وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" احلت لنا ميتتان ودمان "
فلو لم يندرج في الدلالة لما احتيج إلى تقرير شرعي في حله إذ كان يبقى مدلولا على حله بقوله:
كلوا مما في الأرض
[البقرة: 168] { كلوا من طيبات ما رزقناكم }. وليس من شرط العموم ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة كما قال الزمخشري: بل لو لم يكن للمخاطب شعور البتة ولا علم ببعض أفراد العام وعلق الحكم على العام لا يدرج فيه ذلك الفرد الذي لا شعور للمخاطب به. مثال ذلك: ما جاء في الحديث نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع فهذا علق الحكم فيه بكل ذي ناب والمخاطب الذين هم العرب لا علم لهم ببعض أفراد ذي الناب، وذلك الفرد مندرج في العموم يقضي عليه بالنهي كما في بلادنا بلاد الأندلس أنه ليس حيوان مفترس يسمى عندهم باللب وبالسبع.
وفي جواز أكل السمك الطافي والجراد الذي مات بغير سبب خلاف، والدم عام فإذا كان مسفوحا فلا خلاف في نجاسته وتحريمه. وفي دم السمك المزايل له خلاف ويجوز أكل الدم المتخلل بالعروق واللحم الشاق إخراجه والكبد والطحال ولحم الخنزير ظاهره أن المحرم منه هو لحمه فقط. وبه قال داود وقال سائر العلماء: لحمه وسائر أجزائه حرام. وفي جواز أكل الخنزير البحري خلاف. وقال الزمخشري: فإن قلت فما له ذكر لحم الخنزير دون شحمه. قلت لأن الشحم داخل في ذكر اللحم بدليل قولهم لحم سمين يريدون أنه شحيم. " انتهى ".
وقولهم هذا ليس بدليل على أن الشحم داخل في ذكر اللحم لأن وصف الشيء بأنه يمازجه شيء آخر لا يدل على أنه مندرج تحت مدلول ذلك الشيء ألا ترى أنك تقول مثلا: رجل لابن ورجل عالم، لا يدل ذلك على أن اللبن أو العلم داخل في ذكر الرجل ولا أن ذكر الرجل مجردا عن الوصفين يدل عليهما. وقال ابن عطية: وخص ذكر اللحم من الخنزير ليدل على تحريم عينه ذكي أو لم يذك وليعم الشحوم وما هناك من الغضاريف وغيرها. وأجمعت الأمة على تحريم شحمه. " انتهى ".
وليس كما ذكر لأن ذكر اللحم لا يعم الشحم وما هنالك من الغضاريف لأن كلا من الشحم واللحم وما هناك من غضروف وغيره له اسم يخصه. إذ أطلق ذلك الاسم لم يدخل فيه الآخر، ولا يدل عليه لا بمطابقة ولا تضمن فإذن تخصيصه بالذكر يدل على تخصيصه بالحكم إذ لو أريد المجموع لدل بلفظ يدل على المجموع.
وقوله: أجمعت الأمة على تحريم شحمه ليس كما ذكر ألا ترى أن داود لا يحرم إلا ما ذكره الله تعالى وهو اللحم دون الشحم إلا أن يذهب ابن عطية إلى ما يذكر عن أبي المعالي عبد الملك الجويني من أنه لا يعتد في الاجماع بخلاف داود. وقد اعتد أهل العلم الذين لهم ألفهم التام والاجتهاد قبل أن يخلق الجويني بازمان بخلاف داود ونقلوا أقاويله في كتبهم كما نقلوا أقاويل الأئمة كالأوزاعي وأبي حنيفة ومالك والثوري والشافعي وأحمد ودان بمذهبه. وقوله: وطريقته ناس وبلاد وقضاة وملوك الأزمان الطويلة ولكنه في عصرنا هذا قد حمل هذا المذهب كغيره.
{ ومآ أهل به } الاهلال رفع الصوت أي ذبح لغير الله من الأصنام والطواغيت ومعبود غير الله ومقصود به التباهي والتفاخر.
{ فمن اضطر } أي في مخمصة.
{ غير باغ } أي على المسلمين.
{ ولا عاد } عليهم كقطاع الطريق والخارج على السلطان والمسافر في قطع الرحم.
{ فلا إثم عليه } في تناول شيء من هذه المحرمات ولا يرتفع الاثم إلا إذا كان المضطر غير باغ ولا عاد. وجاء في الآية الأخرى: غير متجانف لاثم، فيقيد به مطلق قوله: إلا ما اضطررتم إليه. وقرىء بكسر نون فمن وضمها وبكسر الطاء وبإدغام الضاد في الطاء.
[2.174-176]
{ إن الذين يكتمون } هم علماء اليهود.
{ مآ أنزل الله من الكتاب } أي التوراة. وهو ما تضمنته من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته وكانوا يرجون أن يكون منهم فلما بعث من غيرهم غيروا صفته.
{ ويشترون به } أي بالكتم من سفلتهم.
{ ثمنا قليلا } وهي الهدايا التي كانوا يأخذونها على الكتم إذ كان ملوكهم لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوهم: أهذا الذي بشرت به التوراة؟ فقالوا: ليس هذا هو النبي المنتظر.
{ أولئك } أي المتصفون بالكتم والاشتراء.
{ ما يأكلون في بطونهم إلا النار } كناية عن تحمل آثامهم المؤدية إلى النار في الآخرة وكأنهم أكلوا النار أو يأكلون النار في الآخرة. وهي كقوله في أكل مال اليتيم: إنما يأكلون في بطونهم نارا. وفي بطونهم لرفع المجاز في يأكلون.
{ ولا يكلمهم } ظاهر في نفي تكليمه تعالى إياهم. وفيه دلالة على غضبه عليهم لأن في التكليم تأنيسا للمتكلم أو لا يكلمهم كلاما فيه خير لهم بل ما يشق عليهم.
{ ولا يزكيهم } أي لا يقبل أعمالهم فيثني عليهم.
{ فمآ أصبرهم على النار } تعجب من كثرة صبرهم. كقوله تعالى:
قتل الإنسان مآ أكفره
[عبس: 17] و
أسمع بهم وأبصر
[مريم: 38]، أي هم في حال عذاب يقول من يراهم: ما أصبرهم. وفي ما التعجيبية وأفعل خلاف مذكور في النحو.
{ ذلك } إشارة إلى الوعيد السابق من أكل النار وانتفاء التكليم والتزكية وهو مبتدأ خبره.
{ بأن الله } أي حاصل بأن الله.
{ نزل الكتاب بالحق } فلم يتبعوه وكتموه واشتروا به ثمنا قليلا أقام السبب وهو تنزيل الكتاب بالحق مقام المسبب عنه وهو الكتمان والاشتراء كأنه قيل ذلك مستقر وثابت بالكتمان والاشتراء.
{ وإن الذين اختلفوا في الكتاب } وهم اليهود آمنوا ببعض التوراة وكفروا ببعضها. أو الكتاب القرآن والذين اختلفوا مشركوا العرب من قولهم سحر أساطير الأولين وغير ذلك.
{ لفي شقاق } أي تباين وتباغض.
{ بعيد } أي عن الحق والصواب.
[2.177]
كانت اليهود تصلي إلى المغرب والنصارى إلى المشرق فنزل:
{ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب } وقبل ظرف مكان. تقول: زيد قبلك أي في المكان الذي يقابلك. ولما تقدم ذكرهم بأقبح الذكر وما يؤلون إليه في الآخرة ولم يبق لهم مما يتعلقون به إلا صلاتهم وزعمهم أن ذلك هو البر نفي ذلك عنهم وأثبت ما يكون به البر وهي الأوصاف الذي ذكرها. وقرىء البر بالنصب على أنه خبر ليس، وبالرفع على أنه اسمها. وأن تولوا الخبر، والبر اسم جامع لأنواع الخير.
{ ولكن البر من آمن } قرىء بتشديد نون لكن، ونصب البر وبالتخفيف والرفع، والبر ليس نفس من آمن فهو على حذف من الأول أي: ولكن ذو البر، أو من الثاني أي: بر من آمن، أو جعل البر نفس من آمن مبالغة.
{ بالله واليوم الآخر } الآية وهذه أركان الايمان كما جاء في الحديث
" أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر "
، واليهود أخلوا بالإيمان بالله لتجسيمهم. وقولهم: عزير بن الله، والنصارى بقولهم: المسيح ابن الله والنصارى أنكروا المعاد الجسماني، واليهود قالوا: لن تمسنا النار وعادوا جبريل عليه السلام والنصارى واليهود أنكروا القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
{ وآتى المال } واليهود أبخل العالم وأحرصهم بإلقاء الشبه لأخذ الأموال.
{ على حبه } أي على حب المؤتي المال وهذا من أعظم المدح أن تتعلق نفس بشيء فتبذله طاعة الله.
{ ذوي القربى } بدأ بالأهم لأنها صدقة وصلة ثم باليتامى إذ ليس لهم من يقوم بأودهم. وفي الحديث:
" أنا وكافل اليتم كهاذين في الجنة "
ثم بالمساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم ثم بابن السبيل لأنه منقطع به عن أهله ثم بالسائلين لأن حاجتهم دون حاجة من تقدم لأنه عرض نفسه للسؤال.
{ وفي الرقاب } وهم الذين يعانون في فك رقابهم من مكاتب وأسير.
{ والموفون بعهدهم } معطوف على من آمن أو على القطع أي وهم الموفون والعامل في إذ الموفون أي لا يتأخر إبقاؤهم بالعهد عن وقت إيقاعه. وقرىء والموفين نصبا على المدح.
{ والصابرين في البأسآء والضرآء } قرىء رفعا ونصبا. والبأساء: الشدة كالفقر والقتال. والضر: ما يضر من زمانة وغيرها.
{ وحين البأس } أي وقت شدة القتال واضطرام الحرب.
{ أولئك } إشارة إلى:
{ الذين } جمعوا هذه الأوصاف الذين { صدقوا } في أقوالهم وأحوالهم كان قوم من العرب أقوياء أعزاء لا يقتلون بالعبد منهم إلا سيدا ولا بالمرأة إلا رجلا.
[2.178-179]
وكان في بني إسرائيل القصاص دون الدية فأنزل الله تعالى:
{ يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى } وأصل الكتابة الخط وكني به عن الإلزام. وفي القتلى يظهر أنها للسبب كهي: في دخلت امرأة النار في هرة، أي: بسبب القتلى وبسبب هرة. والقتلى: جمع قتيل.
{ الحر بالحر والعبد بالعبد } الآية { والأنثى بالأنثى } الآية ظاهر هذا التفضيل اعتبار المماثلة بالحرية والعبودية والأنوثة. وظاهر عموم الحر بالحر أن الوالد يقتل إذا قتل ابنه وهو قول عثمان البتي. وقال مالك: إذا أضجعه وذبحه قتل به. وقد أجمعوا على قتل الحر بالمرأة والمرأة بالرجل. والظاهر من الآية مشروعية القصاص في القتلى بأي شيء حصل به القتل.
{ فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع } الواجب من ظاهر الآية اما القصاص واما الدية ومن عفى له هو القاتل، والضمير في له ومن أخيه: عائد عليه وعفا لا يتعدى ضمن معنى ما يتعدى، أي فمن ترك له شيء من أخيه أي من دية دم أخيه، أو كني بأخيه عن ولي الأم أو أبقى عفى على أصل وضعه، وشيء عبارة عن المصدر أي شيء من العفو والعفو لا يتأتى إلا من الولي والمعنى فإذا عفا الولي عن شيء يتعلق بالقاتل فيلتبع القاتل ذلك.
{ بالمعروف } ولا يعنفه ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة.
{ وأدآء } من القاتل.
{ إليه } أي إلى الولي.
{ بإحسان } أي لا يمطله ولا يبخسه شيئا. وإن كان المعنى بأخيه المقتول فالضمير في إليه عائد على العافي وهو الولي. ويدل عليه قوله: فمن عفى، لأنه يستدعي عافيا والظاهر أنه لا يتحتم للولي أن يقتص إذا عفى للقاتل شيء إذ يكون التقدير فالواجب اتباع.
{ ذلك } أي العفو والدية.
{ تخفيف من ربكم ورحمة } حيث يسلم القاتل من أن يقتل إذ كان أهل التوراة مشروعية القتل عندهم تحتم القصاص ومشروعية أهل الانجيل تحتم العفو.
{ فمن اعتدى بعد ذلك } أي بعد العفو والدية فقتل من قتله.
{ فله عذاب أليم } أما في الدنيا وهو قتله قصاصا، واما في الآخرة حيث تعدى ما حد الله له.
{ ولكم في القصاص } أي في شرع القصاص.
{ حيوة } وذلك أنه إذا علم أنه من قتل قتل كان في ذلك ارتداد عن القتل وإمساك، فكان ذلك حياة له ولمن يريد قتله. وكانت العرب إذا قتل رجل رجلا حمي قبيلة راموا ان يقتصوا منه فيقتتلون فيقضي ذلك إلى قتل عدد كثير من الفريقين، فلما شرع القصاص رضوا به وسلموا القاتل للقود أو صالحوا الرجل على الدية وتركوا القتال، فكان لهم في ذلك حياة وكم قتل مهلهل بأخيه كليب، حتى كاد يفنى بكر بن وايل.
{ يأولي الألباب } هم الذين عرفوا مشروعية القصاص وما فيها من المصلحة العامة.
{ لعلكم تتقون } القصاص فيكفون عن القتل.
ولما تقدم ذكر القصاص أتبع ذلك بالتنبيه على الوصية ليتنبه كل أحد على مفاجأة الموت فيوصي لئلا يموت على غير وصية. وهو تعالى قد كتبها على المؤمنين والخطاب في " عليكم " للموصيين مقيدا بالامكان على تقدير التجوز في حضور الموت ولو جرى الكلام على خطابهم لكان التركيب.
[2.180]
{ إذا حضر أحدكم الموت } لكن روعي العموم من حيث المعنى، إذ المعنى: كتب على كل واحد منكم، ثم أظهر ذلك المضمر إذا كان يكون إذا حضره الموت فقيل إذا حضر أحدكم.
{ إن ترك خيرا } أي مالا. والظاهر مطلق المال أن الوصية تكون واجبة، ويجمع للوارث بين الوصية والميراث بحكم الاثنين. وقال به قوم وعن ابن عباس وغيره أنه تقرر الحكم بهذا برهة ثم نسخ منها كل من يرث بآية الفرائض. وجواب كل من الشرطين إذا وإن محذوف تقديره فليوص، ودل عليه سياق المعنى. والمقدر للأول بالمعروف أي بالذي حده الشارع من كونه لا يزيد على الثلث ولا يوصي لغني دون فقير. وقال ابن عطية: ويتجه في إعراب هذه الآية أن يكون كتب هو العامل في إذا، والمعنى توجه إيجاب الله عليكم، ومقتضى كتابة إذا حضر فعبر عن توجه الإيجاب بكتب لينتظم إلى هذا المعنى أنه مكتوب في الأزل، والوصية: مفعول ما لم يسم فاعله بكتب، وجواب الشرطين إذا، وإن مقدر يدل عليه ما تقدم من قوله: كتب عليكم، كما تقول: شكرت فعلك إن جئتني إذا كان كذا. انتهى كلامه.
وفيه تناقض لأنه قال العامل في إذا كتب، وإذا كان العامل فيها كتب، تمحضت للظرفية ولم تكن شرطا. ثم قال: وجواب الشرطين إذا، وإن مقدر يدل عليه ما تقدم إلى آخر كلامه، وإذا كانت إذا شرطا فالعامل فيها اما الجواب واما الفعل بعدها على الخلاف الذي في العامل فيها. ولا يجوز أن يكون العامل فيها ما قبلها إلا على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط عليه ويفرع على أن الجواب هو العامل في إذا. ولا يجوز تأويل ابن عطية على هذا المذهب لأنه قال: وجواب الشرطين إذا وإن مقدر يدل عليه ما تقدم وما كان مقدرا يدل عليه ما تقدم يستحيل أن يكون هو الملفوظ به المتقدم. وهذا الاعراب هو على ما يقتضيه الظاهر من أن الوصية مفعول لم يسم فاعله مرفوع بكتب. وأجاز بعض المعربين أن ترتفع الوصية على الابتداء على تقدير الفاء، والخبر إما محذوف أي فعليه الوصية، وإما منطوق به وهو قوله:
{ للوالدين والأقربين } أي فالوصية للوالدين وتكون هذه الجملة الابتدائية جوابا لما تقدم والمفعول الذي لم يسم فاعله بكتب مضمر أي الايصا يفسره ما بعده. قال أبو محمد ابن عطية في هذا الوجه: ويكون هذا الايصاء المقدر الذي يدل عليه ذكر الوصية بعد هو العامل في إذا وترتفع الوصية بالابتداء وفيه جواب الشرطين على نحو ما أنشد سيبويه:
من يفعل الصالحات الله يحفظه
، ويكون رفعها بالابتداء بتقدير فعليه الوصية أو بتقدير الفاء فقط كأنه قال: فالوصية للوالدين.
" انتهى ".
كلامه وفيه أن إذا معمولة للإيصاء المقدر. ثم قال: ان الوصية فيه جواب الشرطين وقد تقدم ما يناقض ذلك، لأن إذا من حيث انها معمولة للإيصال لا تكون شرطا ومن حيث ان الوصية فيه جواب إذا تكون شرطا متناقضا لأن الشيء الواحد لا يكون شرطا غير شرط في حالة واحدة، ولا يجوز أن يكون الإيصاء المقدر عاملا في إذا أيضا لأنك إما أن تقدر هذا العامل في إذا لفظة الايصاء فحذف أو ضمير الايصاء لا جائزان تقدره لفظة الايصاء ولا جائز لأن المفعول الذي لم يسم فاعله لا يجوز حذفه وابن عطية قدر لفظ الايصاء أن يقدره ضمير الايصاء لأنه لو صرح بضمير المصدر لم يجز له أن يعمل لأن المصدر من شرط عمله عند البصريين أن يكون مظهرا، وإذا كان لا يجوز اعمال لفظ مضمر المصدر فمنويه أحرى أن لا يعمل. وأما قوله: وفيه جواب الشرطين فليس بصحيح فانا قد قررنا أن كل شرط يقتضي جوابا على حدته، والشيء الواحد لا يكون جوابا لشرطين. وأما قوله على نحو ما أنشد سيبويه، وذكر البيت فهو تخريف عليه.
وإنما أنشد سيبويه:
* من يفعل الحسنات الله يشكرها
والشر بالشر عند الله مثلان *
وأما قوله بتقدير فعليه الوصية أو بتقدير الفاء فقط، كأنه قال: فالوصية للوالدين. فكلام من لم يتصفح كلام سيبويه فإن سيبويه نص على أن مثل هذا لا يكون إلا في ضرورة الشعر فينبغي أن ينزه كتاب الله عنه. قال سيبويه: وسألته يعني الخليل عن قوله: أن تأتني أنا كريم، قال: لا يكون هذا إلا أن يضطر الشاعر من قبل أن كريم يكون كلا ما مبتدأ والفاء وإذا لا يكونان إلا معلقين بما قبلهما فكرهوا أن يكون هذا جوابا حيث لم يشبه الفاء. وقاله الشاعر عن مضطر وأنشد البيت السابق: من يفعل الحسنات. وذكر عن الأخفش أن ذلك على إضمار الفاء وهو محجوج بنقل سيبويه إن ذلك لا يكون إلا في الاضطرار وأجاز بعضهم أن يقام مقام المفعول الذي لم يسم فاعله الجار والمجرور الذي هو عليكم وهو قول لا بأس به على ما نقرره، فتقول لما أخبر أنه كتب على أحدهم إذا حضره الموت ان ترك خيرا تشوف السامع لذكر المكتوب ما هو فتكون الوصية مبتدأ أو خبر المبتدأ على هذا التقدير، وتكون جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: ما المكتوب على أحدنا إذا حضره الموت وترك خيرا؟ فقيل: الوصية للوالدين والأقربين هي المكتوبة أو المكتوب الوصية للوالدين والأقربين. ونظيره: ضرب بسوط يوم الجمعة، زيد المضروب أو المضروب زيد. فيكون هذا جوابا لسؤال مقدر. كأنه قيل: من المضروب؟ وهذا الوجه أحسن وأقل تكلفا من الوجه الذي قبله وهو أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله الايصاء أو ضمير الايصاء ويجوز أن يكون على حذف مضاف تقديره كتب على أحدكم.
ثم أبرزه في قوله: إذا حضر أحدكم، دلالة على المحذوف، والمعنى: كتب على أحدكم إذا حضره الموت فتكون الوصية مكتوبة على ذلك الأحد لا على الذين آمنوا. ويجوز أن يكون ثم معطوف محذوف تقديره إذا حضر أحدكم الموت وترك خيرا ووصى، وتكون الوصية معمولة الكتب على حذف مضاف تقديره كتب عليكم إنفاذ الوصية.
{ حقا على المتقين } فيه وفي كتب دلالة على الوجوب وانتصب حقا على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة قاله الزمخشري وابن عطية وكون على متعلقا به أو في موضع الصفة يخرجه عن التوكيد والأولى عندي أن يكون مصدرا على غير الصدر لأن معنى كتب وجب وحق.
[2.181-183]
{ فمن بدله } أي الايصاء.
{ بعد ما سمعه } كني بالسماع عن العلم لأنه طريق لحصوله وتبديله في تغيير بعض ألفاظه ووضعه غير مواضعه وقسمته ووصوله إلى مستحقه.
{ فإنما إثمه } أي اثم تبديله.
{ على الذين يبدلونه } أقام الظاهر مقام المضمر وأتى بالجمع على معنى من لا على اللفظ. ودل بقوله: على الذين يبدلونه على العلية الحاصلة بالتبديل.
{ إن الله سميع } لقول الموصي.
{ عليم } بفعل الوصي وفيه تهديد ووعيد.
{ فمن خاف } أي خشي.
{ من موص جنفا } أي مطمعا الميراث من يرثه وإن لم يتعمد ذلك.
{ أو إثما } إذا تعمد ذلك.
{ فأصلح بينهم } أي بينه وبين وارثه برده عن ذلك، أو بين الورثة والموصى لهم.
{ فلا إثم عليه } أي على الساعي في الاصلاح ولما كان الاصلاح يحتاج إلى الإكثار من القول قد يتخلله بعض ما لا ينبغي من قول أو فعل بين ان ذلك لا إثم فيه إذا كان يقصد الاصلاح ودلت الآية على جواز الصلح بين المتنازعين إذا خاف من يريد الصلح لإفضاء تلك المنازعة إلى أمر محذور في الشرع.
{ إن الله غفور } للموصي إذا وافق على الاصلاح.
{ رحيم } به أو بين الورثة والموصى له.
{ كتب عليكم الصيام } إن كان قد سبق التعبد به قال للعهد وإلا فللجنس.
{ كما } أي كتبا كما فهو نعت لمصدر محذوف. أو في موضع الحال على مذهب سيبويه. والتشبيه في مطلق الكتب وإن كان المتعلق مختلفا بالعدد أو بغيره وما مصدرية.
{ على الذين من قبلكم } هم الأنبياء وأممهم.
{ لعلكم تتقون } ظاهره التعلق بكتب. والمعنى أن فيه ردع النفس عن الشهوات فتحصل التقوى.
[2.184]
{ أياما معدودات } أي صوموا أياما يحصرها العد أي هي قلايل وانتصاب أياما بالصيام، كما قال الزمخشري: وتمثيله إياه بنويت الخروج يوم الجمعة خطأ واضح لأن معمول المصدر من صلته وقد فصل بينهما بأجنبي وهو قوله كما كتب، فكما كتب ليس بمعمول للمصدر وإنما هو معمول لغيره على أي تقدير قدرته من كونه نعتا لمصدر محذوف أو في موضع الحال، ولو فرعت على أنه صفة للصيام على تقدير أن تعريف الصيام تعريف جنس فيوصف بالنكرة لم يجز أيضا، لأن المصدر إذا وصف قبل ذكر معموله لم يجز اعماله فإن قدرت الكاف نعتا لمصدر من الصيام كما قد قال بعضهم وضعفناه قبل فيكون التقدير صوما كما كتب جاز أن يعمل في أيام الصيف، لأنه إذ ذاك العامل في صوما: هو المصدر، فلا يقع الفصل بينهما بما ليس بمعمول للمصدر. وأجازوا أيضا انتصاب أياما على الظرف، والعامل فيه: كتب، وأن يكون: مفعولا على السعة ثانيا، والعامل فيه كتب وإلى هذا ذهب الفراء والجوني وكلا القولين خطأ أما النصب على الظرف بأنه محل للفعل والكتابة ليست واقعة في الأيام لكن متعلقها هو الواقع في الأيام، فلو قال الانسان لولده وكان ولد في يوم الجمعة: سرني ولادتك يوم الجمعة لم يمكن أن يكون يوم الجمعة معمولا لسرني، لأن السرور يستحيل أن يكون يوم الجمعة إذ ليس بمحل للسرور الذي أسنده إلى نفسه. وأما النصب على المفعول اتساعا فإن ذلك مبني على جواز وقوعه ظرفا لكتب وقد بينا أن ذلك خطأ.
{ فمن كان منكم مريضا } ظاهره مطلق المرض بحيث يصدق عليه الاسم وبه قال ابن سيرين وعطاء والبخاري: ولمعظم الفقهاء تقييدات مضطربة لا يدل عليها كتاب ولا سنة.
{ أو على سفر } ظاهره فعدة اعتباره مطلق السفر زمانا وقصدا لا يكون إلا بعد الخروج للسفر لا لمؤمل السفر.
{ فعدة من أيام أخر } الجمهور على أن في الكلام محذوفا تقديره فافطر. فعدة: أي فالواجب عدة. والظاهر أن لا حذف وإن فرض المريض والمسافر هو العدة وأنه لو صام لم يجزه فيجب القضاء. وروي ذلك عن قوم من الصحابة وعن طائفة من أهل الظاهر. وقرىء فعدة بالرفع أي فالواجب عدة وبالنصب أي فليصم عدة، والعدة: بمعنى المعدود. ومعلوم أنها عدة الأيام التي فاتته وأخر صفة لأيام وهي جمع أخرى آخر مقابل آخرين لا جمع أخرى مقابلة الآخر المقابل للأول وظاهر الآية يقتضي عدد ما فاته فلو فاته الشهر وكان تاما أو ناقصا قضاه كما فاته وأنه لا يتعين التتابع وأنه لو أخر حتى دخل رمضان آخر لا يجب عليه إلا قضاء ما فاته.
وقرىء يطيقونه مضارع أطاق ويطوقونه مضارع أطوق وهو شاذ كأغليت وأطولت ويطوقونه مضارع طوق مبنيا للمفعول ويطوقونه مضارع طوق. وقرىء يطيقونه مضارع يطيق على وزن تفعيل من الطوق كقولهم: تدير اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فأبدلت الواو ياء وأدغمت فيها الياء. فقيل: يطيق ومعانيها كلها راجعة إلى معنى الاستطاعة والقدرة وعلى قراءة تشديد الواو والياء يكون بمعنى التكليف أي يتكلفونه أو يكلفونه والضمير في يطيقونه عائد على الصوم. فقيل: كان الصوم محيرا فيه للمقيم والحاضر، ثم نسخ بقوله:
فمن شهد منكم
[البقرة: 185].
وقرىء { فدية } منونا.
{ طعام } مرفوعا بدلا من فدية.
{ مسكين } مفردا وجمعا. وقرىء بالاضافة والجمع وتبين بقراءة الأفراد أن الحكم لكل يوم يفطر فيه طعام مسكين. ولا يفهم ذلك من الجمع وثم محذوف تقديره يطيقون الصوم ويفطرون.
{ فمن تطوع خيرا } في الطعام للمسكين أو في عدد من يلزمه إطعامه ومن في قراءة من جعله ماضيا تحتمل الموصولية والشرطية وفي قراءة يطوع مضارعا مجزوما شرطية وانتصب خيرا على إسقاط الحرف أي بخير، أو صفة لمصدر محذوف أي: تطوعا خيرا فهو عائد على المصدر المفهوم من تطوع أي فالتطوع.
{ وأن تصوموا } أي أيها المطيقون.
{ خير لكم } من الفطر والفدية.
{ إن كنتم تعلمون } أي إن كنتم من أهل العلم والتمييز.
[2.185-188]
{ الشهر } مصدر شهر الشيء أظهره. وبه سمي الشهر وهو المدة الزمانية التي يكون مبدأ الهلال فيها إلى أن يستنير ثم يطلع خافيا.
و { رمضان } علم ممنوع الصرف ويجمع بالألف والتاء وعلى أرمضة وعلقة هذا الاسم من مدة كان فيها في الرمض وهو شدة الحر. وقرىء شهر بالرفع مبتدأ خبره الموصول ويكون ذكر هذه الجملة تقدمت لفرضية صومه بذكر فضيلته والبينة على أن هذا الشهر هو:
{ الذي أنزل فيه القرآن } هو الذي يفرض عليكم صومه هذا إن كان قوله: أياما معدودات، لا يراد بها أيام رمضان، وإن أريدت بها فكان رفعه على تقدير مبتدأ أي تلك الأيام شهر رمضان. وقرىء شهر بالنصب أي صوموا.
وجوز الزمخشري أن يكون مفعولا لقوله: " وإن تصوموا " وهذا لا يجوز لأن تصوموا صلة لأن وقد فصلت بين معمول الصلة وبينها بالخبر الذي هو خبر لأن تصوموا. لو قلت: ان تضرب زيدا شديد، أي ضرب زيد شديد جاز. ولو قلت: إن تضرب شديد زيدا لم يجز. وأدغمت فرقة شهر رمضان. وقال ابن عطية: لا تقتضيه الأصول وعلل ذلك ويعني أصول البصريين ولم تقصر لغة العرب على ما نقله أكثر البصريين ولا على ما اختاره بل إذا صح النقل وجب المصير إليه، والضمير في فيه عائد للقرآن أي بدىء بإنزاله فيه وذلك في الرابع والعشرين منه. وقرىء القرآن بنقل حركة الهمزة إلى الواو وحذفها معرفا ومنكرا.
و { هدى } حال لازمة وأل في الهدى والفرقان للعموم فيكون هدى وبينات بعضها مبهما. وقال ابن عطية: اللام في الهدى للعهد. والمراد الاول. " انتهى " كلامه يعني أنه أتى به منكرا أولا ثم أنزله معرفا ثانيا يدل على أنه الأول، كقوله تعالى:
كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول
[المزمل: 15-16] فمعلوم أن الرسول الذي عصاه فرعون هو الرسول الذي أرسل إليه. ومن ذلك قولهم: لقيت رجلا فضربت الرجل، فالمضروب هو الملقى ويعتبر ذلك بجعل ضمير النكرة مكان هذا الثاني فيصح المعنى، لأنه لو أتى بعصاة فرعون أو لقيت رجلا فضربته لكان كلاما صحيحا، ولا يتأتى هذا الذي قاله ابن عطية هنا لأنه ذكر هو والمعربون إن هدى منصوب على الحال والحال وصف في ذي الحال وعطف عليه.
{ وبينات } فلا يخلو قوله.
{ من الهدى } المراد به الأول من أن يكون صفة لقوله هدى أو لقوله وبينات أولهما أو متعلقا بلفظه بينات لا جائز أن يكون صفة لهدى لأنه من حيث هو وصفه لزم أن يكون بعضا، ومن حيث هو الأول لزوم أن يكون هو إياه، والشيء الواحد لا يكون بعضا كلا لماهية ولا جائز.
والمعطوف على الحال حال والحالان وصف في ذي الحال فمن حيث كونهما حالين وصف بهما ذو الحال أن يكون صفة لبينات فقط لأن بينات معطوف على هدى، وهدى حال إذ هما وصفان ومن حيث وصفت بينات بقوله: من الهدى خصصتهما به فتوقف تخصيص القرآن على قوله: هدى وبينات معا.
{ ومن } حيث جعلت من الهدى صفة لبينات توقف تخصيص بينات على هدى فلزم من ذلك تخصيص الشيء بنفسه وهو محال ولا جائز أن يكون صفة لهما لأنه يفسد من الوجهين المذكورين في كونه وصفا لهدى فقط أو لبينات فقط ولا جائز أن يتعلق بلفظة وبينات لأن المتعلق تقييد للمتعلق به فهو كالوصف فيمتنع من حيث يمتنع الوصف، وأيضا فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميرا فقلت: وبينات منه أي منه من ذلك الهدى لم يصح، فكذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامين حتى يكون هدى وبينات بعضا منهما.
{ فمن شهد منكم الشهر } أي من كان حاضرا مقيما بصفة التكليف. وانتصب الشهر على الظرف ومفعول شهد محذوف أي المصر والبلد. ومنكم في موضع الحال أي كائنا منكم. (وقال) أبو البقاء: منكم حال من الفاعل وهي متعلقة بشهد، وقوله متناقض. وقرىء بكسر لام فليصمه وبسكونها. وقول ابن ملك: ان فتحها لغة. وعزاها ابنه إلى سليم وقال: حكاه الفراء قيده ابن عذرة بفتح حرف المضارع بعدها فإن ضمت أو كسرت نحو ليكرم وليتنذل فالكسر.
{ يريد الله بكم اليسر } أي يطلب. عبر بالإرادة عن الطلب وأراد تتعدى بالباء وبنفسه للإجرام وللمصادر واليسر عام فيندرج فيه ما تضمنته هذه الآيات من التيسير. وقرىء بإسكان السينين وبضمهما.
{ ولتكملوا العدة } قرىء بالتخفيف والتشديد ولتكملوا خطاب لمن أفطر في مرض أو سفر.
{ العدة } أي عدة الأيام التي أفطر فيها بأن يصوم مثلها. واللام لام كي متعلق بمحذوف متأخر تقديره ساوى في الثواب بين صومها في رمضان وبين قضائها في غيره.
{ ولتكبروا الله } أي تعظموه وتثنوا عليه.
{ على ما هداكم } أي على هدايتكم طلب منكم التيسير في التكاليف.
{ ولعلكم تشكرون } شرع ذلك للترخيص والتيسير. روي أن قوما قالوا: لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فنزل:
{ وإذا سألك عبادي عني فإني قريب } والخطاب له عليه السلام وجواب إذ فإني قريب على إضمار فقل لهم إني قريب. والقرب هنا عبارة عن سماعه لدعاءيهم.
{ أجيب } راعي ضمير المتكلم في أني: وهو أكثر في كلام العرب من مراعاة الخبر. تقول: أنا رجل آمر بالمعروف ويجوز بأمر بالياء على مراعاة الغيبة.
{ دعوة الداع } أي دعاءه. والهاء في دعوته هنا ليست دالة على الوحدة بل مصدر بني على فعلة كرحمة. والظاهر عموم الداعي وقد ثبت تصريح العقل والنقل أن بعض الداعين لا يجيبه الله إلى ما سأل فهو مقيد بمن شاء الله أن يجيبه.
{ فليستجيبوا لي } أي فليجيبوني إذا دعوتهم إلى الإيمان. واستجاب أكثر تعدية باللام. واستفعال بمعنى أفعل كاستنار وأنار.
{ وليؤمنوا بي } أي ليديموا على الإيمان.
وقرىء { يرشدون } بضم الشين وفتحها وكسرها ومبنيا للمفعول. لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء في رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم.
فنزلت وقرىء { أحل لكم ليلة الصيام } لا يراد بليلة الواحدة بل الجنس، والناصب لليلة مقدر لا الرفت المذكور لأنه مصدر، وأضيفت الليلة إلى الصيام وذلك بأدنى ملابسة إذ الصيام ينوى بالليل.
و { الرفث } كناية عن الجماع وعدي بإلى لتضمنه معنى الافضاء وهي من الكنايات الحسنة. كقوله:
فلما تغشاها
[الأعراف: 189]، وفأتوا حرثكم. والنساء جمع نسوة هو جمع الجمع أو جمع امرأة على غير اللفظ ولما كان يشمل كل من الزوجين على صاحبه في العناف كني عن ذلك بقوله:
{ هن لباس لكم وأنتم لباس لهن } وقدم هن لباس لكم لظهور احتياج الرجل وقلة صبره عنها وأنه البادي بالطلب. وهي: استعارة بديعة وأفرد اللباس لأنه كالمصدر.
{ علم الله أنكم كنتم تختانون } افتعل بمعنى فعل كاقتدر وقدر وعبر به عما وقعوا فيه من المعصية بالجماع وبالأكل بعد النوم أي تنقصون أنفسكم من الخير.
{ فتاب عليكم } أي قبل توبتكم وخفف عنكم بالرخصة.
{ فالآن } أي ليلة الصيام.
{ بشروهن } وهو أمر إباحة. وهو كناية عن الجماع مشتق من تلاصق البشرتين.
{ وابتغوا ما كتب الله لكم } أي ما أباحه بعد الحظر. وهي جملة يؤكد بها ما قبلها.
و { الخيط } الظاهر أنه الخيط المعهود. وكان جماعة من الصحابة يأكلون ويشربون إلى أن يتبين البياض والسواد في الخيط إلى أن نزل قوله تعالى:
{ من الفجر } فعلموا أنه عني بذلك الليل والنهار، وليس هذا من باب تأخير البيان إلى وقت الحاجة بل هو من باب النسخ ألا ترى أن الصحابة عملت بظاهر ما دل عليه ظاهر اللفظين من الخيط الأبيض والخيط الأسود وصارا مجازين من أنه شبه بالخيط الأبيض ما يبدو من الفجر المعترض بالأفق وبالأسود ما يمتد من غبش الليل. ومن الأولى لابتدا الغاية وبتعلق بيتبين، ومن الثانية للتبعيض لأن الخيط الأبيض بعض الفجر وأوله ويتعلق أيضا بيتبين وجاز تعلقهما بفعل واحد لما اختلف معناهما.
{ ثم أتموا الصيام إلى الليل } أمر بالاتمام لا بالصوم لأنه تقدم وجوبه ولو ظنها غربت فافطر ثم طلعت لزمه القضاء عند الجمهور لأنه لم يتم الصيام إلى الليل.
{ ولا تبشروهن وأنتم عكفون في المسجد } وهذا النهي نهي تحريم ويبطل الاعتكاف بالجماع، والمباشرة: كناية عن الجماع، والعكوف : هو الاقامة عكف بالمكان أقام به، وهو في الشرع عكوف مخصوص بين في كتب الفقه وظاهر قوله في المساجد جواز الاعتكاف في كل مسجد فلا يختص بأحد المساجد الثلاثة ولا بالمساجد الذي يجمع فيه ولا بالمسجد الحرام ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم خلافا لقائلي ذلك وأن المسجد ليس شرطا لصحة الاعتكاف، فذكر المساجد إنما هو لأن الاعتكاف غالبا لا يكون إلا فيها.
ودلت الآية على جواز الاعتكاف للرجال، وأما النساء فمسكوت عنهن. وقرىء في المسجد على الافراد والمراد به الجنس وحد الشيء منتهاه ومنقطعه.
و { حدود } الأئمة مقدر أنه بتقادير مخصوصة وصفات مخصوصة.
{ فلا تقربوها } نهي عن القربان وهو أبلغ من الالتباس بها.
{ كذلك يبين الله ءايته } أي مثل ذلك البيان السابق في ذكر الصوم وما يتعلق به يبين آياته الدالة على بقية مشروعاته.
{ للناس } عام ولا يلزم من تبيينها تبين الناس لها.
{ لعلهم يتقون } حيث ذكر التقوى فإنما يكون عقيب ما فيه مشقة.
اختصم رجلان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض فحكم الطالب المطلوب في أرضه ولم يخاصمه فنزل:
{ ولا تأكلوا أموالكم بينكم } أي في معاملاتكم وأماناتكم.
{ بالباطل } أي بالجهة التي ليست مشروعة وبينكم تقبيح بليغ لما كانوا يتعاطونه من المنكر في ذلك واطلاع بعضهم على بعض.
{ وتدلوا } مجزوم داخل في النهي.
{ بها } أي بالأموال نهي عن الأكل والادلاء. وتجويز الأخفش وتبعه الزمخشري أن يكون منصوبا على جواز النهي لا يصح لأنها مسألة: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، ولا يصح هذا المعنى على تخريجهما لأنه قد يكون نهيا عن الجمع بينهما ولا يلزم منه النهي عن كل واحد منهما على انفراده، والنهي عن كل واحد منهما يستلزم النهي عن الجمع بينهما، لأن في الجمع بينهما حصول واحد منهما وكل واحد منهما منهي عنه ضرورة ألا ترى أن أكل المال بالباطل حرام سواء أفراد جمع مع غيره من المحرمات.
وأيضا قوله: { لتأكلوا } علة لما قبلها فلو كان النهي عن الجمع لم تصح العلة لأنه مركب من شيء لا تصلح العلة أن تترتب على وجودهما بل إنما تترتب على وجود أحدهما وهو الادلاء بالأموال إلى الحكام، والادلاء هو الرشوة ليقضي للمدلي بها مقصوده مأخوذة من الرشاء.
{ بالإثم } الباء للسبب أو في موضع الحال، أي متلبسين بالاثم.
{ وأنتم تعلمون } أي اثمكم في أخذ ما لا تستحقون ومع ذلك تقدمون عليه وفي ذلك تقبيح بليغ لفعلهم.
[2.189-191]
{ الأهلة } جمع هلال وأفعلة مقيس في أفعال المضعف نحو عنان وأعنة وشذ فيه فعل قالوا: عنان وعنن. وذكر صاحب شجر الدران الهلال مشترك بين معان كثيرة ويسمى الذي في السماء هلال لليلتين وقيل: لثلاث.
" والمواقيت " جمع ميقات، وهو منتهى الوقت.
{ يسألونك عن الأهلة } نزلت على سؤال قوم من المسلمين النبي صلى الله عليه وسلم عن الهلال. وما: فائدة محاقة وكماله ومخالفته لمحال الشمس. وسأل: يتعدى بعن وبالباء بمعنى واحد، وهو على حذف أي عن حكمة اختلاف الأهلة والهلال واحد وجمع لاختلاف أزمانه.
و { موقيت } أي في الآجال والمعاملات والايمان والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والرضاع وغير ذلك من المعلق بالأوقات.
{ والحج } هو معطوف على الناس أي ومواقيت للحج ليعرفوا بها أشهره ومواقيته، ولما كان الحج من أعظم ما يطلب ميقاته وأشهره بالأهلة أفرد بالذكر وكأنه تخصيص بعد تعميم إذ المعنى مواقيت لمقاصد الناس المحتاج فيها للتأقيت دينا ودنيا. وقرىء والحج بفتح الحاء وكسرها وكان الأنصار إذا حجوا واعتمروا يلتزمون تشرعا أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدران فنزل:
{ وليس البر } ردا على من جعل إتيان البيوت برا وأمر بإتيان البيوت من أبوابها وأسباب النزول تدل على أن المراد بالبيوت وظهورها وأبوابها الحقيقة وحملها على المجاز مع إمكان الحقيقة وترجيحها باطنية نعوذ بالله منها.
{ ولكن البر من اتقى } فيه الاحتمالات التي في:
ولكن البر من آمن
[البقرة: 177] وقرىء بكسر الباء من البيوت كيف ما وقع وضمها وتقدمت جملتان خبريتان فعطف عليهما جملتان أمريتان الأولى راجعة للأولى والثانية للثانية، ولما صدر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وصالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكة ثلاثة أيام فرجع بعمرة القضاء وخاف المسلمون أن لا تفي لهم قريش ويصدوهم ويقاتلوهم في الحرم وفي الشهر الحرام وكرهوا ذلك. نزلت:
{ وقاتلوا } فأطلق لهم فقال الذين يقاتلونهم وبذكر هذا السبب ظهرت مناسبة هذه الآية لما قبلها والمقاتلة هي جهاد الكفار لإظهار دين الله وأكثر علماء التفسير على أنها أول آية نزلت في الأمر بالقتال.
{ في سبيل الله } استعير السبيل وهو الطريق لدين الله. لأن به يتوصل المؤمن إلى مرضاة ربه، وهو على حذف أي في نصرة دين الله وفي سبيل ظرف مجازي.
{ ولا تعتدوا } أي لا تتجاوزوا ما حد الله في القتال وغيره.
{ واقتلوهم } أي واقتلوا الذين يقاتلونكم.
{ حيث ثقفتموهم } أي حيث ظفرتم بهم وهو عام في كل مكان حل أو حرم.
{ وأخرجوهم من حيث أخرجوكم } أي من المكان الذي أخرجوكم وهي مكة وهو أمر تمكين فكأنه وعد من الله بفتح مكة وقد أنجز سبحانه وتعالى ما وعد وفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بمن لم يسلم منهم.
{ والفتنة } عن دين الله.
{ أشد } من أن يقتل المؤمن وكانوا قد عذبوا نفرا من المؤمنين ليرجعوا إلى الكفر فعصمهم الله. ثم نهى تعالى المؤمنين أن يبدأ بالقتال في هذا الموطن الشريف حتى يكونوا هم الذين يبدؤن والضمير في فيه عائد على عند.
{ فإن قاتلوكم فاقتلوهم } بشارة بالغلية عليهم أي هم من الخذلان وعدم النصرة بحيث أمرتم بقتلهم. وقرىء ولا تقتلوهم وكذلك حتى يقتلوكم فإن قاتلوكم أي حتى يهموا بقتلكم فاقتلوهم فإن هموا بقتلكم فاقتلوهم.
{ كذلك } أي مثل ذلك الجزاء وهو القتل.
{ جزآء الكافرين } مبتدأ وكذلك الخبر.
[2.192-193]
{ فإن انتهوا } أي عن الكفر وأسلموا.
{ فإن الله غفور رحيم } وتعليق الغفران والرحمة لا يكون مع الكفر " انتهى ". معناه كف وهو افتعل من النهي ومعناه فعل الفاعل بنفسه وهو نحو قولهم: اضطرب وهو أحد المعاني التي جاءت لها افتعل.
{ وقاتلوهم } أي كفار مكة.
{ حتى لا تكون فتنة } أي شرك وما تابعه من الأذى للمسلمين. وقيل: الضمير لجميع الكفار.
{ ويكون الدين } أي الانقياد والطاعة لله خالصا.
{ فإن انتهوا } أي عن الكفر والعدوان مصدر عدا وهو نفي عام أي على من ظلم وسمي الاعتداء على الظالم عدوانا وهو جزاء الظلم سمي بذلك من حيث هو جزاء عدوان كقوله:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40] ورابط الجزاء بالشرط بتقدير حذف أي على الظالمين منهم أو بالاندراج في عموم الظالمين فكان الربط بالعموم، (قال الزمخشري): { فلا } تعتدوا على المنتهين لأن مقابلة المنتهين عدوان وظلم. فوضع قوله:
{ إلا على الظالمين } موضع على المنتهين. " انتهى ". وهذا الذي قاله لا يصح إلا على تفسير المعنى. وأما على تفسير الاعراب فلا يصح لأن المنتهين ليس مرادفا لقوله: إلا على الظالمين، لأن نفي العدوان عن المنتهين لا يدل على إثباته على الظالمين إلا بمفهوم لصفة، وفي التركيب القرآني يدل على إثباته على الظالمين بالمنطوق المحصور لنفي وإلا وفرق بين الدلالتين ويظهر من كلامه أنه أراد تفسير الاعراب، ألا ترى قوله: فوضع، قوله: إلا على الظالمين، موضع على المنتهين وهذا الوضع إنما يكون في تفسير الاعراب وليس كذلك لما بيناه من الفرق بين الدلالتين، ألا ترى فرق ما بين قولك: ما أكرم الجاهل، وما أكرم إلا العالم.
[2.194-196]
{ الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص } الآية، نزلت في عمرة القضاء عام الحديبية وكان المشركون قاتلوهم ذلك العام في الشهر الحرام هو ذو القعدة فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهيتهم القتال وذلك في ذي القعدة والشهر الحرام بالشهر الحرام أي انتهاك حرمة الشهر الحرام كائن بانتهاك حرمة الشهر الحرام وال فيهما للعهد والحرمات أي حرمة الشهر وحرمة البلد والقطان حين دخلتم وقرىء: والحرمات بضم الراء وإسكانها.
{ فمن اعتدى عليكم } هو من التدريج في أمر القتال.
{ وأنفقوا في سبيل الله } عام بالإنفاق في آلة الحرب والمقلين من المجاهدين وغير ذلك من سبيل الله.
{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فسر بترك الجهاد والإخلاد إلى الراحة وإصلاح الأموال الظاهر أنهم نهوا عن كل ما يؤدي بهم إلى الهلاك في غير طاعة الله تعالى ويقال ألقى بيده إلى كذا إذا استسلم وألقى يتعدى بنفسه وجاء بالباء فقيل الباء زائدة وقيل المفعول محذوف أي ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم أو ضمن معنى ولا تفضوا فعدى بالباء والتهلكة مصدر هلك على وزن تفعلة وهو قليل ذكر سيبويه منه النضرة واليسرة ودعوى الزمخشري أن أصلها تهلكة بكسر اللام فضمنت وأنه مصدر هلك بشد اللام لا تصح وذلك لأن فيها حملا على شاذ ودوي إبدال دليل عليه أما الحمل على الشاذ فحمله على أن أصله تفعلة ذات الضم على تفعلة ذات الكسر وجعله تهلكة مصدر الهلك المشدد اللام وفعل الصحيح اللام غير المهموز قياس مصدره أن يأتي على تفعيل نحو كسر تكسير ولا يأتي على تفعلة إلا شاذا والأولى جعل تهلكة مصدرا إذ قد جاء ذلك نحو التضرة والتسره وأما التهلكة فالأحسن أن يكون مصدر الهلك المخفف اللام لأنه بمعنى تهلكة بضم اللام وقد جاء في مصادر فعل تفعله قالوا: جل تجلة أي جلالا فلا يكون تهلكة إذ ذاك مصدر الهلك المشدد اللام وأما إبدال الضمة من الكسرة لغير علة ففي غاية الشذوذ وأما تمثيله بالجوار والجوار فلا يدعي فيه الإبدال بل بنى المصدر فيه على فعال بضم الفاء شذوذا وزعم ثعلب أنه مصدر لا نظير له غير صحيح إذ نقل سيبويه له نظيرا.
{ وأحسنوا } أمر بالإحسان ولم يقيد بمفعول فيندرج فيه كل محسن به.
{ وأتموا الحج والعمرة } أي افعلوهما كاملين من شروطهما وأفعالهما التي يتوقفان عليها وقرىء: والعمرة بالنصب على الحج فتدخل في الأمر بالإتمام وبالرفع مبتدأ وخبر فلا تدخل تحت الأمر وفروض الحج: النية، والإحرام، والطواف المتصل بالسعي، والسعي بين الصفا والمروة خلافا لأبي حنيفة، والوقوف بعرفة، والجمرة على قول ابن الماجشون، والوقوف بمزدلفة على قول الأوزاعي. وأعمال العمرة: النية، والإحرام، والطواف، والسعي.
والأمر بالإتمام لا يدل على فرضية العمرة لصحة صوم رمضان وشيئا من شوال بجامع ما اشتركا فيه من المطلوبية وان اختلفت جهتا الطلب والإحصار والحصر بمعنى واحد وهو المنع بالعدو أو بالمرض أو بغير ذلك من الموانع.
{ فإن أحصرتم } مطلق لا تقييد فيه وظاهره ثبوت هذا الحكم وأنه يتحلل بالاحصار بالعدو وبالمرض وبغير ذلك من الموانع فيما استيسر من:
{ الهدي } أي فالواجب ما استيسر من الهدى وهو شاة أو ما سهل من جمل أو بقرة والمعنى فإن أحصرتم عن إتمام الحج والعمرة والهدى مطلق فلا يشترط فيه سنة واستيسر بمعنى الفعل المجرد وهو يسر نحو استصعب وصعب وقرىء: الهدى على وزن أولى وغيا حلق الرأس ببلوغ الهدى محله أي إذا بلغ الهدى محله فأحلقوا والخطاب للمأمورين بالإتمام كانوا محصرين أو غير محصورين والخطاب في ولا تحلقوا للذكور فلا تحلق المرأة بل تقصر وظاهر النهي التحريم ومحل الهدى إن كان الخطاب للمحصرين فحيث أحصر من حل أو حرم.
{ فمن كان منكم مريضا } الآية سبب نزولها حديث كعب بن عجرة ومن عام في المحصر وغيره ولما غيا الحلق ببلوغ الهدى وكان الخطاب بالنهي عاما خص بمن ليس مريضا ولا به أذى من رأسه وفي الكلام حذف أي مريضا ففعل ما ينافي المحرم من حلق وغيره أو به أذى من رأسه فحلق ومنكم متعلق بمحذوف وهو في موضع الحال لأنه قبل تقدمه كان صفة لمريضا وأجاز أبو البقا أن يكون متعلقا بمريضا وهو لا يكاد يعقل.
{ أو به أذى } يجوز أن يكون من عطف المفردات فيرتفع أدى على الفاعلية ومن باب عطف الجمل فيرتفع على الابتداء وأجيز أن يكون من عطف المفردات فيرتفع أذى على الفاعلية ومن باب عطف الجمل فيرتفع على الابتداء وأجيز أن يكون على إضمار كان أي أو كان به ففي كان ضمير هو اسمها وبه الخبر وأذى فاعل بالمجرور أو هو جملة خبر لكان المحذوفة أو يرتفع أذى على أنه اسم كان المحذوفة وبه الخبر وأجاز أبو البقا أن يكون أو به أذى من رأسه معطوفا على كان وأذى مبتدأ وبه خبره والضمير في به عائد على من كان قد قدم ان من شرطية وعلى هذا التقدير يكون ما قاله خطأ لأن العطف على جملة الشرط يجب فيه أن يكون جملة فعلية إذا المعطوف على الشرط شرط فيجب فيه ما يجب في الشرط والباء في به للالصاق أو ظرفية.
{ ففدية } أما مبتدأ أي فعليه فدية أو خبر أي فالواجب فدية ومن قرأ بالنصب فعلى إضمار فعل أي فليفد فدية واو للتخيير والظاهر إطلاق الثلاثة وقيدت ذلك السنة الثابتة في حديث كعب ان الصيام ثلاثة أيام والصدقة إطعام ستة مساكين والنسك شاة ولم تتعرض الآية ولا السنة لمقدار ما يطعم المسكين ولا الآية لزمان فعل ذلك ولا لمحل النسك.
{ فإذآ أمنتم } أي كنتم في حال أمن وسعة أو فإذا أمنتم من الإحصار.
{ فمن تمتع بالعمرة إلى الحج } فسر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين لأن حق العمرة أن تفرد بسفر غير سفر الحج وعن على هو تأخير العمرة حتى يجمعها مع الحج فعليه الهدى والفاء في إذا للعطف وفي فمن جواب إذا وفي فما جواب فمن تمتع.
{ فمن لم يجد } ما استيسر اما لعدمه أو لعدم ثمنه.
{ فصيام ثلاثة أيام في الحج } أي في أشهر الحج.
{ وسبعة } أي وسبعة أيام والعامل في:
{ إذا } هو صيام تعلق به في الحج وإذا وجاز ذلك للعطف وإذا ظرف محض لا شرط فيها وفي:
{ رجعتم } التفات وحمل على معنى من بعد الحمل على لفظه في إفراده وغيبته ولفظ الرجوع مبهم وثيب في السنة تقييده بالرجوع إلى أهله فاحتمل أن يكون بعد أن وصل إلى أهله وهو الظاهر واحتمل أن يكون إذا رجع أي شرع في الرجوع إلى أهله واحتمل إذا نفرتم ورجعتم من أعمال الحج وبكل من الاحتمالات قال قوم:
{ تلك عشرة كاملة } تلك مبتدأ وعشرة توطئة للخبر وكاملة هو الخبر حقيقة أي كاملة في الثواب والأجر لا يتوهم أن صوم السبعة ليس كصوم الثلاثة في الأجر لاختلاف زمان إيقاع صومها ذلك أي المتع وما ترتب عليه.
{ لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام } وهو سكان مكة لأنهم هم الذين يشاهدون المسجد الحرام وحضور الأهل يقتضي مراد حضور المتمتع لأن الغالب سكناه حيث يسكن أهله ولما تقدم أمر ونهي وواجب ناسب ان يختم ذلك بالأمر بالتقوى في أن لا يتعدى ما حده تعالى.
[2.197-205]
{ الحج أشهر معلومات } على المخالفة.
{ الحج أشهر معلومات } لما أمر بإتمام الحج والعمرة وكانت العمر لا وقت لها معلوم بين أن الحج له وقت معلوم فظهر بها مناسبة ما قبل الآية والحج مبتدأ وأشهر خبره وليس أشهر وهو الزمان الحج وهو المصدر فالتقدير أشهر الحج أو وقت الحج أو التقدير حج أشهر أو لما كان يقع فيها اتسع فجعل إياها على سبيل المجاز قال ابن عطية: ومن قدر الكلام في أشهر فيلزمه مع سقوط حرف الجر بنصبها أصل " انتهى ".
ولا يلزم نصب الأشهر مع سقوط حرف الجر كما ذكر ابن عطية لا ناقد ذكرنا أنه يرفع على الاتساع وهذا لا خلاف فيه عند البصريين أعني أنه إذا كان ظرف الزمان نكرة خبرا عن المصادر أن يجوز فيه عندهم الرفع والنصب وسواء كان الحدث مستغرقا للزمان أو غير مستغرق واما الكوفيون فعندهم في ذلك تفصيل وهو أن الحدث إما أن يكون مستغرقا للزمان فيرفع ولا يجوز فيه النصب أو غير مستغرق فمذهب هشام أنه يجب فيه الرفع تقول ميعادك يوم وثلاثة أيام وذهب الفراء في هذا الموضع أنه لا يجوز نصب الأشهر لأن شهرا نكرة غير محصورة وهذا النقل مخالف لما نقلنا نحن عنه فيمكن أن يكون له القولان قول البصريين وقول هشام وأشهر جمع قلة وهو شوال وذو القعدة وذو الحجة كله على ظاهر الجمع وهو قول جماعة من الصحابة والتابعين وتابعيهم كابن مسعود وعطاء ومالك.
قال الزمخشري: فإن قلت كيف كان الشهران وبعض الشهر أشهرا قلت اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى:
فقد صغت قلوبكما
[التحريم: 4] فلا سؤال فيه إذن داعا كان يكون موضعا للسؤال لو قيل ثلاثة أشهر معلومات " انتهى كلامه ". وما ذكره الدعوى فيه عامة وهو أن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد وهذا فيه النزاع والدليل الذي ذكره خاص وهو فقد صغت قلوبكما وهذا لا خلاف فيه ولا طلاق الجمع في مثل هذا على التثنية شروط ذكرت في النحو وأشهر ليس من باب فقد صغت قلوبكما فلا يمكن أن يستدل به عليه وقوله: فلا سؤال، فيه إذن ليس بجيد لأنه قد فرض السؤال بقوله: فإن قلت وقوله: وإنما، كان يكون موضعا للسؤال لو قيل ثلاثة أشهر معلومات ولا فرق عندنا بين أشهر وبين قوله ثلاثة أشهر لأنه كما يدخل المجاز في لفظ أشهر كذلك يدخل المجاز في العدد ألا ترى إلى ما حكاه الفراء له اليوم يومان لم أره، قال: وإنما هو يوم وبعض يوم آخر، وإلى قول امرىء القيس: ثلاثين شهرا في ثلاثة أحوال على ما قدمناه ذكره وإلى ما حكي عن العرب ما رأيته منذ خمسة أيام وان كنت قد رأيته في اليوم الأول واليوم الخامس فلم يشمل الانتفاء خمسة الأيام جميعا بل يجعل ما رأيته في بعضه وانتفت الرؤية في بعضه كأنه يوم كامل لم تره فيه فإذا كان هذا موجودا في كلامهم فلا فرق بين أشهر وبين ثلاثة أشهر لكن مجاز العدد ومعنى معلومات معروفات عند الناس وأن مشروعية الحج فيها إنما جاءت على ما عرفوه وكان مقررا عندهم.
{ فمن فرض } أي ألزم نفسه الحج واصل الفرض الحز الذي في السهم. والمراد بالفرض هنا ما يكون به المحرم محرما وهو الإهلال بالحج على خلاف فيما يدخل به المحرم في الحج مذكور في القصة وجاء فيهن وهو عائد على أشهر على الفصيح.
{ فلا رفث } أي الجماع ولا ما لا يليق ممن كان قلبا بالحج.
{ ولا فسوق } فسر هنا بفعل ما نهي عنه في الإحرام في قتل صيد وحلق شعر والمعاصي كلها.
{ ولا جدال } أي مماراة المسلم حتى يغضبه وسبابه وما يسمى جدالا للتغالب وحظ النفس وقرىء: برفع الثلاثة على الابتداء والخبر.
{ في الحج } وجزم ابن عطية بأنها عملت عمل ليس ضعيف وقرىء: بنصب الثلاثة على المصدر ننصبها أفعال من لفظها وفي الحج متعلق بما شئت من الأفعال على تقدير الفتح في الثلاثة من غير تنوين وهذا بناء على قول الجمهور ولا والمبني معها موضع مبتدأ والخبر عنه في موضع رفع ولا عاملة في المبنى فهو في موضع نصب ومذهب الأخفش: أن لا عاملة عمل ان فالمبنى اسمها والخبر خبرها في موضع نصب، وقرىء: برفع الأولين وبالتنوين وفتح الثالث من غير تنوين فعلى مذهب سيبويه ان في الحج خبر عن الثلاثة عطف مبتدأ ومذهب الأخفش أنه لا يجوز أن يكون في الحج إلا خبرا عن الأولين أو خبر لاختلاف المعرب.
ولابن عطية والزمخشري في هذا الكلام تعقبناه عليها وذكرناه في البحر وهذه الجملة صورتها صورة الخبر والمعنى على النهي ومن فيمن شرطية أو موصولة والرابطة محذوف لفهم المعنى أي فلا جدال له في الحج أو فلا جدال في الحج له أو منه وعلى رأي الكوفيين تنوب آل عن الضمير أي في حجه وكرر في الحج للتعظيم والتفخيم ولم يأت التركيب فلا جدال فيه.
{ وما تفعلوا من خير } نصب على الخبر حثا على فعله وهو تعالى عالم بما يفعلونه من خير وشر وفي قوله: وما تفعلوا التفات ويعلمه اما على ظاهره أي فيثبت عليه أو عبر عن المجازاة بالعلم.
{ وتزودوا فإن خير الزاد التقوى } عن ابن عباس نزلت في ناس من اليمن يحجون بغير زاد ويقولون نحن متوكلون بحج بيت الله أفلا يطعمنا فيتوصلون بالناس وربما ظلموا وغضبوا فأمروا بالتزود وأن لا يظلموا ويكونوا كلا على الناس والذي يدل عليه سياق ما قبل الأمر وما بعده أن يكون الأمر بالتزويد بالنسبة إلى تحصيل الأعمال الصالحة التي تكون له كالزاد إلى سفر الآخرة والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عما ينفي به النار ومفعول وتزودوا محذوف أي وتزود أو التقوى بدل عليه الإظهار في خبر أن.
{ واتقون } تحذير من ارتكاب ما تحل به العقوبة.
{ ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم } ولما جاء الإسلام تحرجت العرب من أن يحضروا أسواق الجاهلية كعكاظ وذي المجاز ومجنة فأباح الله لهم ذلك والفضل الأرباح التي تكون بسبب التجارة.
{ فإذآ أفضتم من عرفت } عرفات علم اسم جبل وهو مؤنث حكى سيبويه هذه عرفات مباركا فيها وهو مرادف لعرفة وتنوينه تنوين مقابلة وقيل تنوين صرف ولا يدل هذا الشرط على وجوب الوقوف بعرفات إنما يعلم منه الحصول في عرفة والوقوف بها لكن السنة والاجماع يدلان على ذلك وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دفع من عرفات أعنق وإذا وجد فرجة نص والعنق سير سريع مع رفق والنصب سير سريع شديد فوق العنق.
{ فاذكروا الله عند المشعر الحرام } أي اذكروه بالثناء والتضرع أو كني به عن الصلاة بالمزدلفة المغرب والعشاء والمشعر المعلم ووصف بالحرام لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما نهي عنه من محظورات الإحرام وهذا المشعر يسمى جمعا وهو ما بين جبلي المزدلفة من مفضى عرفة إلى بطن محسر وليس المأزمين ولا وادي محسر من المشعر الحرام والمأزم المضيق وهو مضيق واحد بين جبلين ثنوه لمكان الجبلين ولم تتعرض الآية لتعيين الذكر بالمزدلفة وعنه صلى الله عليه وسلم أنه لما صلى الفجر يعني بالمزدلفة بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقعا حتى أسفر وعلى هذا يكون في الكلام مجلة محذوفة أي فإذا أفضتم من عرفات ويتم بالمزدلفة فاذكروا الله عند المشعر الحرام.
{ واذكروه كما هدكم } الظاهر أنه تكرار قصد به التوكيد والكاف في كما للتشبيه أما نعت لمصدر محذوف أو نصب على الحال أو تكون الكاف للتعليل أي اذكروه وعظموه لهدايته السابقة لكم وقد ذكر سيبويه حاكيا كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه أي لأنه لا يعلم وأثبت كون الكاف للتعليل الأخفش وابن برهان ومن المتأخرين ابن مالك وما في كما مصدرية وجوز الزمخشري وابن عطية أن تكون كافة للكاف عن العمل وقد منع أن تكون الكاف مكفوفة بما عن العمل أبو سعد علي بن مسعود بن الفرخال صاحب المستوفى والهداية هنا هي خاصة أي في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم صلى الله عليه وسلم أو عامة تتناول أنواع الهدايات.
{ وإن كنتم من قبله } أي ضالين من قبله أي من قبل الهدى الدال عليه كما هداكم.
{ ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس } ثم للترتيب في الذكر لا للترتيب في الزمان الواقع فيه الأفعال وحسن هذا ان لإفاضة السابقة لم تكن مأمورا بها إنما كان المأمور به ذكر الله تعالى إذا فعلت والأمر بالذكر عند الفعل لا يدل على الأمر بالفعل ألا ترى أنك تقول إذا ضربك زيد فاضربه فلا يكون زيد مأمورا بالضرب فكأنه قيل ثم لتكن تلك الإفاضة من عرفات وفي الحديث كان الحمس يقفون بالمزدلفة وكان من سواهم يقفون بعرفة فأنزل الله هذه الآية وقد وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل المبعث بعرفة وهو من الحمس إلهاما من الله وتوفيقا إلى ما شرع وللزمخشري كلام في ثم دانها تكون للتفاوت والبعد.
قال: فإن قلت فكيف موقع ثم قلت نحو موقعها من قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره وبعدما بينهما فلذلك حين أمرهم بالذكر عند الافاضة من عرفات قال: ثم أفيضوا التفاوت ما بين الإفاضتين وان أحدهما صواب والثانية خطأ " انتهى كلامه ".
وليست الآية كالمثال الذي مثله وحاصل ما ذكر أن ثم تسلب الترتيب وانها لها معنى غيره سماه بالتفاوت والبعد لما بعدها مما قبلها ولم يجر في الآية أيضا ذكر الافاضة الخطأ فتكون ثم في قوله: ثم أفيضوا، جاءت لبعد ما بين الافاضتين وتفاوتهما ولا نعلم أحدا سبقه إلى إثبات هذا المعنى لثم والناس ظاهره العموم في المفيضين وقرىء: الناس بالياء وبتركها وفسر بآدم لقوله تعالى:
ولقد عهدنآ إلى ءادم من قبل فنسي
[طه: 115].
قال ابن عطية: ويجوز عند بعضهم حذف الياء فيقول الناس كالقاضي والهاد قال: أما جوازه في العربية فذكره سيبويه ظاهره أن ذلك جاز مطلقا ولم يجزه سيبويه إلا في الشعر وأجازه القراء في الكلام وأما قوله: وأما جوازه مقرؤا به فلا أحفظه فكونه لا يحفظه قد حفظه غيره.
قال أبو العباس المهدوي: قرأ أفاض الناسي سعيد بن جبير وعنه أيضا أفاض الناس بالكسر من غير ياء " انتهى ". كلام المهدوي وفي هذه القراءة دليل على أن الافاضة من عرفات شرع قديم ولما حج أبو بكر توجه إلى عرفات فمر بالحمس وهم وقوف بجمع فلما ذهب ليجاوزهم قالوا له: يا أبا بكر أين تجاوزنا إلى غيرنا هذا موقف آبائك فمضى أبو بكر كما أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفات وبها أهل اليمن وربيعة فوقف بها حتى غربت الشمس ثم أفاض بالناس إلى المشعر الحرام فوقف به فلما كان عند طلوع الشمس أفاض منه.
{ واستغفروا الله } أمر بطلب غفران الذنوب كانوا إذا قضوا مناسكهم اجتمعوا في الموسم يتفاخرون ويذكرون مآثر آبائهم من قرى الضيف والشجاعة ونحر الجزر وفك العاني وجز النواصي وغير ذلك مما يفخرون به فنزل:
{ فإذا قضيتم مناسككم } الآية، ومعنى قضيتم أديتم وقرىء: مناسككم بالتفكيك وبالإدغام والمعنى ابتهلوا بذكر الله والثناء عليه والهجوا بذكره كما يلهج المرء بذكر أبيه وأعربوا ذكرا تمييزا بعد أفعل التفضيل فجعلوا الله ذكرا إذ التقدير أو ذكرا أشد ذكرا وذلك على سبيل المجاز كما قالوا شعر شاعر وجوزوا أن يكون أو شد معطوفا على موضع الكاف فيكون منصوبا أو على ذكر المجرور فيكون مجرورا أي أو كذكر أشد ذكرا أو وصفا في المعنى للذاكر منتصبة بفعل مضمر تقديره أو كونوا أشد ذكرا أو للذاكر المذكور منتصبه عطفا على إياكم والتقدير أو قوما أشد ذكرا من آبائكم ومعنى من آبائكم أي من ذكركم لآبائكم أو بجره عطفا على الضمير المجرور بالمصدر أي أو قوم أشد ذكرا فهذه خمسة وجوه ضعيفة وقد ساغ لنا حمل الآية على معنى يتبادر إليه الذهن بتوجيه صحيح ذهلوا عنه وهو أن يكون أشد منصوبا على الحال وهو كان يكون نعتا لذكرا لو تأخر فلما تقدم انتصب على الحال ألا ترى أنه لو تأخر لكان التركيب أو ذكرا أشد أي من ذكركم لآبائكم فصلت الحال بين حرف العطف والمعطوف وجاز ذلك لأن حرف العطف على أن أزيد من حرف ولأن الحال مفعول فيها فهي شبيهة بالظرف وحسن تأخير ذكرا لأنه كالفاصلة ولزوال التكرار إذ تقدم لكان التركيب فاذكروا الله كذكركم آبائكم أو ذكرا أشد.
{ فمن الناس من يقول } هذا تقسيم للمأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك وأنهم ينقسمون في سؤال الله تعالى إلى من يغلب عليه حب الدنيا فلا يدعو إلا بها ومنهم من يدعو بصلاح ماله في الدنيا والآخرة وهذا من الإلتفات ولو جاء على الخطاب لكان التركيب فمنكم من يقول وحكمة هذا الإلتفات أنهم لما واجهوا بهذا الذي لا ينبغي أن يسأله عاقل وهو الاقتصار على الدنيا فابرزوا في صورة غير المخاطبين بذكر الله بأن جعلوا في صورة الغائبين مفعول آتنا محذوف أي ما نريد ومطلوبنا وجعل في زائدة فتكون الدنيا المفعول الثاني أو جعل في بمعنى من تكون في موضع المفعول الثاني قولان ساقطان.
{ وما له في الآخرة من خلاق } أي نصيب وهو اخبار بحاله في الآخرة حيث اقتصر في طلبه على الدنيا وأفرد الضمير في يقول حملا على اللفظ وأتى بنون الجمع في آنا حملا على المعنى الحسنة مطلقة وقد مثلوا الحسنتين بأنواع من حسنات الدنيا ومن حسنات الآخرة.
وقال ابن عطية: حسنة الآخرة الجنة بإجماع.
{ وفي الآخرة حسنة } من عطف شيئين على شيئين لا من باب الفصل بين حرف العطف والمعطوف بل هو من باب أعطيت زيدا درهما وعمرا دينارا ورأيت من زيد ودا ومن بكر جفوة.
{ وقنا عذاب النار } سؤال بالوقاية من النار وهو أن لا يدخلوها إذ كان من يدخل النار ثم يدخل الجنة صدق عليه أنه أوقى في الآخرة حسنة فسألوا الوقاية من النار.
{ أولئك لهم نصيب مما كسبوا } إشارة إلى الفريقين إذ لفظ نصيب ومما كسبوا مشترك بينهما ومن للتبعيض أي من جنس ما كسبوا أو للسبب.
{ والله سريع الحساب } يعم محاسبة العالم كلهم.
{ واذكروا الله في أيام } خطاب للحاج وهو مطلق والمراد التكبير عند رمي الجمرات في أيام معدودات لم تعين واختلفوا أهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر قاله ابن عباس أو يوم النحر ويومان بعده قاله علي أو يوم النحر وثلاثة أيام بعده.
{ فمن تعجل } أي استعجل النفر أو بالنفر لأن تعجل يكون متعديا أو غير متعد في.
{ يومين } ليس على ظاهره بل على حذف أي في أصل يومين ويتعين أن يكون ذلك بعد يوم النفر وهو ثاني يوم النحر لإجماع الناس على أنه لا ينفر أحد يوم القر أو يكون التقدير في تمام يومين وظاهر فمن تعجل العموم سواء كان مكيا أو آفاقيا وان التعجيل يكون بالنهار.
{ فلا إثم عليه } في التعجل أي لا حرج لما كان الأمر بالذكر في أيام وهي جمع ولم يستغرقها بالمقام وتعجل نفي عنه الحرج في الأخذ بالرخصة ثم نفى الحرج عمن تأخر في تركه الأخذ بالرخصة.
{ لمن اتقى } متعلق بنفي الاثم إذ من لم يكن متقيا لم يرتفع الاثم عنه وقد كملت أحكام الحج من ذكر وقته إلى آخر فعله وهو النفر وبدئت بالأمر بالتقوى وختمت به وتخلل الأمر بها في غضون الآي.
{ ومن الناس من يعجبك قوله في الحيوة الدنيا } نزلت في الأخنس بن شريق واسمه أبي كان حلو اللسان والمنظر يظهر الإسلام وحب الرسول عليه السلام ويحلف على ذلك وهو عليه السلام يدنيه ولا يعلم ما أضمر وكان من ثقيف حليفا لبني زهرة ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قبل نوعي السائلين أتى بذكر نوعين من هو حلو المنطق يظهر الود يخالف باطنه لظاهره والآخر يبتغي رضى الله وقدم الأول هنا لأنه هناك مقدم وأحال على إعجاب قوله دون غيره من أوصافه لأن القول هو الظاهر منه أولا وهو المذكور في قوله: " فمن الناس من يقول ". والخطاب للرسول إذا كان التعجب معيا أو لمن كان مؤمنا إذ كان غير معين والإعجاب استحسان منطقه بحلاوته وموافقته لمن يخاطبه. وفي الحياة متعلق بيعجبك أي يستحسن مقالته دائما في مدة حياته إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجب رائق لطيف ومع ذلك أفعاله منافيا لأقواله.
{ ويشهد الله على ما في قلبه } قرىء: مضارع أشهد ونصب الجلالة أي يحلف بالله أنه صادق وقاتل حقا ومحب في الرسول والإسلام، وقرىء: يشهد مضارع شهد ورفع الجلالة أي يطلع الله عما في قلبه من الخبث والمكر ولا يعلم به أحد لشدة تكتمه.
{ وهو ألد الخصام } اللدد شدة الخصومة يقال لددت تلددا ولدادة ورجل ألد وامرأة لداء والخصام مصدر أو جمع خصم فالجمع يكون فيه ألد خبرا عن هو بلا تقدير والمصدر يحتاج إلى تقدير أي وخصامه أشد أو هو أشد ذوي الخصومة قال الزمخشري: والخصام المخاصمة وإضافة الألد بمعنى في كقولهم: ثبت العذر " انتهى ".
يعني أن أفعل ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه بل هي إضافة على معنى في وهذا مخالف لما يزعمه النحاة من أن أفعل التفضيل لا يضاف إلا لما هو بعض له وفيه إثبات الإضافة بمعنى في وهو قول مرجوح في النحو والجملتان الفعلية والإسمية معطوفتان على صلة من فهما داخلان في الصلة.
{ وإذا تولى } أي ببدنه عن الذي يلين له القول ويلطف به والتولي حقيقة في الانصراف بالبدن.
{ سعى في الأرض } أي مشى فيها والمتردد من جهة إلى جهة.
{ ليفسد فيها } علة لسعيه أي مقصوده في سعيه إنما هو الفساد.
{ ويهلك الحرث والنسل } عطف خاص على عام وجرد من العام لأنهما أعظم ما يحتاج إليهما في عمارة الدنيا والحرث الزرع والنسل ما يتولد من الأولاد من الناس والحدان. وقرىء: ويهلك مضارع أهلك ونصب لحرث والنسل ويهلك بضم الكاف على الاستئناف ويهلك مضارع هلك برفع الكاف ورفع ما بعده وكذا مع فتح اللام وهي لغة شاذة نحو ركن يركن والجملة الشرطية اما مستأنفة واما داخلة في الصلة ولما تقدمت جملتان الثانية مندرجة في الأولى قال تعالى:
{ والله لا يحب الفساد } فاكتفى بذكر الأولى لانطوائها على الثانية والفساد عام في الأرض ومال ودين وغير ذلك حتى أن بعض أهل العلم استدل به على منع الإنسان شق ثوبه.
[2.206-207]
{ وإذا قيل له اتق الله } مستأنفة أو داخلة في الصلة. " أخذته العزة " احتوت عليه وأحاطت به وصار كالمأخوذ لها " بالاثم " أي مصحوبا أو مصحوبة بالاثم: أو للسبب أي اثمه السابق كان سببا لأخذ العزة له. ووقف يهودي لهارون الرشيد فقال له: اتق الله يا أمير المؤمنين، فنزل عن دابته وخر ساجدا وقضى حاجته. فقيل له في ذلك فقال: ذكرت قوله تعالى:
{ وإذا قيل له اتق الله }.
{ فحسبه جهنم } أي كافية جزاء جهنم وهو استعظام لما حل به. وجهنم: اسم علم للنار، وهي مشتقة من قولهم: ركية جهنم إذا كانت بعيدة القعر. وسمي الرجل بجهنام وكلاهما من الجهم وهو الكراهة والغلظة ووزنها فعنل. ولا يلتفت لمن قال: وزنها فعلل كعدبس وان فعللا مفقود لوجود فعل نحو رونك وضفنك وغيرهما وامتنعت الصرف للتأنيث والعلمية.
{ ولبئس المهاد } المخصوص بالذم محذوف تقديره هي أي جهنم ولما تقدم قوله تعالى:
ومن الناس من يعجبك
[البقرة: 204] وكان عاما في المنافق: الذي يظهر خلاف ما يبطن، ناسب ذكر قسيمة عاما وهو من يبذل نفسه في طاعة الله وينبغي أن يكون من عني من الصنفين إنما ذكر على سبيل المثال وكون من يدخل في عمومها.
و { يشري } معناه يبيع عبر عن بذل النفس بالشراء وانتصب.
{ ابتغآء } على أنه مفعول له.
و { مرضات } مصدر مبني على التاء كمدعاة والقياس تجريده عن التاء. وكتب في المصحف بالتاء وبالهاء ومعنى ذلك أنه يبتغي رضا الله عنه. وهو كناية عن فعله به ما يفعل الراضي بمن يرضى عنه وهو إيصال الخير إليه.
{ والله رؤوف بالعباد } حيث كلفهم يقتضي الحض على امتثال ما وقع به المدح من شراء نفسه في جهاد وغيره مما يشق.
[2.208]
{ يأيها الذين آمنوا ادخلوا } إن كان المنادي أهل الكتاب، فالمعنى: آمنوا بالتوراة والانجيل ادخلوا.
{ في السلم } في الشرائع الاسلام. وفسر السلم: بالاسلام. وإن كان المنادى المسلمين فالمعنى: يا من آمن بقلبه وصدق ادخلوا في شرائع الاسلام والايمان وأجمعوا إلى الإيمان الإسلام، وهو ما فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل عليه السلام إذ قد فرق عليه السلام بين الحقيقتين. وقرىء بفتح السين وكسرها وانتصب.
{ كآفة } على الحال. وذو الحال ضمير ادخلوا وكافة مما التزام نصبه على الحال نحو: قاطبة، ومعناه: جميعا. (قال) الزمخشري: ويجوز أن يكون حالا من السلم أي في شرائع الاسلام كلها أمروا بأن لا يدخلوا في طاعة دون طاعة. وقال ما نصه: ويجوز أن تكون كافة حالا من السلم لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب قال: السلم يأخذ منها ما رضيت به، والحرب يكفيك من أنفاسها جرع. على أن المؤمنين أمروا بأن يدخلوا في الطاعات كلها وان لا يدخلوا في طاعة دون طاعة أو في شعب الاسلام وشرائعه كلها وأن لا يخلوا بشيء منها. وعن عبد الله بن سلام انه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقيم على السبت وأن يقرأ من التوراة في صلاته من الليل فلم يأذن له. وكافة: من الكف كأنهم كفوا أن يخرج منهم أحد. " انتهى ".
وتعليله جواز أن تكون كافة حالا من السلم. بقوله: لأنها تؤنث كما تؤنث الحرب ليس بشيء، لأن التاء في كافة وإن كان أصلها للتأنيث ليست فيها إذا كانت حالا للتأنيث بل صار هذا نقلا محضا إلى معنى جميع وكل كما أو قاطبة أو عامة فلا يدل شيء من هذه الألفاظ على التأنيث كما لا يدل عليه كل ولا جميع، وتوكيده بقوله: أو في شعب الاسلام وشرائعه كلها هو الوجه الأول من قوله: بأن يدخلوا في الطاعات كلها فلا حاجة إلى هذا الترديد. (قال) ابن عطية: وقالت فرقة جميع المؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أمرهم بالثبوت فيه والزيادة من التزام حدوده فتستغرق كافة حينئذ المؤمنين وجميع أجزاء الشرع فيكون الحال من شيئين، وذلك جائز نحو قوله تعالى:
فأتت به قومها تحمله
[مريم: 27]. إلى غير ذلك من الأمثلة، ثم قال بعد كلام ذكره وكافة معناه : جميعا، والمراد بالكافة: الجماعة التي تكف مخالفيها. " انتهى ". وقوله: فيكون الحال من شيئين، يعني من الفاعل في ادخلوا، ومن السلم وهذا الذي ذكره محتمل ولكن الأظهر أنه حال من الضمير الفاعل وذلك جائز يعني: مجيء الحال الواحد من شيئين. وفي ذلك تفصيل مذكور في النحو.
وقوله نحو قوله:
فأتت به قومها تحمله
[مريم: 27] يعني: أن تحمله حال من الفاعل المستكن في أتت، ومن الضمير المجرور بالباء. وهذا المثال ليس مطابقا للحال من شيئين لأن لفظة تحمله لا يحتمل شيئين ولا يقع الحال من شيئين إلا إذا كانت اللفظة تحتملهما واعتبار ذلك بجعل ذوي الحال مبتدأين والاخبار بتلك الحال عنهما فمتى صح ذلك صحت الحال ومتى امتنع امتنعت. مثال ذلك قول الشاعر:
وعلقت سلمى وهي ذات مؤصد
ولم يبد للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا
صغير لم نكبر ولم تكبر البهم
فصغيرين حال من الضمير في علقت ومن سلمى لأنه يصح أنه يقول أنا وسلمى صغيران نرعى البهم. ومثله قوله:
خرجت بها نمشي تجر وراءنا
فنمشي حال من التاء في خرجت ومن الضمير المجرور في بها. ويصلح أن نقول: أنا وهي نمشي وهنا لا يصلح أن يكون تحمله خبرا عنهما. لو قلت: هي وهو تحمله لم يصح أن يكون تحمله خبرا نحو قوله: هند وزيد تكرمه، لأن تحمله وتكرمه لا يصح أن يقدر إلا بمفرد فيمتنع أن يكون حالا من ذوي حال ولذلك أعرب المعربون في خرجت بها نمشي تجر وراءنا نمشي حالا منهما وتجر حالا من ضمير المؤنث خاصة لأنه لو قيل: أنا وهي تجر وراءنا، لم يجز أن يكون تجر خبرا عنهما لأن تجر وتحمل إنما يقدران بمفرد أي حاملة، وجارة. وإذا صرحت بهذا المفرد لم يمكن أن يكون حالا منهما وكافة لدلالته على معنى جميع يصلح أن يكون حالا من الفاعل في ادخلوا ومن السلم بمعنى شرائع الاسلام لأنك لو قلت الرجال والنساء جميع في كذا صح أن يكون خبرا. لا يقال: كافة لا يصح أن يكون خبرا. لا تقول: الزيدون والعمرون كافة في كذا. ولا يجوز أن يقع حالا على ما قررت لأن امتناع ذلك إنما هو بسبب مادة كافة إذ لم يتصرف فيها بل التزم نصبها على الحال لكن مرادفها يصح فيه ذلك وقوله: والمراد بالكافة الجماعة التي تكف مخالفيها يعني: أن هذا في أصل الوضع ثم صار الاستعمال لها بمعنى جميعا، كما قال هو وغيره: وكافة معناه جميعا. وضم عين فعلة الاسم في الجمع بالألف والتاء لغة الحجاز فتقول: خطوات.
[2.209-211]
{ فإن زللتم } باتباع الشيطان في كفر أو معصية. وقرىء: زللتم بفتح اللام وبكسرها.
{ من بعد ما جآءتكم البينات } وهي حجج الله ودلائله التي أوضحها في كتابه وعلى لسان رسوله.
{ فاعلموا أن الله عزيز } لا يغالب.
{ حكيم } فيما يرتبه من الزواجر لمن خالف وفي ذلك وعيد شديد وأمرهم بأن يعلموا تنبيه لهم على ما قد يغفل العاصي عن وصفه تعالى بهاتين الصفتين.
{ هل ينظرون } أي هل ينتظرون. والمعنى على النفي ولذلك دخلت إلا في قوله:
{ إلا أن يأتيهم الله } والإتيان حقيقة في الانتقال من حيز إلى حيز وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله سبحانه وتعالى وهو إتيان على ما يليق به سبحانه من غير انتقال إذ هو تعالى ليس في مكان، أو يكون على حذف مضاف وهو الذي صرح به في قوله: أو يأتي أمر ربك. وهو عبارة عن بأسه وعذابه. ويدل على هذا المحذوف قوله:
{ في ظلل من الغمام } يستحيل أنه يحل سبحانه وتعالى في ظلل. وقد قيل الضمير في ينظرون لليهود وهم مشبهة. ويدل عليه قوله بعد: سل بني إسرائيل، والمعنى أنهم لا يقبلون ما دعوا إليه من الاسلام واتباع الرسول إلا بأن يأتيهم الله تعالى. وقرىء في ظلل وفي ظلال الأول جمع منقاس، والثاني لا ينقاس.
وقرىء { والملائكة } بالرفع عطفا على الجلالة وبالجر عطفا على في ظلل أو على من الغمام.
{ وقضي الأمر } قد يستروح من هذا ذلك المحذوف المقدر وهو أمر ربك وقضاء الأمر عبارة عن الجزاء والفراغ من الحساب. وقرىء: وقضاء ممدودا بضم الهمزة وجرها. وقرىء: وقضى الأمر جمعا. وقرىء: يرجع بالياء مبنيا للفاعل وبالتاء والياء مبنيا للمفعول.
{ سل بني إسرائيل } الخطاب للرسول عليه السلام أو لكل أحد. وقرىء اسأل واسأل لم يعتد بنقل الحركة فتحذف همزة الوصل. وقراء الجمهور سل فاحتمل النقل وحذف همزة الوصل. واحتمل أن يكون على لغة سأل يسأل: حكاها سيبويه.
{ كم آتيناهم } سؤال تقريع وتكرير لما آتاهم من البينات ومع ذلك ما أحمدت عندهم. وكم في موضع نصب على المفعول الثاني لآتيناهم ومن آية تمييز لكم وعلى هذا لا يجوز ما أجاز ابن عطية من أن كم منصوبة بفعل مضمر يفسره ما أجاز ابن عطية من أن كم منصوبة بفعل مضمر يفسره الظاهر التقدير كم آتيناهم، لأن الضمير في آتيناهم ليس عائدا على كم ولا هو سببي ونظير ما أجاز أن تقول: الدرهم أعطيت زيدا، فتنصب الدرهم بفعل مضمر، وأعطيت ليس فيه ضمير يعود على الدرهم ولا سببي ويترك نصبه بأعطيت المفرغ له وكذلك: زيدا ضربت ينصب زيدا بفعل محذوف، وضربت مهيأ للعمل فيه. وأجاز أيضا أن تكون كم مبتدأة وحذف الضمير العائد عليها والتقدير آتينا هموما وهذا عند البصريين لا يجوز إلا في الشعر أو شاذ من القراءات.
وكم آتيناهم في موضع المفعول الثاني لسل، وسل معلقة كما قال: سائل بني أسد ما هذه الصوت. وأجاز الزمخشري أن تكون كم خبرية وفي جعلها خبرية اقتطاع للجملة التي هي فيها من جملة السؤال ويصير الكلام مفلتا عما قبله وأنت ترى مصب السؤال على هذه الجملة ولا يكون ذلك إلا مع الاستفهام ومن آية تمييز لكم. وأجاز ابن عطية أن يكون " من آية " مفعولا، ومن: زائدة، والتمييز: محذوف. وفي جواز مثل هذا التركيب نحو: كم درهم أعطيت من رجل نظر. والآيات البينات ما تضمنته التوراة والانجيل من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحقيق نبوته وتضمن ما جاء به ومعجزاته.
{ ومن يبدل نعمة الله } هي الآيات وأي نعمة أجل منها.
على ما الموصولة والهاء في أوتوه. عائدة على الكتاب والذين أوتوه هم إبان العلم به والدراسة له وخصهم بالذكر تشنيعا وتقبيحا للذي فعلوه من الاختلاف.
من بعد ما جآءتهم البينت
[البقرة: 213] أي في الكتاب وهي سبب الهداية ومن عام فيدخل فيه كفار قريش وحذف حرف الجر من نعمة. والمفعول الثاني لدلالة المعنى عليه، والتقدير: ومن يبدل نعمة الله كفرا. ودل على ذلك ترتيب جواب الشرط عليه وجواب الشرط لدلالة ما بعده عليه تقديره يعاقبه أو يقدر ضمير أي شديد العقاب له أو تنوب ال عن الضمير على مذهب من يرى ذلك أي شديد عقابه.
[2.212-213]
{ زين للذين كفروا الحياة الدنيا } نزلت في أبي جهل وأصحابه كانوا يتنعمون بما بسط الله عليهم. وقرىء زين وزينت على البناء للمفعول وزين مبنيا للفاعل والتزيين التحسين.
{ ويسخرون من الذين آمنوا } أي برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث اتبعوه وأعرضوا عن حطام الدنيا. وصدرت الجملة بالماضي لأنه أمر مفروع منه وهو تركيب طباعهم على محبة الدنيا وإيثارها على الآخرة. والثانية جاءت بالمضارع لأنه يتجدد كل وقت عطف المضارع ومتعلقه على الماضي ومتعلقه أو يقدر وهم يسخرون فيكون من عطف الاسمية على الفعلية، ولما كانت السخرية تقتضي العلو والتطاول للساخر أخبر تعالى يعلو المؤمنين عليهم في الآخرة وجاء لفظ: اتقوا بعثا للمؤمن على التقوى.
{ والله يرزق من يشآء } أي في الآخرة.
{ بغير حساب } أي بغير نهاية. أو في الدنيا بأن يملك المؤمنين المسخور منهم رقاب الكافرين وأرضيهم وأموالهم ولا يحاسبهم على ذلك ولا يحصي عليهم.
{ كان الناس أمة وحدة } أي في الإيمان.
{ فبعث الله النبيين } في الكلام حذف أي فاختلفوا فبعث وقرأ عبد الله فاختلفوا، وذلك عندنا على سبيل التفسير لا القرآن، وقد صرح بهذا المحذوف في قوله تعالى:
وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا
[يونس: 19].
{ مبشرين } بثواب من أطاع.
{ ومنذرين } بعقاب من عصى. وقدم البشارة لأنها أبهج للنفس وأقبل لما يلقى النبي صلى الله عليه وسلم وفيها إطمئنان المكلف.
{ وأنزل معهم الكتب } معهم: حال مقدرة من الكتاب فيتعلق بمحذوف، وليس: منصوبا بانزل، وآل في الكتاب للجنس وبالحق متعلق بإنزال أو في موضع الحال من الكتاب وهي حال مؤكدة.
{ ليحكم } متعلق بأنزل والفاعل ضمير يعود على الله. وهو الضمير في أنزل أي ليفصل به بين الناس. والفصل لا يكون إلا بعد الاختلاف ويؤيده قراءة الجحدري: لنحكم بالنون وهو التفاوت. وعنه أيضا: ليحكم مبنيا للمفعول.
{ فيما اختلفوا فيه } هو الاسلام أي في الدين الذي اختلفوا فيه.
{ وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه } الضميران عائدان على ما الموصولة، والهاء في أوتوه عائدة على الكتاب، والذين أوتوه هم أرباب العلم به والدراسة له، وخصهم بالذكر تشنيعا وتقبيحا للذي فعلوه من الاختلاف.
{ من بعد ما جآءتهم البينت } أي في الكتاب الذي أنزل إذ الحق موضح فيها يوجب الاتفاق وعدم الاختلاف.
{ بغيا بينهم }: أي سبب الاختلاف هو البغي والظلم والتعدي وهي اختلافات أول يعقبه بعث الأنبياء، والثاني بعد إنزال الكتاب وانتصب بغيا بمحذوف تقديره اختلفوا فيه من بعد ذلك بغيا.
{ فهدى الله الذين آمنوا } أي بمحمد صلى الله عليه وسلم.
{ لما اختلفوا } أي للذين اختلف فيه الناس.
و { من الحق } تبيين للمختلف فيه في موضع الحال من ما والهداية تقتضي إصابة الحق.
{ بإذنه } أي تمكينه وتوفيقه.
{ والله يهدي من يشآء } هدايته ودل على أن هدايته من شاء منشاءها الارادة وفي ذلك رد على المعتزلة في زعمهم أنه يستقل بهداية نفسه.
[2.214-216]
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } نزلت في شدائد أصابت المسلمين كحالهم في الخندق وفي غزوة أحد. وأم منقطعة التقدير بل أحسبتم وحسب كظن تستعمل في المترجع وسدت ان مسد مفعول حسب.
{ ولما يأتكم } جملة حالية ولما بلغ في النفي من لم والمثل الشبه إلا أنه مستعار لحال غريبة أو قضية عجيبة. وثم: محذوف أي مثل مجيئه المؤمنين.
{ الذين خلوا من قبلكم } ثم فسر ذلك المثل فقال:
{ مستهم البأسآء } فليس لهذه الجملة موضع من الإعراب على المشهور ومستهم: أصابتهم.
{ وزلزلوا } أي أزعجوا إزعاجا شديدا.
{ حتى يقول } قرىء بالنصب حتى غاية إلى أن يقول. وقرىء برفع يقول وهي حال محكية والمعنى وزلزلوا حتى قال:
{ الرسول } وقع الزلزال والقول.
{ والذين آمنوا معه } معه معمول لآمنوا.
{ متى نصر الله } سؤال عن الوقت. والجملتان داخلتان تحت القول جمع الرسول والموفون في القول. قال المؤمنون: متى نصر الله؟ وقال الرسول:
{ ألا إن نصر الله قريب } لما استبطأ المؤمنون النصر أجابهم الرسول بأنه قريب عادت بكل جملة لمن يناسبها. وقدم الرسول في إسناد القول لمكانته وقول المؤمنين لتقدمه في الزمان. والرسول هنا: اسم جنس.
{ يسألونك ماذا ينفقون } عن ابن عباس نزلت في عمرو بن الجموح وكان ذا مال سأل بماذا أتصدق وعلى من أنفق؟ والضمير للمؤمنين، والخطاب للرسول عليه السلام. وماذا: مفعول ينفقون. أو ما مبتدأ خبره ذا، وهو موصول والعائد عليه محذوف والتقدير أي شيء الذي ينفقونه والظاهر السؤال عن ما ينفق لكن تضمن الجواب ما ينفق ومصرفه بقوله:
{ قل مآ أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين } ومن خير تبيين للمنفق ويتناول القليل والكثير وما موصولة أو شرطية وبدأ في المصرف بالأقرب فالأقرب ثم بالأحوج فالأحوج، وخبر ما للوالدين أن قلنا بوصلها على إضمار أي فهو أو مصرفة للوالدين.
{ وما تفعلوا } ما: شرطية مفعول بها أي أي شيء تفعلوا. والفعل أعم من الانفاق وغيره سألوا عن خاص فأجيب بخاص ثم أتى بالعموم في أفعال الخير.
{ كتب عليكم القتال } أي فرض وظاهر كتب الفرضية أما على الأعيان وإما على الكفاية.
{ وهو كره لكم } أي مكروه لكم كالنقض بمعنى المنقوض وقرىء كتب مبنيا للمفعول ومبنيا للفاعل ونصب القتال، والقتال يعني الجهاد. والجملة: حال، والضمير عائد على القتال.
{ وعسى أن تكرهوا شيئا } عسى للاشفاق ومجيئها له قليل وأكثر مجيئها للترجي وكراهتهم للقتال لما فيه من التعرض للقتل والأسر وانضاء الأبدان وإتلاف الأموال، والخير الذي فيه الظفر والغنيمة والاستيلاء على النفوس والأموال، وأعظم الخير الشهادة وهي الحالة التي تمناها رسول الله صلى الله عليه وسلم والجملة حال من النكرة وهو قليل ومع ذلك نص على جوازه سيبويه.
{ وعسى أن تحبوا شيئا } عسى هنا للترجي واندرج في قوله شيئا الخلود إلى الراحة وترك القتال لأنه محبوب بالطبع، والشر الذي فيه هو ذلتهم وضعف أمرهم واستيصالهم وسبي ذراريهم ونهب أموالهم.
{ والله يعلم } أي ما فيه المصلحة حيث كلفهم القتال.
{ وأنتم لا تعلمون } ما علمه الله لغيبة عواقب الأمور.
[2.217-218]
{ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه } نزلت في أول سرية في الاسلام كان أميرهم عبد الله بن جحش أغاروا على عير لقريش قافلة من الطائف وقتلوا عمرو بن الحضرمي آخر يوم من جمادي الآخرة فاشتبه بأول يوم من رجب فعيرهم أهل مكة باستحلاله. وقرىء قتال: بالجر بدل اشتمال. وقيل: بالجر والرفع. ووجه الرفع على تقدير همزة الاستفهام، فقتال: مبتدأ. وقيل: التقدير أجائز قتال فيه.
{ قل قتال فيه كبير } فقتال: مبتدأ موصوف الجار والمجرور. وكبير: خبره. وظاهر الآية تحريم القتال في الشهر الحرام. قيل: هي منسوخة، وقيل: محكمة. قال عطاء: لم تنسخ وحلف بالله ما يحل للناس أن يغزوا في الحرم ولا في الشهر الحرام إلا أن يقاتلوا.
{ وصد } وما بعد من المعاطيف جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على قتال فيه كبير وخبر المبتدأ. أكبر من القتل. والمعنى: وصدكم المسلمين.
{ عن سبيل الله وكفر به } أي بسبيل الله وهو دين الله وشريعته. وقد خبط المعربون في عطف.
{ والمسجد الحرام } والذي نختاره أنه عطف على الضمير المجرور ولم يعد جاره وقد ثبت ذلك في لسان العرب نثرا ونظما باختلاف حروف العطف، وان كان ليس مذهب جمهور البصريين، بل أجاز ذلك الكوفيون ويونس والأخفش والأستاذ أبو علي الشلوبين، ولسنا متعبدين باتباع مذهب جمهور البصريين بل نتبع الدليل.
{ وإخراج أهله } أي وإخراجكم أهله. والضمير: للمسجد وجعل المؤمنين أهله لأنهم القائمون بحقوقه أو لأن مآلهم إليه في العاقبة.
{ والفتنة } أي التي تفتن المسلمين عن دينهم فيكفروا.
{ أكبر } احتراما من قتلهم إياكم.
{ ولا يزالون } أي الكفار ودل هذا على أن الضمير في يسألونك هو للكفار والضمير المنصوب للمؤمنين انتقل من خطاب الرسول إلى خطاب المؤمنين. وحتى تحتمل الغاية والتعليل. وجعلها ابن عطية للغاية، وللتعليل الزمخشري، وهو أمكن إذ يكون الفعل الصادر منهم المنافي للمؤمنين وهو المقاتلة ذكر لها علة توجيها، فالزمان مستغرق للفعل ما دامت علة الفعل وذلك بخلاف الغاية فإنها تقييد في الفعل دون ذكر الحامل عليه فزمان وجوده مقيد بغايته وزمان وجود الفعل المعلل مقيد بوجود علته وفرق في القوة بين التقييد بالغاية والتقييد بالعلة لما في التقييد بالعلة من ذكر الحال وعدم ذلك في التقييد بالغاية. والدين هنا: الإسلام. وجواب أن محذوف أي ان استطاعوا فلا يزالون يقاتلونكم.
{ ومن يرتدد } بني افتعل من الرد وهي بمعنى التعمل والتكسب لأنه متكلف إذ من باشر دين الحق يبعد أن يرجع عنه فلذلك جاء افتعل وهنا ولم يختلف هنا في فك المثلين وهي لغة الحجاز.
{ وهو كافر } رتب الكفر على الموت بعد الردة ورتب على ذلك حبوط العمل في الدنيا وهو بطلانه في الدنيا لإستحقاق قتله وإلحاقه في الاحكام بالكفار.
وفي الآخرة بما يؤول عليه من العقاب السرمدي وقد جاء حبوط العمل مرتبا على الشرك دون الموافاة على الكفر فلو كان قد حج ثم ارتد قال مالك وأبو حنيفة وغيرهما: يلزمه الحج إذا رجع إلى الإسلام. وقال الشافعي: لا يلزمه.
{ فأولئك } إشارة إلى من اتصف بالأوصاف السابقة، وهو حمل على معنى من بعد الحمل على اللفظ، وأولئك يحتمل أن يكون معطوفا على الجزاء ويحتمل أن يكون ابتداء أخبار عطفا على جملة الشرط.
{ إن الذين ءامنوا } الآية روي أن عبد الله بن جحش وأصحابه حين قتلوا الحضرمي ظن قوم أنهم إن سلموا من الاثم فليس لهم أجر فنزلت، ولما كان الايمان هو الأصل أفرده بموصول ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين أفردا بموصول لأنهما من حيث الفرعية واحد.
{ أولئك } إشارة إلى المتصفين بالأوصاف الثلاثة من الإيمان والهجرة والجهاد، وليس تكرير الموصول مشعرا بالمغايرة في الذوات.
{ يرجون } لأنه ما دام المرء في قيد الحياة لا يقطع أنه صائر إلى الجنة إذ لا يعلم ما يختم له به.
وكتبت { رحمة } بالتاء لتمتاز بحالة الوصل ورعيا لمن يقف عليها بالتاء لا بالها.
[2.219-220]
{ يسألونك عن الخمر والميسر } الخمر: هو المعتصر من العنب إذا غلا واشتد وقذف بالزبد. والميسر: القمار، مفعل من يسر ييسر وهو عشرة أقداح وهي الأزلام لسبعة منها خطوط وفيها فروض على عدة الخطوط الفذ وله سهم واحد، والتوأم له سهمان، والرقيب له ثلاثة، والحلس له أربعة، والنافس وله خمسة، والمسبل وله ستة، والمعلا وله سبعة، وثلاثة اغفال لا خطوط لها وهي المنيح والسفيح والوعد بزاد هذه لتكثر السهام وتختلط على الحرضة وهي الضارب بالقداح فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلا وهو رجل عدل عندهم، ثم يبحثوا الضارب على ركبتيه ويلتحف بثوب ويخرج رأسه ويجعل تلك القداح في الربابة وهي خريطة ثم يخلخلها ويدخل يده ويخرج باسم رجل قدحا منها، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصيب الموسوم به ذلك القدح، ومن خرج له قدح من تلك الثلاثة لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله. وكانت عادة العرب أن تضرب بهذه القداح في الشتوة وضيق العيش وكلب البرد على الفقراء فيشترون الجزور، ويضمن الانسان ثمنه، ثم تنحر ويقسم على عشرة أقسام وأيهم خرج له نصيب وأسى به الفقراء ولا يأكل منه شيئا ويفتخرون بذلك، ويسمون من لم يدخل فيه البرم ويذمونه بذلك. سأل عمر ومعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قالا يا رسول الله افتنا في الخمر والميسر فإنها مذهبة للعقل مسلبة للمال. فنزلت: ولما كان الخمر والميسر من مصارف المال ومع مداومتها قل ان يبقى مال فيتصدق به أو يجاهد به سألوا عن ذلك قيل:
{ فيهمآ إثم كبير } وهذا يدل على أن تعاطيها من الكبائر وذلك بعد التحريم.
{ ومنفع للناس } قبل التحريم والاثم هو الذنب الذي يترتب عليه العقاب مع ما جاء في الخمر من ذهاب العقل والسباب والافتراء والتعدي والمنفعة التي فيها ما يحصل من الأرباح والاكساب وذهاب الهم وحصول الفرح. وقد ذكر الأطباء منافعها ومضارها والمنفعة التي في الميسر التوسعة على المحاويج وبعد الصيت بذلك، وقرىء كبير بالباء وبالثاء.
{ وإثمهمآ أكبر من نفعهما } وهو ما يقترفون فيهما من الاثم.
{ ويسألونك ماذا ينفقون } تقدم هذا السؤال وأجيبوا بالمصرف وأجيبوا هنا بذكر المقدار والعفو ما فضل عما يحتاج إليه من يمونه ويسهل عليه.
وقرىء { قل العفو } بالنصب على تقدير ماذا مفعولا وبالرفع على تقديره مبتدأ وخبرا فطابق الجواب السؤال في القرآتين وإن كان يجوز عدم التطابق والرفع على إضمار مبتدأ، أي المنفق العفو، وتقدير ابن عطية: قل العفو إنفاقكم ليس بجيد، لأنه أتى بالمصدر وليس السؤال على المصدر. قال ابن عطية: ورفع العفو مع نصب ماذا جائز ضعيف وكذلك نصبه مع رفعها.
" انتهى " وليس كما قال: بل هو جائز وليس بضعيف.
والاشارة في { كذلك } إلى الأقرب من تبيينه حكم الخمر والميسر والانفاق القريب ذكره والآيات العلامات والدلائل.
{ لعلكم تتفكرون } ترجية للتفكر يحصل عند تبيين الآيات.
{ في الدنيا والآخرة } متعلق بتتفكرون، أي في أمر الدنيا والآخرة. وكانوا في الجاهلية يتحرجون من مخالطة اليتامى في مأكل ومشرب ويتجنبون أموالهم. فنزلت:
{ ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير } والاصلاح بتعليمه وتأديبه والنظر في تنمية ماله وحفظه. وإصلاح؛ مبتدأ وهو نكرة لوجود المسوغ من كون لهم متعلقا به أو في موضع الصفة وهو مصدر حذف فاعله وخير: خير. وخير شامل للإصلاح المتعلق بالفاعل والمفعول والخيرية للجانبين معا وإن إصلاحهم لليتامى خير للمصلح والمصلح يتناول حال اليتيم والكفيل.
{ وإن تخالطوهم فإخوانكم } التفات من الغيبة إلى الخطاب أي فإخوانكم في الدين فينبغي أن تنظروا لهم كما تنظرون لإخوانكم من النسب من الشفقة والتلطف والاصلاح لذواتهم وأموالهم. والمخالطة: من الخلط، وهو الامتزاح. والمعنى في المأكل فيجعل نفقة اليتيم مع نفقة عياله بالتحري إذ يعسر أفراد نفقته بطعامه فلا يجد بدا من خلطه بما له لعياله فرخص لهم في ذلك. وكذا: أي مخالطة يكون لليتيم فيها اصلاح من مطعم أو مسكن أو متاجرة أو مشاركة أو مضاربة أو مصاهرة أو غير ذلك. وجواب الشرط فإخوانكم أي فهم إخوانكم. وقرىء فإخوانكم بالنصب أي فتخالطون إخوانكم.
{ والله يعلم المفسد من المصلح } جملة تحذير والمعنى أنه يجازي كلا منهما على الوصف الذي قام به. وأل فيهما للاستغراق ومن معناها هنا الفصل وضمن يعلم معنى يميز فعدي بمن.
{ ولو شآء الله لأعنتكم } أي لأحرجكم وشدد عليكم في كفالة اليتامى. وقرىء بتحقيق الهمزة وتليينها وطرحها بالقاء حركتها على اللام بعد تقدير خلو اللام من الحركة وجعل قراءة طرح الهمزة وهما أبو عبد الله نصر بن علي بن مريم وهذه الجملة تذكير بإحسان الله وإنعامه على أوصياء اليتامى إذ أزال أعناتهم في مخالطتهم والنظر في أحوالهم وأموالهم.
[2.221-223]
{ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن } نزلت في عبد الله بن رواحة أعتق أمة مسلمة وتزوجها فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: نكح أمة. وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين رغبة في إحسانهم وفي أبي مرثد الغنوي أراد أن يتزوج عناق امرأة قرشية مشركة ذات جمال. وقرىء تنكحوا - بفتح التاء - ويطلق بمعنى العقد وبمعنى الوطء. وقرىء - بضمها - أي ولا تنكحوا أنفسكم المشركات. والمشركات هنا: الكفار، وهو عموم خص بجواز نكاح الكتابيات. وعن ابن عباس هو على عمومه فيحرم نكاح الوثنيات والمجوسيات والكتابيات وكل من على غير دين الاسلام والآية على هذه محكمة ناسخة لآية المائدة متقدمة في النزول وإن تأخرت في التلاوة وبجواز نكاح الكتابيات. قال الجمهور:
{ ولأمة } أي رقيقية.
{ مؤمنة خير } أي.
{ من } حرة.
{ مشركة } وعموم المشركات يقتضي منع نكاح الأمة الكافرة.
{ ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا } الخطاب للأولياء أي المؤمنات. وأجمعت الأمة على أن الكافر لا يطأ المؤمنة بوجه ما والنهي نهي تحريم ولو في الموضعين، بمعنى أن الشرطية. والواو في ولو للعطف على حال محذوفة، أي على كل حال ولو في هذه الحال المقتضية للرغبة في النكاح.
{ أولئك يدعون إلى النار } إشارة إلى الصنفين المشركات والمشركين والدعاء قد يكون بالقول أو بسبب المحبة والمخالطة تسوي إلى الطباع ما يحمل على الموافقة حتى في ترك قتال قومها الكفار فيؤدي ذلك إلى النار. وهذه العلة مانعة من نكاح الكفار. وعدي يدعو بالى ويتعدى باللام ومفعول يدعو محذوف، أي يدعونكم والله يدعوكم وتباين القسمين يؤكد منع مناكحة الكفار إذ يحرم إجابة الكافر ويجب إجابة دعاء الله، ولا يحتاج إلى تقدير حذف مضاف أي وأولياء الله يدعون. كما قال الزمخشري بل حمله على الظاهر أوكد في التباعد من المشركين.
وقرىء { والمغفرة } وبالجر أي يدعو إلى سبب المغفرة وهو التزام الطاعة والتوبة. وبالرفع أي والمغفرة حاصلة.
{ بإذنه } وتيسيره.
{ ويبين آياته } أي يظهرها جلية لكل أحد رجاء أن يحصل بظهورها تذكر واتعاظ. وفي صحيح مسلم عن أنس أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة منهم أخرجوها من البيت ولم يواكلوها ولم يشاربوها ولم يجامعوها فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى:
{ ويسألونك عن المحيض } ولما تضمن ما قبل هذه الآية إيثار مناكحة أهل الإيمان بين حكما عظيما من أحكام النكاح وهو النكاح زمان الحيض، والمحيض مفعل، ويراد به المصدر أي الحيض. وعن ابن عباس هو مكان الدم وهو الفرج.
{ قل هو } أي الحيض.
{ أذى } وإن قلنا أنه موضع الحيض فيكون على حذف أي موضع أذى.
{ فاعتزلوا النسآء } أي نكاح النساء في زمان الحيض أو في موضع الحيض.
و { لا } تقربوهن كناية عن مباشرة النكاح.
وقرىء { يطهرن } مضارع طهر أي ينقين من دم الحيض. ويطهرن مضارع أطهر وهو ظاهر في الاغتسال بالماء. " فإذا " تطهرن أي بالماء. قال الجمهور: تغتسل اغتسال الجنابة. وقال الأوزاعي: تغتسل مكان الدم بالماء فيبيح الوطء، وبه قال أبو محمد بن حزم.
{ فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله } أي من الجهة التي أمر الله وهي القبل لأنه المنهي عنه في الحيض. ولما كانت لهم حالة يرتكبونها حالة حيض النساء من مجامعة النساء وأخبر تعالى بالمنع من ذلك حالة الحيض أثنى على من امتثل أمره تعالى ورجع إلى ما شرع فقال:
{ إن الله يحب التوابين } وأبرز ذلك في صورتين عامتين ليندرج الأزواج والزوجات في ذلك وكرر الفعل ليدل على اختلاف الجهتين من التوبة والتطهر.
{ نسآؤكم حرث لكم } في الصحيحين: إن اليهود كانت تقول في الذي يأتي امرأته في جهة دبرها في قبلها ان الولد يكون أحول. فنزلت: وكان في قوله فأتوهن من حيث أمركم الله تسويغ للإتيان على سائر أحواله، فأكد بقوله:
{ أنى شئتم } أي كيف شئتم أي مقبلة ومدبرة، وعلى أي شق مضطجعة ونائمة وغير ذلك من الأحوال. شبه الجماع بالحرث إذ النطفة كالبذر والرحم كالأرض والولد كالنبات. فأنى تأتي بمعنى: كيف، وبمعنى متى، وبمعنى أين. وأنى تكون استفهاما كقوله تعالى:
أنى لك هذا
[آل عمران: 37]. وشرطا لا جائز هنا أن تكون استفهاما لأن جملتها لا تستقل بل هي محتاجة إلى ضميم وإذا كانت شرطا فقد عدوها من ظروف المكان وهي من الجوازم ولكلاهما أعني إذا كانت استفهاما أو شرطا لا يعمل فيها ما قبلها، والذي يظهر أنها تكون شرطا لافتقارها إلى جملة غير الجملة التي بعدها، وتكون قد جعلت فيها الأحوال كجعل الظروف المكانية وأجريت مجراها مستفهما للحال بالظرف المكاني. وقد جاء نظير ذلك في لفظ كيف خرج به عن الاستفهام إلى معنى الشرط في قولهم: كيف تكون. أكون وجواب الجملة محذوف ويدل عليه ما قبله تقديره انى شئتم فاتوه.
{ وقدموا لأنفسكم } أي الأعمال الصالحة وامتثال ما أمركم به.
{ واعلموا أنكم ملاقوه } أي ملاقوا جزائه على أعمالكم.
{ وبشر المؤمنين } أي بحسن العاقبة في الآخرة وفيه تأنيس عظيم.
[2.224-225]
والعرضة فعلة من العرض بمعنى المفعول كالقبضة، والمرأة عرضة للنكاح أي الله وحذرهم يوم المعاد نهاهم عن ابتذال اسمه تعالى وجعله معرضا لما يحلفون عليه دائما، لأن من يتقي ويحذر يجب صيانة اسمه وتنزيهه عما لا يليق من كونه يذكر في كل ما يحلف عليه من قليل أو كثير عظيم أو حقير والحنث مع الاكثار، واللام في لإيمانكم متعلقة بعرضة أي معدا ومرصدا، أو بتجعلوا فتكون للتعليل.
{ أن تبروا } أي إرادة أن تبروا، علل الامتناع من ابتذال اسم الله في الحلف بإرادة وجود البر، والمعنى إنما نهيتكم عن هذا لما في توقي ذلك من البر والتقوى والاصلاح ويعقد من ذلك شرط وجزاء، أي إن امتنعت من ابتذال اسمه تعالى بررت واتقيت وأصلحت. وقد كثر كلام المفسرين في موضع: ان تبروا. قال الزمخشري: يتعلق أن تبروا بالفعل أو بالعرضة، أي ولا تجعلوا الله لأجل إيمانكم به عرضة لأن تبروا. " انتهى ".
ولا يصرح هذا التقدير لأن فيه فصلا بين العامل والمعمول بأجنبي لأنه علق لإيمانكم بتجعلوا وعلق لأن تبروا بعرضة فقد فصل بين عرضة وبين لأن تبرروا بقوله: لإيمانكم وهو أجنبي منهما لأنه معمول عنده لتجعلوا وذلك لا يجوز ونظير ما أجازه أن تقول أمرر واضرب بزيد هذا، فهذا لا يجوز. ونصوا على أنه لا يجوز: جاءني رجل ذو فرس أبلق راكب أبلق، لما فيه من الفصل بالأجنبي. والذي يظهر لي أن إن تبروا في موضع نصب على إسقاط الخافض، والعامل فيه قوله: لإيمانكم التقدير لأقسامكم على أن تبروا فنهوا عن ابتذال اسمه تعالى وجعله معرضا لأقسامهم على البر والتقوى والاصلاح اللاتي هن أوصاف حسنة لما يخاف في ذلك من الحنث، فكيف إذا كانت أقساما على ما ينافي البر والتقوى والاصلاح، وعلى هذا يكون الكلام منتظما واقعا كل لفظ منه مكانه الذي يليق به. وقال الزمخشري: ان تبروا وتتقوا وتصلحوا عطف بيان لإيمانكم أي: الأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والاصلاح بين الناس. " انتهى ". وهو ضعيف لأن فيه مخالفة للظاهر لأن الظاهر من الإيمان هي الأقسام والبر والتقوى والصلاح هي المقسم عليها فهما متباينان ولا يجوز أن يكون عطف بيان على الإيمان لكنه لما تأول الإيمان على أنها المحلوف عليها ساغ له. وقد بينا أنه لا حاجة تدعونا إلى تأويل الايمان بالمحلوف عليها وعلى مذهبه يكون أن تبروا في موضع جر ولو ادعى أن يكون ان تبروا وما بعده بدل من إيمانكم لكان أولى لأن عطف البيان أكثر ما يكون في الاعلام.
{ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم } الآية هو قول الرجل: لا والله. وبلى والله. من غير قصد لليمين.
{ ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } وهو مصدر القلب لعقد اليمين نفي المؤاخذة في لغو اليمين وأثبتها في كسب القلب وهي الكفارة في الدنيا والآخرة ان حنث. وكانت مما تكفر. والعقوبة في الآخرة إن كانت مما لا يكفر. وفي هذه الجملة حذف دل عليه ما قبله التقدير ولكن يؤاخذكم في إيمانكم.
{ والله غفور حليم } فيه توسعة حيث لم يؤاخذ باللغو وإشعار بالغفران والحلم عن من توعده. قال ابن عباس: كان إيلاء الجاهلية السنة والسنتين وأكبر، فوقت الله ذلك وهو الحلف ان لا يطأها أو يمتنع من الوطء.
[2.226-227]
و { للذين يؤلون } عام في الحر والعبد والسكران والسفيه والمولى عليه غير المجنون ومن لا يرجى منه وطىء. وفي الكلام تضمين وحذف أي يمتنعون بالإيلاء من وطء نسائهم.
و { من نسآئهم } عام في الزوجات حرة أو أمة أو كتابية أو صغيرة لم تبلغ مدخولا بها وغير مدخول بها. ويولون لا يعين حلفا بشيء مخصوص بل بكل يمين يمنع جماعا سواء قيد الاقتناع بمكان أم أطلق.
{ تربص أربعة أشهر } هذا من إضافة المصدر إلى ظرف زمان اتسع فيه. وابتداء أول الايلاء من وقت الحلف.
{ فإن فآءو } أي رجعوا للوطء. والظاهر أن الفيء يكون في الأشهر وبعد انقضائها ولم يأت في الآية أنه إذا فاء ووطىء لا كفارة عليه بل ظاهر قوله: " فإن " الله غفور رحيم. انه لا كفارة عليه.
{ وإن عزموا الطلاق } أي على الطلاق أو ضمن عزم معنى نوى وعداه بنفسه أو التصميم على الطلاق. وجواب الشرط محذوف أي فليوقعوه. وهذا التقسيم الشرطي يدل على أنه لا تقع الفرقة بمعنى الأشهر من غير قول، بل لا بد من القول لأن العزم على الشيء ليس فعلا للشيء. ويؤكده قوله:
{ فإن الله سميع عليم } جاء سميع باعتبار إيقاع الطلاق لأنه من المسموعات وهو جواب الشرط عليم باعتبار العزم على الطلاق لأنه من باب النيات وهو شرط ولا تدرك النيات إلا بالعلم. وتأخر هذا الوصف لمواخاة رؤوس الاى ولأن العلم أعم من السمع. وفي قوله: وان عزموا الطلاق، دلالة على مطلق الطلاق فلا يدل على خصوصية طلاق بكونه رجعيا أو بائنا. وقال الزمخشري: فإن قلت ما تقوله في قوله : فإن الله سميع عليم وعزمهم الطلاق مما يعلم ولا يسمع. قلت: الغالب أن العازم للطلاق وترك الفيئة والفرار لا يخلو من مقاولة وزمزمة ولا بد من أن يحدث نفسه ويناجيها بذلك، وذلك حديث لا يسمعه إلا الله كما يسمع وسوسة الشيطان. " انتهى ".
وقد قدمنا ان صفة السمع جاءت هنا لأن المعنى: وإن عزموا الطلاق أوقعوه أي الطلاق، والإيقاع لا يكون إلا باللفظ فهو من باب المسموعات والصفة تتعلق بالجواب لا بالشرط فلا تحتاج إلى تأويل الزمخشري.
[2.228]
{ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } المطلاقات عام مخصوص بالمدخول بهن ذوات الاقراء لأن حكم هاتين والآيسة والحامل منصوص عليه مخالف لحكم هؤلاء، ويتربصن صورة خبر، ومعناه الأمر ومعناه ينتظرن ولا يقدمن على تزوج، وتربص متعد لقوله: ونحن نتربص بكم أن يصيبكم. ومفعوله هنا محذوف أي يتربصن التزويج والأزواج، والباء للسبب أي من أجل أنفسهن وانتصب ثلاثة على أنه ظرف أي مدة ثلاثة قروء. وقيل مفعول يتربصن أي مضى: ثلاثة قروء. والمشهور في القرء قولان: أحدهما أنه الحيض، والثاني الطهر. وظاهر عموم المطلقات دخول الزوجة الأمة في الاعتداد بثلاث قروء. وقرىء قروء بالهمز وقرؤ بالابدال والادغام، وقروء بفتح القاف وسكون الراء وراء هي حرف الاعراب. وفعول من بناء جمع الكثيرة، وهو هنا من باب التوسع إذ قد ينوب أحد الجمعين القلة والكثرة عن الآخرة.
{ ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن } من ادعا الحيض وما حاضت، أو انتفائه وقد حاضت، أو من الأجنة فلا يعترفن به وهن مؤتمنات على ذلك. وقرىء في أرحامهن وبردهن بضم الهاء فيهما.
{ إن كن يؤمن } شرط جوابه محذوف أي فيحرم عليهن ذلك أو فلا يكتمن.
{ وبعولتهن } أي وأزواجهن. وجمع على فعولة وهو جمع لا ينقاس. وقرىء بضم الباء وسكونها. وسماهم بعولة باعتبار ما كانوا عليه. والضمير في بعولتهن عائد على المطلقات. والحكم خاص بالرجعيات أو على حذف مضاف أي وبعولة رجعياتهن.
و { أحق } على بابها من التفضيل لأن غير الزوج لا حق له ولا تسليط على الزوجة في مدة العدة وفي ذلك إشارة إلى مدة التربص وكأنه قال: وبعولتهن حقيقون بردهن. وأخبر أن حق الرد للزوج حتى لوابته فليس لها ذلك وله ردها إذ ذاك وفي كيفية الرد خلاف ولا خلاف في صحته بالقول.
{ إن أرادوا إصلاحا } ظاهره أنه شرط في الرجعة ويظهر أنه أراد به إصلاح ما حصل من الفساد بالطلاق. قالوا: ويستغني الزوج في المراجعة عن الولي وعن رضاها وعن تسمية مهر وعن الاشهاد على الرجعة على الصحيح، ويسقط بالرجعة بقية العدة ويحل جماعها في الحال ويحتاج إثبات هذا كله إلى دليل واضح من الشرع. والذي يظهر أن المرأة بالطلاق تنفصل من الرجل فلا يجوز أن تعود إليه إلا بنكاح ثان ثم إذا طلقها وأراد أن ينكحها فأما أن يبقى شيء من عدتها أو لا يبقى إن بقي فله أن يتزوجها دون انقضاء عدتها منه ان أراد الاصلاح ومفهوم الشرط أنه إن أراد غير الاصلاح لا يكون له ذلك فإن انقضت عدتها استوى هو وغيره في جواز تزوجها، واما أن تكون قد طلقت وهي باقية في العدة فيردها من غير اعتبار شروط النكاح فيحتاج إثبات هذا الحكم إلى دليل واضح كما قلناه فإن كان ثم دليل واضح من نص أو إجماع قلنا به ولا يعترض علينا بأن له الرجعة على ما وصفوا وان ذلك من أوليات الفقه التي لا يسوغ النزاع فيها فإن كل حكم يحتاج إلى دليل.
{ ولهن } أي على أزواجهن.
{ مثل الذي } لأزواجهن.
{ عليهن } وهذا من بديع الكلام إذ حذف شيء من الأول أثبت نظيره في الآخر، وحذف شيئا من الآخر أثبت نظيره في الأول، والمثلية في الموافقة والطواعية وحسن العشرة. ومثل: مبتدأ، وخبره: لهن وبالمعروف: متعلق به لهن.
{ بالمعروف } الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس ولا يكلف أحدهما الآخر من الأشغال ما ليس معروفا به بل ما يليق به.
{ وللرجال عليهن درجة } أي مزية وفضيلة في الحق نوه بذكر الرجولية والمزية فضيلته عليها في الميراث والجهاد ووجوب طاعتها إياه والصداق والانفاق وكون الطلاق بيده ووفور العقل وغير ذلك مما يمتاز به الرجل على المرأة. ودرجة: مبتدأ، وللرجال: خبره. وعليهن: متعلق بما يتعلق به للرجال.
[2.229]
{ الطلق مرتان } إن كانت ال للعهد في الطلاق السابق، فالمعنى أن الطلاق الذي تملك فيه الرجعة فهو مرتان والثالث لا تملك فيه الرجعة. وقال ابن عباس: بين أن طلاق السنة المندوب هو مرتان. قيل: والمعنى بذلك تفريق الطلاق إذا أراد أن يطلق ثلاثا وهو يقتضيه اللفظ لأنه لو طلق مرتين معا في لفظ واحد ما جاز أن يقال: طلقها مرتين، وكذلك لو دفع إلى رجل درهمين، لم يجز أن يقال: أعطاه مرتين حتى يفرق الدفع فحينئذ يصدق عليه وهو مبحث صحيح. وما زال يختلج في خاطري أنه لو قال أنت طالق مرتين أو ثلاثا انه لا تقع إلا واحدة لأنه مصدر للطلاق ويقتضي العدد فلا بد أن يكون الفعل الذي هو عامل فيه يتكرر وجودا كما تقول: ضربت ضربتين أو ثلاث ضربات، لأن المصدر هو مبين لعدد الفعل فمتى لم يتكرر وجودا استحال أن يتكرر مصدره، وإن تبين رتب العدد. فإذا قال: أنت طالق ثلاثا، فهذا لفظ واحد ومدلوله واحد، والواحد يستحيل أن يكون ثلاثا أو اثنين ونظير هذا أن ينشىء الانسان بيعا بينه وبين رجل فيقول له عند التخاطب: بعتك هذا ثلاثا. فقوله ثلاثا لغو وغير مطابق لما قبله والانشاءات أيضا يستحيل التكرار فيها حتى يصير المحل قابلا لذلك الانشاء وهذا يعسر إدراكه على من اعتاد أنه يفهم من قول من قال طلقتك مرتين أو ثلاثا أنه يقع الطلاق مرتين أو ثلاثا. وظاهر الآية العموم فيدخل في الطلاق الحر والعبد فيكون حكمها سواء. ونقل أبو بكر الرازي اتفاق السلف وفقهاء الأمصار على أن الزوجين المملوكين ينفصلان بالثنتين فلا تحل له بعدهما إلا بزوج والطلاق مصدر طلقت المرأة ويكون يعني التطليق كالسلام بمعنى التسليم: وهو مبتدأ، ومرتان: الخبر على حذف مضاف أي عدد الطلاق المشروع فيه الرجعة أو الطلاق السني المشروع واحتيج إلى الحذف ليطابق الخبر المبتدأ والمعنى في المسنون بقوله:
{ مرتان } أي مرة بعد مرة. ولا يراد به ما نريد على الثنتين. لقوله بعد:
{ فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن } فإمساك هو الرجعة من الثانية، أو تسريح بإحسان هي الطلقة الثالثة ولذلك جاء بعدها:
فإن طلقها
[البقرة: 230] أي فإن سرحها الثالثة. وقال الزمخشري: ولم يرد بالمرتين الثنتين ولكن التكرير كقوله تعالى:
ثم ارجع البصر كرتين
[الملك: 4] أي كرة بعد كرة لا كرتين اثنتين، ونحو ذلك من التثاني الذي تراد بها التكرير. قولهم: لبيك وسعديك وحنانيك وهذا ذيك ودواليك. " انتهى ". وهو في الظاهر مناقض لما قال قبل ذلك ومخالف لما في نفس الأمر. إما مناقضته فإنه قال في تفسير { الطلق مرتان } أي الطلاق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة فقوله تطليقة بعد تطليقة مناقض في الظاهر لقوله: ولم يرد بالمرتين التثنية لأنك إذا قلت: ضربتك ضربة بعد ضربة إنما يفهم من ذلك الاقتصار على ضربتين وهو مساو في الدلالة كقولك: ضربتك ضربتين، ولأن قولك ضربتين لا يمكن وقوعهما إلا ضربة واحدة بعد ضربة، وأما مخالفته لما في نفس الأمر فليس معرضة، واستعمل للحلف لما جرت العادة في تصافح المتعاقدين ولما أمرهم بتقوى هذا من التثنية التي تكون للتكرير، لأن التثنية التي يراد بها التكرير لا يقتصر بتكريرها على ثنتين ولا ثلاث، بل يدل على التكرير مرارا فقولهم: لبيك معناه إجابة بعد إجابة فما زاد.
وكذلك أخواتها وكذلك قوله: كرتين، معناه ثم ارجع البصر مرارا كثيرة، والتثنية في قوله:
{ الطلق مرتان } إنما يراد بهما شفع الواحد وهو الأصل في التثنية ألا ترى أنه لا يراد هنا بقوله: مرتان ما يزيد على الثنتين لقوله بعد: فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان، فإمساك هو الرجعة من الثانية، أو تسريح بإحسان هي الطلقة الثالثة، ولذلك جاء بعد فإن طلقها أي فإن سرحها الثالثة وإذا تقدر هذا فليس قوله: مرتان دالا على التكرار الذي لا يشفع الواحد بل هو مراد به شفع الواحد وإنما غر الزمخشري في ذلك صلاحية التكرير بقوله الطلاق الشرعي تطليقة بعد تطليقة فجعل ذلك من باب التثنية التي لا تشفع الواحد ويراد بها التكرير إلا أنه يعكس عليه أن الأصل في التثنية شفع الواحد وان التثنية التي لا تشفع الواحد ويراد بها التكرار لا يقتصر بها على الثلاث الا ترى أن قوله: كرتين ولبيك، وبأنه ليس المعنى فيه الاقتصار على الثلاث في التكرار ولما حمل الزمخشري قوله تعالى:
{ مرتان } على أنه من باب التثنية التي يراد بها التكرير احتاج ان يتناول قوله فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان على أنه تخيير لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بواجبهن وبين أن يسرحوهن السراح الجميل الذي علمهم.
{ ولا يحل لكم أن تأخذوا ممآ آتيتموهن شيئا } سبب نزولها حديث جميلة بنت عبد الله بن أبي وزوجها ثابت بن قيس بن شماس حين خالعها على حديقته التي كان أعطاها وهو أول خلع في الإسلام والخطاب في لكم للأزواج لأن الأخذ والإيتاء منهم. قيل: أو للأئمة والحكام ليلتئم مع قوله:
{ فإن خفتم } لأنه خطاب لهم لا للأزواج ونسب الأخذ والإيتاء لهم عند التراجع لأنهم الذين يمضون ذلك، ومما أتيتموهن عام فيما أتوهن من صداق وهبة وغيرهما وشيئا عام في سياق النهي.
{ إلا أن يخافآ ألا يقيما حدود الله } هذا استثناء من المفعول له أي لا يحل بسبب من الأسباب إلا بسبب الخوف.
والضمير في يخافا عائد على صنفي الزوجين، ولما كان الاستثناء بعد مضى جملة الخطاب جاز الالتفات وله حكمة وهو أن لا يخاطب من كان مؤمنا بالخوف من انتفاء إقامة حدود الله فناسب فيه الالتفات، وكذلك فيما بعده ولو جاء على ما مضى من الحكاية لكان التركيب إلا أن تخافوا ألا تقيموا. وأن يخافا في موضع نصب على إسقاط الحرف.
و { ألا يقيما } مفعول ثان بأن يخافا. وقرىء بضم الياء، وان لا يقيما في موضع رفع على البدل بدل الاشتمال. وقال ابن عطية في قراءة البدل يخافا بالضم: انها تعدت خاف إلى مفعولين احدهما أسند الفعل إليه والآخر بتقدير حرف خبر محذوف فموضع أن خفض بالجار المقدر عنه سيبويه والكسائي ونصب عند غيرهما لأنه لما حذف الجار وصل الفعل الى المفعول الثاني. مثل: استغفر الله ذنبا وأمرتك الخير. " انتهى ".
وهو نص كلام أبي علي الفارسي نقله في كتابه إلا التنظير باستغفر الله ذنبا، وليس بتنظير صحيح، لأن خاف لا يتعدى إلى اثنين كاستغفر الله ولم يذكر ذلك النحويون حين عدوا ما يتعدى الى اثنين واصل أحدهما بحرف الجر بل إذا جاء خفت، زيدا ضربه عمرا كان ذلك بدلا أو من ضربه عمرا كان مفعولا من أجله، ولا يفهم ذلك على أنه مفعول ثان وقد وهم ابن عطية في نسبة أن الموضع خفض في مذهب سيبويه [والذي نقله أبو علي وغيره ان مذهب سيبويه] ان الموضع بعد الحذف نصب وبه قاله الفراء، وإن مذهب الخليل انه جر، وبه قال الكسائي وقدر غير ابن عطية ذلك الحرف المحذوف على، فقال: والتقدير إلا أن يخافا على أن لا يقيما فعلى هذا يمكن أن يصح قول أبي علي وفيه بعد. وقرىء: إلا أن يخافوا أي إلا أن يخاف الزوج والزوجات.
{ فإن خفتم } قالوا الضمير للأولياء أو السلطان. وأقول الضمير للأزواج والزوجات معليا فيه خطاب الذكور والزوجات مندرجات فيه وأن لا يقيما التفات. وقد بينا حكمته وترك إقامة الحدود بالنشوز وسوء الخلق وكراهة كل منهما لصاحبه وترك ما وجب لكل منهما على صاحبه.
{ فلا جناح عليهما } أي على الزوجين فيما أخذ منهما.
و { فيما افتدت به } وما افتدت به عام من صداقها ومن مالها غير الصداق حتى بكل مالها، كما قال عمر رضي الله عنه اخلعها ولو من قرطها اخلعها بما دون عقاص رأسها. والظاهر تشريكها في ترك إقامة الحدود وان جواز الأخذ منوط بوجود ذلك منهما معا، وحرم على الزوج أن يأخذ إلا بعد الخوف من أن لا يقيما حدود الله وأكد التحريم بقوله:
{ فلا تعتدوها } ثم توعد على الاعتداء وشذ بكر بن عبد الله المزني فقال : لا يجوز للرجل أن يأخذ من زوجه شيئا خلعا لا قليلا ولا كثير. قال وهذه الآية منسوخة بقوله:
وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا
[النساء: 20]. والخلع هل هو فسخ أو طلاق قولان للصحابة والتابعين وأئمة المذاهب وليس في الآية ما يدل على تعيين واحد منها.
[2.230-232]
{ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره } يعني الزوج الذي طلق مرة بعد مرة وهو راجع إلى قوله: أو تسريح بإحسان، أي: فإن سرحها التسريحة الثالثة التي هي باقية من عدد الطلاق والنكاح يطلق على العقد وعلى الوطء فحمله السعيد ان ابن المسيب وابن جبير على العقد وقالا: إذا عقد عليها الثاني حلت للأول وإن لم يدخل بها ولم يصبها وخالفها الجمهور لحديث امرأة رفاعة. وقول الجمهور: مغيب الحشفة يحل ولفظة زوجا غيره جواز نكاح المحلل فيحلل. وسواء اشترط ذلك أم لم يشترط ولا يندرج في ذلك وطىء السيد أمته المطلقة ثلاثا. وفي الكلام جمل محذوفة يدل عليها مشروعية النكاح أي فإن طلقها وانقضت عدتها منه فلا تحل له حتى يعقد عليها زوج آخر ويدخل بها ويصيبها ويطلقها وتنقضي عدتها منه حينئذ يحل للزوج المطلق ثلاثا أن يتراجعا.
{ فإن طلقها } أي الثاني وانقضت عدتها منه.
{ فلا جناح عليهمآ } أي على الزوج المطلق ثلاثا والزوجة.
{ أن يتراجعآ } أي بنكاح جديد ويجوز أن يعود الضمير على الزوج الثاني وزوجته أي: فإن طلقها الثاني فلا جناح عليهما أن يتراجعا وتكون الآية أفادت حكمين أحدهما أن المبتوتة ثلاثا تحل للأول بعد نكاح زوج غيره وذلك بالشروط التي تقدمت وهذا مفهوم من صدر الآية. والحكم الثاني أن للزوج الثاني الذي طلقها يجوز له أن يراجعها لأنه ينزل منزلة الأول فيجوز لهما أن يتراجعا ويكون ذلك دفعا لما يتبادر إليه الذهن من أنه إذا طلقها الثاني حلت للأول فلكونها حلت له اختصت به فلا يجوز للثاني أن يردها فيكون قوله: فلا جناح عليهما أن يتراجعا مبينا أن حكم الثاني حكم الأول وأنه لا يتحتم أن الأول يراجعها. وقوله:
{ إن ظنآ أن يقيما حدود الله } الضمير عائد على ما فسروه من كونه للزوج الأول ومبتوتته ويكون جواز التراجع موقوفا على نكاح زوج غيره وعلى ظنهما أن يقيما حدود الله ومفهوم الشرط الثاني أنه لا يجوز التراجع ان لم يظنا. قال الزمخشري: ومن فسر الظن هنا بالعلم فقد وهم من طريق اللفظ، والمعنى لأنك لا تقول علمت أن يقوم زيد ولكن علمت أنه يقوم زيد ولأن الانسان لا يعلم ما في الغد وإنما يظن ظنا. " انتهى ".
وما ذكره من أنك لا تقول من علمت أن يقوم زيد قد قاله غيره. قالوا: إن الناصبة للمضارع لا يعمل فيها فعل تحقيق نحو العلم واليقين وإنما يعمل في أن المشددة. قال أبو علي الفارسي في الإيضاح: ولو قلت علمت أن يقوم زيد. فنصبت الفعل بأن لم يجز لأن هذا من موضع أن لأنها مما قد ثبت واستقر كما أنه لا يحسن أرجو أنك تقوم وظاهر كلام أبي علي مخالف لما ذكر سيبويه من أنه يجوز أن تقول ما علمت إلا أن يقوم زيد فاعمل علمت في أن قال بعض أصحابنا ووجه الجمع بينهما أن علمت قد تستعمل، ويراد بها العلم القطعي، فلا يجوز وقوع ان بعدها كما ذكره الفارسي، وقد تستعمل ويراد بها الظن القوي فيجوز أن تعمل في أن، ويدل على استعمالها ولا يراد بها العلم القطعي قوله: فإن علمتموهن مؤمنات فالعلم هنا إنما يراد به الظن القوي لأن القطع بايمانهم غير متوصل إليه.
وقول الشاعر:
وأعلم علم الحق غير ظن
وتقوى الله من خير المعاد
فقوله: علم حق يدل على أن العلم قد يكون غير علم حق، وكذلك قوله: غير ظن يدل على أنه يقال علمت وهو ظان. ومما يدل على صحة ما ذكره سيبويه من علمت قد تعمل في أن إذا أريد بها غير العلم القطعي. (قول جرير):
ترضى عن الناس ان الناس قد علموا
ان لأن يدانينا من خلقه أحد
فأتى بأن الناصبة للفعل بعد علمت. انتهى كلامه. وثبت بقول جرير ويتجويز سيبويه ان علم تدخل على ان الناصبة للمضارع فليس بوهم كما ذكر الزمخشري من طريق اللفظ وأما قوله: ولأن الانسان لا يعلم ما في غد وإنما يظن ظنا ليس كما ذكر بل الانسان يعلم أشياء كثيرة مما تكون في الغد ويجزم بها ولا يظنها.
طلق ثابت بن يسار زوجته حتى إذا بقيت من عدتها يومان أو ثلاثة فتبين راجعها ثم أطلقها ثم راجعها ثم طلقها ثم راجعها حتى مضت سبعة أشهر مضارة لها ولم يكن الطلاق يومئذ محصورا. فنزل:
{ وإذا طلقتم النسآء } ولما كان الجمع مشاركا للواحد في الحكم جاء الخطاب بالجمع.
{ فأمسكوهن بمعروف } أي ارجعوهن في العدة.
{ أو سرحوهن بمعروف } أي خلوهن حتى تنقضي العدة ونهي أن لا يكون الامساك.
" ضرار " وضرارا مصدر لضار وانتصابه على أنه مفعول من أجله. وقيل: مصدر في موضع الحال أي مضارين لهن.
{ لتعتدوا } أي لتظلموهن بالجائهن إلى أخذ أموالهن بالافتداء. وهو متعلق بضرار فهو علة للعلة، كما تقول: ضربت ابني تأديبا لينتفع.
{ ومن يفعل ذلك } أي الامساك على سبيل الضرر.
{ فقد ظلم نفسه } بتعريضها للعذاب ولما تقدمت آيات تضمنت الأسر والنهي في النكاح وأمر الحيض والايلاء والطلاق والعدة والرجعة والخلع وحد تعالى حدودا لا تتعدى أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ " آيات الله " التي منها هذه الآيات لنازلة في شأن النساء.
{ هزوا } بل تؤخذ وتتقبل بجد واجتهاد إذ هي والآيات النازلة في سائر التكاليف بين العبد. وربه وبين العبد والناس لا فرق فيها.
ويقال: هزأ به. هزأ: استخف.
{ ومآ أنزل } معطوف على نعمة وهي خصوص بعد عموم إذ ما أنزل هو من النعمة. وفي خطابه تعالى بقوله: عليكم، تشريف وتعظيم لهم وهو في الحقيقة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكتاب: القرآن، والحكمة: السنة. والضمير في به:عائد على ما الموصولة. والخطاب في طلقتم وفي:
{ فلا تعضلوهن } للأزواج. نهي الأزواج المطلقون عن العضل إذ كانوا يفعلون ذلك ظلما وقهرا وحمية الجاهلية لا يتركون مطلقاتهن يتزوجن بمن شئن من الأزواج. والمعنى في أزواجهن من يردن أن يتزوجنه سموا أزواجا باعتبار ما يؤلون إليه. والعضل: المنع. عضل ايمه: منعها من النكاح. والمضارع بضم الضاد وكسرها.
{ إذا تراضوا } أي الخطاب والنساء. وإذا معمول لينكحن.
و { بالمعروف } متعلق بتراضوا أو بينكحن.
{ ذلك } الخطاب للرسول عليه السلام أو لكل سامع.
و { منكم } خطاب للمنهيين عن العضل. ويتعلق بكان أو بمحذوف فيكون في موضع الحال من الضمير المستكن في يؤمن وخص المؤمنين لأنه لا ينتفع بالوعظ الأهم.
{ ذلكم أزكى } أي ترك العضل والتمكين من التزويج أزكى لما فيه من امتثال أمر الله.
{ وأطهر } للزوجين لما يخشى عليها من الريبة بسبب العلاقة التي بين الرجال.
{ والله يعلم } بواطن الأمور ومالها.
[2.233]
{ والوالدات } والولادة من خصائص النساء كالحيض لكنه لما كان يطلق والد على الأب دخلته التاء للمؤنث فقيل والدات فجمع بالألف والتاء. وباب ما يخص النساء كحائض لا يجوز جمعه بالألف والتاء إلا شاذا ولفظ والدات شامل للزوجات والمطلقات.
و { يرضعن } خبر أي في حكم الله الذي شرعه أو خبر صورة ومعناه أمر ندب لا إيجاب لاستحقاق الأجرة.
{ حولين كاملين } وصفهما بالكمال دفعا لمجاز ترك الاستغراق. وجعل تعالى ذلك حدا لمدة الرضاع لكنه ليس من الحد الذي لا يتجاوز، إذ قال:
{ لمن أراد أن يتم الرضاعة } فمن لم يرد الاتمام فله فطمه دون ذلك لمن لا ضرر عليه في فطمه. ولمن متعلق بيرضعن، واللام للتعليل. ومن: هو الأب أو للتبيين كهي بعد سقيالك، ومن: للوالدة أولها وللأب. وقرىء أن يتم برفع الميم. فالكوفي يقول: هي مخففة من الثقيلة. والبصري يقول: هي الناصبة ألغيت حملا على ما المصدرية اختها. وقرىء الرضاعة - بفتح الراء وكسرها - كالحضارة والحضارة.
{ وعلى المولود له } ال كمن موصولة روعي اللفظ فافرد الضمير في له. ويجوز في العربية مراعاة المعنى، فيقال: لهم. ولم يقرأ به. وحذف الفاعل ثم المفعول به وأقيم الجار والمجرور مقام الفاعل وذلك على مذهب البصريين، والكوفي لا يجيز ذلك إلا أن كان حرف الجر زائدا نحو: ما ضرب من أحد، على تفصيل لهم في ذلك. وجاء بلفظ المولود له لا بلفظ الأب ولا بلفظ الوالد أشعارا بالمنحة وشبه التمليك وحيث لم يرد هذا المعنى جاء التصريح بلفظ الوالد كقوله تعالى:
لا يجزي والد عن ولده
[لقمان: 33]. وان أريد بالرزق والكسوة المصدرين فلا حذف أو المرزوق والثياب فعلى حذف أي إيصال أو دفع وبالمعروف ملحوظ فيهما. وقرىء بضم الكاف وكسرها.
{ لا تكلف نفس إلا وسعها } ظاهره العموم وتندرج فيه المرضعة والوالد والوسع ما احتملته الطاقة. وقرىء لا تكلف - بضم التاء - مبنيا للمفعول وبفتحها مبنيا للفاعل أي لا تتكلف وحذفت التاء الواحدة. وقرىء لا نكلف بالنون نفسا بالنصب وقرىء " لا تضار " برفع الراء وبفتحها فالرفع نفي في معنى النهي والفتح نهي. وكذا كسر الراء. وقرىء به وبسكونها مشددة أجرا للوصل مجرى الوقف وبسكون الراء مخففة وهو مضارع من ضار مرفوع، أجرى في الوصل مجرى الوقف. ومن قرأ بتشديد الراء جاز أن يكون مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول وقرىء بالفك بكسر الراء الأولى وبفتحها وسكون الثانية فيهما والباء في بولدها للسبب.
{ وعلى الوارث مثل ذلك } هو معطوف على وعلى المولود أي وعلى وارث المولود له. وفي تعيينه عشرة أقوال: أظهرها أنه إذا كان وارثا للمولود له ومات وفني ما ورث الولد إن كان غير جائز ما تركه أبوه فإنه يجب عليه رزق أم الصغير وكسوتها بالمعروف مدة الارضاع.
ومثل ذلك هو الرزق والكسوة اللذان كانا على المولود ينتقلان على الوارث.
{ فإن أرادا } أي الوالدة والمولود له.
{ فصالا } أي فطاما للولد وذلك قبل تمام الحولين فلا بد من تراضيهما فلو رضي أحدهما وأبى الآخر لم يجبر. وآخر التشاور لأنه به يظهر صلاح الأمور والآراء وفسادها ويحتمل أن يكون التشاور منهما أي يشاور أحدهما الآخر، أو يشاور أحدهما أو كلاهما غيرهما.
{ وإن أردتم } خطاب الآباء والأمهات وفيه خروج من غيبة إلى خطاب.
{ أن تسترضعوا } تتخذوا.
ل { أولادكم } مراضع واسترضع متعد إلى اثنين بنفسه. يقال: أرضعت المرأة الصبي واسترضعت المرأة الصبي. أو متعد إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بحرف جر أي تسترضعوا المرضعات لأولادكم.
{ فلا جناح عليكم } أي من الاسترضاع.
{ إذا سلمتم } خطاب للآباء.
{ مآ آتيتم بالمعروف } وهو أجور المراضع إذ في إيتاء المراضع الأجرة معجلا هنيئا توطين لأنفسهن واستعطاف منهن على الأولاد. وقرىء ما أتيتم بالقصر. وقرىء ما أوتيتم مبنيا للمفعول أي ما أعطاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة بالمعروف أي بالجميل الذي تطيب النفس به وتعين على تحسين نشأة الصبي.
[2.234]
{ والذين يتوفون منكم } لما تقدم ذكر عدة الحيض واتصل الكلام إلى ذكر الرضاع وكان فيه وعلى الوارث مثل ذلك ذكر عدة الوفاة. وقرىء يتوفون مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول أي يتوفاهم الله أو يستوفون آجالهم، والذين: مبتدأ، وخبره مختلف في تقديره واختار ان يكون يتربصن وحذف ما يحصل به الربط وهو مجرور أي يتربصن لوفاتهم ودل عليه يتوفون. " وأزواجا " ظاهر في كل زوجة توفي عنها بعلها من أمة كتابية وغيرهما. والتربص هنا: الصبر على التزويج. وإذا كان المعدود مذكرا وحذف فالأكثر ارتباط التاء ويجوز حذفها. ومنه قول العرب: ضمنا من الشهر خمسا، وما ورد في الحديث: ثم اتبعه بست من شوال، يريد خمسة وستة وحسن ذلك في قوله: وعشرا لأنه كالفاصلة ومقطع الجملة. وقال الزمخشري: وقيل عشرا ذهابا الى الليالي والأيام داخلة معها ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين الى الأيام تقول: صمت عشرا ولو ذكرت خرجت من كلامهم ومن البين فيه أن لبثتم إلا عشرا ان لبثتم إلا يوما. " انتهى ". ولا يحتاج إلى تأويل عشرا بانها ليال لأجل حذف التاء ولا إلى تأويلها بعدد كما ذهب إليه المبرد بل الذي نقل أصحابنا أنه إذا كان المعدود مذكرا وحذفته فلك فيه وجهان أحدهما وهو الأصل أن تبقى العدد على ما كان عليه ولم تحذف المعدود فتقول: صمت خمسة، تريد خمسة أيام. قالوا: وهو الفصيح. قالوا: ويجوز ان تحذف منه كله تاء التأنيث، وحكى الكسائي عن أبي الجراح: صمنا من الشهر خمسا، ومعلوم ان الذي يصام من الشهر إنما هي الأيام واليوم مذكر وكذلك قوله :
وإلا فسيرى مثل ما سار راكب
تيمم خمسا ليس في سيره أمم
يريد خمسة أيام. وعلى ذلك ما جاء في الحديث ثم اتبعه بست من شوال وإذا تقرر هذا فجاء قوله: وعشرا على أحد الجائزين وحسنه هنا أنه مقطع كلامه، فهو مشبه بالفواصل فقوله: ولو ذكرت لخرجت كما حسن قوله:
إن لبثتم إلا عشرا
[طه: 103] كونه فاصلة، فلذلك اختير مجيء هذا على أحد الجائزين. من كلامهم ليس كما ذكر بل لو ذكر لكان أتى على الكثير الذي نصوا على أنه الفصيح إذ حاله عندهم محذوفا كحالة مثبتا في الفصيح وجوزوا الذي ذكره الزمخشري على أن غيره أكثر منه. وقوله: ولا تراهم قط يستعملون التذكير فيه، ليس كما ذكر بل استعمال التذكير هو الكثير الفصيح كما ذكرنا. وقوله: ومن البين فيه إن لبثتم إلا عشرا قد بينا مجيء هذا على الجائز فيه وإن محسن ذلك إنما هو كونه فاصلة، وقوله:
إن لبثتم إلا يوما
[طه: 104] فائدة ذكر الزمخشري هذا أنه على زعمه أراد الليالي والأيام داخلة معها، فأتى بقوله: إلا يوما، للدلالة على ذلك.
وهذا يدل عندنا على أن قوله: عشرا، إنما يريد بها الأيام لأنهم اختلفوا في مدة اللبث، فقال قوم: عشر، وقال أمثلهم طريقة يوم. فقوله: إلا يوما مقابل لقولهم: إلا عشرا، ومبين أنه أريد بالعشر الأيام إذ ليس من التقابل أن يقول بعضهم: عشر ليالي، ويقول بعض: يوما والأشهر بالأهلية. وهذه الآية ناسخة للاعتداد بالحول وعمومها معارض لعموم وأدلات الاحمال أجلهن أن يضعن حملهن والسنة الثابتة بينت أن عدة الحامل بوضع حملها سواء كانت متوفي عنها زوجها أم غير ذلك.
{ فإذا بلغن أجلهن } أي انقضاء هذه المدة المضروبة في التربص.
{ فلا جناح عليكم } خطاب للأولياء ومن يقوم مقامهم من الحكام.
{ فيما فعلن في أنفسهن } أي من التزويج والتهيؤ له.
{ بالمعروف } بالوجه الذي ينكره الشرع.
[2.235]
{ ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النسآء } نحو إنك لجميلة، وإنك لصالحة، وإن عزمي لأتزوج، وإن فيك لراغب، ونحو ذلك. مما ليس فيه تصريح ومن ذلك وصف الرجل نفسه وفخره ونسبه كما فعل الباقر مع سكينة بنت حنظلة.
{ أو أكننتم في أنفسكم } من أمر النكاح فلم تعرضوا به والاجماع على أن لا يجوز التصريح بالتزويج.
{ علم الله أنكم ستذكرونهن } هذا عذر في التعريض لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه فأسقط الله الجرح في ذلك. وفيه مع ذلك طرف من التوبيخ وأتى بالسين دلالة على تقارب الزمان بحيث وقع ذلك إثر الانفصال حبالهن من التزوج بالوفاة.
{ ولكن لا تواعدوهن سرا } هذا استدراك من الجملة قبله وهي قوله: ستذكرونهن، والذكر يقع على أنحاء فاستدرك فيه وجه نهي فيه عن ذكر مخصوص، ولو لم يستدرك لكان مأذونا فيه لاندراجه تحت مطلق الذكر الذي أخبر الله بوقوعه. قال الزمخشري رحمه الله تعالى: فإن قلت: أين المستدرك بقوله: ولكن لا تواعدوهن؟ قلت: هو محذوف لدلالة ستذكرونهن عليه تقديره علم الله أنكم ستذكرونهن فاكروهن ولكن لا تواعدوهن سرا. " انتهى ". وقد ذكرنا أنه لا يحتاج إلى تقدير محذوف قبل لكن بل الاستدراك جاءه من قوله: ستذكرونهن، ولم يأمر الله تعالى بذكر النساء لا على طريق الوجوب ولا الندب، فيحتاج إلى تقدير فاذكروهن على ما قررناه قبل كقولك: سألقاك ولكن لا تخف مني، لما كان اللقاء من بعض أحواله أن يخلف من الملقى استدرك فقال: ولكن لا تخف مني. والسر ضد الجهر ويكنى به عن الجماع حلاله وحرامه لأنه يكون في سر. وبعضهم فسره هنا: بالزنا وهو بعيد فانتصب سرا على أنه مفعول به أو على أنه مصدر في موضع الحال ومفعول تواعدوهن محذوف تقديره أي النكاح.
{ إلا أن تقولوا قولا معروفا } استثناء منقطع وهو ما أبيح من التعريض. (قال) الزمخشري: إلا أن تقولوا قولا معروفا وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا. (فإن قلت): لم يتعلق حرف الاستثناء؟ قلت: بلا تواعدوهن، أي لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة، أو لا تواعدوهن إلا بأن تقولوا، أي لا تواعدوهن إلا بالتعريض. ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعا من سر الادائه إلى قولك: لا تواعدوهن إلا بالتعريض. " انتهى ". كلامه. ويحتاج إلى توضيح وذلك أنه جعله استثناء متصلا باعتبار أنه استثناء مفرغ وجعل ذلك على وجهين: احدهما أن يكون استثناء من المصدر المحذوف وهو الوجه الأول الذي ذكره وقدره لا تواعدوهن مواعدة قط إلا مواعدة معروفة غير منكرة، فكأن المعنى: لا تقولوا لهن قولا تعدونهن به إلا قولا معروفا.
فصار هذا نظير: لا تضرب زيدا إلا ضربا شديدا، فهذا استثناء مفرغ من المصدر التقدير لا تضرب زيدا ضربا شديدا. والثاني: أن يكون استثناء مفرغا من مجرور محذوف وهو الوجه الثاني الذي قدره الا بان تقولوا، ثم أوضحه بقوله: إلا بالتعريض فكان المعنى لا تواعدوهن سرا، أي نكاحا بقول من الأقوال إلا بقول معروف وهو التعريض فحذفه من أن حرف الجر فيبقى منصوبا أو مجرورا على الخلاف الذي تقدم في نظائره والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن الذي قبله انتصب نصب المصدر وهذا انتصب على إسقاط حرف الجر وهو الباء التي للسبب. وقوله: ولا يجوز أن يكون استثناء منقطعا من سر الادائه الى قولك: لا تواعدوهن إلا التعريض، والتعريض ليس مواعدا فلا يصح عنده أن ينصب عليه العامل وهذا عنده على أن يكون منقطعا نظير ما رأيت أحدا إلا حمارا لكن هذا لا يصح فيه ما رأيت: إلا حمارا. وذلك لا يصح فيه لا تواعدوهن إلا التعريض لأن التعريض لا يكون مواعدا بل مواعدا به النكاح فانتصاب سرا على أنه مفعول فكذلك ينبغي أن يكون أن تقولوا قولا معروفا مفعولا، ولا يصح ذلك فيه فلا يصح أن يكون استثناء منقطعا هذا توجيه، منع الزمخشري أن يكون استثناء منقطعا وما ذهب إليه ليس بصحيح لأنه لا ينحصر الاستثناء المنقطع فيما ذكر وهو أن يمكن تسليط العامل السابق عليه وذلك ان الاستثناء المنقطع على قسمين: أحدهما ما ذكره الزمخشري وهو أن يتسلط العامل على ما بعد الا كما مثلنا به في قولك: ما رأيت أحدا إلا حمارا، وما في الدار أحدا إلا حمارا. وهذا النوع فيه الخلاف عن العرب فمذهب الحجازيين نصب هذا النوع من المستثنى، ومذهب بني تميم اتباعه لما قبله في الاعراب ويصلح في هذا النوع أن يحذف الأول ويتسلط ما قبله على ما بعد الا فنقول: ما رأيت إلا حمارا، وما في الدار الا حمارا. ويصح في الكلام ما لهم به من علم إلا اتباع الظن* والقسم الثاني من قسمين الاستثناء المنقطع، هو أن لا يمكن تسلط العامل على ما بعد إلا وهذا حكمه النصب عند العرب قاطبة وما ذلك ما زاد إلا ما نقص وما نفع إلا ما ضر فما بعد إلا؛ لا يمكن أن يتسلط عليه زاد ولا نقص بل تقدر المعنى ما زاد لكن النقص حصل له وما نفع لكن الضرر حصل له، فاشترك هذا القسم مع الأول وفي تقدير إلا، لكن الأول يمكن تسلط ما قبله عليه وهذا لا يمكن وإذا تقرر هذا فتقول: قوله: إلا أن تقولوا استثناء منقطعا من هذا القسم الثاني وهو ما لا يمكن أن يتوجه عليه العامل والتقدير لكن التعريض سائغ لكم وكان الزمخشري ما علم ان الاستثناء المنقطع يأتي على ما في هذا النوع من عدم توجه العامل على ما بعد إلا فلذلك منعه. والله أعلم. وظاهر لا تواعدوهن التحريم.
{ ولا تعزموا عقدة النكاح } ضمن تعزموا معنى تنووا، فعقدة: مفعول به، أو انتصب على إسقاط الحرف أي على عقدة، أو على المصدر، إذ معنى تعزموا تعقدوا، وعقدة النكاح ما تتوقف عليه صحة النكاح.
{ حتى يبلغ الكتاب أجله } أي المكتوب أجله من انقضاء العدة. وهو نهي تحريم فلو عقد في العدة فسخ.
{ ما في أنفسكم } من هواهن.
{ فاحذروه } أي فاحذروا عقابه.
[2.236-237]
تزوج أنصاري حنفية ولم يسم مهدا ثم طلقها قبل أن يمسها، فقال صلى الله عليه وسلم: متعها ولو بقلنسوتك فنزلت. وقرىء تمسوهن مضارع مسست، وتماسوهن مضارع ماسست، وهو كناية عن الجماع، وما: مصدرية ظرفية أي زمان عدم المسيس.
{ أو تفرضوا لهن فريضة } الفريضة: الصداق. وفرضه تسميته. وتفرضوا: معطوف على تمسوهن مجزوم على مجزوم فهو داخل تحت نفي لم والمعنى انتفاء الجناح عن المطلق عند انتفاء أحد أمرين أما الجماع واما تسمية المهر. والآية تدل على جواز الطلاق قبل البناء وعلى جواز طلاق الحائض غير المدخول بها لاندراجها في عموم النساء.
{ ومتعوهن } أي ملكوهن ما يتمتعن به وسمي ذلك متعة. وظاهر الأمر الوجوب وضمير النصب عائد على المطلقات قبل المسيس وقبل الفرض.
{ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره }. هذا مما يؤكد الوجوب في المتعة لمن ذكر. والموسع: الموسر، والمقتر: الضيق الحال. والضمير في قدره عائد على المطلق فالمعتبر حاله وليس محدودا ما يمتع به. وقرىء الموسع اسم فاعل من أوسع، والموسع اسم مفعول من وسع. وقرىء قدره بفتح الدال وسكونها وهما بمعنى واحد عند أكثر أئمة اللغة. وقرىء بفتح الراء فيهما أي أوجبوا على الموسع قدره أو ليؤد كل منكم قدره واحتملت الجملة أن تكون حالا، وذو الحال الواو في ومتعوهن وأن تكون استئنافا وبينت حال المطلق في المتعة حال ايساره واقتاره.
{ متاعا بالمعروف } المتاع اسم لما يتمتع به فأطلق على المصدر مجازا، وناصبه ومتعوهن أي تمتيعا، أو انتصب على الحال، وذو الحال الضمير المستكن في العامل في الجار والمجرور والتقدير يستقر على الموسع قدره في حال كونه متاعا، وبالمعروف في موضع الصفة لمتاعا وهو المألوف شرعا ومروءة.
{ حقا على المحسنين } تأكيد للوجوب وحقا صفة لمتاعا أي متاعا واجبا أو مصدر لفعل محذوف أي حق ذلك حقا. ولما بين حال المطلقة قبل المسيس وقبل الفرض بين حال المطلقة قبل المسيس وقبل الفرض بين حال المطلقة قبل المسيس وبعد الفرض.
{ وقد فرضتم } جملة حالية ويشتمل الفرض المقارن للعقد والفرض بعد العقد وقبل الطلاق.
وقرىء { فنصف ما فرضتم } بضم الفاء على أنه خبر مبتدأ محذوف أي فالواجب نصف ما فرضتم، أو مبتدأ محذوف الخبر مقدما أي فعليكم نصف ما فرضتم أو متأخرا أي فنصف ما فرضتم عليكم أي فلهن نصف ما فرضتم. ونصف - بفتح الفاء - أي فأدوا نصف. وقرىء بكسر النون وضمها .
{ إلا أن يعفون } استثناء متصل وهو من الأحوال لأن المعنى فعليكم أو فلهن نصف ما فرضتم في كل حال إلا في حال عفوهن عنكم، فلا يجب. ونص ابن عطية وغيره: على أن هذا استثناء منقطع.
قال ابن عطية: لأن عفوهن عن النصف ليس من جنس أخذهن، والمعنى إلا أن يتركن النصف الذي وجب لهن عند الزوج. انتهى. قيل: وليس على ما ذهبوا إليه بل هو استثناء متصل لكنه من الأحوال، لأن قوله: فنصف ما فرضتم معناه فالواجب عليكم نصف ما فرضتم في كل حالة إلا في حال عفوهن عنكم فلا يجب. وإن كان التقدير فلهن نصف ما فرضتم فكذلك أيضا. وكونه استثناء من الأحوال ظاهر ونظيره لتأتنني به إلا أن يحاط بكم. وقرىء بالتاء وهو التفات وجعل ذلك عفوا ذليل على الندب. وظاهر قوله: يعفون العموم في كل مطلقة قبل المسيس وقد فرض لها وخصوا ذلك بأن تكون مالكة أمر نفسها، أما من كانت في حجر أب أو وصي فلا يجوز لها العفو وإن كانت بكرا لا ولي لها فهي داخلة في العموم.
{ أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح } وهو الزوج وعفوه أن يعطيها المهر كله: قاله على وجماعة. أو الولي الذي المرأة في حجره وهو أبوها أو سيدها في الأمة: قاله ابن عباس وجماعة. وفي كون العافي أخا أو عما أو أبا وإن كرهت خلاف. وقرأ الحسن: أو يعفو الذي بتسكين الواو فيسقط في الوصل لالتقائها ساكنة مع الساكن بعدها فإذا وقف أثبتها وفعل ذلك استثقالا للفتحة في حرف العلة فتقدر الفتحة فيها كما تقدر في الألف في نحو: لن يخشى. وأكثر العرب على استخفاف الفتحة في الواو والياء في نحو: لن يرمي ولن يغزو. حتى أن أصحابنا نصوا على أن إسكان ذلك ضرورة قال أبالله أن أسموا بأم ولا أب. قال ابن عطية: والذي عندي أنه استثقل الفتحة على واو متطرفة قبلها متحرك لقلة مجيئها في كلام العرب وقد قال الخليل: لم يجيء في الكلام واو مفتوحة متطرفة قبلها فتحة إلا في قولهم: عفوة. وهو جمع عفو وهو ولد الحمار. وكذلك الحركة ما كانت قبل واو المفتوحة فإنها ثقيلة. انتهى. وقوله: لقلة مجيئها في كلام العرب يعني: مفتوحا ما قبلها، وهو الذي ذكره فيه تفصيل، وذلك أن الحركة قبلها إما أن تكون ضمة أو فتحة أو كسرة، إن كانت ضمة فاما أن يكون ذلك في فعل أو اسم إن كان في فعل فليس ذلك بقليل بل جميع المضارع إذا دخل عليه الناصب أو لحقته نون التوكيد على ما أحكم في بابه ظهرت الفتحة فيه نحو: لن يغزو، وهل تغزون. والأمر نحو: اغزون. وكذلك الماضي على فعل نحو: نسو. وشرد الرجل. وما يبنى من ذوات الياء على فعل تقول فيه: قصو الرجل ولرموت إليه، وهو قياس مطرد على ما أحكم في بابه وإن كان في اسم فاما أن يكون مبنيا على هاء التأنيث أولا إن كان مبنيا على هاء التأنيث فجاء كثيرا قالوا عرقوه وقمحدوه وعنصوه ويبن عليه المسائل في علم التصريف وإن كانت الحركة فتحة فهو قليل كما ذكر الخليل وإن كانت كسرة انقلبت الواو فيه ياء نحو: الغازي والغازية والعريقية وشد من ذلك أقروة جمع قرو وهي ميلغة الكلب، وسواسوة وهم المستوون في الشر.
ومقاتوه جمع مقتو وهو السايس الخادم.
{ وأن تعفوا أقرب للتقوى } الظاهر أنه خطاب للأزواج إذ هم المخاطبون في صدر الآية. وقرىء وإن يعفو بياء الغيبية.
{ ولا تنسوا الفضل بينكم } أي أن تفضل المطلقة بالعفو عما وجب لها إذا لم يستمتع بها الزوج أو المطلق ببذل جميع المهر إذ في طلاقها كسر خاطرها والرغبة عنها فيكون إعطاؤه لها جميع المهر جبرا لها وإحسانا إليها. وقرىء بضم الواو وبكسرها. وقرىء ولا تناسوا أي تتناسوا.
[2.238-240]
{ حافظوا على الصلوت } تلكم المفسرون في مجيء هذه الآية هنا ثم رجع بعدها إلى شيء من أحوال المطلقات بما ذكرناه في البحر ثم ذكرنا ان المناسبة في ذلك هو أنه لما ذكر تعالى جملة كبيرة من أحوال الأزواج والزوجات وأحكامهم المتقدمة وكانت تكاليف عظيمة تشغل من كلفها بحيث لا تكاد تسع معها شيئا من الأعمال وكان كل من الزوجين قد وجب عليه ما يستفرغ فيه الوقت فكان في ذلك مدعاة إلى التكاسل عن العبادة إلا لمن وفقه الله تعالى أمر بالمحافظة على الصلوات التي هي وسيلة بين الله تعالى وبين عباده وإذا كان قد أمر بالمحافظة على حقوق الآدميين فلان يؤمر بالمحافظة على أداء حقوق الله تعالى أولى. ولذلك جاء فدين الله أحق أن يقضى، وحافظوا من باب طارقت النعل. ولما ضمن معنى المواظبة عدي بعلى وال في الصلوات للعهد وهي الخمس.
{ والصلوة الوسطى } هي فعلى تأنيث الأوسط بمعنى الفضلى. ومنه قول إعرابي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يا أوسط الناس طرافي مفاخرهم*
وأكرم الناس أما برة
وافعل التفضيل لا يبنى إلا مما يقبل الزيادة والنقص وكذا فعل التعجب فلا يجوز زيد أموت الناس، ولا أموت زيدا لأنه لا يقبل ذلك وكون الشيء وسطا بين شيئين لا يقبل الزيادة والنقص، فلا يجوز أن يبني منه أفعل التفضيل فتعين أن يكون الوسطى بمعنى الخيرى والفضلى وثبت تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم ان الصلاة الوسطى هي صلاة العصر من حديث جماعة من الصحابة عنه عليه السلام فوجب المصير إليه. وذكرها خاص بعد عام نحو: وجبريل وميكال. وقرىء والصلاة بالنصب. وقرىء الوصطى بالصاد.
{ وقوموا لله قنتين } أي مطيعين ساكتين عما يتكلم به غير ما شرع من القراءة والذكر. وفي قوله: وقوموا، دلالة على مطلوبية القيام. والقيام فرض في صلاة الفرض على كل صحيح قادر عليه.
{ فإن خفتم } أي من عدو أو سبع أو سيل وغير ذلك مما يخاف منه ولم يتمكن المصلي من القيام.
{ فرجالا } أي فصلوا رجالا جمع راجل أي على الاقدام ماشين.
{ أو ركبانا } جمع راكب. ويقال رجل يرجل رجلا فهو راجل ورجل. قيل: لا يقال راكب الا لراكب الابل. وقرىء فرجالا بضم الراء وشد الجيم وبالضم وتخفيفها. والظاهر أنهم يوقعون الصلاة وهم ماشون فيصلون على كل حال والراكب يومي.
{ فإذآ أمنتم } أي من الخوف.
{ فاذكروا الله } بالشكر والعبادة.
{ كما علمكم } أي ذكرا يوازي ويعادل نعمة ما علمكم ويجوز أن تكون الكاف للتعليل، أي لتعليمه إياكم.
{ ما لم تكونوا تعلمون } ما: مفعول بعلمكم.
{ والذين يتوفون منكم } حكي ابن عطية وعياض الاجماع على فسخ الحول بالآية السابقة وقرىء وصيبة بالرفع على الابتداء وهي موصوفة تقدير أي وصية منهم.
وقرىء بالنصة على المصدر أي يوصون وصية.
وانتصب { متاعا } بفعل مضمر من لفظه أي متعوهن متاعا أو من غير لفظه فيكون مفعولا أي جعل الله لهن متاعا.
الى الحول.
وانتصب { غير إخراج } على الصفة لمتاعا.
{ فإن خرجن } أي مختارات.
{ فلا جناح عليكم } على من له الولاية عليهن وجاء هنا من معروف نكرة لأن هذه الآية متقدمة في النزول وإن تأخرت في الترتيب وفي الآية السابقة بالمعروف معرفا بال لأنه متأخر في النزول وإن تقدم في الترتيب كما جاء في قوله: كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول.
[2.241-245]
{ وللمطلقات متاع بالمعروف } ظاهره العموم كما ذهب.
وقرىء ألم تر بسكون الراء وقصة هؤلاء انهم قوم من بني إسرائيل أمروا بالجهاد فخافوا القتل فخرجوا من ديارهم فرارا من ذلك فاماتهم الله ليعرفهم أنهم لا ينجيهم من الموت شيء.
{ ثم أحيهم } وأمرهم بالجهاد.
{ وهم ألوف } جملة حالية وألوف جمع ألف وهو عدد معروف. والظاهر أنهم ألوف من غير تعيين ويجوز أن يراد به التكثير، أي وهم عالم كثير لا يكاد يحصيهم عاد. كما تقول: جئتك ألف مرة تريد التكثير لا حقيقة العدد.
" وحذر الموت " مفعول من أجله.
{ فقال لهم الله } أي على لسان نبي فيهم أو على لسان ملك. أو يكون كناية عن سرعة موتهم كأنهم مأمورون بذلك لسرعة القابلية. وفي الكلام حذف أي فماتوا والموت عبارة عن فراق أرواحهم لأجسادهم.
{ ثم أحيهم } يدل على تراخي إحيائهم وليس بموت الآجال بل هو حادث مما يحدث على المنكر كموت الذي مر على قرية وأتت هذه بين يدي الأمر بالقتال تشجيعا للمؤمنين وحثا على الجهاد وإعلاما بأن لا مفر من القضاء وتنبيها على النشأة الآخرة.
{ وقتلوا في سبيل الله } ظاهره أنه خطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم بالجهاد في سبيل الله وعن ابن عباس أمر لأولئك الذين أحياهم الله بالجهاد.
{ من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا } هذا على سبيل التمثيل والتقريب. والله الغني شبه عطاء المؤمن في الدنيا ما يرجوا ثوابه في الآخرة بالقرض، كما شبه بذل النفوس والأموال في أخذ الجنة بالبيع والشراء. ومن: مبتدأ. وإذا: اسم إشارة باق على إشارته، والذي: صفة له أو من، وذا مركبين بمعنى الاستفهام والذي: خبره، وقرضا: مصدر على غير المصدر، أي إقراضا، أو بمعنى المفعول أي مقروضا حسنا. وحسنه إن كان مصدرا بطيب النية فيه وكونه بلا أذى ولا من وإن كان مفعولا فبجودته وكثرته وطيب أصله. وقرىء { فيضعفه } بالتشديد، وفيضاعفه بالألف. وقرىء بالرفع على الاستئناف أي فهو يضاعفه أو عطفا على صلة الذي وبالنصب جوابا للاستفهام وإن كان الاستفهام هو عند المسند إليه الحكم لا عن الحكم خلافا لمن منع النصب في ذلك وهو نظير من يدعوني فأستجيب له.
{ أضعافا } حال أو ضمن فيضاعف معنى فيصيره فيكون مفعولا.
{ والله يقبض ويبسط } أي يقتر ويوسع.
[2.246-248]
{ ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل } الملأ: هم الأشراف. ومن له الحل والعقد وهو اسم جمع ويجمع على إملاء من بني إسرائيل في موضع الحال أي كائنين من بني إسرائيل.
{ من بعد موسى } متعلق بما تعلق به من بني إسرائيل وتعدى إلى حرفي جر من لفظ واحد لاختلاف المعنى فالأولى للتبعيض والثانية لابتداء الغاية.
{ إذ قالوا } العامل في إذ قالوا: تر، وقالوا: بدل من بعد وقد رددنا ذلك في البحر. والعامل مضاف محذوف أي إلى قصة الملأ أو إلى حديث الملأ وما جرى لهم، إذ قالوا: لأن الذوات لا يتعجب منها إنما يتعجب مما جرى لهم.
{ لنبي لهم } لنبي: متعلق بقالوا، واللام: للتبليغ. ولم يعين في القرآن اسم هذا النبي. وقصة هؤلاء إنه لما توفي موسى عليه السلام خلفه يوشع يقيم فيهم التوراة فقبض، فخلفه حزقيل فقبض، ففسق فيهم الاحداث حتى عبدوا الأوثان، فبعث الياس ثم من بعده اليسع ثم قبض فظهرت فيه الاحداث، وظهر لهم عدوهم العمالقة قوم جالوت وكانوا سكان بحر الروم بين مصر وفلسطين فغلبوا على كثير من بلادهم وأسروا من ملوكهم وضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم ولم يكن لهم نبي موجود يدبر أمرهم، فسألوا الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه وكان سبط النبوة قد هلكوا إلا امرأة حبلى دعت الله تعالى أن يرزقها غلاما فرزقها شمويل فتعلم التوراة وكفله شيخ من علمائهم وتبناه فأتاه جبريل عليه السلام وهو نائم إلى جنب الشيخ وكان لا يأمن عليه فدعاه بلحن الشيخ يا شمويل فقام نزعا فقال: يا أبت دعوتني، فكره أن يقول له لا فيفزع. فقال: يا نبي نم فجرى له ذلك مرتين فقال له: إن دعوتك الثالثة فلا تجبني فظهر له جبريل عليه السلام فقال له: اذهب فبلغ قومك رسالة ربك فقد بعثك نبيا فاتاهم فكذبوه، وقالوا له: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك وكان قوام بني إسرائيل بالاجتماع على الملوك وكان الملك يسير بالجموع والنبي يسدده ويرشده، ومعنى ابعث لنا ملكا: انهض لنا من تصدر عنه في أمر الحروب وتنتهي إلى تدبيره. وقرىء نقاتل بالنون والجزم على جواب الأمر وبالياء رفع اللام على الصفة وبالنون ورفع اللام على الحال من المجرور وبالياء والجزم على الجواب ولما ذكروا القتال استثبتهم بقوله:
{ هل عسيتم } ليعلم ما انطوت عليه بواطنهم فاستفهم عن مقاربتهم ترك القتال إن كتب عليهم فأنكروا أن يكون لهم داع إلى ترك القتال بقولهم: وما لنا.. إلى آخر كلامهم أي هذه حال من يبادر إلى القتال. ودخول هل على عسيتم دليل على أن عسى فعل خبري لا إنشائي والمشهور أن عيسى انشاء.
وقرىء عسيتم بكسر السين وفتحها وجواب ان كتب محذوف وان لا تقاتلوا خبر عسى أو مفعول على الخلاف المنقول في النحو، والواو في ومالنا أن لا نقاتل لربط هذا الكلام بما قبله، والتقدير في ترك القتال والواو في وقد للحال. وقرىء أخرجنا مبنيا للمفعول وأخرجنا ماضيا مبنيا للفاعل أي أخرجنا العدو أو أخرجنا الله سبحانه بعصياننا فنحن نموت ونقاتل في سبيله ليردنا إلى أوطاننا ويجمع بيننا وبين أبنائنا.
{ تولوا } أي صرفوا عزائمهم عن القتال.
{ إلا قليلا منهم } استثناء متصل وصح وإن كان لا يجوز قام القوم إلا رجالا لأنه صفة لموصوف محذوف ولتقييده بقوله: منهم ولم يبين عدة هذا القليل وفي الحديث ثلثمائة وثلاثة عشر وهذا القليل ثبتوا على نياتهم في قتال أعدائهم.
{ والله عليم بالظالمين } وعيد لمن تقاعد عن القتال بعد أن فرض عليه بسؤال.
ولما سألوا أن يبعث لهم ملكا قال:
{ إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا } وكان طالوت صاحب صنعة فيها مهنة.
{ قالوا أنى } الجملة وهو كلام من تعنت في حكم الله تعالى ولم يسلم لما فعله الله تعالى وأبدوا عذرهم في إنكار تمليكه عليهم وإنهم أحق بالملك منه إذ الملك في سبط [يهود أو النبوة في سبط] لأوى وليس هو من هذا السبط ولا من هذا السبط والملك لا يتم إلا بالفاضل لا المفضول والموسع عليه في الدنيا، إذ يحتاج إلى استخدام الرجال بالمال ومعونتهم به على القتال اعتبروا في ذلك الأصالة والغنى ولم يعتبروا السبب الأقوى وهو ما قضاه الله وقدره، وأنى بمعنى: كيف نصب على الحال.
" ويكون " ناقصة وله خبر وعلينا متعلق بالملك على معنى الاستعلاء أو تامة، أي كيف يقع أو يحدث.
{ ونحن أحق } جملة حالية.
{ ولم يؤت } معطوف على الحال فهو حال وبالملك ومنه متعلقان باحق.
{ اصطفاه } اختاره صفوة إذ هو أعلم بالمصالح.
{ وزاده بسطة في العلم } بالحروب وعلم الشرائع وقيل أنه أوحى إليه ونبىء.
{ والجسم } وهو امتداد القامة وحسن الصورة. قال ابن عباس: كان طالوت يومئذ أعلم بني إسرائيل وأتمهم وأجملهم وتمام الخلق وحسنه أعظم في النفوس وأشد هيبة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ماشى الطوال طالهم. وقرىء بسطة بالسين وبالصاد.
{ والله يؤتي ملكه من يشآء } لما تعنتوا وجادلوا قطعهم بذلك، ثم اعلمهم بآية تدل على ملك طالوت فقال:
{ إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت } وكانوا قد فقدوه وكان مشتملا على ما ذكره الله تعالى والتابوت معروف، ووزنه فاعول ولا يعرف له اشتقاق ويقال بالتاء أخيرا وبالهاء وقد قرىء بهما.
{ فيه سكينة من ربكم } أي فيه اطمئنان لكم ولما كانت السكينة تحصل بإتيانه جعلت فيه مجازا. وقيل: والتابوت صندوق التوراة كان موسى عليه السلام إذا قدمه في القتال سكنت نفوس بني إسرائيل ولا يفرون.
{ وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون } لم يعين ما البقية. فقيل: رضاض الواح التوراة التي تكسرت حين ألقاها موسى عليه السلام وقيل: عصاه. وقيل غير ذلك. وآل موسى وآل هارون هم الأنبياء كانوا يتوارثون ذلك.
{ تحمله الملائكة } قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت وهم ينظرون إليه وكان حمل الملائكة له اسعظاما لهذه الآية.
{ إن في ذلك } أي إتيان التابوت والملائكة تحمله.
[2.249]
{ فلما فصل طالوت بالجنود } قيل هنا جمل محذوفة أي فجاءهم التابوت وأقروا له بالملك وتأهبوا للخروج. والباء في بالجنود للحال أي ملتبسا بالجنود. قال ابن عباس: كانوا سبعين ألفا، ولما خرجوا معه شكوا قلة الماء وخوف العطش وكان الوقت قيظا وسلكوا مفازة فسألوا الله أن يجري لهم نهرا.
{ قال إن الله مبتليكم بنهر } قال ابن عباس: هو نهر بين الأردن وفلسطين، وقرىء بنهر بفتح الهاء وسكونها. والابتلاء الاختبار، واخبار طالوت بهذا الابتلاء وما يترتب عليه لا يكون من قبله بل بوحي من الله أما إليه إن كان نبيا كما قيل أو للبني الذي أخبر عن الله بتمليكه.
{ فمن شرب منه فليس مني } أي من أتباعي وأشياعي في هذه الحرب.
{ ومن لم يطعمه فإنه مني } أي من لم يذقه وطعم كل شيء ذوقه وتقول العرب أطعمتك الماء أي أذقتكه. وطعمت الماء: ذقته.
{ إلا من اغترف } استثناء من الجملة الأولى وهي فمن شرب منه فليس مني.
{ غرفة } قرىء بفتح الغين وضمها، والمعنى: يشربها أو للشرب، والظاهر أنها غرفة الكف أبيح لهم ذلك لا الكروع والتملي من الماء.
{ فشربوا منه إلا قليلا منهم } أي يشرب الأكثر ولم يشرب القليل. وقرىء إلا قليلا بالنصب على الاستثناء وبالرفع على أنه تابع للمرفوع قبله لأن الكلام إذا كان موجبا جاز فيما بعد إلا حكمه النصب وهو الأفصح والاتباع لما قبله ان رفعا فرفع أو نصبا فنصب أو جرا فجر وهي مسألة بينا وجه الإعراب فيها في كتب النحو. قال الزمخشري: وهذا من ميلهم مع المعنى والاعراض عن اللفظ جانبا وهو باب جليل من علم العربية فلما كان معنى فشربوا منه في معنى: فلم يطيعوه، حمل عليه كأنه قيل فلم يطيعوه إلا قليل منهم. ونحوه قول الفرزدق:
لم يدع من المال إلا مسحتا أو محلف
كأنه قال: لم يبق من المال إلا مسحت أو مخلف " انتهى ".
ويعني أن هذا الموجب الذي هو فشربوا منه هو في معنى المنفي، كأنه قيل: فلم يطيعوه فارتفع قليل على هذا المعنى ولو لم يلحظ فيه معنى النفي لم يكن ليرتفع ما بعد إلا فيظهر أن ارتفاعه على أنه بدل من جهة المعنى فالموجب فيه كالمنفى. وما ذهب إليه الزمخشري من أنه ارتفع ما بعد إلا على التأويل، هنا دليل على أنه لم يحفظ الاتباع بعد الموجب فلذلك تأوله. ونقول: إذا تقدم موجب جاز في الذي بعد إلا وجهان أحدهما: النصب على الاستثناء وهو الأفصح، والثاني: أن يكون ما بعد إلا تابعا لإعراب المستثنى منه أن رفعا فرفع أو نصبا فنصب أو جرا فجر فتقول: قام القوم إلا زيد، ورأيت القوم إلا زيدا، ومررت بالقوم إلا زيد، سواء أكان ما قيل إلا مظهرا أو مضمرا، واختلفوا في إعرابه فقيل: هو تابع على أنه نعت لما قبله فمنهم من حمل هذا على ظاهر العبارة.
وقال: ينعت بما بعد إلا الظاهر والمضمر. ومنهم من قال: لا ينعت به إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس فإن كان معرفة بالاضافة نحو: قام اخوتك أو بالألف واللام للعهد أو بغير ذلك من وجوه التعاريف غير لام الجنس فلا يجوز الاتباع ويلزم النصب على الاستثناء ومنهم من قال ان النحويين يعنون بالنعت هنا عطف البيان ومن الاتباع بعد الموجب قوله:
وكل أخ مفارقه
لعمر أبيك الا الفرقدان
وهذه المسألة مستوفاة في علم النحو وإنما أردنا أن ننبه على أن تأويل الزمخشري هذا الموجب بمعنى النفي لا يضطر إليه، وانه كان غير ذاكر لما قرره النحويون في الموجب.
{ فلما جاوزه } أي النهر.
{ هو والذين آمنوا معه } وهم الذين لم يشربوا وهو توكيد للضمير المستكن في جاوزه أي وعاينوا جالوت وعسكره.
{ قالوا } ظاهره عود الضمير على الذين آمنوا، والمعنى قال: من ضعفت نصيرته من المؤمنين وقد شاهدوا عسكر جالوت وكثرته. قال ابن عباس: قائل ذلك الكفرة الذين انخزلوا وهو الفاعل في فشربوا.
{ لا طاقة } هو من الطوق وهو القوة. تقول: أطاق أطاقه وطاقة كأطاع طاعة.
{ لنا اليوم بجالوت } أي بقتال جالوت وجنوده ولنا هو الخبر ويتعلق بجالوت بما تعلق به لنا.
{ قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله } الظن على بابه ومعنى ملاقوا الله انهم يستشهدون في ذلك اليوم لعزمهم على صدق القتال أو بمعنى الايقان أي يوقنون بالبعث.
{ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله } هذا تحريض على القتال واستشعار بالنصر وان الكثرة ليست سببا للنصر إذ قد سبق في الأزمان الماضية غلبة القليل للكثير. وكم خبرية ومن فئة تمييزها ولم يأت في القرآن إلا مجرورا بمن، والفئة: الجماعة. وكم: مبتدأ خبره غلبت. ومن قيل: زائدة وقيل في موضع الصفة لكم، وفئة مفرد في موضع الجمع. وقرىء فئة بالهمزة وبإبدال الهمزة ياء وهو إبدال مقيس.
{ والله مع الصابرين } من تمام قولهم تحريضا على الصبر في القتال.
[2.250-254]
{ ولما برزوا } أي صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر واستوى منها. والمبارزة في الحرب أن يظهر كل قرن لصاحبه بحيث يراه.
{ قالوا ربنآ أفرغ علينا صبرا } سألوا أن يصب عليهم الصبر حتى يكون مستعليا عليهم.
{ وثبت أقدامنا } أي أرسخها حتى لا تفر.
{ وانصرنا } أي أعنا واظفرنا.
{ على القوم الكافرين } أتوا بالوصف المقتضى لخذلان أعدائهم.
{ فهزموهم بإذن الله } أي بتمكينه والعزيمة قد تكون بعد التحام القتال وقد تكون غلبة خوف المنهزم دون التحام.
{ وقتل داود جالوت } لم يبين تعالى كيفية القتل وداود هو ابن أنيسا.
{ وآتاه الله الملك } أي ملك طالوت.
{ والحكمة } وهي وضع الأمور مواضعها من الصواب ولما مات شمويل وطالوت جمع الله لداود الملك والنبوة. وقيل: وهي الحكمة.
{ وعلمه مما يشآء } أي مما يشاء أن يعلمه تعالى وما مبهم.
وقد علمه صنعة الدروع وفهم منطق الطير وانزل عليه الزبور.
{ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض }. المدفوع بهم المؤمنون والمدفوعون الكفار وفساد الأرض بقتل المؤمنين وتخريب المساجد وتطبيق الأرض بالكفر، ولكنه تعالى لا يخلي الأرض من قائم بالحق. وقرىء دفع الله مصدر دفع ودفاع مصدر دفع نحو كتب كتابا أو مصدر دافع فمعنى المجرد وهو مضاف إلى الفاعل وبعضهم بدل من الناس بدل بعض من كل، والباء في ببعض تتعلق بالمصدر وهي للتعدية، واصل التعدية بالباء إنما هو في الفعل اللازم، نحو: لذهب بسمعهم. فأما ما يتعدى فالأصل إذا عدي إلى ثان أن يعدى بالهمزة، نحو: طعم زيد اللحم، وأطعمت زيدا اللحم، ولا ينقاس التعدية بالباء فيما يتعدى إلى واحد فتعديه بها ومما جاء من ذلك قولهم: صك الحجر الحجر ثم إذا عديته إلى ثان قلت صككت الحجر بالحجر أي جعلته. يصكه، وقالوا: صككت الحجرين أحدهما بالآخر. واسند الفساد إلى الأرض بالخراب وتعطيل المنافع، أو المراد أهل الأرض فيكون على حذف المضاف.
{ ولكن الله ذو فضل على العالمين } جاء بلفظ العالمين ليشمل المدفوع [بهم والمدفوع] إذ المدفوع لم يبلغ ما كان يؤمل من مقاصده التي تؤول إلى فساد الأرض فاستدرك أنه تعالى ذو فضل عليه، محسن إليه، واندرج في عموم العالمين. وكأنه لما لم يبلغ مقاصده أنكر فضل الله عليه فجاء فاستدرك لهذا المعنى، وعلى تتعلق بفضل وربما حذفت على، تقول: فضلت فلانا، أي على فلان فإذا ضعف الفعل لزمته على.
{ تلك آيات الله } تلك إشارة إلى الآيات التي تقدمت في القصص السابقة من خروج أولئك الفارين من الموت إلى ما تلاه تعالى مما ذكر بعدهم.
{ وإنك لمن المرسلين } أكد بأن وباللام حيث أخبر بهذه الآيات من غير قراءة كتاب ولا مدارسة أخبار ولا سماع أخبار لما ذكر اصطفاء طالوت على بني إسرائيل وتفضيل داود عليهم وخاطب رسوله بأنه من المرسلين.
بين أن المرسلين يتفاضلون أيضا فقال تعالى:
{ تلك الرسل } أي الذين تقدموا وتلك الرسل مبتدأ وخبر وفضلنا جملة حالية، أو الرسل صفة لتلك، وفضلنا الخبر، وأشار بتلك للبعيد الذي بينه عليه السلام وبينهم من الزمان، وعامل جمع التكسير معاملة الواحدة المؤنثة وفي فضلنا التفات.
{ منهم من كلم الله } قرىء بالرفع، ففي كلم ضمير نصب حذف عائد على الموصول أي من كلمه الله وبالنصب ففي كلم ضمير مرفوع يعود على من. وقرىء كالم. وبالنصب أي كالم هو الله وبدأ في التفضيل بالكلام إذ هو أشرف تفضيل، إذ جعله محلا لخطابه ودخل تحت من آدم وموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
{ ورفع بعضهم درجات } هو محمد صلى الله عليه وسلم لأنه بعث إلى الناس كافة وأمته أعظم الأمم وختم به باب النبوة إلى ما آتاه الله تعالى.
{ وآتينا عيسى ابن مريم وأيدناه بروح القدس } تقدم تفسيره.
{ ولو شآء الله } قيل هنا محذوف تقديره فاختلف أممهم واقتتلوا أي ولو شاء الله أن لا يقتتلوا ما اقتتلوا.
ومعنى: { من بعدهم } من بعد كل نبي.
{ ولو شآء الله ما اقتتلوا } توكيد للجملة السابقة.
{ ولكن الله يفعل ما يريد } أي إرادته هي المؤثرة لا إرادة غيره.
{ أنفقوا مما رزقنكم } عامة في كل صدقة واجبة أو تطوع من جهاد وغيره ولما قسم في قوله فمنهم من آمن ومنهم من كفر أقبل على المؤمنين بندائهم وخطابهم تشريفا لهم.
{ من قبل أن يأتي يوم } هذا تحذير من الامساك قبل أن يأتي يوم القيامة.
{ لا بيع فيه } يستفاد بتحصيله الفداء من النار.
{ ولا خلة } أي ولا صداقة تقتضي المساهمة .
{ ولا شفاعة } تنجي الكافر من عذاب الله. وقرىء بفتح الثلاثة من غير تنوين وبرفعها والتنوين.
{ والكفرون هم الظلمون } هم: فصل، أو: مبتدا.
[2.255]
{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم } هذه تسمى آية الكرسي لذكره فيها. وقد ورد في فضل قراءتها ثواب كثير، وتضمنت صفاته تعالى من الانفراد بالالهية، والحياة، والقيام على كل شيء. واستحالة كونه محلا للحوادث وغير ذلك مما وصف به تعالى نفسه، وفيه إثبات صفة الحياة له، والقيوم وزنه فيعول أصله قيووم قلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء وقرىء القيام والقيم وجوزوا أن يكون الحي صفة أو خبرا بعد خبر، أو بدلا من هو، أو من الله، أو خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره، لا تأخذه، وأجودها الوصف ويدل عليه قراءة من قرأ الحي القيوم بنصبهما على المدح.
{ لا تأخذه سنة ولا نوم } يقال: وسن سنة ووسنا والمعنى: لا يغفل عن دقيق ولا جليل عبر بذلك عن الغفلة لأنه سببها. أولا تحلة الآفات ولا العاهات المذهلة عن حفظ المخلوقات.
{ له ما في السموت وما في الأرض } ما تشمل كل موجود وللام للملك.
{ من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } تقدم إعراب من ذا الذي في قوله من ذال الذي يقرض الله وهو استفهام في معنى النفي، ولذلك دخلت الا ودلت هذه الجملة على وجود الشفاعة.
{ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ضمير الجمع عائد على ما وهم الخلق غلب من يعقل فجمع الضمير جمع من يعقل وهو عائد على من يعقل من الأنبياء والملائكة مراعاة لقوله: من ذا الذي. قال ابن عباس: ما بين أيديهم أمر الآخرة، وما خلفهم أمر الدنيا. والذين يظهر ان هذا كناية عن إحاطة عالمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات. وكني بهاتين الجهتين عن سائر الجهات لأحوال المعلومات والاحاطة تقتضي الحفوف بالشيء من جميع جهاته.
{ ولا يحيطون بشيء من علمه } أي من معلومه. لأن علمه تعالى لا يتبعض.
{ إلا بما شآء } أن يعلمهم به من المعلومات. وقرىء وسع فعلا ماضيا بكسر السين وسكونها تخفيفا.
وقرىء: { وسع كرسيه السموت والأرض } برفعها. والكرسي: جسم عظيم يسع السماوات والأرض. واختار القفال ان المقصود تصوير عظمة الله وتقدره خاطب الخلق في تعريف ذاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم. " انتهى ". وفي الحديث.
" ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس ".
وفي الحديث أيضا:
" ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض ".
[وقرأت في كتاب لأحمد بن تيمية هذا الذي عاصرنا وهو بخطه سماه كتاب العرش: إن الله تعالى يجلس على الكرسي وقد أخلى منه مكانا يقعد فيه معه رسول الله صلى الله عليه وسلم تحيل عليه التاج محمد بن علي بن عبد الحق البارنباري وكان أظهر أنه داعية له حتى أخذه منه وقرأنا ذلك فيه].
{ ولا يؤوده حفظهما } أي لا يثقله حفظهما أي السماوات والأرض وهو كناية عن انتفاء شغله بهما وبحفظهما.
{ وهو العلي العظيم } تنزيه له تعالى. أي العلي قدره، العظيم شأنه.
[2.256-257]
كان بعض أولاد الأنصار قد تنصر وبعضهم قد تهود وأراد آباؤهم أن يكرهوهم على الاسلام فنزل:
{ لا إكراه في الدين } أي هو من وضوح الدلائل والحجج بحيث لا يكون فيه إكراه بل يجب الدخول فيه بانشراح صدر واختيار.
{ قد تبين الرشد من الغي } أي الايمان من الكفر. والدين هنا معتقد الاسلام. وقرىء بسكون الشين وبضمها وبفتح الراء والشين وقرىء كذلك وبألف بعد الشين. وقرىء بإدغام دال قد في تاء تبين. وقرىء إظهارها شاذا. وهذه الجملة كالعلة لانتفاء الاكراه في الدين لأن استنارة الدلائل تحمل على الدخول في الدين طوعا من غير إكراه.
{ فمن يكفر بالطاغوت } فسر بالشيطان وهو مقلوب أصله طغووت من طغا فقلب، جعلت اللام مكان العين فصار طوغوت، فقلبت الواو ألفا لانفتاح ما قبلها وتحركها هي فصار طاغوت ومذهب سيبويه أنه اسم مفرد كأنه اسم جنس يقع للواحد كقوله:
وقد أمروا أن يكفروا به
[النساء: 60]، وللجمع كقوله: يخرجونهم من النور إلى الظلمات. وزعم أبو العباس أنه جمع، وأبو علي أنه مصدر كرهبوت. وقدم ذكر الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله ليظهر الاهتمام بوجوب الكفر بالطاغوت ولتقدم الكفر بالطاغوت على الإيمان بالله تعالى والكفر بها رفضها ورفض عبادتها ولاتصاله بلفظ الغي.
{ فقد استمسك } أبرز الجواب في صورة الماضي المقرون بعد الدآل في الماضي على تحقيقه وان كان مستقبلا في المعنى إشعارا بأنه مما وقع استمساكه وثبت وذلك للمبالغة في ترتب الجواب على الشرط وانه كائن لا محالة وجعل ما تمسك به عروة وهي في الاجرام موضع الامساك وشد الأيدي والتعلق ومثل الايمان بالعروة ورشح ذلك بقوله:
{ لا انفصام لها } أي لا انكسار ولا انقطاع. وجملة النفي حال أو مستأنفة.
{ الله ولي الذين آمنوا } الولي المحب المتولي أمر من يحب والاخراج هنا ان كان حقيقة فاختص بمن كان كافرا ثم أسلم وإن كان مجازا فهو منع الله إياهم من دخولهم في الظلمات، والظلمات والنور كناية عن الكفر والإيمان.
{ من النور } أي من الإيمان وذلك فيمن آمن ثم كفر. وقرىء الطواغيت بالجمع وجوزوا أن يكون يخرجهم ويخرجونهم حالا أو خبرا ثانيا ويظهر أن يكون تفسيرا للولاية.
ولما ذكر أنه تعالى ولي الذين آمنوا وإن الطاغوت ولي الكفار أعقب بهذه القصة مثلا للمؤمن والكافر والذي حاج في إبراهيم هو نمرود بن كنعان بن كوسى بن سام ابن نوح عليه السلام ملك زمانه وصاحب النار والبعوضة. قال مجاهد: ملك الدنيا مؤمنان سليمان وذو القرنين، وكافران نمرود وبخت نصر. وفي نسب النمرود اختلاف، ومعنى حاج: عارض حجته بمثلها.
[2.258]
{ في ربه أن آتاه الله الملك } أي الحامل له على المحاجة إحسان الله إليه فبطر وتكبر حتى انتهى من عتوه إلى هذه المحاجة ووضعها مكان الشكر على هذه النعمة فإن آتاه مفعول من أجله. فأجاز الزمخشري أن يكون التقدير حاج وقت أن آتاه الله الملك فإن عني أن ذلك على حذف مضاف فيمكن ذلك على أن فيه بعدا من جهة ان المحاجة لم تقع وقت أن آتاه الله الملك إلا أن يجوز في الوقت فلا يحمل على ما يقتضيه الظاهر من أنه وقت ابتداء إيتاء الله الملك له ألا ترى أن إيتاء الله الملك إياه سابق على المحاجة وإن عني ان ان والفعل وقعت موقع ظرف الزمان كقولك: جئت خفوق النجم، ومقدم الحاج، وصياح الديك فلا يجوز ذلك، لأن النحويين نصوا: على أنه لا يقوم مقام ظرف الزمان إلا المصدر المصرح بلفظه فلا يجوز: أجيء أن يصيح الديك، ولا جئت إن صاح الديك.
{ إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت } سبق سؤال من الكافر: وهو قوله من ربك أي الذي يتصرف فيك وفي أشباهك بما لا تقدر عليه. وفي قوله: ربي الذي اختصاص فعارضه الكافر بأن أحضر رجلين قتل أحدهما وأرسل الآخر. ولما رأى إبراهيم مغالطة الكافر وادعاءه ما يوهم أنه اله، ذكر له ما لا يمكن أن يغالط فيه ولا أن يدعيه، وقد كان لإبراهيم أن ينازعه فيما ادعاه ولكنه أراد قطع تشغيبه عن قرب وأن لا يطيل معه الكلام إذ شاهد منه ما لا يمكن أن يدعيه عاقل.
{ فإن الله يأتي بالشمس من المشرق } وعدل الى الاسم. الشائع عند العالم كلهم وهو الله وقرر بذلك ان ربه الذي يحيي ويميت هو الله الفاعل لهذا الأمر العظيم، الذي لا يمكنك أن تموه بدعواك كما موهت بالاحياء والاماتة.
{ فبهت الذي كفر } أي دهش وشغل وتحير ونبه على الوصف الموجب لبهته وهو كفره. وقرىء مبنيا للمفعول والفاعل المحذوف إبراهيم أي بهت إبراهيم الكافر بالحجة الدامغة له ومبنيا للفاعل أي فبهته إبراهيم وبهت بضم الهاء وفتح الباء وبفتح الباء وكسر الهاء أي الكافر. وقد منع الله هذا الكافر أن يدعي أنه هو الذي يأتي بالشمس من المشرق إذ من كابر في ادعاء الاحياء والاماتة قد يكابر في ذلك ويدعيه إذ المسألتان سواء في دعوى ما لا يمكن لبشر ولكن جعله مبهوتا دهشا متحيرا إكراما لنبيه إبراهيم وإظهارا لدينه.
[2.259]
{ أو كالذي مر على قرية } قرىء أو حرف عطف وأو بهمزة استفهام والواو العاطفة. والجمهور على أن أو كالذي معطوف على ألم تر من حيث المعنى إذ التقدير أرأيت الذي حاج ونختار أن تكون الكاف اسما إذ قد ثبت اسميتها في كلام العرب على ما تقرر في النحو وإن كان لا يرى ذلك جمهور البصريين، فتكون الكاف اسما إذ قد ثبت اسميتها في كلام العرب في موضع الجر معطوفة على الذي من قوله: ألم تر إلى الذي، التقدير أو إلى مثل الذي مر، ولم يعين سبحانه وتعالى هذا المار ولا القرية إذ المقصود إنما هو في هذه القصة العجيبة ولا حاجة إلى تعيين المار ولا القرية. والخاوي: الخالي. يقال: خوت الدار تخوي خواء، وخويت تخوي خوى، والمعنى: خاوية من أهلها. ثابتة على عروشها أي سقوفها وكل ما يظل ويكن فهو عريش، فالبيوت: قائمة، والجملة حال من الفاعل في مرأ ومن قرية وإن كانت نكرة تأخرت الحال عنها. وقد أجاز ذلك سيبويه في مواضع من كتابة.
قال: { أنى يحيي هذه الله بعد موتها } ليس هذا شكا: بل هو اعتراف بالعجز عن معرفة طريق الاحياء واستعظام لقدرة الله تعالى والاحياء والاماتة مجازان عن الخراب والعمارة أو يكون على حذف، أي رأي أهلها وقد تمزقت جثتهم وتفرقت أوصالهم فتعجب من قدرة الله تعالى على إحيائهم إذ كان مقرا بالبعث.
{ فأماته الله مئة عام ثم بعثه } أي أحياه برد روحه إلى جسده لم يتغير منه شيء على مر هذه السنين الكثيرة.
{ قال كم لبثت } سؤال تقرير أي كم مدة لبثت ميتا؟
{ قال لبثت يوما أو بعض يوم } قيل. أماته الله غدوة ثم بعثه قبل الغروب. قيل: بعد مائة سنة فقال قبل النظر إلى الشمس يوما ثم التفت فرأى بقية من الشمس فقال: أو بعض يوم. وفي قوله: أو بعض يوم إطلاق البعض على الأكثر.
{ قال بل لبثت مئة عام } أي بل لبثت ميتا مائة عام. وقرىء بإدغام الثاء في التاء وبالاظهار.
{ فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه } وابهم الطعام والشراب ولم يتسنه. قيل: الهاء فيه أصلية من قولهم سانهت وقيل هاء السكت فهو من قولهم: سانيت، والمعنى: لم يتغير. ولما كان طعامه وشرابه متلازمين أخبر عنهما اخبار الواحد فلم يأت التركيب يتسنها أو لم يتسنيا والجملة حال وكونها إذا وقعت حالا منفية بكم دون الواو أكثر منها بالواو.
{ وانظر إلى حمارك } قيل: نظر إلى حماره وهو واقف كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب أحياه الله له وهو يرى ذلك.
{ ولنجعلك آية للناس } أي فعلنا ذلك والناس ناس قومه.
أو ال فيه للجنس أي لمن عاصره ولمن أتى بعدهم.
{ وانظر إلى العظام } أي عظامك أو عظام الحمار أو عظامهما. قيل: أحيا الله منه عينيه وسائر جسده ميت ثم أحيا جسده وهو ينظر ثم نظر إلى حماره فإذا عظامه متفرقة تلوح بيضاء.
{ كيف ننشزها ثم نكسوها لحما } قرىء. بالراء من أنشر الله الموتى ونشر بمعنى أحيا. وبالزاي من أنشر. أي نحركها ونرفع بعضها إلى بعض للتركيب والجملة من قوله: كيف ننشرها في موضع البدل من العظام على الموضع لأن موضعه نصب وهو على حذف مضاف، أي: وانظر إلى حال العظام كيف ننشرها كقولهم: عرفت زيدا أبو من هو؟، أي: عرفت قصة زيد أبو من هو. وعلى هذا يتخرج ما جاء منه، نحو قوله:
أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت
[الغاشية: 17]، والاستفهام في باب التعليق لا يراد به حقيقته والكسوة هنا إستعارة في غاية الحسن استعارها هاهنا لما انشأ تعالى من اللحم الذي غطى به العظام، وهي استعارة عين لعين. وظاهر اللفظ ان أمره إياه بالنظر كان بعد تمام بعثه لأن الأمر كان بعد إحياء بعضه وتكرر الأمر بالنظر في الثلاث الخوارق ولم تنسق متعلقه نسق المفردات لأن كل واحد منها خارق عظيم ومعجز بالغ.
{ فلما تبين له } تبين: فعل لازم، فاعله مضمر يعود على كيفية الاحياء التي استغربها بعد الموت. وقدره الزمخشري فلما تبين له ما أشكل عليه يعني من إحياء الموتى، وينبغي أن يحمل على أنه تفسير معنى وتفسير الاعراب ما ذكرناه أولا. وقرىء تبين مبنيا للمفعول وله هو المقام مقام الفاعل. وقرىء اعلم مضارعا فيه ضميرا لمار وقال ذلك على سبيل الاعتبار. وقرىء اعلم أمرا من الله أو من الملك عن الله أو منه لنفسه نزلها منزلة الأجنبي المخاطب. وقرىء اعلم أمرا من أعلم أي قال الله له: اعلم غيرك بما شاهدت من قدرة الله.
[2.260]
{ رب أرني } استعطاف بين يدي السؤال. وأرني سؤال رغبة.
{ كيف تحيي الموتى } جملة في موضع المفعول الثاني لأرني إذ هي تتعدى الى اثنين بهمزة النقل. ورأى البصرية تعلق. ومن كلامهم أما ترى أي برق ضاء كما تعلق نظر البصرية. ولما قال لنمرود ربي الذي يحيي ويميت سأل ربه أن يريه عيانا كيف إحياء الموتى. والسؤال عن الكيفية يقتضي تحقق وتيقن ما سأل عنه وهو الاحياء.
{ قال أولم تؤمن } استفهام معناه التقرير أي قد آمنت. (قال) ابن عطية: إيمانا مطلقا دخل فيه فصل إحياء الموتى. فالواو واو الحال دخلت عليها ألف التقرير. " انتهى ". وكون الواو هنا للحال غير واضح لأنها إذا كانت للحال فلا بد أن يكون في موضع نصب وإذ ذاك لا بد لها من عامل فلا تكون الهمزة التي للتقرير دخلت على هذه الجملة الحالية إنما دخلت على الجملة التي اشتملت على العامل فيها، وعلى ذي الحال ويصير التقدير أسألت ولم تؤمن أي أسألت في هذه الحال. والذي يظهر أن التقدير إنما هو منسحب على الجملة المنفية وان الواو للعطف كما قال تعالى:
أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا
[العنكبوت: 67] ونحوه. واعتنى بهمزة الاستفهام فقدمت وقد تقدم لنا الكلام في هذا ولذلك كان الجواب ببلى في قوله: قال بلى. وقد تقرر في علم النحو ان جواب التقرير المثبت وان كان بصورة النفي تجريه العرب مجرى جواب النفي المحض فتجيبه على صورة النفي ولا يلتفت الى معنى الاثبات. وهذا مما قررناه ان في كلام العرب ما يلحظ فيه اللفظ دون المعنى ولذلك علة ذكرت في علم النحو. وعلى ما قاله ابن عطية: من أن الواو للحال لا يتأتى أن يجاب العامل في الحال، بقوله: بلى، لأن ذلك الفعل مثبت مستفهم عنه والجواب إنما يكون في التصديق بنعم وفي غير التصديق بلا، اما أن يجاب ببلى فلا يجوز وهذا على ما تقرر في علم النحو. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف قال له أولم تؤمن وقد علم أنه أثبت الناس إيمانا. قلت: ليجيب بما أجاب به لما فيه من الفائدة الجليلة للسامعين وبلى إيجاب لما بعد النفي معناه بلى آمنت { ولكن ليطمئن قلبي } أي ليزيد سكونا وطمأنينة بمضامة علم الضرورة إلى علم الاستدلال وتظاهر الأدلة اسكن للقلوب وأزيد للبصيرة واليقين، ولأن علم الاستدلال يجوز معه التشكيك بخلاف العلم الضروري، فأراد بطمأنينة القلب: العلم الذي لا مجال فيه للتشكيك. انتهى كلامه.
وليس علم الاستدلال يجوز معه التشكيك كما قال بل منه ما يجوز معه التشكيك أما إذا كان من مقدمات صحيحة فلا يجوز معه التشكيك كعلمنا بحدوث العالم وبوحدانية الموجد فمثل هذا لا يجوز معه التشكيك.
{ قال بلى } تقرر في النحو أن التقرير يجاب بما يجاب به النفي المحض وهذا مما يلحظ فيه اللفظ دون المعنى.
{ ولكن ليطمئن قلبي } أي ليزيد سكونا بانضمام علم الضرورة إلى علم الاستدلال.
{ قال فخذ أربعة من الطير } لم يعين من أي جنس هي واضطربوا في التعين. قال ابن عباس: أخذ طاووسا ونسرا وديكا وغرابا وأمره بأخذها بيده وفعله ما فعل بها أثبت في المعرفة بكيفية الاحياء إذ فيه اجتماع حاسة الرؤية وحاسة اللمس. والطير: اسم جمع وفصله بمن أفصح وان كان قد جاءت الاضافة فيه كقوله:
تسعة رهط
[النمل: 48]. ويقال: صار يصور وصار يصير بمعنى قطع وأمال.
{ فصرهن إليك } قال ابن عباس: قطعهن. وقال غيره: اضممهن. وقال ابن عباس أيضا: أوثقهن. وقرىء بضم الصاد وكسرها. وقرىء مضرهن من صر الشيء يصره جمعه، فإن كان بمعنى التقطيع فلا حذف أو بمعنى الامالة فالحذف أي قطعهن أجزاء.
{ ثم اجعل على كل جبل } أي مماليك يشاهد بصرك فيه الأجزاء إذ دعوت الطير واجعل: صير، أو ألق. وقرىء جزأ وجزا أو جزوا.
{ ثم ادعهن } وهن موات أجزاء متفرقة.
{ يأتينك سعيا } أي وهن يسعين تشاهد ذلك وترتب مجيئهن عن دعائه وكان مجيئهن سعيا لأنه أبلغ من المعهود لهن وهو الطيران إذ الطيران عادتهن والسعي المجيء باجتهاد روي في قصص هذه الآية أن إبراهيم عليه السلام ذكى هذه الطيور وقطعها قطعا صغارا وجمع ذلك مع الدم والريش وجعل من ذلك على كل جبل جزءا ووقف من حيث يرى الأجزاء وأمسك رؤوس الطير في يده، ثم قال: تعالين بإذن الله فتطايرت تلك الأجزاء والتأم الدم إلى الدم والريش إلى الريش وبقيت بلا رؤوس، ثم كرر النداء فجاءته سعيا حتى وضعت أجسادها في رؤوسها وطارت بإذن الله. واجمع أهل التفسير ولا عبرة بخلاف أبي مسلم على إن إبراهيم عليه السلام قطع أعضاءها ولحومها وريشها وخلط بعضها ببعض مع دمائها.
[2.261-265]
{ مثل الذين ينفقون أموالهم } الآية لما كانت قصة المار على قرية وقصة إبراهيم عليه السلام من أدل دليل على البعث ذكر ما ينتفع به يوم البعث وما يدل على البعث من إنشاء من حبة واحدة سبع مائة حبة. ودل ذلك على قدرة عظيمة بالغة فكما يخرج هذه الحبات الكثيرة من الحبة الواحدة كذلك يخرج الله الموتى. وهذا العدد يوجد في الدفن والذرة أو ذكر ذلك على سبيل التصوير وإن لم يعاين وأضيف عدد القلة وهو سبع إلى جمع وهو للكثرة مكسرا ولم يضف إلى التصحيح وهو سنبلات لما تقرر في علم النحو انه الأكثر. قال تعالى:
ثماني حجج
[القصص: 27]
سبع طرآئق
[المؤمنون: 17]
سبع ليال
[الحاقة: 7]
عشرة مساكين
[المائدة: 89] مما وازن مفاعل نحو هذا أكثر وأفصح من جمع القلة المصحح فاما وسبع سنبلات فلمقابلة سبع نحو هذا أكثر وأفصح من جمع القلة المصحح فاما وسبع سنبلات فلمقابلة سبع بقرات. (قال) الزمخشري: (فإن قلت): هلا قيل سبع سنبلات على حقه من التمييز بجمع القلة كما قال:
وسبع سنبلات خضر
[يوسف: 43، 46]؟ (قلت): هذا لما قدمت عند قوله: ثلاثة قروء؛ من وقوع أمثلة الجمع. متعاورة مواقعها. " انتهى ". فجعل هذا من باب الاتساع ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر على سبيل المجاز إذ كان حقه أن يميز بأقل الجمع، لأن السبع من أقل العدد. وتقدم لنا أن هذا ليس من باب الاكتفاء واشبعنا الكلام في ذلك البحر.
{ في كل سنبلة } في موضع الصفة لسبع أو لسنابل. وقرىء مائة حبة بالنصب أي أخرجت الحبة مائة حبة. والظاهر في المائة العدد المعروف، أو ذكرت كناية عن الكثير إذ المائة مما يعبر بها عن الكثير، والمنة: النعمة، من عليه: أنعم، والمن المذموم ذكر النعمة للمنعم عليه على سبيل الفخر عليه والاعتداد بإحسانه والمن من الكبائر. ثبت في صحيح مسلم وغيره انه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم.
{ ثم لا يتبعون مآ أنفقوا } دليل على أن النفقة تمضي في سبيل الله ثم يتبعها ما يبطلها وهو المن والأذى فقبولها موقوف على هذه الشرائطة، والأذى يشمل المن وغيره. وذكر الأذى عموم بعد خصوص وقدم المن لكثرة وقوعه ومن المن أن يقول: قد أحسنت إليك ونعشتك وشبهه. أو يتحدث بما أعطى فيبلغ ذلك المعطى فيؤذيه. ومن الأذى أن يسب المعطي أو يشتكي منه أو يقول: ما أشد إلحاحك، وخلصنا الله منك، أو: أنت أبدا تجيئني، أو يكلفه الاعتراف بما أسدى إليه. والذين مبتدأ خبره.
{ لهم أجرهم } ولم يضمن الذين معنى الشرط فتدخل الفاء في الخبر لأن هذه الجملة مفسرة للجملة قبلها المخرجة مخرج الشيء الثابت المفروغ منه وهو تشبيه إنفاقهم بالحبة الموصوفة وهي كناية عن حصول الأجر الكثير، فجاءت هذه الجملة كذلك أخرجت فخرج الشيء الثابت المستقر الذي لا يكاد خبره يحتاج إلى تعليق استحقاق لوقوع ما قبله،.
{ قول معروف } هو الدعاء والتأنيس والترجية بما عند الله.
{ ومغفرة } دعاء بالغفران إما له وإما للسائل. وقول مبتدأ ومسوغ الابتداء وصفه. ولما تقدم ذكر قوله: منا، ولا أذى، وهما نكرتان جاء في هذه الجملة بالمن والأذى معرفتين كقوله:
فعصى فرعون الرسول
[المزمل: 16]، بعد قوله:
إلى فرعون رسولا
[المزمل: 15]. والكاف من قوله: كالذي، في موضع نعت لمصدر محذوف أي إبطالا كابطال صدقة الذي أو في موضع الحال أي مشبهين الذي ينفق فالظاهر ان هذا المنفق الموصوف في الآية هو المنافق والرياء مصدر راءا من الرؤية وهو أن يرى الناس ما يفعله من البر حتى يثنوا عليه ويعظموه ويظنوا أنه من أهل الخير وممن ينفق لوجه الله تعالى وانتصب رياء على أنه مفعول من أجله أو مصدر في موضع الحال.
{ فمثله } الضمير عائد على الذي ينفق والصفوان الحجر الكبير الأملس. وتحريك فإنه بالفتح لغة. وقرىء به وهو شاذ في الأسماء بل فعلان بابه في المصادر والصفات والصلد الأملس: النقي من التراب. والوابل: المطر الشديد. ضرب الله تعالى لهذا المنافق المثل بصفوان عليه تراب يظنه الظان أرضا منبتة طيبة فإذا أصابه وابل من المطر أذهب عنه التراب فيبقى صلدا منكشفا واخلف ما ظنه الظان كذلك هذا المنافق يري الناس أن له أعمالا كما يرى التراب على هذا الصفوان، فإذا كان يوم القيامة اضمحلت وبطلت كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب. والضمير في قوله: لا يقدرون، عائد على المخاطبين بقوله: لا تبطلوا. وفيه التفات أو على الذي من قوله: كالذي، مراعاة لمعنى الجمع إذ لا يراد به واحد فهو نظير: ذهب الله بنورهم، بعد قوله: كمثل الذي استوقد.
{ على شيء } أي على انتفاع بشيء مما أنفقوا وهو كسبهم عند حاجتهم إليه ولما ضرب المثل للمبطل صدقاته وشبهه بالمنافق ذكر مثل من يقصد بنفقته وجه الله فقال:
{ ومثل الذين } الآية وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله، وقابل وصف المنافق بالرياء بقوله:
{ ابتغآء مرضات الله } وقابل ابتغاء إيمانه بقوله: وتثبيتا من أنفسهم. والمراد توطين النفس على المحافظة على طاعة من يؤمن به وكان التمثيل في قوله:
{ كمثل جنة } بمحسوس متصور حتى يظهر للسامع تفاوت ما بين الضدين وقراءة الجمهور جنة وقرىء جنة. والربوة: أرض مرتفعة طيبة وتثلث واوها. ومن نظم الخليل بن أحمد رحمه الله:
ترفعت عن ندى الأعماق وانخفضت
عن المعاطش واستغنت لرياها
فمال بالخوخ والرمان أسفلها
واعتم بالنخل والزيتون أعلاها
{ أصابها وابل } وصفها بما تعلمه العرب وتشاهده كثيرا من انتفاع الربا بالوابل، إذ يقل: الماء الجاري في بلادهم. وقرىء بفتح الراء في ربوة وبضمها وقرىء برباوة على وزن كراهة. وبكسر الراء على وزن رسالة.
{ فآتت } أي صاحبها أو أهلها.
{ أكلها } وحذف كما حذف في قوله: كمثل جنة، أي صاحب جنة لدلالة المعنى، لأن المقصود ذكر ما تثمر لا لمن تثمر.
وانتصب: ضعفين على الحال ونسبة الايتاء إليها مجاز والأكل هنا الثمرة. وقرىء بضم الكاف وإسكانها وضعف الشيء مثله. وقيل: مثلاه فيكون أربعة أمثاله. قيل: في حمل واحد، أو في السنة مرتين. ويحتمل أن يكون يراد بالتثنية التكثير لا شفع الواحد أي ضعفا بعد ضعف أي إضعافا كثيرة وهو أبلغ في التشبيه لأن الحسنة لا يكون لها ثواب حسنتين.
{ فإن لم يصبها وابل فطل } أي إن لم يكن يصبها وابل فيصيبها طل أو فطل يصيبها وهو مع ذلك كاف لها في إيتاء ضعفين لكرم الأرض وطيبها فلا تنقص ثمرتها بنقصان المطر. وقرىء بما يعملون بالتاء وبالياء.
[2.266-267]
{ أيود أحدكم } هذا مثل لمن عمل أنواع الطاعات فشبهت بجنة فيها من كل الثمرات فختمها بإساءة كاعصار فشبه تحسره حين لا عود بتحسر كبير السن هلكت جنته أحوج ما كان إليها وأعجزه عنها، والهمزة في أيود للاستفهام والمعنى على التبعيد والنفي أي ما يود أحد ذلك وأحد هنا ليس المختص بالنفي بل هو بمعنى واحد على طريق البدلية. وقرىء جنات بالجمع وبالافراد.
{ من نخيل وأعناب } خصا بالذكر لكثرة منافعهما، وذكرت الثمرة وهي الأعناب وذلك لأن العنب أعظم منافع الكرم، وخص النخيل بذكره دون ذكر ثمرته لأن منافعه كثيرة لا تختص بثمرته وهو التمر فقط، وجعلت الجنة منهما وإن كان فيها غيرهما لأنهما أغلب ما فيها.
{ له فيها من كل الثمرات } دليل على أن فيها غير النخيل والأعناب. وهذه الجملة مركبة من مبتدأ وخبر حذف فيها المبتدأ أي له وفيها التقدير له فيها رزق أو ثمرات كقوله:
كإنك من جمال بني أقيش [يقعقع بين رجليه بشن]. أي كأنك حمل من جمال بني أقيش. وكقوله: وما منا إلا له مقام معلوم، أي وما أحد منا. فمن في موضع الصفة.
{ وأصابه الكبر } جملة حالية أي وقد أصابه الكبر.
{ وله ذرية ضعفآء } أي صغار أو محاويج والجملة: حال أيضا.
(قال الزمخشري): وقيل يقال: وددت لو كان كذا، فحمل العطف على المعنى كأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة وأصابه الكبر. " انتهى ".
وظاهر كلامه أن يكون وأصابه الكبر معطوف على متعلق أيود وهو أن يكون لأنه في معنى لو كانت، إذ يقال: أيود أحدكم لو كانت، وهذا ليس بشيء لأنه يمتنع من حيث المعنى أن يكون معطوفا على كانت التي قبلها لو لأنه متعلق أيود وأما وأصابه الكبر فلا يمكن أن يكون متعلقا لود لأن إصابة الكبر لا يوده أحد ولا يتمناه لكن يحمل قول الزمخشري على أنه لما كان أيود استفهاما معناه الانكار جعل متعلق الودادة الجمع بين الشيئين وهما كون جنة له وإصابة الكبر إياه، لا أن كل واحد منهما يكون مودودا على انفراده وإنما أنكر ودادة الجمع بينهما.
{ فأصابهآ إعصار } الاعصار: ريح شديدة يرتفع معها غبار إلى الجو.
{ فيه نار } أي كائن فيه. وذكر الضمير لأن الأعصار مذكر دون أسماء الرياح.
{ فاحترقت } يدل على اعتقاب احراقها أصابته واحترقت مطاوع أحرقها فاحترقت كقولهم: انصفته فانتصف لما أمروا بالصدقة جاء بعض الصحابة بحشف يرى أن ذلك جائز فنزل:
{ يأيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم } أي من حلال ما كسبتم وما يقع به، ومن للتبعيض، وما عموم في المكسوب لا في مقدار ما ينفق، ومما أخرجنا معطوف على من طيبات أي ومن طيبات ما أخرجنا، وما عامة في المخرج للعلماء خلاف في مسائل كثيرة مما أخرج تعالى.
{ من الأرض } ذكرت في كتب الفقه.
{ ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون } هذا تأكيد للجملة قبله. وقرىء ولا تيمموا بتخفيف التاء من حذف التاء إذا الأصل لا تتيمموا وبإدغام تاء المضارعة في التاء بعدها وهي قراءة البزي في مواضع ذكرت في كتب القراءات والطيب والخبيث صفتان استعملتا استعمال الأسماء فوليتا العوامل . والضمير في منه عائد على ما دل عليه الكلام أي الخبيث من المال المنفق وتنفقون حال ما فاعل تيمموا أي منفقيه.
{ ولستم بآخذيه } جملة حالية. أي بآخذيه في ديونكم وحقوقكم وإهدائه إليكم.
{ إلا أن تغمضوا فيه } أي تتساهلوا في أخذه. وقرىء تغمضوا من أغمض متعديا أي أبصاركم ولازما بمعنى أغضى عن كذا وبالتشديد من غمض وتغمضوا مضارع تغمض وتغمضوا بفتح التاء وبضم الميم وبكسرها من غمض ثلاثيا بمعنى أغمض وتغمضوا مبنيا للمفعول أي إلا أن توجدوا قد أغمضتم فيه. كما تقول: أحمد الرجل إذا أصيب محمودا.
{ واعلموا أن الله غني } أي عن صدقاتكم.
{ حميد } أي على كل حال إذ يستحق الحمد.
[2.268-274]
{ الشيطان يعدكم الفقر } أي يخوفكم به إذا تصدقتم يقول: أمسك لئلا تفتقر. وقرىء الفقر والفقر بفتحتين والفقر بضم القاف.
{ ويأمركم بالفحشآء } أي بالمعاصي التي منها البخل في الحقوق الواجبة. والمعنى يغويكم بالفحشاء إغواء الآمر.
{ والله يعدكم مغفرة } أي سترا لما اجترحتموه من السيئات.
{ وفضلا } أي زيادة في الرزق وتوسعة وإخلافا لما تصدقتم به.
{ والله واسع } أي بالجود والفضل.
{ عليم } بنيات من أنفق.
{ يؤتي الحكمة } قرىء بالياء وبتاء الخطاب والحكمة القرآن والفهم فيه.
{ ومن يؤت الحكمة } قرىء مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول.
قال الزمخشري في قراءة من قرأ ومن يؤت: معناه ومن يؤته الله الحكمة فإن أراد تفسير المعنى فصحيح، وإن أراد تفسير الاعراب فليس كذلك بل من مفعول بفعل تقدم الشرط كما تقول: أيا تعط درهما أعطه درهما. وقرىء ومن يؤته وحسن تكرار الحكمة لكونها في جملتين وللاعتناء بها والتنبيه على شرفها وفضلها.
قال الزمخشري: وخيرا كثيرا تنكير تعظيم كأنه قال: فقد أؤتي أي خير كثير. " انتهى ".
وهذا الذي ذكره يستدعي ان في لسان العرب تنكير تعظيم ويحتاج إلى الدليل على ثبوته وتقديره أي خير كثير إنما هو على أن يجعل أي خير صفة لخير محذوف أي.
{ فقد أوتي خيرا } أي خير كثير ويحتاج إلى إثبات مثل هذا التركيب من لسان العرب وذلك أن المحفوظ أنه إذا وصف بأي فإنما تضاف للفظ مثل لفظ الموصوف في الفصيح تقول: مررت برجل أي رجل. كما قال الشاعر: د ف
دعوت امرأ امرىء فأجابني
وكنت وإياه ملاذا وموئلا
وإذا تقرر هذا فهل يجوز وصف ما تضاف إليه أي إذا كانت صفة فتقول: مررت برجل أي رجل كريم، أم لا يجوز يحتاج جواز ذلك إلى دليل سمعي. وأيضا ففي تقديره أي خير كثير حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ولا يجوز ذلك إلا في ندور لا تقول: رأيت أي رجل تريد رجلا أي رجل إلا في ندور.
نحو قوله:
إذا حارب الحجاج أي منافق
علاه بسيف كلما هز يقطع
يريد منافقا أي منافق. وأيضا ففي تقديره خيرا كثيرا أي خير كثير حذف أي الصفة واقام المضاف إليه مقامها وقد حذف الموصوف به أي فاجتمع حذف الموصوف وحذف الصفة وهذا كله يحتاج إثباته إلى دليل.
{ وما يذكر إلا أولوا الألباب } فيه حض على العمل بطاعة الله ولما كان قد يعرض للعاقل في بعض الأحيان الغفلة قيل: وما يذكر.
{ ومآ أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر } ما عامة في نفقة البر وغيره وفي نذر الطاعة وغيرها. ومن نفقة ومن نذر تأكيد لفهم ذلك من قوله: وما أنفقتم أو نذرتم فأكد اندراج القليل والكثير في ذلك، لقوله: ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة وحذف ما من قوله: أو نذرتم، إذ التقدير أو ما نذرتم لدلالة ما عليه فيما قبله.
{ فإن الله يعلمه } أي يجازي عليه ولما كان العطف بأوجاز أفراد الضمير وأعاده على أقرب مذكور وهو النذر وإن كان يجوز أن يعود على النفقة والمعطوف بأو حكمه في الضمير هذا فتارة يعود على الأول وتارة يعود على ما بعد.
{ وما للظالمين من أنصار } عام في كل ظالم والأنصار الأعوان في الشدة.
{ إن تبدوا الصدقات } أي أن تظهروها فتكون علانية قصد بها وجه الله والصدقات عام في المفروضة والمتطوع بها.
{ فنعما هي } الفاء في جواب الشرط. وتقدم الكلام على ما هذه في قوله:
بئسما اشتروا
[البقرة: 90]، وهي ضمير يعود على الصدقات بقيد الوصف أي فنعما الصدقات المبداة أو على حذف مضاف أي فنعما ابداؤها. وقرىء بكسر النون والعين بفتح النون وسكون العين وبكسرها وبإخفاء حركة العين.
{ وإن تخفوها } أي الصدقات. فالضمير عائد على الصدقات لفظا لا معنى. كقوله: عندي درهم ونصفه.
{ فهو } أي فإخفاؤها.
{ خير لكم } وفي قوله: وتؤتوها الفقراء ذكر فطنة الصدقات وخير افعل تفضيل أي من إبدائها أو معناه خير من جملة الخيور وإنما كان خيرا لبعد المتصدق بها من الرياء والمن والأذى ولو لم يعلم الفقير بنفسه واخفى عند الصدقة أن يعرف كان أحسن وجاء أن مخفيها من السبعة الذين ظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله. وقرىء ونكفر بالواو وبإسقاطها وبالياء وبالتاء وبالنون وبكسر الفاء وفتحها وبرفع الراء وجزمها ونصبها وتقرير هذه القراءات وتوجيهها مفهوم من علم النمو. وقال ابن عطية: الجزم في الراء أفصح هذه القراءات لأنها تؤذن بدخول التكفير في الجزاء. وكونه مشروطا ان وقع الاخفاء. واما رفع الراء فليس فيه هذا المعنى. " انتهى ".
ونقول ان الرفع أبلغ وأعم لأن الجزم يكون معطوفا على جواب الشرط الثاني والرفع يدل على أن التكفير مترتب من جهة المعنى على بذل الصدقات أبديت أو أخفيت لأنا نعلم أن هذا التكفير متعلق بما قبله ولا يختص التكفير بالاخفاء فقط والجزم يخصصه به ولا يمكن أن يقال أن الذي يبدي الصدقات لا يكفر من سيآته فقد صار التكفير شاملا للنوعين من إبداء الصدقات وإخفائها وإن كان الاخفاء حيزا من الابداء.
{ من سيئاتكم } من للتبعيض لأن الصدقة لا تكفر جميع السيئات.
{ والله بما تعملون خبير } أتى بهذه الصفة لأنها تدل على العلم بألطف الأشياء وأخفاها فناسب إخفاء الصدقة ختمها بالصفة المتعلقة بما خفي كان من أسلم يكره أن يتصدق على قريبه المشرك وعلى المشركين فنزلت:
{ ليس عليك هداهم } أي ليس عليك أن تهديهم أي تخلق الهدى في قلوبهم.
وظاهر الخطاب أنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه تسلية له ولما كان قوله: يؤتي الحكمة من يشاء، دل على انقسام الناس الى من آتاه الله الحكمة فقبلها ومن لم يؤته إياها فهو يخبط عشواء في الضلال نبه بأن هذا القسم ليس عليك هداهم بل الهداية وإيتاء الحكمة إنما ذلك إليه تعالى.
{ وما تنفقوا من خير فلأنفسكم } أي لا يعود نفعه إلى أحد غيركم بل تختصون بجدواه فلا تبالوا بمن تصدقتم عليه من مسلم أو كافر فإن ثواب ذلك إنما هو لكم.
{ وما تنفقون } أي النفقة المعتد بها.
{ إلا ابتغآء وجه الله } وهو الذي يتقبلها وقيل: هو نفي معناه النهي أي ولا تنفقوا إلا ابتغاء وجه الله والأولى إبقاؤه على النفي لأنهم لما نهوا عن وقوع الانفاق إلا لوجه الله حصل الامتثال فأخبر انهم لا ينفقون إلا ابتغاء وجه الله وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله. ومعنى وجه الله: رضاه، كما قال: ابتغاء مرضاة الله.
{ يوف إليكم } أي يوفي جزاؤه لكم.
{ وأنتم لا تظلمون } جملة حالية أي لا تنقصون شيئا من ثواب أعمالكم.
{ للفقرآء } خبر مبتدأ محذوف وكأنه جواب سؤال مقدر كأنه قيل لمن الصدقات المحثوث على فعلها؟ فقيل: هي للفقراء. فبين مصرف الصدقات.
{ الذين أحصروا في سبيل الله } أي حبسوا أنفسهم على طاعة الله أو أحصروا لكونهم زمني أو حبسهم العدو.
{ لا يستطيعون ضربا في الأرض } أي سفرا لكسب وتجارة وذلك لزمانة أو خوف عدو والجملة حالية أي أحصروا عاجزين عن التصرف أو مستأنفة.
{ يحسبهم الجاهل أغنيآء من التعفف } قرىء بفتح السين وهي لغة تميم وبكسرها وهي لغة الحجاز والمعنى أنهم لفرط انقباضهم وترك المسألة واعتماد التوكل عليه يحسبهم من جهل أحوالهم أغنياء ومن سببية أي الحامل على حسبانهم أغنياء هو تعففهم لأن عادة من كان غني مال أن يتعفف ولا يسأل ويتعلق من التعفف بيحسبهم وهو مفعول من أجله فإن شرط نصبه وهو اتحاد الفاعل ليس بموجود لأن فاعل يحسبهم هو الجاهل وفاعل التعفف هو الفقراء فاختلف الفاعل وعرف المفعول هنا لأن سبق منهم التعفف مرارا فصار معهودا منهم وأجاز ابن عطية أن تكون من لبيان الجنس، قال: يكون التعفف داخلا في المحسبة أي أنهم لا يظهر لهم سؤال بل هو قليل وبإجمال والجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عفة، فمن لبيان الجنس على هذا التأويل. " انتهى ".
وليس ما قاله من أن هذه في المعنى لبيان الجنس المصطلح عليه في بيان الجنس لأن لها اعتبارا عند من قال بهذا المعنى لمن إذ تتقدر بموصول وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف نحو فاجتنبوا الرجس من الأوثان، التقدير فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ولو قلت هنا: يحسبهم الجاهل أغنياء، الذي هو التعفف لم يصح هذا التقدير وكأنه سمى الجهة التي هم أغنياء، بها بيان الجنس أي بينت بأي جنس وقع غناهم لأن غناهم بالتعفف لا غنى بالمال، فسمي من الداخلة على ما يبين من جهة المعنى لبيان الجنس وليس المصطلح عليه كما قدمناه.
وهذا يدل الى أن من سببية لكنها تتعلق بأغنياء لا بيحسبهم والجملة من يحسبهم حالية أو مستأنفة.
{ تعرفهم بسيماهم } الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم أي تعرف أعيانهم أو تعرفهم بعلامة رثة أطمارهم وشحوب ألوانهم لأجل الفقر، والباء في بسيماهم للسبب، والجملة أيضا حالية أو مستأنفة، والتعفف تفعل من العفة، عف عن الشيء أمسك عنه، وتنزه عن طلبه والسيما العلامة تقصر وتمد وإذا مدت فالهمزة للإلحاق نحوها في حرباء ويقال سيمياء ككيمياء والهمزة للتأنيث وهو مشتق من الوسم ففيه قلب لجعل فائه فكان عينه وعينه مكان فائه.
{ لا يسألون الناس إلحافا } الالحاف: الالحاح. ألح والحف بمعنى واحد. وإذا نفي حكم عن محكوم عليه بقيد فالأكثر في لسان العرب انصراف النفي لذلك القيد فيكون المعنى على هذا ثبوت سؤالهم ونفي الالحاح أي أن وقع منهم سؤال فإنما يكون بتلطف وتستر لا بإلحاح ويجوز أن ينفي ذلك الحكم فينتفي ذلك القيد فيكون على هذا نفي السؤال ونفي الالحاح فلا يكون النفي على هذا منصبا على القيد فقط. وهذا فهم ابن عباس قال: لا يسألون الحافا ولا غير الحاف. وهذه الجملة حالية أو مستأنفة وفي تعدد الحال خلاف وتفصيل وانتصب الحافا قالوا: على المفعول له أو مصدرا الفعل محذوف أي لا يلحفون إلحافا أو مصدرا في موضع الحال.
و { به عليم } أي مجاز ومثيب. كان لعلي رضي الله عنه أربعة دراهم فقط فتصدق بدرهم ليلا وبدرهم نهارا وبدرهم سرا وبدرهم علانية. فنزل:
{ الذين ينفقون أموالهم } وقدم الليل والسر لأن الصدقة تخفى فيهما وتقدم ان الاخفاء أفضل. ودخلت الفاء في فلهم لتضمن الموصول معنى اسم الشرط لعمومه.
قال ابن عطية: وإنما يوجد الشبه بين الموصول واسم الشرط إذا كان الذي موصولا بفعل وإذا لم يدخل على الذي عامل يغير معناه. " انتهى ". فخص الشبه إذا كان الذي موصولا بفعل وهذا كلام غير محرر إذ ما ذكر له قيود أولها إن ذلك لا يختص بالذي بل كل موصول غير الألف واللام حكمه في ذلك حكم الذي بلا خلاف وفي الألف واللام خلاف. ومذهب سيبويه المنع من دخول الغاء الثاني قوله موصولا بفعل فأطلق في الفعل واقتصر عليه وليس كذلك بل شرط الفعل أن يكون قابلا لاداة الشرط فلو قلت: الذي سيأتيني، أو لما يأتيني، أو ما يأتيني، أو ليس يأتيني فله درهم، لم يجز لأن أداة الشرط لا يصلح أن تدخل على شيء من ذلك وأما الاقتصار على الفعل فليس كذلك بل الظرف والجار والمجرور كالفعل في ذلك فمتى كانت الصلة واحدا منهما جاز دخول الفاء.
وقوله: وإذا لم يدخل على الذي عامل يغير معناه عبارة غير مخلصة لأن العامل الداخل عليه كائنا ما كان لا يغير معنى الموصول إنما ينبغي أن يقول معنى جملة الابتداء في الموصول وخبره فيخرجه إلى تغيير المعنى الابتدائي من تمن أو تشبيه أو ظن أو غير ذلك. لو قلت: ليت الذي يزورنا فيحسن إلينا لم يجز. وكان ينبغي أيضا لابن عطية أن يذكر أن من شرط دخول الفاء في الخبر أن يكون مستحقا بالصلة نحو ما جاء في الآية لأن ترتب الأجر إنما هو على الانفاق، ومسألة دخول الفاء في خبر المبتدأ تستدعي كلاما طويلا وفي بعض مسائلها خلاف وتفصيل، وقد ذكرت ذلك في كتاب التذكرة من تأليفنا.
[2.275-280]
{ الذين يأكلون الربوا } لما أمر بالانفاق من طيب ما كسبوا وحض على الصدقة. وقال: ولا تيمموا الخبيث ذكر نوعا من الخبيث كان غلب عليهم في الجاهلية وهو الربا حتى يمنع من الصدقة ما كان ربا. والربا الزيادة وهو مخصوص في الشرع بزيادة مبينة في الشرع بين ذلك في كتب الفقه. وقرأ العدوي: الربو بالواو وهي لغة الحيرة، ولذلك كتبها أهل الحجاز بالواو لأنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة وذلك على لغة من وقف على أفعى بالواو وأجرى الوصل مجرى الوقف.
{ لا يقومون } خبر عن الذين قيل وقبله حال محذوفة أي مستحلين ذلك. وقال ابن عباس: لا يقومون يوم القيامة من قبورهم أي يبعث كالمجنون عقوبة لهم. " انتهى ".
أو لا يقومون الى تجارة الربا إلا بحرص وجشع كقيام المتخبط بالجن تستفزه الرغبة حتى يضطرب والظاهر أن الشيطان يتخبط الانسان حقيقة وقيل: هو مجاز عن إغوائه الذي يصرعه به أو على ما كانت العرب تزعمه أنه يخبط الانسان وتخبط تفعل موافق للمجرد وهو خبط والمس الجنون ويتعلق من المس بيقوم أو يتخبطه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: لم يتعلق قوله من المس؟ (قلت): بلا يقومون أي لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع. " انتهى ". وكان قد قدم في شرح المس أنه الجنون وهذا الذي ذهب إليه في تعلق من المس بقوله: لا يقومون ضعيف لوجهين احدهما انه قد شرح المس بالجنون وكان قد شرح أن قيامهم لا يكون إلا في الآخرة وهناك ليس بهم جنون ولا مس ويبعد أن يكنى بالمس الذي هو الجنون عن أكل الربا في الدنيا فيكون المعنى لا يقومون يوم القيامة أو من قبورهم من أجل أكل الربا.
{ إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان } إذ لو أريد هذا المعنى لكان التصريح به أولى من الكناية عنه بلفظ المس إذ التصريح به أبلغ في الردع والزجر، والوجه الثاني أن ما بعد إلا لا يتعلق بما قبلها إلا إن كان في حيز الاستثناء وهذا ليس في حيز الاستثناء ولذلك منعوا أن يتعلق بالبينات والزبر. بقوله:
ومآ أرسلنا من قبلك إلا رجالا
[يوسف: 109، النحل: 43]. وانه ليس التقدير وما أرسلناك بالبينات والزبر إلا رجالا يوحى إليهم.
{ ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربوا } ذلك إشارة إلى القيام وهو مبتدأ خبره بأنهم أي كائن بسبب أنهم وشبهوا البيع المجمع على جوازه بالربا وهو محرم ولم يعكسوا تنزيلا لهذا الذي يفعلونه من الربا بمنزلة الأصل المماثل له في البيع وهو من عكس التشبيه وهو موجود في كلام العرب كثير في أشعار المولدين.
{ وأحل الله البيع وحرم الربوا } هذا من كلامه تعالى ردا عليهم إذ ساووا بينهما والحكم في الأشياء لله تعالى لا يخالف في أمره ولا يعارض والبيع والربا عامان إلا ما حرم تعالى من بعض البيوع وبعض الربا وذلك مذكور في كتب الفقه.
{ فمن جآءه موعظة } ذكر المفصل يكون تأنيث الموعظة مجازيا وقرىء جاءته بالتاء على الأصل والموعظة الوعيد على فعله.
{ من ربه } أي من الناظر في مصلحته.
{ فانتهى } أي رجع عن المعاملة بالربا.
{ فله ما سلف } أي قبل التحريم.
{ وأمره إلى الله } أي إلى رجاء الله وإحسانه، وفيه تأنيس.
{ ومن عاد } أي إلى فعل الربا مستحلا له مشبها له بالبيع.
{ فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
{ يمحق الله الربوا } أي يذهب بركته والمال الذي يكون فيه. قال ابن مسعود: الربا وإن كثر فعاقبته إلى قل.
{ ويربي الصدقت } أي يزيدها وينميها في الدنيا أو يضاعف حسناتها وقرىء يمحق ويربي من محق وربي وفي ذكر يمحق ويربي طباق البديع الطباق وفي الربا ويربي بديع التجنيس المغاير.
{ كل كفار أثيم } صفتا مبالغة لتغليظ أمر الربا ولما ذكر حال آكل الربا ووصفه بأنه كفار أثيم ذكر ضده من المؤمنين الطائعين الممتثلين شرائع الاسلام ثم قال:
{ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربوا } نزلت في بني عمرو بن عمير من ثقيف كانت لهم ديون ربا على بني المغيرة من بني مخزوم أرادوا أن يتقاضوا رباهم. وقرىء ما بقي بفتح الياء وتسكينها وهي لغة وتقلب الياء ألفا وهي لغة طيء.
{ إن كنتم مؤمنين } أي ان صح إيمانكم أو يكون شرطا مؤكدا على جهة المبالغة وقرىء من الربو بضم الباء بعدها واو ساكنة وفيه شذوذ من خروج من كسر إلى ضم ومن مجيء واو ساكنة بعد ضمة في اسم تام.
{ فإن لم تفعلوا } أي لم تتركوا ما بقي من الرياء.
وقرىء { فأذنوا } من أذن وفآذنوا من آذن أي اعلموا أي فاعلموا ولخطاب في فإن لم تفعلوا لمن خوطب أولا وهم المؤمنون والأمر بالعلم أو الاعلام جاء على سبيل المبالغة في التهديد دون حقيقة الحرب جاء في: من أهان لي وليا قد آذنني بالمحاربة. وروي أنه لما نزلت قالت ثقيف: لا يد لنا بحرب الله ورسوله. ومن لابتداء الغاية وفيه تهويل عظيم إذ الحرب منه تعالى.
{ وإن تبتم } أي من الربا ورؤوس الأموال أصولها وأما الأرباح فطوارىء عليها.
{ لا تظلمون ولا تظلمون } قرىء الأول مبنيا للفاعل والثاني مبنيا للمفعول. وقرىء بالعكس فالمبني للفاعل لا يظلم بطلب زيادة على رأس المال والمبني للمفعول لا يظلم بنقصان رأس المال ولا بالمطل شكا بنو المغيرة العسرة وقالوا اخرونا إلى أن تدرك الغلات فنزل:
{ وإن كان ذو عسرة } الآية.
وقرىء ذو عسرة فكان تامة أي وان وقع أو وجد ذا عسرة على خبر كان واسمها مضمر أي وإن كان هو أي الغريم.
وقرىء { فنظرة } بكسر الظاء وبإسكانها وهي لغة تميمية والنظرة التأخير أي فالواجب تأخيره.
{ إلى ميسرة } وقرىء فناظرة وخرج على أنه مصدر كالعاقبة وفناظرة اسم فاعل مضاف للضمير أي فصاحب الحق ناظره، وقرىء فناظروه أي فأنتم ناظروه، وقرىء ميسرة بضم السين وهو قليل كمشربة وبفتحها وهو كثير، وقرىء ميسورة مضافا إلى ضمير المعسر وهو مصدر عند الأخفش كالمجلود، وقرىء إلى ميسرة بفتح السين مضافا إلى ضمير الغريم وبضمها كذلك ويفعل مفقود في الأسماء المفردة: قاله سيبويه. وقيل: جاء قليلا ومنه مهلك بضم اللام.
{ وأن تصدقوا } على المعسر أي برأس المال أو بنقص بعضه.
{ خير لكم } أي من الانظار، وقرىء تتصدقوا بتائين وبإدغام الثانية في الصاد وبحذفها.
{ إن كنتم تعلمون } فضل التصديق على الأنظار والقبض.
[2.281-282]
{ واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله } نزلت قبل موته عليه السلام بزمان يسير فقال عليه السلام: اجعلوها بين آية الربا وآية الدين. وقرىء ترجعون مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول. وقرىء يرجعون بياء الغيبة وهو التفات والرجوع إلى الله أي إلى جزائه وهو يوم القيامة.
{ ثم توفى كل نفس ما كسبت } أي جزاء ما كسبتم من خير وشر.
{ يأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين } الآية لما أمر بالصدقة وبترك الربا وكلاهما يحصل به تنقيص المال نبه على طريق حلال في تنمية المال وأكد في كيفية حفظه وأمر فيه بعدة أوامر. وفي قوله: تداينتم بدين تجنيس مغاير وذكر بدين وإن كان مفهوما من تداينتم ليعود الضمير على منطوق به.
{ إلى أجل مسمى } ليس قيدا يحترز به بل لا يقع الدين إلا كذلك. ومعنى مسمى: مؤقت معلوم.
{ فاكتبوه } أمر بالكتابة وظاهره الوجوب وبه قال الطبري وأهل الظاهر: وقال الجمهور: هو أمر ندب.
{ وليكتب بينكم كاتب بالعدل } قيل هو فرض على الكفاية كالجهاد ومعنى البنينية أي بين صاحب الدين والمدين.
{ بالعدل } بالحق أي متصف بالأمانة على ما يكتب. وقرىء بكسر لام وليكتب وإسكانها.
{ ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله } نهي عن الامتناع من الكتابة أي ما علمه من كتابة الوثائق لا يبدل ولا يغير، وأكد النهي بقوله:
{ فليكتب وليملل الذي عليه الحق } أي الذي وجب عليه الحق لأنه هو المشهود عليه بأن الدين في ذمته والمستوثق منه بالكتابة.
{ وليتق الله ربه } فيما عليه ويقربه. وجمع بين اسم الذات والوصف لكونه يذكره كونه مربيا له مصلحا لحاله ولا يبخس منه شيئا أي لا ينقص بالمخادعة والمدافعة والمأمور بالاملاك هو المالك لنفسه.
{ فإن كان الذي عليه الحق سفيها } أي جاهلا بالأمور والاملال أو صبيا او امرأة لا يضبط ما يقر به أو ضعيفا أي مريضا يعجز عن الإقرار لضعفه مع ثبوت حسه.
{ أو لا يستطيع أن يمل هو } لخرسه أو عيه. وهو توكيد للضمير المستكن في أن يمل ولما كان العطف بأو كان الضمير مفردا أي فإن كان أحد هؤلاء.
{ فليملل وليه } أي الناظر في أمره من وصي أو وكيل أو غيرهما مما له نظر وولاية في حق هؤلاء { بالعدل } حث على تحريه لصاحب الحق والمولى عليه.
{ واستشهدوا } أي اشهدوا وهو مما فيه استفعل بمعنى أفعل كاستيقن وأيقن وجاء بصيغة المبالغة في { شهيدين } وهو من كثرت منه الشهادة فهو عالم بمواقفها وما يشهد فيه.
{ من رجالكم } أضاف إلى المؤمنين فلا يستشهد الكافر. ومن رجالكم فيه دلالة على أنه لا يجوز شهادة الصبي وفيه جواز شهادة العبد وهو مذهب شريح وجماعة.
{ فإن لم يكونا } أي الشاهدان.
{ رجلين } والضمير في يكونا ليس عائدا على قوله: شهيدين بقيد الرجولية.
{ فرجل وامرأتان } فرجل فاعل أي فليشهد رجل أو خبر مبتدأ أي فالذي يشهد رجل. وقرىء وامرأتان بسكون الهمزة وهو على غير قياس.
{ ممن ترضون من الشهدآء } وهو متعلق بقوله: قبل واستشهدوا، والظاهر تعلقه بقوله: فرجل وامرأتان والخاب في ترضون للمؤمنين أي من أهل الدين والفضل والعدالة والظاهر اقتصار شهادة الرجل والمرأتين في سائر عقود المداينات وأنه لا يجوز في الديون إلا رجلان أو رجل وامرأتان فلا يقض فيها [فيه بشهادة] فشاهد واحد ويمين هو مذهب جماعة.
{ أن تضل إحداهما } قرىء أن بفتح الهمزة وهو مفعول من أجله أي لأن تضل نزل السبب وهو الإضلال منزلة المسبب عنه وهو الاذكار كما ينزل المسبب منزلة السبب لاتصالهما فهو كلام محمول على المعنى، أي لأن تذكر إحديهما الأخرى إن ضلت، كقولك: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فادعمه. وقرىء ان بكسر الهمزة شرطا فتذكر رفعا جواب الشرط وقرىء تضل مبنيا للمفعول وتضل مبنيا للفاعل من أضل. وقرىء فتذكر مخففا ومشددا ومرفوعا ومنصوبا. وفتذاكر: من المذاكرة. ومعنى الإضلال هنا: عدم. الاهتداء إلى الشهادة لنسيان أو غفلة. ومعنى فتذكر من التذكير أو الإذكار على حسب القراءتين من التشديد والتخفيف وأبهم الفاعل في تضل وأبهمه في فتذكر فلم يرد بأحديهما بعينة أن كل منهما يجوز عليه الوصفان والمعنى إن ضلت هذه ذكرتها وإن ضلت هذه ذكرتها هذه، والمعنى فتذكرها الشهادة وفيه دليل على أن شرط الشهادة التذكر فلا تجوز الشهادة على الخطأ.
{ رجلين }.
{ ولا يأب الشهدآء إذا ما دعوا } عام في التحمل والاداء وان اختلفت جهنا النهي لأنها في التحمل ندب وفي الأداء واجبة.
{ ولا تسأموا } نهي عن الضجر والملل في الكتابة، كل ذلك ضبط لأموال الناس وتحريض على أن لا يقع نزاع أو إنكار في مقدار وأجل أو وصف وقدم الصغير اهتماما به وانتقالا من الأدنى إلى الأعلى ونص على الأجل دلالة على وجوب ذكره فيكتب كما يكتب أصل الدين وسئم جاء متعديا بنفسه كقوله: سئمت تكاليف الحياة وبحرف جر كقوله: ولقد سئمت من الحياة. فيجوز تخريج.
{ أن تكتبوه } على هذين الوجهين والضمير في أن تكتبوه ضمير الدين.
و { صغيرا أو كبيرا } حال وإلى أجله متعلق بمحذوف أي مستقرا في الذمة إلى أجل حلوله { ذلكم } إشارة إلى الاشهاد والكتابة.
{ أقسط عند الله } أي أعدل في حكم الله وجاء بتاء أفعل من الرباعي وهو أقسط الرجل إذا عدل. وقال الزمخشري: فإن قلت: مم بني أفعلا التفضيل أعني أقسط وأقوم؟ قلت: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيين من أقسط وأقسام. " انتهى ". لم ينص سيبويه على أن أفعل التفضيل يبني من أفعل إنما يكون ذلك بالاستدلال لأنه نص في أول كتابه على أن بناء أفعل للتعجب، يكون من فعل وفعل وفعل وأفعل.
وظاهر هذا أن أفعل الذي للتعجب يبنى من أفعل، ونص النحويون على أن ما يبنى منه أفعل للتعجب يبنى منه أفعل التفضيل فما إنقاس في التعجب إنقاس في التفضيل، وما شذ فيه شذ فيه. وقد اختلف النحويون في بناء أفعل للتعجب من أفعل على ثلاثة مذاهب الجواز والمنع والتفضيل بين أن تكون الهمزة للنقل فلا يبنى من أفعل للتعجب أو لا تكون للنقل فيبنى منه وزعم أن هذا مذهب سيبويه وتأول قوله: وأفعل على أنه أفعل الذي همزته لغير النقل والذي ينبغي أن يحمل عليه أقسط هو أن يكون مبنيا من قسط الثلاثي بمعنى عدل. قال ابن السيد في " الإقتضاب " ما نصه: حكى ابن السكيت في كتاب الأضداد عن أبي عبيدة قسط جار وقسط عدل وأقسط بالألف عدل لا غير. وقال ابن القطاع: قسط قسوطا وقسطا جاد وعدل ضد فعلى هذا لا يكون شاذا.
{ وأقوم للشهدة } أن كان بني أقوم من أقام فهو كاقسط وكلاهما شاذ وإن بني من قام بمعنى اعتدل فلا شذوذ وللشهادة متعلق بأقوم، وهو من حيث المعنى مفعول كما تقول: زيد أضرب لعمرو من خالد.
{ وأدنى ألا ترتابوا } أي أقرب لانتفاء الريبة والمفضل عليه محذوف وحسن حذفه كون أفعل وقع خبرا للمبتدأ.
{ إلا أن تكون تجرة حاضرة تديرونها بينكم } وهو مما يجعل ولا يكون فيه أجل من مبيع ثمن.
{ فليس عليكم جناح ألا تكتبوها } نفي الجناح في انتفاء الكتابة إذ ما كان يدا بيد قل أن يقع فيه نزاع ودل ذلك على أنه لو كتب لجاز وفي ذلك فوائد وهذا الاستثناء منقطع لأن ما بعد الألم يدخل تحت الديون المؤجلة. وقرىء تجارة حاضرة بالنصب على خبر كان، أي إلا أن تكون هي أي التجارة تجارة حاضرة بالرفع على أن كان تامة.
{ وأشهدوا إذا تبايعتم } أمر بالاشهاد على التبايع مطلقا ناجزا أو كالئا وظاهر الأمر الوجوب. (قال) الطبري: لا يحل لمسلم إذا باع وإذا اشترى إلا أن يشهد وإلا كان مخالفا لكتاب الله عز وجل.
{ ولا يضآر كاتب ولا شهيد } هذا نهي، وجاز أن يكون مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول ورجح جماعة كونه مبنيا للفاعل أي لا يضارر الكاتب بأن يحرف والشاهد بأن يكتم أو يغير أو يمتنع عن الأداء ورجح جماعة كونه مبنيا للمفعول أي لا يضارر الكاتب والشهيد في أن يشق عليهما ويطلب منهما ما لا يليق في الكتابة والشهادة وقد قرىء بكسر راء يضارر مفكوكا. وبفتحها مفكوكا .
{ وإن تفعلوا } أي المضارة.
{ فإنه فسوق بكم } أي لاصق بكم ومستقر. والضمير في تفعلوا عائد على المنهي عنه على التقديرين.
{ واتقوا الله } أمر بالتقوى في هذه المواطن وغيرها.
{ ويعلمكم الله } مستأنف يذكر نعمة الله على تعليم العلم منه تعالى.
[2.283-284]
{ وإن كنتم على سفر } الآية مفهوم الشرط يقتضي أخذ الرهن في السفر وعدم الكاتب أقام تعالى التوثق بالرهن مقام الكتابة والشهادة. وقرىء فرهان جمع رهن ورهن بضمتين كسقف وسقف وبسكون الهاء والفاء جواب الشرط أي فالمستوثق به رهن، وثم محذوف أي وإن كنتم على سفر وتبايعتم أو تداينتم. وفي قوله: مقبوضة، اشتراط القبض ولا يدل على أنه يتولى القبض بل لو قبض بنفسه أو بوكيله ويكون متقوما يصح بيعه وشراؤه ويتهيأ فيه القبض ولو بالتخلية فيما التخلية قبض مثله.
{ فإن أمن بعضكم بعضا } أي إن وثق رب الدين بأمانة الغريم فدفع إليه ماله بغير كتاب ولا إشهاد ولا رهن.
{ فليؤد الذي اؤتمن أمانته } الضمير في أمانته عائد على الذين أؤتمن، والأمانة مصدر أطلق على الشيء الذي في اليد أو بقي على مصدريته على حذف مضاف أي دين أمانته. والأمر في فليؤد للوجوب. وقرىء أؤتمن بهمزة ساكنة وبإبدالها ياء كهمزة يد للكسرة قبلها. وقرىء الذي تمن بإدغام التاء المبدلة من الياء في تاء افتعل وهي لغة رديئة.
قال الزمخشري: وليس بصحيح لأن الياء منقلبة عن الهمزة فهي في حكم الهمزة واتزر عامي وكذلك ريا من رؤيا. " انتهى ". وما ذكر الزمخشري فيه أنه ليس بصحيح وان اتزر عامي يعني أنه من إحداث العامة لا أصل له في اللغة، وقد قدمنا أن ذلك لغة رديئة. وأما قوله: وكذلك ريا من رؤيا فهذا التشبيه إما أن يعود إلى قوله واتزر عامي فيكون إدغام ريا عاميا وإما أن يعود إلى قوله: فليس بصحيح، أي وكذلك إدغام ريا ليس بصحيح. وقد حكى الادغام في ريا الكسائي.
{ وليتق الله ربه } أي في أداء ما أئتمنه رب المال وجمع بين الذات والوصف.
{ ولا تكتموا الشهدة } هذا نهي تحريم.
{ ومن يكتمها } الآية الكتم من معاصي القلب والشهادة علم بالقلب فلذلك علق الإثم به وعنه يترجم اللسان وقلبه فاعل باثم. (وقال) ابن عطية: ويجوز أن يكون يعني آثم ابتداء وقلبه فاعل يسد مسد الخبر، والجملة خبر إن " انتهى ". وهذا لا يصح على مذهب سيبويه وجمهور البصريين لأن اسم الفاعل لم يعتمد على أداة نفي ولا أداة استفهام، نحو: أقائم الزيدان، وأقائم الزيدون، وما قائم الزيدان، وما قائم الزيدون. لكنه يجوز على مذهب أبي الحسن إذ يجيز قائم الزيدان فيرفع الزيدان باسم الفاعل دون اعتماد على أداة نفي ولا استفهام (قال) ابن عطية: ويجوز أن يكون قلبه بدلا على بدل البعض من الكل يعني أنه يكون بدلا من الضمير المرفوع المستكن في آثم، والإعراب الأول هو الوجه. وجوز الزمخشري أن يكون آثم خبرا مقدما وقلبه مبتدأ والجملة في موضع خبر إن، وهذا الوجه لا يجيزه الكوفيون.
وقرىء قلبه بالنصب ونسبها ابن عطية إلى ابن أبي عبلة بدلا من اسم ان. قال ابن عطية: قال مكي: هو على التفسير يغني التمييز ثم ضعفه من أجل أنه معرفة. والكوفيون يجيزون مجيء التمييز معرفة وقد خرجه بعضهم على أنه منصوب على التشبيه بالمفعول به نحو قولهم: مررت برجل حسن وجهه. ومثله ما أنشد الكسائي:
من نعاتها مدارة الاخفاف محمراتها
غلب الدفاري وعفريناتها
كوم الذرى وأدقه سراتها
وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين جائز، وعلى مذهب المبرد ممنوع، وعلى مذهب سيبويه جائز في الشعر لا في الكلام. ويجوز أن ينتصب على البدل من اسم ان وقد تقدم ويكون بدل بعض من كل ولا مبالاة بالفضل بين البدل والمبدل منه بالخبر لأن ذلك جائز فقد فصلوا بالخبر بين الصفة والموصوف نحو: زيد منطلق العاقل نص عليه سيبويه مع أن العامل في النعت والمنعوت واحد فأحرى في البدل لأن الأصح ان العامل فيه هو غير العامل في المبدل منه. وقرىء أثم فعلا ماضيا وقلبه نصبا على المفعولية.
{ لله ما في السموت } الآية ناسب ختم هذه السورة بهذا لأنها اشتملت على تكاليف كثيرة، فذكر تعالى إن له ملك السماوات والأرض فهو يكلف من يشاء بما شاء، ولما كانت التكاليف محل اعتقادها الأنفس قال:
{ وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } فصفة الملك تقتضي القدرة الباهرة والمحاسبة تقتضي العلم المحيط بالأشياء جليلها وحقيرها وكني بالمحاسبة عن الجزاء.
{ فيغفر لمن يشآء } بدأ بأثر الرحمة وهي المغفرة. وقرىء فيغفر برفع الراء على القطع، أي فهو يغفر وبالجزم عطف على يحاسبكم وبالنصب على إضمار أن فينسبك من ذلك مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم أي تكن محاسبة فغفران. وقرىء بغير فاء مجزوما وخرج على البدل من يحاسبكم. وفيه نظر. وقال الزمخشري: ومعنى هذا البدل التفضيل لجملة الحساب لأن التفصيل أوضح من المفصل فهو جار مجري بدل البعض من الكل أو بدل الاشتمال كقولك: ضربت زيدا رأسه، وأحب زيدا عقله. وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان. " انتهى ".
وفيه بعض مناقشة اما أولا فلقوله ومعنى هذا البدل التفصيل لجملة الحساب ليس الغفران والعذاب تفصيلا لجملة الحساب، إنما هو تعداد حسناته وسيئاته وحصرها بحيث لا يشذ شيء منها. والغفران والعذاب مترتبان على المحاسبة فليست المحاسبة تفصل إلى الغفران والعذاب، وأما ثانيا فلقوله بعد أن ذكر بدل البعض والكل وبدل الإشتمال وهذا البدل واقع في الأفعال وقوعه في الأسماء لحاجة القبيلين إلى البيان. أما بدل الإشتمال فهو يمكن وقد جاء لان الفعل بما هو يدل على الجنس يكون تحته أنواع يشتمل عليها ولذلك إذا وقع عليه النفي انتفت جميع أنواع ذلك الجنس وأما بدل البعض من الكل فلا يمكن في الفعل إذ الفعل لا يقبل التجزي، فلا يقال في الفعل له كل وبعض، إلا بمجاز بعيد فليس كالإسم في ذلك، ولذلك يستحيل وجود بدل البعض من الكل بالنسبة لله تعالى إذ الباري تعالى واحد فلا ينقسم ولا يتبعض.
قال الزمخشري: وقد ذكر قراءة الجزم فإن قلت كيف يقرأ الجازم؟ قلت: يظهر الراء ويدغم الباء، ومدغم الراء في اللام لا من مخطىء خطأ فاحشا ورواية عن أبي عمر ومخطىء مرتين لأنه يلحن وينسب إلى أعلم الناس بالعربية ما يؤذن بجهل عظيم والسبب في نحو هذه الروايات قلة ضبط الرواة والسبب في قلة الضبط قلة الدراية، ولا يضبط نحو هذا إلا أهل النحو. " انتهى ". وذلك على عادته في الطعن على القراء وأما ما ذكره من أن مدغم الراء في اللام لا من مخطىء خطأ فاحشا إلى آخره، فهذه مسألة اختلف فيها النحويون فذهب الخليل وسيبويه وأصحابه إلى أنه لا يجوز إدغام الراء في اللام من أجل التكرير الذي فيها ولا في النون. قال أبو سعيد: ولا نعلم أحدا خالفه إلا يعقوب الحضرمي وإلا ما روي عن أبي عمر وانه كان يدغم الراء في اللام متحركة متحركا ما قبلها نحو: يغفر لمن يشاء العمر لكيلا واستغفر لهم الرسول، فإن سكن ما قبل الراء أدغمها في اللام في موضع الضم والكسر نحو الأنهار لهم والنار ليجزي فإن انفتحت وسكن ما قبلها حرف مد ولين أو غيره ولم يدغم نحو من مصر لامرأته والأبرار لفي ولن تبور ليوفيهم والحمير لتركبوها فإن سكنت الراء أدغمها في اللام بلا خلاف عنه إلا ما روي أحمد بن جبير بلا خلاف عنه وعن اليزيدي عنه أنه أظهرها وذلك إذا قرأ بإظهار المثلين والمتقاربين المتحركين لا غير على أن المعمول في مذهبه في الوجهين جميعا على الإدغام نحو: ويغفر لكم. " انتهى ".
وأجاز ذلك الكسائي والفراء وحكياه سماعا ووافقهما على سماعه رواية وأجازه أبو جعفر الرواسي وهو إمام من أئمة اللغة والعربية من الكوفيين وقد وافقتهم أبو عمر وعلى الإدغام رواية وإجازة كما ذكرناه وذلك من رواية الوليد بن حسان وللإدغام وجه من القياس ذكرناه في كتاب " التكميل لشرح التسهيل " من تأليفنا وقد اعتمد بعض أصحابنا على أن ما روي عن القراء من الادغام الذي منعه البصريون بكون ذلك إخفاء لا إدغاما وهذا لا يجوز أن يعتقد في القراء أنهم غلطوا. وما فرقوا بين الإخفاء والإدغام وعقد هذا الرجل بابا قال فيه: هذا باب يذكر فيه ما أدغمته القراء مما ذكر أنه لا يجوز إدغامه وهذا لا ينبغي فإن لسان العرب.
ليس محصورا فيما نقله البصريون فقط والقراآت لا تجيء على ما علمه البصريون ونقلوه دون غيرهم بل القراء من الكوفيين يكادون يكونون مثل قراء البصرة، وقد اتفق على نقل إدغام الراء من اللام كبير البصريين ورأسهم أبو عمرو بن العلاء ويعقوب الحضرمي وكبراء أهل الكوفة الرواسي والكسائي والفراء وأجازوه ورووه عن العرب فوجب قبوله والرجوع فيه الى علمهم ونقلهم؛ إذ من علم حجة على من لم يعلم. (وأما) قول الزمخشري: ان راوي ذلك عن أبي عمرو مخطىء مرتين فقد تبين أن ذلك صواب والذي روى ذلك عنه الرواة ومنهم أبو محمد اليزيدي وهو إمام النحو إمام في القرآت إمام في اللغة.
[2.285-286]
ولما كان ابتداء هذه السورة بذكر الكتاب المنزل وانه هدى للمتقين كانت مختتمة بذكر الكتاب ومن آمن به فقال تعالى:
{ ءامن الرسول } الآية ليتوافق الابتداء والاختتام والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم فأل فيه للعهد، والذي أنزل إليه من ربه هو القرآن، والمؤمنون هم أمته وهم المذكورون في أول السورة الموصوفون بالتقوى والإيمان بالغيب وقدم الرسول لأن إيمانه صلى الله عليه وسلم هو المتقدم وهو المتبوع صلى الله عليه وسلم.
{ كل آمن } كل: للعموم، يشمل الرسول والمؤمنين. وأفرد الضمير كقوله: قل كل يعمل على شاكلته، وإن كان جائزا جمعه، كقوله:
وكل في فلك يسبحون
[يس: 40].
وقرىء: { وكتبه } على الجمع، وكتابه على الإفراد. والمراد به جنس الكتب الالهية. (قال) الزمخشري: وقرأ ابن عباس وكتابه يريد القرآن أو الجنس وعنه الكتاب أكثر من الكتب. فإن قلت: كيف يكون الواحد أكثر من الجمع؟ قلت: لأنه إذا أريد بالواحد الجنس والجنسية قائمة في وجدان الجنس كلها لم يخرج منه شيء، وأما الجمع فلا يدخل تحته إلا ما فيه الجنسية من الجموع. " انتهى ". وليس كما ذكر لأن الجمع إذا أضيف أو دخلته الألف واللام الجنسية صار عاما ودلالة العام دلالة على كل فرد فرد. فلو قال: أعتقت عبيدي لشمل ذلك كل عبد عبد، ودلالة الجمع أظهر في العموم من الواحد سواء أكانت فيه الألف واللام أم الاضافة، بل لا يذهب إلى العموم في الواحد إلا بقرينة لفظية كأن يستثني منه أو يوصف بالجمع نحو:
إن الإنسان لفى خسر * إلا الذين آمنوا
[العصر: 23]. وأهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض، أو: قرينة معنوية نحو: نية المؤمن أبلغ من عمله، وأقصى حاله أن يكون مثل الجمع العام إذ أريد به العموم.
وقرىء: { لا نفرق } بالنون أي يقولون لا نفرق. وقرىء بالياء على لفظ كل.
{ بين أحد من رسله } أحد هو المختص بالنفي وما أشبهه فهي للعموم ولذلك دخلت من عليه في قوله:
فما منكم من أحد عنه حاجزين
[الحاقة: 47] والمعنى بين آحادهم وإن كان أحد بمعنى واحد ففي الكلام معطوف محذوف دل عليه بين والتقدير بين واحد من رسله وواحد منهم.
{ وقالوا سمعنا } أي قولك فيما كلفتنا.
{ وأطعنا } أي أمرك في ذلك.
{ غفرانك ربنا } أي في التقصير في حقك وفي عبادتك التي لا نوفي حقها.
{ وإليك المصير } إقرار بالمعاد أي وإلى جزائك المرجع. وانتصب غفرانك على أنه مصدر هو من المصادر التي يعمل فيها الفعل مضمرا تقديره عند سيبويه اغفر لنا غفرانك قاله السجاوندي. وقيل: معناه أستغفرك فهو مصدر موضوع موضع الخبر.
{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } استئناف خبر من الله تعالى أنه لا يكلف العباد من أفعال القلوب وأفعال الجوارح إلا ما هو في وسع المكلف ومقتضى إدراكه ونبيته وقرىء وسعها فعلا ماضيا وانتصاب وسعها على أنه مفعول.
وقال ابن عطية: يكلف يتعدى إلى مفعولين أحدهما محذوف تقديره عبادة أو شيئا. " انتهى ". فإن عني أن أصله كذا فهو صحيح لأن قوله: إلا وسعها استثناء مفرغ من المفعول الثاني وإن عني أنه محذوف في الصناعة فليس كذلك بل الثاني هو وسعها نحو: ما أعطيت زيدا إلا درهما، ونحو: ما ضربت إلا زيدا هذا في الصناعة هو المفعول وإن كان أصله ما أعطيت زيدا شيئا إلا درهما وما ضربت أحدا إلا زيدا. وأما وسعها فعلا ماضيا، فالمفعول الثاني ليكلف محذوف، ووسعها في موضع الحال. ويدل ظاهر الآية على أن تكليف ما لا يطاق غير واقع.
{ لها ما كسبت } أي من الحسنات.
{ وعليها ما اكتسبت } أي من السيئات والخواطر ليست من كسب الانسان.
{ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينآ أو أخطأنا } أي قولوا في دعائكم.
{ ربنا ولا تحمل علينآ إصرا } أي ميثاقا غليظا يأصر صاحبه أي يحبسه مكانه لا يستقل به استعير للتكليف الشاق في نحو: قتل النفس وقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب.
{ كما حملته على الذين من قبلنا } هم اليهود.
{ ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } أي لا تشدد علينا. وهو دعاء ناشىء عن قوله تعالى: { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }. وهذا أعم من قوله: { ربنا ولا تحمل علينآ إصرا } ، إذ الاصر السابق مشبه حمله بحمل مثله على من قبلهم فتخصص بالتشبيه والطاقة القدرة على الشيء وهو مصدر جاء على غير قياس الفعل وهو أطاق نحو: جابة من أجاب.
{ واعف عنا } العفو: الصفح عن الذنب.
{ واغفر لنا } وهو الستر للذنب كي نصان من عذاب التخجيل لأن العفو لا يقتضي الستر قد يعفو بعد توقيفه على الذنب ثم يسقط عنه عقوبته.
{ وارحمنآ } طلبوا الثواب وافاضة الإحسان عليهم.
{ أنت مولنا } أي سيدنا وناصرنا.
{ فانصرنا على القوم الكافرين } دخلت الفاء في فانصرنا إيذانا بالسببية لأن كونه تعالى مولاهم ومالك تدبيرهم وأمرهم ينشأ عن ذلك النصرة على أعدائهم كما تقول أنت الشجاع فقاتل وأنت الكريم فجد علي.
[3 - سورة آل عمران]
[3.1-5]
وقرأ الجمهور { الم * الله } بفتح الميم وإسقاط ألف الوصل. وقرىء بسكونها وقطع الألف. وقرىء بكسر الميم. قال الأخفش: لالتقاء الساكنين ومن قرأ بفتح الميم فالفتحة لالتقائهما وكانت أولى لأجل الياء كاين وقيل هي فتحة همزة الله نقلت إلى الميم وحذفت الهمزة. واختار الزمخشري مذهب الغراء في أن الفتحة في الميم من الم الله هي حركة الهمزة ألقيت حين أسقطت للتخفيف وأورده أسئلة وأجاب عنها قال : (فإن قلت): كيف جاز إلقاء حركتها عليها وهي همزة وصل لا تثبت في درج الكلام فلا تثبت حركتها لأن ثبات حركتها كثباتها؟ (قلت): هذا ليس بدرج لأن ميم في حكم الوقف، والسكون والهمزة في حكم الثابت، وإنما حذفت تخفيفا وألقيت حركتها على الساكن قبلها لتدل عليها ونظيره قولهم واحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال. " انتهى ". ليس هذا الجواب بشيء لأنه ادعى أن الميم حين حركت موقوف عليها وان ذلك ليس يدرج بل هو وقف وهذا خلاف لما أجمعت عليه العرب والنحاة من أنه لا يوقف على متحرك البتة سواء أكانت حركته إعرابية أم بنائية. أم نقلية أو لالتقاء الساكنين أو للحكاية أو للاتباع فلا يجوز في قد أفلح إذا حذفت الهمزة ونقلت حركتها إلى دال قد أن تقف على دال قد بالفتحة، بل تسكنها قولا واحدا، وأما قوله: ونظير ذلك قولهم: واحد اثنان بإلقاء حركة الهمزة على الدال فإن سيبويه ذكر أنهم يشمون آخر واحد لتمكنه ولم يحك الكسر لغة فإذا صح الكسر فليس واحد موقوفا عليه كما زعم الزمخشري ولا حركته حركة نقل من همزة الوصل ولكنه موصول بقولهم اثنان فالتقى ساكنان دال واحد وثاء اثنين فكسرت الدال لالتقائهما وحذفت الهمزة لأنها لا تثبت وصلا وأما الذي ما استدل به الفراء من قولهم: ثلاثة أربعة بالقاء حركة الهمزة على الهاء فلا دلالة فيه لأن همزة أربعة: همزة قطع في حال الوصل بما قبلها وابتدائها وليس كذلك همزة الوصل نحو: من الله، وأيضا فقولهم ثلاثة أربعة بالنقل ليس فيه وقف على ثلاثة إذ لو وقف عليها لم تكن تقبل الحركة ولكن أقرت في الوصل اعتبارا بما آلت إليه في حال ما لا أنها موقوف عليها. قال الزمخشري: (فإن قلت): هلا زعمت انها حركت لالتقاء الساكنين؟ (قلت): لأن التقاء الساكنين لا يبالي به في باب الوقف وذلك قولهم: هذا إبراهيم وداود وإسحاق، ولو كان التقاء الساكنين في حال الوقف يوجب التحريك تحرك الميمان في ألف لام ميم لالتقاء الساكنين، ولما انتظر ساكن آخر. " انتهى ". هذا السؤال وجوابه صحيحان لكن الذي قال: ان الحركة لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من ألم في الوقف وإنما عني التقاء الساكنين اللذين هما ميم ميم الأخيرة ولام التعريف كالتقاء نون من ولام الرجل إذا قلت: من الرجل.
قال الزمخشري: (فإن قلت): إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في ميم لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين فإذا جاء ساكن ثالث لم يكن إلا التحريك فحركوا (قلت): الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن انهم كان يمكنهم أن يقولوا واحد اثنان بسكون الدال مع طرح الهمزة فجمعوا بين ساكنين كما قالوا اصيم تصغيرا ومذيق، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وليست لالتقاء الساكنين. " انتهى ". وفي سؤاله تعمية في قوله: فإن قلت إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين ويعني بالساكن الياء والميم في ميم، وحينئذ يجيء التعليل بقوله: لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين يعني الياء والميم، ثم قال: فإذا جاء ساكن ثالث يعني لام التعريف لم يمكن إلا التحريك يعني في الميم فحركوا يعني الميم لالتقائها ساكنة مع لام التعريف إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن وهو لا يمكن، هذا شرح سؤاله. وأما الجواب عن سؤاله فلا يطابق لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بإمكانية الجمع بين ساكنين في قولهم واحد اثنان بأن يسكنوا الدال والثاء ساكنة وتسقط الهمزة فعولوا عن هذا الامكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال وهذه مكابرة في المحسوس إذ لا يمكن ذلك أصلا، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكون الثاء وطرح الهمزة. وأما قوله: فجمعوا بين ساكنين، فلا يمكن الجمع كما قلناه، وأما قوله: كما قالوا أصيم ومذيق فهذا ممكن كما هو في واد وصال لأنه في ذلك التقاء الساكنين على حدهما المشروط في النحو فأمكن النطق به، وليس مثل واحد اثنان لأن الساكن الأول ليس حرف علة ولا الثاني مدغم فلا يمكن الجمع بينهما وأما قوله فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وليست لالتقاء الساكنين لما بين على أن الجمع بين الساكنين في واحد اثنان ممكن، وحركة التقاء الساكنين إنما هي في باب ما لا يمكن أن يجتمعا فيه في اللفظ أدعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة لا لإلتقاء الساكنين، وقد ذكرنا عدم إمكان ذلك. فإن صح كسر الدال كما نقل هذا الرجل فتكون حركتها لالتقاء الساكنين لا للنقل. وقد رد قول الفراء واختيار الزمخشري إياه بأن قيل: لا يجوز أن تكون حركة الميم حركة الهمزة ألقيت عليها لما في ذلك من الفساد والتدافع وذلك أن سكون آخر الميم إنما هو على نية الوقف عليها وإلقاء حركة الهمزة عليها إنما هو على نية الوصل ونية الوصل توجب حذف الهمزة ونية الوقف على ما قبلها موجب ثباتها وثباتها وقطعها متناقض وهو رد صحيح.
والذي تحرر في هذه الكلمات أن العرب إذا سردت أسماء من غير تركيب ما كانت تلك الأسماء مسكنة الآخر وصلا ووقفا، فلو التقى آخر مسكن منها بساكن آخر حرك لالتقاء الساكنين فهذه الحركة التي في الم الله هي حركة التقاء الساكنين.
{ الله لا إله إلا هو الحي القيوم } كلا مبتدأ جملة راده على نصارى نجران فالجلالة مبتدأ خبره ما بعده. وقرىء القيام والقيم.
{ نزل عليك الكتب } خاطب المنزل عليه تشريفا له ولم يذكر المنزل عليه التوراة والإنجيل. والباء في بالحق للسبب أو للحال.
{ مصدقا لما بين يديه } أي من الكتب الإلهية ونزل استئناف إخبار. ومن أجاز تعداد الأخبار أجاز أن يكون خبرا بعد خبر. ومصدقا حال مؤكدة لازمة وما بين يديه المتقدم في الزمان، يقال: هو بين يديه إذا كان قدامه غير بعيد.
{ وأنزل التوراة والإنجيل } قال الزمخشري: التوراة والإنجيل اسمان أعجميان وتكلف استشقاقهما من الورى والبخل ووزنهما بتفعلة وافعيل إنما يصح بعد كونهما عربيين. " انتهى ". ونقول: إنهما اسمان عبرانيان فلا يدخلهما اشتقاق عربي بنص النحاة، ثم تكلموا فيهما على تقدير أنهما عربيات ، فالتوراة فوعلة والتاء بدل من واو أو تفعلة بكسر عين الكلمة قلبت الياء ألفا وانفتح ما قبلها كالناصاة في الناصية أو تفعلة بفتح العين أقوال واشتقاقها من مصدر وروي الزند أو مصدر وريت والإنجيل افعيل من البخل وهو الماء الذي ينز من الأرض أو من البخل وهو الولد أو من البخل وهو الأصل أقوال ونزل وأنزل بمعنى واحد.
{ من قبل } أي من قبل إنزال الكتاب عليك.
و { هدى } مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله ولا يلزم وقوع الهداية بالفعل لجميع الناس.
{ وأنزل الفرقان } جنس الكتب السماوية لأنها تفرق بين الحق والباطل أو القرآن. بما فيه من الوصف تعظيما لشأنه وهو مصدر في الأصل، والظاهر أنه أريد به الفارق ويجوز أن يراد به المفروق. كما قال وقرآنا مزقناه، ولما ذكر إنزال الكتب الإلهية توعد من كفر بها.
{ لهم عذاب شديد } في الدنيا بالقتل والأسر والغلبة وفي الآخرة بالنار والذين كفروا عام يدخل فيه من نزلت الآيات بسببه وغيره.
{ والله عزيز } أي غالب.
{ ذو انتقام } أي ذو عقوبة وسطوة على الكافر. ولما ذكر انفراده تعالى بالالوهية ذكر الحياة والقيدمية وإنزال الكتب وإعداد العذاب للكافر. ذكر صفة العلم فقال:
{ إن الله لا يخفى عليه شيء } وشيء نكرة يعم ويشمل الجزئيات والكليات. وذكر مقر الشيء وهو في الأرض والسماء اذ هما أعظم ما نشاهده.
[3.6-17]
{ هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشآء } أي على ما يشاء من الهيآت ودل على كمال العلم والقدرة ودل على كينونة عيسى عليه السلام من الذين صورهم في الأرحام فانتفت عنه الإلهية وفيه رد على الطبيعيين إذ يجعلون لطبيعة فاعلة مستبدة كيف يشاء مفعول يشاء محذوف وكيف جزاء وفعل الشرط محذوف والتقدير على أي هيئة شاء أن يصوركم صوركم وكيف منصوب على الحال وحذف صوركم هنا لحذف الجزاء في نحو أنت ظالم إن فعلت أي إن فعلت فأنت ظالم ولا محل للجملة في مثل هذا وان كان لها تعلق بما قبلها من حيث المعنى وتفكيك مثل هذا التركيب لا يهتدي إليه إلا بعد تمرن في الاعراب واستحضار للطائف النحو وقد خبطوا في إعراب هذه الجملة بما يوقف عليه في الهجر.
{ لا إله إلا هو العزيز الحكيم } تأكيد لما قبلها من الإنفراد بالإلهية والغلبة والحكمة وفي ذكر الحكيم إشارة إلى التصوير وضع الأشياء على ما اقتضته الحكمة ولما كان أولئك الوفد قد ذكروا للرسول صلى الله عليه وسلم ان في كتابه وروح منه أي في حق عيسى أخبر تعالى أن آيات الكتاب منها محكمة ومتشابهة والمحكم ما لم يتشابه كآيات الحلال والحرام ولا يحتمل إلا وجها واحدا والمتشابهة ما احتمل من التأويل وجوها.
{ هن أم الكتاب } أي الأصل الذي يرجع إليه.
{ وأخر } أي وآيات أخر أي غير تلك.
{ متشابهات } وقد اختلف المفسرون في المحكم والمتشابه اختلافا كثيرا وارتفع آيات على الفاعلية إذ المجرور معتمد أو على الابتداء.
{ فأما الذين في قلوبهم زيغ } أي ميل عن الحق كالنصارى واليهود من صرف كلام الله ممن ينتمي إلى ملة الإسلام كالإباحية والقائلين بالتناسخ وعلم الحروف والمجسمة وغلاة الباطنية والقائلين بالحلول والوحدة من المتظاهرين بذلك في كتبهم وكل من زاغ عن الحق بالتعلق بشيء من المتشابه وعلل اتباع أهل الزيغ المشابه بعلتين إحداهما.
{ ابتغاء الفتنة } أي فتنة أهل الإسلام بالاضطراب والثانية.
{ وابتغاء تأويله } وكلاهما مذموم ثم ذكر تأويله المتشابه فقال:
{ وما يعلم تأويله إلا الله } بالوقف على لفظ الجلالة وهذا هو الظاهر فيكون قوله:
{ والراسخون في العلم } إبتداء كلام وخبره قوله:
{ يقولون آمنا به } ومن عطف والراسخون على الجلالة فجعلهم يعلمون التأويل فليس بظاهر وعلى قولهم يكون يقولون جملة في موضع الحال من الراسخين والضمير في به عائد في الظاهر على التأويل ويجوز أن يعود على الكتاب محكمة ومتشابهة لأن الإيمان بهما حاصل وقوله:
{ كل من عند ربنا } أي كل من المحكم والمتشابه.
{ وما يذكر } أي ما يتعظ بالمحكم والمتشابه.
{ إلا أولوا الألباب } أي ذوو العقول السليمة الناظرون في وجوه التأويلات والاحتمالات الحاملون ذلك على ما اقتضاه لسان العرب من الحقيقة والمجاز والنظر فيما يجوز وما يجب وما يستحيل وانتصاب.
{ ربنا } على النداء فجاز أن يكون من قول الراسخين وجاز أن يكون على إضمار قولوا ربنا ويكون قوله:
{ لا تزغ قلوبنا } أي لا تجعلنا من الذين في قلوبهم زيغ.
{ بعد إذ هديتنا } وأضاف بعد إلى إذ وإذا إلى الجملة بعدها والمعنى بعد وقت هدايتك إيانا وختم بقوله:
{ إنك أنت الوهاب } إشارة بأن جميع ما يحصل من الخيرات هو هبة من الله لهم وجاء بصيغة المبالغة ليدل على كثرة هباته تعالى وناسب الفواصل في قوله قبل الألباب وقرىء: لا تزغ قلوبنا، مبينا للفاعل بتاء المضارعة ويائها لما سألوه تعالى أن لا يزيغ قلوبهم بعد الهداية وكانت ثمرة انتفاء الزيغ والهداية إنما تظهر في يوم القيامة أخبروا أنهم موقنون بيوم القيامة والبعث فيه للمجازاة وان اعتقاد صحة الوعد به هو الذي حملهم على سؤال ان لا تزيغ قلوبهم.
{ إن الله لا يخلف الميعاد } عدل من ضمير الخطاب إلى الاسم الظاهر وهو الله ولم يأت التركيب إنك لا تخلف الميعاد دلالة على الاستئناف وأنه من كلام الله تعالى لا من كلام الراسخين وقد يكون قوله: " ان الله " من باب الالتفات عدلوا من الخطاب إلى الغيبة لما في ذكره باسمه الأعظم من التفخيم والتعظيم والهيبة.
{ إن الذين كفروا } عام في الكفار من وفد نجران وغيرهم.
{ من الله } أي من عذابه وكانوا يتكاثرون بأموالهم وأولادهم ثم ذكر مآلهم في قوله: { وأولئك هم وقود النار }. جعلهم كالوقود الذي يضرم به النار.
قال الزمخشري: من الله شيئا مثله في قوله ان الظن لا يغني من الحق شيئا، والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله أو من طاعة الله شيئا، أي بدل رحمة الله وطاعة وبدل الحق ومنه ولا ينفع ذا الجد منك الجد أي لا ينفعه جده وحظه من الدنيا بذلك أي بدل طاعتك وعبادتك وما عندك وفي معناه قوله تعالى:
ومآ أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى
[سبأ: 37] انتهى.
وإثبات البدلية بمنى فيه خلاف أصحابنا ينكرونه وغيرهم قد أثبته وزعم أنها تأتي بمعنى البدل واستدل بقوله تعالى:
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة
[التوبة: 38] لجعلنا منكم ملائكة أي بدل الآخرة وبدلكم وقال الشاعر:
أخذوا المخاض من الفصيل غلبة
ظلما ويكتسب للأميرا فالا أي بدل الفصيل وانتصاب شيئا على المصدر أي شيئا من الاغناء وقرىء: لن تغني بسكون الياء وهي لغة كثيرة في الشعر وقرىء: لن يغني وانتقل من الأموال إلى الأولاد لأن الأولاد بهم التناصر والكثرة والعزة.
{ وأولئك هم وقود النار } معطوف على خبر ان وهو لن تغني أو مستأنف وقرىء: وقود بضم الواو مصدر وقد يقد وقد نقل ان الوقود بفتح الواو مصدر كالوقود بضمها.
{ كدأب آل فرعون } أي كدأب الكفار المتقدم ذكرهم في مآلهم إلى النار مثل آل فرعون إلى النار فهو خبر مبتدأ محذوف أي دأبهم كدأب آل فرعون والمكذبين ونص على آل فرعون لعظيم مرتكبه في دعوى الإلهية ولمعرفة بني إسرائيل بما جرى له.
{ والذين من قبلهم } كأمة شعيب وصالح وهود نوح.
{ كذبوا بآياتنا } تفسير لدأبهم كتكذيب كفار معاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقال: دأب ودأب ومعناه العادة.
{ قل للذين كفروا } هم معاصروه عليه السلام وفي سبب نزولها اختلاف قيل أن يهود بني قينقاع قالوا بعد وقعة بدر ان: قريشا كانوا أغمار ولو حاربتنا لرأيت رجالا وناسب ما سبق من الوعد الصادق في قوله فيما آله إليه الكفار السابق ذكرهم في أخذ الله إياهم ومآلهم إلى النار هذا الوعد الصادق في قوله:
{ ستغلبون وتحشرون } الآية، وقرىء: بالتاء وبالياء فيهما والمخصوص بالذم محذوف أي وبئس المهاد جهنم والخطاب في قوله:
{ قد كان لكم } للمؤمنين والآية العلامة التي قد ظهرت في وقعة بدر وهي غلبة المؤمنين للكافرين حسب الوعد الصادق في قوله: " ستغلبون ". والفئة الجماعة من فاء يفيء رجع و:
{ التقتا } جملة في موضع الصفة للفئتين ثم فصل الفئتين في قوله:
{ فئة تقاتل في سبيل الله } وصح الابتداء بالنكرة لأنه في موضع تفصيل وثم صفة محذوفة تقديرها فئة مؤمنة تقاتل في سبيل الله.
{ وأخرى } معطوف على فئة وثم صفة محذوفة تقديرها وأخرى كافرة تقاتل في سبيل الطاغوت كما قال:
الذين آمنوا يقتلون في سبيل الله والذين كفروا يقتلون في سبيل الطغوت
[النساء: 76].
فحذف من الجملة الأولى ما أثبت مقابلة في الجملة الثانية ومن الثانية ما أثبت مقابله في الأولى وقرىء فئة بالجر على البدل من الفئتين وهو بدل تفصيل وقرىء: فئة بالنصب على المدح أي أمدح فئة وأخرى كافرة بالنصب على الذم أي وأذم أخرى وزعم الزمخشري أي نصب فئة على الانتقاص وليس بجيد لأن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرة ولا مبهما وأجاز هو وغيره قبله كالزجاج أن ينتصب فئة الحال من الضمير وهي حال موطئة وقرىء يقاتل بالياء على تذكير الفئة لأن معناها القوم وقرىء:
{ ترونهم } بالتاء وبالياء مفتوحتين ومضمومتين فضمير الرفع للمؤمنين وضمير النصب للكافرين وكذلك ضمير الجر في.
{ مثليهم } أي يرى المؤمنون الكافرين مثل الكافرين فالمؤمنون أقل من الكافرين ومع ذلك وقع النصر كما قال تعالى:
كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة
[البقرة: 249] ويدل على هذا قوله:
{ والله يؤيد بنصره من يشآء } والرؤية هنا من رؤية البصر يدل عليه قوله: { رأي العين } والتأييد التقوية وكان المسلمون في وقعة بدر ثلاثمائة عشر وثلاثة عشر والكفار نحو الألف.
{ إن في ذلك } أي في تلك الآية، من غلبة المؤمنين على قلتهم للكافرين على كثرتهم.
{ لعبرة } أي لاتعاظا و:
{ الأبصار } قد تكون من بصر العين أو من بصيرة القلب ومفعول يشاء محذوف أي من يشاء نصره وقرىء:
{ زين } مبنيا للفاعل وهو عائد على الله تعالى ذكر تعالى ما جبل عليه طباع الناس من حب الدنيا وما فيها من متاعها وأضاف.
{ حب } وهو مصدر إلى المفعول وهو.
{ الشهوات } والفاعل محذوف أي حبهم للشهوات والشهوة مسترذلة يذم متبعها والشهوات عام بينت بما بعدها فبدأ بالنساء ولا شيء أعظم منهن في الشهوة ثم بما يتولد منهم وهم البنون ثم بما يتم به حال المشتهي من الذهب والفضة ثم بالخيل لأنه فيها عزة وقدرة على الامتناع ثم بالانعام لأنها كانت أكثر مراكبهم وأكثر مشروبهم منها ثم بالحرث إذ فيه تحصيل أقواتهم والقنطار مختلف في عدده والظاهر المبالغة فيما يملكه الانسان من العينين والمقنطرة صفة للقناطير ويراد به الكثرة وجاء هذا التركيب في أحسن أسلوب من تعلق النفس بما ذكر والإشارة بقوله:
{ ذلك } إلى ما تقدم ذكره من المحبوبات.
و { متاع } أي ما يتمتع به ثم يزول.
و { المآب } المرجع وهو الجنة للمؤمنين.
{ قل أؤنبئكم بخير من ذلكم } أي بخير مما تقدم ذكره من متاع الدنيا لأن ذلك فان وهذا باق لما أبهم في قوله بخير من ذلكم عين جهة الخيرية بقوله:
{ للذين اتقوا عند ربهم جنات } وقرىء: بخفض جنات فجاز أن يكون بدلا من قوله: { بخير } ويكون قوله: { للذين } متعلقا بقوله بخير فلا يكون استئناف كلام بخلاف رفع جنات فإنه مبتدأ وللذين خبره والكلام مستأنف جواب كلام مقدر كأنه قيل ما الخير فقيل للذين اتقوا عند ربهم جنات ونبأ هنا تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر وبدأ بمقر المتقين وهي جنات وذكر من صفاتها أنها تجري من تحتها الأنهار ثم بالأزواج اللائي هن من أعظم الشهوات إذ ذكر في الآية قبلها حب الشهوات من النساء ووصفهن بالتطهير من دم الحيض وغيره واتبع ذلك بأعظم الأشياء وهو رضاه عنهم فانتقل من عال إلى أعلى منه.
{ بصير بالعباد } أي مطلع على أعمالهم فيجازى كلا بعمله ولما ذكر المتقين ذكر شيئا من صفاتهم فبدأ بالإيمان الذي هو رأس التقوى ورتب سؤال المغفرة عليه والوقاية من النار ولما ذكر الإيمان بالقول أخبر بالوصف الدال على حبس النفس على ما هو شاق عليها من التكاليف.
{ والمنفقين } أموالهم في الطاعات.
{ والمستغفرين } الله لذنوبهم.
{ بالأسحار } وهي أوقات الإجابة ألا ترى إلى قوله سبحانه وتعالى:
" من يدعوني فأستجيب له "
في حديث النزول قال الزمخشري: والواو المتوسطة بين الصفات للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها " انتهى ".
ولا نعلم العطف في الصفة بالواو ويدل على الكمال.
[3.18-19]
{ شهد الله } الآية، سبب نزولها أن حبرين من الشام قدما المدينة فقال أحدهما للآخر ما أشبه هذه بمدينة النبي الخارج في آخر الزمان ثم عرفا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنعت فقالا أنت محمد قال: نعم، فقالا: أنت أحمد، قال: نعم، فقالا: نسألك عن شهادة إن أخبرتنا بها آمنا فقال: سلاني. فقال أحدهما: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله فنزلت فأسلما وشهد هنا بمعنى أعلم بانفراده بالوحدانية وعطف عليه.
{ والملائكة } وهم من العالم العلوي ثم أولي العلم ويشمل الملائكة وغيرهم من الثقلين وانتصب قائما على الحال من الله وحده. قال الزمخشري: وانتصابه على أنه حال مؤكدة منه أي من الله لقوله:
وهو الحق مصدقا
[البقرة: 91] " انتهى ". ليس هذا من الحال المؤكدة لأنه ليس من باب ويوم يبعث حيا ولا من باب أنا عند الله شجاعا وهو زيد شجاعا وفي كونه حالا من اسم الله قلق في التركيب إذ يصير كقولك أكل زيد طعاما وعائشة وفاطمة جائعة فيفصل بين المعطوف عليه والمعطوف بالمفعول وبين الحال وذي الحال بالمفعول والمعطوف لكن بمشيئة كونها كلها معمولة لعامل واحد وقال الزمخشري: فإن قلت قد جعلته حالا من فاعل شهد فهل يصح أن ينتصب حالا من هو في لا إله إلا هو. قلت: نعم لأنها حال مؤكدة والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة التي هي زيادة في فائدتها عامل فيها كقولك: أما عبد الله شجاعا " انتهى ".
يعني أن الحال المؤكدة لا يكون العامل فيها النصب شيئا من الجملة السابقة وإنما تنتصب بعامل مضمر تقديره أحق أو نحوه مضمرا بعد الجملة وهذا قول الجمهور والحال المؤكدة لمضمون الجملة هي الدالة على معنى ملازم للمسند إليه الحكم أو شبيه بالملازم فإن كان المتكلم بالجملة مخبرا عن نفسه فيقدر الفعل أحق مبنيا للمفعول نحو أنا عبد الله شجاعا أي أحق شجاعا وإن كان مخبرا عن غيره نحو: هو زيد شجاعا، فتقدره أحقه شجاعا وذهب الزجاج إلى أن العامل في هذه الحال هو الخبر بما ضمن من معنى المسمى وذهب ابن خروف إلى أنه المبتدأ بما ضمن من معنى التنبيه وجعله بعضهم حالا من الجميع على اعتبار كل واحد واحد ورد بأنه لو جاز ذلك لجاز جاء القوم راكبا، أي كل واحد منهم، وهذا لا تقوله العرب، ومعنى بالقسط: بالعدل وأنه لا إله إلا هو مفعول شهد وفصل به بين المعطوف عليه والمعطوف ليدل على الاعتناء بذكر المفعول وليدل على تفاوت درجة المتعاطفين بحيث لا ينسقان متجاورين. وقرىء: شهد مبنيا للمفعول والمصدر المنسبك من أن وما بعدها بدل من لفظ الجلالة أي شهد انفراده بالألوهية وارتفع والملائكة على إضمار فعل أي وشهد الملائكة أو على الابتداء والخبر محذوف تقديره والملائكة وأولوا العلم يشهدون وقرىء: شهداء الله جمعا منصوبا مضافا إلى الله وجوز أن يكون حالا من المستغفرين أو على المدح وهو جمع شهيد أو شاهد وقرىء شهداء الله بالرفع على إضمار مبتدأ محذوف أي هم شهداء وقرىء: شهد الله بضم الشين والهاء ونصب الدال منونا ونصب الله، وقرىء: شهد بضم الدال وبفتحها مضافا لاسم الله فالرفع على خبر مبتدأ أي هم شهد الله والنصب على الحال وهو جمع شهيد كنذير وقرىء: شهد الله بضم الدال ونصبها وبلام الجر ووجه رفع الملائكة في هاتين القراءتين بالعطف على الضمير المستكن في شهداء وتقدم توحيه رفع الملائكة على إضمار الفعل وعلى إضمار الخبر وقرىء: انه بكسر الهمزة، وقرىء: ان لا إله إلا هو بحذف الضمير وخرج نصب قائما على أنه حال من هو أو صفة للمنفي وهو بعيد جدا أو من الجميع على اعتبار كل واحد واحد وهو أبعد مما قبله وأجاز الزمخشري انتصاب قائما على المدح وقال: فإن قلت أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة كقولك الحمد لله الحميد انا معشر الأنبياء لا نورث انا بني نهشل لا ندعي لأب قلت قد جاء نكرة في قول الهذلي: ويأوي إلى نسوة عطل وشعثا مراضيع مثل السعالي " انتهى سؤاله وجوابه ".
وفي ذلك تخليط وذلك أنه لم يفرق بين المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم وبين المنصوب على الاختصاص وجعل حكمهما واحدا وأورد مثالا من المنصوب على المدح وهو الحمد لله الحميد ومثالين من المنصوب على الاختصاص وهما انا معشر الأنبياء لا نورث انا بني نهشل لا ندعي لأب والذي ذكره النحويون أن المنصور على المدح والذم أو الترحم قد يكون معرفة وقبله معرفة يصلح أن يكون تابعا لهم وقد لا يصلح وقد يكون نكرة كذلك وقد يكون نكرة وقبلها معرفة فلا يصح أن يكون نعتا لها نحو قول النابغة:
أقارع عون لا أحاول غيرها
وجوه قرود تتبعني من تخادع
فانتصب وجوه قرود على الذم وقبله معرفة وهو قوله: أقارع عوف وأما المنصوب على الاختصاص قصوا على أنه لا يكون نكرة ولا مبهما ولا يكون إلا معرفا بالألف واللام أو بالاضافة أو بالعلمية أو بأي ولا يكون إلا بعد ضمير متكلم مختص به أو مشارك فيه وربما أتى بعد ضمير مخاطب واما انتصابه على أنه صفة للمنفي فقال الزمخشري: فإن قلت هل يجوز أن يكون صفة للمنفي كأنه قيل لا إله قائما بالقسط إلا هو قلت: لا يبعد فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف ثم قال وهو أوجه من انتصابه عن فاعل شهد وكذلك انتصابه على المدح " انتهى ".
وكان قد مثل بالفصل بين الصفة والموصوف بقوله لا رجل إلا عبد الله شجاعا ويعني أن انتصاب قائما على أنه صفة لقوله: إله، وكونه إنتصب على المدح أوجه من انتصابه على الحال من فاعل شهد وهو الله وهذا الذي ذكره لا يجوز لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما والملائكة وأولوا العلم وليسا معمولين لشيء من جملة لا إله إلا هو بل هما معمولان لشهد وهو نظير عرف زيد أن هند أخارجة وعمرو وجعفر التيمية فيفصل بين هند والتميمية بأجنبي ليس داخلا في حيز ما عمل فيها وفي خبره وهما عمرو وجعفر المرفوعان بعرف المعطوفان على زيد وأما المثال الذي مثل به وهو لا رجل إلا عبد الله شجاعا فليس نظير تخريجه في الآية، لأن قولك إلا عبد الله بدل على الموضع من لا رجل فهو تابع على الموضع فليس بأجنبي على أن في جواز هذا التركيب نظرا لأنه بدل وشجاعا وصف والقاعدة أنه إذا اجتمع البدل والوصف قدم الوصف على البدل وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل على المذهب الصحيح فصار من جملة أخرى على هذا المذهب وأما انتصابه على القطع فلا يجيء إلا على مذهب الكوفيين وقد أبطله البصريون والأولى من هذه الأقوال كلها أن يكون منصوبا على الحال من إسم الله والعامل فيه شهد وهو قول الجمهور وأما قراءة عبد الله القائم بالقسط فرفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو القائم بالقسط.
وقال الزمخشري وغيره: أنه بدل هو ولا يجوز ذلك لأن فيه فصلا بين البدل والمبدل منه بأجنبي وهو المعطوفان لأنهما معمولان لغير العامل في المبدل منه ولو كان العامل في المعطوف هو العامل في المبدل منه لم يجز ذلك أيضا لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قدم البدل على العطف لو قلت جاء زيد وعائشة أخوك لم يجز إنما الكلام جاء زيد أخوك وعائشة وقال الزمخشري: فإن قلت: لم يجز افراده بنصب الحال دون المعطوفين عليه ولو قلت جاءني زيد وعمرو راكبا لم يجز قلت: إنما جاز هذا لعدم الإلباس كما جاز في قوله:
ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة
[الأنبياء: 72] أن انتصب نافلة حالا عن يعقوب ولو قلت: جاءني زيد وهند راكبا جاز لتمييز بالذكورة " انتهى ".
وما ذكره في قوله: في جاءني زيد وعمرو راكبا أنه لا يجوز ليس كما ذكره بل هذا جائز لأن الحال قيد فيمن وقع منه أو به الفعل أو ما أشبهه وإذا كان قيدا فإنه يحتمل على أقرب مذكور ويكون راكبا حالا مما يليه ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة ولو قلت جاءني زيد وعمرو الطويل لكان الطويل صفة لعمرو ولا تقول: لا تجوز هذه المسألة لأنه يلبس بل لا لبس في هذا وهو جائز فكذلك الحال وأما قوله: في نافلة أنه انتصب حالا عن يعقوب إذ يحتمل أن يكون نافلة مصدرا كالعافية والعاقبة ومعناه زيادة فيكون ذلك شاملا لإسحاق ويعقوب لأنهما زيدا لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره إذ كان جاء له إسحاق على الكبر وبعد أن عجزت سارة وأيست من الولادة.
ولما ذكر شهادة الله والملائكة وأولي العلم بانحصار الألوهية فيه تعالى أخبر بتقرير ذلك بقوله: { لا إله إلا هو }. وفيه ضرب من التأكيد لما سبق ثم ذكر.
{ العزيز } وهو الذي لا يغالب أو الذي هو عديم النظير.
و { الحكيم } هو الذي يصنع الأشياء بحكمته مواضعها وارتفع العزيز على إضمار هو.
و { الحكيم } هو الذي يضع الأشياء بحكمته مواضعها وارتفع العزيز على إضمار هو { إن الدين } أي أن الشرع المقبول { عند الله } هو { الإسلام } أي الانقياد لأمر الله ونهيه واعتقاد ما جاءت به الرسل من صفات الله تعالى. والبعث والجزاء. وقرى ان الدين ولهم في إعرابه اضطرابات وقد اخترنا أنه متعلق بالحكيم وهي صفة مبالغة وتكون على إضمار حرف الجر أي الحاكم بأن الدين عند الله الاسلام وأشبه ما قالوه أن يكون إن الدين بدل من قوله أنه لا إله إلا هو وفيه بعد لطول الفصل بين البدل والمبدل منه ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية وشهد له بذلك الملائكة وأولوا العلم حكم أن الدين المقبول عنده هو الإسلام فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه.
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه
[آل عمران: 85] وعدل عن صيغة الحاكم إلى الحكيم لأجل المبالغة ولمناسبة العزيز ومعنى المبالغة تكرار حكمة بالنسبة إلى الشرائع ان الدين عنده هو الإسلام إذ حكم في كل شريعة بذلك. وفي البحر الذي هذا النهر ملخص منه ما نصه وأما قراءة الكسائي ومن وافقه في نصب أنه وإن فقال أبو علي الفارسي إن شئت جعلته من بدل الشيء من الشيء وهو ألا ترى ان الدين الذي هو الإسلام يتضمن التوحيد والعدل وهو في المعنى، وإن شئت جعلته من بدل الاشتمال لأن الاسلام مشتمل على التوحيد والعدل، وإن شئت جعلته بدلا من القسط لأن الدين الذي هو الإسلام قسط وعدل، فيكون أيضا من بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة. انتهت تخريجات الفارسي وهو معتزلي فلذلك يشتمل كلامه على ألفاظ المعتزلة من التوحيد والعدل وعلى البدل من أنه لا إله إلا هو خرجه غيره أيضا وليس بجيد لأنه يؤدي إلى تركيب بعيد أن يأتي مثله في كلام العرب وهو عرف زيد أنه لا شجاع إلا هو وبنو تميم وبنو دارم ملاقيا للحروب لا شجاع إلا هو البطل المحامي وان الخصلة الحميدة هي البسالة وتقريب هذا المثال ضرب زيد عائشة والعمران حنقا أختك، فحنقا حال من زيد وأختك بدل من عائشة، ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف وهو لا يجوز وبالحال لغير المبدل منه ولا يجوز لأنه فصل بأجنبي بين المبدل منه والبدل، وخرجه الطبري على حذف حرف العطف والتقدير وان الدين.
قال ابن عطية: وهذا ضعيف. انتهى. ولم يبين وجه ضعفه ووجه ضعفه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف فيفصل بين المتعاطفين المرفوعين بالمنصوب المفعول وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية وبجملتي الاعتراض وصار في التركيب دون مراعاة الفصل نحو: أكل زيد خبزا، وعمرو وسمكا. وأصل التركيب أكل زيد وعمرو خبزا وسمكا فإن فصلنا بين قولك وعمرو وبين قولك وسمكا يحصل شنع التركيب وإضمار حرف العطف لا يجوز على الأصح. وقرأ ابن عباس أنه بالكسر ان الدين بالفتح، وخرج على أن الدين عند الله الإسلام، وهو معمول شهد ويكون في الكلام اعتراضان: أحدهما بين المعطوف عليه والمعطوف وهو أنه لا إله إلا هو، والثاني: بين المعطوف والحال وبين المفعول لشهد وهو لا إله إلا هو العزيز الحكيم، وإذا أعربنا العزيز خبر مبتدأ محذوف كان ذلك ثلاث اعتراضات. " انتهى ". ما خرجت عليه قراءة ابن عباس أيضا فانظر إلى هذه التوجيهات البعيدة التي لا يقدر أحد أن يأتي لها بنظير من كلام العرب وإنما جمل على ذلك العجمة وعدم الإمعان في تراكيب كلام العرب وحفظ أشعارها. وقد أشرنا في خطبة هذا الكتاب إلى أنه لا يكفي النمو وحده في علم الفصيح من كلام العرب، بل لا بد من الاطلاع على كلامهم والتطبع بطباعهم والإستكثار من ذلك، والذي خرجت عليه قراءة أن الدين بالفتح هو أن يكون الكلام في موضع المعمول للحكيم على إسقاط حرف الجر أي بأن لأن الحكيم فعيل للمبالغة كالعليم والسميع والخبير كما قال تعالى:
من لدن حكيم خبير
[هود: 1]. وقال:
من لدن حكيم عليم
[النمل: 6]. والتقدير لا إله إلا هو العزيز الحكيم، ان الدين عند الله الإسلام، ولما شهد تعالى لنفسه بالوحدانية، وشهد له بذلك الملائكة وأولوا العلم، حكم ان الدين عند الله المقبول عنده هو الإسلام، فلا ينبغي لأحد أن يعدل عنه.
ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه
[آل عمران: 85].
(فإن قلت) لم حملت إليكم على أنه محول من فاعل إلى فعيل للمبالغة وهلا جعلته فعيلا بمعنى مفعل، فيكون معناه المحكم كما قالوا في أليم انه بمعنى مؤلم وفي سميع من قول الشاعر:
أمن ريحانة الداعي
السميع إلى المسمع
(فالجواب) إنا لا نسلم أن فعيلا يأتي بمعنى مفعل وقد يؤول سميع وأليم على غير مفعل ولئن سلمنا ذلك فهو من الندور والشذوذ بحيث لا ينقاس، وأما فعيل المحول من فاعل للمبالغة فهو منقاس كثير جدا خارج عن الحصر كحليم وعليم وسميع وقدير وخبير وحفيظ إلى ألفاظ لا تحصر وأيضا فإن العربي لقمح الباقي على سليقته لم يفهم من حكيم إلا أنه محول للمبالغة من حاكم، ألا ترى أنه لما سمع قارئا يقرأ: { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالا من الله والله سميع عليم }.
أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق فقيل له التلاوة والله عزيز حكيم. فقال: هكذا يكون عز فحكم وفهم من حكيم أنه محول للمبالغة من حاكم، وفهم هذا العربي حجة قاطعة لما قلناه. وكذا نقول على قراءة ابن عباس ولا نجعل أن الدين معمولا لشهد كما زعموا وأن انه لا إله إلا هو اعتراض وانه بين المعطوف. والحال وبين أن الدين اعتراض آخر أو اعتراضان، بل نقول: معمول شهد هو أنه بالكسر على تخريج من خرج أن شهد لما كان بمعنى القول كسر ما بعدها إجراء لها مجرى القول أو نقول أنه معمول لها ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي بخلاف أن لو كان مثبتا فإنك تقول شهدت أن زيدا المنطلق فتعلق بأن مع وجود اللام لأنه لو لم تكن اللام لفتحت أن فقلت شهدت أن زيدا منطلق فمن قرأ بفتح أنه فإنه لم ينو التعليق ومن كسر فإنه نوى التعليق ولم تدخل اللام في الخبر لأنه منفي كما ذكرنا.
{ وما اختلف الذين أوتوا الكتاب } عام في أهل الكتاب من اليهود والنصارى وإن المختلف فيه هو الإسلام. وقد تنكبوا إلى غيره من الأديان فانقسمت اليهود إلى قرائي ورباني وسمرة. وانقسمت النصارى الى ملكي ويعقوبي ونسطوري. وكل طائفة تكفر من خالفها بعد أن كانت اليهود أمة واحدة، والنصارى كذلك، والعلم الذي جاءهم هو كتب الله المنزلة من التوراة والزبور والإنجيل، والحامل على اختلافهم هو البغي وهو الظلم الواقع من بعضهم لبعض. وتقدم إعراب بغيا بعد الاستثناء في البقرة.
{ ومن يكفر بآيات الله } عام في كل كافر فلا يخص المختلفين ولا غيرهم.
و { سريع الحساب } كناية عن المجازاة في الآخرة، والجملة جواب الشرط، والضمير العائد على اسم الشرط محذوف تقديره سريع الحساب له.
[3.20-26]
{ فإن حآجوك } الظاهر عود الضمير على أهل الكتاب ويحتمل العموم. ومعنى { أسلمت وجهي لله } انقدت وأطعت وخضعت لله وعبر بالوجه عن جميع ذاته لأنه أشرف الأعضاء.
{ ومن اتبعن } معطوف على الضمير في أسلمت: قاله الزمخشري وابن عطية. وبدأ به ولا يجوز لأنه يلزم منه المشاركة في المفعول الذي هو وجهي وهو ولا يجوز بل المعنى وأسلم من اتبعني وجهه لله فالأحسن أن تكون من في موضع رفع على الإبتداء، والخبر محذوف لدلالة ما قبله عليه التقدير، ومن اتبعني أسلم وجهه لله فيكون إخبارا منه عليه السلام لأنه وإياهم أسلموا وجوههم لله. وأجاز الزمخشري أن تكون الواو واو مع، وهو لا يجوز لأنه يلزم منه المشاركة في المفعول، ألا ترى أنك إذا قلت: أكلت رغيفا وعمرا أي مع عمر، ودل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف. والمراد بالأميين من ليس من أهل الكتاب من مشركي العرب وغيرهم.
{ أأسلمتم } تقرير في ضمنه الأمر أي أسلموا، فقد أتاكم من البينات ما يوجب الإسلام. { فإن أسلموا } أي دخلوا في شريعة الإسلام، { فقد اهتدوا } أي حصلت لهم الهداية. { وإن تولوا } أي لا يضرونك بتوليهم عن الإسلام ولا يلزمك إلا تنبيههم للهداية بما تبلغ عن ربك.
{ والله بصير بالعباد } فيه وعيد وتهديد شديد لمن تولى عن الإسلام، ووعد بالخير لمن أسلم. إذ معناه أن الله مطلع على أحوال عبيده فيجازيهم بما تقتضي حكمته.
{ إن الذين يكفرون } ذكر أولا أعظم الأوصاف المذكورة في هذه الآية وهو الكفر بآيات الله، ثم قتل الأنبياء الذين أظهروا آيات الله وهي المعجزات الدالة على صدقهم، ثم قتل من أمر بالقسط وهو العدل، وهذه أوصاف أسلافهم وهم عالمون بها فنعي على أهل الكتاب المعاصرين للرسول عليه السلام فعل أسلافهم قبلك وجعلوا كمن باشر ذلك، وجاء هنا بغير حق بالتنكير، وفي البقرة بالتعريف، لأن الجملة هنا خرجت مخرج لشرط وهو عام لا يتخصص فناسب أن يكون المنفي بصيغة التنكير حتى يكون عاما، وهناك جاء في سورة البقرة في ناس معهودين. وذلك قوله:
ذلك بأنهم كانوا يكفرون
[البقرة: 61، آل عمران: 112] الآية.
و { بغير حق } حال مؤكدة كالتي في البقرة لأن قتل نبي لا يكون بحق.
{ فبشرهم } الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وضمير المفعول عائد على أسلافهم وهو في المعنى لهم لأنهم راضون بقول أسلافهم. ودخول الفاء دليل على أنه أريد بالذين العموم.
وقرىء: { حبطت } بفتح الباء. " وناصرين " جمع ناصر وهو أولى من الإفراد لأنه رأس آية وبإزاء شفعاء المؤمنين وإذا انتفى النفع من جمع فانتفاؤه من واحد أولى. والضمير في أوتوا لليهود، والنصيب: الحظ، ومن: للتبعيض، والكتاب: التوراة.
و { يدعون } حال و { إلى كتاب الله } التوراة أو القرآن.
والضمير في { ليحكم } عائد على كتاب الله. وقرىء ليحكم مبنيا للمفعول ونسب التولي إلى فريق منهم لأن منهم من أسلم كعبد الله بن سلام.
{ وهم معرضون } جملة حالية مؤكدة أو لأن التولي كان بالأبدان والإعراض بالقلوب فثبت التغاير بينهما.
{ ذلك } الإشارة إلى التولي والإعراض بسبب هذه الأقوال الباطلة وتسهيلهم على أنفسهم العذاب وطمعهم في الخروج من النار بعد أيام قلائل.
وجاء هنا { معدودات } بالجمع وهناك معدودة بالصفة التي تصلح للواحدة من المؤنث وهما فصيحان.
{ ما كانوا يفترون } أي ما كانوا يختلقون من الكذب كقولهم هذا وقولهم نحن أبناء الله وأحباؤه وغير ذلك فكيف يجوز أن يكون في موضع نصب التقدير فكيف يصنعون وفي موضع رفع خبر المبتدأ محذوف التقدير فكيف حالهم وإذا معمول لذلك المحذوف.
{ ليوم لا ريب فيه } وهو يوم القيامة أي لجزاء يوم.
{ قل اللهم مالك الملك } الآية سبب نزولها ما أخبر عليه السلام من ظهور ملك أمته على قصور العجم وعلى قصور الروم وقصور اليمن من الضربات التي ضربها على الصخرة يوم الخندق فبرقت ثلاث مرات، أي عليه السلام تلك القصور فعيره المنافقون بأنه يحفر الخندق ويضرب بالمعول ويخبر أن ملك أمته يكون بالمواضع المذكورة، واللهم منادى والميم زائدة ولا يجمع بينهما وبين حرف النداء في مذهب البصريين. (قال) ابن عطية:
أجمعوا على أنها يعني اللهم مضمومة الهاء مشددة الميم المفتوحة وانها منادى. " انتهى " ما ذكره من الإجماع على تشديد الميم فقد نقل الفراء تخفيفها في بعض اللغات قال وأنشدني بعضهم:
كحلفة من أبي رباح يسمعها اللهم الكبار
قال: الراد عليه تخفيف الميم خطأ فاحش خصوصا عند الفراء ولأن عنده أن الميم هي التي في أمنا إذ لا يحتمل التخفيف أن تكون الميم فيه بقية. امنا. (قال): والرواية الصحيحة يسمعها لاه الكبار. " انتهى ". وإن صح هذا البيت الذي أنشده الفراء عن العرب كان فيه شذوذ آخر من حيث استعماله في غير النداء ألا ترى أنه جعله في هذا البيت فاعلا بالفعل الذي قبله. ومالك الملك: منصوب على أنه منادى ثان ولا يجوز عند سيبويه نصبه على أن يكون صفة لقوله: اللهم. ومعنى مالك الملك أي يتصرف فيه كما يريد ولذلك جاء تبيين التصرف بعد في قوله:
{ تؤتي الملك من تشآء } الآية وجاء فيها مقابلة الإيتاء بالنزع والإذلال بالاعزاز ثم ختم بقدرته العامة الناشىء عنها ما ذكر. وقوله:
{ بيدك الخير } اقتصر عليه لأن الآية في معنى المدح وإن كان عز وجل بيده الخير والشر على مذهب أهل السنة، قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف قال: بيدك الخير فذكر الخير دون الشر. (قلت): لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين وهو الذي أنكرته الكفرة.
فقال: بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك ولأن كل أفعال الله من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله. انتهى كلامه. وهذا يدافع آخره أوله لأنه ذكر السؤال ثم اقتصر على ذكر الخير دون الشر وأجاب بالجواب الأول وذلك يدل على أن بيده تعالى الخير والشر وإنما كان الاقتصار على الخير لأن الكلام إنما وقع فيما يسوقه تعالى من الخير للمؤمنين فناسب الاقتصار على ذكر الخير فقط، وأجاب بالجواب الثاني. وذلك يدل على أن جميع أفعاله خير ليس فيها شر وهذا الجواب يناقض الأول لأن الآية في معنى المدح، وإن كان سبحانه بيده الخير والشر على مذهب أهل السنة.
[3.27-28]
{ تولج الليل } الولوج الدخول وهو هنا كناية عما نقص من الليل زيد في النهار، وما نقص من النهار زيد في الليل وذكروا اختلافا كثيرا في الحي والميت والذي نختاره أنه أريد به التوالد فيخرج الحي وهو الذي قامت به حياة من الميت وهو الذي يأتي عليه الموت ويؤول إليه فيكون هذا مجازا باعتبار المآل.
{ وتخرج الميت } الذي هو سيموت وهذا مجاز من الحي الذي قامت به حياة وظاهرة التوالد الإنساني، ألا ترى إلى قوله تعالى: { وترزق من تشآء } فأتى بمن التي تطلق على العقلاء.
{ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أوليآء } أي بالمعاملة الحسنة في الأفعال لقرابة أو صداقة وأما بالقلب فمنهي عنه، ولا يصدر ذلك عن مؤمن، بل المؤمن يوالي المؤمن بالمودة في الأفعال وبالقلب. ثم توعد تعالى بقوله: { ومن يفعل ذلك } أي موالاة الكفار.
{ فليس من الله في شيء } أي هو بريء من الله. قال ابن عطية: فليس من الله في شيء معناه في شيء فرضي على الكمال والصواب، وهذا كما قال عليه السلام: من غشنا فليس منا. وفي الكلام حذف مضاف تقديره فليس من التقرب إلى الله والتزلف ونحو هذا وقوله في شيء هو في موضع نصب على الحال من الضمير الذي في قوله: ليس من الله. " انتهى ". هذا كلام مضطرب لأن تقديره فليس من التقرب إلى الله يقتضي أن لا يكون من الله خبرا لليس ولا يستقبل: وقوله: في شيء، هو في موضع نصب على الحال يقتضي أن لا يكون خبر فتبقى ليس على قوله لا يكون لها خبر وذلك لا يجوز وتشبيهه بقوله صلى الله عليه وسلم: من غشنا فليس منا إلى آخره. ليس بجيد لأن منا خبر ليس وتستقل به الفائدة. وفي الآية ليس كذلك بل الخبر في شيء فليس الحديث كالآية. وكذلك قوله:
إذا حاولت في أسد فجورا
فإني لست منك ولست مني
وقرىء لا يتخذ برفع الذال على النفي والمراد به النهي، وفي قوله: فليس من الله محذوف تقديره من ولاية الله في شيء ومن دون متعلق بقوله: لا يتخذ والمعنى لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين.
{ إلا أن تتقوا } استثناء مفرغ من المفعول له. والمعنى لا يتخذ مؤمن كافر الشيء من الأشياء إلا بسبب التقية فيجوز إظهار الموالاة باللفظ والفعل دون ما ينعقد عليه القلب. وقال ابن عباس: التقية هنا المداراة ظاهرة، وقال: يكون مع الكفار أو بين أظهرهم فيتقيهم بلسانه ولا مودة لهم في قلبه وتتقوا خطاب وهو التفات لأنه خرج من الغيبة إلى الخطاب ولو جاء على نظم الأول لكان إلا أن يتقوا بالياء المعجمة من أسفل، وهذا النوع في غاية الفصاحة لأنه لما كان المؤمنون نهوا عن فعل ما لا يجوز جعل ذلك في اسم غايب فلم يواجهوا بالنهي ولما وقعت المسامحة والإذن في بعض ذلك ووجهوا بذلك إيذانا بلطف الله تعالى بهم وتشريفا بخطابه إياهم.
وقرىء تقاة وتقية وأصل تقاة وقيه أبدلت الواو فيها تاء وهما مصدران جاءا على غير الصدر لأنه لو جاء على تتقوا لكان اتقاء وتجويز أبي على أن تكون تقاة جمعا لتقي فيكون نصبه على الحال المؤكدة كتقية بعيد لأنه يكون مثل كمي وكماة وهو شاذ وقياس تقي أن يقال أتقياء كغنى أغنياء. قال الزمخشري: إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب اتقاؤه فنصب تقاة على أنه مفعول به ويدل على المصدرية قوله تعالى:
حق تقاته
[آل عمران: 102].
{ ويحذركم الله نفسه } قال ابن عباس: بطشه.
{ وإلى الله المصير } أي الصيرورة والمرجع فيجازيكم ان ارتكبتم موالاتهم بعد النهي.
[3.29-31]
{ قل إن تخفوا } الآية تقدم تفسير نظيرها في البقرة، والمعنى: أنه تعالى مطلع على خفايا الأمور وجلاياها ومرتب عليها الثواب والعقاب.
{ ويعلم ما في السموت } ذكر عموما بعد خصوص وختمها بسعة قدرته تعالى.
{ يوم تجد } ويضعف نصبه بقوله: ويحذركم لطول الفصل هذا من جهة اللفظ، أما من جهة المعنى فلأن التحذير موجود، واليوم موعود فلا يصح له العمل فيه ويضعف انتصابه بالمصير للفصل بين المصدر ومعموله، ويضعف نصبه بقدير لأن قدرته على كل شيء لا تختص بيوم دون يوم بل هو تعالى متصف بالقدرة دائما وأما نصبه بإضمار فعل فالإضمار على خلاف الأصل وهذه أقوال للمعربين. وقال الزمخشري: يوم تجد منصوب بتود، والضمير في بيته أي يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضر بين تتمنى. { لو أن بينها } وبين ذلك اليوم وهو له.
{ أمدا بعيدا } انتهى. وهذا التخريج. والظاهر في بادىء النظر حسنه وترجيحه إذ يظهر أنه ليس فيه شيء من مضعفات الأقوال السابقة لكن في جواز هذه المسألة ونظائرها خلاف مذكور في النحو. وأجاز الزمخشري وابن عطية أن تكون ما موصولة مبتدأة وخبرها تود بدأ بذلك أبو البقاء واتفقا على أنه لا يجوز أن يكون وما عملت من سوء شرطا. قال الزمخشري: لارتفاع تود. وقال ابن عطية: لأن الفعل مستقبل مرفوع يقتضي جزمه اللهم إلا أن يقدر في الكلام محذوف أي نهي تود وفي ذلك ضعف. انتهى. وظهر من كلاميهما امتناع الشرط لأجل رفع تود وهو في الكلام جائز مسموع من العرب لكن امتناعه هنا لغير ذلك وهو ان ارتفاعه على مذهب سيبويه من أن النية بالمرفوع التقديم ويكون إذ ذاك دليلا على الجواب لا نفس الجواب فنقول إذا كان تود منويا به التقديم أدى إلى تقدم المضمر على ظاهره. في غير الأبواب المستثناة في العربية، ألا ترى أن الضمير في قوله: وبينه، عائد على اسم الشرط الذي هو ما فيصير التقدير تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ما عملت من سوء فيلزم من هذا التقرير تقدم المضمر على الظاهر وذلك لا يجوز. (فإن قلت): لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخر عن اسم الشرط فإن كانت نيته التقديم فقد حصل عدد الضمير على الإسم الظاهر قبله وذلك نظير ضرب زيدا غلامه فالفاعل رتبته التقديم ووجب تأخيره لصحة عود الضمير. (فالجواب): أن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه لعود الضمير فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء لا جملة دليله ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل بل انها تعمل في جملة الجزاء وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب وإذا كان هذا تدافع الأمر لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل الشرط ومن حيث عدد الضمير على اسم الشريط اقتضتها فتدافعا، وهذا بخلاف: ضرب زيدا غلامه، وهي جملة واحدة، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معا فكل واحد منهما يقتضي صاحبه ولذلك جاز عند بعضهم: ضرب غلامها هندا، لاشتراك الفاعل المضاف للضمير والمفعول الذي عاد عليه الضمير في العامل وامتنع ضرب غلامها جار هند لعدم الإشتراك في العامل فهذا فرق ما بين المسألتين ولا يحفظ من لسان العرب أود لو أني أكرمه أيا ضربت هند لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسره في غير المواضع التي ذكرها النحويون فلذلك لا يجوز تأخيره.
وقرىء من سوء ودت فعلى هذا يجوز أن تكون ما شرطية مفعولة بعملت ومبتدأه على مذهب الفراء والضمير العائد محذوف أي عملته لأنه يجيز ذلك في فصيح الكلام وفي الكلام حذف تقديره محضرا تسربه ومن سوء محضرا حذف تسربه من الأول ومحضرا من الثاني. والمعنى من سوء محضرا تكرهه وعبر عن فرط الكراهة بقوله: تود أن بينها وبينه أمدا بعيدا ولو على قول الجمهور حرف لما كان سيقع لوقوع غيره وجوابها محذوف تقديره كسر به ومفعول تود محذوف تقديره تود تباعد ما بينهما ومن ذهب إلى أن لو مصدرية بمعنى أن فيبعد لأن أن ومعموليها في تقدير مصدر فيكون حرف مصدري دخل على حرف مصدري. وقوله: أمدا بعيدا أي غاية طويلة.
{ ويحذركم الله نفسه } كرر التحذير للتوكيد والتحريض على الخوف من الله بحيث يكونون ممتثلي أمره ونهيه.
{ والله رؤوف بالعباد } لما ذكر صفة التخويف وكررها كان ذلك مزعجا للقلوب ومنبها على أيقاع المحذور مع ما قرن بذلك من إطلاعه على خفايا الأعمال وإحضاره لها يوم الحساب وهذا هو الإتصاف بالعلم والقدرة اللذين يجب أن يحذر لأجلهما وذكر صفة الرحمة ليطمع في إحسانه وليبسط الرجاء في أفضاله فيكون ذلك من باب ما إذا ذكر ما يدل على شدة الأمر ذكر ما يدل على سعة الرحمة، لقوله تعالى:
إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم
[الأعراف: 167]، وتكون هذه الجملة أبلغ في الوصف من جملة التخويف لأن جملة التخويف جاءت بالفعل الذي يقتضي المطلق ولم يتكرر فيها اسم الله إذ الوصف متحمل ضميره تعالى وجاء المحكوم به على وزن فعول المقتضى للمبالغة والتكثير وجاء بأخص ألفاظ الرحمة وهو رؤوف، وجاء متعلقه عاما ليشمل المخاطب وغيره وبلفظ العباد ليدل على الإحسان التام لأن المالك محسن لعبده وناظر له أحسن نظر إذ هو ملكه.
{ قل إن كنتم تحبون الله } خطاب لمن ادعى محبة الله تعالى ومحبتهم له تعالى هو بامثتال أمره واجتناب نهيه.
ومعنى: { فاتبعوني } اتبعوا ما جئت به من عنده تعالى.
ومعنى { يحببكم } أي يعاملكم بالإحسان على طاعته.
{ ويغفر لكم } ما سلف من ذنوبكم. وقرىء تحبون ويحببكم بفتح التاء والياء وهما من حب. وقرىء يحبكم الله بفتح الياء والإدغام. وقرىء فاتبعوني بشد النون ألحق فعل الأمر نون التوكيد وأدغمها في نون الوقاية ولم يحذف الواو شبهها بأتحاجوني وهذا توجيه شذوذ.
[3.32-36]
{ قل أطيعوا الله والرسول } جعل طاعة الرسول طاعة لله كما قال في من يطع الرسول فقد أطاع الله.
و { تولوا } يجوز أن يكون مضارعا حذفت منه التاء أي فإن تتولوا وهو خطاب مناسب لقوله: أطيعوا، ويجوز أن يكون ماضيا والمراد به الإستقبال فيكون انتقالا من خطاب في أطيعوا إلى غيبة في قوله: تولوا، إهانة لهم. ونفي محبته تعالى للكافرين وهو إشعار بالعلية فلا يندرج فيه المؤمن العاصي.
{ إن الله اصطفى ءادم } الآية مناسبتها لما قبلها انه لما ذكر أنه لا يحب الكافرين ذكر من اصطفاه تعالى فبدأ بآدم وهو أبو البشر وأولهم، وأتبعه بنوح وهو اسم أعجمي وهو آدم الثاني إذ البشر كلهم من ولده سام وحام ويافت، ثم ذكر آل إبراهيم فاندرج فيهم من كان منهم من الأنبياء وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم، ثم آل عمران وعمران اسم أعجمي واستطرد إلى قصة مريم ويدل عليه تكراره في قوله: إذ قالت امرأة عمران وصار نظير تكرار الإسم في جملتين فيسبق الذهن إلى أن الثاني هو الأول، نحو: أكرم زيدا ان زيدا رجل صالح وانتصب ذرية على أنه بدل مما قبله وقيل على الحال. ومعنى من بعض متشعبة ترجع إلى أصل واحد. وقرىء ذرية بكسر الذال والظاهر أن الختم بقوله: سميع عليم مناسب لآل إبراهيم وآل عمران لأن إبراهيم دعا بدعوات كثيرة تقبلها الله منه وكذلك امرأة عمران في قصة مريم.
{ إذ قالت امرأت عمران } اسمها حنة بالحاء المهملة وشد النون وهي بنت فاقود وقبرها بظاهر دمشق. وقيل: لم يسم بحنة في العرب. وقال عبد الغني بن سعيد: حنة أم عمرو يروي حديثها ابن جريج.
{ لك } أي لعبادتك ولخدمتك. { ما في بطني } ما مبهمة يحتمل أن يكون ذكرا أو أنثى وإن كان الغالب أن يكون المنذور ذكرا ولذلك قالت: { محررا } بصفة الذكر ومعناه مخلصا للعبادة والخدمة.
{ فتقبل مني } التقبل أخذ الشيء على الرضا به { إنك أنت السميع } لدعائي. { العليم } بنيتي وإذ منصوبة باذكر. وقيل بقوله: وآل عمران على تقدير واصطفى آل عمران فيكون من عطف الجمل لا من عطف المفردات. وقال الزمخشري تابعا للطبري: سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها وإذ منصوب به. " انتهى " ولا يصح ذلك لأن قوله: عليم، إما أن يكون خبرا بعد خبر أو وصفا لقوله: سميع، فإن كان خبرا فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما وإن كان وصفا فلا يجوز أن يعمل سميع في الظرف لأنه قد وصف واسم الفاعل، وما جرى مجراه إذا وصف قبل أخذ معموله لا يجوز له إذ ذاك أن يعمل على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك ولأن اتصافه تعالى بسميع عليم لا يختص ولا يتقيد بذلك الوقت وانتصب محررا على أنه حال من ما والعامل فيه نذرت ويكون حالا تقديرية ويبعد نصبه على الحال ويكون العامل فيه العامل في بطني، وهو الإستقرار وكذلك يبعد انتصابه انتصار المصدر على أن معنى نذرت حررت.
{ فلما وضعتها } أي النسمة وأنت على معنى ما. { قالت رب } على معنى التحسر على ما فاتها من أن يكون المولد ذكرا يصلح للخدمة. { وضعتهآ } أي وضعت النسمة.
{ أنثى } نصب على الحال. (قال) الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز انتصاب أنثى حالا من الضمير في وضعتها وهي كقولك: وضعت الأنثى أنثى. قلت: الأصل وضعته أنثى وإنما أنت لتأنيث الحال لأن الحال وذا الحال شيء واحد كما أنث الإسم في من كانت أمك لتأنيث الخبر. ونظيره قوله تعالى:
فإن كانتا اثنتين
[النساء: 176]. " انتهى ". وآل قوله إلى أن أنثى تكون حالا مؤكدة ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال عن أن تكون الحال مؤكدة وأما تشبيهه ذلك بقوله: من كانت أمك حيث عاد الضمير على معنى من فليس ذلك نظير وضعتها أنثى لأن ذلك حمل على معنى من إذ المعنى أية امرأة كانت أمك أي كانت هي المرأة أمك فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر، وإنما هو من باب الحمل على معنى من، ولو فرضنا أنه تأنيث للإسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير وضعتها أنثى لأن الخبر تخصص بالاضافة إلى الضمير فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الإسلام بخلاف أنثى فإنه لمجرد التأكيد، وأما تنظيره بقوله: فإن كانتا اثنتين فيفي انه ثنى الإسم لتثنية الخبر وتخريجه مشكل، وسيأتي الكلام عليه من موضعه. وقرىء وضعت بضم التاء وهو من كلامها وكأنها خاطبت نفسها. وقرىء بإسكان التاء وليس الذكر الذي طلبته ورجوته مثل الأنثى التي علمها وأرادها وقضى بها ولعل هذه الأنثى تكون خيرا من الذكر إذا أرادها الله تعالى سلت نفسها بذلك. قال ابن عطية: كالأنثى في امتناع نذره إذ الأنثى تحيض ولا تصلح لصحبة الرهبان قاله بعض التابعين. وبدأت بذكر الأهم في نفسها وإلا فسياق الكلام أن تقول وليست الأنثى كالذكر فتضع حرف النفي مع الشيء الذي عندها وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المراد. " انتهى ". وعلى هذا الاحتمال تكون الألف واللام في الذكر للجنس. وقرىء وضعت بكسر التاء مخاطبها الله بذلك أي انك لا تعلمين قدر هذه الموهوبة وما علمه الله تعالى من عظم شأنها وعلو قدرها. ومريم معناه في كلامهم العابدة تفاءلت بذلك لتكون عابدة لله مطيعة له وخاطبت الله تعالى لترتب الإستعاذة بالله تعالى لها ولذريتها، وقال الزمخشري: وهي يعني.
{ وإني سميتها مريم } على قراءة من قرأ وضعت بسكون التاء أو بكسرها معطوفة على أني وضعتها أنثى وما بينهما جملتان معترضتان كقوله تعالى:
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم
[الواقعة: 76]. انتهى. ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان لأنه يحتمل أن يكون وليس الذكر كالأنثى في هذه القراءة من كلامها ويكون المعترض جملة واحدة كما كان من كلامها في قراءة من قرأ وضعت بضم التاء. وتشبيه الزمخشري هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما المعطوف والمعطوف عليه على زعمه بقوله:
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم
[الواقعة: 76] ليس تشبيها مطابقا للآية، لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب بل اعترض بين القسم الذي هو:
فلا أقسم بمواقع النجوم
[الواقعة: 75]، وجوابه الذي هو: انه لقرآن كريم، بجملة واحدة وهي قوله:
وإنه لقسم لو تعلمون عظيم
[الواقعة: 76]، لكنه جاء في جملة الاعتراض بين بعض أجزائه وبعض اعتراض بجملة وهو قوله: لو تعلمون، اعترض به بين المنعوت الذي هو لقسم وبين نعته الذي هو عظيم، فهذا اعتراض في اعتراض وليس فصلا بجملتي اعتراض كقوله: والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى.
[3.37-41]
{ فتقبلها ربها بقبول حسن } القبول مصدر بفتح القاف وهو مصدر قبل جعل تقبل بمعنى قبل كعجب وتعجب والباء الظاهر انها زائدة أي فقبلها قبولا حسنا وقيل الباء ليست بزائدة فالقبول اسم لما يقبل به الشيء. كالسعوط.
{ وأنبتها نباتا حسنا } عبارة عن حسن النشأة والجودة في خلق وخلق وإنشائها على الطاعة والعبادة. قال ابن عباس: لما بلغت تسع سنين صامت النهار وقامت الليل حتى أربت على الأحبار وقيل لم تجر عليها خطيئة. وانتصب نباتا على أنه مصدر على غير المصدر أو مصدر لفعل محذوف أي فنبتت نباتا حسنا.
وقرىء { وكفلها زكريا } أي ضمها إليه حالة التربية. وقرىء وكفلها زكريا أي كفلها الله تعالى. ويقال كفل. يكفل كعلم ويعلم وكفل يكفل كقتل يقتل لغتان. وقرىء فتقبلها وأنبتها وكفلها على الأمر وربها على النصب نداء منها فتكون الجمل إذ ذاك من كلام أم مريم دعت ربها بهذه الدعوات. وقرىء زكريا بالمد والقصر ويأتي الكلام في سبب تكفيل زكريا مريم. قال ابن اسحاق: كان زكريا تزوج خالتها لأنه وعمران كانا سلفين على أختين فولدت امرأة زكريا يحيى وولدت امرأة عمران مريم وزكريا نبي معصوم وهو ابن داود بن مسلم وهو من ولد سليمان عليه السلام. قال ابن إسحاق: ضمها إلى خالتها أم يحيى حتى إذا شبت وبلغت مبلغ النساء بني لها محرابا في المسجد وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليه ألا بسلم مثل باب الكعبة ولا يصعد إليها غيره.
{ كلما } تدل على التكرار وتقدم الكلام عليها في البقرة والعامل فيها فعل ماض وقد جاء مضارعا قليلا في قول الشاعر:
علاه بسيف كلما هز يقطع
أي قطع وقيل هنا كلام محذوف تقديره فلما صلحت للعبادة احتجبت عن أهلها في مكان بعيد منفردة للعبادة وكان زكريا يأتيها وتبناها إذ كان هو كافلها. والرزق هنا قيل: هو فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ولم يعين في القرآن، ولا صح تعيينه في ألسنة ولما استغرب زكريا ذلك.
{ قال يمريم أنى لك هذا } أي من أين لك هذا فأجابته بقوله: { هو من عند الله } أي هو مسبب الأشياء وموجدها. وجوابها لسؤاله ظاهره أنه لم يأت به آدمي البتة بل هو رزق يتعهدني به الله تعالى.
{ إن الله يرزق } ظاهره أنه من كلام مريم عليها السلام. { هنالك } إسم إشارة للمكان البعيد. قيل: وقد يستعمل للزمان، ولما كان المحراب مكان عبادة وكرامة لمريم.
{ دعا زكريا } فيه بأن يهب الله له ذرية طيبة ولما كان دعاؤه على سبيل ما لا تسبب فيه لكبر سنه وعقر امرأته وكان وجوده كالوجود من غير سبب أي هبة مخصة منسوبة إلى الله تعالى، بقوله: { من لدنك } أي من جهتك بمحض قدرتك من غير توسط سبب.
وختم بقوله: { إنك سميع الدعآء } أي مجيبه. كما ختمت أم مريم دعاءها في قولها: فتقبل مني إنك أنت السميع العليم. وطيب الذرية كونها صالحة خالصة لعبادة الله كما جاءت مريم كذلك.
{ فنادته الملائكة } ظاهره أنها باشرته بالنداء ليلقى سمعه إلى ما تكلمه الملائكة وتخبره عن تبشير الله له بالهبة وانه تعالى قبل دعاءه في ذلك. { وهو قائم } جملة حالية نادته حالة التباسه بهذه العبادة العظيمة وهي الصلاة في المكان الشريف المخصوص بالعبادة. { بيحيى } أي بولادة يحيى منك ويحيى علم. والظاهر أنه أعجمي لأنه ليس من لسانهم وقرىء فناداه وفنادته. وقرىء ان الله يكسر الهمزة على تقدير قول محذوف في مذهب أهل البصرة وفي إجراء النداء مجرى القول في مذهب الكوفيين وبفتحها على تقدير الباء أي بأن الله. وقرىء يبشرك مخفف الشين، ويبشرك مضارع بشر بتشديد الشين ويبشرك مضارع أبشر بالهمزة. { مصدقا بكلمة } هي عيسى عليه السلام وأطلق عليه كلمة لأنه ناشىء عن لفظ كن المستعار لسرعة التكوين. وقرىء بكلمة بكسر الكاف وسكون اللام في جميع القرآن. { وسيدا } السيد المطاع الفائق أقرانه والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة على ذلك. وترتبت هذه الأوصاف لحسن ترتيب بدأ فذكر التصديق أولا وهو الإيمان ثم السيادة وهو كونه فاق الناس في الخصال الحميدة ثم الحصر من النساء اللاتي هن ملاذ الرجال، ثم النبوة التي هي أشرف الأوصاف. وتقدم الكلام في الصلاح ما هو في البقرة في قوله:
لمن الصالحين
[البقرة: 130]. وصفات يحيى هذه مقابلة لصفات مريم اشتركا في التصديق وفي السيادة إذ كان سيد بني إسرائيل وكانت سيدة نساء العالمين وكان لا يأتي النساء وكانت عذراء. وقد قيل: انها كانت نبية لقوله تعالى:
فأرسلنآ إليهآ روحنا
[مريم: 17].
{ قال رب أنى يكون لي غلام } تقدم أن الملائكة بشرته بيحيى فسأل عن كيفية ذلك أيكون ذلك مع كوننا في سن من لا يولد له لكبر عمره أم ذلك على رجوعنا إلى الشبيبة، فأخبره تعالى أنه يولد لهما على علو سنهما من الكبر حتى قيل أن عمره كان مائة سنة وعشرين سنة وعمرها ثمانية وتسعين سنة. وقال الزمخشري: استبعاد من حيث العادة. كما قالت مريم. " انتهى ". وعلى ما قاله لو كان استبعادا لما سأله بقوله: رب هب لي من لدنك ذرية طيبة، لأنه لا يسأل إلا ما كان ممكنا لا سيما الأنبياء لأن خرق العادة في حقهم كثير الوقوع. { وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر } جملتان حاليتان صدرت الأولى بالفعل الماضي، والثانية اسمية، لأن بلوغ الكبر مما يتجدد والعقر لا يتجدد وبلوغه تأثيره فيه وهو على سبيل المجاز.
وفي سورة مريم وقد بلغت من الكبر عتيا.
{ كذلك الله يفعل ما يشآء } أي مثل ذلك الفعل، وهو تكون الولد بين الفاني والعاقر يفعل الله ما يشاء من الأفعال الغريبة فيكون إخبارا عن الله أنه يفعل الأشياء التي تتعلق بها مشيئته فعلا مثل ذلك الفعل لا يعجزه شيء بل سبب إيجاده هو تعلق الإرادة سواء أكان من الأفعال الجارية على العادة أم من التي لا تجري على العادة فتكون الكاف في موضع نصب والعامل يفعل. وقيل: كذلك الله مبتدأ وخبر فتكون في موضع رفع وعلى حذف مضاف أي كذلك صنع الله أو فعله ويفعل ما يشاء جملة مفسرة للإبهام الذي في اسم الإشارة.
{ قال رب اجعل لي آية } سؤال عن الجهة التي بها يكون الولد وتتم البشارة فلما قيل له.
{ كذلك الله يفعل ما يشآء } سأل علامة على وقت الحمل ليعرف متى يكون العلوق بيحيى.
{ قال آيتك ألا تكلم الناس } الظاهر أنه سأل آية تدل على أنه يولد له فأجابه بأن آيته انتفاء الكلام منه مع الناس ثلاثة أيام إلا رمزا وانتفاء الكلام قد يكون لتكليف به أو بملزومه في شريعتهم وهو الصوم أو لمنع قهري مدة معينة لآفة تعرض في الجارحة أو لغير آفة قالوا مع قدرته على الكلام بذكر الله سبحانه وتعالى. (قال) الزمخشري: ولذلك قال: واذكر ربك إلى آخره، يعني في أيام عجزك عن تكليم الناس وهي من الآيات الباهرة. " انتهى ". ولا يتعين ما قاله لما ذكرناه من احتمالات وجوه الانتفاء ولأن الأمر بالذكر والتسبيح ليس مقيدا بالزمان الذي لا يكلم الناس فيه وعلى تقدير تقييد ذلك لا يتعين أن يكون الذكر والتسبيح بالنطق والكلام وانتصب ثلاثة أيام على الظرف لا على المفعول به خلافا للكوفيين لانتفاء الفعل في جميعها ودخل في الأيام الليالي ألا ترى إلى قوله ثلاث ليال سويا.
{ إلا رمزا } ظاهره أنه استثناء منقطع، وقيل: متصل. والرمز الإشارة بالشفتين أو العين أو الحاجب أو اليد. وقرىء رمزا بضمتين وهو مصدر جاء على فعل. وقرىء رمزا بفتحتين وهو مصدر كقولهم: غلب غلبا. { واذكر ربك } الظاهر أنه باللسان. { وسبح } مفعوله محذوف. أي وسبحه والظاهر أنه أريد { بالعشي } آخر النهار. { والإبكار } أوله، إذ العشي: وقت ارتفاع الأعمال، والإبكار: وقت ابتدائها. وقرىء والإبكار بفتح الهمزة جمع بكر. تقول: آتيك بكرا أي بكرة.
[3.42-44]
{ وإذ قالت الملائكة يمريم إن الله اصطفك } لما فرغ من قصة زكريا وكان قد استطرد من قصة مريم إليها رجع إلى قصة مريم والمقصود تبرئة مريم عليها السلام مما رمتها به اليهود وفي نداء الملائكة لها باسمها تأنيس لها وتوطئة لما تلقيه إليها. قال الزمخشري: روي أنهم كلموها شفاها معجزة كزكريا عليه السلام لنبوة عيسى. " انتهى ". يعني بالإرهاص التقدم والدلالة على نبوته وهذا مذهب المعتزلة أن الخارق للعادة عندهم لا يكون على يد على غير نبي إلا إن كان في وقت نبي أو انتظار بعث نبي فيكون ذلك الخارق مقدمة بين يدي بعثه ذلك النبي.
{ وطهرك } قال ابن عباس: وطهرك من دم الحيض. وقال الزمخشري: اصطفاك أولا حين تقبلك من أمك ورباك واختصك بالكرامة السنية وطهرك مما يستقذر من الأفعال ومما قذفك به اليهود.
{ واصطفك } آخرا. { على نسآء العلمين } بأن وهب لك عيسى من غير أب ولم يكن ذلك لأحد من النساء. " انتهى ". وهو كلام حسن.
{ يمريم اقنتي } أمرت بالصلاة فذكر أركانها من القنوت وهو القيام والسجود وهو وضع الجبين على الأرض والركوع وهو انحناء الظهر، وقدم السجود على الركوع لأنه أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد. والعطف بالواو لا يدل على الترتيب الزماني. وقد يكون الركوع في ملتهم متأخرا عن السجود. قال ابن عطية: هذه الآية أشد اشكالا من قولنا: قام زيد وعمرو، لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة. وقد علم ان السجود بعد الركوع فكيف جاءت الواو بعكس ذلك. " انتهى ". وهذا كلام من لم يمعن النظر في كلام سيبويه. فإن سيبويه ذكر أن الواو تكون معها في العطف المعية وتقديم السابق وتقديم اللاحق يحتمل ذلك احتمالات سواء ولا يترجح أحد الإحتمالات على الآخر. ومع في قوله : مع الراكعين، تقتضي الصحبة والاجتماع في إيقاع الركوع مع من يركع والظاهر التجوز في لفظة مع فتكون للموافقة في الفعل فقط لأنها كانت في عبادتها تنفرد من أهلها كما قال تعالى:
فاتخذت من دونهم حجابا
[مريم: 17]، وجاء الراكعين جمع سلامة ويعم المذكرين والمؤنثات بالتغليب.
{ ذلك } الإشارة إلى اخبار الله تعالى باصطفائه آدم وما بعد ذلك من القصص ذلك مبتدأ. " ومن أنباء " الخبر. " ونوحيه إليك " الضمير المنصوب عائد على الغيب أي من شأننا أن نوحي إليك بالمغيبات ولو كان الضمير عائدا على ذلك لكان بصيغة الماضي فكان التركيب أوحيناه إليك لأن الإيحاء به قد وقع.
{ وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم } روي أن منة لما ولدت مريم لفتها في خرقة وحملتها إلى المسجد فوضعتها عند الأحبار أبناء هارون وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة فقالت لهم دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لأنها كانت بنت أمامهم وصاحب قرباتهم وكان بغوا مائتان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم، فقال لهم زكريا: أنا أحق بها عندي خالتها.
فقالوا: لا حتى نقترع عليها. فانطلقوا وكانوا سبعة وعشرين إلى نهر قيل: هو نهر الأردن وهو قول الجمهور وقيل إلى عين ماء كانت هناك فألقوا فيه أقلامهم فارتفع قلم زكريا ورسبت أقلامهم فكفلها. والخطاب في قوله: وما كنت لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو تقرير وتثبيت ان ما علمه من ذلك إنما هو بوحي من الله تعالى والمعلم به قصتان قصة مريم وقصة زكريا فنبه على قصة مريم إذ هي المقصودة بالاخبار أولا وإنما جاءت قصة زكريا على سبيل الاستطراد والاندراج بعض قصة زكريا في ذكر من يكفل فما خلت من تنبيه على قصته. ويعني وما كنت لديهم، أي وما كنت معهم بحضرتهم إذ يلقون أقلامهم ونفي المشاهدة وإن كانت منتفية بالعلم ولم ينف القراءة والتلقي من حفاظ الأنبياء على سبيل التهكم بالمنكرين للوحي وقد علموا أنه ليس ممن يقرأ ولا ممن ينقل عن الحفاظ للأخبار فتعين أن يكون علمه بذلك عن وحي من الله إليه ، ونظيره في قصة موسى وما كنت بجانب الغربي وما كنت بجانب الطور وفي قصة يوسف وما كنت لديهم إذا جمعوا أمرهم. والضمير في لديهم عائد على غير مذكور بل على ما دل عليه المعنى أي وما كنت لدى المتنازعين كقوله: فأثرت به نقعا، أي بالمكان والعامل في إذ العامل في لديهم. وقال أبو علي الفارسي: العامل في إذ كنت. " انتهى ". ولا بناس ذلك مذهبه في مكان الناقصة لأنه يزعم أنها سلبت الدلالة على الحدث وتجردت للزمان وما سبيله هذا فكيف يعمل في الظرف لأن الظرف دعاء للحدث ولا حدث فلا تعمل فيه والمضارع بعد إذ في معنى الماضي أي إذ ألقوا أقلامهم للإستهام على مريم والظاهر أنها الأقلام التي للكتابة قيل كانوا يكتبون بها التوراة فاختاروها للقرعة تبركا بها. ومعنى الإلقاء: الرمي والطرح. ولم يذكر في الآية ما الذي ألقوها فيه ولا كيفية حال الإلقاء وكيف خرج قلم زكريا.
و { أيهم } مبتدأ وما بعده خبره والجملة في موضع نصب اما على الحكاية بقول محذوف أي يقولون أيهم يكفل مريم وأما بعلة محذوفة أي ليعلموا أيهم يكفل مريم وأما بحال محذوفة أي ينظرون أيهم يكفل مريم ودل على المحذوف يلقون أقلامهم.
[3.45-47]
{ إذ قالت الملائكة } العامل في إذا ذكر ويبعد أن يكون بدلا من إذ أو يكون العامل فيه يختصمون.
{ بكلمة منه } هو عيسى وتقدم المراد بكلمة في قصة زكريا.
{ اسمه المسيح } والضمير في اسمه عائد على الكلمة على معنى يبشرك بمكون منه أو بموجود من الله وسمي المسيح لأنه مسح بالبركة. وأل في المسيح للغلبة كهي في الدبران. واسمه المسيح مبتدأ وخبر وذكر الضمير في اسمه على معنى الكلمة ولم يؤنث على اللفظ. وعيسى: اسم أعجمي بدل من المسيح، وابن مريم صفة لعيسى. وفي كلام الزمخشري ما يدل على أن اسمه المجموع من قوله المسيح عيسى ابن مريم وفيه بعد. والمسيح لقب بدأ به لأنه أشهر من عيسى إذ لا ينطلق على غيره وعيسى قد يقع على غيره وامتنع عيسى من الصرف للعجمة والعلمية وليست ألفه للتأنيث خلافا لمن قال ذلك. وأصله في لسانهم أيسوع.
{ وجيها } فعيل من وجه أي أعظم قدرة وجاهة. { في الدنيا } بنبوته { والآخرة } بعلو درجته. { ومن المقربين } قال الماوردي: معناه المبالغ في تقريبهم لأن فعل من صيغ المبالغة يقال: قربه يقربه إذا بالغ في تقريبه. " انتهى ". وليس فعل هنا من صيغ المبالغة لأن التضعيف هنا للتعدية إنما يكون للمبالغة في نحو: جرحت زيدا وموت الناس ومن المقربين معطوف على قوله: وجيها، تقديره ومقربا من جملة المقربين والتقريب بالمكانة والشرف لا بالمكان.
{ ويكلم الناس في المهد وكهلا } وعطف، ويكلم حال أيضا على وجيها ونظيره صافات ويقبضن أي وقابضات وجاء بالمضارع الذي يقتضي التجدد ووجيها بالإسم الذي يقتضي الثبوت، وكهلا معطوف على في المهد أي كائنا في المهد وكهلا يشير إلى أن تكليمه في المهد يكون كتكليمه كهلا وفيه إشارة إلى أنه يعيش الى حد الكهولة.
{ قالت رب أنى يكون لي ولد } استفهام معناه التعجب لأن وجود ولد من غير ذكر لم يعهد وهو أغرب من قصة زكريا.
{ ولم يمسسني بشر } جملة في موضع الحال. وقد فهمت من نسبته إليها في قوله: ابن مريم انه لا والد له فاستغربت ذلك وتعجبت منه.
{ قال كذلك الله يخلق ما يشآء } تقدم إعرابه في قصة زكريا وهناك يفعل لأنه ممكن إذ هو بين ذكر وأنثى مسنين. وهنا يخلق لأنه لم يعهد مولود من غير ذكر فجاء بلفظ يخلق الدال على الإختراع الصرف من غير مادة ذكر.
{ إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون } تقدم الكلام عليه في البقرة.
[3.48-51]
{ ويعلمه الكتب } الكتاب هنا مصدر كتب قال ابن عباس: أي الخط باليد. { والتوراة } هي الملة على موسى. { والإنجيل } هو المنزل على عيسى عليهما السلام. وقرىء ونعلمه بالنون والياء. { ورسولا } منصوب بإضمار فعل أي ونجعله رسولا. وأجاز الزمخشري وابن عطية أن يكون معطوفا على وجيها يعلمه فيكون حالا التقدير ومعلما الكتاب فهذا كله عطف بالمعنى على قوله وجيها وهو ضعيف لطول الفصل بين المتعاطفين . وأجاز ابن عطية أن يكون منصوبا على الحال من الضمير المستكن في ويلكم فيكون معطوفا على قوله: وكهلا أي ويكلم الناس طفلا وكهلا ورسولا إلى بني إسرائيل وهو بعيد جدا لطول الفصل بين المتعاطفين. وقوله وقول الزمخشري عجمة قبيحة لا تصدر بين متمكن في الفصاحة. وأجاز الزمخشري أن يكون منصوبا على إضمار فعل من لفظ رسول ويكون ذلك الفعل معمولا لقول عيسى التقدير ويقول: أرسلت رسولا إلى بني إسرائيل واحتاج إلى هذا التقدير كله لقوله: اني قد جئتكم وقوله: ومصدقا لما بين يدي أن لا يصح في الظاهر حمله على ما قبله من المنصوبات لاختلاف الضمائر لأن ما قبله ضمير غائب وهذان ضميرا متكلم فاحتاج إلى هذا الإضمار لتصحيح المعنى. قال: وهو من المضايف يعني من المواضع التي فيها اشكال، وهذا الوجه ضعيف إذ فيه إضمار شيئين القول ومعموله الذي هو أرسلت والاستغناء عنهما باسم منصوب على الحال المؤكدة إذ يفهم من قوله: وأرسلت، أنه رسول نهي على هذا لتقدير حال مؤكدة. وقرأ اليزيدي ورسول بالجر وخرجها الزمخشري على أنها معطوفة على بكلمة منه وهي قراءة شاذة في القياس لطول البعد بين المعطوف عليه والمعطوف. وقرىء أنى بفتح الهمزة معمولا لقوله: ورسوله، أي وناطقا بأني قد جئتكم. وبكسر الهمزة أي قائلا.
{ أني قد جئتكم بآية من ربكم }. وهي العلامة ثم أخذ في تفسيرها، فقال: { أني أخلق لكم من الطين } أي أصور. { كهيئة الطير } أي مثل صورته. وقرىء اني أخلق بفتح الهمزة وكسرها. وقوله: من الطين تقييد بأنه لا يوجد من العدم الصرف بل ذكر المادة التي يشكل منها صورة الطير. وقرىء كهية بكسر الهاء وياء مشددة وتواطىء النقل عن المفسرين ان الطائر الذي خلقه عيسى كان يطير ما دام الناس ينظرون إليه فإذا غاب عن أعينهم سقط ميتا ليتميز فعل المخلوق عن فعل الخالق والظاهر ان هذه الفوارق كلها تفسير للآية التي جاء بها دالة على صحة رسالته وإن ذلك ليس باقتراح منهم. والطير قيل: هو الخفاش وهو غريب الشكل والوصف، والأكمه: المولود أعمى، يقال: من كمه يكمه، البرص: داء معروف وهو بياض يعتري الجلد، يقال. منه: برص فهو أبرص.
{ وأحي الموتى } لم يذكر تعيين من أحياه وذكر المفسرون ناسا والله أعلم بصحة ذلك. { وأنبئكم بما تأكلون } كان عليه الصلاة والسلام ينبئهم بتعيين ما أكلوا وتعيين ما ادخروا. وأتى بهذه الخوارق الأربع مصدرة بالمضارع الدال على التجدد والحالة الدائمة، وبدأ بالخلق الذي هو أعظم في الإعجاز، وثني بإبراء الأكمه والأبرص، وأتى بالثالث بإحياء الموتى وهو خارق شاركه فيه غيره بإذن الله كررها دفعا لمن توهم فيه الإلهية وكان بإذن الله عقب قوله: انني أخلق، وعطف عليه: وابرىء الأكمه والأبرص، ولم يذكر بإذن الله اكتفاء به في الخارق الأعظم، وعقب قوله: وأحيي الموتى بقوله: بإذن الله، وعطف عليه وأنبئكم ولم يذكر فيه بإذن الله لأن أحياء الأموات أعظم من الاخبار بالمغيبات فاكتفى به في الخارق الأعظم أيضا فكل واحد من الخارقين الأعظمين قيد بقوله: بإذن الله، ولم يحتج إلى ذلك فيما عطف عليهما اكتفاء بالأول إذ كل هذه الخوارق لا تكون إلا بإذن الله. وقرىء وما تدخرون بفك الذال عن الدال.
{ إن في ذلك } إشارة إلى ما تقدم من هذه الخوارق. { ومصدقا } انتصب على أنه معطوف على قوله: بآية على أن بآية في موضع الحال تقديره جئتكم مصحوبا بآية ومصدقا ولأحل: اللام لام كي وهو معطوف على علة محذوفة التقدير لأخفف عنكم ولاحل أو على فعل متأخر التقدير ولا حل لكم جئت قال الزمخشري ولأهل رد على قوله: بآية من ربكم أي جئتكم بآية من ربكم ولا حل لكم. " انتهى ". ولا يستقيم أن يكون ولا حل ردا على بآية لأن بآية في موضع حال ولا حل تعليل ولا يصح عطف التعليل على الحال لأن العطف بالحرف المشرك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوف عليه والذي أحل لحوم الإبل والشحوم وأشياء من السمك وما لا صيصية له من الطير. وقرىء حرم مبنيا للمفعول الذي لم يسم فاعله وحرم مبنيا للفاعل.
{ وجئتكم بآية من ربكم } الظاهر أنها للتوكيد في قوله قد جئتكم بآية من ربكم. ولما طال ما بينهما أكد وان كانت للتأنيث فيختلف مدلول الآيتين وتكون الثانية مخصوصة بالكتاب الذي جاء به وهو الإنجيل فاتفق ظهور تلك الفوارق وظهور هذا الكتاب الإلهي.
[3.52-55]
{ فلمآ أحس } الإحساس الإدراك بالحاسة ولما كان كفرهم واضحا مصرحا به جعل كأنه مبصر مسموع. ويقال: أحس متعديا لمفعول به وحسست متعديا بالباء وقد أبدلت سين حسست الثانية ياء إذا اتصل بها بعض الضمائر وقد حذفت قالوا أحسست وكذلك سين أحس مع بعض الضمائر، تقول: أحست والكفر كفرهم بنبوته وطلب قتله ولذلك:
{ قال من أنصاري إلى الله } أي أنصاري مضافين إلى نصر الله إياي، والحواريون أصفياء عيسى: قاله ابن عباس، وقال مصعب: الحواريون كانوا اثني عشر رجلا يسيحون معه يخرج لهم ما احتاجوا إليه من الأرض.
{ نحن أنصار الله } أي أنصار نبي الله ودينه ثم أخبروا بما حملهم على النصرة وهو الإيمان بالله وأكدوا ذلك بقولهم: { واشهد } فجاز أن يكون الضمير عائدا على عيسى أو عائدا على الله، أي وأشهر يا ربنا. وأكدوا ذلك بقولهم: { ربنآ آمنا بمآ أنزلت } الآية.
{ ومكروا } الضمير عائد على الذين أحس منهم الكفر. ومكرهم باحتيالهم على قتله وقتل أصحابه ومكر الله: مجازاتهم على مكرهم، سمي ذلك مكرا لأن المجازاة لهم ناشئة عن المكر، كقوله:
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40].
{ إذ قال الله يعيسى } القول بواسطة ملك. لأنه عليه السلام لم يكن مكلما كموسى عليه السلام. { متوفيك } والظاهر أن معنى " متوفيك " مميتك ورافعك إلى. والواو لا تقتضي ترتيبا أي مميتك بعد رفعك ألي. وبدأ بقوله: { متوفيك }؛ إخبارا بأنه مخلوق من مخلوقاته ليس بآله. وقيل: معنى متوفيك أي بالنوم أو قابضك من الأرض، وأجمعت الأمة على أن عيسى عليه السلام حي في السماء وسينزل الى الأرض إلى آخر الحديث الذي صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
{ ورافعك إلي } الرفع النقل من سفل الى علو. { ومطهرك } أي مخلصك جعلهم نجسا. { وجاعل الذين اتبعوك } أي على دينك وما جئت به عن الله من الدين والتبشير بمحمد صلى الله عليه وسلم وإلزام الناس شريعته.
{ فوق الذين كفروا } هم اليهود وشردهم الله أي تشريد بأنه ليس لهم ملك ولا مدينة يختصمون بها بل هم مغرقون في أقطار الأرض تحت قهر المسلمين وتحت قهر النصارى وتحت قهر المجوس.
{ ثم إلي مرجعكم } هذا إخبار بالحشر والبعث. والمعنى ثم إلى حكمي. وهذا من الإلتفات، لأنه سبق ذكر مكذبيه وهم اليهود وذكر من آمن به وهم الحواريون وأعقب ذلك قوله: وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا. فذكر متبعيه والكافرين ولو جاء على نمط هذا السياق لكان التركيب ثم إلي مرجعهم، ولكنه التفت على سبيل الخطاب للجميع ليكون الاخبار أبلغ في التهديد وأشد زجرا لمن ينزجر، ثم ذكر لفظة: إلي، ولفظة: فأحكم، بضمير المتكلم ليعلم أن الحاكم هناك من لا تخفى عليه خافية، وذكر أنه يحكم فيما اختلفوا فيه من أمر الأنبياء واتباع شرائعهم وأتى بالحكم مبهما ثم فصل المحكوم بينهم إلى كافر ومؤمن وذكر جزاء كل واحد منهم.
[3.56-60]
{ فأما الذين كفروا } بدأ في التفصيل بالكفار لأن ما قبله من ذكر حكمه تعالى بينهم هو على سبيل التهديد والوعيد للكفار والاخبار بجزائهم فناسب في البداءة بهم ولأنهم أقرب في الذكر بقوله:
فوق الذين كفروا
[آل عمران: 55]، ولكون الكلام مع اليهود الذين كفروا بعيسى عليه السلام وراحوا قتله، ثم أتى ثانيا بذكر المؤمنين وعلق هناك العذاب على مجرد الكفر، وهنا علق توفية الأجر على الإيمان وعمل الصالحات تنبيها على درجة الكمال في الإيمان ودعاء إليها.
{ فأعذبهم } أسند الفعل الى ضمير المتكلم وحده وذلك ليطابق قوله:
فأحكم بينكم
[آل عمران: 55]، وفي هذه الآية قال: فيوفيهم، بالياء على قراءة حفص درويش وذلك على سبيل الإلتفات والخروج من ضمير التكلم الى ضمير الغيبة للتنوع في الفصاحة. وقرأ الجمهور فنوفيهم بالنون الدالة على المتكلم المعظم شأنه ولم يأت بالهمزة كما في تلك الآية ليخالف في الاخبار بين النسبة الإسنادية فيما يفعله بالكافر وبالمؤمن كما خالف في الفعل لأن المؤمن العامل للصالحات عظيم عند الله تعالى فناسب الإخبار عن المجازيين بنون العظمة.
{ ذلك } إشارة إلى ما تقدم من خبر عيسى وزكريا وغيرهما. { نتلوه } نسرده ونذكره شيئا بعد شيء، وأضاف التلاوة الى نفسه وإن كان الملك هو التالي تشريفا له. وجعل تلاوة المأمور تلاوة الآمر، وفي نتلوه التفات، لأن قبله ضمير غائب في قوله: لا يحب. ونتلوه: معناه تلوناه. كقوله:
واتبعوا ما تتلوا الشيطين
[البقرة: 102] ويجوز أن يراد به ظاهره من الحال لأن قصة عيسى لم يفرغ منها ويكون ذلك بمعنى هذا. (وقال) الزمخشري: يجوز أن يكون ذلك من قوله: ذلك نتلوه عليك بمعنى الذي ونتلوه صلته ومن الآيات الخبر. " انتهى ". وهذه نزعة كوفية يجيزون في أسماء الإشارة أن تكون موصولة ولا يجوز ذلك عند البصريين إلا في ذا وحدها إذا سبقها. ما الاستفهامية باتفاق أو من الاستفهامية باتفاق أو من الاستفهامية باختلاف وقد قال: يقول الزمخشري الزجاج قبله وتبعه هو وتقدير ذلك في النحو والآيات هنا الظاهر أنه يراد بها آيات القرآن ويحتمل أن يراد بها المعجزات والمستغربات أي يأتيهم بهذه الغيوب من قبلنا وبسبب تلاوتنا وأنت أمي لا تقرأ ولا تصحب أهل الكتاب فهي آيات لنبوتك: قاله ابن عباس والجمهور.
{ والذكر } القرآن. و { الحكيم } أي الحاكم أتى بصيغة المبالغة فيه ووصف بصفة من هو من سببه وهو الله تعالى أو كأنه ينطق بالحكمة لكثرة حكمه.
{ إن مثل عيسى عند الله } الآية قال ابن عباس وغيره:
" جادل وفد نجران النبي صلى الله عليه وسلم في أمر عيسى وقالوا: بلغنا أنك تشتم صاحبنا، وتقول: هو عبد. فقال صلى الله عليه وسلم: وما يضر ذلك عيسى أجل هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، فقالوا: هل رأيت بشرا قط جاء في غير فحل أو سمعت به فخرجوا. "
فنزلت. والمثل هاهنا بمعنى الصفة أي صفة عيسى في ولادته من غير أب على خلاف المعهود مثل صفة آدم في الغرابة والإنشاء من غير أب وأم ولا يلزم التشبيه بالشيء أن يكون من جميع وجوهه وأنكر بعض الناس أن يكون المثل بمعنى الصفة وتقدم نوع من هذا التركيب والكلام عليه في قوله:
مثلهم كمثل الذي استوقد نارا
[البقرة: 17] فأغنى عن إعادته. ومعنى عند الله أي عند من يعلم حقيقة الأمر وكيف هو.
{ خلقه من تراب } ذكر أصل نشئه أي صوره شكلا من تراب. { ثم قال له كن } أي كن بشرا سويا ذا روح وعقل. { فيكون } أي فهو يكون وهذه كناية عن سرعة الإيجاد نزل قابلية الشيء لما أراده الله منزلة الموجود المأمور القابل لامتثال الأمر. والجملة من قوله: خلقه، تفسيرية كمثل آدم فلا موضع لها من الإعراب وقد أجيز أن تكون محالا ومنعه بعضهم.
[3.61-64]
{ فمن حآجك فيه } أي من جادلك فيه أي في أمر عيسى لأنه المحدث عنه أولا في قوله: إن مثل عيسى، والمحاجة مفاعلة وهي من اثنين وقعت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين وفد نجران.
{ من بعد ما جآءك من العلم } وهو إخباره عليه السلام بولادة عيسى من غير أب وقصته إلى أن ذكر رفع الله إياه. { فقل تعالوا } قرىء بفتح اللام وهو الأصل وبضمها شاذا ووجهه أنه كان أصله تعاليوا فنقلت الضمة الى اللام فحذفت الياء لالتقاء الساكنين. { ندع } أي يدع كل مني ومنكم أبناءه ونساءه ونفسه الى المباهلة وفي صحيح مسلم لما نزلت هذه الآية. دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة وحسنا وحسينا فقال: اللهم هؤلاء أهلي. { ثم نبتهل } نتضرع: قاله ابن عباس.
{ فنجعل لعنت الله على الكاذبين } أي يقول كل منا لعن الله الكاذب منا في أمر عيسى وقد طول المفسرون في قصة المباهلة ومضمنها أنه لما دعاهم إلى المباهلة وخرج بالحسن والحسين وفاطمة وعلي الى الميعاد وانهم كفوا عن ذلك ومعلوم ان الكاذب هم النصارى وهو نظير قوله تعالى:
وإنآ أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين
[سبأ: 24]. ومعلوم ان الذي على الهدى هو محمد صلى الله عليه وسلم وأن الذين في الضلال المبين هم الكفار المخاطبون بقوله:
أو إياكم
[سبأ: 24]، وأبرز ذلك إبراز الاحتمال كما قال الشاعر:
أيا ظبية الوعساء بين حلاحل
وبين النقاء أأنت أم أم سال
وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ومن ثم كانوا يسوقون معهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ويسمون الدفع عنها بأرواحهم حماية الحوزة وحماية الحقائق وقدمهم في الذكر على الأنفس لينبه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنهم مقدمون على الأنفس مفدون بها وفيه دليل لا شيء أقوى منه على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
{ إن هذا لهو القصص الحق } الإشارة بهذا الى قصة عيسى عليه السلام وكونه مخلوقا من غير أب إلى سائر ما قص تعالى في أمره فليس بإله بل هو عبد من عبيده كما قال تعالى:
إن هو إلا عبد أنعمنا عليه
[الزخرف: 59]، ولذلك جاء بعده:
{ وما من إله إلا الله } فحصر الإلهية له تعالى. { وإن الله لهو العزيز الحكيم } إشارة إلى وصفي الألوهية وهما القدرة الناشئة عن الغلبة فلا يمتنع عليه شيء والعلم المعبر عنه بالحكمة فيما صنع والاتقان لما اخترع فلا يخفى عليه شيء. وهاتان الصفتان منفيتان عن عيسى عليه السلام. { فإن تولوا } يجوز أن يكون مضارعا حذفت منه التاء أصله تتولوا.
ويجوز أن يكون ماضيا وتوليهم عن ما جئت به في أمر عيسى وفي صحة نبوتك ومعنى علمه تعالى اطلاعه على أحوالهم فيعاقبهم على توليهم. و { بالمفسدين } جاء باسم الفاعل الدال على الثبوت وجاء جمعا ليعمهم وغيرهم من أهل الفساد.
{ قل يأهل الكتاب } قال ابن عباس: نزلت في القسيسين والرهبان بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم إلى جعفر وأصحابه بالحبشة فقرأها جعفر والنجاشي جالس وأشراف الحبشة. وقيل: نزلت في وفد نجران واللفظ عام فيهم وفي غيرهم.
{ سوآء } صفة للكلمة وهو مصدر وصف به أي مستوية. { بيننا وبينكم } وهذا دعاء إنصاف. وقرىء سواء بالنصب وخرج على أنه منصوب على المصدر بفعل محذوف استوت استواء ويجوز انتصابه على الحال من النكرة وإن لم توصف نص على ذلك سيبويه.
{ ألا نعبد إلا الله } في موضع جر على البدل من كلمة. { ولا نشرك به شيئا } توكيد للجملة التي قبلها لأن من أفرد العبادة لله تعالى وحصرها فيه لا يشرك بالله شيئا وانتصب شيئا على أنه مفعول به أو مصدر { ولا يتخذ بعضنا بعضا } أي لا نتخذهم. { أربابا } فنعتقد فيهم الالهية ونعبدهم على ذلك كعزير وعيسى عليهما السلام. { فإن تولوا } عن الإقرار بالكلمة. { فقولوا اشهدوا } أي اعلموا أنا مباينون لكم منقادون لها وهذه الآية في الكتاب الذي وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل.
[3.65-69]
{ لم تحآجون } ادعت اليهود ان إبراهيم عليه السلام كان يهوديا والنصارى قالوا كان نصرانيا وحاجوا في ذلك. وما في لم استفهامية حذفت ألفها أنكر سبحانه وتعالى عليهم دعواهم وبين أن اليهودية إنما هي منتسبة لمن أنزل عليهم التوراة، والنصرانية لمن أنزل عليهم الإنجيل، وهما إنما أنزلا بعد إبراهيم عليه السلام وهذا إلزام واضح.
{ أفلا تعقلون } تنبيه على عدم عقلهم إذ نسبوا شيئا متأخرا لمن كان متقدما. { فيما لكم به علم } أي على دعواكم في قصة عيسى عليه السلام إذ كانوا قد شاهدوه وإن كانوا قد نسبوه إلى ما لا يليق بما لا يكون له من ادعاء الإلهية فيه كما ادعت النصارى أو قذفه بما هو باطل كادعاء اليهود فيه.
{ فيما ليس لكم به علم } هي دعواهم من إبراهيم عليه السلام. { والله يعلم } أي دين إبراهيم الذي حاججتهم فيه. و { ما كان إبراهيم } الآية أعلم تعالى براءة إبراهيم من هذه الأديان وبدأ بانتفاء اليهودية لأن شريعة اليهود أقدم من شريعة النصارى وكرر لا لتأكيد النفي عن كل واحد من الدينيين ثم استدرك ما كان عليه. بقوله:
{ ولكن كان حنيفا مسلما } ووقعت لكن هنا أحسن مواقعها إذ هي واقعة بين النقيضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل ولما كان الكلام مع اليهود والنصارى كان الإستدراك بعد ذكر الانتفاء عن شريعتيهما ثم نفى على سبيل التكميل للتبري من سائر الأديان كونه من المشركين وهم عبدة الأصنام كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم وكالمجوس عبدة النار وكالصابئة عبدة الكواكب ولم ينص على تفصيلهم لأن الإشراك يجمعهم. { إن أولى الناس } الآية. وقال ابن عباس: قالت رؤساء اليهود والله يا محمد لقد علمت أنا أولى الناس بدين إبراهيم منك ومن غيرك وانه كان يهوديا وما بك إلا الحسد. فنزلت فأولى الناس أخضهم به وأقربهم منه في الولي وهو القرب وأولى أفضل تفضيل، والمفضل عليه محذوف تقديره منكم أهل الكتاب.
{ للذين اتبعوه } أي اتبعوا شريعته في زمانه وفي الفترات بعده. { وهذا النبي } يعني محمدا صلى الله عليه وسلم. وخص بالذكر من سائر من اتبعه لتخصيصه بالشرف والفضيلة. كقوله:
وجبريل وميكل
[البقرة: 98].
{ والذين آمنوا } [قيل: آمنوا] بمحمد صلى الله عليه وسلم وقرأ وهذا النبي عطفا على الضمير المنصوب في اتبعوه أي اتبعوا إبراهيم وهذا النبي. وقرىء بالجر عطفا على إبراهيم.
{ ودت طآئفة } أجمع المفسرون على أنها نزلت في يهود بني النضير وقريظة وقينقاع قالوا لمعاذ وعمار وحذيفة: تركتم دينكم واتبعتم دين محمد فنزلت: { لو يضلونكم } يردونكم إلى كفرهم. { وما يضلون إلا أنفسهم } أي بجحد نبوة محمد صلى الله عليه وسلم. { وما يشعرون } مبالغة في ذمهم حيث فقدوا المنفعة بحواسهم.
[3.70-71]
{ يأهل الكتاب } قال ابن عباس: هي التوراة والإنجيل وكفرهم بها من جهة تغيير الأحكام وتحريف الكلام أو الآيات التي في التوراة والإنجيل من وصف النبي صلى الله عليه وسلم والإيمان بهم كما بين بقوله:
يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
[الأعراف: 157].
{ لم تلبسون } تقدم الكلام على النهي عن لبسهم وكتمهم في البقرة. وهنا الإنكار عليهم في قوله: لم، وفي البحر أجاز الفراء والزجاج في وتكتمون من قوله: لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق. النصب فتسقط النون من حيث العربية على قولك: لم تجمعون ذا وذا فيكون نصبا على الصرف في قول الكوفيين وبإضمار ان في قول البصريين وأنكر ذلك أبو علي فقال: الاستفهام وقع على اللبس فحسب وأما تكتمون فخبر حتما لا يجوز فيه إلا الرفع يعني أنه ليس معطوفا على تلبسون بل هو استئناف خبر عنهم إنهم يكتمون الحق مع علمهم أنه حق. قال ابن عطية: قال أبو علي: الصرف هاهنا يقبح وكذلك إضمار أن لأن تكتمون معطوف على موجب مقرر ليس بمستفهم عنه وإنما استفهم عن السبب في اللبس واللبس موجب، فليست الآية بمنزلة قولهم: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، وبمنزلة قولك: أتقوم وأقوم. والعطف على الموجب المقرر قبيح متى نصب إلا في ضرورة شعر كما روي:
وألحق بالحجاز فاستريحا
وقد قال سيبويه في قولك: أسرت حتى تدخلها لا يجوز إلا النصب في تدخل لأن السير مستفهم عنه غير موجب. وإذا قلنا: أيهم سار حتى يدخلها رفعت لأن السير موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره. " انتهى ". ما نقله ابن عطية عن أبي علي. وظاهره تعارض ما نقله مع ما قبله لأن ما قبله فيه ان الإستفهام وقع على اللبس فحسب وأما تكتمون فخبر حتما لا يجوز فيه إلا الرفع وفيما نقله ابن عطية أن تكتمون معطوف على موجب مقرر وليس بمستفهم عنه فيدل العطف على اشتراكهما في الإستفهام عن سبب اللبس وسبب الكتم الموجبين وفرق بين هذا المعنى وبين أن يكون وتكتمون أخبارا محصنا لم يشترك مع اللبس في السؤال عن السبب وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أن الإستفهام إذا تضمن وقوع الفعل لا ينتصب الفعل بإضمار أن في جوابه تبعة في ذلك ابن مالك فقال في التسهيل حين عد ما تضمر أن لزوما في الجواب فقال: أو لاستفهام لا يتضمن وقوع الفعل فإن تضمن وقوع الفعل لم يجز النصب عنده نحو: لم ضربت زيدا فيجازيك، لأن الضرب قد وقع ولم نر أحدا من أصحابنا يشترط هذا الشرط الذي ذكره أبو علي وتبعه فيه ابن مالك في الإستفهام بل إذا تعذر سبك مصدر مما قبله أما لكونه ليس ثم فعل ولا ما في معناه ينسبك منه وإما لاستحالة سبك مصدر مراد استقباله لأجل معنى الفعل فإنما يقدر فيه مصدر مقدر استقباله مما يدل عليه المعنى فإذا قال: لم ضربت زيدا فأضربك أي ليكن منك تعريف بضرب زيد فضرب منا وما رد به أبو علي على أبي اسحاق ليس بمتجه لأن قوله: لم تلبسون، وليس نعتا على أن المضارع أريد به الماضي حقيقة إذ قد ينكر المستقبل لتحقق صدوره لا سيما على الشخص الذي تقدم منه وجود أمثاله ولو فرضنا أنه ماض حقيقة فلا رد فيه على أبي إسحاق لأنه كما قررنا قبل أنه إذا لم يكن سبق مصدر مستقبل من الجملة سبكناه من لازم الجملة وقد حكى أبو الحسن بن كيسان نصب الفعل في جواب الاستفهام حيث الفعل المستفهم عنه محقق الوقوع نحو: أين ذهب زيد فنتبعه، وكذلك في كم مالك فنعرفه، ومن أبوك فنكرمه، لكنه يتخرج على ما سبق ذكره من أن التقدير ليكن منك إعلام بذهاب زيد فاتباع منا وليكن منك إعلام بقدر مالك فمعرفة منا، وليكن منك إعلام بابيك فاكرام مناله.
" انتهى ". وقرأ عبيد بن عمير: لم تلبسوا وتكتموا، بحذف النون فيهما قالوا: وذلك جزم قالوا ولا وجه له سوى ما ذهب إليه شذوذ من النحاة في الحاق لم بلم في عمل الجزم.
(قال) السجاوندي ولا وجه له إلا أن لم تجزم الفعل عند قوم كلم. " انتهى ".
والثابت في لسان العرب أن لم لا ينجزم ما بعدها ولم أر أحدا من النحويين ذكر ان لم تجري مجرى لم في الجزم إلا ما ذكره أهل التفسير هنا وإنما هذا عندي من باب حذف النون حالة الرفع وقد جاء ذلك في النثر قليلا جدا وذلك في قراءة أبي عمرو من بعض طرقه قالوا: ساحران تظاهرا بتشديد الظاء أي أنتما ساحران تتظاهران فأدغم التاء في الظاء وحذف النون. وأما في النظم فنحو قول الراجز:
أبيت أسرى وتبيتي تدلكي
يريد تبيتين تدلكين. فقال آخر:
فإن يك قوم سرهم ما صنعتم
ستحتلبوها لاحقا غير باهل
{ وأنتم تعلمون } جملة حالية نص عليهم اللبس والكتم مع علمهم بما يترتب على ذلك من عقاب الله تعالى إياهم.
[3.72-74]
{ وقالت طآئفة من أهل الكتاب آمنوا } قال الحسن والسدي: تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر وقال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد واكفروا في آخر النهار وقولوا: إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس كذلك وظهر لنا كذبه وبطلان دينه فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم، وقالوا: هم أهل الكتاب فهم أعلم منا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم. فنزلت. وقال ابن عباس ومجاهد: صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم رجعوا آخر النهار فصلوا صلاتهم ليرى الناس أنه بدت لهم منه ضلالة بعد أن كانوا اتبعوه. فنزلت.
{ آمنوا } أظهروا الإيمان باللسان. { بالذي أنزل على الذين آمنوا } لم يصدقوا بأنه أنزل على المؤمنين وإنما معناه أنزل على زعمهم. { وجه النهار } أوله وانتصب على الظرف الزماني. { لعلهم } أي لعل الذين آمنوا. { يرجعون } عن دينهم إذ رأونا مضطربين في دينهم بفعلنا ذلك. { ولا تؤمنوا } أي لا تخلصوا الإيمان باللسان والإعتقاد.
{ قل إن الهدى هدى الله } ظاهره أنه جملة مستقلة أمر الله نبيه أن يقول هذا وهدى الله خبر ان وقيل: بدل من الهدى.
{ أن يؤتى } على قراءة من قرأ أن يؤتا بهمزة واحدة خبر إن أي أن هدى الله إيتاء واحد منكم. { مثل مآ أوتيتم } من العلم والخطاب بأوتيتم للكفار، ويكون أو يحاجوكم منصوبا بإخمار أن بعد أو بمعنى حتى أي حتى يحاجونكم عند ربكم فيغلبوكم ويدحضوا حجتكم عند الله ولا يكون أو يحاجوكم معطوفا على أن يؤتى وعلى أن يكون هدى الله خبر ان يكون المعنى مخافة أن يؤتى تعليلا لقوله: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، وتكون الجملة من قوله: قل ان الهدى هدى الله، اعتراضا بين العلة والمعلول. وقرأ ابن كثير أن يؤتى على الاستفهام الذي معناه الإنكار عليهم والتقرير والتوبيخ وهو مثبت من حيث المعنى قلتم ذلك وفعلتموه ويكون أو يحاجوكم معطوفا على يؤتى وأو للتنويع. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون قوله : أن يؤتى، بدلا من قوله: هدى الله، ويكون المعنى قل ان الهدى هدى الله وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن ويكون قوله: أو يحاجوكم، بمعنى أو فليحاجوكم فإنهم يغلبونكم. " انتهى " هذا القول وفيه الجزم بلام الأمر وهي محذوفة ولا يجوز ذلك على مذهب البصريين إلا في الضرورة. قال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب أن يؤتى بفعل مضمر يدل عليه قوله: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، كأنه قيل: قل ان الهدى هدى الله فلا تنكروا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم لأن قوله: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتوا. انتهى كلامه. وهو بعيد لأن فيه حذف حرف النفي ومعموله ولم يحفظ ذلك من لسانهم وكون أن نافية بمعنى لا قول مرغوب عنه.
{ قل إن الفضل بيد الله } وهذه كناية عن قدرة التصرف والتمكن فيها والبارىء تعالى منزه عن الجارحة.
[3.75-78]
{ ومن أهل الكتب من إن تأمنه } الآية ظاهرة أن أهل الكتاب منهم أمين ومنهم خائن. قال ابن عباس: من أن تأمنه بقنطار هو عبد الله بن سلام استودعه رجل من قريش ألفا ومائتي أوقية ذهبا فأداها إليه.
{ ومنهم من إن تأمنه بدينار } وهو فنحاص بن عازوراء استودعه رجل من قريش دينارا فجحده وخانه. " انتهى ". ولا ينحصر الشرط في ذينك المعنيين بل كل منهما فرد ممن يندرج تحت من ألا ترى كيف جمع في قوله: ذلك بأنهم قالوا ليس علينا وفي قصة السمؤل بن عاديا اليهودي، ووديعة امرىء القيس عنده وطلب الحارث بن أبي شمر الغساني ذلك منه دليل على الوفاء التام منه وإن كان يهوديا حتى ضرب به المثل فقيل أوفى من السمؤل والخطاب في تأمنه ظاهره انه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم:
و { بقنطار } كناية عن المال الكثير. و { بدينار } كناية عن المال القليل. وقرأ أبي تيمية في الحرفين بتاء مكسورة وياء ساكنة. (قال) ابن عطية: وما أراها إلا لغة قرشية وهي كسر النون التي للجماعة كنستعين، وألف المتكلم كقول: ابن عمر لا اخاله وتاء المخاطب كهذه الآية ولا يكسرون الياء في الغائب. " انتهى ". لم يبين ما تكسر فيه حروف المضارعة بقانون كلي وما ظنه من أنها لغة قرشية فليس كما ظن وقد بينا ذلك في كتابنا الكبير البحر في قوله: نستعين. وقرىء يؤده بالواو بوالهمزة ووصل الهاء بياء وباختلاس الحركة وبسكون الهاء وقائما ظاهره القيام وكني به عن قيام الإنسان على أشغاله واجتهاده والجزم فيها بأن لا تضيع فكأنه قائم على رأس المؤتمن على الدينار.
{ ذلك بأنهم قالوا } الآية روى أن بني إسرائيل كانوا يعتقدون استحلال أموال العرب لكونهم أهل أوثان فلما جاء الإسلام وأسلم من أسلم من العرب بقي اليهود فيهم على ذلك المعتقد فنزلت. وذلك إشارة إلى عدم أداء ما أؤتمن عليه والخيانة فيه.
{ في الأميين } أي في أخذ أموال الأميين وخيانتهم. { سبيل } أي اعتراض. { ويقولون على الله الكذب } أي القول الكذب يفترونه على الله بادعائهم ان ذلك في كتابهم. قال السدي وابن جريج وغيرهما: ادعت طائفة من أهل الكتاب أن في التوراة إحلال الله تعالى لهم أموال الأميين كذبا منهم وهي عالمة بكذبها فيكون الكذب المقول هنا هو الكذب المخصوص في هذا الفصل والظاهر أنه أعم من هذا فيندرج هذا فيه أي هم يكذبون على الله في غير ما شيء وهم علماء بموضع الصدق.
{ بلى } جواب لقولهم: ليس علينا في الأميين سبيل، والمعنى بلى عليهم في الأميين سبيل، { فإن الله يحب المتقين } جواب من أوفى فيحتمل أن يكون المتقين عاما يندرج فيه من أوفى أو كن بالمتيقن عمن أوفى فكأنه قال: يحبهم، ونبه على الصفة التي يحبهم لأجلها وهي التقوى.
{ إن الذين يشترون } نزلت في اليهود. { بعهد الله } أضاف المصدر إلى الفاعل أي بعهد الله إياهم وهو ما أخذه عليهم من الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم أو مضافا إلى المفعول أي بعهده الله. وتقدم تفسير شبيه هذه الآية في البقرة.
{ وإن منهم } أي من أهل الكتاب. { لفريقا يلوون } أي يفتلون. { ألسنتهم } بقراءته عن الصحيح إلى المحرف: قاله الزمخشري. وعن ابن عباس أيضا: هم اليهود الذين قدموا على كعب بن الأشرف غيروا التوراة وكتبوا كتابا بدلوا فيه صنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخذت قريظة ما كتبوه فخلطوه بالكتاب الذي عندهم. وقال ابن عطية: يحرفون ويتحيلون لتبديل المعاني من جهة اشتباه الألفاظ واشتراكها وتشعب التأويلات فيها؛ ومثال ذلك قولهم: راعنا واسمع غير مسمع، ونحو ذلك. وليس التبديل المحض. " انتهى ". والذي يظهر أن اللي وقع:
{ بالكتاب } أي بألفاظه لا بمعانيه وحدها كما يزعم بعض الناس بل التحريف والتبديل وقع في ألفاظ التوراة والمعاني تبع للألفاظ، ومن طالع التوراة علم يقينا أن التبديل في الألفاظ والمعاني لأنها تضمنت أشياء يجزهم العاقل أنها ليست من عند الله ولا ان ذلك يقع في كتاب الهي من كثرة التناقض في الاخبار والاعداد، ونسبة أشياء إلى الله تعالى من الأكل والمصارعة وغير ذلك، ونسبة أشياء إلى الأنبياء من الكذب والسكر بالخمر والزنا ببناتهم وغير ذلك من القبائح التي ينزه العاقل نفسه عن أن يتصف بشيء منها فضلا عن منصب النبوة. وقد صنف الشيخ علاء الدين علي بن محمد بن خطاب الباجي رحمه الله كتابا في السؤالات على ألفاظ التوراة ومن طالعه رأى فيه عجائب وغرائب وجزم بالتبديل لألفاظ التوراة ومعانيها هذا مع خلوها من ذكر الآخرة والبعث والحشر والنشر والعذاب والنعيم الآخرويين والتبشر بمحمد صلى الله عليه وسلم وأين هذا من قوله تعالى:
الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
[الأعراف: 157] الآية. وقوله تعالى وقد ذكر محمد وأصحابه:
ذلك مثلهم في التوراة
[الفتح: 29] وقد نص القرآن على ما يقتضي إخفاءهم لكثير من التوراة قال تعالى:
قل من أنزل الكتب الذي جآء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا
[الأنعام: 91]. وقال تعالى:
يا أهل الكتاب قد جآءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب
[المائدة: 15]. فدلت هاتان الآيتان على أن الذي أخفوه من الكتاب كثير ودل بمفهوم الصفة ان الذي أبدوه من الكتاب قليل. وقد صنف الشيخ العلامة أبو نصر السمؤل بن يحيى بن عباس المغربي وكان من الذي هداهم الله الى الإسلام كتابا جليلا في الرد على شيعته سماه " إقحام اليهود " وفرغ من تصنيفه في يوم عرفه سنة ثمان وخمسين وخمس مائة وأمعن في الرد على اليهود وذكر مخازيهم وألزمهم اتباع شريعة الإسلام حسب ما تضمنته التوراة، وبين وجود النص في التوراة، ويسرد فيه ألفاظ التوراة باللسان العبراني، ثم يفسره بالعربي، وكان الباجي طالع كلام هذا الرجل وقد كتبنا كتاب هذا الرجل وكتاب الباجي بخطنا.
وقرىء يلوون مضارع لوي ويلوون مضارع لوى مشددا ويلون بضم اللام. وقرىء: لتحسبوه بالتاء خطابا للمسلمين. وقرىء بياء الغيبة، والضمير المنصوب عائد على ما دل عليه ما قبله من المحرف ويحتمل أن يكون قوله بالكتاب على حذف مضاف أي يلوون ألسنتهم يشبه الكتاب فيعود الضمير على ذلك المضاف المحذوف.
{ ويقولون هو من عند الله } لم يكتفوا بالحسبان حتى صرحوا أن المحرف هو من عند الله جرأة منهم على الله عز وجل ثم أخبر أن شأنهم وعادتهم قول الكذب على الله.
{ وهم يعلمون } ما في ذلك من الذنب العظيم.
[3.79-80]
{ ما كان لبشر } الآية. روي
" أن أبا رافع القرظي اليهودي، قال للنبي صلى الله عليه وسلم حين اجتمعت الأحبار من يهود والريس من نصارى نجران قالا: يا محمد تريد أن نعبدك ونتخذك ربا فقال النبي صلى الله عليه وسلم معاذ الله ما بذلك أمرت ولا إليه دعوت. فنزلت "
ومعنى ما كان لبشر وما أشبه هذا التركيب النفي للكون، والمراد نفي الخبر وذلك على قسمين: أحدهما أن يكون الإنتفاء من حيث العقل ويعبر عنه بالنفي التام كقوله تعالى:
ما كان لكم أن تنبتوا شجرها
[النمل: 60]. والثاني: أن يكون الإنتفاء فيه على سبيل الابتغاء ويعبر عنه بالنفي غير التام كقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم يصلي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذي النفي فيه . ونفي الكون هنا من القسم الأول. والبشر هنا قال ابن عباس: وهو محمد صلى الله عليه وسلم وهذا الترتيب في غاية الفصاحة ذكر أولا الكتاب وهو جنس وترقي منه الى الحكم وهو الفصل بين الناس بالكتاب ثم إلى النبوة وهي الرتبة العليا.
{ ثم يقول للناس } أتى بثم التي للمهملة تعظيما لهذا القول وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كانت انتفاؤه بدونها أولى وأحرى أي ان هذا الاتياء العظيم لا يجامع هذا القول وإن كان بعد مهلة من هذا الانعام العظيم.
و { عبادا } جمع عبد. وقال ابن عطية: عبدي وعبيد من جموع عبد أما عبدي فهو اسم جمع وألفه للتأنيث، وأما عبيد فقيل: اسم جمع. وقيل: جمع تكسير. قال ابن عطية: والذي استقرأت أن عبادا جمع عبد يجيء في موضع الترفيع كقوله تعالى:
والله رؤوف بالعباد
[البقرة: 207، آل عمران: 30]، و
عباد مكرمون
[الأنبياء: 26]، و
يعبادي الذين أسرفوا
[الزمر: 53]. والعبيد يستعمل في معنى التحقير كقول حمزة: وهل أنتم إلا عبيد لابن وقول امرىء القيس:
قولا لدودان عبيد العصا
وقوله تعالى:
وما ربك بظلم للعبيد
[فصلت: 46]، لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم، وانه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك. " انتهى ". ملخصا وإنما كثرة استعمال عباد دون عبيد لأن فعالا في جمع فعل قياس مطرد وجمع فعل على فعيل لا يطرد فكثر لفظ عباد وقل لفظ عبيد وأما الآية التي فيها لفظ العبيد فجاء ذلك لتواخي الفواصل لا للتحقير. وأما بيت امرىء القيس فالتحقير انما فهم من إضافة عبيد الى العصا.
وكذلك قول حمزة فهم التحقير من الحالة التي كان عليها، وعبيد وعباد بمعنى واحد لكن الفرق بين مجيء عباد كثيرا وعبيد قليلا هو القياس وعدم القياس.
وقرىء ثم يقول برفع اللام أي ثم هو يقول:
{ ولكن كونوا ربنيين } أي ولكن يقول كونوا والرباني. قال ابن عباس: الفقيه. ولما مات ابن عباس قال محمد بن الحنفية: اليوم مات رباني هذه الأمة. وقرىء يعلمون وتعلمون بالتاء والياء.
{ ولا يأمركم } قرىء برفع الراء على القطع وبالنصب عطفا على أن يؤتيه والتقدير ولا أن يأمركم. وهذه الجملة على سبيل التوكيد لأنه نفي أن يتخذ لنفسه عبادا من دون الله فنهى أن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابا من دون الله، يعني من كان معظما من العالم العلوي وهم الملائكة، ومن العالم الأرضي وهم النبييون. ويجوز أن يكون ولا يأمركم بالنصب عطفا على ثم يقول ويكون التقدير ولا له أن يقول ودخلت لا لتأكيد معنى النفي السابق كما تقول: ما كان لزيد قيام ولا قعود على انتفاء كل منهما. وقال ابن عطية في قراءة نصب الراء: هذا خطأ لا يلتئم به المعنى. " انتهى ". لأنه قدر أن قبل لا فصار وان لا يأمركم ونحن قدرناه بعد لأفصح المعنى.
{ أيأمركم } استفهام انكار وكونه بعد كونهم مسلمين أفحش وأقبح وهو لا يأمر بالكفر لا بعد الإسلام ولا قبله. وجعل قول ذلك البشر أمره كفرا فسوى بين عبادته وبين عبادة الملائكة وهم الذين عبدتهم الصابئة، وبين عبادة النبيين وهم من عبدة اليهود والنصارى.
[3.81-83]
{ وإذ أخذ الله ميثاق النبيين } هو على حذف مضاف تقديره ميثاق أتباع النبيين لقوله تعالى: { ثم جآءكم رسول } ، هو محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن في زمانه حين جاء النبيون فتعين أن يكون التقدير ميثاق أتباع النبيين وجاء بالخطاب على سبيل الالتفات وقرىء بفتح اللام ووجهه أن اللام هي الموطئة وما شرطية مفعولة بآتيناكم ومن كتاب تفسير لما. وآتيناكم ماض أريد به المستقبل ثم جاءكم معطوف عليه، وجواب القسم لتؤمنن به وما بعده، وجواب الشرط محذوف. والآية مما اجتمع فيه القسم والشرط فجاء الجواب للسابق منهما وهو القسم. وفي البحر (قال) ابن عطية والزمخشري: ما من لما أتيناكم شرطية إلى آخر كلامهما. وقال مثل ذلك المازني والزجاج والفارسي وفيه خدش لطيف جدا وذلك أنه إذا كانت شرطية كان الجواب محذوفا لدلالة جواب القسم عليه وإذا كان كذلك فالمحذوف من جنس المثبت ومتعلقاته متعلقا به. فإذا قلت: والله لمن جاءني لأكرمنه فجواب من محذوف التقدير من جاءني أكرمه وفي الآية اسم الشرط ما، وجوابه محذوف من جنس جواب القسم. وهو الفعل المقسم عليه، ومتعلق الفعل هو ضمير الرسول بوساطة حرف الجر لا ضمير ما فجواب ما للقدر إن كان من جنس جواب القسم فلا يجوز ذلك لأنه تعدى والجملة الجوابية إذ ذاك من ضمير يعود على اسم الشرط وإن كان من غير جنس جواب القسم فكيف يدل عليه جواب القسم وهو من غير جنسه وهو لا يحذف إلا إذا كان من جنس جواب القسم ألا ترى انك لو قلت: والله ان ضربني زيد لأضربنه، كيف تقدره إن ضربني زيد أضربه. ولا يجوز أن يكون التقدير والله لئن ضربني زيد أشكه لأضربنه لأن لأضربنه لا يدل على لشكه فهذا ما يرد على قول من خرج ما على انها شرطية (قال) الزمخشري: ولتؤمنن ساد مسد جواب القسم والشرط جميعا. " انتهى ". هذا قول ظاهره مخالف لقول من جعل ما شرطية لأنهم نصوا على أن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه إلا أن عنى أنه من حيث تفسير المعنى لا من حيث تفسير الإعراب يسد مسدهما فيمكن أن يقال وأما من حيث تفسير الإعراب فلا يصح لأن كلا منهما أعني الشرط والقسم يطلب جوابا على حدة ولا يمكن أن يكون هذا محمولا عليهما لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل فيه فيكون في موضع جزم والقسم يطلبه على جهة التعلق المعنوي به بغير عمل فيه فلا موضع له من الإعراب ومحال أن يكون الشيء الواحد له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب وقرىء لما بكسر اللام ووجهه ان اللام للتعليل وما موصولة بمعنى الذي والعائد عليها محذوف من صلتها أي آتينا كموه وعطف على الصلة ثم جاءكم والعائد فيه محذوف تقديره ثم جاءكم به أي بنظيره.
وأجاز الزمخشري أن تكون ما مصدرية (قال): ومعناه لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم بمجيء رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به على أن ما مصدرية والفعلان معها أعني آتيناكم وجاءكم في معنى المصدرين. " انتهى ". ويكون تعليلا لأخذ الميثاق. وفي البحر (قال) الزمخشري: ما في قراءة حمزة لما آتيناكم مصدرية ومعناه لأجل إيتاني إياكم بعض الكتاب والحكمة ثم لمجيء رسول الله مصدق لما معكم لتؤمنن به على أن ما مصدرية والفعلان معها أعني آتيناكم وجاءكم في معنى المصدرين واللام داخلة للتعليل على معنى أخذ الله ميثاقهم ليؤمنن بالرسول ولينصرنه لأجل أن آتيتكم الحكمة وأن الرسول الذي أمرتكم بالإيمان به ونصرته موافق لكم غير مخالف. انتهى هذا التعليل. والتقدير الذي قدره ظاهره أنه تعليل للفعل المقسم عليه فإن عني هذا الظاهر فهو مخالف لظاهر الآية لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلا لأخذ الميثاق لا لمتعلقه وهو الإيمان فاللام متعلقة بأخذ وعلى ظاهر تقدير الزمخشري تكون متعلقة بقوله: لتؤمنن به، ويمتنع ذلك من حيث أن اللام المتلقى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها تقول: والله لأضربن زيدا. ولا يجوز والله زيدا لأضربن فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في لما بقوله لتؤمنن به. وقد أجاز بعض النحويين في معمول الجواب إذا كان ظرفا أو مجرورا تقدمه وجعل من ذلك عوض لا نتفرق. وقوله تعالى:
عما قليل ليصبحن نادمين
[المؤمنون: 40]، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق بقوله: { لتؤمنن به } ، وفي هذه المسألة تفصيل مذكور في النحو. وقرىء لما بفتح اللام وتشديد الميم وخرج على أن لما هي الطالبة للجواب، وتقديره أخذ عليكم الميثاق، ولما المقتضية للجواب حرف عند سيبويه، وظرف بمعنى مين عند المبرد. وتبعه الزمخشري وابن عطية في لما هذه وهو مذهب فاسد ومن ادعى أن أصلها بمن ما فحذفت منه ميم واحدة فصار لما فقوله في غاية وينزه كلام الله عنه ويلزم أن تكون اللام الموطئة دخلت على حرف الجر نحو أقسم بالله لمن أجلك لأضربن عمرا، لم يجز لأن الموطئة لا تدخل إلا على أداة شرط. وقرىء آتيناكم بنون العظمة وبالتاء وتناسب قوله احدى. وقدم الايمان بالله لأنه الأصل ثم النصر لأنه من ثمرة الإيمان.
{ قال أأقررتم } الضمير عائد على الله في قال. وأأقررتم: استفهام معناه الإستثبات بعد أخذ الميثاق. { وأخذتم على ذلكم } أي على الإيمان والنصرة. { إصري } عهدي وقرىء اصري بضم الهمزة وكسرها. { قالوا أقررنا } معناه أقررنا بالإيمان به وبنصرته وقبلنا ذلك والتزمناه، وثم جملة محذوفة أي أقررنا وأخذنا على ذلك الأمر.
{ قال فاشهدوا } أي يشهد بعضكم على بعض والتقدير أقررتم فاشهدوا أتى بالفاء رابطة بين الجملتين ونظير ذلك قولك: ألقيت زيدا؟ قال: لقيته. قال: فأحسن إليه! لتقدير لقيت زيدا فأحسن إليه.
{ وأنا معكم من الشاهدين } استئناف معناه التوكيد. { بعد ذلك } الإشارة إلى الإقرار وأخذ الأصر المذكورين بعد الإيمان والنصرة. { أفغير دين الله يبغون } الهمزة للإنكار والتنبيه على الخطأ في التولي والإعراض وأضيف الدين إلى الله لأنه تعالى هو الذي شرعه وتعبد به الخلق. وقرىء تبغون بالتاء وبالياء.
{ وله أسلم } أي انقاد وانتصب طوعا على المصدرية أو على الحال وقسم الإسلام الى نوعين: أحدهما طوع كانقياد الملائكة والأنبياء ومن أجاب إلى الدين بغير تلبث ولا فكر كانقياد أبي بكر الصديق. والآخر: كره وهو من انقاد لأجل السيف وكثير من هؤلاء من حسن حاله في الإسلام فانقاد إليه طوعا. { وإليه يرجعون } أي إلى جزائه وفي ذلك تهديد.
[3.84-89]
{ قل آمنا } الآية تقدم الكلام على نظيرها في البقرة. وهنا قل خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم وإذا أمر هو بالقول فأمته مأمورون به من حيث المعنى، ولذلك قال في البقرة: قولوا، خطاب للجميع ولذلك جاء الكلام بلفظ الجمع في آمنا، وفي علينا وفي نحن له وهنا جاء بلفظ: على. وفي البقرة بلفظ: إلى، فعبر مرة بالنزول من علو، ومرة بالإنتهاء. (وقال الراغب: إنما قال هنا على لأن ذلك لما كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم وكان واصلا إليه من الملأ الأعلى بلا واسطة بشرية كان لفظ على المختص بالعلو أولى به وهناك لما كان للأمة وقد وصل إليهم بوساطة النبي صلى الله عليه وسلم كان لفظ الى المختص بالاتصال أولى. " انتهى ".
{ ومن يبتغ غير الإسلام دينا } قرىء بإدغام الغين في الغين، وبالفك. والإسلام هنا شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، وانتصب دينا على التمييز لأنه يأتي بعد غير كقول العرب ان لنا غيرها إبلا كما ينتصب بعد مثل في قوله: يكفيه مثله صبرا. ولذلك يجوز دخول من عليه ويتعلق في الآخرة بمحذوف يدل عليه الخاسرين أي خاسر في الآخرة وهذا أحسن التخريج.
{ كيف } سؤال معناه التعجب والتعظيم وهي منصوبة بيهدي. وجاء { قوما } غير معينين ونقل أهل التفسير تعيينهم واختلافا فيهم ولفظة قوم تدل على أنهم أكثر من اثنين لأنه اسم جمع فعد منهم طعمة بن أبيرق والحارث بن سويد بن الصامت ووحوح بن الاسلت وأبو عامر الراهب وبعض هؤلاء رجع إلى الإسلام وحسن حاله.
{ وشهدوا } معطوف على كفروا والواو لا ترتب أو معطوفا على إيمانهم مراعى فيه الإنسباك لأن والفعل أي بعد أن آمنوا وشهدوا وأجيز أن يكون حالا تقديره وقد شهدوا والرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم والبينات ما أوتي به عليه السلام من الكتاب المعجز والمعجزات الخارقة. { أولئك جزآؤهم } الآية تقدم الكلام على مثلها في البقرة.
[3.90-92]
{ إن الذين كفروا بعد إيمانهم } قيل: نزلت في اليهود كفروا بعيسى وبالإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم.
{ ثم ازدادوا كفرا } بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد أن آمنوا بنعته في التوراة. { لن تقبل توبتهم } المعنى لا توبة لهم فتقبل فنفي القبول. والمراد نفي التوبة ويكون ذلك في قوم بأعيانهم ختم الله عليهم بالكفر فيموتون عليه ولذلك لم تدخل الفاء في قوله: لن تقبل، إذ قوله الذين لا عموم فيه.
{ إن الذين كفروا وماتوا } لفظ الذين هنا عام فيمن كفر ومات على الكفر فلذلك دخلت الفاء في قوله: فلن يقبل تشبيها للموصول باسم الشرط. وقرىء نقبل بالنون ونصب ملء. وقرىء مل بحذف الهمزة والفاء حركتها على اللام. وانتصب ذهبا على التمييز، ولذلك يجوز دخول من عليه في غير القرآن.
{ ولو افتدى به } قال الزمخشري: فإن قلت: كيف موقع قوله: ولو افتدى به. قلت: هو كلام محمول على المعنى كأنه قيل: فلن تقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهبا. " انتهى ". وهذا المعنى ينبو عنه هذا التركيب ولا يحتمله والذي يقتضيه هذا التركيب وينبغي أن يحمل عليه أن الله تعالى أخبر أن من مات كافرا لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدها، ولو في حالة افتدائه من العذاب لأن حالة الإفتداء هي حالة لا يمتن فيها المفتدي على المفتدي منه، إذ هي حالة قهر من المفتدي منه للمفتدى، وقد قررنا في نحو هذا التركيب ان لو تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصا على الحالة التي يظن انها لا تندرج فيما قبلها كقوله: اعطوا السائل ولو جاء على فرس مشعر بغناه فلا يناسب أن يعطي. (قال) الزمخشري: ويجوز أن يراد ولو افتدى بمثله كقوله:
ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعا ومثله معه
[الزمر: 47] والمثل يحذف كثيرا في كلامهم، كقولك: ضربت ضرب زيد، تريد مثل ضربه، وأبو يوسف أبو حنيفة، تريد مثله. ولا هيثم الليلة للمطي وقضية ولا أبا حسن لها تريد، ولا مثيل هيثم، ولا مثل أبي حسن. كما أنه يزاد في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، تريد أنت وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر فكانا في حكم شيء واحد. " انتهى ". لا حاجة إلى تقدير مثل في قوله: ولو افتدي به. وكأن الزمخشري تخيل ان ما نفي أن يقبل لا يمكن أن يفتدى به فاحتاج إلى اضمار مثل: حتى يغاير بين ما نفي قبوله وبين ما يفتدى به وليس كذلك، لأن ذلك كما ذكرنا على سبيل الفرض والتقدير، إذ لا يمكن عادة أن أحدا يملك ملأ الأرض ذهبا بحيث لو بذله في أية جهة بذله لم يقبل منه بل لو كان ذلك ممكنا لم يحتج إلى تقدير مثل لأنه نفي قبوله حتى في حالة الإفتراء وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه ولا معنى له ولا في اللفظ ولا المعنى ما يدل عليه فلا يقدر وأما في ما مثل به من: ضرب ضرب زيد وأبو يوسف أبو حنيفة فبضرورة العقل يعلم أنه لا بد من تقدير مثل إن ضربك يستحيل أن يكون ضرب زيد وذات أبي يوسف يستحيل أن تكون ذات أبي حنيفة وأما لا هيثم الليلة مطي، فدل على حذف مثل ما تقرر في اللغة العربية أن لا التي لنفي الجنس لا تدخل على الاعلام فتؤثر فيها، فاحتيج الى إضمار مثل لتبقى على ما تقرر فيها إذ تقرر انها لا تعمل إلا في الجنس لأن العلمية تنافي عموم الجنس.
وأما قوله: كما انه يزاد في مثلك لا يفعل كذا، تريد أنت فهنا قول قد قيل ولكن المختار عند حذاق النحويين ان الأسماء لا تزاد ولتقرير ان مثلك لا يفعل كذا ليست فيه مثل زائدة مكان غير هذا. ولو في قوله: ولو افتدى به وفيما قبله على سبيل الفرض لأنه لا يمكنه أن يأتي بملء الأرض ذهبا.
{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا } الآية مناسبتها لما قبلها انه لما أخبر تعالى عمن مات كافرا أنه لا يقبل منه ملء الأرض ذهبا على سبيل الفرض لو أتى به حض المؤمنين على الصدقة التي تنفع في الآخرة والبر ما تقرب به الى الله تعالى من أعمال الخير وغيا ذلك بلفظة حتى والإنفاق مما يحبه المؤمن ولما سمع الصحابة رضوان الله عليهم هذه الآية تصدقوا لما كانوا يحبون، فتصدق أبو طلحة ببئر حاء، وزيد بن حارثة بفرس له كان يحبها، وأبو ذر بفحل خير أبله. { به عليم } أي مجاز عليه.
[3.93-96]
{ كل الطعام } الآية مناسبتها لما قبلها انه تعالى أخبر أنه لا ينال البر إلا بالانفاق من المحبوب فروي أن إسرائيل مرض مرضا شديدا فنذر لله تعالى أنه إن شفاه أن يحرم أحب الطعام والشراب إليه فحرم لحوم الابل وألبانها وكان ذلك أحب المأكول والمشروب إليه تقربا إلى الله تعالى. وروي أن هذه الآية نزلت حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: أنا على ملة إبراهيم فقالت اليهود: كيف وأنت تأكل لحوم الابل وألبانها؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كان ذلك حلالا لأبي إبراهيم ونحن نحله. فقالت اليهود: بل كان ذلك حراما على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله ذلك تكذيبا لهم وإن إسرائيل حرم ذلك على نفسه قبل نزول التوراة.
{ قل فأتوا بالتوراة } خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل فأتوا محذوف تقديره هذا الحق لا زعمكم معشر اليهود فأتوا وهذه محاجة أن يؤمروا بإحضار كتابهم الذي فيه شريعتهم فإنه ليس فيه ما ادعوه بل هو مصدق لما أخبر به صلى الله عليه وسلم من أن تلك المطاعم كانت حلالا لهم في قديم وان التحريم هو حادث { إن كنتم صادقين } خرج مخرج الممكن وهم معلوم كذبهم وذلك على سبيل الهزء بهم.
{ فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك } الإشارة بذلك إلى التلاوة إذ مضمنها بيان مذهبهم وقيام الحجة القاطعة عليهم ويكون افتراء الكذب ان ينسب إلى كتب الله ما ليس فيها.
{ قل صدق الله } فيما أخبر به تعالى في كتبه المنزلة حتى في قصة إسرائيل وإن ما قالوه كذب وانتصب حنيفا على الحال وتقدم تبيين ذلك في البقرة في قوله:
بل ملة إبراهيم حنيفا
[البقرة: 135].
{ إن أول بيت } الآية مناسبتها لما قبلها انه لما أمر باتباع ملة إبراهيم وهو الذي كان ملته حج هذا البيت أخذ في ابتداء أمره من بنائه الى منتهاه وظاهر قوله: أول بيت، وضع للناس هو في بنائه لعبادة الله تعالى فذكر الشريف أبو البركات الجواني النسابة إن شيث بن آدم عليهما السلام هو الذي بنى الكعبة بالطين والحجارة على موضع الخيمة التي كان الله وضعها لآدم من الجنة وأول نكرة، فخصصت بالاضافة وبالصفة فحسن الاخبار عنها بالموصول وهو معرفة وتقديره للبيت الذي ببكة وأكدت النسبة بأن وباللام. وبكة قيل مكة والباء والميم قد يتعاقبان. وقيل: اسم لبطن مكة والباء ظرفية.
و { مباركا } حال في الضمير الذي هو في الحقيقة صلة للموصول تقديره الذي استقر في بكة مباركا.
[3.97-103]
{ فيه ءايت بينت } أي علامات واضحات منها مقام إبراهيم الحجر الذي قام عليه والحجر الأسود والحطيم وزمزم وأمن الخائف وهيبته وتعظيمه في قلوب الناس وأمر الفيل ورمى طير الله عنه بحجارة السجيل وكف الجبابرة على وجه الدهر وإذ عان نفوس العرب لتوقير هذه البقعة دون ناه ولا زاجر وجباية الأرزاق إليه وهو بواد غير ذي زرع وحمايته من السيول ودلالة عموم المطر إياه من جميع جوانبه على خصب آفاق الأرض فإن كان المطر من جانب أخصب الأنف الذي يليه وارتفع آيات على الفاعلية بالجار والمجرور التقدير كائنا فيه آيات والضمير في فيه عائد على البيت وذلك على سبيل الاتساع إذ الآيات التي تقدم ذكرها كائنة في البيت وفي الحرم الذي فيه البيت.
قال الزمخشري: فإن قلت كيف أجزت أن يكون مقام إبراهيم دالا من عطف بيان الآيات وقوله: { ومن دخله كان آمنا } جملة مستأنفة اما ابتدائية وإما شرطية قلت: أجزت ذلك من حيث المعنى لأن قوله: { ومن دخله كان آمنا } دل على أمن داخله فكأنه قيل فيه آيات بينات مقام إبراهيم وأمن داخله ألا ترى أنك لو قلت فيه آية بينة كان في معنى قولك فيه آية بينة أمن من دخله " انتهى ".
وليس ما ذكره بواضح لأن تقديره وأمن داخله هو مرفوع عطفا على مقام إبراهيم وفسر بهما الأيات والجملة من قوله: { ومن دخله كان آمنا } لا موضع لها من الإعراب فتدافعا إلا أن اعتقد أن ذلك معطوف على محذوف يدل عليه ما بعده فيمكن التوجيه، فلا يجعل قوله: { ومن دخله كان آمنا } في معنى وأمن داخله إلا من حيث تفسير المعنى لا تفسير اللفظ والإعراف ولم يذكر الزمخشري في إعراب مقام إبراهيم إلا أنه عطف بيان لقوله: { ءايت بينت } ورد عليه ذلك لأن آيات نكرة ومقام إبراهيم معرفة ولا يجوز التخالف في عطف البيان وقوله: مخالف لإجماع الكوفيين والبصريين فلا يتلتف إليه وحكم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت فتتبع النكرة والمعرفة المعرفة وقد تبعهم في ذلك أبو علي الفارسي . وأما عند البصريين فلا يجوز إلا أن يكونا مقرنين ولا يجوز أن يكونا نكرتين وما أعربه الكوفيون ومن وافقهم عطف بيان وهو نكرة على النكرة قبله أعربه البصريون بدلا ولم يقم لهم دليل على تعيين عطف البيان في النكرة وكل من وقفنا على كلامه جعل مقام إبراهيم تابعا لآيات على توضيح كثرتها في المقام منها تأثير قدميه في حجر صلد وغوصه فيه إلى الكعبين وإلانة بعض الحجر دون بعض وإبقاؤه دون سائر آيات الأنبياء عليهم السلام وحفظه مع كثرة أعدائه من المشركين ألوف سنين، والذي اخترناه في إعرابه في الكتاب الكبير البحر الذي هو مختصره أن يكون ارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره أحدها مقام إبراهيم أو يكون ارتفاعه على أنه مبتدأ محذوف الخبر تقديره منها مقام إبراهيم والذي اختاره الآن أنه ليس متعلقا بقوله: آيات بينات، ولا تفسيرا لها لا من حيث اللفظ ولا من حيث المعنى، بل هو عندي بدل أو عطف بيان من الموصول الذي هو خبر ان وكأنه قيل: ان أول بيت موضع للناس لمقام إبراهيم.
{ ومن دخله كان آمنا } من شرطية أو موصولة وتكلفوا عطف هذه الجملة على قوله مقام إبراهيم تكلفا بعيدا والذي أذهب إليه أنه إخبار من الله تعالى بفضل هذا البيت والحرم وأمن من دخله كما قال تعالى:
أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم
[العنكبوت: 67] فذكر تعالى امتنانه عليهم بأمن من دخل هذا الحرم الشريف، وظاهر الآية أنها مذكرة للعرب بما كانوا عليه في الجاهلية من احترام هذا البيت وأمن من دخله من ذوي الجرائر وكانت العرب يغير بعضها على بعض ويتخطف الناس بالقتل وأخذ الأموال وأنواع الظلم إلا في الحرم.
{ ولله على الناس حج البيت } هذه الآية دليل على فرض الحج وجاء بعلى الدالة على الاستعلاء وجاء متعلقا بالناس بلفظ العموم ثم بلفظ الخصوص بقوله: من استطاع، وقرىء: حج بكسر الحاء وفتحها.
{ ومن } بدل من الناس وقيل: شرطية، والجواب محذوف تقديره فعليه الحج وإعراب من فاعلة بالمصدر تقديره أن يحج البيت المستطيع إعراب فاسد.
{ ومن كفر } عام في كل كافر باعتقاد عدم فرض الحج وغيره ومن شرطية وجوابه.
{ فإن الله غني عن العلمين } واندرج هو في لفظ العالمين كأنه قيل غني عنه وعن سائر العالم.
{ قل يأهل الكتاب } الآية، لما فرع من ذكر البيت وحجه، وكان أهل الكتاب لا يحجون عاد إلى الكلام مع أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم قبل هذه الآية، فنعي عليهم أولا أعظم مساويهم وهي الكفر بآيات الله مع شهادتهم إياها ثم ثانيا صدهم من آمن عن سبيل الله وسبب نزول هذه الآية وما بعدها
" أن رجلا من اليهود حاول الإغراء بين الأوس والخزرج واسمه شاس بن قيس وكان أعمى شديد الضغن والحسد للمسلمين فرأى إئتلاف الأوس والخزرج، فقال: ما لنا من قرار بهذه البلاد مع اجتماع ملا بني قبله فأمر شابا من اليهود أن يذكرهم يوم بعاث وما جرى فيه من الحرب وما قالوه من الشعر فيفعل فتكلموا حتى ثاروا إلى السلاح بالحرة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم وعظهم فرجعوا وعانق بعضهم بعضا "
هذا ملخص ما ذكره مطولا.
{ بآيات الله } التي هي التوراة دالة على نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسالته للناس جميعا.
{ والله شهيد } جملة في موضع الحال دالة على آبائهم وكفرهم بآيات الله مع شهادة الله على أعمالهم وأتى لفظ شهيد الدال على المبالغة.
" وتصدون " هنا متعد ومفعوله.
{ من آمن } والسبيل يذكر ويؤنث والضمير في:
{ تبغونها } عائد على السبيل وأصله تبغون لها عوجا فاتسع في الفعل وحذف اللام والجملة حالية أي باغين عوجا وذو الحال الضمير في تصدون وقيل حال من سبيل الله، وقرىء: تصدون مضارع أصد والهمزة فيه من صد عن كذا باللازم وقال ذو الرمة:
أناس أصدوا الناس بالسيف عنهم
{ يأيها الذين آمنوا } الآية، لما أنكر تعالى على أهل الكتاب صدهم عن الإسلام المؤمنين حذر المؤمنين من إغواء الكفار وإضلالهم وناداهم بوصف الإيمان تنبيها على تباين ما بينهم وبين الكفار ولم يأت بلفظ: قل، ليكون ذلك خطابا منه تعالى لهم وتأنيسا لهم وأبرز نهيه عن موافقتهم وطواعيتهم في صورة شرطية لأنه لم تقع طاعتهم له والإشارة بيا أيها الذين آمنوا. إلى الأوس والخزرج بسبب ثائرة شاس بن قيس وأطلق الطواعية لتدل على عموم البدل أن يصدر منكم طواعية ما في أي شيء يحاولونه من إضلالكم ولم يقيد الطاعة بقصة الأوس والخزرج على ما ذكر في سبب النزول والرد هنا التصيير أي يصيرونكم فتعدت إلى اثنين والثاني كافرين.
وقال الشاعر:
فرد شعورهن السود بيضا
ورد وجوههن البيض سودا
{ وكيف تكفرون } استفهام استبعاد وقوع الجملتين حالا يقتضي انتفاء الكفر عمن يتلى عليه كتاب الله وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الآتية الآيات والمعجزات على يديه.
{ ومن يعتصم } يستمسك.
{ بالله } أي بآيات الله ورسوله.
{ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله } الآية، لما حذرهم الله من إضلال من يريد إضلالهم أمرهم بمجامع الطاعات فرهبهم أولا بقوله: اتقوا الله إذ التقوى إشارة إلى التخويف من عذاب الله، ثم جعلها سببا للأمر بالاعتصام بدين الله ثم أردف الرهبة بالرغبة. وهي قوله: واذكروا نعمة الله عليكم. وأعقب الأمر بالتقوى بنهي هو من تمام التقوى والأمر بالاعتصام بنهي آخر وهو من تمام الاعتصام وانتصب حق على أنه مصدر لإضافته إلى المصدر والمعنى حق اتقائه. قال ابن عطية: ويصح أن يكون الثقاة في هذه الآية جمع فاعل وإن كان لم يتصرف منه فيكون كرماة ورام أو يكون جمع تقي إذ فعيل وفاعل بمنزلة والمعنى على هذا اتقوا الله كما يحق أن يكون متقوه المختصون به ولذلك أضيفوا إلى ضمير الله تعالى " انتهى كلامه ". وهذا المعنى ينبو عنه هذا اللفظ إذ الظاهر أن قوله: حق تقاته من باب إضافة الصفة إلى موصوفها كما تقول: ضربت زيدا شديد الضرب، تريد الضرب الشديد، فكذلك هذا، أي: اتقوا الله الاتقاء الحق، أي الواجب الثابت.
أما إذا جعلت التقاة جمعا، فإن التركيب يصير مثل اضرب زيدا حق ضرابه فلا يدل هذا التركيب على معنى أضرب زيدا كما يحق أن يكون ضرابه حتى لو صرح بهذا التركيب لاحتيج في فهم معناه إلى تقدير أشياء يصح بها المعنى والتقرير أضرب زيدا ضربا حقا كما يحق أن يكون ضرب ضرابه ولا حاجة تدعوا إلى تحميل اللفظ غير ظاهره وتكلف تقاديره معنى لا يدل عليه ظاهر اللفظ.
{ ولا تموتن } الآية، تقدم الكلام عليها في البقرة.
{ وأنتم مسلمون } جملة حالية.
{ بحبل الله } هو كتاب الله تعالى روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" القرآن حبل الله المتين ".
{ ولا تفرقوا } نهي عن التفرق في الدين، كتفرق اليهود والنصارى.
{ فأصبحتم } أي صرتم ولا يراد به اتصاف الموصوف بالأخوة وقت الصباح، قال ابن عطية: فأصبحتم عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي المبتدأ النهار وفيها مبدأ الأعمال، فالحال التي يحسبها المرء في نفسه فيها هي الحال التي يستمر عليها يومه في الأغلب ومنه قوله: الربيع بن ضبع
أصبحت لا أحمل السلاح
ولا أملك رأس البعير ان نقرا
" انتهى ". وهذا الذي ذكره من أن أصبح للاستمرار وعلله بما ذكره لا أعلم أحد من النحويين ذهب إليه إنما ذكروا أن أصبح المقتضية للخبر تكون بمعنى الصيرورة وبمعنى تقييد الخبر بوقت الصباح والباء في بنعمته للسبب أي بسبب نعمة الله التي أنعم بها عليكم من التأليف بعد التفرق والمودة بعد العداوة.
{ وكنتم على شفا حفرة } جملة مستأنفة أخبر تعالى بما كانوا عليه من الإشراف على الهلاك ويجوز أن تكون حالا أي وقد كنتم والشفا الطرف والضمير في منها عائد على النار ويجوز أن يعود على الشفا لإضافته إلى المؤنث لأن طرف الشيء من الشيء كما أنت في قوله: كما أشرقت صدر القناة من الدم.
قال ابن عطية: رادا على من أجاز عود الضمير على الشفا لأنه ليس لنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه، " انتهى ". وأقول: لا يحسن عوده إلا على الشفا لأن كينونتهم على الشفا هو أحد جزئي الإسناد فالضمير لا يعود إلا عليه. وأما ذكر الحفرة فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها ألا ترى أنك إذا قلت كان زيد غلام جعفر لم يكن جعفر محدثا عنه وليس أحد جزيء الإسناد وكذلك لو قلت: ضربت زيد غلام هند لم تحدث عن هند بشيء وإنما ذكرت جعفرا وهذا مخصصا للمحدث عنه. وأما ذكر النار فإنما جني بها لتخصيص الحفرة وليست أيضا أحد جزئي الإسناد ولا تحدثا عنها وأيضا فالانقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة ومن النار لأن الإنقاذ من الحفرة ومن النار والإنقاذ منهما يستلزم الإنقاذ من الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، ومثلث حياتهم التي يتوقع بعدها الوقوع في النار بالقعود على جرفها مشفين على الوقوع فيها.
[3.104-108]
{ ولتكن منكم } الظاهر أنه خطاب للمخاطبين قبله ومنكم يقتضي التبعيض ويندرج في الخطاب جميع المؤمنين والمراد بالأمة الآمرة والناهية من يتعين لصلاحية ذلك ان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يكون إلا لمن علم المعروف والمنكر وكيف يترتب الأمر في إقامته وكيف يباشره فإن الجاهل ربما أمر بمنكر ونهى عن معروف. وقد رأينا من ينتمي للصلاح يأمر أصحابه بالاجتماع لمغن شاب يغني لهم بالتغزلات والمحون وينافخ في قصبة يخرج منها أصوات فيتلذذون بذلك ويرقصون ويدور أحدهم مائة دورة وأكثر منها ويجعل أذنه عند القصبة والمغني ويتفتل في رقصه ويمشي على جنبه ملاصقا إلى الأرض من أول الإيوان إلى آخره ويشهد ذلك الجم الغفير والجمع الكثير ممن ينتمي إلى الإسلام فلا ينكر أحد منهم شيئا من ذلك وهو من أعظم المنكرات.
{ ولا تكونوا كالذين تفرقوا } قال ابن عباس: هم الأمم السالفة التي تفرقت في الدين و:
{ البينات } قال ابن عباس: آيات الله التي أنزلت على أهل كل ملة.
{ وأولئك } إشارة إلى الذين تفرقوا.
{ يوم تبيض وجوه } البياض عبارة عن إشراقها ونورها وبشرها برحمة الله والسواد عبارة عن ظلمتها وكمدها وخص الوجه لأنه أشرف ما في الإنسان وإن كان البياض والسواد يعمان جميع البدن ويجوز أن يراد بالبياض والسواد حقيقتهما ويوم ظرف والعامل فيه العامل في لهم أي كائن لهم عذاب عظيم يوم تبيض.
{ فأما الذين اسودت وجوههم } هذا تفصيل لأحكام من تبيض وجوههم وتسود وابتدأ بالذين اسودت للاهتمام بالتحذير من حالهم ولمجاورة قوله وتسود وجوه والابتداء بالمؤمنين والاختتام بحكمهم وللعرب في مثل هذا طريقان أحدهما: انه إذا فصل شيء بشيء أو حكم بحكم وإن لم يكن تفصيليا يجعل الآخر للأول والآخر أن يجعل الأول من السابقين للأول من الآخرين، والثاني للثاني كقوله تعالى:
فمنهم شقي وسعيد
[هود: 105] ثم قال:
فأما الذين شقوا
[هود: 106] وقال بعد:
وأما الذين سعدوا
[هود: 108] وفي البحر فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم الخبر محذوف للعلم به والتقدير فيقال لهم.
{ أكفرتم بعد إيمانكم } تقديره فيقال لهم: أكفرتم كما حذف القول في مواضع كثيرة كقوله تعالى:
والملائكة يدخلون عليهم من كل باب * سلام عليكم
[الرعد: 2324] ولما حذف الخبر حذفت الفاء وإن كان حذفها في غير هذا لا يجوز، إلا في الشعر، وقال الشيخ كمال الدين عبد الواحد بن عبد الله بن خلف الأنصاري في كتابه الموسوم " نهاية التأميل في أسرار التنزيل ": قد اعترض على النحاة في قولهم لما حذف يقال: حذفت الفاء بقوله تعالى:
وأما الذين كفروا أفلم تكن ءايتى تتلى عليكم
[الجاثية: 31] تقديره فيقال لهم أفلم تكن آياته تتلى عليكم فحذف فيقال ولم تحذف الفاء فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب.
{ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون } فوقع ذلك جوابا له ولقوله: أكفرتم؟ ومن نظم العرب إذا ذكروا حرفا يقتضي جوابا له أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفا آخر يقتضي جوابا ثم يجعلون لهما جوابا واحدا كما في قوله تعالى:
فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون
[البقرة: 38]. فقوله: فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. جواب الشرطين معا وليس أفلم جواب أما بل الفاء عاطفية على مقدر والتقدير أأهملتكم فلم أتل عليكم آياتي، " انتهى " ما نقل عن هذا الرجل وهو كلام أديب لا كلام نحوي. أما قوله: قد اعترض. على النحاة فيكفي في بطلان هذا اعتراض على جميع النحاة لأنه ما في نحوي إلا خرج الآية على إضمار، فيقال لهم: أكفرتم؟ وقالوا: لا يستغني المعنى عنه، والقول بخلافه مخالف للإجماع فلا التفات إليه فأما ما اعترض به من قوله:
وأما الذين كفروا أفلم تكن ءايتى تتلى عليكم
[الجاثية: 31] وان تقديره فيقال لهم: أفلم تكن آيات فحذف فيقال ولهم ولم تحذف الفاء مذل على بطلان هذا التقدير فليس بصحيح، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في أفلم ليست فاء فيقال: التي هي جواب. أما حتى يقال: حذف. فيقال: وبقيت الفاء بل الفاء هي جواب، أما ويقال بعدها محذوف، وفاء أفلم تحتمل وجهين، أحدهما: أن تكون زائدة وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قول الشاعر:
يموت أناس أو يشيب فتاهم
ويحدث ناس والصغير فيكبر
وقول الآخر:
لما اتقى بيد عظيم جرمها
فتركت ضاحي جلدها يتذبذب
يريد تركت.
وقال الزهر:
أراني إذ ما بت على هوى
فثم إذا أصبحت غاديا
يريد ثم وقال الأخفش: وزعموا أنهم يقولون: أخوك فوجد يريد أخوك وجد والثاني أن تكون الفاء تفسيرية وتقدير الكلام فيقال لهم ما يسؤهم فألم تكن آياتي، ثم اعتنى بهمزة الاستفهام فقدمت على الفاء التفسيرية كما تقدم على الفاء التي للتعقيب في نحو قوله تعالى:
أفلم يسيروا في الأرض
[يوسف: 109، الحج: 46] وهذا على مذهب من يثبت ان الفاء تكون تفسيرية نحو توضأ زيد فغسل وجهه ويديه إلى آخر أفعال الوضوء فالفاء هنا ليست مرتبة. وإنما هي مفسرة للوضوء وكذلك تكون في أفلم تكن آياتي تتلى عليكم، مفسرة للقول الذي يسؤهم وقول هذا الرجل فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب فذوقوا أي تعين بطلان ما قدره النحويون من قوله: فيقال لهم لوجود هذه الفاء في أفلم تكن وقد بينا أن ذلك التقدير لم يبطل وأنه سواء في الآيتين، وإذا كان كذلك فالجواب: اما هو فيقال ومعنى الكلام عليه وأما تقديره أأهملتكم فلم تكن آياتي فهذه نزعة زمخشرية تقدر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فعلا يصح عطف ما بعدها عليه ولا يعتقدان الفاء والواو وثم إذا دخلت عليها الهمزة أصلهن التقديم على لكن اعتنى بالاستفهام فقد على حروف العطف كما ذهب إليه سيبويه وغيره من النحويين وقد رجع الزمخشري أخيرا إلى مذهب الجماعة في ذلك وبطلان قوله الأول مذكور في النحو.
وقد تقدم في هذا الكتاب حكاية مذهبه في ذلك وعلى تقدير قول هذا الرجل أأهملتكم فلا بد من إضمار القول وتقديره، فيقال: أأهملتكم لأن هذا المقدر هو خبر المبتدأ والفاء جواب أما، وهو الذي يدل عليه الكلام ويقتضيه ضرورة. وقول هذا للرجل فوقع ذلك جوابا له ولقوله: " أكفرتم " يعني: ان فذوقوا العذاب جواب لا ما ولقوله: " أكفرتم ". والاستفهام هنا لا جواب له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والارذال بهم، وأما قول هذا الرجل ومن نظم العرب إلى آخره فليس كلام العرب على ما زعم بل يجعل لكل جواب ان لا يكن ظاهر أفمقل ولا يجعلون لهما جوابا واحدا. وأما دعواه ذلك في قوله تعالى:
فإما يأتينكم مني هدى
[البقرة: 38]، الآية، وزعمه أن قوله تعالى:
فلا خوف عليهم
[البقرة: 38] جواب للشرطين فقول روي عن الكسائي وذهب بعض الناس إلى أن جواب الشرط الأول محذوف تقديره فاتبعوه والصحيح أن الشرط الثاني وجوابه هو جواب الشرط الأول وتقدمت هذه الأقوال الثلاثة عند الكلام على قوله تعالى:
فإما يأتينكم
[البقرة: 38] الآية، وهذا سؤال توبيخ وتعنيف بعد إيمانكم ظاهره ان كفرهم كان بعد حصول إيمانهم وليس كل كافر كذلك والمراد والله أعلم، بعد أن ولدتم على الفطرة المتهيئة لقبول الإيمان أو الإيمان المراد به في قوله:
ألست بربكم قالوا بلى
[الأعراف: 172].
{ وأما الذين ابيضت وجوههم } أنظر تفاوت ما بين القسمين هناك جمع لمن اسودت وجوههم بين التعنيف بالقول والعذاب، وهنا جعلهم مستقرين في الرحمة، فالرحمة ظرف لهم وهي شاملتهم ولما أخبر تعالى أنهم مستقرون في رحمة الله بين أن ذلك الاستقرار هو على سبيل الخلود لا زوال منه ولا انتقال، وأشار بلفظ الرحمة إلى سابق عناية بهم وان العبد وإن كثرت طاعته لا يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى.
وقال ابن عباس: المراد بالرحمة هنا الجنة وذكر الخلود للمؤمن ولم يذكر ذلك للكافر إشعارا بأن جانب الرحمة أغلب وأضاف الرحمة هنا إليه ولم يضف العذاب إلى نفسه بل قال: فذوقوا العذاب، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم ولم ينص هنا على سبب كونهم في الرحمة وهو توكيد لقوله: الذين، وفيها توكيد لقوله: ففي رحمة الله. وقرىء: اسوادت وابياضت بألف.
{ تلك } إشارة إلى الآية التي نزلت في أمر الأوس والخزرج وما قبلها.
و { نتلوها } خبر ثان أو جملة في موضع الحال وقرىء: يتلوها بالياء.
{ وما الله يريد ظلما للعالمين } فما وقع منه تعالى من تنعيم قوم وتعذيب آخرين ليس من باب الظلم، والظلم وضع الشيء في غير موضعه ونكر ظلما وهو في سياق النفي يعم وهو مصدر حذف تقديره ظلمه للعالمين وللعالمين في موضع المفعول.
[3.109-112]
{ كنتم خير أمة } هي من تمام الخطاب الأول في قوله:
يأيها الذين آمنوا اتقوا الله
[آل عمران: 102] وتوالت جعل هذا مخاطبات المؤمنين من أوامر ونواه وكان قد استطرد من ذلك لذكر من يبيض وجهه ويسود وشيء من أحوالهم في الآخرة ثم عاد إلى الخطاب الأول فقال تعالى: { كنتم خير أمة }. تحريضا بهذا الاخبار على الانقياد والطواعية والظاهر أن الخطاب هو لمن وقع الخطاب له أولا وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتناول من يجيء بعدهم ممن يتصف بأوصافهم واللام في الناس متعلقة بأخرجت وقيل بخير وهو الأحسن.
و { تأمرون } ما بعده تفسير للخيرية التي في قوله: خير أمة، قال الزمخشري: كان عبارة عن وجود الشيء في زمن ماض على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على انقطاع طارىء ومنه قوله تعالى:
وكان الله غفورا رحيما
[النساء: 96]. ومنه قوله: { كنتم خير أمة } كأنه قيل وجدتم خير أمة، " انتهى ". فقوله: انها لا تدل على عدم سابق هذا إذا لم تكن بمعنى صار فإذا كانت بمعنى صار دلت على عدم سابق، فإذا قلت: كان زيد عالما بمعنى صار دلنا على أنه انتقل من حالة الجهل إلى حالة العلم وقوله: ولا على انقطاع طارىء الصحيح انها كسائر الأفعال، ثم قد تستعمل حيث لا يراد الانقطاع، وفرق بين الدلالة والاستعمال ألا ترى أنك تقول هذا اللفظ يدل على العموم، ثم يستعمل حيث لا يراد العموم بل المراد الخصوص. وقول الزمخشري كأنه قال: وجدتم خير أمة هذا يعارض أنها مثل قوله: وكان الله غفورا رحيما لأن تقديره وجدتم خير أمة يدل على أنها تامة وان خير أمة حال، وقوله: وكان الله غفورا، لا شك أنها هنا الناقصة، فتعارضا وخير مضاف للنكرة وهي أفضل، فيجب أفعل تفضيل فيجب إفرادها وتذكيرها وإن كانت جارية على جمع والمعنى أن الأمم إذا فضلوا أمة كانت هذه الأمة خيرها وحكم عليهم بأنهم خير أمة، ولم يبن جهة الخيرية في اللفظ وهي سبقهم إلى الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم وبدارهم إلى نصرته ونقلهم عن علم الشريعة وافتتاحهم البلاد وهذه فضائل اختصوا بها مع ما لهم من الفضائل وكل من عمل بعدهم حسنة فلهم مثل أجرها لأنهم سبب في إيجادها إذ هم الذين سنوها وأوضحوا طريقها من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجرهم شيئا.
{ ولو آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم } أي ولو آمن من عامتهم وسائرهم، ويعني الإيمان التام النافع واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من آمن من كما تقول من صدق كان خيرا له، أي: لكان هو أي الإيمان وعلق كينونة الإيمان خيرا لهم على تقدير حصوله توبيخا لهم مقرونا بنصحه تعالى لهم.
إذا لو آمنوا لنجوا أنفسهم من عذاب الله وخيرا هنا أفضل التفضيل والمعنى: لكان خيرا لهم مما هم عليه لأنهم إنما آثروا دينهم على دين الإسلام حب في الرياسة واستتباع العوام فلهم في هذا حظ دنيوي، وإيمانهم يحصل به الحظ الدنيوي من كونهم يصيرون رؤساء في الإسلام، والحظ الاخروي الجزيل بما وعدوه على الإيمان في إيتائهم أجرهم مرتين.
{ منهم المؤمنون } كعبد الله بن سلام وأخيه وثعلبة بن سعيد ومن أسلم من اليهود كالنجاشي وبحيرا من أسلم في النصارى إذ كانوا مصدقين برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث وبعده وعلى هذا يكون أهل الكتاب ليس عاما إذ قد وجد الإيمان من بعضهم.
{ لن يضروكم إلا أذى } هاتان الجملتان تضمنتا الاخبار بمعنيين مستقبلين وهو أن ضررهم إياكم لا يكون إلا أذى أي شيئا تتأذون منه لا ضررا يكون فيه غلبة واستئصال ولذلك ان قاتلوكم خذلوا وبصرتم، وكلا هذين الامرين وقع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأضرهم أحد من أهل الكتاب ضررا يبالون به ولا قصدوا جهة كافر إلا كان النصر لهم والغلبة عليهم إلا أذى استثناء متصل وهو يفرغ من المصدر المحذوف والتقدير لمن يضروكم إلا ضررا يسيرا لا نكاية فيه ولا إجحاف.
{ ثم لا ينصرون } هذا استئناف إخبار انهم لا ينصرون أبدا ولم يشرك في الجزاء فيجزم لأنه ليس مترقبا على الشرط بل التولية مترتبة على المقاتلة والنصر منفي عنهم أبدا سواء قاتلوا أم لم يقاتلوا إذ تبع النصر سببه الكفر فهي جملة معطوفة على جملة الشرط والجزاء كما أن جملة الشرط والجزاء معطوفة على أن يضروكم إلا أذى وليس امتناع الجزم لأجل ثم كما زعم بعضهم زعم أن جواب الشرط يقع عقيب المشروط، قال: وثم للتراخي فلذلك لم تصلح لجواب الشرط والمعطوف على الجواب كالجواب وما ذهب إليه هذا الذاهب خطأ لأن ما زعم أنه لا يجوز قد جاء في أفصح الكلام. قال تعالى:
وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم
[محمد: 38] ثم لا يكونوا أمثالكم فحزم المعطوف ثم على جواب الشرط وثم هنا ليست للمهلة في الزمان وإنما هي للتراخي في الاخبار، فالإخبار بتوليهم في القتال وخذلانهم والظفر بهم أبهج وأسر للنفس ثم أخبر تعالى بعد ذلك بانتفاء النصر عنهم مطلقا.
{ أين ما ثقفوا } عام في الأمكنة وهو شرط وجوابه محذوف يدل عليه ما قبله ومن أجاز تقديم جواب الشرط ، قال: ضربت جواب الشرط.
{ إلا بحبل من الله } ظاهره انه استثناء منقطع قاله الفراء والزجاج، واختاره ابن عطية، وقال: لأن بادىء الرأي يعطي أن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضربت الذلة وليس الأمر كذلك وإنما في الكلام مذوق يدركه فهم السامع الناظر في الأمور وتقديره في آيتنا فلا نجاة من الموت إلا بحبل، " انتهى ".
وعلى ما قدره لا يكون استثناء منقطعا لأن مستثنى من جملة مقدرة وهي قوله: فلا نجاة من الموت وهو معتل عتل على هذا التقدير فلا يكون استثناء منقطعا في الأول ضرورة أن الاستثناء الواحد لا يكون منقطعا متصلا وذهب الزمخشري وغيره إلى أنه استثناء متصل قال: وهو استثناء من أعم عام الأموال والمعنى ضربت عليهم الذلة في عامة الأحوال إلا في حال اعتصامهم بحبل من الله وحبل من الناس يعني ذمة الله وذمة المسلمين أي لا عز لهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة لما قبلوه من الجزية، " انتهى كلامه ".
وهو متجه وشبه العهد بالحبل لأنه يصل قوما بقدم كما يفعل حبل في الإجرام والظاهر في تكرار الحبل أنه أريد حبلان وفسر حبل الله بالإسلام وميل الناس بالعهد والذمة وقيل حبل الله هو الذي نص الله تعالى عليه من أخذ الخبرية والثاني هو هو الذي فوض إلى رأي الإمام فيزيد فيه وينقص بحسب الاجتهاد وفي هذه الآية توكيد بعموم الظرف في قوله: { أين ما ثقفوا } وبتكرار ضرب.
{ وبآءوا } الآية، تقدم تفسير نظيرها في البقرة وهنا الأنبياء جمع تكسير وهناك جمع سلامة وهنا بغير حق نكرة وهناك بغير الحق معرفة، وذلك من التفنن في الكلام.
[3.113-116]
{ ليسوا سوآء } سبب نزولها إسلام عبد الله بن سلام وغيره من اليهود وقول الكفار من احبارهم ما آمن بمحمد إلا شرارنا ولو كانوا أخيارا ما تركوا دين آبائهم، قاله ابن عباس: والضمير في ليسوا عائد على أهل الكتاب وسواء خبر ليس بخبرية عن الاثنين وعن الجمع، وقد سمع تثنيته، قالوا: هما سواء ان ثم بين تعالى عدم التسوية بقوله تعالى:
{ من أهل الكتاب } إلى ما وصفهم به.
{ قآئمة } أي مستقيمة.
و { آنآء الليل } ساعاته واحدها أنى كمعي وأنى كفتى، وأنى كنحن، وأنى كظبي، وأنو كجرد ووصو أمة بقوله: " قائمة " وهو إسم فاعل يدل على الثبوت ثم بالمضارعات من قوله: يتلون ويؤمنون ويأمرون وينهون ويسارعون وهي تدل على التجدد والتكرار والمسارعة والمبادرة والخيرات عامة تشمل هذه الأوصاف السابقة وغيرها.
{ وأولئك } إشارة إلى من اتصف بهذه الأوصاف السابقة، فانظر إلى حسن مساق هذه الصفات حب توسط الأعيان وتقدمت عليه الصفة المختصة بالإنسان في ذاته وهي الصلاة بالليل وتأخرت عنه الصفتان المتعديتان والصفة المشتركة وكلها نتائج عن الإيمان.
{ وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } قرىء: بالياء فيها جريا على نسق الغيبة وبالتاء فيهما.
الظاهر انه التفات إلى قوله: أمة قائمة وصفهم بأوصاف جليلة أقبل عليهم تأنيسا لهم واستعطافا عليهم فخاطبهم بأن ما يفعلونه من الخير فلا يمنعون ثوابه ولذلك اقتصر على قوله: من خير. لأنه موضع عطف عليهم وترحم ولم يتعرض لذكر الشر ومعلوم أن كل ما يفعل من خير وشر يترتب عليه موعوده ويؤيد هذا الالتفات أنه راجع إلى أمة قائمة قرارة الياء.
{ إن الذين كفروا } الآية، وهو أنه لما ذكر شيئا من أحوال المؤمنين ذكر شيئا من أحوال الكافرين ليتضح الفرق بين القبلتين.
[3.117-120]
{ مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا } الآية، قال الزمخشري: شبه ما كانوا ينفقونه من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس، لا يبتغون به وجه الله تعالى بالزرع الذي حسه البرد فذهب حطاما وقيل هو كما كانوا يتقربون به إلى الله تعالى مع كفرهم وقيل ما انفقوا في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فضاع عنهم لأنهم لم يبلغوا بإنفاق ما أنفقوه لأجله، " انتهى ".
وقال ابن عطية: معناه المثال القائم في النفس في إنفاقهم الذي يعدونه قربة وحسبة وتحنثا ومن حبطه يوم القيامة وكونه هباء منثورا وذهابه كالمثال القائم في النفس من زرع قوم ينبت وأخضر وقوي الأمل فيه فهبت عليه ريح منها صر محرث فأهلكته، " انتهى ".
والظاهر أن ما في قوله: { مثل ما ينفقون } ، موصولة والعائد محذوف أي ينفقونه والظاهر تشبيه ما ينفقونه بالريح والمعنى على تشبيهه بالحرث فقيل هو من التشبيه المركب وهو اختيار الزمخشري وقيل: وقع التشبيه بين شيئين وشيئين ذكر أحد المشبهين وترك ذكر الآخر ثم ذكر أحد الشيئين المشبه بهما وليس الذي توازن المذكور الأول وترك ذكر الآخر ودل المذكور ان على المتروكين وهو اختيار ابن عطية وهذه غاية البلادة والإعجاز، " انتهى ".
ويجوز أن يكون على حذف مضاف من الأول تقديره مثل جهلك ما ينفقون أو من الثاني تقديره كمثل مهلك ريح وقيل يجوز أن تكون ما مصدرية أي مثل إنفاقهم فيكون قد شبه المعقول بالمحسوس إذ شبه الريح بالانفاق وظاهر قوله: ينفقون أنه من نفقة المال وأفرد الريح لأنه أكثر ما يأتي في العذاب والجمع في الرحمة كقوله: أي صرصرا والرياح مبشرات والصر البرد الشديد المحرق، وقيل: البارود بمعنى الصرصر وقد استعملته العرب صفة كقول الشاعر:
نكباء حر بأصحاب المحلات
وقوله: أصابت حرث قوم هو على حذف مضاف التقدير زرع حرث قوم أو أطلق الحرث على الزرع مجازا والضمير في ظلموا عائد على قوم وأبعد الزمخشري في تجويز جعله عائدا على الذين ينفقون.
{ يأيها الذين آمنوا } الآية، نزلت في رجال من المؤمنين يواصلون رجالا من يهود للجوار والحلق والرضاع قاله ابن عباس: وقال أيضا هو وقتادة والسدى والربيع نزلت في المنافقين نهى الله المؤمنين عنهم البطانة في الثوب بإزاء الظهار وتستعار لمن يختصه الإنسان كالشعار والدثار.
ألوت في الأمر قصرت فيه
والخبل الفساد والعنت المشقة وقوله: { من دونكم } في موضع الصفة لبطانة أو متعلقا بلا تتخذوا ودون أصله ظرف مكان ثم اتسع فيه حتى صار بمعنى غير فكأنه قيل من غيركم. ودل هذا النهي على المنع من استكتاب أهل الذمة وتصريفهم في البيع والشراء والاستتابة إليهم وقد عتب عمر رضي الله عنه أبا موسى على استكتابه ذميا وتلا عليه هذه الآية.
وقد قيل لعمر في كاتب محبل من نصارى الحيرة ألا يكتب عنك فقال: إذن اتخذ بطانة والجملة من قوله: لا يألونكم خبالا موضع لها من الإعراب، إذ جاءت بيانا لحال البطانة الكافرة هي والجمل التي بعدها لتنفير المؤمنين عن اتخاذهم بطانة ومن ذهب إلى أنها صفة للبطانة أو حال لما تعلقت به من تبعيد عن فهم الكلام الفصيح لأنهم نهوا عن اتخاذ بطانة كافرة ثم نبه على أشياء مما هم عليه من ابتغاء الفوائل للمؤمنين وودادة مشقتهم وظهور بعضهم والتقييد بالوصف أو بالحال يؤذن بجواز الاتخاذ عند انتفائهم وبألو فعل لازم وهنا جاء بعده منصوبان فخرج على ان خبالا حال منقول من المفعول أي لا يألون خبالكم وأصله في خبالكم أو على أنه مصدر في موضع الحال أو على أنه تعدى للضمير على إسقاط اللام وللخبال على إسقاط في والأحسن تخريجه على التضمين أي لا يمنعونكم فسادا كقولك: ما آلوك نصحا أي ما منعك نصحا وما في قوله: ما عنتم مصدرية تقديره وأعنتكم أي مشقتكم.
{ من أفواههم } أي لا يكتفون ببغضكم بقلوبهم حتى يصرحوا بذلك بأفواههم وذكر الأفواه دون الألسنة، إشعار إبان ما يلفظون به يملأ أفواههم كما يقال، قال: كلمة تملأ الفم إذا تشدق بها.
{ هآأنتم أولاء } تقدم الكلام على نظير هذا في قوله:
هأنتم هؤلاء حاججتم
[آل عمران: 66]، قال الزمخشري: وتؤمنون بالكتاب كله، الواو في وتؤمنون للحال وانتصابها من لا يحبونكم أي لا يحبونكم والحال انكم تؤمنون بكتابهم كله وهم مع ذلك يبغضونكم فما بالكم تحبونهم وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم وفيه توبيخ شديد بأنهم في باطلهم أصلب منكم في حقكم ونحوه.
فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون
[النساء: 104] " انتهى كلامه ". وهو حسن إلا أن فيه من صناعة النحو ما يخدشه وهو أنه جعل الواو في وتؤمنون للحال وأنها منتصبة في لا يحبونكم والمضارع المثبت إذا وقع حالا لا تدخل عليه واو الحال، تقول: جاء زيد يضحك، ولا يجوز ويضحك، وأما قولها: قمت وأصل عينه نفي فآية الشذوذ وقد أول على إضمار مبتدأ أي قمت وأنا أصك عينه فتصير الجملة إسمية ويحتمل هذا التأويل هنا أي ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله لكن الأولى ما ذكرناه من كونها للعطف قال ابن عطية وتؤمنون بالكتاب كله يقتضي ان الآية في منافقي اليهود لا في منافقي العرب ويعترضها ان منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانا مطلقا ويكفرون في الباطن كما كان المنافقون في العرب إلا ما روي من أمر زيد بن الصيف القينقاعي فلم يبق إلا أن قولهم آمنا معناه صدقنا أنه نبي مبعوث إليكم، أي: فكونوا على دينكم ونحن أولياؤكم وإخوانكم لا نضمر لكم إلا المودة ولهذا كان البعض المؤمنين يتخذهم بطانة وهذا منزع قد حفظ ان كثيرا من اليهود كان يذهب إليه ويدل على هذا التأويل ان المعادل لقولهم: آمنا بمعنى الانامل من الغيظ وليس فيه ما يقتضي الاقدار كما في قوله:
وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم
[البقرة: 14]. بل هو ما يقتضي البعض وعدم المودة وكان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية قال: هم الأباضية وهذه الصفة قد ترتبت في أهل البدع من الناس إلى يوم القيامة، " انتهى " ما ذكر من أن منافقي اليهود لم يحفظ عنهم أنهم كانوا يؤمنون في الظاهر إيمانا مطلقا ويكفرون في الباطن إلا ما روي من أمر زيد فيه نظر فإنه قد روي أن جماعة منهم كانوا يعتمدون ذلك ذكره البيهقي وغيره. ولو لم يرو ذلك إلا عن زيد القينقاعي لكان في ذلك هدنة لهم بذلك إذ قد وجد ذلك في جنسهم وكثيرا ما تمدح العرب أو تذم بفعل الواحد من القبيلة ويؤيد صدور ذلك من اليهود قوله تعالى:
وقالت طآئفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره
[آل عمران: 72].
{ عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } الظاهر فعل ذلك وأنه يقع منهم عض الأنامل لشدة الغيظ مع عدم القدرة على إنفاذ ما يريدون ويحتمل أن لا يكون بمعنى الأنامل ويكون ذلك من مجاز التمثيل خبر بذلك عن شدة الغيظ والتأسف على ما يفوتهم من إذايتكم.
{ قل موتوا بغيظكم } ظاهره أنه صلى الله عليه وسلم أمر أن يواجههم بهذا الأمر على سبيل الدعاء والمباينة لهم والباء في بغيظكم للحال أي ملتبسين بغيظكم.
{ إن تمسسكم حسنة تسؤهم } ذكر تعالى المس في الحسنة ليبين ان بأدنى مس الحسنة تقع المساءة بنفوس هؤلاء المبغضين ثم عادل ذلك في السيئة بلفظ الإصابة وهي عبارة عن التمكن لأن الشيء المصبب شيئا هو متمكن منه أو فيه فدل هذا النوع البليغ على شدة العداوة إذ هو حقد لا يذهب عنه الشدائد بل يفرحون بنزول الشدائد بالمؤمنين وقابل الحسنة بالسيئة بالفرح وهي مقابلة بديعة وقرىء: لا يضركم من ضار يضير وقرىء: بضم الضاد والراء مرفوعة مشدودة من ضر يضر وخرج على أن حركة الراء حركة اتباع لحركة الضاد وقيل هي حركة إعراب وذلك على أن البنية التقديم لا على أنه جواب الشرط وهذا ضعيف والذي نختاره أنه أجرى حركة الكاف بجري حركة الهاء فضم ما قبل الكاف، كما قالت العرب: لم يرده وهذا توجيه شذوذ في هذه القراءة، وقرأ الضحاك لا يضركم كيدهم بضم الضاد وكسر الراء المشددة على أضل التقاء الساكنين، قال ابن عطية: فأما الكسر يعني في الراء فلا أعرفه قراءة وعبارة الزجاج في ذلك وتجوز فيها إذ يظهر من درج كلامه أنها قراءة، " انتهى ". وهي قراءة كما ذكرنا عن الضحاك.
[3.121-125]
{ وإذ غدوت من أهلك } الآية مناسبتها لما قبلها، أنه لما نهاهم عن اتخاذ بطانة من الكفار ووعدهم أنهم إن صبروا واتقوا فلا يضرهم كيدهم ذكرهم بحالة اتفق فيها بعض طواعية واتباع لبعض المنافقين وهو ما جرى يوم أحد لعبد الله بن أبي سلول حين انخذل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعه في الانخذال ثلاثمائة رجل من منافق وغيرهم من المؤمنين، وان ذلك كله كان في غزوة أحد وفيها نزلت هذه الآية كلها، ومعنى غزوة خروجه من عند أهله وفسر ذلك بخروجه من حجرة عائشة رضي الله عنها يوم الجمعة غدوة.
{ مقاعد للقتال } أي مواطن للقتال وعبر بالقعود لأنه الدال على الثبوت للشيء، قال الزمخشري وقد اتسع في قعد وقام حتى أجريا مجرى صار، " انتهى ".
أما إجراء قعد مجرى صار، فقال: أصحابنا إنما صار في لفظة واحدة وهي شاذة لا تتعدى وهي في قولهم: شحذ شفرته حتى قعدت كأنها حربة أي صارت وقد نقد على الزمخشري تخريج قوله تعالى: { فتقعد } ملوما على أن معناه فتصير لأن ذلك عند النحويين لا يطرد وفي اليواقيت لأبي عمر الزاهي، قال ابن الأعرابي: القعد الصيرورة والعرب تقول: قعد فلان أميرا بعدما كان مأمورا أي صار وأما إجراء قام مجرى صار فلا أعلم أحدا عدها في أخوات كان ولا ذكر أنها تأتي بمعنى صار ولا ذكر لها خبرا إلا أبا عبد الله بن هشام الخضراوي فإنه قال في قول الشاعر:
على ما قام يشتمني لئيم
انها من أفعال المقاربة قال الزمخشري: أو عمل فيه بمعنى سميع عليم، " انتهى ". يعني في إذ همت وهذا غير محرر لأن العامل لا يكون مركبا من وصفين فتحريره أن يقول أو عمل فيه معنى سميع أو عليم وتكون المسألة من باب التنازع وجواز أن يكون معمولا لتبوىء ولغدوت.
{ إذ همت طآئفتان منكم أن تفشلا } الطائفتان بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وهما الجناحان، قاله ابن عباس: وكان خروجه عليه السلام في ألف، والمشركون في ثلاثة آلاف، فانخذل عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الناس.
{ والله وليهما } فيه ثناء عليهما، إذ لم ينفذوا إليهم بل حضرا القتال وقرىء: وليهم على الجمع.
{ ولقد نصركم الله ببدر } لما أمرهم بالتوكل عليه ذكرهم بما يوجب التوكل عليه وهو ما سنى لهم وما يسر من الفتح والنصر يوم بدر وهم في حال قلة وذلة إذ كان ذلك النصر ثمرة التوكل عليه والثقة به.
{ وأنتم أذلة } في أعين أعدائكم من القلة وان كانوا أعزاء في نفوسهم والنصر ببدر هو المشهور الذي قتل فيه صناديد قريش، وعلى يوم بدر انبنى الإسلام وكان يوم الجمعة السابع عشر من رمضان الثمانية عشر شهرا من الهجرة.
{ إذ تقول للمؤمنين } الآية، ظاهر هذه الآية اتصالها بما قبلها وانها من قصة بدر هو قول الجمهور فيكون إذ معمولا لنصركم وقيل هذا من تمام قصة أحد فيكون قوله: { ولقد نصركم الله ببدر } معترضا بين الكلامين لما فيه من التحريض على التوكل والثبات للقتال وحجة هذا القول أن يوم بدر كان المدد فيه من الملائكة بألف وهنا بثلاثة آلاف والكفار يوم بدر كانوا ألفا والمسلمون على الثلث فكان عدد الكفار مقابلا لعدد الملائكة ويوم أحد كان المسلمون ألفا والكفار ثلاثة آلاف توعدوا بثلاثة آلاف من الملائكة، وقال: ويأتوكم من فورهم، أي: الأعداء ويوم بدر ذهب المسلمون إليهم، قال الزمخشري: فإن تلت كيف يصح أن يقوله لهم يوم أحد ولم تنزل فيه الملائكة؟ قلت: قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم فلم يصبروا عن الغنائم ولم يتموا حيث خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك لم تنزل الملائكة ولو تموا على ما شرط عليهم لنزلت وإنما قدم الوعد بنزول الملائكة لتقوى قلوبهم ويعزموا على الثبات ويثقوا بنصر الله، " انتهى ".
وقوله: لم تنزل فيه الملائكة ليس مجمعا عليه بل قال مجاهد: حضرت فيه الملائكة ولم تقاتل، فعلى قول مجاهد يسقط السؤال، وقوله قاله لهم مع اشتراط الصبر والتقوى عليهم، فلم يصبروا عن الغنائم ولم يتقوا إلى آخره، المشرط بالصبر والتقوى هو الإمداد بخمسة آلاف أما الإمداد الأول هو بثلاثة آلاف فليس بمشروط ولا يلزم من عدم إنزال خمسة آلاف لقوات شرطة ان لا تنزل ثلاثة آلاف ولا شيء منها، قال ابن عطية: وقرأ الحسن بثلاثة آلاف يقف على الهاء وكذلك بخمسة آلاف ووجه هذه القراءة ضعيف لأن المضاف والمضاف إليه يقتضيان لاتصال إذ هما كالاسم الواحد وإنما الثاني كمال الأول، والهاء إنما هي إمارة وقف فيقلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع فمن ذلك ما حكاه الفراء أنهم يقولون أكلت لحما شاة يريدون لحم شاة فمطلوا الفتحة حتى نشأت عنها ألف كما قالوا في الوقف قالا: يريدون، قال: ثم مطلوا الفتحة في القوا في ونحوها من مواضع الروية والتثبت. ومن ذلك في الشعر قوله:
ينباع من زفري غصوب جسرة
زيانة مثل العتيق المكرم
يريد ينبع فمطل.
ومنه قول الآخر:
أقول إذا حزت على الكلكال
يا ناقتا ما جلت من مجال
يريد الكلكل.
ومنه قول الآخر:
فأنت من الغوائل حين ترمي
ومن ذم الرجال بمنتزاح
يريد بمنتزح قال أبو الفتح: فإذا جاز أن يعترض هذا التمادي بين أثناء الكلمة الواحدة جاز التمادي والتأني بين المضاف والمضاف إليه هما في حقيقة اثنان، " انتهى كلامه ".
وهذا تكثير وتنظير بغير ما يناسب والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة انها من إجراء الوصل مجرى الوقف أبدلها هاء في الوصل كما أبدلو ما في الوقت وموجود في كلامهم إجراء الوصل مجرى الوقف وإجراء الوقف مجرى الوصل وأما قوله: لكن قد جاء في مواضع وجمع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوصل وإنما هو نظير قولهم: ثلاثة أربعة بدل التاء، هاء ثم نقل حركة همزة أربعة إليها وحذف الهمزة، فأجرى الوصل مجرى الوقف في الإبدال ولأجل الوصل نقل إذ لا يكون هذا النقل الشر في الوصل، قال أبو عبد الله محمد بن أبي الفضل المرسي ألا يكفيكم جواب الصحابة. حين قالوا هلا أعلمتنا بالقتال لنتأهب فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألن يكفيكم قال ابن عيسى والكفاية مقدار سد الخلة والامداد اعطاء الشيء حالا بعد مال، " انتهى ". ومعنى من فورهم من سفرهم هذا قاله ابن عباس، أوجههم هذا قاله الحسن وقتادة السدي، قيل: وهي لغة هذيل وقيس بن غيلان وكنانة أو من غضبهم هذا قاله مجاهد وعكرمة والضحاك وأبو صالح المولى لعم هانىء أو معناه في نهضتهم هذه قاله ابن عطية أو المعنى من ساعتهم هذه، قاله الزمخشري: ولفظة الفور تدل على السرعة والعجلة تقول : افعل هذا على الفور لا على التراضي ومنه الفوز في الحج والوضوء وفي إسناد الإمداد إلى لفظه ربكم دون غيره من أسماء الله اشعار بحسن النظر لهم واللطف بهم وقرىء: مسومين بفتح الواو وكسرها واشتقاقه من السومة وهي العلامة وفي تعيين الاعلام خلاف الله أعلم بالصحيح من ذلك.
[3.126-132]
{ وما جعله الله } الضمير عائد على المصدر المفهوم من يمددكم وهو الامداد.
و { بشرى } مصدر وهو مفعول من أجله ولما وجدت فيه الشروط من اتحاد الفاعل والزمان لم تدخل عليه اللام ولما اختل فيما بعده شرط وهو عدم اتحاد الفاعل أتى باللام في قوله: ولتطمئن.
ولام { ليقطع } هذه لام كي متعلقة. بمحذوف تقديره نصركم ليقطع يدل عليه ما قبله من قوله: وما النصر إلا من عند الله.
{ طرفا } أي جانبا من الكفار بقتل أو أسر أو فرار.
{ أو يكبتهم } أي يهزمهم، قاله ابن عباس. وقرىء بالدال مكان التاء أي يصيب كبدهم بالحزن وعدم الظفر. يقال: كبده أي أصاب كبده.
{ ليس لك من الأمر شيء } جملة اعتراض بين المعطوفين منبهة على أن الأمر لله وحده لا يشركه في ذلك أحد.
{ يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربوا } مناسبتها لما قبلها ومجيئها بين أثناء القصة أنه لما نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من غيرهم واستطرد لذكر قصة أحد وكان الكفار أكثر معاملاتهم بالربا مع أمثالهم ومع المؤمنين وهذه المعاملة مؤدية إلى مخالطة الكفار نهوا عن هذه المعاملة التي هي الربا، قطعا لمخالطة الكفار ومودتهم واتخاذ إخلاء منهم لا سيما والمؤمنون في أول حال الاسلام ذوو إعسار والكفار من اليهود وغيرهم ذوو يسار. وكان أيضا أكل الحرام له مدخل عظيم في عدم قبول الأعمال الصالحة والأدعية، كما جاء في الحديث: أن الله لا يستجيب لمن مطعمه حرام وملبسه حرام إذا دعى، وإن آكل الحرام يقول إذا حج: لبيك وسعديك، فيقول الله له: لا لبيك. ولا سعديك وحجك مردود عليك. فناسب ذكر هذه الآية هنا. وقيل: ناسب اعتراض هذه الجملة هنا أنه تعالى وعد المؤمنين بالنصر والامداد مقرونا بالصبر والتقوى فبدأ بالأهم منها وهو ما كانوا يتعاطونه من أكل الأموال بالباطل، وأمر بالتقوى ثم بالطاعة. وقيل: لما قال: ولله ما في السماوات وما في الأرض، بين أن ما فيهما من الموجودات ملك له ولا يجوز أن يتصرف في شيء منها إلا بإذنه على الوجه الذي شرعه، وأكل الربا متصرف في ماله أي الله، بغير الوجه الذي أمر، نبه تعالى على ذلك ونهى عما كانوا في الاسلام مستمرين عليه من حكم الجاهلية التضعيف عاما بعد عام والربا محرم جميع أنواعه فهذه الحال لا مفهوم لها وليست قيدا في النهي، إذ ما لا يقع أضعافا مضاعفة مساو في التحريم لما كان أضعافا مضاعفة، وقد تقدم الكلام في نسبة الأكل إلى الربا في البقرة. وقيل: المضاعفة منصرفة إلى الأموال فإن كان الربا في السن يرفعونها ابنة مخاض بابنة لبون، ثم حقة، ثم جذعة، ثم رباع، وهكذا إلى فوق. وإن كان في النقود فمائة إلى قابل بمائتين فإن لم يوفهما فأربعمائة، والاضعاف جمع ضعف، وهو من جموع القلة فلذلك أردفه بالمضاعفة. وقرىء { سارعوا } بغير واو وسارعوا بالواو.
[3.133-138]
و { عرضها السموت والأرض } فيه حذفان كاف التشبيه ومضاف تقديره كعرض السماوات، يدل على ذلك قوله تعالى في الحديد:
كعرض السمآء
[الآية: 21]، والسماء يراد به الجنس لا الأفراد يدل على ذلك قوله: عرضها السماوات جمعا، والعرض يستعمل في السعة وبالمعنى الذي يقابل الطول وقد فسر العرض هنا بهذين بوجهين.
{ في السرآء والضرآء } قال ابن عباس: السراء. اليسر، والضراء العسر.
{ والكاظمين الغيظ } أي الممسكين ما في أنفسهم من الغيظ بالصبر فلا يظهر له تأثير في الخارج.
{ والذين إذا فعلوا فاحشة } الآية نزلت بسبب نبهان التمار أتته امرأة تشتري منه تمرا فقبلها وضمها، ثم ندم وقيل: ضرب على عجزها، قال ابن عباس: الفاحشة الزنا، وظلم النفس ما دونه من النظر واللمسة.
{ ولم يصروا } معطوف على فاستغفروا لذنوبهم والاصرار على الذنب المداومة عليه.
{ ومن يغفر الذنوب إلا الله } جملة اعتراض بين المتعاطفين. وتقدم إعراب نظيرها في قوله تعالى:
ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه
[البقرة: 130]، وهذه الجملة الاعتراضية فيها ترقيق للنفس وداعية إلى رجاء الله وسعة عفوه واختصاصه فغفران الذنوب.
[3.139-142]
{ ولا تهنوا ولا تحزنوا }
" لما انهزم من انهزم من المؤمنين أقبل خالد يريد أن يعلو الجبل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يعلن علينا اللهم لا قوة لنا إلا بك "
فنزلت، قاله ابن عباس. ولا تهنوا أي لا لا تضعفوا عن الحرب ولا تحزنوا على ما فاتكم من الظفر بالكفار.
{ إن يمسسكم قرح } المعنى ان نالوا منكم يوم أحد فقد نلتم منهم يوم بدر ثم لم يضعفوا إن قاتلوكم بعد ذلك فلا تضعفوا أنتم أو فقد مس القوم في غزوة أحد قبل مخالفة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحوه وهذه تسلية منه تعالى للمؤمنين. والتأتي فيه أعظم مسلاة. وقرىء أن تمسسكم بالتاء وبالياء فبالتاء على تأنيث القرح بمعنى الجراحة. وقرىء قرح بفتح القاف وضمها مع سكون الراء. وقرىء قرح بفتح القاف والراء وهما لغتان. وبفتح القاف وضمها مع سكون الراء. كالطرد والطرد.
{ وليمحص } التمحيص التطهير من الذنوب وقيل الابتلاء والاختبال.
{ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة } هذه الآية وما بعدها عتب شديد لمن وقعت منهم الهفوات يوم أحد واستفهم على سبيل الانكار أن يظن أحد أنه يدخل الجنة وهو فحل بما افترض عليه من الجهاد والصبر عليه.
{ ولما يعلم الله } جملة حالية. والمعنى: ولما يكن جهاد يعلمه الله تعالى. وقال الزمخشري: ولما بمعنى لم إلا أن فيه ضربا من التوقع فدل على نفي الجهاد فيما مضى وعلى توقعه فيما يستقبل، وتقول: وعدني أن يفعل كذا ولما تريد ولم يفعل وأنا متوقع فعله. انتهى كلامه. وهذا الذي قاله في لما انها تدل على توقع الفعل المنفي بها فيما يستقبل لا أعلم أحدا من النحويين ذكره بل ذكروا أنك إذا قلت: لما يخرج زيد، دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى متصلا نفيه إلى وقت الاخبار أما أنها تدل على توقعه في المستقبل فلا. وقرىء ولما يعلم الله بفتح الميم وخرج على أنه اتباع لفتحة اللام أو على أنه دخلته النون الخفيفة وحذفت كما حذفت في قوله: لا تهين الفقير فأصله يعلمن وتهينن أو على أنه نصب بالجازم وهي لغية كما جزموا بالناصب في قوله:
لن يخب الآن من رجائك من
حرك من دون بابك الحلقه
وقرأ الجمهور ويعلم بفتح الميم فقيل: هو مجزوم واتبع الميم اللام في الفتح كقراءة من قرأ ولما يعلم بفتح الميم على أحد التخاريج. وقيل: هو منصوب فعلى مذهب البصريين بإضمار إن بعد واو مع نحو: لا تأكل السمك وتشرب اللبن وعلى مذهب الكوفيين بواو الصرف. وقرىء ويعلم بكسر الميم عطفا على ولما يعلم. وقرىء ويعلم برفع الميم. قال الزمخشري على أن الواو للحال كأنه قيل: ولما تجاهد واو وأنتم صابرون. انتهى. ولا يصح ما قال لأن واو الحال لا تدخل على المضارع المثبت لا يجوز: جاء زيد ويضحك، وأنت تريد جاء زيد يضحك، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل فكما لا يجوز: جاء زيد وضاحكا، كذلك لا يجوز: جاء زيد ويضحك، فإن أول على أن المضارع خبر مبتدأ محذوف أمكن ذلك التقدير وهو يعلم الصابرين.
[3.143-150]
{ ولقد كنتم تمنون الموت } الآية الخطاب للمؤمنين وظاهره العموم والمراد الخصوص وذلك أن جماعة من المؤمنين لم يحضروا غزوة بدر إذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج مبادرا يريد عبر القريش فلم يظنوا حربا وفاز أهل بدر بما فازوا به من الكرامة في الدنيا والآخرة فتمنوا لقاء العدو ليكون لهم يوم كيوم بدر وهم الذين حرضوا على الخروج لأحد، فلما كان في يوم أحد ما كان من قتل عبد الله بن قميئة مصعب بن عمير الذاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ظانا أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قتلت محمدا وصرخ صارخ وفشا ذلك في الناس انكفوا فآرين، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: الي عباد الله حتى انحازت إليه طائفة واستعذروا في انكفائهم بأنه أتانا خبر قتلك فرعبت قلوبنا فولينا مدبرين، فنزلت هذه الآية بلومهم على ما صدر منهم مع ما كانوا قرروا مع أنفسهم من تمني الموت. وقرأ البزي: كنتم تمنون بشد التاء في حروف محصورة ذكرها القراء في كتبهم.
{ من قبل أن تلقوه } هو على حذف مضاف تقديره أن تلقوا أسبابه.
{ فقد رأيتموه } أي رأيتم أسبابه وقرأ الجمهور الرسل. وقرىء رسل بالتنكير.
{ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } لما صرح بأن محمدا قد قتل تزلزلت أقدام المؤمنين ورعبت قلوبهم وأمعنوا في الفرار وكانوا ثلاث فرق فرقة قالوا ما نصنع بالحياة بعد رسول الله قاتلوا على ما قاتل عليه فقاتلوا حتى قتلوا منهم أنس بن النضر، وفرقة قالوا: نلقي إليهم بأيدينا فإنهم قومنا وبنو عمنا. وفرقة أظهرت النفاق وقالوا ارجعوا إلى دينكم الأول فلو كان محمدا نبيا ما قتل وقد اجتمع الاستفهام والشرط. ومذهب سيبويه ان انقلبتم جواب للشرط. ومذهب يونس ان لاستفهام داخل على انقلبتم، وجواب الشرط محذوف وهي مسألة ذكرت في النحو، وعلى أعقابكم معناه الارتداد وقيل الفرار وتقدم في البقرة تفسير نظيره. قال ابن عطية: كتابا مؤجلا كتابا نصب على التمييز. انتهى. هذا لا يظهر فإن التمييز: كما قسمه النحاة ينقسم إلى منقول وغير منقول وأقسامه في النوعين محصورة وليس هذا واحدا منها. انتهى. قرأ الأعمش: ومن يرد ثواب الدنيا يؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة يؤته منها بالياء فيهما. قال ابن عطية: وذلك على حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه. انتهى. وهذا وهم وصوابه وذلك على إضمار الفاعل والضمير عائد على الله تعالى.
{ وكأين من نبي قاتل معه ربيون } الآية لما كان من المؤمنين ما كان يوم أحد وعتب الله عليهم ما صدر منهم في الآيات التي تقدمت أخبرهم بأن الأمم السالفة قتلت أنبياء كثيرين أو قتل ربيون كثير معهم فلم يلحقهم ما لحقكم من الوهن والضعف ولا تناهم عن القتال فجعهم بقتل أنبيائهم أو قتل ربييهم بل مضوا قدما في نصرة دينهم صابرين على ما حل بهم إذ قتل نبي أو أتباعه من أعظم المصائب، فكذلك كان ينبغي لكم التأسي بمن مضى من صالحي الأمم السابقة هذا وأنتم خير الأمم ونبيكم خير الأنبياء.
وفي هذه الآية من العتب لمن فر عن النبي صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى وكاين بمعنى للتكثير وهي مركبة من كاف التشبيه ومن أي وبعض القراء وقف على الياء وبعضهم على التنوين لثبوتها في رسم المصحف وفيها لغات منها وكائن. وقرىء بهذه الثلاث في الشواذ وكأين مبتدأ خبره قتل وفي نبي تمييز وتكثير زيادة من فيه وزعم ابن عصفور انها لازمة فيه والصحيح أنه يجوز حذف من ونصب التمييز نص عليه سيبويه وغيره، والضمير في قتل عائد على كأين، والجملة من قوله: معه ربيون في موضع الحال وجوز أن يكون المرفوع بقتل ربيون والربي منسوب إلى الرب، وكسر الراء فيه شذوذ كما نسبوا إلى أمس امسى وهو عابد الرب لما أصابهم من قتل كان الضمير قتل يراد به النبي وإن كان المقتول الربيين فالضمير في وهنوا لا يعود على الربيين بل يعود على من بقي. قال ابن عطية: قراءة من قرأ قاتل أعم في المدح لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي ويحسن عندي على هذه القراءة إسناد الفعل إلى الربيين وعلى قراءة قتل إسناده إلى نبي. " انتهى ". ويظهر أن قتل أمدح وهو أبلغ في مقصود الخطاب لأنها نص في وقوع القتل ويستلزم المقاتلة، وقاتل لا يدل على القتل إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل إذ قد تكون مقاتلة ولا يقع قتل وما ذكر من أنه يحسن عنده ما ذكر لا يظهر حسنه بل القرآتان يحتملان الوجهين. قرأ قتادة: وكأين من نبي قتل معه ربيون كثير. قال أبو الفتح بن جني: لا يحسن في هذه القراءة أن يستند الفعل إلا إلى الربيين لما فيه من معنى التكثير الذي لا يجوز أن يستعمل في قتل شخص واحد (فإن قيل) يستند إلى نبي مراعاة لمعنى كم فالجواب أن اللفظ قد مشى على جهة الافراد في قوله: من نبي، ودل الضمير المفرد في معه على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد فخرج الكلام عن معنى كم قال ابو الفتح: وهذه القراءة تقوى قول من قال: ان قتل وقاتل إنما يستند إلى الربيين. انتهى كلامه. وليس بظاهر لأن كاين هي مثل كم وأنت إذا قلت كم من عان فككته فأفردت راعيت لفظ كم ومعناه الجمع فإذا قلت كم من عان فككتم راعيت معنى كابن لا لفظها وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير والمراد به الجمع فلا مفرق من حيث المعنى بين فككته.
وفككتهم، كذلك لا فرق بين قتلوا معهم ربيون وقتل معه ربيون، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارة ومراعاة المعنى تارة، لأن مدلول كم وكأين كثير والمعنى جمع كثير وإذا أخبرت عن جمع كثير فتارة تفرد مراعاة للفظ وتارة تجمع مراعاة للمعنى، كما قال تعالى:
أم يقولون نحن جميع منتصر سيهزم الجمع ويولون الدبر
[القمر: 44-45]، فقال: منتصر، وقال: ويولون، فأفرد في منتصره وجمع في يولون. وقول أبي الفتح في جواب السؤال الذي فرضه: إن اللفظ قد جرى على جهة الافراد في قوله من نبي أي روعي لفظ كأين لكون تمييزها جاء مفردا فناسب لما ميزت بمفرد أن يراعي لفظها، والمعنى على الجمع. وقوله: ودل الضمير المفرد في معه على أن المراد إنما هو التمثيل بواحد واحد هذا المراد مشترك بين أن يفرد الضمير أو يجمع لأن الضمير المفرد ليس معناه هنا إفراد مدلوله بل لا فرق بينه مفرد أو مجموعا من حيث المعنى فاذن لا فرق فدلالته عليه وهي دلالته على كل فرد فرد وقوله: فخرج الكلام من معنى كم لم يخرج الكلام عن معنى كم، إنما خرج عن جمع الضمير على معنى كم دون لفظها لأنه إذا أفرد لفظا لم يكن مدلوله مفردا إنما يكون جمعا كما قالوا: هو أحسن الفتيان وأجمله معناه وأجملهم. وقرىء وهنوا بفتح الهاء وبكسرها وبسكونها.
{ الذين كفروا } ظاهره العموم. وقال علي وابن عباس: هم المنافقون قالوا للمؤمنين لما رجعوا من أحد لو كان نبيا ما أصابه الذي أصابه فارجعوا إلى إخوانكم.
[3.151-153]
{ سنلقي } أتى بالسين التي هي أقرب في الاستقبال من سوف، وقرىء الرعب بسكون العين وضمها والباء في بما للسبب وما مصدرية أي بإشراكهم بالله. وقرىء سيلقي بالياء وهو ضمير الله تعالى.
{ ما لم ينزل به سلطانا } يريد إلها أو معبودا لم ينزل به سلطانا وليس المعنى أن ثم سلطانا لم ينزل الله وإنما المعنى على نفي السلطان فينتفي الإنزال كما قال الشاعر:
على لاحب لا يهتدي بمناره
أي لا منار له فيهتدي به فانتفى السلطان والانزال كما انتفى المنار والهداية به.
{ ولقد صدقكم الله وعده } هذا جواب لمن رجع إلى المدينة من المؤمنين، قالوا: وعدنا الله بالنصر والامداد بالملائكة فمن أي وجه آتينا فنزلت اعلاما أنه تعالى صدقهم الوعد ونصرهم على أعدائهم أولا وكان الامداد مشروطا بالصبر والتقوى فاتفق من بعضهم من المخالفة ما نص الله تعالى في كتابه وجاءت المخاطبة بجمع ضمير المؤمنين في هذه الآيات وإن كانوا لم يصدر ما يعاتب عليه من جميعهم وذلك على طريقة العرب في نسبة ما يقع من بعضهم للجميع على سبيل التجوز، وفي ذلك إبقاء على من فعل وستر إذ لم يعين وزجر لمن لم يفعل أن يفعل وصدق الوعد هو أنهم هزموا المشركين أولا، وكان لعلي بن أبي طالب وحمزة بن عبد المطلب والزبير وأبي دجانة وعاصم بن أبي الأفلح رضي الله عنهم في ذلك اليوم بلاء عظيم وهو مذكور في السير وكان المشركون في ثلاثة آلاف ومعهم مائتا فرس والمسلمون في سبعمائة رجل وتعدت صدق هنا إلى اثنين ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر تقول: صدقت زيدا الحديث وصدقت زيدا في الحديث وذكرها بعض النحويين في باب ما يتعدى إلى اثنين وأصلها أن يكون الثاني بحرف الجر فيكون من باب استغفر واختار والعامل في إذ صدقكم ومعنى تحسونهم تقتلونهم وكانوا قتلوا من المشركين اثنين وعشرين رجلا وقرأ أبو عبيد بن عمير تحسونهم رباعيا من الاحساس أي تذهبون حسهم بالقتل وغيا القتل بوقت الفشل وهو الجبن والضعف والتنازع هو التجاذب في الأمر التنازع صدر من الرماة
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رتب الرماة على فم الوادي وقال: أثبتوا مكانكم وإن رأيتمونا هزمنا فأنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم وعدهم بالنصر إن ثبتوا أو انتهوا إلى أمره "
، فلما انهزم المشركون قال بعض الرماة: قد انهزموا فما موقفنا هنا الغنيمة الغنيمة الحقوا بنا بالمسلمين، وقال بعضهم: بل نثبت مكاننا كما أمرنا: وقيل: التنازع هو ما صدر من المسلمين في الاختلاف حين صيح ان محمدا قد قتل والعصيان هو ذهاب من ذهب من الرماة عن مكانه طلبا للنهب والغنيمة وكان خالد بن الوليد حين رأى قلة الرماة صاح في خيله وحمل على من بقي من الرماة فقتلهم وحمل في عسكر المسلمين فتراجع المشركون فأصيب من المسلمين يومئذ سبعون رجلا وإذا بعد حتى في موضع جر بحتى مزالا عنها معنى الشرطة، قال الأخفش وغيره.
وقيل: تدخل حتى على إذا الشرطية وجواب إذا المختار أنه محذوف لا عصيتم على زيادة الواو ولا على زيادة ثم، وقدره ابن عطية: انهزمتهم، والزمخشري: منعكم نصره، وغيرهما: امتحنتم. ويظهر لي أن الجواب المحذوف غير ما قدروه وهو انقسمتم إلى قسمين ويدل عليه ما بعده وهو نظير فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد التقدير انقسموا قسمين فمنهم مقتصد. لا يقال: كيف، يقال: انقسموا فيمن قتل وتنازع وعصى، لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلهم بل من بعضهم كما ذكرناه في أول الكلام على هذه الآية.
{ منكم من يريد الدنيا } قال ابن عباس: هي الغنيمة كالرماة الذين خالفوا أمر الرسول عليه السلام في الثبات في مكانهم ومنكم من يرد الآخرة، أي ثواب الآخرة كالرماة الذين ثبتوا في مكانهم. وقاتلوا حتى قتلوا في نفر دون العشرة منهم أنس بن النضر.
{ إذ تصعدون } قرىء رباعيا من أصعد، والاصعاد ابتداء السفر. وقرىء تصعدون مضارع صعد الجبل أي ارتقى فيه. وقرىء تصعدون بشد الصاد وأصله تتصعدون وماضيه تصعد أي ارتقى في السلم وقرأ الحسن.
{ ولا تلوون على أحد } وخرجوها على قراءة همزة الواو ونقل الحركة إلى اللام وحذف الهمزة ويحتمل أن يكون مضارع ولي وعدى بعلى على التضمين أي ولا تعطفون على احد، قال ابن عطية: وحذفت إحدى الواوين الساكنتين وكان قد قال في هذه القراءة وهي قراءة متركبة على لغة من همز الواو المضمومة ثم نقلت حركة الهمزة إلى اللام. انتهى. وهذا الكلام عجيب تخيل هذا الرجل أنه نقلت الحركة إلى اللام فاجتمع واوان ساكنتان احداهما الواو التي هي عين الكلمة والأخرى واو الضمير وحذفت إحدى الواوين لأنهما ساكنتان، وهذا قول من لم يمعن النظر في صناعة النحو لأنها إذا كانت متركبة على لغة من همز الواو ثم نقل حركتها إلى اللام فإن الهمزة إذ ذاك تحذف ولا يلتقي واوان ساكنتان، ولو قال: استثقلت الضمة على الواو لأن الضمة كأنها واو فصار ذلك كأنه جمع بين ثلاث واوات فنقلت الضمة إلى اللام فالتقى ساكنان فحذفت الأولى منهما ولم يبهم في قوله: إحدى الواوين لأمكن ذلك في توجيه هذه القراءة الشاذة اما أن يبني ذلك على لغة من همز على زعمه فلا يتصور ذلك.
{ والرسول يدعوكم } أي يقول إلي عباد الله.
{ فأثبكم } كني به عن المعاقبة على فرارهم عن الرسول عليه السلام كما قال: تحية بينهم وجميع.
{ غما بغم } أي ملتبسا بغم ويريد بذلك كثرة الغم الذي حصل لهم. وقال ابن عباس: هما غمان الأول هو ما أصابهم من الهزيمة والقتل، والثاني إشراف خالد بخيل المشركين عليهم. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير في فأثابكم للرسول أي فأساءكم في الاغتمام وكما غمكم ما نزل به من كسر الرباعية والشجة وغيرهما غمه ما نزل بكم فأثابكم غما اغتمه لأجلكم بسبب غم اغتممتموه لأجله ولم يتبكم على عصيانكم ومخالفتكم وإنما فعل ذلك ليسليكم وينفس عنكم.
{ لكيلا تحزنوا على ما فاتكم } من نصر الله.
{ ولا مآ أصبكم } من غلبة العدو. انتهى. هذا خلاف الظاهر لأن المسند إليه الأفعال السابقة هو الله تعالى وذلك في قوله: ولقد صدقكم الله وعده. وقوله: ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم. فيكون قوله: فأثابكم، مسندا إلى الله تعالى. وذكر الرسول إنما جاء في جملة حالية نعي عليهم فرارهم مع كون من اهتدوا على يديه يدعوهم فلم يجيىء مقصود الآن يحدث عنه إنما الجملة التي ذكر فيها في تقدير المفرد إذ هي حال. قال الزمخشري: فأثابكم عطف على صرفكم. انتهى. وفيه بعد لطول الفصل بين المتعاطفين والذي يظهر أنه معطوف على تصعدون ولا تلوون لأنه مضارع في معنى الماضي لأن إذ تصرف المضارع إلى الماضي إذ هي ظرف لما مضى، والمعنى: إذ صعد ثم وما لويتم على أحد فأثابكم لكيلا تحزنوا ليست لا زائدة وتقديره لكي تحزنوا كما ذهب إليه أبو البقاء. وقيل: لا باقية على النفي. فقال الزمخشري: لكيلا تحزنوا لتتمرنوا على تجرع الغموم وتضروا باحتمال الشدائد فلا تحزنوا فيما بعد على فائت من المنافع ولا على مصيب من المضار. انتهى. فجعل العلة في الحقيقة تبوتية وهي التمرن على تجرع الغموم والاعتياد لاحتمال الشدائد ورتب على ذلك انتفاء الحزن وجعل ظرف الحزن هو مستقبل لا تعلق له بقصة أحد بل لينتفي الحزن عنكم بعد هذه القصة. وقال ابن عطية المعنى لتعلموا أن ما وقع بكم هو بجنايتكم فأنتم آذيتم أنفسكم وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة وأكثر قلق المعاقب وحزنه إنما هو مع ظنه البراءة بنفسه. " انتهى ". والذي يظهر أن الغم الكثير الذي عاقبهم الله به غلب على قلوبهم حتى لم يقع منهم حزن على ما فاتهم ولا ما أصابهم فشغلهم الغم عن ذلك.
[3.154-156]
{ أمنة } الامنة: إلا من. وقرىء بسكون الميم والظاهر أن أمنة مفعول أنزل.
و { نعاسا } بدل منه ويجوز أن يكون أمنة مفعولا من أجله ونعاسا مفعول من أنزل أي أنزل النعاس لأجل أمنكم لأن النعاس لا يكون معه خوف ولهذا قال في الأنفال:
إذ يغشيكم النعاس أمنة منه
[الآية: 11]، أي ليؤمنكم به.
{ يغشى طآئفة منكم } هم المؤمنون وعليكم عام مخصوص به والنعاس الذي غشيهم كان حين ارتحل أبو سفيان وتركوا ركوب الخيل وجنبوها ركبوا الابل تاركين للقتال.
{ وطآئفة قد أهمتهم أنفسهم } هم المنافقون لم يلق الله عليهم النعاس، وطائفة مبتدأ وجاز الابتداء به لأنه نكرة والمكان مكان تفصيل، والواو للحال وهي من مسوغات الابتداء بالنكرة قد أهمتهم يقال: أهمني الشيء أي كان من همي وقصدي أي مما أهم به وأقصده وأهمني الأمر أقلقني وأدخلني في الهم.
و { يظنون بالله } لم يتعد إلى اثنين والباء في بالله ظرفية بمعنى في كما قال: فقلت لهم ظنوا بالفي مذحج. والمعنى يوقعون ظنهم في الله أي في حكم الله وما قدره ظنا.
{ غير الحق } فغير صفة لمصدر محذوف.
و { ظن الجهلية } بدل منه. ومعنى الجاهلية: الملة التي كانت قبل ملة الاسلام كما قال: حمية الجاهلية.
{ يقولون هل لنا من الأمر من شيء } معناه النفي ومعنى أن الأمر أي من الخروج إلى القتال والرأي.
{ قل إن الأمر كله لله } أي أن تصاريف الوجود وما يجري فيه لله تعالى لا لغيره. وقرىء كله توكيدا لقوله: الأمر. ولله خبر ان. وقرىء كله بالرفع مبتدأ وخبره لله والجملة في موضع رفع خبر ان.
{ يخفون في أنفسهم } قال الزبير: والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ومعتب هذا شهد بدرا وكان مغموصا عليه بالنفاق.
{ قل لو كنتم في بيوتكم } قارين وأراد الله قتل من قتل منكم.
{ لبرز } والمضجع مكان قتله.
{ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان } قرأها عمر على المنبر فقال: لما كان يوم أحد وهزمنا ففرت حتى صعدت الجبل فلقد رأيتني أنزو كأنني أروي والناس يقولون: قتل محمد، فقلت: لا أجد أحدا يقول قتل محمد إلا قتلته حتى اجتمعنا على الجبل، فنزلت هذه الآية كلها.
{ إنما استزلهم } أي طلب منهم الزلل ودعاهم إليه لأن ذلك هو مقتضى وسوسته وتخويفه هكذا قالوه ولا يلزم من طلب الشيء واستدعائه حصوله. فالأولى أن يكون استفعل هنا بمعنى [افعل فيكون المعنى] أزلهم الشيطان فيدل على حصول الزلل ويكون استزل وأزل بمعنى واحد كاستبان وأبان واستبل وأبل. { وقالوا } أي قال بعضهم لبعض.
{ لإخوانهم } أي لأجل إخوانهم.
{ إذا ضربوا في الأرض } والاخوان هنا إخوان النسب أو إخوان التأليف. وإذا ظرف مستقبل لا يمكن أن يعمل فيه قالوا لمضيه. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف قيل إذا ضربوا مع قالوا؟ قلت: هو حكاية الحال الماضية كقولك: حين يضربون في الأرض، وقال ابن عطية: دخلت إذا وهي حرف استقبال من حيث الذين اسم فيه إبهام يعم من قال في الماضي ومن يقول في المستقبل ومن حيث هذه النازلة فتصور في مستقبل الزمان وهذان القولان ضعيفان والذي يظهر أن العامل في إذا مضاف محذوف يدل عليه المعنى تقديره لأجل فراق إخوانهم إذا ضربوا في الأرض لتجارة وغيرها فماتوا.
{ أو كانوا غزى } فقتلوا. ويدل على المحذوف قوله: { لو كانوا عندنا } أي لو كانوا مقيمين عندنا ولم يضربوا في الأرض ولم يغزوا جعلوا الضرب في الأرض سببا للموت والغزو سببا للقتل. وغزا جمع غاز غزاة وعفاة وقرىء غزا جمع على فعل شذوذا وأصله غزو، كما قالوا: عاف وعفا، والقياس بتخفيف الزاي ووجه على حذف أحد المضعفين تخفيفا. وقيل: حذفت التاء وأصله غزاة. وقال ابن عطية: هذا الحذف كثير في كلامهم وأورد من ذلك الابو والبنو جمع أب وابن، كما قالوا: عم وعمومة ثم حذفوا التاء فقالوا: عموم. " انتهى ". ملخصا وليس أبو وبنو مما حذفت منه التاء لأنهما مصدران لا جمعان وأبو وبنو جمعان على وزن فعول، كما قالوا: بهو ونهو وكان القياس الاعتلال فيقال: ابي وبني وبهي، كما قالوا: عصا وعصي وأما الحذف الذي ادعاه في عموم من ان أصله عمومة فقول لم يذهب إليه نحوي وكذا ما ادعاه في غزا وان أصله غزاة عنده، فلا يجوز أن يقال في رماة رمى ولا في قضاة قضى ولا في ماش مشى.
{ ليجعل } لا يصح أن يكون ذلك تعليلا لقولهم وإنما قالوا ذلك تثبيطا للمؤمنين عن الجهاد، ولا يصح أن يتعلق بالنهي وهو لا تكونوا كالذين كفروا لأن جعل الله ذلك حسرة في قلوبهم لا يكون سببا لنهي الله المؤمنين عن مماثلة الكفار، قاله الزمخشري. وقد أورد سؤالا عما يتعلق به ليجعل قال أو لا تكون بمعنى ولا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله الله حسرة في قلوبهم خاصة ويصون منها قلوبكم. انتهى كلامه وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه لأن جعل الحسرة لا يكون سببا للنهي كما قلنا إنما يكون سببا لحصول امتثال النهي وهو انتفاء المماثلة فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم إذ لم توافقوهم فيما قالوه واعتقدوه فلا يضربوا في الأرض ولا يغزوا فالتبس على الزمخشري استدعاء انتفاء المماثلة بحصول الانتفاء وفهم هذا فيه خفاء ودقة. وقال ابن عيسى وغيره: اللام متعلقة بالكون أي لا تكونوا كهؤلاء ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم دونكم.
" انتهى ". ومنه أخذ الزمخشري قوله لكن ابن عيسى نص على ما تتعلق به اللام وهو لم ينص وقد بينا فساد هذ القول وإذا كانت لام الصيرورة والعاقبة تعلقت بقالوا والمعنى أنهم لم يقولوا لجعل الحسرة إنما قالوا ذلك لعلة فصار مآل ذلك الحسرة والندامة ونظر بقوله:
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا
[القصص: 8]، ولم يلتقطوه لذلك إنما آل أمره إلى ذلك، والإشارة بذلك فيه اختلاف كثير مذكور في البحر، والذي يقتضيه ظاهر الآية أن الإشارة إلى المصدر المفهوم من قالوا وإن اللام للصيرورة والمعنى أنهم قالوا هذه المقالة قاصدين التثبيط عن الجهاد والأبعاد في الأرض سواء كانوا معتقدين صحتها أم لم يكونوا معتقديها إذ كثير من الكفار قائل بأجل واحد فخاب هذا القصد وجعل الله ذلك القول حسرة في قلوبهم أي غما على ما فاتهم إذ لم يبلغوا مقصدهم من التثبيط عن الجهاد. والحسرة: الغم الذي يلحق على ما فات من بلوغ المقصد. وقرىء بما تعملون بالتاء وبالياء.
[3.157-159]
{ ولئن قتلتم } قدم القتل على الموت لقرب قوله: وما قتلوا. وقرىء متم بكسر الميم من مات يمات، كخاف يخاف، وبضمها من مات يموت ووزن الأول فعل، والثاني فعل.
واللام في قوله: { لمغفرة } جواب القسم المحذوف قبل لام التوطئة أي والله لئن قتلتم ومغفرة نكرة وصلت بقوله: من الله، وخير خبر، والمعنى خير لكم مما تجمعون من حطام الدنيا. والخطاب للمؤمنين.
{ ولئن متم } قدم الموت لمقاربة قوله: أو متم، والخطاب عام للمؤمن والكافر.
واللام في { لإلى الله } جواب القسم المحذوف، وإلى الله متعلق بقوله: { تحشرون } ولا تدخل نون التوكيد فيه للفصل بينه وبين اللام ولو لم يفصل لكان الكلام لتحشرن إلى الله وقيل هو خطاب للمؤمنين كالخطاب السابق ولذلك قدره الزمخشري لآلي الرحيم الواسع الرحمة المثيب العظيم الثواب تحشرون، قال: ولوقوع اسم الله هذا الموقع مع تقديمه وإدخال اللام على الحرف المتصل به شأن ليس بالخفي. " انتهى ". يشير بذلك إلى مذهبه من أن التقديم يؤذن بالاختصاص فكان المعنى عنده فإلى الله لا غيره تحشرون وهو عندنا لا يدل بالوضع على ذلك وإنما يدل التقديم على الاعتناء بالشيء والاهتمام بذكره كما قال سيبويه: وزاده حسنا هنا أن تأخير الفعل هنا فاصلة فلو تأخر المجرور لفات هذا الغرض.
{ فبما رحمة } ما زائدة والمجرور متعلق بلنت. قال الرازي: قال المحققون: دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين غير جائز وهنا يجوز أن تكون ما استفهامية للتعجب تقديره فبأي رحمة من الله لنت لهم، وذلك بأن جنايتهم لما كانت عظيمة، ثم إنه ما أظهر البتة تغليظا في القول ولا خشونة في الكلام علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد رباني قبل ذلك. انتهى كلامه. وما قاله المحققون صحيح لكن زيادة ما للتوكيد لا ينكره في أماكنه من له أدنى تعلق بالعربية فضلا عمن يتعاطى تفسير كلام الله وليس ما في هذا المكان مما يتوهمه أحد مهملا فلا يحتاج ذلك إلى تأويلها بأن تكون استفهاما للتعجب، ثم أن تقديره ذلك فبأي رحمة دليل على أنه جعل ما مضافة للرحمة وما ذهب إليه خطأ من وجهين: احدهما أنه لا تضاف ما الاستفهامية ولا أسماء الاستفهام غير أي بلا خلاف وكم على مذهب أبي إسحاق.
والثاني: أنه إذا لم تصح الإضافة فيكون إعرابه بدلا وإذا كان بدلا من اسم الاستفهام فلا بد من إعادة همزة الاستفهام في البدل وهذا الرجل لحظ المعنى ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ وكان يغنيه عن هذا الارتباك والتسلق إلى ما لا يحسنه، والتسور عليه قول الزجاج في ما هذه: أنها صلة فيها معنى التوكيد بإجماع النحويين والرحمة هي لين القلب ودماثته وتحننه على المرحوم.
والفظاظة: الجفوة قولا وفعلا. وغلظ القلب: صلابته وشدته بحيث لا يلين. والانفضاض: التفرق.
{ من حولك } من جهتك. { فاعف عنهم } أي عما اجترحوه من العصيان لك حيث فروا. { واستغفر لهم } أي أطلب الغفران لهم من الله. { وشاورهم في الأمر } تنبيه على رضاه عليه السلام عنهم، وجعلهم أهلا للمشاورة. وهذا الترتيب في غاية الحسن أمره تعالى بعفوه عنهم وذلك فيما كان خاصا به من تبعة له عليهم فيما هو مختص بحق الله تعالى ثم بالمشاورة وفيها فوائد تطييب نفوسهم والرفع من مقدارهم بصفاء قلبه لهم حيث أهلهم للمشاورة واختبار عقولهم واجتهادهم فيما فيه وجه الصلاح، وجرى على مناهج العرب وعادتهم في الاستشارة في الأمور وإذا لم يشاور أحدا منهم حصل في نفسه شيء. ولذلك عز على علي وأهل البيت كونهم استبد عليهم في المشورة في خلافة أبي بكر رضي الله عنهم أجمعين. (قال) ابن عطية: أمر بتدريج بليغ أمر بالعفو عنهم فيما يخصه، وإذا صاروا في هذه الدرجة أمر بالاستغفار فيما لله تعالى فإذا صاروا في هذه الدرجة أمر بالاستشارة في الأمور إذا صاروا أهلا لها. " انتهى ". وفيه بعض تلخيص ولا يظهر هذا التدريج من اللفظ ولكن هذه حكمة تقديم هذه الأوامر بعضها على بعض، أمر أولا بالعفو عنهم إذا عفوه عنهم مسقط لحقه ودليل على رضاه عليه السلام ولما سقط حقه بعفوه استغفر لهم الله ليكمل لهم صفحه وصفح الله عنهم ويحصل لهم رضاه عليه السلام ورضى الله تعالى عنهم فلما زالت عنهم التبعات من الجانبين شاورهم إيذانا بأنهم أهل للمحبة الصادقة والخلة الناصحة، إذ لا يستشير الانسان إلا من كان معتقدا فيه المودة والعقل والتجربة، ومن غريب المنقول والقول وضعيفه الذي ينزه عنه القرآن قول بعضهم ان قوله تعالى: { وشاورهم في الأمر } ، من المقلوب أي وليشاوروك في الأمر. وذكر ابن عطية أن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم والدين فعزله واجب هذا مما لا خلاف فيه. والمستشار في الدين عالم دين وقل ما يكون إلا في عاقل. انتهى ملخصا.
{ فإذا عزمت فتوكل } أي فإذا عقدت قلبك على أمر بعد الاستشارة فاجعل تفويضك فيه إلى الله فإنه العالم بالأصلح لك والأرشد لأمرك لا يعلمه من أشار عليك. وفي هذه الآية دليل على المشاورة وتخمير الرأي وتنقيحه والفكر فيه وإن ذلك مطلوب شرعا.
{ إن الله يحب المتوكلين } حث على التوكل على الله إذ أخبر أنه يحب لمن يتوكل عليه، والمرء ساع فيما يحصل له محبة الله تعالى.
[3.160-164]
{ إن ينصركم الله فلا غالب لكم } هذا التفات إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ولما أمره تعالى بمشاورتهم وبالتوكل عليه أوضح أن ما صدر من النصر أو الخذلان إنما هو راجع إلى ما يشاء، وإنه متى نصركم لا يمكن أن يغلبكم أحد، ومتى خذلكم فلا ناصر لكم، فما وقع لكم من النصر كيوم بدر أو من الخذلان كيوم أحد بمشيئته سبحانه وتعالى، ثم أمرهم بالتوكل وناط الأمر بالمؤمنين فنبه على الوصف الذي يناسب معه التوكل وهو الإيمان، لأن المؤمن مصدق بأن الله هو الفاعل المختار بيده النصر والخذلان، والتوكل على الله من فروض الإيمان ولكنه يقترن بالتشمير في الطاعة والحزامة بغاية الجهد ومعاطاة أسباب التحرز وليس الإلقاء باليد والإهمال لما تجب مراعاته بتوكل، وإنما هو كما قال عليه السلام: قيدها وتوكل. والضمير في من بعده عائد على الله تعالى أما على حذف مضاف أي من بعد خذلانه وإما أن لا يحتاج إلى تقدير هذا المحذوف؛ بل يكون المعنى إذا جاوزته إلى غيره وقد خذلك فمن ذا الذي تجاوزه إليه فينصرك.
وجاء جواب أن ينصركم الله بصريح النفي العام وجواب أن يخذلكم بمتضمن النفي وهو الاستفهام وهو من تنويع الكلام في الفصاحة والتلطف بالمؤمنين حتى لا يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم بل أبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يقتضي السؤال عن الناصر؛ وإن كان المعنى على نفي الناصر لكن الفرق بين الصريح والمتضمن فلم يجر المؤمنين في ذلك مجرى الكفار الذين نص عليهم أنه لا ناصر لهم كقوله تعالى:
أهلكناهم فلا ناصر لهم
[محمد: 13].
{ وما كان لنبي أن يغل } قال ابن عباس: فقد قطيفة حمراء من المغانم يوم بدر فقال بعض: من كان مع النبي لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها، فنزلت. وقائل ذلك مؤمن لم يظن في ذلك حرجا. وقيل: منافق. والغلول: أخذ المال من الغنيمة في خفاء. وقرىء أن يغل مبنيا للفاعل ويكون على حذف مضاف تقديره وما كان لتابع نبي أن يغل. وقرىء أن يغل مبنيا للمفعول من غل أو من أغل.
{ يأت بما غل } ظاهره أنه يأتي بعين الشيء الذي غله كما جاء في ظاهر الحديث أنه إن كان بعيرا جاء له رغاء أو بقرة لها خوارا أو شاة بيعر، وقيل يأتي حاملا أثم ما غل.
{ أفمن اتبع رضوان الله } هذه استعادة بديعة جعل ما شرعه الله كالدليل الذي يتبعه من يهتدي به وجعل العاصي كالشخص الذي أمر بأن يتبع شيئا فنكص عن اتباعه ورجع مصحوبا بما يخالف الاتباع وفي الآية من حيث المعنى حذف والتقدير أفمن اتبع ما يؤول به إلى رضا الله عنه فباء برضاه كمن لم يتبع ذلك فباء بسخطه.
{ هم درجت } الضمير في هم عائد على من اتبع على المعنى لأنه المحدث عنه. والتقدير وهم ذو درجات، والدرجة: ما يتوصل به إلى مكان علو وأكثر ما يستعمل في الشيء الذي يتوصل منه إلى العلو الحسي ولذلك جاء
نرفع درجت من نشآء
[الأنفال: 83، يوسف: 76]. وقوله
أعظم درجة
[التوبة: 20، الحديد: 10]؛ وعند الله لا يكاد يكون هذا إلا عند التشريف لقوله:
فأولئك عند الله
[النور: 13]، ولما ذكر مآل من باء بسخط من الله ذكر مآل من اتبع رضوان الله. ويبعد قول من قال إن لفظ هم عائد على من اتبع ومن باء، وإن الدرجات مشتركة بينهما ويبعد أن يقال: إن للكافر درجة عند الله. وقرىء درجة بالتوحيد.
{ لقد من الله على المؤمنين } الآية مناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر من اتبع رضوان الله ومن باء بسخطه فصل في هذه الآية وما بعدها. وقوله: على المؤمنين، لم يكونوا حالة البعث مؤمنين فاحتمل أن يسموا مؤمنين باعتبار ما آل أمرهم إليه من الإيمان، أو سماهم مؤمنين بالنسبة إلى علمه تعالى. وإذ ظرف العامل فيه من. والمنة هنا: الانعام.
{ رسولا } هو محمد صلى الله عليه وسلم.
{ من أنفسهم } قالوا: أي من جنس بني آدم لأن تلقي الوحي منه إليهم يسهل، ولم يكن من الملائكة لتفاوت بين الجنسين وصعوبة التلقي منهم ولأن إعجاز القرآن إنما يظهر عند بني آدم حجة عليهم. والأظهر أنه أراد بقوله: من أنفسهم، من العرب، كما قال:
هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم
[الجمعة: 2]. وقال تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام:
ربنا وابعث فيهم رسولا منهم
[البقرة: 129]. ولذلك قال عليه السلام: أنا دعوة أبي إبراهيم. وشرف العرب تم بظهوره عليه السلام وليس في العرب قبيلة إلا وله فيها نسب من جهة الأمهات الأنصاري بني تغلب. وقرىء شاذا لمن من الله بمن الجارة، ومن: مجرور بها بدل قد من. (قال) الزمخشري: وفيه وجهان أن يراد لمن من الله على المؤمنين منه أو بعثه إذ فيهم فحذف لقيام الدلالة أو يكون إذ في محل الرفع كإذا في قولك أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما بمعنى لمن من الله على المؤمنين وقت بعثه. " انتهى ". أما الوجه الأول فهو سائغ وقد حذف المبتدأ مع من في مواضع منها
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به
[النساء: 159]
وما منآ إلا له مقام
[الصافات: 164]
ومنا دون ذلك
[الجن: 11] على قول. وأما الوجه الثاني فهو فاسد لأنه جعل إذ مبتدأة ولم يستعملها العرب متصرفة البتة إنما تكون ظرفا أو مضافا إليها اسم زمان ومفعوله ما ذكر على قول أما ان تستعمل مبتدأة فلم يثبت ذلك في لسان العرب ليس في كلامهم نحو: إذ قام زيد طويل، وأنت تريد وقت قيامه زيد طويل.
وقد قال أبو علي الفارسي: لم ترد إذ وإذا في كلام العرب إلا ظرفين ولا يكونان فاعلين ولا مفعولين مبتدأين. انتهى كلامه. وأما قوله: في محل الرفع كإذا فهذا التشبيه فاسد لأن المشبه مرفوع بالابتداء والمشبه به ليس مبتدأ إنما هو ظرف في موضع الخبر على زعم من يرى ذلك وليس في الحقيقة في موضع رفع بل هو في موضع نصب بالعامل المحذوف، وذاك العامل مرفوع. فإذا قال النحاة: هذا الظرف الواقع خبرا في محل الرفع، فيعنون أنه لما قام مقام المرفوع صار في محله وهو في التحقيق في موضع نصب كما ذكرنا. وأما قوله في قولك: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائما فهذا في غاية الفساد لأن هذا الظرف على مذهب من يجعله في موضع خبر المبتدأ الذي هو أخطب لا يجيز أن ينطق به إنما هو أمر تقديري. ونص أرباب هذا المذهب وهم القائلون بإعراب أخطب مبتدأ، ان هذه الحال سدت مسد الخبر وانه مما يجب حذف الخبر فيه لسد هذه الحال مسده وفي تقدير هذا الخبر أربعة مذاهب ذكرت في مبسوطات النحو. وقرىء من أنفسهم بفتح الفاء من النفاسة. وعن علي كرم الله وجهه عنه عليه السلام: انا أنفسكم نسبا وحسبا وصهرا ولا في آبائي مذ آدم إلى يوم ولدت سفاح كلها نكاح والحمد لله.
{ وإن كانوا من قبل } أي من قبل بعثه. { لفي ضلال } جعل الضلال ظرفا لهم وهم فيه لأن العرب لم يكونوا أهل كتاب إنما عباد أصنام مشركون، وتقدم الكلام على أن وهذه اللام في قوله:
وإن كانت لكبيرة
[البقرة: 143].
وقال الزمخشري: إن هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. وتقديره وإن الشأن والحديث " انتهى ". وقال مكي: قال سيبويه: إن مخففة من الثقيلة، واسمها مضمر، والتقدير على قوله: وإنهم كانوا، فظهر من كلام الزمخشري انها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير الشأن والحديث، ومن كلام مكي انها حين خففت حذف اسمها وهو ضمير عائد على المؤمنين، وكلا هذين الوجهين لا نعرف نحويا ذهب إليه.
[3.165-168]
{ أو لما أصابتكم } الهمزة للإستفهام الذي معناه الإنكار. قال الزمخشري: ولما نصب بقلتم وأصابتكم في محل الجر بإضافة لما إليه، وتقدير أقلتم حين أصابتكم.
و { أنى هذا } نصب لأنه مقول والهمزة للتقدير والتقريع. فإن قلت: علام عطفت الواو هذه الجملة؟ قلت: على ما مضى من قصة أحد من قوله:
ولقد صدقكم الله وعده
[آل عمران: 152]. ويجوز أن تكون معطوفة على محذوف كأنه قال: أفعلتم كذا وقلتم حينئذ كذا. " انتهى ". أما العطف على ما مضى من قصة أحد من قوله:
ولقد صدقكم الله وعده
[آل عمران: 152]، ففيه بعد وبعيد أن يقع مثله في القرآن. وأما العطف على محذوف فهذا جار على ما نقرر في غير موضع من مذهبه وقد رددناه عليه، وأما على مذهب الجمهور سيبويه وغيره قالوا: وأصلها التقديم. وعطفت الجملة الاستفهامية على ما قبلها. وأما قوله: ولما نصب إلى آخره وتقديره وقلتم حينئذ كذا فجعل لما بمعنى حين فهذا ليس مذهب سيبويه إنما هو مذهب أبي علي، وأما مذهب سيبويه فلما حرف لا ظرف وهو حرف وجوب لوجوب، ومذهب سيبويه هو الصحيح. وقد بينا فساد مذهب أبي علي من وجوه في كتابنا المسمى " بالتكميل ". والمصيبة هي: ما نزل بالمؤمنين يوم أحد من قتل سبعين منهم والمثلان.
قال ابن عباس: قتلهم يوم بدر سبعين وأسرهم سبعين والمثلية وقعت في العدد من إصابة الرجال.
{ قلتم أنى هذا } هو استفهام على جهة الإنكار والتعجب والمعنى كيف أصابنا هذا ونحن نقاتل أعداء الله وقد وعدنا بالنصر وامداد الملائكة، وأنى سؤال عن الحال والمناسب أن يكون هنا بمعنى أين أو متى، لأن الاستفهام لم يقع عن المكان ولا عن الزمان هنا إنما الإستفهام وقع عن الحالة التي اقتضت لهم ذلك سألوا عنها على سبيل التعجب.
وقال الزمخشري: أنى هذا: من أين هذا، كقوله:
أنى لك هذا
[آل عمران: 37]، لقوله: من عند أنفسكم، وقوله: من عند الله. " انتهى " كلامه. والظرف إذا وقع خبرا للمبتدأ لا يقدر داخلا عليه حرف جر غير في أما ان يقدر داخلا عليه من فلا لأنه إنما انتصب على إسقاط في ولذلك إذا أضمر الظرف تعدى إليه الفعل بوساطة في إلا أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به. فتقدير الزمخشري أنى هذا: من أين هذا، تقدير غير سائغ واستدلاله على هذا التقدير بقوله: من عند أنفسكم، وقوله: من عند الله، وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها. وأما على ما قررناه فإن الجواب جاء على مراعاة المعنى لا على مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ وقد تقرر في علم العربية أن الجواب يأتي على حسب السؤال مطابقا له في اللفظ ومراعي فيه المعنى لا اللفظ والسؤال يأتي سؤال عن تعيين كيفية.
حصول هذا الأمر. والجواب بقوله: من عند أنفسكم، يتضمن تعيين الكيفية لأنه بتعين السبب تتعين الكيفية من حيث المعنى لو قبل على سبيل التعجب والإنكار: كيف لا يحج زيد الصالح، وأجيب عن ذلك بأن يقال: لعدم استطاعته، حصل الجواب وانتظم من المعنى أنه لا يحج وهو غير مستطيع.
{ قل هو من عند أنفسكم } قال الزمخشري: المعنى أنتم السبب فيما أصابكم لاختياركم الخروج من المدينة أو لتخليتكم المركز. وعن علي رضي الله عنه: لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم. " انتهى ". وهو كلام ملفق من أقوال المفسرين. { ومآ أصابكم يوم التقى الجمعان } ما: شرطية أو موصولة. وجواب الشرط أو خبر المبتدأ قوله: { فبإذن الله } وهو على إضمار أي فهو بإذن الله ونصوا على أن فعل الشرط وصلة الموصول لا تكون ماضية هنا. وفي قوله تعالى:
ومآ أفآء الله على رسوله منهم
[الحشر: 6] معلوم، أن هذه الاصابة وتلك الافاءة معلوم مضيتها فتأويلها على معنى التبيين أي أن تتبين إصابتكم أو أن تتبين الافاءة.
{ وليعلم } قالوا: متعلق بمحذوف، أي وفعل ذلك ليعلم. والمختار أن يكون معطوفا على بإذن الله والباء واللام كلاهما للسبب تقدم الكلام في تفسير علم الله المسند إليه مني هذا التركيب في قوله:
لنعلم من يتبع الرسول
[البقرة: 143].
ف { الذين نافقوا } هنا هم عبد الله بن أبي وأصحابه. { وقيل لهم } القائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: عبد الله أبو جابر بن عبد الله تبعهم لما انخذلوا عن المسلمين ووعظهم وذكرهم فلما لم يجيبوه لما سأل منهم قال: اذهبوا أعداء الله، ثم رجع عنهم وقاتل حتى قتل شهيدا رضي الله عنه.
{ أقرب منهم للإيمان } وجه الأقربية التي هي الزيادة في القرب أنهم كانوا يظهرون الإيمان ولم تكن إمارة تدل على الكفر فلما انخذلوا عن المؤمنين وقالوا ما قالوا زاد وأقر بالكفر وتباعدوا عن الإيمان واللامان يتعلقان بأقرب. ويومئذ: منصوب بأقرب، والتنوين في إذ: للعوض من الجملة المحذوفة تقديره يوم. إذ قالوا ذلك لإخوانهم: أي لأجل إخوانهم كما تقدم في قوله:
كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم
[آل عمران: 156].
قال ابن عطية: بأفواههم توكيد مثل يطير بجناحيه. " انتهى ". ولا يظهر أنه توكيد إذ القول ينطلق على اللسان والنفساني فهو مخصص لأحد الانطلاقين إلا أن قلنا أن إطلاقه على النفساني مجاز فيكون إذ ذاك توكيدا لحقيقة القول.
{ وقعدوا } جملة حالية. { لو أطاعونا } يعني مني القعود. وقرىء { ما قتلوا } بتشديد التاء وتخفيفها. { قل فادرءوا } أي ادفعوا ومنه فادارأتم ويدرأ عنها العذاب.
[3.169-174]
{ ولا تحسبن } بالتاء خطاب للسامع وبالياء أي ولا يحسبن وهو أي حاسب.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الذين قتلوا فاعلا ويكون التقدير ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتا، أي لا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتا. فإن قلت: كيف جاز حذف المفعول الأول؟ قلت: هو في الأصل مبتدأ فحذف كما حذف المبتدأ في قوله: أحياء، والمعنى هم أحياء الدلالة الكلام عليها. " انتهى " كلامه. أما تقديره فلا يحسبنهم الذين قتلوا ففيه تفسير الضمير بالفاعل الظاهر وهو لا يجوز فلا تقول حسبه زيد منطلقا تريد حسب نفسه ولا ضربه زيد تريد ضرب نفسه زيد، وقد ذكرنا في البحر المواضع التي يفسر الضمير الاسم المتأخر أو الجملة اتفاقا واختلافا وليس منها الضمير الاذي يفسره الظاهر الفاعل وأما تجويزه حذف المفعول الأول في باب حسب. فقال الفارسي: حذفه اختصارا عزيز جدا. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز حذفه البتة وما كان هكذا فلا ينبغي أن يحمل عليه كلام الله تعالى وأما من حيث المعنى فيبعد ما قاله جدا لأن من كان حيا عند ربه مرزوقا فرحا مستبشرا لا ينهي أن يحسب نفسه ميتة فيجب أن تحمل قراءة الياء على أن الحاسب مضمر كما قررناه لتتفق القراءتان في كون الذين مفعولا وإن اختلفتا من جهة الخطاب والغيبة. وإحياء بالرفع على تقدير بل هم احياء. وقرىء احياء بالنصب على تقدير بل تحسبهم احياء والظاهر ان فرحين حال من الضمير في يرزقون.
{ بالذين لم يلحقوا بهم } هم الشهداء الذين يأتوا بعد من إخوانهم المؤمنين الذين تركوهم يجاهدون فيستشهدون فرحوا لأنفسهم ولمن يلحق بهم من الشهداء إذ يصيرون إلى ما صاروا إليه من كرامة الله. وجعل ابن عطية استبشر بمعنى الفعل المجرد لأنه يقال بشر كما قالوا استمجد المرغ والعفار بمعنى مجد، والأحسن أن يكون استبشر مطاوع أبشر كقولهم أكأنه فاستكان ومطاوعه استفعل لأفعل كثير لأنه من حيث المطاوعة يكون منفعلا عن غيره فحصلت له البشرى بإبشار الله له بذلك وأن هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف ضمير الشأن وخبرها الجملة المنفية بلا وان وما بعدها في تأويل مصدر مجرور على أنه بدل اشتمال من الذين فيكون هو المستبشر به في الحقيقة أو منصوب على أنه مفعول من أجله فيكون علة الاستبشار والمستبشر به غيره التقدير لأنه لا خوف عليهم والذوات لا يستبشر بها فلا بد من تقدير مضاف مناسب، والظاهر أن قوله: يستبشرون، استئناف إخبار . وليس بتوكيد للأول لاختلاف متعلق الفعلين الأول بانتفاء الخوف والحزن عن الذين لم يلحقوا بهم، والثاني قوله: بنعمة من الله وفضل، وذهب الزمخشري وابن عطية إلى أنه توكيد للأول.
قال الزمخشري: وكرر يستبشرون ليعلق به ما هو بيان لقوله: { ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون } من ذكر النعمة والفضل وان ذلك أجر لهم على إيمانهم يجب في عدل الله وحكمته ان يحصل لهم ولا يضيع. " انتهى ". وهو على طريقة الاعتزال في ذكره وجوب الأجر وتحصيله على إيمانهم وسلك ابن عطية طريقة أهل السنة فقال: أكد استبشارهم بقوله: { يستبشرون } ثم بين بقوله: وفضل إدخالهم الجنة الذي هو فضل منه لا بعمل أحد. وأما النعمة في الجنة والدرجات فقد أخبر انها على قدر الأعمال " انتهى ". وقرىء وإن بكسر الهمزة وفتحها.
{ الذين استجابوا لله والرسول } الاستجابة كانت اثر الانصراف من أحد استنفر الرسول صلى الله عليه وسلم لطلب الكفار فاستجاب له تسعون. وقيل: لما كان اليوم الثاني من أحد وهو يوم الأحد نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس باتباع المشركين. وقال: لا يخرجن معنا إلا من شاهدنا بالأمس وكانت بالناس جراحة وقرح عظيم ولكن تجلدوا ونهض معه مائتا رجل من المؤمنين حتى بلغ حمراء الأسد وهي على ثمانية أميال من المدينة وأقام بها ثلاثة أيام.
{ الذين قال لهم الناس } الظاهر أن القائل هم ناس وليس واحدا، كما قال بعضهم: إنه نعيم بن مسعود الأشجعي. وقيل: الناس ركب من عبد القيس مروا على أبي سفيان يريدون المدينة للميرة فجعل لهم جعلا وهو حمل إبلهم زبيبا على أن يخبروا أنه جمع ليستأصل بقية المؤمنين فأخبروا بذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم إذ ذاك بحمراء الأسد: حسبنا الله ونعم الوكيل، والناس الثاني: قريش.
{ فانقلبوا بنعمة من الله } أي فرجعوا من بدر مصحوبين بنعمة من الله وهي السلامة وحذر العدو إياهم. { وفضل } وهو الربح في التجارة كقوله:
ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم
[البقرة: 198] هذا الذي اختاره الزمخشري في تفسير هذا الانقلاب ولم يذكر غيره وهو قول مجاهد.
قال ابن عطية: والجمهور على أن معنى هذه الآية فانقلبوا بنعمة يريدون في السلامة والظهور وفي اتباع العدو وحماية الحوزة وبفضل في الأجر الذي حازوه والفخر الذي تخللوه وانها في غزوة أحد في الخرجة إلى حمراء الأسد. والجملة من قوله: لم يمسسهم في موضع الحال، وبنعمة في موضع الحال.
[3.175-179]
{ ذلكم الشيطان } ظاهره الإشارة إلى مفرد ويكون على حذف مضاف إي فعل الشيطان. وإنما نسب إليه وأضيف لأنه ناشىء عن وسوسته وإغوائه وإلقائه.
{ يخوف أولياءه } فيه محذوفان مفعول وحرف جر والتقدير يخوفكم بأوليائه كما جاء ذلك المحذوفان مصرحا بهما في قوله:
يخوف الله به عباده
[الزمر: 16].
قال الزمخشري: الشيطان خبر ذلكم، بمعنى إنما ذلكم التثبيط هو الشيطان ويخوف أولياءه جملة مستأنفة بيان لشيطنته أن الشيطان صفة لاسم الاشارة ويخوف الخبر والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان. " انتهى " فعلى تقدير القول تكون الجملة لا موضع لها من الاعراب، وإنما قال والمراد بالشيطان نعيم أو أبو سفيان لأنه لا يكون صفة، والمراد به إبليس لأنه إذا أريد به إبليس كان إذ ذاك علما بالغلبة إذ أصله صفة كالعيوق ثم غلب على إبليس كما غلب العيوق على النجم الذي ينطلق عليه.
قال ابن عطية: وذلكم في الإعراب ابتداء، والشيطان مبتدأ آخر، ويخوف أولياءه خبر عن الشيطان، والجملة خبر الابتداء الأول، وهذا الاعراب خير في تناسق المعنى من أن يكون الشيطان خبر ذلكم لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة. " انتهى ". هذا الذي اختاره إعراب لا يجوز إذا كان الضمير من أولياءه عائدا على الشيطان لأن الجملة الواقعة خبرا عن ذلكم ليس فيها رابط يربطها بقوله: ذلكم، وليست نفس المبتدأ في المعنى نحو قولهم: هجير أبي بكر لا إله إلا الله، وإن كان عائدا على ذلكم ويكون ذلكم خبرا عن الشيطان جاز وصار نظير إنما هند زيد يضرب غلامها، والمعنى إذا ذاك إنما ذلكم الركب أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أولياءه أي أولياء الركب أو أبي سفيان.
{ ولا يحزنك } الآية. قرىء يحزنك مضارع حزن ويحزنك ومضارع أحزن. والذين كفروا عام في كل من يسارع في الكفر. وقرىء يسرعون مضارع أسرع.
{ ولا يحسبن الذين كفروا } الآية إنما احتملت ما أن تكون موصولة اسم ان والخبر خبر، واحتمل أن تكون ما مصدرية فيكون ذلك المصدر اسم ان وخبر ان خبر فعلي، التقدير الأول: يكون معناه أن الذي نمليه خير وحذف الضمير من نمليه وهو عائد على الذي، وعلى التقدير الثاني: يكون ان املأنا خير وسدت ان مسد مفعولي يحسبن. ومعنى نملي: نمهل ونمد في العمر. والملاوة: المدة من الدهر. والملوان: الليل والنهار. وقراءة الجمهور: ولا يحسبن بالياء فيكون الذين كفروا فاعلا وعلى هذه القراءة يخرج ذانك الاعرابان. وقرأ حمزة ولا تحسبن بالتاء، والذين كفروا مفعول أول ولا يكون ما بعده مفعولا ثانيا لأن المعنى لا يكون الذات فخرج على أن يكون الذين على حذف مضاف تقديره ولا تحسبن شأن الذين كفروا ان كان الحذف في الأول وعلى حذف بعد الذين كفروا تقديره أصحاب إنما نملي لهم.
وخرج ابن الباذش هذه القراءة على إنما نملي بدل من الذين ويكون المفعول الثاني محذوفا وتقديره ولا تحسبن الذين كفروا خيرية املائنا لهم كائنة أو واقعة وعلى البدل خرجه الزمخشري وتقدمها إلى ذلك الكسائي والفراء. وقرىء خيرا بالنصب، فيكون إنما نملي لهم بدلا من الذين والتقدير ولا تحسبن املاءنا للكفار خيرا لأنفسهم. وقرأ يحيى بن وثاب ولا يحسبن بالياء وإنما نملي بالكسر فإن كان الفعل مسندا للنبي صلى الله عليه وسلم فيكون المفعول الأول الذين كفروا ويكون إنما نملي لهم جملة في موضع المفعول الثاني وإن كان مسندا للذين كفروا فيحتاج تحسبن إلى مفعولين فلو كانت إنما مفتوحة سد مسد المفعولين، ولكن يحيى قرأ بالكسر فخرج ذلك على التعليق فكسرت ان وان لم تكن اللام في خبرها والجملة المعلق عنها الفعل في موضع مفعولي يحسبن وهو بعيد لحذف اللام ونظير تعليق الفعل عن العمل مع حذف اللام من المبتدأ قول الشاعر:
اني وجدت ملاك الشيمة الأدب
أي لملاك: والذين كفروا ليس عاما بل هو خاص فيمن علم الله أنه لا يؤمن. ألا ترى إلى قوله: { إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب مهين }.
{ ما كان الله ليذر المؤمنين } واللام مني ليذر المؤمنين لام الجحود وهي تأتي بعد كون ماض لفظا أو معنى بحرف نفي وهو ما أو لم، وخبر كان محذوف عند البصريين تتعلق به اللام وان مضرة بعد اللام والتقدير عندهم ما كان الله مزيدا لأن يذر ومذهب الكوفيين ان اللام زائدة ناصبة للفعل والخبر هو نفس يذر ولولا اللام كان الفعل يذر والخطاب في قوله: على ما أنتم عليه، للمؤمنين وغيرهم من الكفار أي لا يترك الله أمر الجميع مشتبها حتى يميز الخبيث من الطيب بامتثال تكاليفه تعالى فيمتثله الطيب وهو المؤمن ويجتنبه الخبيث وهو الكافر، وهو العليم بالأحوال وما ينتهي إليه كل واحد منهما، ولذلك قال:
{ وما كان الله ليطلعكم على الغيب } والغيب هنا ما غاب عن البشر مما هو في علم الله تعالى من الحوادث التي تحدث ومن الأسرار التي في قلوب المنافقين ومن الأقوال التي يقولونها إذا غابوا عن الناس.
{ ولكن الله يجتبي } أي يصطفي: { من رسله من يشآء } فيطلعه على ما يشاء من غيبه.
[3.180-182]
{ ولا يحسبن الذين يبخلون } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما بلغ في التحريض على بذل الأرواح في الجهاد في الآيات السابقة شرع في التحريض هنا على بذل الأموال في الجهاد وغيره، وبين الوعيد الشديد لمن يبخل والبخل الشرعي عبارة عن منع بذل الواجب. وقرىء ولا تحسبن بالتاء فيكون الذين أول مفعولين لتحسبن وهو على حذف مضاف أي بخل الذين. وقرىء بالياء والفعل مسند إلى ضمير أحد فيكون الذين هو المفعول الأول على ذلك التقدير وإن كان الذين هو الفاعل فيكون المفعول الأول محذوفا تقديره بخلهم وحذف لدلالة يبخلون عليه وحذفه عزيز جدا عند الجمهور فلذلك الأولى تخريج هذه القراءة على قراءة التاء من كون الذين هو المفعول الأول على حذف مضاف وهو فصل، وخيرا المفعول الثاني ليحسبن، ويظهر لي تخريج غريب في الآية تقتضيه قواعد العربية وهو أن تكون المسألة من باب الأعمال إذا جعلنا الفعل مسندا للذين وذلك أن يحسبن يطلب مفعولين ويبخلون بيطلب مفعولا بحرف جر فقوله: ما آتاهم بطلبه يحسبن على أن يكون المفعول الأول ويكون هو فصلا وخيرا المفعول الثاني، ويطلبه يبخلون متوسط حرف الجر. فاعمل الثاني على الأفصح في لسان العرب وعلى ما جاء في القرآن وهو يبخلون فعدى بحرف الجر وأخذ معموله وحذف معمول يحسبن الأول ونفى معموله الثاني لأنه لم يتنازع فيه إنما جاء التنازع بالنسبة إلى المفعول الأول وساغ حذفه وحده كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه متى رأيت أو قلت زيد منطلق لأن رأيت. وقلت في هذه المسألة: تنازعا زيد منطلق وفي الآية لم يتنازعا إلا في المفعول الواحد وتقدير المعنى ولا يحسبن ما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم الناس الذين يبخلون به فعلى هذا التقدير والتخريج يكون هو فصلا لما آتاهم المحذوف لا لتقديرهم بخلهم. ونظير هذا التركيب ظن الذي مر بهند هي المنطلقة المعنى ظن هذا الشخص الذي مر بها هي المنطلقة فالذي تنزعه الفعلان هو الاسم الأول فاعمل الثاني وبقي الأول يطلبه محذوفا ويطلب المفعول الثاني مثبتا إذ لم يقع فيه التنازع، ولما تضمن النهي انتفاء كون البخل أو المبخول به خيرا لهم وكان تحت الانتفاء قسمان: أحدهما أن لا خير ولا شر، والآخر: إثبات الشر، أتى بالجملة التي تعني أحد القسمين وهو إثبات كونه شرا لهم.
{ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة } هذا تفسير لقوله: { بل هو شر لهم }. والظاهر حمله على المجاز أي سليزمون عقابه الزام الطوق.
{ لقد سمع الله } الآية نزلت في فنحاص بن عازوراء حاوره أبو بكر في الاسلام وأن يقرض الله قرضا حسنا، فقال: هذه المقالة، فضربه أبو بكر ومنعه من قبله العهد.
فشكاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكر. ما قال فنزلت تكذيبا لفنحاص وتصديقا للصديق رضي الله عنه. قال ابن عباس: وشمل قوله: الذين قالوا فنحاصا، ومن قال بمقالته كحي بن أخطب والياس بن عمرو.
{ سنكتب ما قالوا } الظاهر إجراء الكتابة على أنها حقيقة فتكتب الأعمال في صحف وان تلك الصحف هي التي توزن ويحدث الله الثقل فيها والخفة. وقيل: الكتابة مجاز ومعناها الاحصاء للشيء وضبطه وعدم إهماله وكينونته في علم الله مثبتا محفوظا لا ينسى كما يكتب المكتوب. وقرىء سنكتب بالنون وقتلهم نصبا ونقول بالنون. وقرىء سيكتب مبنيا للمفعول وقتلهم رفعا ويقول بالياء، ولما كان الصادر منهم قولا وفعلا ناسب أن يكتب الجزاء قولا وفعلا فتضمن القول والفعل، قوله: ونقول ذوقوا عذاب الحريق وفي الجمع لهم بين القول والفعل أعظم انتقام ويقال للمنتقم فيه أخس وذق.
{ ذلك بما قدمت أيديكم } الإشارة إلى ما تقدم من عقابهم ونسب ما قدموه من المعاصي القولية والفعلية والاعتقادية إلى الأيدي على سبيل التغليب لأن الأيدي تزاول أكثر الأعمال فكان كل عمل واقع بها. وهذه الجملة داخلة في المقول وبخوا بذلك وذكر لهم السبب الذي أوجب لهم العقاب.
{ وأن الله ليس بظلام للعبيد } هذا معطوف على قوله: { بما قدمت أيديكم } ، أي ذلك العقاب حاصل بسبب معاصيكم وعدل الله فيكم وجاء لفظ ظلام الموضوع للتكثير وهذا تكثير بسبب المتعلق.
[3.183-185]
{ الذين قالوا } نزلت في جماعة من اليهود فيهم كعب بن الأشرف وعهد بمعنى أوصى. والظاهر أن القربان هو ما يتقرب به إلى الله تعالى، وزعموا أن هذا العهد في التوراة. وقيل: هو من كذبهم على الله.
قال ابن عطية: وقرأ عيسى بن عمر بقربان بضم الراء اتباعا لضم القاف. وليس بلغة لأنه ليس في الكلام فعلان بضم الفاء والعين. وحكى سيبويه السلطان بضم اللام وقال: إن ذلك على الاتباع. " انتهى ". لم يقل سيبويه ان ذلك على الاتباع بل قال: ولا نعلم في الكلام فعلان ولا فعلان ولا شيئا من النحو لم نذكره ولكنه جاء فعلان وهو قليل قالوا السلطان وهو اسم. " انتهى ". وقال الشارح صاحب هذه اللغة لا يسكن ولا يتبع. " انتهى ". والظاهر من هذه الآية والتي قبلها ان ذلك من فعل أسلافهم ألا ترى إلى قوله:
وقتلهم الأنبياء
[آل عمران: 181]. وقوله: { قل قد جآءكم رسل... } إلى آخر الآية، والمعاصرون لرسول الله صلى الله عليه وسلم من اليهود لم يقتلوا الأنبياء ولا جاءتهم رسل غير محمد صلى الله عليه وسلم ويظهر ما قلناه في قوله تعالى: { فلم قتلتموهم } وإنما هذا كله من فعل أسلافهم فوبخوا بذلك لرضاهم بما صدر من أسلافهم. { فإن كذبوك } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجواب الشرط محذوف تقديره فتسل بما صدر للرسل من تكذيبهم قبلك وما وجد من كلام المعربين أن جواب الشرط هو قوله: فقد كذب، إنما هو صلى سبيل المجاز لأن الماضي حقيقة لا يكون جوابا للشرط المستقبل، ومعنى بالبينات: بالمعجزات الواضحة.
{ والزبر } جمع زبور وهو الكتاب. يقال: زبره أي كتبه وقد يكون مشتقا من الزبر وهو الزجر. والجمع يدل على الكثرة، ويعني به الكتب الإلهية.
{ والكتاب المنير } القرآن. الظاهر أنه التوراة إذ هو أكبر الكتب المنزلة على بني إسرائيل وفيه تبيين شريعتهم. وقرىء وبالزبر وبالكتاب بالباء فيهما. وقرىء بتركهما.
{ كل نفس ذآئقة الموت } تضمنت هذه الجملة وما بعدها الوعظ والتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدنيا وأهلها والوعد بالنجاة في الآخرة إذ بذكر الموت والفكرة فيه يهون ما يصدر من الكفار من تكذيب وغيره. ولما تقدم ذكر المكذبين الكاذبين على الله تعالى من اليهود والمنافقين وذكر المؤمنين نبهوا كلهم على أنهم ميتون وما لهم إلى الآخرة، ففيها يظهر الناجي والهالك، وإن ما تعلقوا به في الدنيا في مال وأهل وعشيرة إنما هو على سبيل التمتع المغرور به كلها تضمحل وتزول ولا يبقى إلا ما عمله الانسان فهو يوفاه في الآخرة يوفى على طاعته ومعصيته.
وقال محمد بن عمر الفخر الرازي: في هذه الآية دلالة على أن النفس لا تموت بموت البدن وعلى أن النفس غير البدن. " انتهى ". وهذه مكابرة في الدلالة فإن ظاهر الآية يدل على أن النفس تموت. وقال أيضا: لفظ النفس مختص بالأجسام. " انتهى ". وقرىء ذائقة منونا، الموت نصبا. وقرىء بغير تنوين، والموت نصبا. ونظيره قول الشاعر:
ولا ذاكر الله إلا قليلا
حذف التنوين لإلتقاء الساكنين. وقراءة الجمهور على الاضافة وكل إذا أضيفت إلى نكرة كان الحكم في الخبر والاضمار لتلك النكرة، كقوله: { ذآئقة الموت } ، وقوله:
كل امرىء بما كسب رهين
[الطور: 21]، وكل رجلين قاما، وكل امرأتين قامتا، وقوله تعالى:
يوم ندعوا كل أناس بإمامهم
[الإسراء: 71]، وقول الشاعر:
وكل أناس سوف تدخل بينهم
دويهية تصفر منها الأنامل
فالتذكير والتأنيث والافراد والتثنية والجمع بحسب النكرة التي أضيف إليها كل.
{ فمن زحزح } الزحزحة التنحية والابعاد.
[3.186-192]
{ لتبلون } قيل نزلت في قصة عبد الله بن أبي حين. قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قرأ عليهم الرسول القرآن: إن كان حقا فلا تؤذنا به في مجالسنا. ورد عليه عبد الله بن رواحة فقال: اغشنا به في مجالسنا يا رسول الله. والابتلاء: الاختبار، والضمير في لتبلون للمؤمنين خاطبهم بذلك ليستعدوا لما يرد عليهم من الابتلاء فيصبروا بخلاف من يأتيه الأمر فجأة فيشق عليه ما يرد بخلاف من استعد للشيء فإنه يوطن نفسه على وقوعه، وقدم الأموال على الأنفس على سبيل الترقي إلى الأشرف أو على سبيل الكثرة لأن الرزايا في الأموال أكثر من الرزايا في الأنفس، والأذى اسم جمع في معنى الضرر ليشمل أقوالهم في الرسول وأصحابه وفي الله تعالى وأنبيائه عليهم السلام والمطاعن في الدين وتخطئة من آمن وهجاء كعب وتشبيبه بنساء المؤمنين.
{ فإن ذلك } الإشارة إلى الصبر والتقوى الدال عليهما فعلهما وعبر بالمفرد عن المثنى كما قال الشاعر:
إن للخير وللشر مدى
وكلا ذلك وجه وقبل
يريد وكلا ذينك.
{ من عزم الأمور } العزم إمضاء الأمر المروي المنقح. { وإذ أخذ الله } الآية هم اليهود أخذ الله عليهم الميثاق في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتموه ونبذوه: قاله ابن عباس وغيره. { واشتروا به } الضمير عائد على الميثاق. وكذا في قوله: فنبذوه، والثمن القليل: هو ما أخذوه من الرشا على تبيين الميثاق وكتمه . { فبئس ما يشترون } تقدم الكلام في ما بعد بئسما في البقرة:
بئسما اشتروا به أنفسهم
[الآية: 90]. { لا تحسبن الذين يفرحون } الآية نزلت في المنافقين كانوا يتخلفون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو فإذا جاء استعذروا له فيظهر القبول ويستغفر لهم ففضحهم الله بهذه الآية: قاله أبو سعيد الخدري وغيره. وقرىء ولا يحسبن بياء الغيبة، وفلا يحسبنهم بالياء وضم الباء. والذين: فاعل ومفعولا يحسبن محذوفا لدلالة مفعولي يحسبنهم عليهما والتقدير أنفسهم ناجين وفلا يحسبنهم توكيد لما سبق ولا يصح أن يكون بدلا كما قال ابن عطية الوجود الفاء، فإنها تمنع من البدل. وقول الفارسي في أن لا يحسبن لغو لم يقع على شيء قول ضعيف جدا. وتقدير الزمخشري لا يحسبنهم الذين فيفسر الضمير الفاعل قد رددناه عليه في تقديره ولا يحسبنهم الذين كفروا إنما نملي لهم فيطالع هناك. وتعدى يحسبنهم المضموم الباء إلى الضمير المنصوب والفعل مسند إلى الضمير المرفوع وهو الواو المحذوفة وذلك مختص بباب ظن وفقه وعلم وبمفازة هو المفعول الثاني. وقرىء لا لا تحسبن وفلا تحسبنهم، والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام. والذين المفعول الأول والثاني محذوف تقديره فاحبي. وقرىء لا يحسبن بياء الغيبة، والذين فاعل والمفعولان ليحسبن محذوفان وفلا تحسبنهم بتاء الخطاب وفتح الباء.
{ إن في خلق السموت والأرض } الآية روى عن ابن عباس أن قريشا قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع لنا ربك يجعل لنا الصفا ذهبا، حين ذكرت اليهود والنصارى لهم بعض ما جاء به من المعجزات موسى وعيسى فنزلت هذه الآية.
{ ربنآ ما خلقت هذا باطلا } منصوب بحال محذوفة تقديره يقولون ربنا. والإشارة بقوله: هذا، إلى الخلق بمعنى المخلوق أو إلى السماوات والأرض بما فيهما من عجائب الصنعة وانتصب باطلا على أنه نعت لمصدر محذوف أي خلقا باطلا. قال بعضهم: هو منصوب على أنه مفعول ثان لخلق وهي بمعنى جعل التي تتعدى إلى مفعولين. " انتهى ". وهذا عكس المنقول في النحو وهو ان جعل تكون بمعنى خلق فتتعدى لواحد أما ان خلق تكون بمعنى جعل فتتعدى لاثنين فلا أعلم أحدا ممن له معرفة ذهب إلى ذلك.
{ فقد أخزيته } أي فضحته. من خزى الرجل يخزي خزيا. إذا افتضح، وخزاية إذا استحيا الفعل واحد. واختلف في المصدرين فمن الافتضاح خزي ومن الاستحياء خزاية ومن ذلك ولا تخزني في ضيفي أي لا تفضحوني.
[3.193-200]
{ ربنآ إننآ سمعنا } سمع تعدت هنا إلى واحد: وينادى: صفة له. وإن آمنوا: تفسيره التقدير أي آمنوا، وقيل: مصدرية على تقدير إسقاط حرف الجر تقديره بأن آمنوا وعطف فآمنا بالفاء مؤذن بتعجيل القبول وتسبيب الإيمان عن السماع من غير تراخ والمعنى فامنا بك أو بربنا.
و { الأبرار } جمع بار أو جمع بر. { على رسلك } أي على ألسنة رسلك. وانظر إلى حسن مجاورة هؤلاء الذاكرين المتفكرين فإنهم خاطبوا الله بلفظة ربنا وهي إشارة إلى أنه ربهم، وأصلحهم وهيأهم للعبادة، فأخبروا أولا بنتيجة الفكر وهو قولهم: ربنا ما خلقت هذا باطلا، ثم سألوه أن يقيهم النار بعد تنزيهه عن النقائص وأخبروا عن حال من يدخل النار وهم الظالمون الذين لا يذكرون الله ولا يتفكرون في مصنوعاته، ثم ذكروا أيضا ما أنتج لهم التفكر من إجابة الداعي إلى الإيمان إذ ذاك مترتب على أنه تعالى ما خلق هذا الخلق العجيب باطلا، ثم سألوه غفران ذنوبهم ووفاتهم على الإيمان الذي أخبروا به في قولهم: فآمنا، ثم سألوا الله الجنة وأن لا يفضحهم يوم القيامة وذلك هو غاية ما سألوه. وتكرر لفظ ربنا خمس مرات كل ذلك على سبيل الاستعطاف وتطلب رحمة الله بندائه بهذا الاسم الشريف الدال على التربية والملك والاصلاح ولذلك تكرر هذا الاسم في قصة آدم ونوح وغيرهما وفي تكرار ربنا ربنا دلالة على جواز الإلحاح في المسألة واعتماد كثرة الطلب من الله سبحانه وتعالى. وفي الحديث ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام. وقال الحسن: ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم.
{ فاستجاب لهم ربهم } استجاب بمعنى أجاب تقدم الكلام عليه في البقرة عند قوله:
فليستجيبوا لي
[الآية: 186] ولما كان تقدم قولهم: ربنا ربنا، جاء هنا ربهم ولم يأت اسم غيره ليكون المدعو هو المستجيب لهم.
{ أني لا أضيع } أي باني لا أضيع. وقرىء بأني بالباء. وقرىء اني بكسر الهمزة على إضمار القول كأنه قائلا: اني على مذهب البصريين أو على تضمين استجاب معنى قال على مذهب الكوفيين. وقرىء أضيع مضارع أضاع. وقرىء أضيع مضارع ضيع. ومنكم في موضع الصفة لعامل ومن ذكر بدل من الضمير بدل بعض من كل. وقوله: أو أنثى معطوف عليه ولا يجوز أن يكون بدلا تفصيليا لوجود أو لأنه لا يعطف فيه إلا بالواو. وكقول الشاعر:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
ورجل رمى فيها الزمان فشلت
فإن جعلت أو بمعنى الواو جاز.
{ بعضكم من بعض } معناه تبيين شركة النساء مع الرجال فيما وعد الله به عباده العاملين.
{ فالذين هاجروا } روى أن أم سلمة قالت: يا رسول الله قد ذكر الله الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك.
فنزلت هذه الآية. والذين: مبتدأ خبره جملة القسم المحذوفة التي جوابها لأكفرن وفي هذا حجة على إبطال مذهب ثعلب في زعمه إن جملة القسم لا تكون خبرا للمبتدأ وبدأ أولا بالخاص وهي الهجرة وهي أشق شيء على النفس إذ فيها مفارقة الوطن الذي نشأ فيه حيث لم يمكنه إقامة دين الله فهاجر إلى المكان الذي يمكن فيه ذلك وهي المدينة وثنى بما ينشأ عنه ما هو أعلم من الهجرة وهو الإخراج من الديار وقد يخرج إلى الهجرة إلى المدينة أو إلى غيرها، كخروج من خرج إلى الحبشة، وكخروج أبي جندل إذ لم يترك يقيم بالمدينة. وأتى ثالثا بذكر الاذاية وهي أعم من أن يكون بإخراج من الديار أو غير ذلك من أنواع الأذى، وارتقى بعد هذه الأوصاف السنية الى رتبة جهاد من أخرجه ومقاومته واستشهاده في سبيل الله، فجمع بين رتب هذه الأعمال من تنغيص أحواله في الحياة لأجل دين الله بالمهاجرة وإخراجه من داره وإذايته في الله ومآله أخيرا إلى افنائه بالقتل في سبيل الله والظاهر الاخبار عمن جمع هذه الأوصاف كلها بالخبر الذي بعد ويجوز أن يكون ذلك من باب عطف الصلات والمعنى اختلاف الموصول لاتحاده فكأنه قيل: فالذين هاجروا، والذين أخرجوا، والذين أوذوا، والذين قاتلوا، والذين قوتلوا، ويكون الخبر عن كل من هؤلاء. وقرىء وقاتلوا مبنيا للفاعل وقتلوا مبنيا للمفعول. وقرىء بالعكس.
{ ثوابا من عند الله } انتصب ثوابا على المصدر المؤكد وإن كان الثواب هو المثاب به كما كان العطاء هو المعطي واستعمل في بعض المواضع بمعنى المصدر الذي هو الإعطاء فوضع ثوابا موضع إثابة أو موضع تثويبا لأن ما قبله في معنى لأثيبنهم ونظيره صنع الله ووعد الله. وفي قوله: من عند الله التفات وهو خروج من ضمير المتكلم إلى الاسم الغائب.
{ لا يغرنك } الخطاب للسامع والذين كفروا عام وتقلبهم في البلاد سعيهم فيها لكسب الأموال والجاه والرتب. وقرىء بتشديد النون وتخفيفها.
{ متاع قليل } خبر مبتدأ محذوف أي ذلك متاع قليل أو مبتدأ محذوف الخبر تقديره متاع قليل تقلبهم وتصرفهم والمأوى مفعل يراد به المكان الذي يأوي إليه ويرجع يعني في الآخرة. والمخصوص بالذم محذوف تقديره وبئس المهاد جهنم. قيل: ونزلت هذه الآية في اليهود كانوا يضربون في الأرض فيصيبون الأموال: قاله ابن عباس.
{ لهم جنات } قابل جهنم بالجنات وقابل قلة متاعهم بالخلود الذي هو الديمومة في النعيم، فوقعت لكن أحسن مواقعها لأنه آل معنى الجملتين إلى تعذيب الكفار وإلى تنعيم المتقين، فهي واقعة بين الضدين، النزل ما يعد للنازل من الضيافة والقرى. ويجوز تسكين زايه. وقرىء به وانتصب نزلا على أنه حال من جنات وهي موصوفة بقوله: تجري وخيرا فعل تفضيل أي خير لهم مما كانوا فيه في الدنيا.
وفي قوله: وما عند الله حوالة على ما أعد لهم في الآخرة.
{ وإن من أهل الكتب } لما مات أصحمة النجاشي ملك الحبشة صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قائل يصلي على هذا العلج النصراني وهو في أرضه، فنزلت: قاله جابر وابن عباس. ومن أهل الكتاب عام فيمن آمن منهم كعبد الله بن سلام ومن آمن من نصارى بحران ونصارى الحبشة.
{ لمن } موصولة وهي اسم إن دخلت عليها اللام كما دخلت في قوله: إن لك لأجر أو حمل على لفظ في فأفرد الضمير في قوله: يؤمن، ثم حمل على المعنى فجمع في قوله: وما أنزل إليهم وفي خاشعين وما بعده.
{ يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا } أمر أولا بمطلق الصبر، ثم بخاص من الصبر وهو المصابرة على الجهاد في سبيل الله تعالى وقتال أعدائه ثم بالرباط وهو الإقامة في الثغور رابطين الخيل مستعدين للغزو. وفي البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها "
وفي مسلم:
" رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه. وإن مات جرى عليه رزقه وأمن الفتان "
وفي سنن أبي داود قال:
" كل ميت يختم على عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويأمن من فتاني القبر "
والله الموفق.
[4 - سورة النساء]
[4.1]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * يأيها الناس اتقوا ربكم } الجمهور على أنها مدنية ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أحوال المشركين والمنافقين وأهل الكتاب والمؤمنين أولى الألباب ونبه تعالى بقوله:
أني لا أضيع عمل عامل منكم
[آل عمران: 195]، على المجازاة. وأخبر أن بعضهم من بعض في أصل التوالد نبه تعالى في أول هذه السورة على اتحاد الأصل وتفرع العالم الانساني منه ليحث على التوافق والتواد والتعاطف وعدم الاختلاف ولينبه بذلك على أن أصل الجنس الانساني كان عابدا لله تعالى مفرده بالتوحيد والتقوى طائعا له، فكذلك ينبغي أن تكون فروعه التي نشأت منه فنادى تعالى نداء عاما للناس وأمرهم بالتقوى التي هي ملاك الأمر وجعل سبب التقوى تذكاره إياهم بأنه أوجدهم وأنشأهم من نفس واحدة، ومن كان قادرا على مثل هذا الإيجاد الغريب الصنع وإعدام هذه الأشكال والنفع والضر فهو جدير بأن يتقى. ونبه بقوله:
{ من نفس واحدة } ، على ما هو مركوز في الطباع من ميل بعض الأجناس إلى بعض وإلفة له دون غيره ليتألف بذلك عباده على تقواه. والظاهر في الناس العموم لأن الألف واللام فيه تفيده والأمر بالتقوى وللعلة إذ ليسا مخصوصين بل هما عامان.
{ من نفس واحدة } المراد به آدم عليه الصلاة والسلام. وقرىء واحدة على تأنيث النفس وواحد على التذكير والنفس تذكر وتؤنث، والغالب عليها التأنيث. ومعنى الخلق هنا: الاختراع بطريق التفريع والرجوع إلى أصل واحد. كما قال الشاعر:
إلى عرق الثرى وشجت
عروقي وهذا الموت يسلبني شبابي
وفي قوله: من نفس واحدة إشارة إلى ترك المفاخرة والكبر لتعريفه إياهم أنهم من أصل واحد. ودلالة على المعاد، لأن القادر على إخراج أشخاص مختلفين من شخص واحد فقدرته على إحيائهم بطريق الأولى.
{ وخلق منها } الظاهر أنها منشأة من آدم نفسه ويحتمل أن يكون المعنى في قوله: منها، من جنسه لا من نفسه حقيقة بل اشتركا في الإنسانية.
{ وبث منهما } أي من تلك النفس وزوجها أي نشر وفوق في الوجود. ويقال: أبث الله الخلق رباعيا وبث ثلاثيا.
{ رجالا كثيرا ونسآء } أي كثيرة وحذف الوصف لدلالة ما قبله عليه. وقرىء وخالق وباث باسم الفاعل على إضمار وهو.
{ واتقوا الله } كرر الأمر بالتقوى تأكيدا الأول. وقيل: لاختلاف التعليل، وذكر أولا الرب الذي يدل على الإحسان والتربية، وثانيا الله الذي يدل على القهر والهيبة، بنى أولا على الترغيب، وثانيا على الترهيب، كقوله:
يدعون ربهم خوفا وطمعا
[السجدة: 16]، وقرىء تسألون بتشديد السين أصله تتسألون فأدغم التاء في السين، وقرىء تساءلون بتخفيف السين على حذف التاء الثانية.
قال ابن عطية: وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفا وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة.
قال أبو علي: فإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال كما قالوا في طس طست فأبدلوا من السين الواحدة تاء إذ الأصل طس. قال:
حن إليها كحنين الطس
" انتهى ".
وأما قول ابن عطية: حذفوا التاء الثانية فهذا مذهب أهل البصرة وذهب هشام بن معاوية الضرير الكوفي إلى أن المحذوفة هي الأولى وهي تاء المضارعة وهي مسألة خلاف ذكرت دلائلها في علم النحو. وأما قوله: وهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى، كان ينبغي أن ينبه على الإثبات إذ يجوز الإثبات وهو الأصل والادغام وهو قريب من الأصل إذ لم يذهب الحرف إلا بأن أبدل منه مماثل ما بعده وأدغم والحذف لاجتماع المثلين. وظاهر كلامه اختصاص الادغام والحذف بتتفاعلون وليس كذلك أما الإدغام فلا يختص به بل ذلك في الأمر والمضارع والماضي واسم الفاعل واسم المفعول والمصدر وأما الحذف فمختص بما دخلت عليه التاء من المضارع. وقوله: لاجتماع حروف متقاربة ظاهرة تعليل الحذف فقط لقربه أو تعليل الحذف والإدغام وليس كذلك أما ان كان تعليلا للحذف فليس كذلك، بل الحذف علته اجتماع متماثلة لا متقاربة، واما إن كان تعليلا لهما فيصح في الإدغام لا الحذف كما ذكرنا. وأما قول أبي علي: إذا اجتمعت المتقاربة خففت بكذا فلا يعني أن ذلك حكم لازم إنما معناه أنه قد يكون التخفيف بكذا فكم وجد من اجتماع متقاربة لم تخفف لا بحذف ولا إدغام ولا بدل وإما تمثيله بطست في طس فليس البدل هنا لاجتماع متقاربة من الكلمة بل هذا من اجتماع المثلين كقولهم في لص: لصت. وقرىء تسألون مضارع سأل وتسلون بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى السين.
وقرىء { والأرحام } نصبا عطفا على الجلالة على حذف مضاف تقديره وقطع الأرحام ويجوز أن يكون معطوفا على موضوع به لأنه في موضع نصب. وقرىء والأرحام عطفا على الضمير في به ويبنيه قراءة من قرأ وبالأرحام. هذا اختيارنا وإن كان مخالفا لأهل البصرة في أنهم لا يعطفون على الضمير المخفوض إلا بإعادة الخافض وقد استدللنا على صحة ما اخترناه عند الكلام على قوله تعالى:
وكفر به والمسجد الحرام
[البقرة: 217]. ومن ذهب إلى أن الجر هو بواو القسم فبعيد عن الفصاحة.
قال ابن عطية: المضمر المخفوض لا ينفصل فهو كحرف من الكلمة ولا يعطف على حرف. ويرد عندي هذه القراءة يعني قراءة حمزة والأرحام بالجر وجهان: احدهما ان ذكر الأرحام مما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله تعالى ولا فائدة فيه أكثر من الاخبار بأن الأرحام يتساءل بها وهذا تفريق في معنى الكلم وغض في فصاحته وإنما الفصاحة في أن يكون في ذكر الأرحام فائدة مستقلة.
والوجه الثاني: إن في ذكرها على ذلك تقدير التساؤل بها والقسم بحرمتها. والحديث الصحيح يرد بذلك في قوله عليه الصلاة والسلام:
" من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت "
" انتهى " كلامه. وما ذهب إليه البصريون وتبعهم فيه الزمخشري وابن عطية من امتناع العطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار ومن اعتلالهم لذلك غير صحيح بل الصحيح مذهب الكوفيين في ذلك وأنه يجوز وقد أطلتا الاحتجاج على ذلك عند قوله تعالى:
وكفر به والمسجد الحرام
[البقرة: 217]، وذكرنا ثبوت ذلك في لسان العرب نثرها ونظمها فأغنى ذلك عن إعادته هنا. وأما قول ابن عطية: ويرد عندي هذه القراءة إلى آخر كلامه، فجاسرة قبيحة منه لا تليق بحاله ولا بطهارة لسانه، إذ عمد إلى قراءة متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بها سلف الأمة واتصلت بأكابر قراء الصحابة الذين تلقوا. القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير واسطة عثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت واقرأ الصحابة أبي بن كعب رضي الله عنهم عمد إلى ردها هو بشيء خطر له في ذهنه، وهذه الجسارة لا تليق إلا بالمعتزلة كالزمخشري فإنه كثيرا ما يطعن في نقل القراء وقراءتهم. وحمزة رضي الله عنه أخذ القرآن عن سليمان بن مهران الأعمش وحمران بن أعين ومحمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى وجعفر بن محمد الصادق. ولم يقرأ حمزة حرفا من كتاب الله إلا بأثر وكان حمزة صالحا ورعا ثقة في الحديث وهو من الطبقة الثالثة ولد سنة ثمانين فاحكم القراءة وله خمس عشرة سنة، وأم الناس سنة مائة، وعرض عليه القرآن من نظراته جماعة منهم سفيان الثوري والحسن بن صالح ومن تلاميذه جماعة منهم إمام الكوفة في القراءة والعربية أبو الحسن الكسائي.
وقال الثوري وأبو حنيفة ويحيى بن آدم غلب حمزة الناس على القرآن والفرائض وإنما ذكرت هذا وأطلت فيه لئلا يطلع عمر على كلام الزمخشري وابن عطية في هذه القراءة فيسيء ظنا بها وبقارئها فيقارب أن يقع في الكفر بالطعن في ذلك، ولسنا متعبدين بقول نحاة البصرة ولا غيرهم ممن خالفهم، فكم حكم ثبت بنقل الكوفيين من كلام العرب لم ينقله البصريون، وكم حكم ثبت بنقل البصريين لم ينقله الكوفيون وإنما يعرف ذلك من له استبحار في علم العربية لا أصحاب الكنانيش المشتغلون بضروب من مبادي العلوم الآخذون عن الصحف دون الشيوخ.
وقرىء والأرحام على أنه مبتدأ حذف خبره لدلالة ما قبله عليه كأنه قيل: والأرحام أي وقطعها مما يتقي.
{ عليكم رقيبا } والرقيب فعيل للمبالغة من رقب يرقب رقبا ورقوبا ورقبانا أحد النظر إلى أمر ليتحققه على ما هو عليه ويقرن به الحفظ. ومنه قيل للذي يرقب خروج السهم: رقيب، والمعنى أنه تعالى مراع لكم لا يخفي عليه من أمركم شيء.
[4.2-4]
{ وآتوا اليتامى أموالهم } قيل نزلت في رجل غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ طلب المال فمنعه. واليتيم اسم لمن كان قبل البلوغ ويشترك في جمعه الذكور والإناث والظاهر أن قوله: وآتوا، هو أمر لمن له ولاية على اليتامى والمعنى والله أعلم أنهم إذا كانوا غير رشداء كان معنى الإيتاء إيصال ما يكفيهم من أقوالهم فمن بلغ منهم رشيدا كان إيتاؤه ماله واجبا.
{ ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب } كان بعضهم يبدل الشاة السمينة من مال اليتيم بالهزيلة من ماله، والدرهم الطيب بالدرهم الزيف من ماله، فنهوا عن ذلك.
{ ولا تأكلوا } هذا من باب التضمين ضمن تأكلوا معنى تضموا بالأكل فلذلك عداه بإلى ودل قوله: إلى أموالكم ان المخاطبين أغنياء ذوو أموال وقد جاء ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف.
والضمير في: { إنه } عائد على فعل المنهي عنه من التبديل والأكل.
{ كان حوبا } الحوب: الاثم، يقال: حاب يحوب حوبا وحوبا وحابا وحؤوبا وحيابة. { وإن خفتم } الآية. في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : نزلت في أولياء اليتامى الذين يعجبهم جمال أوليائهم فيريدون أن يبخسوهن في المهر لمكان ولايتهم عليهن فقيل لهم: اقسطوا في مهورهن فمن خاف أن لا يسقط فليتزوج ما طاب له من الأجنبيات اللواتي يماكسن في حقوقهن ولما أمروا أن يؤتوا اليتامى كان في ذلك فريد اعتناء باليتامى واحتراز من ظلمهن فخوطب أولياء يتامى النساء أو الناس بقوله: وإن خفتم أن لا تقسطوا، والخوف هنا على بابه وهو الحذر، ومعنى في اليتامى في نكاح اليتامى وظاهره العموم كن بلغا أو غير بلغ، فإن كان أريد به اليتيم الشرعي فينطلق على الصغيرات اللاتي لم يبلغن وقد منع من نكاحهن ابن شبرمة والأصم، وإن كان المراد به اليتيم اللغوي فيندرج فيه البالغات، والبالغة يجوز تزويجها بدون مهر المثل إذا رضيت فأي معنى للعدول إلى نكاح غيرها.
والجواب أن العدول إنما كان لأن الولي يستضعفها ويستولي على مالها وهي لا تقدر على مقاومته.
{ فانكحوا } أمر إباحة.
{ ما طاب } ما هنا واقعة على النوع أي النوع الذي طاب لكم، ومن قال: ان ما هنا تقع على آحاد من يعقل جوز ذلك هنا، وكانت ما هنا مثل من ولما كان قوله: ما طاب.
{ لكم من النسآء } عاما في الاعداد كلها خص ذلك بقوله:
{ مثنى وثلث وربع } وظاهر هذا التخصيص تقسيم المنكوحات إلى أن لنا أن نتزوج اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا ولا يجوز لنا أن نتزوج خمسا خمسا ولا ما بعد ذلك من الأعداد، ولا يسوغ دخول أو هنا مكان الواو لأنه كان يصير المعنى أنهم لا ينكحون كلهم إلا على أحد أنواع العدد المذكور وليس لهم أن يجعلوا بعضه على تثنية وبعضه على تثليث وبعضه على تربيع لأن أو لأحد الشيئين أو الأشياء والواو تدل على مطلق الجمع فيأخذ الناكحون من أرادوا نكاحها على طريق الجمع إن شاؤا مختلفين في تلك الأعداد وإن شاؤا متفقين فيها محظورا عليهم ما زاد.
وقرىء ثنى مقصورا وثلث وربع على وزن فعل ممنوع الصرف.
قال الزمخشري: إنما منعت الصرف لما فيها من العدلين عدلها عن صيغتها وعدلها عن تكررها وهي نكرات يعرفن بلام التعريف. يقال فلان: ينكح المثنى والثلاث والرباع. " انتهى ". وما ذهب إليه من أن اقتناعها الصرف لما فيها من العدلين إلى آخره لا أعلم أحدا ذهب إليه بل المذاهب المنقولة في علة منع الصرف أربعة: أحدها قول سيبويه والخليل وأبي عمرو وهو العدل والوصف.
والثاني: قول الفراء انها منعت للعدل والتعريف بنية الألف واللام فهي ممتنعة الاضافة لنية الألف واللام ومنع ظهور الألف واللام كونها في نية الاضافة.
الثالث: ما نقل عن الزجاج وهو أنها معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة وأنه عدل عن التأنيث.
الرابع: ما نقله أبو الحسن عن بعض النحويين أن العلة المانعة من الصرف هي تكرار العدل فيه لأنه عدل عن لفظ اثنين وعدل عن معناه وذلك أنه لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الاعداد غير المعدولة. تقول: جاءني اثنان وثلاثة ولا يجوز جاءني مثنى وثلاث حتى يتقدم قلبه. جمع لأن هذا الباب جعل بيانا لترتيب الفعل فإذا قال: جاءني القوم مثنى أفاد أن ترتيب مجيئهم وقع اثنين اثنين فاما الاعداد غير المعدولة فإنما الغرض منها الاخبار عن مقدار المعدود دون غيره فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى فلذلك جاز أن تقوم العلة مقام العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين. " انتهى " ما قرر به هذا المذهب. والزمخشري لم يسلك شيئا من هذه العلل المنقولة فإن كان تقدمه سلف ممن قال ذلك فيكون قد تبعه والا فيكون ممن انفرد بمقالته. وأما قوله: يعرفن بلام التعريف يقال: فلان ينكح المثنى والثلاث والرباع فهو معترض من وجهين، أحدهما: زعمه انها تعرف بلام التعريف وهذا لم يذهب إليه أحد بل لم تستعمل في لسان العرب إلا نكرات، والثاني: انه قد مثل بها وقيد وليت العوامل في قوله: فلا ينكح المثنى والثلاث والرباع ولا تلى العوامل إنما يتقدمها ما يلي العوامل ولا تقع إلا خبرا، كما جاء: صلاة الليل مثنى مثنى أو حالا نحو ما طاب لكم من النساء مثنى، أو صفة نحو: أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع. وقوله: وبات يبغي الناس مثنى وموحد.
وقد تجيء مضافة قليلا نحو قوله: بمثنى الزقاق المنزعات وبالجزر.
وقد ذكر بعضهم انها تلي العوامل على قلة. وقد يستبدل له بقول الشاعر:
ضربت خماس ضربة عبشمي
أدار سداس أن لا يستقيما. ومن أحكام هذا المعدول أنه لا يؤنث فلا يقال: مثناة، ولا ثلاثة، ولا رباعة، بل يجري بغير تاء على المذكر والمؤنث.
{ فإن خفتم ألا تعدلوا } في نكاح اثنتين أو ثلاث أو أربع.
" فانكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم " وهو عام غير مقيد بعدد. والمعنى أوطؤا ما ملكت أيمانكم.
{ ذلك أدنى ألا تعولوا } أي أقرب أن لا تكثر عيالكم. ونقل ابن الاعرابي أنه يقال: عال الرجل واعال إذا كثر عياله، فلا التفات لمن رد على الشافعي رضي الله عنه في قوله: تعولوا، معناه تعيلوا أي تكثر عيالكم. صدقاتهن والصدقة: المهر على وزن سمرة وقد تسكن الدال ويقال: صدقة على وزن غرفة وقد تضم الدال والنحلة العطية عن طيب نفس والنحلة السرعة.
{ وآتوا النسآء صدقتهن } أمر للأزواج بإعطائهم مهور نسائهم عن طيب قلب. والضمير في " منه " عائد على المهر المفهوم من قوله: صدقاتهن، وانتصب نفسا على التمييز وهو مفرد أريد به الجمع ويجوز جمعه في غير القرآن تقول: الهندات طبن نفسا وطبن أنفسا.
{ فكلوه } أي استمتعوا به بأكل وغيره.
{ هنيئا مريئا } يقال: هنؤ الطعام ومرء إذا كان سائغا لا تنغيص فيه. ويقال: هنا يهنا بغير همز وهنأني الطعام ومرأني، فإذا لم تذكر هنأني قلت: امرأني رباعيا واستعمل مع هنأني ثلاثيا للاتباع وانتصاب هنيئا على أنه نعت لمصدر محذوف أي فكلوه أكلا هنيئا أو على أنه حال من ضمير المفعول هكذا أعربه الزمخشري وهو قول مخالف لأئمة العربية لأنه عند سيبويه وغيره منصوب بإضمار فعل لا يجوز إظهاره وقد ذكرنا في النحو في المفردات نص سيبويه على ذلك. فعلى ما قاله أئمة العربية يكون هنيئا مريئا من جملة أخرى غير قوله فكلوه، ولا تعلق له من حيث الاعراب بل من حيث المعنى. وقال: كثير عزة هنيئا مريئا غير داء مخامر لعزة من اعراضنا ما استحلت.
وقد أمعنا الكلام على هذه المسألة في البحر وانتصب مريئا على أنه صفة لقوله: هنيئا، وبه قال الحوفي، أو على أنه منصوب بما انتصب به هنيئا فالتقدير ثبت مريئا، قاله الفارسي.
[4.5-6]
{ ولا تؤتوا السفهآء أموالكم } السفهاء عام في الذكور والإناث، والسفه: تبذير المال فيما لا ينبغي وأضاف الأموال إلى المخاطبين الناظرين في أموال السفهاء تغبيطا للأموال لما كانوا يتصرفون فيها للسفهاء، والاضافة تكون بأدنى ملابسة. وقرىء اللاتي جمعا وقرأ الجمهور التي بالافراد وإن كان نعتا لجمع وجعل صلة حذف منها الضمير تقديره جعلها ومعنى قياما تقومون بها وتنتعشون بها ولو ضيعتموها لتلفت أحوالكم ويقام بها الحج والجهاد وأعمال البر وبها فكاك الرقاب من الرق ومن الأسر ومن النار، وقال: فيها، ولم يقل: منها، تنبيها على ما قاله عليه الصلاة والسلام. ابتغوا في أموال اليتامى التجارة لا تأكلها الزكاة فعلى هذا يكون الرزق والكسوة من الأرباح التي تحصل من أصل الأموال. وقد يكون معنى الآية أمر ذوي الأموال أن لا يأتوا أموالهم السفهاء فيبقون فقراء بتبذير السفهاء الأموال كمن يعطي زوجته وولده السفيهين ماله فأمر بأن لا يفعل ذلك وأن يمسك ماله ويرزقهما ويكسوهما فيها أي في أموال نفسه. وتكون في بمعنى: من، فتكون إضافة الأموال إليهم حقيقة لا مجازا.
{ وابتلوا اليتامى } الآية قيل:
" توفي أوس بن ثابت عن زوجته أم كجة وثلاث بنات وابن عم سويد وعرفجة فأخذا ماله ولم يعطيا المرأة ولا البنات شيئا. وقيل: المانع ارتهن هو ابن عم بينها واسمه ثعلبة وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء ولا البنات ولا الابن الذكر الصغير فشكتهما أم كجة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهما فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا يبكىء عدوا. فقال: انصرفوا حتى أنظر ما يحدث الله تعالى، فنزلت "
وابتلاء اليتامى اختبارهم في عقولهم ودينهم وحفظ أموالهم وحسن تصرفهم فيها وكيفية ابتلاء الصغير انه يدفع إليه نذر من المال يتصرف فيه. والوصي يراعي حاله فيه لئلا يتلفه واختبار الصغيرة أن يرد إليها أمر البيت والنظر في الاستغزال دفعا وأجرة واستيفاء واختبار كل منهما بحال ما يليق به وبما يعانيه من الأشغال والصنائع ولم تتعرض الآية لسن البلوغ وقد غيي الابتلاء بوقت البلوغ.
{ فإن آنستم } أي بعد البلوغ. ودل ذلك على أنه لا يعطي ماله إلا بشيئين بلوغه وإيناس رشده فلو بلغ غير رشيد دام عليه الحجر أو أونس منه رشد قبل البلوغ، فكذلك هذا الظاهر وهو عام في جميع اليتامى ولو عاشوا سنين بعد البلوغ من غير رشد فالحجر عليهم.
وانتصب: { إسرافا وبدارا } على أنهما مصدران أو على أنهما في موضع الحال أي مسرفين ومبادرين.
و { أن يكبروا } معمول لقوله: وبدارا وجاء ولا تأكلوها ولا يراد خصوصية الأكل بل عبر بذلك عن أخذ مال اليتامى إذ الأكل أعظم منافع الأخذ.
{ ومن كان غنيا } الجملتان الظاهر أنه يدل على أنه تقسم لحال الوصي على اليتيم فأمره تعالى بالاستعفاف عن ماله إن كان غنيا واقتناعه بما رزقه الله تعالى من الغنى. وأباح له الأكل بالمعروف من مال اليتيم إن كان فقيرا بحيث يأخذ قوتا محتاطا في تقديره. وظاهر هذه الآية الاباحة انه لا تبعة عليه ولا يترتب في ذمته ما أخذ مما يسد جوعه ويستر عورته بما لا يكون رفيعا من الثياب ولا يقضي إذا أيسر.
{ فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم }. أمر تعالى بالاشهاد لحسم مادة النزاع وسوء الظن بهم والسلامة من الضمان والعزم على تقدير إنكار اليتيم وطيب خاطره بفك الحجر عنه وانتظامه في سلك من يعامل ويعامل وإذا لم يشهد فادعى عليه صدق مع اليمين عند أبي حنيفة وأصحابه وعند مالك والشافعي لا يصدق إلا بالبينة فكان في الاشهاد الاحتراز عن توجه الحلف المفضي إلى التهمة أو من وجوب الضمان إذا لم تتم البينة. وظاهر الأمر أنه واجب.
{ وكفى بالله } بالله فاعل كفى والباء زائدة أي وكفى الله. وحسيبا تمييز فقيل: مبالغة من حاسب. وقيل: معناه محاسب كجليس بمعنى مجالس.
[4.7-10]
{ للرجال نصيب } الآية. قيل: كان اليونان يعطون جميع المال للبنات لأن الرجل لا يعجز عن الكسب والمرأة تعجز. وكانت العرب لا يعطيون البنات فرد الله تعالى على الفريقين والمعنى بالرجال الذكور وبالنساء الإناث لقوله:
وبث منهما رجالا كثيرا ونسآء
[النساء: 1]. وأبهم في قوله: نصيب، وكذا أبهم في الأقربين لم يعين من هم. قال الزمخشري: ونصيبا ففروضا نصب على الاختصاص بمعنى أعنى نصيبا مفروضا مقطوعا واجبا. " انتهى ".
إن عنى بالاختصاص ما أصطلح عليه النحويون فهو مردود بكونه نكرة والمنصوب على الاختصاص نصوا على أنه لا يكون نكرة.
{ وإذا حضر القسمة } أي قسمة الميراث.
{ أولوا القربى } ممن لا يرث.
{ فارزقوهم منه } أي من مال المقسوم.
{ وليخش الذين } ظاهره هذه الجملة أنه أمر بخشية الله تعالى واتقائه والقول السديد من ينظر في حال ذرية ضعاف لتنبيهه على ذلك بكونه هو يترك ذرية ضعافا فيدخل في ذلك ولاة الأيتام، قاله ابن عباس.
{ إن الذين يأكلون أموال اليتمى ظلما } قيل: نزلت في الأوصياء الذين يأكلون من أموال اليتامى ما لم يبح لهم وهي تتناول كل أكل بظلم وان لم يكن وصيا. وانتصاب ظلما على أنه مصدر في موضع الحال أو مفعول من أجله، وخبر إن هي الجملة من قوله:
{ إنما يأكلون } وفي ذلك دليل على جواز وقوع الجملة المصدرة بأن خبرا لأن وفي ذلك خلاف. وحسن ذلك هنا تباعدهما بكون اسم ان موصولا فطال الكلام بذكر صلته.
و { في بطونهم } معناه ملء بطونهم وهو متعلق بيأكلون وقال أبو البقاء: هو في موضع الحال من قوله نار. " انتهى ". والأولى تعلقه بيأكلون كما قلنا ونبه بقوله: في بطونهم، على نقصهم ووصفهم بالشره في الأكل والتهافت في نيل الحرام بسبب البطن، وظاهر قوله: نارا، انهم يأكلون نارا حقيقة. وفي حديث أبي سعيد عن ليلة الإسراء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الابل وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم فقلت: يا جبريل من هؤلاء؟ قال: هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما ".
وقرىء، { وسيصلون } بفتح الياء وبضمها.
[4.11]
{ يوصيكم الله } الآية. لما أبهم في قوله: نصيب مما ترك الولدان والأقربون، في المقدار والأقربين، بين في هذه الآية المقادير ومن يرث من الأقربين وبدأ بالأولاد وارثهم من والديهم كما بدأ في قوله:
للرجال نصيب مما ترك الوالدان
[النساء: 7]، بهم وفي قوله: في أولادكم إجمال، أيضا بينه بعد وبدأ بقوله:
{ للذكر } وتبيين ماله دلالة على فضله وكان تقديم الذكر أدل على فضله من ذكر بيان نقص الأنثى عنه ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث فكفاهم أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يحرمن إذ هن يدلين بمثل ما يدلون من الوالدية، وقد اختلف القول في سبب النزول ومضمن أكثر تلك الأقوال أنهم كانوا لا يورثون البنات كما تقدم فنزلت تبيينا لذلك ولغيره.
{ فإن كن نسآء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } ظاهر هذا التقسيم إن ما زاد على الثنتين من الأولاد يرثن الثلثين مما ترك مورثهما. وظاهر السياق انحصار الوارث فيهن. ولما كان لفظ الأولاد يشمل الذكور والإناث وقصد هنا بيان حكم الإناث أخلص الضمير للتأنيث إذ الإناث أحد قسمي ما ينطلق عليه الأولاد فعاد الضمير على أحد القسمين. والضمير في كن ضمير الإناث كما قلنا أي، فإن كان الوارثات نساء حسن كونه خبر الوصف بقوله بفوق اثنتين.
وأجاز الزمخشري أن يكون نساء خبرا وفوق خبرا ثانيا لكان، وليس بشيء لأن الخبر لا بد أن تستقل به فائدة الإسناد ولو سكت على قوله: فإن كن نساء لكان نظير إن كان الزيدون رجالا وهذا ليس بكلام.
وقال بعض البصريين: التقدير وإن كان المتروكات نساء فوق اثنتين وقدره الزمخشري البنات أو المولودات.
وقال الزمخشري: فإن قلت: هل يصح أن يكون الضمير إن في كن وكانت مبهمين ويكون نساء وواحدة تفسيرا لهما على ان كان تامة؟ قلت: لا أبعد ذلك. " انتهى ".
ويعني بالابهام أنهما لا يعودان على مفسر متقدم بل يكون مفسرهما هو المنصوب بعدهما وهذا الذي لم يبعده الزمخشري هو بعيد أو ممنوع البتة لأن كان ليست من الأفعال التي يكون فاعلها مضمرا يفسره ما بعده بل هذا مختص من الأفعال بنعم وبئس. وما حمل عليهما وفي باب التنازع على ما قرر في النحو. ومعنى فوق أكثر من اثنتين بالغات ما بلغن من العدد فليس لهن إلا الثلثان ومن زعم أن معنى قوله: نساء فوق اثنتين اثنتين فما فوقهما وإن قوة الكلام تقتضي ذلك كابن عطية أو ان فوق زائدة مستدلا بأن فوق قد زيدت في قوله:
فاضربوا فوق الأعناق
[الأنفال: 12]، فلا يحتاج في رد ما زعم إلى حجة لوضوح فساده وذكروا أن سهم البنتين في الميراث الثلثان كالبنات قالوا: ولم يخالف في ذلك إلا ابن عباس فإنه يرى لهما النصف إذا انفردا كحالهما إذا اجتمعا مع الذكر وورد في الحديث في قصة أوس بن ثابت، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطى البنتين الثلثين.
{ وإن كانت واحدة فلها النصف } أي وكانت الوارثة واحدة. قرىء بضم التاء على أن كان تامة وبنصبها على الخبر. وقرىء النصف بضم النون وكسرها.
{ ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد } لما ذكر الفروع ومقدار ما يرثون أخذ في ذكر الأصول ومقدار ما يرثون فذكر أن الميت يرث منه أبواه كل واحد السدس إن كان للميت ولد أبواه هما أبوه وأمه. وغلب لفظ الأب في التثنية كما قيل: القمران، فغلب القمر لتذكيره على الشمس وهي تثنية لا تنقاس. وشمل قوله: وله ولد الذكر والأنثى والواحد والجماعة وظاهر الآية ان فرض الأب السدس إذا كان للميت ولد أي ولد كان وباقي المال للولد ذكرا كان أو أنثى والحكم عند الجمهور أنه لو كان الولد ابنه أخذ السدس فرضا والباقي تعصيبا وتعلقت الروافض بظاهر لفظ ولد فقالوا السدس لكل واحد من أبويه والباقي للبنت أو الابن إذ الولد يقع على الذكر والأنثى. والضمير في لأبويه عائد على ما عاد عليه الضمير في ترك وهو ضمير الميت الدال عليه معنى الكلام وسياقه ولكل واحد منهما بدل من أبويه، ويفيد معنى التفصيل وتبيين أن السدس لكل واحد منهما إذ لولا هذا البدل لكان الظاهر اشتراكهما في السدس وهو أبلغ وآكد من قولك: لكل واحد من أبويه السدس إذ تكرر ذكرهما مرتين مرة بالإظهار ومرة بالضمير العائد عليهما. وقال الزمخشري: والسدس مبتدأ وخبره لأبويه والبدل متوسط بينهما. " انتهى ". وفي قول الزمخشري: والسدس مبتدأ وخبره لأبويه نظرا لأن البدل هو الذي يكون الخبر له دون المبدل منه كما مثلناه في قولك: أبواك كل واحد منهما يصنع كذا إذا أعربنا كلا بدلا. وكما تقول: إن زيدا عينه حسنة، فكذلك ينبغي أن يكون إذا وقع البدل خبرا فلا يكون المبدل منه هو الخبر، واستغنى عن جعل المبدل منه خبرا بالبدل كما استغنى عن الاخبار عن اسم ان وهو المبدل منه بالاخبار عن البدل ولو كان التركيب ولأبويه السدسان لا وهم التنصيف أو الترجيح في المقدار بين الأبوين، فكان هذا التركيب القرآني في غاية النصية والفصاحة وظاهر قوله: ولأبويه انهما اللذان ولد الميت قريبا لاجداه ولا من علا من الأجداد وزعموا إن قوله: في أولادكم، يتناول من سفل من الأبناء، قالوا: لأن الأبوين لفظ مثنى لا يحتمل العموم ولا الجمع بخلاف قوله: في أولادكم، وفيما قالوه نظروهما عندي سواء في الدلالة ان نظر الى حمل اللفظ على حقيقته فلا يتناول إلا الأبناء الذين ولدهم الأبوان قريبا لا من سفل كالأبوين لا يتناول إلا من ولداه قريبا لا من علا أو إلى حمل اللفظ على مجازه فيشترك اللفظان في ذلك فينطلق الأبوان على من ولداه قريبا.
ومن علا كما ينطلق الأولاد على من ولداهم قريبا ومن سفل وتبيين جملة على الحقيقة في الموضعين أن إبن الابن لا يرث مع الابن وأن الجدة لا يفرض لها الثلث بإجماع فلم يتنزل ابن الابن منزلة ابن مع وجوده ولا الجدة منزلة الأم.
{ فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث } قوله: فإن لم يكن له ولد، قسيم لقوله: إن كان له ولد وورثه أبواه، دليل على أنهما انفردا بميراثه ليس معهما أحد من أهل السهام لا ولد ولا غيره؛ فيكون قوله: وورثه أبواه حكما لهما بجميع المال فإذا خلص للأم الثلث كان الباقي وهو الثلثان للأب. فذكر القسم الواحد يدل على الآخر كما تقول: هذا المال لزيد وعمر ولزيد منه الثلث، فيعلم قطعا أن باقيه وهو الثلثان لعمرو فلو كان معهما زوج كان للأم السدس وهو الثلث بالاضافة إلى الأب وقال ابن عباس وشريح: للأم الثلث من جميع المال مع الزوج، والنصف للزوج، وما بقي للأب فيكون معنى وورثه أبواه منفردين أو مع غير ولد وهذا مخالف لظاهر قوله: وورثه أبواه إذ يدل على أنهما انفردا بالإرث فيتقاسمان للذكر مثل حظ الأنثيين ولا شك أن الأب أقوى في الإرث من الأم إذ يضعف نصيبه على نصيبهما إذ انفرد بالإرث ويرث بالفرض وبالتعصيب وبهما. وفي قول ابن عباس وشريح: يكون لهما مع الزوج والأب مثل حظ الذكرين فتصير أقوى من الأب وتصير الأنثى لها مثلا حظ الذكر. ولا دليل على ذلك من نص ولا قياس.
{ فإن كان له إخوة فلأمه السدس } المعنى أنه إذا كان أب وأم وأخوة كان نصيب الأم السدس وحطها الاخوة من الثلث إلى السدس وصار الأب يأخذ الخمسة الأسداس. وذهب ابن عباس إلى أن الأخوة يأخذون ما حجبوا الأم عنه وهو السدسي ولا يأخذه الأب. وروى عنه أن الأب يأخذه لا الأخوة كقول الجماعة. وقال الزمخشري: الاخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بغير كمة والتثنية كالتثليث والتربيع في إفادة الكمية وهذا موضع الدلالة على الجمع المطلق فدل بالاخوة عليه. " انتهى ". ولا يسلم له دعوى ان الاخوة تفيد معنى الجمعية المطلقة بل تفيد معنى الجمعية التي بعد التثنية بغير كمية فيما بعد التثنية فيحتاج في إثبات دعواه إلى دليل وظاهر إخوة الاطلاق فيتناول الاخوة من الأم فيحجبون كما قلنا. قيل: وذهبت الروافض إلى أن الأخوة من الأم لا يحجبون الأم لأنهم يدلون بها فلا يجوز أن يحجبوها ويجعلوها كغيرها فيصيرون ضارين لها نافعين لغيرها واستدل بهذه الآية على أن البنت تقلب حق الأم من الثلث إلى السدس بقوله: فإن كان له إخوة لأنها إذا حرمت الثلث بالاخوة وانتقلت إلى السدس فلأن تحرم بالبنت أولى.
{ من بعد وصية يوصي بهآ أو دين } المعنى أن قسمة المال بين من ذكر إنما يكون بعد خروج ما يجب إخراجه بوصية أو بدين وليس تعلق الوصية والدين بالتركة سواء إذ لو هلك من التركة شيء قبل القسمة ذهب من الورثة والموصى له جميعا ويبقى الباقي بينهم بالشركة ولا يسقط من الدين شيء بهلاك شيء من التركة فليس تعلق الوصية والدين بالمال الموروث سواء، ألا ترى إن الدين لا يسقط منه شيء بذهاب بعض المال بخلاف الوصية فإنها يسقط منها ما يقابل بعض المال الذاهب ويتعلق من بعد بفعل محذوف تقديره يستحقون ذلك من بعد وصية. وقرىء يوصى بها بكسر الصاد وفتحها وهو مضارع في موضع الماضي وأو هنا كهي في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين.
{ أيهم أقرب لكم نفعا } أي فاقتسموا الميراث على ما بين لكم من يعلم النفع والمصلحة فإنكم لا تدرون أنتم ذلك. وقال الزجاج: انه تعالى قد فرض الفرائض على ما هو حكمة عنده ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فتضيعون الأموال على غير حكمة ولهذا اتبعه بقوله: إن الله كان عليما أي بمصالح خلقه حكيما فيما فرض. وأيهم أقرب مبتدأ، وخبر علق عنه تدرون لأنه من أفعال القلوب، والجملة في موضع نصب، ويجوز أن يكون أيهم موصولا مفعولا بتدرون وهو مبني على الضم إذ قد وجد شرط بنائها وهو إضافتها لما بعدها وحذف صدر صلتها فالمعنى لا تدرون الذين هم أقرب لكم نفعا.
{ فريضة من الله } انتصب على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة في قسمة المواريث فوقع فريضة موقع فرضا من الله أو على أنها حال مؤكدة لمضمون الجملة السابقة.
{ إن الله كان عليما حكيما } فيما فرض وقسم من المواريث وغيرها.
[4.12]
{ ولكم نصف ما ترك أزوجكم } الآية. لما ذكر تعالى ميراث الفروع من الأصول وميراث الأصول من الفروع أخذ في ذكر ميراث المتصلين بالسبب لا بالنسب وهو الزوجية هنا ولم يذكر في القرآن التوارث بسبب الولاء والتوارث المستقر في الشرع هو بالنسب والسبب الشامل للزوجية والولاء وكان في صدر الاسلام يتوارث بالموالاة والحلف والهجرة فنسخ ذلك وقدم ذكر ميراث سبب الزوجية على ذكر الكلالة وإن كان بالنسب لتواشج ما بين الزوجين واتصالهما واستغناء كل واحد منهما بعشرة صاحبه دون عشرة الكلالة. وبدىء بخطاب الرجال لما لهم من الدرجات على النساء ولما كان الذكر من الأولاد حظه من الأنثى مثل حظ الأنثيين جعل في سبب التزوج الذكر له مثلا حظ الأنثى ومعنى فإن كان لهن ولد أي منكم أيها الوارثون أو في غيركم، والولد هنا ظاهره أنه في ولدته لبطنها ذكرا كان أو أنثى واحدا كان أو أكثر وحكم بين الذكور منها وإن سفلوا حكم الولد للبطن في أن فرض الزوج منها الربع مع وجوده بإجماع والكلالة خلو الميت عن الولد والوالد. والكلالة في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الاعياء، فاستعيرت للقرابة من غير جهة الولد والوالد لأنها بالاضافة إلى قرابتها كالة ضعيفة.
وقرىء يورث مبنيا للمفعول، ويورث مبنيا للفاعل، فعلى قراءة من قرأ يورث فانتصابها على المال من الضمير المستكن في يورث إذا وقع على الوارث احتيج إلى تقدير ذا كلالة لأن الكلالة ليست نفس الضمير في يورث، وإن كان معنى الكلالة القرابة فانتصابها على أنه مفعول من أجله أي يورث لأجل الكلالة. وعلى قراءة من قرأ يورث بكسر الراء فإن كانت الكلالة هي الميت فانتصابها على الحال والمفعولان محذوفان التقدير يورث وارثه ما له في حال كونه كلالة وإن كان المعنى بها الوارث فانتصاب الكلالة على المفعول به بيورث ويكون المفعول الثاني محذوفا تقديره يورث كلالة ماله أو القرابة فعلى المفعول من أجله والمفعولان محذوفان أيضا.
{ أو امرأة } معطوف على قوله: رجل، وحذف منه الكلالة لدلالة ما قبلها عليه وظاهر.
{ وله أخ أو أخت } الاطلاق إذ الاخوة تكون من الاخياف والأعيان وأولاد العلات وأجمعوا على أن المراد في هذه الآية الاخوة للأم ويوضح ذلك قراءة أبي وله أخ أو أخت من الأم.
{ فإن كانوا } الضمير عائد على الوارث ومعنى أكثر زائدا على أخ أو أخت.
{ فهم شركآء في الثلث } وسيأتي أيضا حكم الكلالة في آخر هذه السورة وجاءت الوصية مطلقة وهي مقيدة في الشرع بالثلث فما دونه إن كان للموصي وارث فإن لم يكن له وارث فأجاز شريك وأبو حنيفة وأصحابه الوصية بجميع ماله.
{ غير مضآر } انتصب على الحال من الفاعل في يوصي وهذا القيد ليس مخصوصا بهذه الآية الأخيرة بل هو معتبر في قوله: يوصي أولا ويوصين وتوصون وحذف لدلالة ما بعده عليه، والمعنى غير مضار ورثته ووجوه الضرر كثيرة كان يوصي بأكثر من الثلث أو يجابى به أو يهبه أو يصرفه إلى وجوه القرب من عتق وغيره فرارا عن وارث محتاج أو يقر بدين ليس عليه.
وانتصب: { وصية من الله } على أنه مصدر مؤكد أي يوصيكم الله بذلك وصية كما انتصب فريضة من الله أو مصدر في موضع الحال والعامل يوصيكم. وقرىء بإضافة مضار لوصية، والمعنى غير مضار في وصية حذف في وأضاف اسم الفاعل كما قال:
يا سارق الليلة أهل الدار
أصله يا سارقا في الليلة، وانظر إلى حسن هذا التقسيم في الميراث وسبب الميراث هو الاتصال بالميت فإن كان بغير واسطة فهو السبب وبدأ فيه بالفروع والأصول أو بسبب وهو الزوجية فالأول ذاتي والثاني عرضي ثم ذكر آخر الكلالة وهي الميراث الحواشي وليس أصولا ولا فروعا للميت والمذكورون في الآيتين قبل آية الكلالة لا يسقط أحد منهم في الميراث بخلاف الكلالة.
[4.13-16]
{ تلك حدود الله } الأولى أن تكون تلك إشارة إلى الأحكام السابقة في أحوال اليتامى والزوجات والوصايا والمواريث وجعل هذه الشرائع حدودا لأنها مضروبة موقتة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتعدوها إلى غيرها.
{ ومن يطع الله } حمل أولا على لفظة من في قوله: يطع، ويدخله فأفرد ثم حمل على المعنى في خالدين فجمع وانتصاب خالدين على الحال المقدرة والعامل فيه يدخله وصاحب الحال هو ضمير المفعول في يدخله. قال ابن عطية: وجمع خالدين على معنى من بعد أن تقدم الأفراد مراعاة للفظ من وعكس هذا لا يجوز. " انتهى ". وما ذكر أنه لا يجوز من تقدم الحمل على المعنى ثم على اللفظ جائز عند النحويين.
وفي مراعاة الحملين تفصيل وخلاف مذكور في كتب النحو المطولة. وقال الزمخشري: فإن قلت: هل يجوز أن يكونا صفتين لجنات ونارا؟ قلت: لا لأنهما جريا على غير من هماله فلا بد من الضمير وهو قولك خالدين هم فيها وخالدا هو فيها. " انتهى ". وما ذكره ليس مجمعا عليه بل فرع على مذهب البصريين وأما عند الكوفيين فيجوز ذلك ولا يحتاج إلى إبراز الضمير إذا لم يلبس على تفصيل لهم في ذلك ذكر في النحو وقد جوز ذلك في الآية الزجاج والتبريزي أخذا بمذهب الكوفيين.
{ ومن يعص الله } حمل على لفظ من في جميع الضمائر فأفرد وزاد هاهنا على العصيان تعدى الحدود وذكر مقابلة الإهانة لأنه لا يتعداها إلا من اغتر فناسبته الاهانة. وأفرد هنا خالدا وجمع في الآية قبله لأن أهل الطاعة أهل الشفاعة وإذا شفع في غيره دخلها هو ومن يشفع فيه والعاصي لا يدخل النار به غيره فبقي وحيدا. " انتهى ".
{ واللاتي } جمع التي وهي إحدى الجموع التي لها. والفاحشة هنا الزنا بإجماع من المفسرين، إلا ما ذهب إليه مجاهد وتبعه أبو مسلم الأصبهاني في أن الفاحشة هنا المساحقة، وإن قوله: واللذان يأتيانها منكم في اللواط. وقول غيرهما من المفسرين أن الآيتين في الزنا ومناسبة الآيتين لما قبلهما أنه ذكر من يعصي الله ويتعدى حدوده فاتبع ذلك بذكر بعض أحوال العصاة.
{ أو يجعل الله لهن سبيلا } السبيل هو ما استقر عليه حكم الزنا من الحد، وهو: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب رجم بالحجارة وثبت تفسير السبيل، بهذا من حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم فوجب المصير إليه. وحديث عبادة ليس بناسخ لهذه الآية ولا لآية الجلد بل هو مبين لمجمل في هذه الآية إذ غيا إمساكهن في البيوت إلى أن يجعل الله لهن سبيلا وهو مخصص لعموم آية الجلد وفي تفسير مجاهد وأبي مسلم في الفاحشة انها السحاق فالسبيل عندهما أن تتزوج المساحقة.
وفي قوله: { فاستشهدوا } دلالة على طلب الاستشهاد وجواز نظر الشاهد إلى فرج المزني بها لأجل الشهادة.
{ واللذان } تثنية الذي وغلب التذكير إذا المراد الزاني والزانية. وقرىء للذان بالتشديد. { يأتيانها } الضمير عائد على الفاحشة.
{ فآذوهما } يدل على مطلق الإيذاء وتبين في غير هذه الآية تعيين الأذى بالجلد والرجم للمحض وبالجلد فقط للبكرين واعتبار شهادة أربعة في هذه الآية كما سبق في الآية قبلها.
{ فإن تابا } أي عن المعصية.
{ وأصلحا } عملهما في الطاعة.
{ فأعرضوا عنهمآ } هي متاركة. ودل ذلك على أن الأذى المذكور في الآية ليس ما تقرر آخرا في الشرع من الجلد والرجم، بل هو ضرب بالأيدي والنعال وتقبيح للفعل، وما أشبه ذلك.
[4.17-19]
{ إنما التوبة على الله } فيه محذوفان التقدير إنما قبول التوبة على فضل الله وليس ذلك على سبيل الوجوب كما ذهب إليه الزمخشري وغيره من المعتزلة. والسوء يعم الكفر والمعاصي.
و { بجهالة } في موضع الحال أي جاهلين بما يترتب على المعصية من العقوبة لأنه لو تيقن العقوبة لما عصى.
{ ثم يتوبون من قريب } أي من زمان قريب من زمان المعصية فلا يصرون على فعلها. كقوله تعالى:
ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون
[ال عمران: 135].
{ وليست التوبة للذين يعملون السيئات } نفى تعالى أن تكون التوبة للعاصي الصائر في حيز اليأس من الحياة ولا للذي وافى على الكفر، فالأول كفرعون إذ لم ينفعه إيمانه وهو في غمرة الماء والغرق وكالذين قال تعالى فيهم:
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا
[غافر: 85]، وحضور الموت أول أحوال الآخرة فكما أن من مات على الكفر لا تقبل منه التوبة في الآخرة فكذلك هنا الذي حضره الموت. قال الزمخشري: فإن قلت: من المراد بالذين يعملون السيئات أهم الفساق من أهل القبلة أم الكفار؟ قلت: فيه وجهان أحدهما: أنه يراد به الكفار لظاهر قوله وهم كفار، وأن يراد به الفساق لأن الكلام إنما وقع في الزانيين والإعراض عنهما إن تابا وأصلحا، ويكون قوله: وهم كفار، واردا على سبيل التغليظ، كقوله:
ومن كفر فإن الله غني عن العلمين
[آل عمران: 97]. وقوله: فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر، لأن من كان مصدقا ومات وهو لا يحدث نفسه بالتوبة حاله قريب من حال الكفار لا يجترىء على ذلك إلا قلب مصمت. انتهى كلامه وهو في غاية الاضطراب لأنه قبل ذلك محل الآية على أنها دالة على قسمين أحدهما: الذين سوفوا بالتوبة إلى حضور الموت.
والثاني: الذين ماتوا على الكفر وفي هذا الجواب حمل الآية على أنها أريد بها أحد القسمين إما الكفار فقط وهم الذين وصفوا عنده بأنهم يعملون السيئات ويموتون على الكفر. وعلل هذا الوجه بقوله لظاهر قوله: وهم كفار، فجعل هذه الحالة دالة على أنه أريد بالذين يعملون السيئات هم الكفار وأما الفساق من المؤمنين فيكون قوله: وهم كفار، لا يراد به الكفر حقيقة ولا أنهم يوافون على الكفر حقيقة وإنما جاء ذلك على سبيل التغليظ عنده فقد خالف تفسيره في هذا الجواب صدر تفسيره في الآية أولا وكل ذلك انتصارا لمذهبه حتى يرتب العذاب إما للكافر وإما للفاسق، فخرج بذلك عن قوانين النحو. والحمل على الظاهر لأن قوله: وهم كفار، ليس ظاهره إلا أنه قيد في قوله: ولا الذين يموتون، وظاهره الموافاة على الكفر حقيقة وكما أنه شرط في انتفاء قبول توبة الذين يعملون السيئات إيقاعها في حال حضور الموت كذلك شرط في ذلك كفرهم حالة الموت، وظاهر العطف التغاير.
والزمخشري في هذا كما قيل في المثل:
حبك للشيء يعمي ويصم
{ يا أيها الذين آمنوا } الآية، قال ابن عباس وعكرمة والحسن وأبو مجلز: كان أولياء الميت أحق بامرأته من أهلها إن شاؤا تزوجها أحدهم أو زوجوها غيرهم أو منعوها وكان ابنه من غيرها يتزوجها وكان ذلك في الأنصار لازما وفي قريش مباحا. وقال مجاهد: كان الابن الأكبر أحق بامرأة أبيه من غيره يتزوجها. وقال السدي: إن سبق الولي فوضع ثوبه عليها كان أحق [بها أو سبقته إلى أهلها كانت أحق] بنفسها فأذهب الله تعالى ذلك بهذه الآية، والخطاب للأولياء نهوا أن يرثوا النساء المخلفات عن المولي كما يورث المال. والمراد نفي الوراثة في حال الطوع والكراهة لا جوازها في حال الطوع استدلالا بالآية فخرج قيد الكرة مخرج الغالب لأن غالب أحوالهن ان يكن مجبورات على ذلك إذا كان أولياؤه أحق بها من أولياء نفسها.
{ ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض مآ آتيتموهن } أي لا تحبسوهن وتضيقوا عليهن. وظاهر هذا الخطاب أنه للأزواج، لقوله:
{ ببعض مآ آتيتموهن } لأن الزواج هو الذي أعطاها الصداق وكان يكره صحبة زوجته ولها عليه مهر فيحبسها ويضربها حتى تفتدي منه، قاله ابن عباس. ويحتمل أن يكون الخطاب للأولياء والأزواج في قوله: يا أيها الذين آمنوا فلفوا في هذا الخطاب ثم أفرد كل واحد في النهي بما يناسبه فخوطب الأولياء بقوله: لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها. وخوطب الأزواج بقوله:
{ ولا تعضلوهن } فعاد كل خطاب إلى ما يناسبه والظاهر أن قوله: ولا تعضلوهن إن لا نهي. والفعل مجزوم بها والواو عاطفة جملة طلبية على جملة خبرية لتضمن الخبرية معنى النهي. لأن معنى قوله:
{ لا يحل لكم أن ترثوا النسآء } لا ترثوا النساء. هذا على قول من مذهب إلى أن العطف على الجمل يشترط فيها المناسبة واما على مذهب سيبويه فلا يشترط، فيجوز عطف جملة النهي على جملة الخبر.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون تعضلوهن نصبا عطفا على ترثوا فتكون الواو مشركة عاطفة فعل على فعل. وقرأ ابن مسعود: ولا ان تعضلوهن فهذه قراءة تقوي احتمال النصب، وإن العضل مما لا يحل بالنص وعلى تأويل الجزم هو نهي معرض لطلب القرائن في التحريم أو الكراهة ، واحتمال النصب أقوى. " انتهى " ما ذكره من تجويز هذا الوجه وهو لا يجوز وذلك انك إذا عطفت فعلا منفيا بلا على مثبت وكانا منصوبين فإن الناصب لا يقدر إلا بعد حرف العطف لا بعد لا فإذا قلت: أريد أن أتوب ولا أدخل النار، فالتقدير أريد أن أتوب وأن لا أدخل النار لأن الفعل يطلب الأول على سبيل الثبوت.
والثاني على سبيل النفي. فالمعنى أريد التوبة وانتفاء دخولي النار فلو كان الفعل المتسلط على المتعاطفين منفيا فكذلك، ولو قدرت هذا التقدير في الآية لم يصح.
لو قلت: لا يحل لكم أن لا تعضلوهن لم يصح إلا أن تجعل لا زائدة لا نافية وهو خلاف الظاهر، واما أن تقدر ان بعد لا النافية فلا يصح وإذا قدرت ان بعد لا كان من باب عطف المصدر المقدر على المصدر المقدر لا من باب عطف الفعل على الفعل فالتبس على ابن عطية العطفان وظن أنه بصلاحية تقدير ان بعد لا، يكون من عطف الفعل على الفعل، وفرق بين قولك: لا أريد أن تقوم وان لا تخرج، وقولك: لا أريد أن تقوم ولا أن تخرج. ففي الأول نفي إرادة وجود قيامه وإرادة انتفاء خروجه فقد أراد خروجه، وفي الثانية نفي إرادة وجود قيامه ووجود خروجه فلا يريد لا القيام ولا الخروج وهذا في فهمه بعض غموض على من لم يتمرن في علم العربية.
{ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } وهذا استثناء متصل ولا حاجة إلى دعوى الانقطاع فيه كما ذهب إليه بعضهم وهو استثناء من ظرف زمان عام أو من علة كأنه قيل: ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلا وقت أن يأتين، أو لا تعضلوهن لعلة من العلل إلا أن يأتين. والظاهر أن الخطاب بقوله: ولا تعضلوهن للأزواج إذ ليس للولي حبسها حتى يذهب مما لها إجماعا من الأمة وإنما ذلك للزوج على ما تبين. والفاحشة هنا الزنا، قاله أبو قلابة والحسن. قال الحسن: إذا زنت البكر جلدت مائة ونفيت سنة وردت إلى زوجها ما أخذت منه.
وقال أبو قلابة: إذا زانت المرأة الرجل فلا بأس أن يضارها ويشق عليها حتى تفتدي منه.
وقال السدي: إذا فعلن ذلك فخذوا مهورهن. وقال عطاء: كان هذا الحكم ثم نسخ بالحدود. وقال ابن سيرين وأبو قلابة: لا يحل الخلع حتى يوجد رجل على بطنها. وقال قتادة: لا يحل له أن يحبسها ضررا حتى تفتدي منه، يعني وإن زنت. وقال ابن عباس وعائشة والضحاك وغيرهم: الفاحشة هنا النشوز، فإذا نشزت حل له أن يأخذ مالها. وهذا مذهب مالك. وقال قوم: الفاحشة البذاء باللسان وسوء العشرة قولا وفعلا.
{ وعاشروهن بالمعروف } هذا أمر بحسن المعاشرة. والظاهر أنه أمر للأزواج لأن التلبس بالمعاشرة غالبا إنما هو للأزواج وكانوا يسيئون معاشرة النساء.
وقوله: { بالمعروف } هو النصفة في المبيت والنفقة والاجمال في القول. ويقال: المرأة تسمن من أذنها.
{ فإن كرهتموهن } أي كرهتم معاشرتهن. وعسى معناها الترجي، ولذلك جاء الجواب للشرط بالفاء من قوله: فعسى.
و { شيئا } أي شيئا من أخلاقهن ولم يعد الضمير عليهن وهو كقوله:
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم
[البقرة: 216]، والضمير في فيه: عائد على شيء أو على الكراهة وهو المصدر المفهوم من قوله: ان تكرهوا.
[4.20-23]
{ وإن أردتم استبدال زوج } الآية لما أذن في مضارتهن أن أتين بفاحشة ليذهب ببعض ما أعطاه بين تحريم ذلك في غير الفاحشة وأقام الارادة مقام الفعل فكأنه قال: وإن استبدلتم أو حذف معطوف أي واستبدلتم، وظاهر قوله: وآتيتم إن الواو للحال أي وقد آتيتم. وقيل: هو معطوف على فعل الشرط وليس بظاهر والاستبدال وضع الشيء مكان الشيء، والمعنى أنه إذا كان الفراق من اختياركم فلا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا. واستدل بقوله:
{ وآتيتم إحداهن قنطارا } على جواز المغالات في الصدقات.
{ بهتانا } البهتان الكذب الذي يتحير منه صاحبه ثم صار يطلق على الباطل أتأخذونه هذا الاستفهام على سبيل الإنكار أي أتفعلون هذا مع ظهور قيمه. وسمي بهتانا لأنهم كانوا إذا أرادوا تطليق امرأة رموها بفاحشة حتى تخاف وتفتدي منه بمهرها. فجاءت الآية على الأمر الغالب.
{ وكيف تأخذونه } أنكر أولا الأخذ، وأنكر ثانيا حالة الأخذ، وانها ليست مما يمكن أن تجامع حال الافضاء لأن الافضاء هو المباشرة والدنو، والافضاء: الجماع، وهو كناية حسنة والميثاق الغليظ. قوله تعالى:
فأمسكوهن بمعروف
[الطلاق: 2] { ولا تنكحوا } الآية. كان قوم من العرب يتزوجون نساء آبائهم إذا ماتوا فنهاهم الله تعالى عن ذلك.
وما في قوله: { ما نكح } واقعة على النوع. كقوله:
ما طاب لكم
[النساء: 3]، والآباء هنا يشمل الأب ومن قبله من عمود النسب.
{ إلا ما قد سلف } استثناء منقطع. والمعنى لكن ما سبق في الجاهلية قبل ورود النهي فلا إثم عليه.
والضمير في: { إنه } عائد على المصدر المفهوم من قوله: ولا تنكحوا، أي نكاح الأبناء نساء الآباء.
{ كان فاحشة } أي زنا.
{ ومقتا } المقت: البغض باستحقار.
{ وسآء سبيلا } إن كان الضمير في ساء عائدا على ما عاد عليه الضمير قبل ذلك كان سبيلا نصبا على التمييز وهو منقول من الفاعل والتقدير ساء سبيله وإن كانت ساء أجريت مجرى بئس كقوله تعالى:
سآء مثلا القوم
[الأعراف: 177]، كان في سائر ضمير يفسره ما بعده وكان سبيلا تمييز للضمير المستكن في ساء والمخصوص بالذم محذوف تقديره وساء سبيلا سبيله أي سبيل ذلك النكاح.
وفي الحديث قال البراء بن عازب: لقيت خالي ومعه الراية فقلت: أين تريد؟ قال: أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن أضرب عنقه.
{ حرمت عليكم أمهتكم } هو على حذف مضاف أي نكاح أمهاتكم. ويدل عليه قوله: قبل ولا تنكحوا، والأم حقيقة هي الوالدة، وفي معناها كل امرأة رجع نسبك إليها بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمك.
{ وبنتكم } هي كل ابنة ولدتها. وفي معناه كل أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو درجات بإناث أو ذكور وقد كان في العرب من تزوج ابنته وهو حاجب بن زرارة تمجس.
{ وأخوتكم } الأخت المحرمة كل من جمعك وإياها صلب أو بطن.
{ وعمتكم وخالتكم } العمة: أخت الأب. والخالة: أخت الأم وخص تحريم العمات والخالات دون أولادهن. وتحريم عمة الأب وخالته وعمة الأم وخالتها وعمة العمة، واما خالة العمة فإن كانت، العمة أخت أب لأم أو لأب وأم فلا تحل خالة العمة لأنها أخت الجدة، وإن كانت العمة إنما هي أخت أب لأب فقط فخالتها أجنبية من بني أخيها تحل للرجال ويجمع بينها وبين النساء. وأما عمة الخالة فإن كانت الخالة أخت أم لأب فلا تحل عمة الخالة لأنها أخت جد وإن كانت الخالة أخت أم لأم فقط فعمتها أجنبية من بني أخيها.
{ وبنات الأخ وبنات الأخت } تحرم بناتهما وان سفلن وأفرد الأخ والأخت ولم يأت جمعا لأنه أضيف إليه الجمع فكان لفظ الافراد أخف وأريد به الجنس المنتظم في الدلالة الواحد وغيره فهؤلاء سبع من النسب تحريمهن مؤبد، وأما اللواتي صرن محرمات نسب طارىء فذكرهن في القرآن سبعا وهن في قوله تعالى: { وأمهتكم التي أرضعنكم وأخوتكم من الرضعة } نبه بهذين المثالين على أن الحال في باب الرضاع كالحال في النسب ثم انه عليه الصلاة والسلام أكد هذا بصريح قوله:
" يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب "
، فصار صريح الحديث مطابقا لما أشارت إليه الآية، فزوج المرضعة أبوه وأبواه جداه وأخته وعمته. وكل ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع وبعده فهم أخوته وأخواته لأبيه وأم المرضعة جدته وأختها وكل من ولد لها من هذا الرجل فهم إخوته وأخواته لأبيه وأمه وأما ولدها من غيره فهم إخوته وأخواته لأمه. وقالوا: تحريم الرضاع كتحريم النسب إلا في مسألتين إحداهما: إنه لا يجوز للرجل أن يتزوج أخت ابنه من النسب ويجوز أن يتزوج أخت ابنه من الرضاع لأن المعنى في النسب وطؤه لأمها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع.
والثانية: لا يجوز أن يتزوج أم أخيه من النسب ويجوز في الرضاع. لأن المانع في النسب وطء الأب إياها، وهذا المعنى غير موجود في الرضاع. وظاهر الكلام إطلاق الرضاع ولم تتعرض الآية إلى سن التراضع ولا عدد الرضعات ولا للبن الفحل ولا لإرضاع الرجل لبن نفسه للصبي أو إيجاره به أو تسعيطه بحيث يصل إلى الجوف، وفي هذا كله خلاف مذكور في كتب الفقه. وقرىء التي واللاتي في الرضاعة بكسر الراء.
{ وأمهت نسآئكم } الجمهور على أنها على العموم فسواء عقد عليها ولم يدخل بها أم دخل بها. وروي عن علي ومجاهد وغيرهما أنه إذ طلقها قبل الدخول فله أن يتزوج أمها وأنها في ذلك بمنزلة الربيبة. { وربائبكم التي في حجوركم } ظاهره أنه يشترط في تحريمها أن تكون في حجره.
وإلى هذا ذهب على ربه أخذ داود وأهل الظاهر فلو لم تكن في حجره وفارق أمها بعد الدخول جاز له أن يتزوجها. وقالوا: حرم الله الربية بشرطين أحدهما: أن تكون في حجر الزوج. الثاني: الدخول بالأم. فإذا فقد أحد الشرطين لم يوجد التحريم. واللاتي صفة لنسائكم المجرور بمن ولا جائز أن تكون اللاتي وصفا لنسائكم من قوله: وأمهات نسائكم. ونسائكم المجرور بمن لأن العامل في المنعوتين قد اختلف هذا مجرور بمن وذاك مجرور بالاضافة ولا جائز أن يكون من نسائكم متعلقا بمحذوف ينتظم به مع أمهات نسائكم وربائبكم لاختلاف مدلول حرف الجر إذ ذاك، لأنه بالنسبة إلى قوله: وأمهات نسائكم يكون من نسائكم لبيان النساء وتمييز المدخول بها من غير المدخول بها وبالنسبة إلى قوله: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، تكون من نسائكم لبيان ابتداء الغاية كما تقول: هذا ابني من فلان. قال الزمخشري: ألا ان اعلته بالنساء والربائب واجعل من للاتصال كقوله تعالى:
المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض
[التوبة: 67]. فإني لست منك ولست مني. ما أنا من دد ولا الدد مني.
وأمهات النساء متصلات بالنساء لأنهن أمهاتهن كما أن الربائب متصلات بأمهاتهن لأنهن بناتهن. " انتهى ".
ولا نعلم أحدا ذهب إلى أن من معاني من الاتصال واما ما شبه به من الآية والشعر والحديث فمتأول، وإذا جعلنا من نسائكم متعلقا بالنساء والربائب كما زعم الزمخشري، فلا بد من صلاحيته لكل من النساء والربائب فاما تركيبه مع الربائب ففي غاية الفصاحة والحسن وهو نظم الآية واما تركيبه مع قوله: وأمهات نسائكم من نسائكم فإنه يصير، وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن فهذا تركيب لا يمكن أن يقع في القرآن ولا في كلام فصيح لعدم الاحتياج في إفادة هذا المعنى إلى قوله: من نسائكم، والدخول هنا كناية عن الجماع كقولهم بنى عليها وضرب عليها الحجاب، والباء للتعدية والمعنى اللاتي أدخلتموهن الستر، قاله ابن عباس وغيره.
{ فلا جناح عليكم } أي في نكاح الربائب اللاتي لم تدخلوا بأمهاتهن وفارقتموهن فلو طلقها بعد البناء وقبل الجماع جاز أن يتزوج ابنتها وفي تحريم الربيبة بالنظر إلى أمها بشهوة أو مسها بشهوة أو النظر إلى شعرها وصدرها بلذة أو مس فرجها وإن لم يدخل بالأم خلاف. وظاهر قوله: وحلائل أبنائكم اختصاص ذلك بالزوجات كما ذكرناه واتفقوا على أن مطلق عقد الشراء للجارية لا يحرمها على أبيه ولا ابنه فلو لمسها أو قبلها حرمت على أبيه وابنه ولا يختلف في تحريم ذلك واختلفوا في مجرد النظر بشهوة.
{ الذين من أصلبكم } احتراز مما كانت العرب تتبنا الشخص وليس ابنه حقيقة وهم الذين قال الله فيهم:
ادعوهم لآبآئهم
[الأحزاب: 5].
{ وأن تجمعوا } في موضع رفع.
{ بين الأختين } ظاهرة العموم بنكاح أو ملك يمين وفي بعضها خلاف.
{ إلا ما قد سلف } استثناء منقطع يتعلق بالأخير وهو أن تجمعوا بين الأختين، والمعنى لكن ما سلف من ذلك ووقع وأزالت شريعة الإسلام حكمه فإن الله يغفره والإسلام يجبه. ويدل على عدم المؤاخذة به قوله تعالى: { إن الله كان غفورا رحيما }.
[4.24-25]
{ والمحصنت } قرىء بكسر الصاد وفتحها. والمعنى بها هاهنا المزوجات واستثنى منهن ما ملكت ملك يمين فإنه بالملك ينفسخ نكاحها من زوجها وتحل لمن ملكها.
{ كتب الله عليكم } انتصب بإضمار فعل وهو مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله: حرمت عليكم، وكأنه قيل: كتب الله عليكم تحريم ذلك كتابا. ولا حجة للكسائي في دعواه إن هذا من باب الأعزاء وان التقدير عليكم كتاب الله وقدم المفعول ولا يجوز ذلك عند البصريين في باب الاغراء.
{ وأحل لكم ما وراء ذلكم } لما نص على المحرمات في النكاح أخبر تعالى أنه أحل ما سوى من ذكر وظاهر ذلك العموم. وبهذا الظاهر استدلت الخوارج ومن وافقهم من الشيعة على جواز نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها والجمع بينهما وقد أطال الاستدلال في ذلك أبو جعفر الطوسي أحد علماء الشيعة الاثني عشرية في كتابه في التفسير.
قال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف قوله: وأحل لكم؟ قلت: على الفعل المضمر الذي نصب كتاب الله، أي كتب الله عليكم تحريم ذلك وأحل لكم ما وراء ذلكم. ويدل عليه قراءة اليماني كتب الله عليكم وأحل لكم. ثم قال: ومن قرأ وأحل لكم مبنيا للمفعول فقد عطفه على حرمت. " انتهى ".
ففرق في العطف بين القراءتين وما اختاره من التفرقة غير مختار لأن انتصاب كتاب الله عليكم إنما هو انتصاب المصدر المؤكد لمضمون الجملة السابقة من قوله: حرمت، فالعامل فيه وهو كتب إنما هو تأكيد لقوله: حرمت، فلم يؤت بهذه الجملة على سبيل التأكيد للحكم إنما التأسيس حاصل بقوله: حرمت وهذه جنى بها على سبيل التأكيد لتلك الجملة المؤسسة وما كان سبيله هكذا فلا يناسب أن يعطف عليه الجملة لحكم إنما يناسب أن تعطف عليه جملة مؤسسة مثلها لا سيما والجملتان متقابلتان إذ أحديهما للتحريم والأخرى للتحليل، فناسب أن تعطف هذه على هذه. وقد أجاز الزمخشري ذلك في قراءة من قرأ، وأحل مبنيا للمفعول فكذلك يجوز فيه مبنيا للفاعل.
{ أن تبتغوا } نصب على أنه بدل اشتمال من ما وراء ذلكم ويشمل الابتغاء بالمال النكاح والشراء. وقيل: الابتغاء بالمال هو على وجه النكاح.
وقال الزمخشري: أن تبتغوا مفعول له بمعنى بين لكم ما يحل مما يحرم إرادة أن يكون ابتغاؤكم بأموالكم التي جعل الله لكم قياما في حال كونكم محصنين غير مسافحين لئلا تضيعوا أموالكم وتفرقوا أنفسكم فيما لا يحل لكم فتخسروا دنياكم ودينكم ولا مفسدة أعظم مما يجمع بين الخسرانين. " انتهى كلامه ". وانظر إلى جعجعة هذه الألفاظ وكثرتها وتحميل لفظ القرآن ما لا يدل عليه وتفسير الواضح الجلي باللفظ المعقد ودس مذهب الاعتزال في غضون هذه الألفاظ الطويلة دسا خفيا إذ فسر قوله: وأحل لكم، بمعنى بين لكم ما يحل، وجعل قوله: أن تبتغوا على حذف مضافين أي إرادة أن يكون ابتغاؤكم أي إرادة كون ابتغاؤكم بأموالكم، وفسر الأموال بعد بالمهور وما يخرج في المناكح، فتضمن تفسيره أنه تعالى بين لكم ما يحل لإرادته كون ابتغائكم بالمهور فاختصت إرادته بالحلال الذي هو النكاح دون السفاح.
وظاهر الآية غير هذا الذي فهمه الزمخشري إذ الظاهر أنه تعالى أحل لنا ابتغاء ما سوى المحرمات السابق ذكرها بأموالنا حالة الاحصان لا حالة السفاح. وعلى هذا الظاهر لا يجوز أن يعرب أن تبتغوا مفعولا له كما ذهب إليه الزمخشري لأنه فات شرط من شروط المفعول له وهو اتحاد الفاعل في العامل والمفعول له لأن الفاعل بقوله: وأحل هو الله تعالى والفاعل في أن تبتغوا هو ضمير المخاطبين فقد اختلفا ولما أحس الزمخشري إن كان أحس بهذا جعل ان تبتغوا على حذف إرادة حتى يتحد الفاعل في قوله: وأحل، وفي المفعول له فلم يجعل ان تبتغوا مفعولا له إلا على حذف مضاف وإقامته مقامه وهذا كله خروج عن الظاهر لغير داع إلى ذلك ومفعول تبتغوا محذوف اختصارا إذ هو ضمير يعود على ما من قوله: ما وراء ذلكم وتقديره أن تبتغوه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: أين مفعول تبتغوا؟ قلت: يجوز أن يكون مقدرا وهو النساء وأجود أن لا يقدر وكأنه قيل: أن تخرجوا أموالكم. " انتهى ". فإما تقديره إذا كان مقدرا بالنساء فإنه لما جعله مفعولا له غاير بين متعلق المفعول له وبين متعلق المعلول وأما قوله: وأجود أن لا يقدر وكأنه قيل أن تخرجوا أموالكم فهو مخالف للظاهر لأن مدلول تبتغوا ليس مدلول تخرجوا، ولا تعدى تبتغوا إلى الأموال بالباء ليس على طريق المفعول به الصريح كما هو في تخرجوا، وهذا كله تكلف ينبغي أن ينزه كتاب الله عنه. والاحصان: العفة، وتحصين النفس عن الوقوع في الحرام. وانتصب محصنين على الحال، وغير مسافحين حال مؤكدة لأن الاحصان لا يجامع السفاح.
{ فما استمتعتم به منهن } ، أي واستمتعتم به من الزوجة وهو الوطء ولو مرة فقد وجب إعطاء الأجر وهو المهر ولفظة ما تدل على أن يسير الوطىء يوجب إيتاء الأجر.
قال الزمخشري: فما استمتعتم من المنكوحات من جماع أو خلوة صحيحة أو عقد عليهن فأتوهن أجورهن من عليه. " انتهى ". وأدرج في الاستمتاع الخلوة الصحيحية على مذهب أبي حنيفة.
{ ولا جناح عليكم فيما ترضيتم به } الآية، لما أمر بإيتاء أجور النساء المستمتع بهن كان ذلك يقتضي الوجوب فأخبر تعالى أنه لا حرج ولا إثم في نقص ما تراضوا عليه أورده أو تأخيره أعني الرجال والنساء بعد الفريضة فلها أن ترد عليه وأن تنقص وأن تؤخر هذا ما يدل عليه سياق الكلام وهو نظير قوله تعالى:
فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا
[النساء: 4] الآية.
{ ومن لم يستطع منكم طولا } الطول: السعة في المال، قاله ابن عباس. والمحصنات: هن الحرائر. والظاهر أن المؤمنات شرط في نكاحهن. وكذلك في قوله: من فتياتكم المؤمنات، وفي نكاح الحرائر غير المؤمنات، وفي نكاح الفتيات غير المؤمنات خلاف. والظاهر أنه لا يجوز نكاح الإماء يجد الطول وأن ينكح مفعول يستطيع ومما ملكت متعلق بفعل محذوف تقديره فلينكح مما ملكت.
{ والله أعلم بإيمنكم } لما خاطب المؤمنين بالحكم الذي ذكره من تجويز نكاح عادم طول الحرة المؤمنة للأمة المؤمنة نبه على أن الإيمان هو وصف باطن وأن المطلع عليه هو الله تعالى، فالمعنى أنه لا يشترط في إيمان الفتيات أن يكونوا عالمين بذلك العلم اليقين لأن ذلك إنما هو لله تعالى فيكفي في الإيمان منهن إظهاره فمتى كانت مظهرة للإيمان فنكاحها صحيح، وربما كانت خرساء أو قريبة عهد بسباء وأظهرت الإيمان فيكتفي بذلك منها.
{ فانكحوهن بإذن أهلهن } هذا أقر إباحة. والمعنى بولاية ملاكهن. والمراد بالنكاح هنا العقد ولذلك ذكر إيتاء الأجر بعده أي المهر وسمى ملاك الاماء أهلا لهن لأنهن كالأهل إذ رجوع الأمة إلى سيدها في كثير من الأحكام. وقيل: هو على حذف مضاف أي بإذن أهل ولايتهن وأهل ولاية نكاحهن هم الملاك ومقتضى هذا الخطاب أن الاذن شرط في صحة النكاح فلو تزوجت بغير إذن السيد لم يصح النكاح.
{ وآتوهن أجورهن } الأجور هنا المهور. وفيه دليل على وجوب إيتاء الأمة مهرها لها وانها أحق بمهرها من سيدها، وهذا مذهب مالك. قال: ليس للسيد أن يأخذ مهر أمته ويدعها بلا جهاز. وجمهور العلماء على أنه يجب دفعه للسيد دونها. { بالمعروف } متعلق بقوله: وآتوهن أجورهن. قيل: معناه بغير مطل وضرار وأحوج إلى اقتضاء.
{ محصنت } عفائف.
{ غير مسفحت } أي غير معلنات بالزنا وهي التي لا ترد يد لامس.
{ ولا متخذت أخدان } ، هن المتسترات بالزنا لخل واحد. والخدن: الصديق. وعلى هذين النوعين كان زنا الجاهلية.
{ فإذآ أحصن } أي تزوجن. وقرىء مبنيا للمفعول ومبينا للمفعول.
{ فإن أتين بفحشة } هي الزنا.
{ فعليهن نصف ما على المحصنت } أي الحرائر. يعني إذا زنين.
{ من العذاب } وهو خمسون جلدة ذلك إشارة إلى نكاح عادم طول للحرة المؤمنة أو الأمة المؤمنة. والعنت هنا: الزنا، قاله ابن عباس وغيره. وأصله المشقة. ومنه قوله تعالى:
ولو شآء الله لأعنتكم
[البقرة: 220] أي لشق عليكم.
{ وأن تصبروا خير لكم } ظاهره الاخبار عن صبر خاص وهو عن نكاح الاماء، قاله ابن عباس وغيره. وجهة الخيرية كونه لا يرق ولده وان لا يبتذل هو وينقص في العادة بنكاح الأمة وفي سنن ابن ماجة من حديث أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول:
" من أراد أن يلقى الله ظاهرا مطهرا فليتزوج الحرائر ".
[4.26-29]
{ يريد الله ليبين لكم } مفعول يريد محذوف وتقديره يريد الله هذا أي تحليل ما أحل وتحريم ما حرم وتشريع ما تقدم ذكره. وقيل: يريد في معنى المصدر من غير سابك تقديره إرادة الله ليبين لكم وهذان القولان عن البصريين. وقال الكوفيون: مفعول يريد هو ليبين، واللام زائدة، والمعنى يريد الله التبيين لكم واللام ناصبة بنفسها.
وقال الزمخشري: أصله يريد الله أن يبين لكم فزيدت اللام مؤكدة لإرادة التبيين كما زيدت في لا أبا لك لتأكيد إضافة الأب. والمعنى يريد الله أن يبين لكم ما خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم. " انتهى كلامه ". وهو خارج عن أقوال البصريين والكوفيين أما كونه خارجا عن أقوال البصريين فلأنه جعل اللام مؤكدة مقوية لتعدي يريد والمفعول متأخر وأضمر أن بعد هذه اللام واما كونه خارجا عن قول الكوفيين فإنهم يجعلون النصب باللام لإبان وهو جعل النصب بأن مضمرة بعد اللام ومفعول يبني محذوف تقديره شرائع دينكم ومصالح أموركم، ويجوز عندي أن يكون من باب الأعمال فيكون مفعول ليبين ضميرا محذوفا يفسره مفعول ويهديكم، نحو: ضربت وأهنت زيدا التقدير ليبينها لكم ويهديكم.
{ سنن الذين من قبلكم } أي ليبين لكم سنن الذين من قبلكم وهي مناهج الأنبياء والصالحين. قال ابن عطية: وتكرار إرادة الله للتوبة على عباده تقوية للأخبار الأول وليس المقصد في الآية الا الاخبار عن إرادة الذين يتبعون الشهوات فقدمت إرادة الله توطئة مظهرة لفساد إرادة متبعي الشهوات. " انتهى ".
فاختار مذهب الكوفيين في أن جعلوا قوله ليبين في معنى أن يبين فيكون مفعولا ليريد وعطف عليه ويتوب فهو مفعول مثله، ولذلك قال: وتكرار إرادة الله للتوبة على عباده.. إلى آخر كلامه. وكان قد حكى قول الكوفيين وقال: هذا ضعيف، فرجع آخر إلى ما ضعفه. وكان قد قدم إن مذهب سيبويه إن مفعول يريد محذوف والتقدير يريد الله هذا التبيين والشهوة هو ما يغلب على النفس محبته وهواه ولما كانت التكاليف الشرعية فيها قمع للنفس وردها عن مشتهياتها كان اتباع شهواتها سببا لكل مذمة وعبر عن الكافر والفاسق بمتبع الشهوات كما قال تعالى:
فخلف من بعدهم خلف
[الأعراف: 169، مريم: 59] الآية، واتباع الشهوة في كل حال مزموم لأن ذلك ائتمار لها من حيث ما دعت الشهوة إليه أما إذا كان الاتباع من حيث العقل أو الشرع فذلك اتباع لهما لا للشهوة ومتبعوا الشهوات هنا هم الزنا، قاله مجاهد.
و { أن تميلوا } عن الحق أو إلى الشهوات.
{ وخلق الإنسان ضعيفا } ان لا يصبر عن الشهوات وعلى مشاق الطاعة.
{ يأيها الذين آمنوا لا تأكلوا } الآية تقدم تفسير نظيرها ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما بين كيفية التصرف في النفوس بالنكاح بين كيفية التصرف في الأموال الموصلة إلى النكاح وإلى ملك اليمين وأن المهور والأثمان المبذولة في ذلك لا تكون مما ملكت بالباطل والباطل هو كل طريق لم تبحه الشريعة.
{ إلا أن تكون } استثناء منقطع إذا لم تندرج التجارة تحت أكل الأموال بالباطل. وقرىء تجارة بالنصب على خبر تكون وبالرفع على أن تكون تامة.
{ عن تراض } أي من البائع والمشتري والظاهر أنه إذا حصل التراضي جاز بيع التافه اليسير بالنفيس الكثير.
{ ولا تقتلوا أنفسكم } ظاهره النهي عن قتل الانسان نفسه ويجوز أن يكون المعنى على النهي عن قتل بعضنا بعضا.
[4.30]
{ ومن يفعل ذلك } الإشارة بذلك إلى ما وقع النهي عنه في هذه الجملة من أكل المال بالباطل وقتل الأنفس.
[4.31-33]
{ إن تجتنبوا كبآئر ما تنهون عنه } الآية مناسبتها لما قبلها ظاهرة لأنه تعالى لما ذكر الوعيد على فعل بعض الكبائر ذكر الوعد على اجتناب الكبائر والظاهر أن الذنوب تنقسم إلى كبائر وسيئات وهي التي عبر عنها أكثر العلماء بالصغائر.
قال ابن عباس: الكبائر كلما ورد عليه وعيد بنار أو عذاب أو لعنة أو ما أشبهه ذلك وإلى نحو من هذا ذهب الوزير أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الفارسي القرطبي رحمه الله تعالى قال: قد أطلت التفتيش عن هذا منذ سنين فصح لي أن كل ما توعد الله عليه بالنار فهم من الكبائر ووجدناه عليه السلام قد أدخل في الكبائر بنص لفظه أشياء غير التي ذكر في الحديث يعني الذي في البخاري فمنها قول الزور وشهادة الزور وعقوق الوالدين والكذب عليه صلى الله عليه وسلم وتعريض المرء أبويه للسب بأن يسب آباء الناس وذكر عليه السلام الوعيد الشديد بالنار على الكبر وعلى كفر نعمة المحسن في الحق، وعلى النياحة في المآتم، وحلق الشعر فيها، وحذق الجيوب، والنميمة، وترك التحفظ من البول، وقطيعة الرحم، وعلى الخمر؛ وعلى تعذيب الحيوان بغير الذكاة، لأكل ما لا يحل أكله منها أو ما أبيح أكله منها، وعلى إسبال الإزار على سبيل التجوه، وعلى المنان بما يفعل من الخير، وعلى المنفق سلعته بالحلف الكاذب، وعلى مانع فضل مائة من الشارب، وعلى الغلول، وعلى مبايعة الأئمة للدنيا فإن أعطى منها وفي لهم وإن لم يعط منها لم يوف لهم، وعلى المقتطع بيمينه حق امرىء مسلم، وعلى الامام الغاش لرعيته، وعلى من ادعى لغير أبيه، وعلى العبد الآبق، وعلى من غل، ومن ادعى ما ليس له، وعلى لا عن من لا يستحق اللعن، وعلى بغض الأنصار، وعلى تارك الصلاة، وعلى تارك الزكاة، وعلى بغض علي رضي الله عنه، ووجدنا الوعيد الشديد في نص القرآن قد جاء على الزناة وعلى المفسدين في الأرض بالحرابة فصح بهذا قول ابن عباس. انتهى كلام ابن حزم رضي الله عنه.
وقرىء: { مدخلا } بضم الميم وهو مصدر أو مكان الادخال، وبفتح الميم وهو مكان الدخول أو مصدر وهو منصوب بفعل محذوف تقديره فتدخلون مدخلا حذف الدلالة الفعل المطاوع عليه.
{ ولا تتمنوا } الآية قال قتادة والسدي: لما نزل للذكر مثل حظ الأنثيين قال الرجال: انا لنرجو أن نفضل على النساء في الحسنات كالميراث: وقال النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزير علينا نصف ما على الرجال كالميراث فنزلت للرجال نصيب الآية. المعنى أن الله تعالى جعل لكل من الصنفين مكاسب تختص به فلا يتمنى أحد منهما ما جعل للآخر فجعل للرجال الجهاد والانفاق في المعيشة وحمل التكاليف الشاقة كالاحكام والامارة والحسبة وغير ذلك، وجعل للنساء الحمل ومشقته وحسن التبعل وحفظ غيب الزوج وخدمة البيوت.
وقيل: المعنى مما اكتسب من نعيم الدنيا فينبغي أن يرضى بما قسم. وهذه الأقوال الثلاثة هي بالنسبة لأحوال الدنيا. وقال الزمخشري: جعل ما قسم بما قسم لكل من الرجال والنساء على حسب ما عرف الله في حاله الموجبة للبسط والقبض كسبالة. " انتهى ".
وفي قوله عرف الله نظر فإنه لا يقال في الله عارف نص الأئمة على ذلك لأن المعرفة في اللغة تستدعي قبلها جهلا بالمعروف وذلك بخلاف العلم فإنه لا يستدعي جهلا قبله وتسميته ما قسم الله له كسبا له فيه نظر أيضا فإن الاكتساب يقتضي الاعتمال والتطلب كما قلناه إلا ان قلنا ان أكثر ما قسم له يستدعي اكتسابا من الشخص فأطلق الاكتساب على جميع ما قسم له تغليبا للأكثر، وفي تعليق النصيب بالاكتساب حض على العمل وتنبيه على كسب الخير.
{ واسألوا } قرىء بسكون السين وبالهمز إذا كان أمر مخاطب وقبله الفاء أو الواو. وقرىء بفتح السين فاحتمل أن يكون أصله بالهمز ونقلت حركتها إلى السين وحذفت الهمزة. واحتمل أن يكون من سأل يسأل كخاف يخاف فعين الفعل واو فهما مادتان ولذلك قيل: يتساءلان ويتساولان. ووهم ابن عطية في ذكره الإجماع على قوله: واسألوا ما أنفذتم، انه بالهمز لم يقرأ بغيره ونصوص المقرئين على خلاف قوله ونص على الخلاف فيه بخصوصه ابن شيطاني كتابه المستنير.
{ ولكل جعلنا مولي } الآية لما نهى عن التمني المذكور وأمر بسؤال الله من فضله أخبر تعالى بشيء من أحوال الميراث ولما ذكر أن للرجال نصيبا مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن وهو مما حصل بالتطلب والتكسيب ذكر حالهم فيما يحصل لهم بغير تعب ولا طلب فقال: ولكل، وهي مضافة لمحذوف تقديره ولكل إنسان جعلنا موالي، أي يكون أمره في قسمة ما يرث مما ترك أي من أجل ما ترك. ومن: للسبب.
{ الولدان } أي والدا ذلك الانسان وأقربوه.
{ والذين عقدت } هو في الزوج والمعنى أن الذين يقولون أمر الميراث ويوصلونه لمن يستحقه أمروا بأن يؤتى ما يحصل من الميراث لذلك الإنسان. ويكون الأمر في قوله: فآتوهم، الذين يتولون النظر في ذلك، والضمير المنصوب في فآتوهم وفي نصيبهم عائد على كل إنسان مراعا فيه الجمع وهذا الذي فهمته من الآية. وذكرنا في البحر في ذلك أقوالا يوقف عليها فيه.
{ إن الله كان على كل شيء شهيدا } لما ذكر تشريع التوريث وأمر بإيتاء النصيب أخبر أنه مطلع، على كل شيء فهو المجازي به وفي ذلك تهديد للعاصي ووعيد للمطيع وتنبيه على أنه شهيد على المعاقدة بينكم . والصلة: فأوفوا بالعهد.
[4.34-35]
{ الرجال قومون على النسآء } الآية لما ذكر تعالى أمر الرجال والنساء في اكتساب النصيب وأمرهم في الميراث أخبر تعالى أن الرجال يقومون بمصالح النساء. وقوامون: صفة مبالغة، ومعنى:
{ بما فضل الله } أي بتفضيل الله بعض الرجال على بعض في كون هذا رزق أكثر من هذا، وحال هذا أمشى من حال هذا.
{ وبمآ أنفقوا من أمولهم } أي على النساء. وما: مصدرية في الموضعين. ويجوز أن تكون في قوله: وبما أنفقوا، موصولة. وحذف الضمير العائد عليها التقدير وبالذي أنفقوه من أموالهم، وتقدير الأولى المصدرية بتفضيل الله.
{ فالصلحت } أي الخيرات في الدين.
{ قنتت } عابدات لله تعالى.
{ حفظت للغيب } أي لما غاب عن أزواجهن من سر وغيره. كما قال الشاعر:
إذا غاب عنها البعل لم تفش سره
وترضى إياب البعل حين يؤوب
وما في قوله: { بما حفظ الله } مصدرية: والمعنى ان حفظهن للغيب ليس من قبل أنفسهن بل ذلك بحفظ الله إياهن لذلك.
{ والتي تخافون نشوزهن } النشوز أي تمتنع المرأة مما يريد منها زوجها من وطىء واستمتاع وتصنع بتعطر وغيره. ويقال بالشين والزاي ويقال: نشوص بالشين والصاد. والظفر أن الحذف على بابه وأمر بوعظها إذا خاف نشوزها.
ويكون معنى قوله: { واهجروهن في المضاجع واضربوهن } مقيدا بوقوع النشور والتقدير إذا نشزت لأن الهجر في المضجع والضرب لا يترتب على الخوف إنما يترتب عليه الوعظ. ودل على تقدير إذا نشزت معنى التقسيم. وقوله: واضربوهن، مطلق في الضرب، والمعنى والله أعلم أنه ضرب غير مبرح كالضرب بالقضيب اللين واللطمة مما لا يحدث شيئا ويؤذن بالاحتقار لها. وقد كان بعض الصحابة يضرب بالسوط المؤلم.
{ فإن أطعنكم } أي صرن طائعات لما تريدون منهم. ودل ذلك على أن نشوزهن كان معصية ولذلك قابله بقوله: فإن أطعنكم. وقوله:
{ سبيلا } أي من وعظ أو حجر أو ضرب.
{ إن الله كان عليا كبيرا } لما كان في تأديبهن بما أمر الله تعالى به الزوج اعتلاء للزوج على المرأة ختم الآية بصفة العلو والكبر لينبه العبد على أن المتصف بذلك حقيقة هو الله تعالى وإنما أذن لكم فيما أذن على سبيل التأديب لهن فلا تتعلوا عليهن ولا تتكبروا فإن ذلك ليس مشروعا لكم، وفي هذا وعظ عظيم للأزواج وإنذار ان قدرة الله فوق قدرتكم عليهن.
{ وإن خفتم شقاق } المشاقة بأن يتمادى نشوزها ولا ينفع فيها وعظ ولا هجر ولا ضرب وتصير هي في شق. والمعنى شقاق.
{ بينهما } أي بين الزوج والزوجة وأضيف شقاق إلى ما بين وهو ظرف على جهة الاتساع كما قالوا: هو نقي بين الحاجبين. والأمر في قوله:
{ فابعثوا } هو لمن يتولى أمر النساء والرجال من القضاة والولاة. والظاهر أنهما ليسا وكيلين بل هما ناظران في أمرهما على سبيل الصلح أو الفرقة.
والضمير في { إن يريدآ } عائد على الحكمين إصلاحا أي بين الزوجين، والضمير في بينهما عائد على الحكمين أي فيما بعثا فيه من تمام الاصلاح أو التفرقة على حسب ما يظهر لهما. وقيل: الضمير في بينهما عائد على الزوجين وفي كتب الفقه تفاريع في الحكمين ينظر فيها.
{ إن الله كان عليما خبيرا } يعلم ما يقصد الحكمان وكيف يوفق بين المختلفين ويخبر خفايا ما يلفظان به في أمر الزوجين.
[4.36-40]
{ والجار ذي القربى } أي صاحب الدار القريبة من دارك.
{ والجار الجنب } هو البعيد الدار من دارك.
{ والصاحب بالجنب } أي المتصل المسكن بمسكنك المختال التياه الجهول الذي يتكبر عن إكرام أقاربه وأصحابه ومماليكه ولا يتخفى بهم ولا يلتفت إليهم.
{ الذين يبخلون } قيل هو بدل من كن وقيل: من مختالا فخورا حملا على لفظ من ثم قال: الذين حملا على المعنى ويجوز عندي أن يكون صفة لمن ولم يذكروا هذا الوجه. وقيل: هو في موضع رفع على إضمار مبتدأ تقديره هم الذين يبخلون، وهذه الأقوال على تقدير اتصال الذين بما قبله، ومن أعرب الذين مبتدأ فهو قلق إذ لم يصرح في الآية بخبر.
{ والذين ينفقون } معطوف على الذين يبخلون، وتقدم تفسيرها في البقرة.
{ ومن يكن الشيطان له قرينا فسآء قرينا } لما ذكر تعالى من اتصف بالبخل والأمر به وكتمان فضل الله والانفاق رئاء وانتفاء إيمانه بالله وباليوم الآخر ذكر أن هذه من نتائج مقارنة الشيطان ومخالطته وملازمته للمتصف بذلك لأنها شر محض إذ جمعت بين سوء الاعتقاد الصادر عنه الانفاق رئاء وسمعة، وسائر تلك الأوصاف المذمومة ولذلك قدم تلك الأوصاف وذكر ما صدرت عنه وهو انتفاء الإيمان بالموجد وبدار الخبراء، ثم ذكر أن ذلك من مقارنة الشيطان والقرين المقارن. وساء هنا بمعنى بئس وهي لا تتصرف ولذلك دخلت الفاء في جواب من الشرطية.
وقال ابن عطية: وقرن الطبري هذه الآية بقوله تعالى:
بئس للظالمين بدلا
[الكهف: 50] وذلك مردود لأن بدلا حال وفي هذا نظر. " انتهى ". والذي قاله الطبري صحيح وبدلا تمييز لا حال وهو مفسر للضمير المستكن في بئس على مذهب البصريين والمخصوص بالذم محذوف تقديره هم أي الشيطان وذريته وإنما ذهب إلى إعراب المنصوب بعد نعم، وبئس حالا الكوفيون على اختلاف بينهم مقرر في علم النحو، والظاهر أن هذه المقارنة في الدنيا.
{ وماذا عليهم } أي في الإيمان بالله واليوم الآخر والانفاق في سبيل الله.
{ لو آمنوا بالله واليوم الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله } لحصلت لهم السعادة ويحمل أن تكون جملة واحدة وذلك على مذهب من يثبت أن لو تكون مصدرية في معنى ان، كأنه قيل: ماذا عليهم إذا آمنوا، أي في الإيمان بالله، ولا جواب لها إذ ذاك، فتكون كقول الشاعر:
ماذا عليه إن ذكرت أو انسا
كغزلان رمل في محاريب إقبال
وماذا استفهام فيه معنى الإنكار. قال ابن عطية: وجواب لو في قوله: ماذا، فهو جواب مقدم. " انتهى ".
إذا أراد ظاهر هذا الكلام فليس موافقا لكلام النحويين لأن الاستفهام لا يقع جواب لو ولأن قولهم: أكرمتك لو قام زيد ان ثبت أنه من كلام العرب حمل على أن أكرمتك دل على الجواب لا جواب كما قالوا في قولهم: انت طالق إن فعلت، وإن أراد تفسير المعنى فيمكن ما ماله.
{ إن الله لا يظلم } الآية مناسبتها لما قبلها واضحة لأنه تعالى لما أمر بعبادته وبالإحسان للوالدين ومن ذكر معهم ثم أعقب ذلك بذم البخل والأوصاف المذكورة معه ثم وبخ من لم يؤمن ولم ينفق في طاعة الله فكان هذا كله توطئة لذكر الجزاء على الحسنات والسيئات فأخبر تعالى بصفة عدله وأنه لا يظلم أدنى شيء.
ثم أخبر بصفة الاحسان فقال: { وإن تك حسنة يضعفها } ويظلم يتعدى لواحد وهو محذوف وتقديره لا يظلم أحدا مثقال ذرة وينتصب مثقال على أنه نعت لمصدر محذوف أي ظلما وزن درة كما تقول: لا أظلم قليلا ولا كثيرا، وقيل: ضمنت معنى ما يتعدى لاثنين فانتصب مثقال على أنه مفعول ثان والأول محذوف التقدير لا ينقص أو لا يغصب أولا يبخس أحدا مثقال ذرة من الخير أو الشر. وقرىء: وإن تك حسنة بالنصب فتكون ناقصة، واسمها مستتر فيها عائد على مثقال، وأنت الفعل لعوده على مضاف إلى مؤنث أو على مراعاة المعنى لأن مثقال معناه زنة أي وإن تك زنة ذرة.
وقرىء بالرفع على أن تك تامة تكتفي بمرفوع.
[4.41-43]
{ فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد } وهو نبيهم يشهد عليهم بما فعلوا كما قال: وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم، والأمة هنا من بعث إليهم النبي من مؤمن به وكافر لما أعلم تعالى بعدله وإيتاء فضله اتبع ذلك بأن نبه على الحالة التي يحضر فيها للجزاء ويشهد عليهم فيها. وكيف في موضع رفع ان كان المحذوف مبتدأ التقدير فكيف حال هؤلاء السابق ذكرهم أو كيف صنعهم وهذا المبتدأ العامل في خبره هو العامل في إذا أو في موضع نصب إن كان المحذوف فعلا، أي فكيف يصنعون، أو فكيف يكونون. والفعل أيضا هو العامل في إذا.
{ يومئذ يود الذين كفروا } التنوين في يومئذ هو تنوين العوض، حذفت الجملة السابقة وعوض منها التنوين، والتقدير يومئذ جئنا.
وقرىء: تسوى مبنيا للمفعول وتسوى بإدغام التاء في السين وتسوى بحذف التاء ومعنى التسوية انهم يستوون مع الأرض فيكونون ترابا باهي كما قال في حق الكافر
يليتني كنت ترابا
[النبأ: 40]. والعامل في يومئذ يود، ومفعول يود محذوف تقديره تسوية الأرض بهم، ودل عليه قوله : لو تسوى بهم الأرض. ولو: حرف لما كان سيقع لوقوع غيره وجوابه محذوف تقديره لسروا بذلك وحذف لدلالة يود عليه ومن أجاز في لو أن تكون مصدرية مثل ان جوز ذلك هنا وكانت إذ ذاك لا جواب لها بل تكون في موضع مفعول يود.
{ ولا يكتمون } معطوف على قوله: يود. أو تكون الواو للاستئناف التقدير وهم لا يكتمون الله تعالى وفي يوم القيامة مواطن كثيرة، يكتمون الله كقولهم:
والله ربنا ما كنا مشركين
[الأنعام: 23] وموطن لا يكتمون، كقولهم: يا ليتنا، نرد الآية. { يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلوة وأنتم سكرى حتى تعلموا ما تقولون } الآية، روى ان جماعة من الصحابة شربوا الخمر قبل تحريم الخمر وحانت الصلاة فتقدم أحدهم فقرأ قل يا أيها الكافرون فخلط فيها فنزلت. ومناسبتها لما قبلها أنه لما أمر تعالى بعبادته والإخلاص فيها وأمر ببر الوالدين ومكارم الأخلاق وذم البخل واستطرد منه إلى شيء من أحوال القيامة وكان قد وقع من بعض المسلمين تخليط في الصلاة التي هي رأس العبادة بسبب شرب الخمر ناسب أن تخلص الصلاة من شوائب الكدر الذي يوقعها على غير وجهها فأمر تعالى بإتيانها على وجهها دون ما يفسدها ليجمع لهم بين إخلاص عبادة الحق ومكارم الأخلاق التي بينهم وبين الخلق، وبالغ تعالى في النهي عن أن يصلي المؤمن وهو سكران بقوله: { لا تقربوا الصلوة } لأن النهي عن قربان الصلاة أبلغ من قوله: لا تصلوا وأنتم سكارى ومنه
ولا تقربوا الفواحش
[الأنعام: 151]
ولا تقربوا مال اليتيم
[الأنعام: 152، الإسراء: 34] والمعنى لا تغشوا الصلاة وعنى ذلك بقوله: حتى تعلموا.
{ ولا جنبا } حال معطوف على قوله: وأنتم سكارى، إذ هي مجلة حالية، فالجملة الاسمية أبلغ التكرار الضمير فالتقييد بها أبلغ في الانتفاء منها من التقييد بالمفرد الذي هو ولا جنبا ودخول لا دال على مراعاة كل قيد منهما بانفراده وإذا كان النهي عن إيقاع الصلاة مصاحبة لكل حال منهما بانفراده فالنهي عن إيقاعها بهما مجتمعين آكد وأدخل في الحظر. والجنب هو غير الطاهر من إنزال أو مجاوزة ختان هذا قول جمهور الأمة، والجنب من الجنابة وهي البعد كأنه جانب الطهر أو من الجنب كأنه ضاجع أو لامس أو مس بجنبه. قال الزمخشري: الجنب يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث لأنه اسم جرى مجرى المصدر الذي هو الاجناب. " انتهى ".
والذي ذكره هو المشهور في اللغة والفصيح وبه جاء القرآن وقد جمعوه جمع سلامة بالواو والنون، قالوا: قوم جنبون وجمع تكسير قالوا: قوم أجناب، وأما تثنيته فقالوا: جنبان.
{ إلا عابري سبيل } العبور الخطور والجواز، ومنه ناقة عبر الهواجر. وعابري منصوب على الحال وهو استثناء من الأحوال ويلحظ محذوف أي ولا تقربوا مواطن الصلاة وأنتم جنب إلا في حال عبوركم في الطريق وغيا ذلك بقوله: حتى تغتسلوا، فإذا اغتسل الجنب جاز له أن يصلي وأن يمكث في المسجد.
{ وإن كنتم مرضى } الآية نزلت بسبب عدم الصحابة للماء في غزوة المريسيع حين أقام صلى الله عليه وسلم بالناس على التماس العقد. والظاهر مطلق المرض ومطلق السفر، فإذا لم يجد ماء فتيمما ومجيئه من الغائط كناية عن الحدث بالغائط وحمل عليه الريح والبول والمني والودي والمذي ولا خلاف ان هذه الستة أحداث.
{ أو لمستم } قرىء لامستم ماضي يلامس ولمستم ماضي يلمس والظاهر في لامستم أنه أريد به الجماع. وينبغي أن يحمل عليه لمستم ومن العلماء من حمل ذلك على أن المراد اللمس باليد أو غيرها من الجوارح على تفصيل مذكور في كتب الفقه.
{ فلم تجدوا مآء } الضمير عائد على من أسند إليهم الحكم في الاخبار الأربعة وفيه تغليب الخطاب إذ قد اجتمع خطاب وغيبة، فالخطاب كنتم مرضى أو على سفر أو لامستم والغيبة قوله: أو جاء أحد وما أحسن ما جاءت هذه الغيبة لأنه لما كني عن الحاجة بالغائط كره إسناد ذلك إلى المخاطبين فنزع به إلى لفظ التغليب بقوله: أو جاء أحد، وهذا أحسن الملاحظات وأجمل المخاطبات. ولما كان المرض والسفر ولمس النساء لا يفحش الخطاب بها جاءت على سبيل الخطاب. وظاهر انتفاء الوجدان سبق تطلبه وعدم الوصول إليه، فاما في حق المريض فجعل الموجود حسا في حقه إذا كان لا يستطيع استعماله كالفقود شرعا واما غيره باقي الأربعة فانتفاء وجدان الماء في حقهم هو على ظاهره.
{ فتيمموا } اقصدوا.
و { صعيدا } ترابا.
{ طيبا } طاهرا.
{ فامسحوا بوجوهكم } المسح البلل بالماء وإمرار اليد من غير غسل. والظاهر عموم الوجه تقول: مسحت برأسه، ومسحت رأسه بمعنى واحد.
{ وأيديكم } هو مجمل وجاء الحديث أن التيمم مسح الوجه ومسح الكفين بالتراب. وفي صحيح مسلم وفي تحديد اليد في التيمم خلاف مذكور في كتب الفقه.
{ عفوا غفورا } كناية عن الترخيص والتيسير.
[4.44-46]
{ ألم تر } الآية نزلت في اليهود مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر شيئا من أحوال الآخرة وأن الكفار إذ ذاك يودون لو تسوى بهم الأرض، وجاءت الآية بعد ذلك كالاعتراض بين ذكر أحوال الكفار في الآخرة وذكر أحوالهم في الدنيا مع المؤمنين ذكر أحوالهم في الدنيا وما هم عليه من معاداة المؤمنين وكيف يعاملون رسول الله الذي يأتي عليهم شهيدا وعلى غيرهم ولما كان اليهود أشد إنكارا للحق وأبعد من قبول الخير، وكان قد تقدم أيضا
الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون
[النساء: 37] وهم أشد الناس تحليا بهذين الوصفين.
{ أوتوا نصيبا من الكتب } الظاهر أن من الكتاب صفة لقوله: نصيبا، وأريد بالكتاب الجنس والنصيب التوراة ويجوز أن يتعلق من الكتاب بقوله: أوتوا.
{ يشترون الضللة } أي بالهدى وحذفه لأن الضلالة تدل عليه كما صرح به في قوله اشتروا الضلالة بالهدى. والمعنى ألا تعجب ممن أنزل عليه من الكتب الإلهية ومع ذلك لم يتبع ما أنزل إليه وآثروا الضلالة على الهدى.
{ ويريدون أن تضلوا السبيل } أي لم يكفهم أن ضلوا في أنفسهم حتى تعلقت آمالهم بضلالكم أنتم أيها المؤمنون عن سبيل الحق، لأنهم لما علموا أنهم قد خرجوا من الحق إلى الباطل كرهوا أن يكون المؤمنون مختصين باتباع الحق فأرادوا أن يضلوا كما ضلوهم. كما قال تعالى:
ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سوآء
[النساء: 89].
وقرىء: { أن تضلوا } بضم التاء وكسر الضاد من أضل وقراءة الجمهور بفتح التاء وكسر الضاد من ضل.
{ من الذين هادوا } لما ذكر تعالى أنهم أوتوا التوراة وآثروا اشتراء الضلالة، ذكر أيضا مما يذمهم به وهو تحريف الكلم عن مواضعه. فقوله:
{ يحرفون } صفة لمبتدأ محذوف وخبره الجار والمجرور قبله وحذفه فصيح كقول العرب: مناطعن ومنا أقام. وأجاز القراء أن يكون المحذوف الموصول تقديره من يحرفون فيحرفون صلة لمن المحذوفة.
{ ويقولون سمعنا وعصينا } الظاهر أنهم شافهوا النبي صلى الله عليه وسلم بهاتين الجملتين وخاطبوه بقولهم: { واسمع غير مسمع } وهذا كلام موجه. والظاهر أنهم أرادوا به الوجه المكروه لسياق ما قبله من قوله: سمعنا وعصينا، وانتصب غير مسمع على الحال أي واسمع حال كونك لا تسمع فيكون ذلك على سبيل الدعاء كأنهم قالوا: واسمع لا سمعت. ويجوز أن يكون غير مسمع صفة لمصدر محذوف أي واسمع سمعا غير مسمع.
{ ورعنا ليا بألسنتهم } تقدم تفسير راعنا في البقرة. وليا أي فتلا، وتحريفا عن الحق إلى الباطل. وانتصاب ليا وطعنا على المفعول من أجله أو على أنهما مصدران في موضع الحال وطعنهم في الدين إنكار نبوته وتغيير نعته.
{ ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم } أي لو تبدلوا بالعصيان الطاعة ومن راعنا بأنظرنا.
وقال الزمخشري: ولو ثبت قولهم سمعنا وأطعنا لكان قولهم ذلك حيزا لهم وأقوم وأعدل وأسد. " انتهى ". سبك الزمخشري من أنهم قالوا مصدرا مرتفعا بثبت على الفاعلية وهذا مذهب المبرد خلافا لسيبويه إذ يرى سيبويه أن ان بعد لو مع ما عملت فيه تتقدر باسم مبتدأ وهل الخبر محذوف أو لا يحتاج إلى تقدير الخبر لجريان المسند والمسند إليه في صلة أن قولان أصحهما هذا. فالزمخشري وافق مذهب المبرد وهو مذهب مرجوح في علم النحو.
{ إلا قليلا } استثناء من ضمير المفعول في لعنهم، أي إلا قليلا لم يلعنهم فأمنوا، أو استثناء من الفاعل في فلا يؤمنون، أي إلا قليلا فآمنوا كعبد الله بن سلام وكعب الاحبار وغيرهما أو هو راجع إلى المصدر المفهوم من قوله: فلا يؤمنون أي إلا إيمانا قليلا فلله إذ آمنوا بالتوحيد وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وبشرائعه.
وقال الزمخشري: إلا إيمانا قليلا أي ضعيفا ركيكا لا يعبأ به وهو إيمانهم بمن خلقهم مع كفرهم بغيره وأراد بالقلة العدم كقوله:
قليل التشكي للهموم تصيبه
أي عديم التشكي.
وقال ابن عطية: من عبر بالقلة عن الإيمان، قال: هي عبارة عن عدمه على ما حكى سيبويه من قولهم أرض قلما تنبت كذا وهي لا تنبت جملة. وهذا الذي ذكره الزمخشري وابن عطية من أن القليل يراد به العدم هو صحيح في نفسه لكن ليس هذا التركيب الاستثنائي من تراكيبه، فإذا قلت: لا أقوم إلا قليلا لم يوضع هذا الانتفاء القيام البتة، بل هذا يدل على انتفاء القيام منك إلا قليلا فيوجد منك.
وإذا قلت: قل ما يقوم أحد إلا زيد وأقل رجل يقول ذلك، احتمل هذا أن يراد به التقليل المقابل للتكثير، واحتمل أن يراد به النفي المحض، وكأنك قلت: ما يقوم أحد إلا زيد وما رجل يقول ذلك، اما أن تنفي ثم توجب ويصير الإيجاب بعد النفي يدل على النفي فلا إذ تكون إلا وما بعدها على التقدير جيء بها لغوا لا فائدة إذ الانتفاء قد فهم من قولك لا أقوم فأي فائدة في استثناء مثبت يراد به الانتفاء المفهوم من الجملة السابقة، وأيضا فإنه يؤدي إلى أن يكون ما بعد إلا موافقا لما قبلها في المعنى، وباب الاستثناء لا يكون فيه ما بعد إلا موافقا لما قبلها. وظاهر قوله: فلا يؤمنون إلا قليلا إذا جعلناه عائدا إلى الإيمان إن الإيمان يتجزأ بالقلة والكثرة فيزيد وينقص والجواب أن زيادته ونقصه هو بحسب قلة المتعلقات وكثرتها.
[4.47-48]
{ يا أيهآ الذين أوتوا الكتب } الآية،
" دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم احبار اليهود منهم عبد الله بن صوريا وكعب إلى الاسلام، وقال لهم: إنكم لتعلمون أن الذي جئت به حق، فقالوا: ما نعرف ذلك فنزلت "
، قاله ابن عباس. ومناسبتها لما قبلها هو أنه تعالى لما رجاهم بقوله:
ولو أنهم قالوا
[النساء: 46] الآية، خاطب من يرجى إيمانه منهم بالأمر بالإيمان وقرن بالوعيد البالغ على تركه ليكون ادعى لهم إلى الإيمان والتصديق به ثم أزال خوفهم من سوء الكبائر السابقة بقوله:
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية، وتوعدهم ان لم يؤمنوا بأحد أمرين الطمس أو اللعن الموصوف. والظاهر أن معنى الطمس: جعل الحاجبين والعينين والأنف والفم لوحا واحدا، ثم يقلب مشرفا على الظهر ويصير القفا مشرفا على الصدر، وهذا تشويه عظيم لمحاسن الإنسان. وقيل: هو على حذف مضاف أي نطمس أعين وجوه ونجعلها في القفا. وقرىء: نطمس بضم الميم وكسرها. واللعن هو المتعارف وتقوم قبل ولكن لعنهم الله وهذا لعن مطلق، وفي هذه الآية لعن مقيد بقوله: كما لعنا أصحاب السبت. وقيل: وأصحاب السبت هم أهل آيلة مسخوا قردة وخنازير. ولما سمع عبد الله بن سلام هذه الآية جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي أهله ويده على وجهه وأسلم وقال: يا رسول الله ما كنت أرى أني أحل إليك حتى يحول وجهي في قفاي.
{ وكان أمر الله مفعولا } المعنى الذي أراد إيجاده وتعلق أمره به لا بد من وجوده.
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية، قيل:
" نزلت في وحشي وأصحابه وكان جعل له على قتل حمزة أن يعتق فلم يوف له فقدم مكة وقدم على الذي صنعه هو وأصحابه ثم قدموا مسلمين وقص كيفية قتل حمزة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: غيب وجهك عني فلحق بالشام وبقي بها حتى مات "
وقصته مشهورة في السير ومذاهب الناس. في هذه الآية مختلفة فاجمع المسلمون على تخليد من مات كافرا في النار وعلى تخليد من مات مؤمنا لم يذنب قط في الجنة فأما تائب مات على توبته ففي الجنة. وأما مذنب مات قبل توبته فالخوارج تقول: هذا مخلد في النار سواء كان صاحب كبيرة أم صاحب صغيرة. والمرجئة تقول: هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته.
والمعتزلة تقول: إن كان صاحب كبيرة خلد في النار.
وأهل السنة يقولون: هو في المشيئة فإن شاء الله تعالى غفر له وأدخله الجنة من أول وهلة. وإن شاء عذبه وأخرجه من النار وأدخله الجنة بعد مخلدا فيها. وحجج هذه المذاهب مذكورة في علم أصول الدين.
وقوله: { إن الله لا يغفر أن يشرك به } والمعنى إن من مات مشركا لا يغفر له. وهو أصل مجمع عليه من الطوائف الأربع. وقوله:
{ ويغفر ما دون ذلك } ردا على الخوارج وعلى المعتزلة لأن ما دون ذلك عام يدخل فيه الكبائر والصغائر.
وقوله: { لمن يشآء } راد على المرجئة إذ مدلوله أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم على ما شاء الله تعالى بخلاف ما زعموه بأن كل مؤمن مغفور له.
[4.49-57]
{ ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم } قيل: هم اليهود. وقيل: النصارى وتزكيتهم قولهم نحن أبناء الله وأحباؤه: وفي ذلك غض على من يزكي نفسه بلسانه ويصفها بزيادة الطاعة والتقوى. قال ابن عطية: كيف يصح أي رد أن يكون في موضع نصب بيفترون ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر في قوله: ويفترون. " انتهى ". أما قوله: يصح أن يكون في موضع نصب بيفترون فصحيح. وأما قوله: ويصح أن يكون في موضع رفع بالابتداء والخبر في قوله: يفترون، فهذا لم يذهب إليه أحد لأن كيف ليست من الأسماء التي يجوز الابتداء بها. وإنما قوله: { كيف يفترون على الله الكذب } في التركيب نظير قولك: كيف يضرب زيد عمرا ولو كانت مما لا يجوز الإبتداء بها ما جاز أن يكون مبتدأ في هذا التركيب لأنه ذكر أن الخبر هي الجملة من قوله: يفترون، وليس فيها رابط يربط هذه الجملة بالمبتدأ وليست الجملة نفس المبتدأ في المعنى فلا يحتاج إلى رابط فهذا الذي قال فيه ويصح فاسد على كل تقدير.
{ ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتب } أجمعوا على أن المراد بأهل الكتاب هنا اليهود والكتاب التوراة وسبب نزولها أن كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب وجماعة خرجوا إلى مكة يحالفون قريشا على محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: أنتم أهل كتاب وأنتم أقرب إلى محمد وإن محمدا صاحب كتاب، فلا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم إلينا فاسجدوا لآلهتنا حتى نطمئن إليكم. ففعلوا فقال أبو سفيان: أنحن أهدى سبيلا أم محمد؟ قال كعب: ماذا يقول محمد، قالوا: يأمر بعبادة الله وحده ونهى عن الشرك. قال كعب: وما دينكم؟ قالو: نحن ولاة البيت نسقي الحاج ونقري الضعيف ونفك العاني، وذكروا أفعالهم. فقال: أنتم أهدى سبيلا. والجبث والطاغوت ضمان كانا لقريش، وقيل: غير ذلك.
{ أم لهم نصيب من الملك } أم هنا منقطعة التقدير بل إليهم تصيب من الملك انتقل من كلام إلى كلام بأم واستفهم على سبيل الانكار أن يكون لهم نصيب من الملك. قال الأزهري: الفتيل والنقير والقطمير يضرب مثلا للشيء التافة الحقير، وخصت الأشياء الحقيرة بقوله:
{ فتيلا } ، في قوله: { ولا يظلمون فتيلا } ، وهنا بقوله: نقيرا الوفاق النظير من الفواصل.
{ فإذا لا يؤتون } الآية، وهو تصريح ببخلهم وإذا حرف جزاء وجواب، والتقدير من حيث المعنى أنهم إن كان لهم نصيب من الملك لا يسمحون بشيء وإن كان تافها لبخلهم، ثم انتقل من هذه الخصلة الذميمة إلى خصلة أشد منها وهي الحسد فالبخل: منع فضول خير من الإنسان إلى غيره، والحسد: تمني زوال ما أعطى الله الإنسان من الخير وإيتائه له، وفي ذلك إشارة إلى حسدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من فضله وهو النبوة.
ولذلك جاء بعده قوله تعالى: { فقد آتينآ آل إبرهيم الكتب والحكمة } وإبراهيم هو جد رسول الله الأعلى وآل إبراهيم يحتمل أن يريد شخص إبراهيم عليه السلام. والكتاب الصحف التي نزلت على إبراهيم. وقد يراد بآله من كان من ذريته كموسى عليه السلام فيكون الكتاب التوراة.
{ وآتيناهم ملكا عظيما } هو ما كان في بني إسرائيل من الملوك كداود وسليمان، ألا ترى إلى قول موسى عليه السلام: إذ جعل منكم أنبياء وجعلكم ملوكا الآية. { فمنهم من آمن به } والضمير عائد على إبراهيم. وقيل: عائد على الكتاب، أي فمن آل إبراهيم من آمن بالكتاب.
{ إن الذين كفروا بآيتنا } لما ذكر ومنهم من صد عنه أتبعه بما لهم من العذاب ثم ذكر ما للمؤمنين من النعيم في الآخرة فصار نظير يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم، ثم قال: وأما الذين ابيضت.
وقرىء: { نصليهم } من أصلى ونصليهم من صليت. وقرىء بضم الهاء وكسرها. وندخلهم ظلا ظليلا قال أبو مسلم: الظليل هو القوي المتمكن. قال ونعت الشيء بمثل ما اشتق من لفظه يكون مبالغة كقولهم: ليل أليل وداهية دهياء.
[4.58-59]
{ إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } سبب نزولها ما ذكروا من قصة مضمونها
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ مفتاح الكعبة من سادنيها أو عثمان بن طلحة وابن عمه شيبة بن عثمان بعد تأب من عثمان ولم يكن أسلم فسأل العباس الرسول صلى الله عليه وسلم أن يجمع له بين السقاية والسدانة فنزلت فرد المفتاح إليهما وأسلم عثمان وقال عليه الصلاة والسلام: خذوها يا بني طلحة خالدة تالدة لا يأخذها منكم إلى ظالم "
وعن ابن عباس وغيره: نزلت في الأمراء يؤدوا الأمانة فيما ائتمنهم الله من أمر رعيته ومناسبتها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر وعد المؤمنين وذكر عمل الصالحات نبه على هذين العملين الشريفين اللذين من اتصف بهما كان أحرى أن يتصف بغيرهما من الأعمال الصالحة فأحدهما ما يختص به الانسان فيما بينه وبين غيره وهو أداء الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها والثاني ما يكون بين اثنين من الفصل بينهما بالحكم العدل الخالي عن الهوى وهو من الأعمال العظيمة التي أمر الله بها رسله وأنبياءه والمؤمنين، ولما كان الترتيب الصحيح أن يبدأ الانسان بنفسه في جلب المنافع ودفع المضار ثم يشتغل بحال غيره أمر تعالى بأداء الأمانة أولا ثم بعده بالأمر بالحكم بالحق.
و { أن تحكموا } ظاهره أن يكون معطوفا على أن تؤدوا، وفصل بين حرف العطف والمعطوف بإذا وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحابنا وجعله كقوله:
ربنآ آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة
[البقرة: 201].
وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا
[يس: 9].
سبع سموت ومن الأرض مثلهن
[الطلاق: 12] ففصل في هذه الآيات بين الواو والمعطوف بالمجرور وأبو علي يخص هذا بالشعر وليس هذا بصواب فإن كان المعطوف مجرورا أعيد الجار نحو أمرر بزيد وغدا بعمرو ولكن قوله: وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ليس من هذه الآيات لأن حرف الجر يتعلق في هذه الايات بالعامل في المعطوف، والظرف هنا ظاهره أنه منصوب بأن تحكموا ولا يمكن ذلك لأن الفعل في صلة أن ولا يمكن أن ينتصب بالناصب لأن تحكموا لأن الأمر ليس واقعا وقت الحكم وقد خرجه على هذا بعضهم والذي يظهر أن إذا معمولة لأن تحكموا مقدرة وأن تحكموا المذكورة مبتدأ مفسرة لتلك المقدرة هذا إذا فرعنا على قول الجمهور، وأما إذا قلنا بمذهب الفراء فإذا منصوبة بأن تحكموا هذه الملفوظ بها لأنه يجيز يعجبني العسل أن يشرب، فيقدم معمول صلة ان عليها.
{ إن الله نعما يعظكم به } تقدم الكلام على فنعما هي في البقرة.
{ إن الله كان سميعا } لأقوالكم الصادرة منكم في الأحكام.
{ بصيرا } برد الأمانات إلى أهلها. { يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله } الآية، قيل: نزلت في أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكروا قصة طويلة مضمونها ان عمارا أجاز رجلا قد أسلم وقر أصحابه حين نذروا بالسرية فهربوا، وأقام الرجل وان أميرها خالدا أخذ الرجل وماله فأخبره عمار بإسلامه وإجارته إياه فقال خالد: وأنت تجير فاسقا وارتفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجاز أمان عمار ونهاه أن يجير على أمير ومناسبتها لما قبلها أنه لما أمر الولاة أن يحكموا بالعدل أمر الرعية بطاعتهم.
{ وأولي الأمر منكم } هم كل من ولى ولاية صحيحة شرعية.
{ فردوه } إلى كتاب الله وسؤال الرسول في حياته وإلى سنته بعد وفاته.
{ ذلك خير } أي الرد إلى الكتاب والسنة وخير وأحسن لا يراد بهما أفعل التفضيل، إذ لا خير ولا حسن في الرد إلى غير الكتاب والسنة، وتأويلا معناه مالا ومرجعا.
[4.60-62]
{ ألم تر } قيل سبب نزولها أن خصمين اختصما فدعا أحدهما إلى الكاهن والآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. والطاغوت: هو الكاهن، ودل أن أحد المدعين كان منافقا بدليل قوله: رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا حيث مالوا إلى الكاهن دون الرسول عليه السلام.
{ فكيف } في موضع نصب على الحال تقديره كيف تراهم، أو في موضع رفع أي فكيف صنيعهم. وإذا: ظرف منصوب بتراهم أو بصنيعهم.
{ بما قدمت أيديهم } من الكفر والمصيبة ما ظهر عليهم من الذلة والمسكنة والاستنقاص من المسلمين الخلص.
{ ثم جآءوك يحلفون } جملة في موضع الحال. وقيل: المصيبة هي هدم مسجد الضرار الذي بنوه.
{ إن أردنآ } جملة هي جواب القسم، وإن نافية، بمعنى ما أي ما أردنا في العدول عنك عند التحاكم.
[4.63-66]
{ يعلم الله ما في قلوبهم } من النفاق، وعبر عن المجازاة بالعلم والقول البليغ هو الزاجر والرادع. ويتعلق قوله في أنفسهم، بقوله قل على أحد معنيين، أي قل لهم خاليا بهم لا يكون معهم أحد من غيرهم مسارا لأن النصح إذا كان في السر كان أنجح وكان بصدد أن يقبل سريعا. ومعنى بليغا أي مؤثرا فيهم. أو قل لهم في معنى أنفسهم النجسة المنطوية على النفاق قولا بليغا يبلغ منهم ما يزجرهم عن العود إلى ما فعلوا.
وقال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق قوله في أنفسهم؟ قلت: بقوله بليغا، أي قل لهم قولا بليغا في أنفسهم مؤثرا في قلوبهم يغتمون به اغتماما ويستشعرون منه الخوف استشعارا وهو التوعد بالقتل والاستئصال ان نجم منهم النفاق. " انتهى إعرابه وتعليقه " في أنفسهم بقوله بليغا، لا يجوز على مذهب البصريين لأن معمول الصفة لا يتقدم على الموصوف عندهم. لو قلت: هذا رجل ضارب زيدا، لم يجز أن تقول: هذا زيدا رجل ضارب، لأن حق المعمول أن لا يحل إلا في موضع يحل فيه العامل ومعلوم أن النعت لا يتقدم على المنعوت لأنه تابع والتابع لا يتقدم على المنعوت لأنه تابع والتابع لا يتقدم على المتبوع وأجاز ذلك الكوفيون أجازوا هذا طعامك رجل يأكل. والزمخشري أخذ في ذلك بمذهب الكوفيين.
واللام في: { ليطاع } ، لام كي، وهو استثناء مفرغ من المفعول من أجله، أي وما أرسلنا من رسول لشيء من الأشياء إلا يجل الطاعة.
وقال ابن عطية: وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ خاص المعنى لأنا نقطع ان الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه أن لا يطيعوه، ولذلك خرجت طائفة معنى الاذن إلى العلم وطائفة خرجته إلى الارشاد لقوم دون قوم وهو تخريج حسن لأن الله تعالى إذا علم من أحد أنه يؤمن وفقه لذلك. فكأنه أذن له. " انتهى " لا يلزم ما ذكره من أن الكلام عام اللفظ خاص المعنى لأن قوله: ليطاع، مبني للمفعول الذي لم يسم فاعله ولا يلزم من الفاعل المحذوف أن يكون عاما فيكون التقدير ليطيعه العالم بل المحذوف ينبغي أن يكون خالصا ليوافق الموجود فيكون التقدير أصله إلا ليطيعه من أراد طاعته.
وفي قوله: { بإذن الله } ، التفات. وهو الخروج من ضمير المتكلم في أرسلنا إلى الاسم الغائب والعامل في إذ خبر إن وهو جاؤوك.
{ فلا وربك لا يؤمنون } لا الأولى أكدت معنى النفي.
و { لا يؤمنون } جواب القسم وهو قوله: وربك. ونظيره في التأكيد قول الشاعر:
فلا وأبيك لا يلغى لما بي
ولا للما بهم أبدا دواء
وحتى هنا للغاية أي لا يصح إيمانهم إلى أن يحكموك وقد تكون حتى بمعنى إلا أن، وهذا أظهر من الغاية وشجر الأمر التبس يشجر شجورا وشجرا وشاجر الرجل غيره في الأمر نازعه فيه وتشاجروا.
وإن في قوله:
{ أن اقتلوا } يجوز أن تكون مفسرة بمعنى أي لأنه تقدمها كتبنا وهو في معنى القول ويجوز أن تكون مصدرية. وقرأ الجمهور:
{ إلا قليل } بالرفع وهو بدل من ضمير الفاعل في فعلوه. وقرأ ابن عامر وغيره بالنصب والرفع أكثر في لسان العرب لأن قبله نفي.
وقال الزمخشري: وقرىء إلا قليلا بالنصب على أصل الاستثناء أو على الا فعلا قليلا. " انتهى ". أما النصب على أصل الاستثناء فهو الذي وجه الناس عليه هذه القراءة. وأما قوله: إلا فعلا قليلا ، فهو ضعيف لمخالفة مفهوم التأويل قراءة الرفع. ولقوله: منهم، فإنه يعلق على هذا التركيب. ولو قلت: ما ضربوا زيدا إلا ضربا قليلا منهم، لم يحسن أن يكون منهم لا فائدة في ذكره وضمير النصب فيما فعلوه عائد على أحد المصدرين المفهومين من قوله: أن اقتلوا أو أخرجوا. وقال أبو عبد الله الرازي: الكناية في قوله: ما فعلوه، عائدة على القتل والخروج معا، وذلك لأن الفعل جنس واحد وإن اختلفت صورته. " انتهى ". وهو كلام غير نحوي.
[4.67-70]
{ وإذا لأتينهم } الآية، قال الزمخشري: وإذا جواب لسؤال مقدر كأنه قيل: وماذا يكون لهم أيضا بعد التثبت، فقيل: وإذا لو ثبتوا لأتيناهم لأن إذا جواب وجزاء. " انتهى ". ظاهر قوله لأن إذا جواب وجزاء يفهم منه أنها تكون لمعنيين في حال واحدة على كل حال، وهذه مسألة خلاف ذهب الفارسي الى أنها قد تكون جوابا فقط في موضع، وجوابا وجزاء في موضع، ففي مثل إذا أظنك صادقا لمن قال: أزورك، هي جواب خاصة. وفي مثل: إذا أكرمك. لمن قال: أزورك، هي جواب وجزاء. وذهب الأستاذ أبو علي إلى أنها تتقدر بالجواب والجزاء في كل موضع وقوفا مع ظاهر كلام سيبويه والصحيح قول الفارسي وهي مسألة يبحث عنها في علم النحو.
{ من النبيين } أجاز الراغب أن يتعلق من النبيين بقوله: ومن يطع الله والرسول، أي من النبيين ومن بعدهم ويكون قوله: فأولئك، إشارة إلى الملأ الأعلى.
ثم قال: { وحسن أولئك رفيقا } ويبين ذلك قوله صلى الله عليه وسلم حين الموت:
" اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى "
وهذا ظاهر. " انتهى ". وهذا الوجه الذي هو عنده ظاهر فاسد من جهة المعنى ومن جهة النحو، أما من جهة المعنى فإن الرسول هنا هو محمد صلى الله عليه وسلم أخبر الله سبحانه وتعالى أن من يطيعه ويطيع رسوله فهو مع من ذكر ولو كان من النبيين معلقا بقوله: ومن يطع الله والرسول، لكان قوله: من النبيين، تفسير المن في قوله: ومن يطع، فيلزم أن يكون في زمان الرسول أو من بعده أنبياء يطيعونه وهذا غير ممكن لأنه قد أخبر الله تعالى أن محمدا هو خاتم النبيين. وقال صلى الله عليه وسلم:
" لا نبي بعدي "
وأما من جهة النحو فما قبل فاء الجزاء لا يعمل فيما بعدها لو قلت: ان تقم هند فعمرو ذاهب ضاحكة لم يجز. قال أبو عبد الله الفخر الرازي: هذه الآية تنبه على أمرين من أحوال المعاد، الأول: إشراق الأرواح بأنوار المعرفة، والثاني: كونهم مع النبيين. وليس المراد بهذه المعية في الدرجة فإن ذلك ممتنع بل معناه أن الأرواح الناقصة إذا استكملت علائقها مع الأرواح الكاملة في الدنيا بقيت بعد المفارقة تلك العلائق فينعكس الشعاع من بعضها على بعض فتصير أنوارها في غاية القوة فهذا ما خطر لي. " انتهى كلامه ".
وهو شبيه بمقال الفلاسفة في الأرواح إذا فارقت الأجساد، وأهل الإسلام يأبون هذه الألفاظ ومدلولاتها، ولكن من غلب عليه حب شيء جرى في كلامه والرفيق الصاحب سمي بذلك للارتفاق به، وعلى هذا يجوز أن ينتصب رفيقا على الحال من أولئك أو على التمييز وإذا انتصب على التمييز فيحتمل أن لا يكون مفعولا فيجوز دخول من عليه ويكون هو المميز وجاء مفردا إما لأن الرفيق مثل الخليط والصديق يكون للمفرد والمثنى والمجموع بلفظ واحد، وإما لإطلاق المفرد في باب التمييز اكتفاء ويراد به الجمع ويحسن ذلك هنا كونه فاصلة ويحتمل أن يكون منقولا من الفاعل فلا يكون هو المميز، والتقدير وحسن رفيق أولئك فلا تدخل عليه من ويجوز أن يكون أولئك إشارة إلى من يطع الله والرسول وجمع على معنى من.
ويجوز في انتصاب رفيقا الأوجه السابقة. وقرأ الجمهور وحسن بضم السين وهي الأصل ولغة الحجاز، وقرأ أبو السمال وحسن بسكون السين وهي لغة تميم. ويجوز وحسن بضم الحاء وبسكون السين وضم الحاء على تقدير نقل حركة السين إليها وهي لغة بعض بني قيس. قال الزمخشري: وحسن أولئك رفيقا فيه معنى التعجب، كأنه قيل: وما أحسن أولئك رفيقا ولاستقلاله بمعنى التعجب. قرىء وحسن بسكون السين، يقول المتعجب: وحسن الوجه وجهك بالفتح والضم مع التسكين. " انتهى كلامه ". وهو تخليط وتركيب مذهب على مذهب فنقول اختلفوا في فعل المراد به المدح والذم فذهب الفارسي وأكثر النحويين إلى جواز إلحاقه ببات نعم وبئس فقط فلا يكون فاعله إلا ما يكون فاعلا لهما وذهب الأخفش والمبرد إلى جواز إلحاقه بباب نعم وبئس فجعل فاعله كفاعلهما وذلك إذا لم يدخله معنى التعجب وإلى جواز إلحاقه بفعل التعجب فلا يجري مجرى نعم وبئس في الفاعل ولا في بقية أحكامهما بل يكون فاعله ما يكون مفعول فعل التعجب، فتقول: لضربت يدك ولضربت اليد والكلام على هذين المذهبين تصحيحا وإبطالا مذكور في علم النحو الزمخشري لم يتبع واحدا من هذين المذهبين بل خلط وركب فأخذ التعجب من مذهب الأخفش وأخذ التمثيل بقوله: وحسن الوجه وجهك، وحسن الوجه وجهك من مذهب الفارسي.
وأما قوله: ولاستقلاله بمعنى التعجب قرىء وحسن بسكون السين وذكر أن المتعجب يقول وحسن وحسن فهذا ليس بشيء لأن الفراء.. ذكر أن تلك لغات للعرب فلا يكون التسكين ولا هو والنقل لأجل التعجب.
{ ذلك الفضل من الله } الظاهر أن الإشارة إلى كينونة المطيع من النبيين ومن عطف عليهم لأنه هو المحكوم به في قوله: فأولئك مع الذين وكأنه على تقدير سؤال أي وما الموجب لهم استواءهم مع النبيين في الآخرة مع أن الفرق بينهم في الدنيا بين فذكر أنه أعطى ذلك بفضله لا بوجوب عليه ومع استوائهم معهم في الجنة فهم متفاوتون في المنازل.
[4.71-73]
{ يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم } الآية، مناسبتها لما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر طاعة رسوله وكان من أهم الطاعات إحياء دين الله أمر بالقيام بإحياء دينه وإعلاء دعوته وأمرهم أن لا يقتحموا على عدوهم على جهالة فقال:
{ خذوا حذركم } فعلمهم مباشرة الحروب ولما تقدم ذكر المنافقين في هذه الآية تحذير المؤمنين من قبول مقالاتهم وتثبيطهم عن الجهاد فنادى أولا باسم الإيمان على عادته إذا أراد أن يأمر المؤمنين أو ينهاهم . والحذر بمعنى واحد قالوا: ولم يسمع في هذا التركيب لأخذ حذرك لأخذ حذرك. ومعنى خذوا حذركم أي استعدوا بأنواع ما يستعد به للقاء من تلقونه فيدخل فيه أخذ السلاح وغيره. ويقال: أخذ حذره إذا احترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يتقي بها ويعتصم، والمعنى احترزوا من العدو ثم أمر تعالى بالخروج إلى الجهاد جماعة بعد جماعة وسرية بعد سرية أو كتيبة واحدة مجتمعة.
وقرأ الجمهور: { فانفروا } بكسر الفاء فيهما. وقرأ الأعمش بضمها فيهما وانتصاب ثبات وجميعا على الحال، ولم يقرأ ثبات فيما علمناه إلا بكسر التاء وحكى الفراء فيها الفتح والكسر أيضا والثبة الجماعة الاثنان والثلاثة في كلام العرب. وقيل: هي فوق العشرة من الرجال وزنها فعلة ولامها، قيل: واو، وقيل: ياء مشتقة من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه كأنك جمعت محاسنة، ومن قال: إن لامها واو جعلها من ثبا يثبو، مثل: حلا يحلو.
{ وإن منكم } الخطاب لعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ لمن ليبطئن } هم المنافقون وجعلوا من المؤمنين باعتبار الجنس أو النسب أو إلى الانتماء إلى الإيمان ظاهرا ومن موصولة وليبطئن جواب قسم محذوف والقسم المحذوف وجوابه صلة لمن وقد ذهب أحمد بن يحيى إلى أن القسم وجوابه لا يكون صلة للموصول وهو محجوج بهذه الآية.
ومعنى ليبطئن: ليثبطن المجاهدين عن الجهاد، والمصيبة الهزيمة، وما يلحق المؤمن من القتل، أو تولى الادبار، والشهيد الحاضر والفضل هنا الظفر بالعدو والغنيمة. { كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } هذه الجملة اعتراض بين قوله ليقولن ومعمول القول وهو قوله:
{ يليتني كنت معهم } واختلف المفسرون في معنى هذه الجملة ودخولها بين القول ومعموله.
قال الزمخشري: والمعنى كأن لم يتقدم له ومعكم مودة لأن المنافقين كانوا يوادون المؤمنين ويصادقونهم في الظاهر وإن كانوا يبغون لهم الغوائل في الباطن. والظاهر أنه تهكم لأنهم كانوا أعدى عدو للمؤمنين وأشدهم حسدا لهم فكيف يوصفون بالمودة إلا على وجه العكس تهكما بحالهم.
وقال ابن عطية: المنافق يعاطي المؤمنين المودة ويعاهد على التزام كلف الاسلام ثم يتخلف نفاقا وشكا وكفرا بالله ورسوله ثم يتمنى عندما يكشف الغيب الظفر للمؤمنين.
فعلى هذا يجيء قوله تعالى:
{ كأن لم تكن بينكم وبينه مودة } التفاتة بليغة واعتراضا بين القول والمقول، بلفظ يظهر زيادة ف يقبح فعلهم، ولغير هذين كلام في الآية مذكور في البحر. وملخص ما قالوا: أن هذه الجملة التشبيهية إما أن يكون لهذا موضع من الإعراب نصب على الحال من الضمير المستكن في ليقولن أو نصب على المفعول بقولن على الحكاية فيكون من جملة المقول، وجملة المقول هو مجموع الجملتين جملة التشبيه وجملة التمني وضمير الخطاب للمتخلفين عن الجهاد وضمير الغيبة وبينه للرسول. وعلى الوجه الأول ضمير الخطاب للمؤمنين وضمير الغيبة للقائل، وإما أن لا يكون لها موضع من الإعراب لكونها اعتراضا في الأصل بين جملة الشرط وجملة القسم وأخرت، والنية بها التوسط بين الجملتين أو لكونها اعتراضا بين ليقولن ومعموله الذي هو جملة التمني وليس اعتراضا يتعلق بمضمون هذه الجملة المتأخرة بل يتعلق بمضمون الجملتين والضمير الذي للخطاب هو للمؤمنين وفي بينه للقائل واعترض به بين اثناء الجملة الأخيرة فلم تتأخر بعدها وإن كان من حيث المعنى متأخرا إذ معناه متعلق بمضمون الجملتين لأن معمول القول النية به التقديم لكنه حسن تأخيره كونه وقع فاصلة ولو تأخرت جملة الاعتراض لم يحسن لكونها ليست فاصلة والتقدير ليقولن يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما، كأن لم يكن بينكم وبينه مودة إذ صدر منه قوله: وقت المصيبة قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا. وقوله: وقت الغنيمة يا ليتني كنت معهم، وهذا قول ومن لم تسبق منه مودة لكم. قال ابن عطية: وكأن مضمنة معنى التشبيه ولكنها ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر وإنما تجيء بعدها الجمل. " انتهى ".
وهذا الذي ذكره غير محرر ولا على إطلاقه اما إذا خففت ووليها ما كان يليها وهي ثقيلة فالأكثر والأفصح أن ترتفع تلك الجملة على الابتداء والخبر ويكون اسم كان ضمير شأن محذوفا وتكون تلك الجملة في موضع خبر كأن وإذا لم ينو ضمير الشأن جاز لها أن تنصب الاسم إذا كان مظهرا وترفع الخبر هذا ظاهر كلام سيبويه، ولا يخص ذلك بالشعر فتقول: كأن زيدا قائم. قال سيبويه: وحدثنا من يوثق به أنه سمع من العرب من يقول أن عمر المنطلق وأهل المدينة يقرؤن وإن كلا لما يخففون وينصبون كما قالوا:
كأن ثدييه خفان
وذلك لأن الحرف بمنزلة الفعل فلما حذف من نفسه شيء لم يغير عمله كما لم يغير عمل لم يك ولم ابل حين حذف. " انتهى ". فظاهر تشبيه سيبويه أن عمر المنطلق بقوله: كأن ثدييه خفان جواز ذلك في الكلام وانه لا يختص بالشعر وقد نقل صاحب رؤوس المسائل إن كأن إذا خففت لا يجوز إعمالها عند الكوفيين وان البصريين أجازوا ذلك فعلى مذهب الكوفيين قد يتمشى قول ابن عطية في ان كأن المخففة ليست كالثقيلة في الحاجة إلى الاسم والخبر. واما على مذهب البصريين فلا لأنها لا بد لها عندهم من اسم وخبر وفي الآيتين تنبيه على أنهم لا يعدون في المنح إلا أعراض الدنيا يفرحون بما ينالون منها، ولا من المحن إلا مصائبها فيتألمون لما يصيبهم منها، كقوله تعالى:
فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه
[الفجر: 15]. الآية.
[4.74-76]
{ يشرون } يبتغون غرض.
{ الحياة الدنيا } وهو الفاني بنعيم الآخرة وهو الباقي.
{ فيقتل أو يغلب } عطف على فعل الشرط وبدأ بالأكثر ثوابا وهو القتل وجواب الشرط فسوف نؤتيه والأجر العظيم هنا زيادة الثواب. وقيل: الجنة.
{ وما لكم لا تقتلون في سبيل الله } هذا الاستفهام فيه حث وتحريض على الجهاد في سبيل الله، وعلى تخليص المستضعفين لا تقاتلون في موضع الحال. { والمستضعفين } معطوف على الجلالة تقديره وفي سبيل المستضعفين.
{ من الرجال } منهم عبد الله بن عباس.
{ والنسآء } منهم أم عبد الله، ومن جرى مجراها.
{ والولدن } هم الصبيان واحدهم وليد ويجوز أن يكون واحدهم ولدا كقول العرب: ورل وورلان.
ثم ذكر تعالى حالة استضعافهم بقولهم في دعائهم: { ربنآ أخرجنا من هذه القرية } وهي مكة.
{ الظالم أهلها } هم من كان بها من صناديد قريش المانعين لهم من الهجرة ومن ظهور الإسلام.
{ الذين آمنوا يقتلون في سبيل الله } لما أمر الله تعالى المؤمنين أولا بالنفر إلى الجهاد ثم ثانيا بقوله: فليقاتل في سبيل الله، ثم بالثالث على طريق الحث والحض بقوله: وما لكم لا تقاتلون، أخبر في هذه الآية بالتقسيم إن المؤمن هو الذي يقاتل في سبيل الله وإن الكافر هو الذي يقاتل في سبيل الطاغوت ليتبين للمؤمنين فرق ما بينهم وبين الكفار ويقويهم بذلك ويشجعهم ويحرضهم وإن من قاتل في سبيل الله هو الذي يغلب. لأن الله هو وليه وناصره ومن قاتل في سبيل الطاغوت فهو المخذول المغلوب. والطاغوت هنا الشيطان لقوله:
{ فقتلوا أولياء الشيطن } ، وهنا محذوف التقدير فإنكم تغلبونهم لقوتكم بالله ثم علل هذا المحذوف وهو غلبتكم إياهم بأن كيد الشيطان ضعيف فلا يقاوم نصر الله وتأييده.
[4.77-80]
{ ألم تر إلى الذين } الآية، خرج النسائي في سننه عن ابن عباس
" أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا: يا نبي الله كنا في عز ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذلة. فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم فلما حوله الله تعالى إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا "
فأنزل الله تعالى هذه الآية ومعنى كفوا أيديكم عن القتال وكانوا متشوقين إلى قتال الكفار وجواب فلما كتب إذا الفجائية وما بعدها، ودل ذلك على أن لما حرف وجوب لوجوب لا ظرف بمعنى حين إذ لو كانت ظرفا لكان لها عامل وإذا الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها.
{ أو أشد } انتصب أشد على أنه حال من قوله: خشية، لأنه صفة لنكرة وتقدمت عليها فانتصب على الحال، والمعنى يخشون الناس خشية مثل خشية الله، أو خشية أشد من خشية الله فأشد أفعل تفضيل والمفضل عليه محذوف وتقديره من خشية الله.
{ وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال } الظاهر أن القائلين هم المنافقون لأن الله تعالى إذا أمر بشيء لا يسأل عن علته من هو خالص الإيمان.
و { لولا } يكون حرف امتناع لوجود لقولك: لولا زيد لأكرمتك، وتكون حرف تحضيض كقوله هنا: لولا.
{ أخرتنا إلى أجل قريب } والأجل القريب استزادة في كفهم عن القتال.
{ أينما تكونوا يدرككم الموت } أين ظرف مكان وتكون شرطا فيزداد بعدها ما وقد تخلو عن ما كقول الشاعر:
أين تضرب بنا العداة تجدنا
وتكون استفهاما كقولك: أين زيد، ولا تحفظ زيادة ما بعد أين إذا كانت استفهاما. قال الزمخشري: ويجوز أن يتصل بقوله:
{ ولا تظلمون فتيلا } أي لا تنقصون شيئا مما كتب من آجالكم أين ما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها ثم ابتدأ بقوله: { يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة } والوقف عل يهذا الوجه على أين ما تكونوا. " انتهى ". وهذا تخريج ليس بمستقيم لا من حيث المعنى ولا من حيث الصناعة النحوية أما من حيث المعنى فإنه لا يناسب أن يكون متثلا بقوله: { ولا تظلمون فتيلا } لأن ظاهر انتفاء الظلم إنما هو في الآخرة لقوله: { قل متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى } وأما من حيث النحو فإنه على ظاهر كلامه يدل على أن أينما متعلق بقوله:
{ ولا تظلمون } بمعنى ما فسره من قوله، أي لا تنقصون شيئا مما كتب من آجالكم أينما تكونوا في ملاحم حروب أو غيرها، وهذا لا يجوز لأن أينما اسم شرط فالعامل فيه إنما هو فعل شرط بعده ولأن اسم الشرط لا يتقدم عليه عامله فلا يمكن أن يعمل فيه ولا تظلمون بل إذا جاء نحو: اضرب زيدا متى جاء، لا يجوز أن يكون الناصب لمتى اضرب فإن قال: يقدر له جواب محذوف يدل عليه ما قبله وهو قوله: ولا تظلمون كما تقدر في اضرب زيدا متى جاء فالتقدير أينما تكونوا فلا تظلمون فتيلا أي فلا ينقص شيء من آجالكم، وحذف لدلالة ما قبله عليه قيل له: لا يحذف الجواب إلا إذا كان فعل الشرط بصيغة الماضي، وفعل الشرط هنا مضارع.
تقول العرب: أنت ظالم إن فعلت، ولا تقول: أنت ظالم إن تفعل. ويدرككم مجزوم جواب أينما. والبروج : القصور العالية مشيدة مبنية بالشيد وهو الجص. وجواب له محذوف تقديره لأدرككم الموت.
{ وإن تصبهم حسنة } الظاهر أن هذا من كلام المنافقين والحسنة ما يحصل لهم من الخير والسيئة ما يصيبهم من السوء ومن قال أنهم اليهود فليس بطاهر لأنهم لم يكونوا في طاعة الإسلام ولم يكتب عليهم القتال والمعنى أن هؤلاء المنافقين إذا أصابتهم حسنة نسبوها إلى الله تعالى وانها ليست بسبب اتباع الرسول ولا الإيمان به وإن تصبهم سيئة أضافوها إلى الرسول وقالوا: هي بسببه كما جاء في قوم موسى وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه، وفي قوم صالح قالوا: أطيرنا بك وبمن معك. وروى جماعة من المفسرين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة، قال اليهود والمنافقون: ما زلنا نعرف النقص في ثمارنا ومزارعنا مذ قدم علينا هذا الرجل وأصحابه.
قوله: { من عند الله } أي خلقا وتقديرا.
{ فمال هؤلاء القوم } استفهام إنكار حيث نسبوا السيئة إلى الرسول.
و { لا يكادون يفقهون } فيه نفي المقاربة وهو أبلغ من نفي الفعل والحديث قيل هو القرآن.
{ مآ أصابك } الظاهر أنه خطاب لكل سامع. وقوله:
{ فمن نفسك } أي بسبب ما اكتسبه الإنسان من الذنب والله تعالى هو المقدر لذلك. وانتصب قوله: رسولا، على الحال المؤكدة للجملة التي هي وأرسلناك.
[4.81-83]
{ ويقولون طاعة } ارتفع طاعة على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره أمرنا طاعة أي لك. وقرىء بإدغام التاء من بيت في الطاء وبإظهارها.
{ غير الذي تقول } من قولهم أمرنا طاعة وهم في حال تبييتهم يبغون ذلك الغوائل ويتكلمون بغير الطاعة.
{ والله يكتب ما يبيتون } كناية عن مجازاتهم على ما بيتوا للرسول صلى الله عليه وسلم من السوء.
{ أفلا يتدبرون } وقرىء يدبرون بإدغام التاء في الدال، والمعنى أفلا يتأملون ما نزل عليك من الوحي ولا يعرضون عنه فإنه في تدبره يظهر برهانه. والضمير في فيه: عائد على القرآن. ووجه هذا الدليل أنه ليس من متكلم كلاما طويلا إلا وجد في كلامه اختلاف كثير إما في الوصف واللفظ، وإما في المعنى بتناقض أخبار، أو الوقوع على خلاف المخبر به، أو اشتماله على ما لا يلائم ولا يلتئم أو كونه تمكن معارضته. والقرآن العظيم ليس فيه شيء من ذلك. وقد رد محمد بن المستنير الملقب بقطرب على الملاحدة الذين طعنوا في القرآن وزعموا أن فيه تناقضا رد عليهم في كتاب كبير صنفه بين فيه جهل الملاحدة بلسان العرب وبعد إفهامهم عن فصاحة الكلام وبلاغته وصحة معناه.
{ وإذا جآءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به } روي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا بعث سرية من السرايا فغلبت أو غلبت تحدثوا بذلك وأفشوه ولم يصبروا حتى يكون هو المحدث به، فنزلت:
{ ولو ردوه } أي الأمر إلى اعلام الله والرسول.
{ لعلمه الذين يستنبطونه } أي يستخرجونه ويكشفون عن حقيقة بإعلام الرسول لهم ثم انتقل إلى الكلام عن المنافقين إلى خطاب عام وهو قوله تعالى:
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته } الآية، ودلت على كثرة اتباع الشيطان وقلة من لا يتبعه ولذلك جاء الاستثناء بقوله:
{ إلا قليلا }. قال ابن عطية: أي لا تبعتم الشيطان كلكم إلا قليلا من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها. " انتهى ". فسره في الاستثناء بالمتبع فيه فيكون استثناء من المتبع فيه المحذوف لا من الاتباع ويكون استثناء مفرغا والتقدير لا تبعتم الشيطان في كل شيء إلا قليلا من الأشياء فلا تتبعونه فيه فإن كان ابن عطية شرح من حيث المعنى فهو صحيح لأنه يلزم من استثناء الاتباع القليل أن يكون المتبع فيه قليلا وإن كان شرح من حيث الصناعة النحوية فليس بجيد لأن قوله: إلا اتباعا قليلا لا يرادف إلا قليلا من الأمور كنتم لا تتبعونه فيها. " انتهى ".
وقال قوم: قوله: إلا قليلا، عبارة عن العدم يريد لاتبعتم الشيطان كلكم، قال ابن عطية: هذا قول قلق وليس يشبه ما حكى سيبويه من قولهم: أرض قل ما تنبت كذا، بمعنى لا تنتبه لأن اقتران القلة بالاستثناء يقتضي حصولها ولكن ذكره الطبري. " انتهى ".
وهذا الذي ذكره ابن عطية صحيح ولكن قد جوزه هو في قوله تعالى:
ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا
[النساء: 46] ولم يقلق عنده هناك ولا رده وقد رددناه عليه هناك فيطالع ثمة.
[4.84-87]
{ فقاتل في سبيل الله } قيل: نزلت في بدر الصغرى دعا الناس إلى الخروج وكان أبو سفيان واعد رسول الله صلى الله عليه وسلم اللقاء فيها فكره بعض الناس أن يخرجوا فنزلت، وخرج صلى الله عليه وسلم وما معه إلا سبعون لم يلو على أحد ولو لم يخرج معه أحد لخرج معه ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تثبيطهم عن القتال واستطرد من ذلك إلى أن الموت يدرك كل أحد ولو اعتصم بأعظم معتصم فلا فائدة في الهرب من القتال واتبع ذلك بما اتبع من سوء خطاب المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفعلهم معه من إظهار الطاعة بالقول وخلافها بالفعل وبكتهم في عدم تأملهم ما جاء به الرسول من القرآن الذي فيه كتب القتال عليهم عاد إلى أمر القتال وهكذا إعادة كلام العرب تكون في شيء ثم تستطرد من ذلك إلى شيء آخر له به مناسبة وتعلق.
ومعنى: { لا تكلف إلا نفسك } أي لا تكلف في القتال إلا نفسك فقاتل ولوحدك. وقيل: المعنى إلا طاقتك ووسعك والنفس يعبر بها عن القوة، يقال: سقطت نفسه أي قوته. وقرأ الجمهور لا تكلف خبرا مبنيا للمفعول، قالوا: والجملة في موضع الحال ويجوز أن يكون إخبارا من الله لنبيه لا حالا شرع له فيها أنه لا يكلف أمر غيره من المؤمنين إنما يكلف أمر نفسه فقط. وقرىء لا نكلف بالنون وكسر اللام ويحتمل وجهي الإعراب الحال والاستئناف. وقرأ عبد الله بن عمر لا تكلف بالتاء وفتح اللام والجزم على جواب الأمر وأمره تعالى بحث المؤمنين على القتال وتحريك هممهم إلى قتال عدوهم وترغيبهم بما أعد الله لهم من حسن الجزاء وفضيلة الشهادة.
{ من يشفع شفعة حسنة } الآية، قال الزمخشري: الشفاعة الحسنة هي التي روعي فيها حق مسلم ودفع بها شر أو جلب إليه خبر وابتغى بها وجه الله تعالى ولم يؤخذ عليها رشوة وكانت في أمر جائز لا في حد من حدود الله ولا حق من الحقوق والسيئة ما كان بخلاف ذلك. " انتهى ".
وهذا بسط ما قاله الحسن قال: الشفاعة الحسنة هي في البر والطاعة والسيئة في المعاصي والكفل النصيب كقوله:
يؤتكم كفلين من رحمته
[الحديد: 28] أي نصيبين. والظاهر أن من للسبب أي نصيب من الحيز بسببها وكفل من الشر بسببها وغاير في النصيب بذكره بلفظ الكفل في الشفاعة السيئة لأنه أكثر ما يستعمل في الشر وإن كان قد استعمل في الخير كما تقدم قبل. قالوا: وهو مستعار من كفل البعير وهو كساء يدار على سنامه ليركب عليه ويسمى كفلا لأنه لم يعم الظهر بل بعضا منه.
و { مقيتا } مقتدرا، والمقيت الحافظ والشاهد. قيل: هو مشتق من القوت والقوت ما يحفظ به الإنسان نفسه من التلف.
{ وإذا حييتم بتحية } الظاهر إن التحية هنا السلام. ووزنها تفعلة لأنها مصدر حيا نقلت حركة الياء إلى الحاء وأدغمت الياء في الياء. والظاهر أن قوله: حييتم خطاب للمسلمين يسلم عليهم من هو مسلم، وظاهر الأمر من قوله: { فحيوا } الوجوب فإذا قال: سلام عليكم، رد بقوله: عليكم السلام ورحمة الله، أو يكتفي بقوله: عليكم السلام. وإذا زاد وبركاته فالأحسن أن يرد بمثل ذلك ولو اقتصر على قوله: وعليكم السلام كان جائزا. وقوله:
{ أو ردوهآ } على حذف مضاف تقديره فردوا مثلها.
{ الله لا إله إلا هو } الآية، مناسبتها لما قبلها انه لما فرض القتال وحكي عن المنافقين ما قالوا وأمر الرسول عليه السلام بالقتال وبتحريض المؤمنين عليه ذكر حديث الشفاعة الحسنة والشفاعة السيئة وتعليم رد السلام وأنه تعالى حسيب على ذلك أخبر بجمعه تعالى العالم في يوم القيامة للمجازاة وثواب الجهاد في سبيل الله تعالى، ولما ذكر الجمع مقسما عليه أردفه بقوله: ومن أصدق، أي لا أحد أصدق من الله. وقرىء بإخلاص الصاد وبإشمامها الزاي وانتصب حديثا على التمييز.
[4.88-90]
{ فما لكم في المنافقين فئتين } رجع في الاخبار إلى حال المنافقين الذين قالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال، والخطاب في لكم هو للمؤمنين، قال ناس منهم: نقتل المنافقين، وقال ناس: لا نقتلهم لأنهم نطقوا بكلمة الاسلام فعتبهم الله على كونهم انقسموا فيهم فرقتين وانتصب فئتين على الحال وما: استفهام إنكار وهو مبتدأ، ولكم: خبره.
{ والله أركسهم } قال ابن عباس: ردهم في كفرهم، ولذلك قال تعالى: { ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سوآء } قال الزمخشري: فتكونون سواء ولو نصب على جواب التمني لجاز. والمعنى ودوا كفركم وكونكم معهم شرعا واحدا فيما هم عليه من الضلال واتباع دين الآباء. " انتهى ". كون التمني بلفظ الفعل ويكون له جواب فيه نظر وإنما المنقول أن الفعل ينتصب في جواب التمني إذا كان بالحرف نحو ليت ولو وإلا إذا أشربتا بمعنى التمني أما إذا كان بالفعل فيحتاج إلى سماع من العرب بل لو جاء لم يتحقق فيه الجوابية لأن ود التي تدل على التمني إنما متعلقها المصادر لا الذوات، فإذا نصب الفعل بعد الفاء لم يتعين أن تكون فاء الجواب لاحتمال أن يكون من باب عطف المصدر المقدر على المصدر الملفوظ به فيكون من باب للبس عباءة وتقر عيني.
{ حتى يهاجروا في سبيل الله } لما نص على كفرهم وانهم تمنوا أن يكونوا مثلهم بانت عداوتهم لاختلاف الدينين فنهى تعالى أن يوالي أحد منهم وإن آمنوا حتى يظاهروا بالهجرة الصحيحة لأجل الإيمان لا لأجل حفظ الدنيا وإنما غيا بالهجرة فقط لأنها تتضمن الإيمان وفي هذه الآية دليل على وجوب الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يزل حكمها كذلك إلى أن فتحت مكة فنسخ ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم:
" لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا ".
{ إلا الذين يصلون } هذا استثناء من قوله: فخذوهم واقتلوهم والوصول هنا البلوغ. قال ابن عطية: كان هذا الحكم في أول الاسلام قبل أن يستحكم أمر الطاعة من الناس فكان عليه السلام قد هادن من العرب قبائل كرهط هلال بن عويمر الأسلمي وسراقة بن مالك بن جعشم وخزيمة بن عامر بن عبد مناف فقضت هذه الآية أنه من وصل من المشركين الذين لا عهد بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل العهد ودخل في عدادهم وفعل فعلهم من الموادعة فلا سبيل عليه. قال عكرمة: لما تقوى الاسلام وكثر ناصره نسخت هذه الآية والتي بعدها بما في سورة براءة. " انتهى ".
{ أو جآءوكم } خطاب للمؤمنين وهو معطوف على صلة الذين فاستثنى تعالى من الذين يقتلون صنفين: أحدهما من يصل إلى قوم بين المؤمنين وبينهم ميثاق، والصنف الثاني من جاء المؤمنين من الكفار وقد امتنع من قتال المؤمنين ومن قتال قومهم.
و { حصرت } جملة في موضع الحال وبين ذلك قراءة من قرأ حصرة صدورهم وقراءة من قرأ حاصرات صدورهم بالجمع ومعنى حصرت أي ضاقت وأصل الحصر في المكان ثم توسع فيه.
{ ولو شآء الله لسلطهم عليكم } هذا تقرير للمؤمنين على مقدار نعمته تعالى عليهم أي لو شاء لقواهم وجرأهم عليكم فإذا قد أنعم عليكم بالهدنة فاقبلوها. قال ابن عطية: واللام في قوله: لسلطهم جواب لو. وفي:
{ فلقاتلوكم } لام المجازاة والازدواج لأنها بمثابة الأولى لو لم تكن الأولى كنت تقول: لقاتلوكم. " انتهى ". تسمية هذه اللام لام المحاذاة والازدواج تسمية غريبة لم أرها إلا في عبارة هذا الرجل وعبارة مكي.
{ فإن اعتزلوكم } الضمير عائد على الذين جاؤوكم أي لم يخالطوكم. قال الزمخشري: الوجه العطف على الصلة لقوله: فإن اعتزلوكم.
{ فلم يقاتلوكم } الآية، بعد قوله: فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم فقرر ان كفهم عن القتال أحد سببي استحقاقهم لنفي التعرض لهم وترك الإيقاع بهم. فإن قلت: كل واحد من الاتصالين له تأثير في صحة الاستثناء واستحقاق ترك التعرض الاتصال بالمعاهدين والاتصال بالكافين فهلا جوزت أن يكون العطف على صفة قوم ويكون قوله: فإن اعتزلوكم تقرير الحكم اتصالهم بالكافين واختلاطهم فيهم وجريهم على سنتهم. قلت: هو جائز ولكن الأول أظهر وأجرى على أسلوب الكلام. " انتهى ". إنما كان أظهر وأجرى على أسلوب الكلام لأن المستثنى محدث عنه محكوم له بخلاف حكم المستثني منه وإذا عطفت على الصلة كان محدثا عنه وإذا عطفت على الصفة لم تكن محدثا عنه إنما يكون ذلك تقييدا في قوم الذين هم قيد في الصلة المحدث عن صاحبها ومتى دار الأمر بين أن تكون النسبة إسنادية في المعنى وبين أن تكون تقييدية كان حملها على الاسنادية أولى للإستقلال الحاصل بها دون التقييدية هذا من جهة الصناعة النحوية وأما من حيث ما يترتب على كل واحد من العطفين من المعنى فإنه يكون تركهم القتال سببا لترك التعرض لهم وهو سبب قريب وذلك على العطف على الصلة ووصولهم إلى من يترك القتال سبب لترك التعرض لهم، وهو سبب بعيد وذلك على العطف على الصفة ومراعاة السبب القريب أولى من مراعاة السبب البعيد.
{ وألقوا إليكم السلم } أي الانقياد فلا قتل لكم عليهم ولا قتال.
[4.91-93]
{ ستجدون آخرين } الآية، لما ذكر صفة الملحقين في المتاركة المجدين في إلقاء السلم فيه على طائفة أخرى مخادعة يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم يقولون: لهم نحن معكم وعلى دينكم، ويقولون للمسلمين كذلك إذا وفدوا. قيل: كانت أسد وغطفان بهذه الصفة فنزلت فيهم، قاله مقاتل.
{ حيث ثقفتموهم } أي ظفرتهم بهم لقوله تعالى:
إن يثقفوكم يكونوا لكم أعدآء
[الممتحنة: 2] وما دلت عليه هذه الآية من موادعة الكفار وترك قتلهم منسوخ بآية السيف التي في براءة.
{ وما كان لمؤمن } الآية، كان عياش ابن أبي ربيعة قد أسلم وهاجر فتحيل أبو جهل وكان عياش أخاه لامه والحارث بن زيد بن انيسة حتى أخرجاه من المدينة فجلده كل واحدة منهما مائة جلدة وأتيا به إلى أمه لمكة فحلف عياش أنه إن ظفر بالحارث ليقتلنه فأسلم الحارث ولقيه عياش بظهر قبا فقتله ولم يشعر بإسلامه فنزلت.
و { إلا خطئا } استثناء ظاهره الانقطاع لأن قتل المؤمن على قسمين العمد: وهو لا يجوز البتة ومتوعد عليه بالخلود في النار. والخطأ: وهو متجاوز عنه في الآخرة لكن يجب على القاتل ما ذكره الله تعالى في هذه الآية من الأحكام قيل: وانتصب خطأ على أنه مفعول من أجله أو نصبا على الحال أو نعتا لمصدر محذوف تقديره إلا قتلا خطأ.
{ فتحرير رقبة مؤمنة } التحرير الاعتاق والعتيق الكريم لأن الكرم في الاحرار كما أن الكرم في العبيد ومنه عتاق الخيل وعتاق الطير لكرامها وحر الوجه أكرم موضع منه. والرقبة: عبر بها عن النسمة كما عبر بالرأس في قولهم: فلان يملك كذا رأسا من الرقيق. والظاهر أن كل رقبة اتصفت بأن يحكم لها بالإيمان منتظم تحت قوله: رقبة مؤمنة، انتظام عموم البدل فيندرج فيها من ولد بين مسلمين ومن أحد أبويه مسلم صغيرا كان أو كبيرا، ومن سباه مسلم من دار الحرب قبل البلوغ. وإطلاق الرقبة المؤمنة لا يدع إلا على من تسمت مؤمنة من غير اعتبار بشرط آخر. والظاهر أن وجوب التحرير والدية على القاتل لأنه مستقرا في الكتاب والسنة من فعل شيئا يلزم فيه أمر من الغرامات بمثل الكفارات إنما يجب ذلك على فاعله.
قوله: { ودية } أصله مصدر تقول: وداه يديه دية وذلك عبارة عما يغرم في قتل الخطأ ولم يأت في كتاب الله مقدار الدية ولا من أي شيء تكون وللفقهاء من ذلك اختلاف كثير وينبغي أن نرجع في تفسير الدية إلى ما تثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنى مسلمة إلى أهله أي موادة مدفوعة إلى أهل المقتول، أو إلى أوليائه الذي يرثونه يقتسمونها كالميراث لا فرق بينها وبين سائر التركة في كل شيء يقضي منها الدين، وتنفذ الوصية، وإذا لم يكن له وارث فهي لبيت المال.
وقال الشريك: لا يقضي من الدية دين ولا ينفذ منها وصية.
وقال ابن مسعود: يرث كل وارث منها غير القاتل. ومعنى قوله: إلا أن يصدقوا، إلا أن يعفو وارثه عن الدية فلا دية. وجاء بلفظ التصدق تنبيها على فضيلة العفو وحضا عليه فإنه جار مجرى الصدقة في استحقاق الثواب الآجل دون طلب العرض العاجل وهذا حكم من قتل في دار الاسلام خطأ. وفيه قوله: إلا أن يصدقوا، دليل على جواز البراءة من الدين بلفظ الصدقة ، ودليل على أنه لا يشترط القبول في الابراء خلافا لزفر فإنه قال: لا يبرأ الغريم من الدين إلا أن يقبل البراءة. والظاهر أن الجماعة إذا اشتركوا في قتل رجل خطأ ليس عليهم كلهم إلا كفارة واحدة لعموم قوله: ومن قتل وترتيب تحرير رقبة واحدة ودية على ذلك وبه قال أبو ثور: وحكى عن الأوزاعي وقال الحسن وعكرمة والنخعي ومالك والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي: على كل واحد منهم الكفارة. وهذا الاستثناء قيل منقطع وقيل متصل.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم تعلق أن يصدقوا وما محله؟ قلت: تعلق بعليه أو بمسلمة. كأنه قيل: ويجب عليه الدية أو يسلمها إلا حين يتصدقون عليه ومحلها النصب على الظرف بتقدير حذف الزمان، كقولهم: اجلس ما دام زيد جالسا. ويجوز أن يكون حالا من أهله بمعنى إلا متصدقين. " انتهى ".
وكلا التخريجين خطا اما جعل ان مع ما بعدها ظرفا فلا يجوز نص النحويون على ذلك وإنه مما انفردت به ما المصدرية ومنعوا أن تقول أجيئك أن يصيح الديك، تريد وقت صياح الديك. وإما أن ينسبك منها مصدر فتكون في موضع الحال فنصبوا أيضا على أن ذلك لا يجوز.
قال سيبويه: في قول العرب: أنت الرجل أن تنازل أو ان تخاصم، في معنى: أنت الرجل نزالا وخصومة ان انتصاب هذا انتصاب المفعول من أجله لأن المستقبل لا يكون حالا فعلى هذا الذي قررناه يكون كونه استثناء منقطعا هو الصواب.
{ فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن } قال ابن عباس وجماعة: المعنى إن كان هذا المقتول خطأ رجلا مؤمنا قد آمن وبقي في قومه وهم كفرة عدو لكم فلا دية فيه وإنما كفارته تحرير رقبة والسبب عندهم في نزولها أن جيوش المسلمين كانت تمر بقبائل الكفر فربما قتل من آمن ولم يهاجر أو من قد هاجر ثم رجع إلى قومه فيقتل في حملات الحرب على أنه من الكفار فنزلت الآية.
{ وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق } الآية، قال الحسن وجماعة: إن كان المقتول خطأ مؤمنا من قوم معاهدين لكم فعهدهم يوجب أنهم أحق بدية صاحبهم فكفارته التحرير وأداء الدية إليهم.
وقال النخعي: ميراثه للمسلمين. وقال ابن عباس وجماعة: المقتول من أهل العهد خطأ كان مؤمنا أو كافرا على عهد قومه فيه الدية كدية المسلم والتحرير واختلف على هذا في دية المعاهد. فقال أبو حنيفة وغيره: ديته كدية المسلم وروى ذلك عن أبي بكر وعمر وقال مالك وأصحابه: نصف دية المسلم.
وقال الشافعي وأبو ثور: ثلث دية المسلم. والظاهر أن قتل المؤمن خطأ تارة يكون في دار الإسلام، وتارة في دار الحرب، وتارة في دار المعاصرين. وأطلق في قوله: وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق المراد تقييد المقتول بالإيمان كما قيد فيما قبله فحمل المطلق على المقيد فيما قبل.
{ فمن لم يجد } يعني رقبة ولا ما يتوصل به إلى تملكها وأعوزت الدية، فالواجب عليه صوم شهرين متتابعين لا يتخللهما فطر، فلو عرض حيض لم يعد قطعا بإجماع المرض المانع من الصوم كالحيض.
{ ومن يقتل مؤمنا متعمدا } الآية، نزلت في مقيس بن صبابة حين قتل أخاه هشام بن صبابة رجل من الأنصار فأخذ له رسول الله صلى الله عليه وسلم الدية ثم بعثه مع رجل من فهر بعد ذلك في أمر فقتله مقيس ورجع إلى مكة مرتدا وجعل ينشد:
قتلت به فهرا وحملت عقله سراة
بني النجار أرباب فارغ
حللت به وترى وأدركت ثورتي
وكنت إلى الأوثان أولى راجع
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا أومنه في حل ولا في حرم وأمر بقتله يوم فتح مكة وهو متعلق بالكعبة "
والظاهر تخليد هذا القاتل في النار، وتأول أهل السنة على أن يكون القاتل استحل قتل المؤمن فيكون بذلك كافرا، أو على أن معنى قوله: فجزاؤه جهنم أي فجزاؤه أن جازاه. وقالت المعتزلة بظاهر هذه الآية وهو تخليد من قتل مؤمنا متعمدا في النار دائما قالوا: وهذه الآية نزلت بعد قوله:
ويغفر ما دون ذلك لمن يشآء
[النساء: 48] فخصت العموم كأنه قال: ويغفر لمن يشاء إلا من قتل مؤمنا متعمدا فلا يغفر له.
[4.94-96]
{ يأيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله } الآية، ذكروا أشياء في نزول هذه الآية فضمنها أنه ظهر لهم رجل اعتقدوه كافرا فتلفظ بما يدل على إسلامه من كلمة الشهادة أو غيرها فقتلوه فنزلت. ومناسبتها لما قبلها أنه لما توعد من قتل مؤمنا متعمدا بما وعد أمر بالتثبت في قتل من يظن به أنه كافر وقد أعلم بظهور الاسلام. وقرىء فتثبتوا وفتبينوا في الموضعين وفي الحجرات.
{ فعند الله مغانم كثيرة } هذه عدة بما يسن الله تعالى لهم من الغنائم على وجهها من حل دون ارتكاب محظور بشبهة وغير تثبت وفي الكلام حذف تقديره لست مؤمنا فتقتلوه تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والكاف في كذلك للتشبيه أي كنتم مثل الذي ألقى إليكم السلم فمن الله عليكم بالإسلام.
{ لا يستوي القعدون } الآية، نزلت من أجل قوم كانوا إذا حضرت غزاة يستأذنون في القعود والتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما غير أولي الضرر فسببها قول ابن أم مكتوم كيف بمن لا يستطيع الجهاد ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أنه تعالى لما رغب المؤمنين في القتال في سبيل الله أعداء الله الكفار قسمهم إلى قاعد ومجاهد، وذكر عدم التساوي بينهما. وقرىء غير بالرفع صفة لقوله: القاعدون أو بدل منه وبالجر صفة لقوله: من المؤمنين، وبالنصب على الاستثناء، كأنه قال: إلا أولي الضرر فهو استثناء من القاعدون. وقيل: استثناء من قوله: من المؤمنين، وقيل: انتصب على الحال.
{ فضل الله المجهدين } الآية، الظاهر أن المفضل عليهم هم القاعدون غير أولي الضرر لأنهم هم الذين نفى التسوية بينهم فذكر ما امتازوا به عليهم وهو تفضيلهم عليهم بدرجة فهذه الجملة بيان للجملة الأولى جواب سؤال مقدر كأن قائلا قال: ما لهم لا يستوون؟ فقيل: فضل الله المجاهدين والمفضل عليهم هنا درجة هم المفضل عليهم. أخيرا درجات وما بعدها وهم القاعدون غير أولي الضرر وتكرار التفضيلين باعتبار متعلقهما، فالتفضيل الأول بالدرجة هو ما يؤتى في الدنيا من الغنيمة والتفضيل الثاني هو ما يخولهم في الآخرة فنبه بإفراد الأول وجمع الثاني على أن ثواب الدنيا في جنب ثواب الآخرة يسير، وقيل: المجاهدون تتساوى رتبهم في الدنيا بالنسبة إلى أحوالهم كتساوي القائلين بالنسبة إلى آخذ سلب من قتلوه وتساوى نصيب كل واحد من الفرسان ونصيب كل واحد من الرجال، وهم في الآخرة متفاوتون بحسب إيمانهم فلهم درجات بحسب استحقاقهم، فمنهم من يكون له الغفران، ومنهم من يكون لهم الرحمة فقط. فكان الرحمة أدنى المنازل والمغفرة فوق الصحة ثم بعد الدرجات على الطبقات وعلى هذا نبه بقوله: هم درجات عند الله ومنازل الآخرة تتفاوت.
[4.97-99]
{ إن الذين توفاهم الملائكة } الآية، روى البخاري عن ابن عباس أن ناسا من المسلمين كانوا من المشركين يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم يرمي به فيصيب أحدهم أو يضرب فيقتل فنزلت ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر ثواب من أقدم على الجهاد اتبعه بعقاب من قعد عن الجهاد وسكن في بلاد الكفر. قال ابن عباس: التوفي هنا قبض الأرواح. وقرىء توفاهم احتمل أن يكون ماضيا واحتمل أن يكون مضارعا. وقرئ توفتهم وتوفاهم والملائكة هنا ظاهرة الجمع فيكون المتوفي ملك الموت وأعوانه كما قال تعالى:
توفته رسلنا
[الأنعام: 61]. ولذلك جاء الضمير مجموعا في قوله: قالوا فيم كنتم. وهذا الاستفهام معناه التوبيخ والتقريع والمعنى في أي شيء كنتم من أمر دينكم وقيل من أحوال الدنيا وجوابهم للملائكة اعتذار عن تخلفهم عن الهجرة وإقامتهم بدار الكفر وهو اعتذار غير صحيح والذي يظهر أن قولهم كنا مستضعفين في الأرض جواب لقوله: فيم كنتم. على المعنى لا على اللفظ لأن معنى فيم كنتم في أي حال مانعة من الهجرة كنتم قالوا: كنا مستضعفين، أي في حالة استضعاف في الأرض بحيث لا نقدر على الهجرة. وهو جواب كذب والأرض هنا أرض مكة وظاهر قوله: فتهاجروا. انه منصوب على جواب قوله: ألم تكن، أو مجزوما معطوفا على تكن.
{ من الرجال } جماعة كعياش بن أبي ربيعة وسلمة بن هشام والوليد بن الوليد، ومن النساء وجماعة كأم الفضل لبابة بنت الحارث أم عبد الله بن عباس، ومن الوالدان عبد الله بن عباس وغيره.
{ لا يستطيعون حيلة } قال الزمخشري: صفة للمستضعفين أو للرجال والنساء والولدان قال: وإنما جاز ذلك والجمل نكرات لأن الموصوف وإن كان فيه حرف التعريف فليس بشيء بعينه كقوله: ولقد أمر على اللئيم يسبني. " انتهى ". وهو تخريج ذهب إلى مثله بعض النحويين في قوله تعالى:
وآية لهم اليل نسلخ منه النهار
[يس: 37] وهو هدم للقاعدة المشهورة ان النكرة لا تنعت إلا بالنكرة والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة والذي يظهر انها جملة مفسرة لقوله: المستضعفين، لأنه في معنى إلا الذين استضعفوا فجاءت بيانا وتفسيرا لذلك، لأن الإستضعاف يكون بوجوه فيبين جهة الاستضعاف النافع في التخلف عن الهجرة وهي عدم استطاعة الحيلة وعدم اهتداء السبيل. والثاني مندرج تحت الأول لأنه يلزم من انتفاء القدرة على الحيلة التي يتخلص بها انتفاء اهتداء السبيل.
وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى مسلمي مكة بهذه الآية. فقال جندب بن ضمرة الليثي، ويقال جندع بالعين أو ضمرة بن جندب لبنيه: احملوني فإني لست من المستضعفين وإني لأهتدي الطريق والله لا أبيت الليلة بمكة، فحملوه على سرير متوجها إلى المدينة وكان شيخا كبيرا فمات بالتنعيم رضي الله عنه.
[4.100-102]
قوله: { مرغما كثيرا وسعة } قيل: نزلت في اكتم بن صيفي ولما رغب تعالى في الهجرة ذكر ما يترتب عليها من وجود السعة والمذاهب الكثيرة ليذهب عنه ما يتوهم وجوده في الغربة ومفارقة الوطن من الشدة، وهذا يقرر ما قالته الملائكة:
ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها
[النساء: 97] معنى مراغما: متحولا ومذهبا، قاله ابن عباس. وقرأ الجراح ونيح والحسن بن عمران مرغما على وزن مفعل كمذهب. وقال ابن جنى: هو على حذف الزوايد من راغم والسعة هنا في الرزق، قاله ابن عباس.
{ وإذا ضربتم في الأرض } الآية، روى مجاهد عن ابن عباس قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد فقال المشركون: لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم وهم في الصلاة فنزلت آية القصر فيما بين الظهر والعصر، والضرب في الأرض السفر. والظاهر جواز القصر في مطلق السفر وبه قال أهل الظاهر. واختلف فقهاء الأمصار في حد المسافة بما هو مذكور في كتبهم. وقرىء تقصروا من قصر وتقصروا من أقصر وتقصروا من قصر، وقوله: من الصلاة، مجمل إذ يحتمل القصر من عدد الركعات والقصر من هيئات الصلاة ويرجع في ذلك إلى ما صح في الحديث. وقوله: إن خفتم ظاهره اشتراط الخوف في القصر من الصلاة وإلى ذلك ذهب جماعة. والحديث الصحيح يدل على أن هذا الشرط لا مفهوم له فلا فرق بين الأمن والخوف.
{ أن يفتنكم } لغة الحجاز فتن ولغة تميم وربيعة وقيس أفتن.
{ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة } الآية استدل بظاهر الخطاب للرسول عليه السلام من لا يرى صلاة الخوف بعده صلى الله عليه وسلم حيث شرط كونه فيهم وكونه هو المقيم لهم الصلاة وهو مذهب ابن علية وأبي يوسف. والظاهر أن صلاة الخوف لا تكون إلا في السفر ولا تكون في الحضر وان كان خوف وذهب إليه قوم. وذهب الجمهور إلى أن الحضر إذا كان خوف كالسفر. ومعنى فأقمت لهم الصلاة، قال الطبري: أقمت حدودها وحياتها والذي يظهر أن المعنى فأقمت بهم وعبر عن ذلك بالإقامة إذ هي فرض على المصلي في قول. ومعنى فلتقم هو من القيام وهو الوقوف، وقيل: فلتهتم بأمر صلاتها حتى تقع على وفق صلاتك من قام بالأمر اهتم به وجعله شغله والظاهر أن الضمير في وليأخذوا أسلحتهم عائد على طائفة لقربها من الضمير ولكونها لها في ما بعد في قوله: فإذا سجدوا، معناه صلوا، وفيه دليل على أن السجود قد يعبر به عن الصلاة ومنه إذا جاء أحدكم المسجد فليسجد سجدتين أي فليصل ركعتين.
{ فليكونوا من ورآئكم } ظاهره أن الضمير في فليكونوا عائد على الساجدين والمعنى أنهم إذا فرغوا من السجود انتقلوا إلى الحراسة والسلاح هو ما يتحصن به الإنسان من سيف ورمح وخنجر ودبوس ونحو ذلك، وهو مفرد مذكر جمعه على أسلحة كحمار وأحمرة، وقد يؤنث.
قال الطرماح:
يهز سلاما لم يرثها كلالة
يشك بها منها غموض المغابن
وقال الزمخشري: فليكونوا، يعني غير المصلين من ورائكم يحرسونكم وجوز الوجهين ابن عطية.
{ ولتأت طآئفة أخرى } غير المصلين.
{ وليأخذوا } ظاهره وجوب أخذ الأسلحة لاطمئنان المصلي ودلت هذه الكيفية التي ذكرها تعالى في هذه الآية على أن كل طائفة صلت مع الرسول بعض صلاة ولا دلالة فيها على مقدار ما صلت معه ولا كيفية إتمامهم وإنما جاء ذلك في السنة وذكر في صلاة الخوف عشر كيفيات بيناها في البحر.
{ ود الذين كفروا لو تغفلون } تقدم الكلام في نحوها في قوله:
يود أحدهم لو يعمر
[البقرة: 96] وإنما قال ميلة واحدة أي شدة واحدة لأنها أبلغ في الاستئصال من الشدات.
{ ولا جناح عليكم } الآية، لما كانت هاتان الحالتان وهما الأذى من المطر والمرض مما يشق حمل السلاح فيهما رخص في ذلك مع الأمر بأخذ الحذر والتحفظ من العدو لئلا تغفلوا فيهجم عليهم العدو. ورخص في ذلك للمريض لأن حمله السلاح مما يكربه ويزيد في مرضه ورخص في ذلك إن كان قطر لأن المطر مما يثقل العدو ويمنعه من خفة الحركة للقتال.
[4.103-109]
{ فإذا قضيتم الصلوة } أي فإذا أتممتم صلاة الخوف وأمروا بالذكر في سائر الأموال من قيام وقعود وعلى جنب.
{ فإذا اطمأننتم } أي من جهة العدو.
{ فأقيموا الصلوة } وهي الصلات المفروضة نبه بذلك على أشرف العبادات.
{ موقوتا } أي واجبة في أوقات معلومة في الشرع.
{ ولا تهنوا في ابتغآء القوم } أي الذين يقاتلونهم. وقرأ الحسن: تهنوا بفتح الهاء لكونها حرف حلق وهذه الآية تشير إلى أنها في الجهاد مطلقا. وقيل: نزلت في انصراف الصحابة من أحد وكان عليه الصلاة والسلام أمرهم باتباع أبي سفيان وأصحابه والمعنى أنهم مشتركون معكم في الآلام وأنتم ترجون من الله المغفرة وحصول الجنة وهم لا يرجون ذلك لكفرهم.
{ وكان الله عليما حكيما } أي عليما بنياتكم حكيما فيما يأمركم به وينهاكم عنه.
{ إنآ أنزلنا إليك الكتاب } اختلف في سببت نزولها فعن قتادة وغيره انها نزلت في طعمة بن أبيرق سرق درعا في جراب فيه دقيق لقتادة بن النعمان وخبأها عند يهودي فحلف طعمة ما لي بها علم فاتبعوا إثر الدقيق إلى دار اليهودي فقال اليهودي دفعها إلى طعمة.
{ بمآ أراك الله } أي بما أعلمك من الوحي.
{ ولا تكن } ظاهره أنه خطاب للرسول عليه السلام والمراد به من كان خصيما للخائنين من أمته وكذلك النهي في قوله: ولا تجادل وقد يجيء النهي لمن لا يقع منه المنهي بحال من الأحوال كالرسول شهد الله له بالعصمة.
قوله: { خوانا أثيما } صفتان للمبالغة، إذ اسم الفاعل خائن وآثم. والضمير في: { يستخفون } الظاهر أنه يعود على الذين يختانون وفي ذلك توبيخ عظيم وتقريع حيث يرتكبون المعاصي مستترين بها عن الناس مباهتين لهم ان اطلعوا عليها ودخل معهم في ذلك من فعل مثل فعلهم.
{ وهو معهم } جملة حالية ومعنى معهم بالعلم والاطلاع على أحوالهم وإذا ظرف لما مضى العامل فيه العامل في مع أي وهو كائن معهم بالعلم في وقت تبييتهم ولما كانت أعمالهم منتشرة كثيرة المجادلة عن طعمة وإضرابه وصف تعالى نفسه بالمحيط، والإحاطة: الاحتفاف بالشيء من جميع جهاته.
{ ها أنتم } الآية، تقدم الكلام عليها وعلى الجملة بعدها قراءة وإعرابا في آل عمران.
{ فمن يجادل الله عنهم } معنى هذا الاستفهام النفي أي لا أحد يجادل الله عنهم يوم القيامة إذا حل بهم عذابه والوكيل الحافظ المحامي وهو الذي يكل الانسان إليه أموره وهذا الاستفهام معناه النفي أيضا، كأنه قيل: لا أحد يكون وكيلا عليهم فيدافع عنهم ويحفظهم، وهاتان الجملتان انتفى في الأولى منهما المجادلة وهي المدافعة بالقول وفي الثانية الوكالة عليهم أي الحفظ وهو المدافعة بالفعل والنصرة بالقوة.
[4.110-114]
{ ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه } الظاهر أنهما غير ان عمل السوء وظلم النفس وخصوصا للعطف بأوقاتها تقتضي أحد الشيئين والسوء القبيح الذي يسوء به غيره وظلم النفس ما يختص به كالحلف الكاذب مثلا .
{ يجد الله } مبالغة في الغفران كأن المغفرة والرحمة معدان لطالبهما مهيآن له متى طلبهما وجدهما وجاء جواب الشرط مصرحا فيه باسم الله ولم يأت بالضمير فكان يكون يجده لأن في لفظ الله من الجلالة والتعظيم ما ليس في الضمير ولما تقدم شيئان: عمل سوء، وظلم النفس. قابلهما بوصفين وهما الغفران لعامل السوء والرحمة لمن ظلم نفسه.
{ ومن يكسب إثما } والاثم جامع للسوء وظلم النفس السابقين، والمعنى أن وبال ذلك لاحق له لا يتعداه إلى غيره وهو إشارة إلى الجزاء اللاحق له في الآخرة وختمها بصفة العلم لأنه يعلم جميع ما يكتسب لا يغيب عنه شيء ثم بصفة الحكمة لأنه واضع الأشياء مواضعها فيجازي على ذلك الآثم بما تقتضيه حكمته فالصفتان إشارة إلى علمه بذلك الاثم وإلى ما يستحق عليه فاعله وفي لفظه على دلالة على استعلاء الاثم عليه واستيلائه وقهره له.
{ ومن يكسب خطيئة } ظاهر العطف بأو المغايرة فالخطيئة ما كان عن غير عمد. وعن ابن عباس أنها نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول حيث رمى بالافك من رمى والبهتان مصدر بهته.
{ وإثما مبينا } أي ظاهرا لكسبه الخطيئة والاثم، والمعنى أنه يستحق عقابين عقاب الكسب وعقاب البهت وقدم البهت لقربه من قوله: ثم يرم به بريئا ولأنه ذنب أفظع من كسب الخطيئة أو الاثم ولفظ احتمل أبلغ من حمل لأن افتعل فيه للتسبب كاعتمل.
{ ولولا فضل الله } عن ابن عباس أنها نزلت في وفد ثقيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: جئناك نبايعك على أن لا نحشر ولا نعشر وعلى أن تمتعنا بالعزى سنة فلم يجبهم فنزلت. والهم العزم على الشيء والاهتمام به ويتعدى بالباء كما في قوله:
ولقد همت به
[يوسف: 24].
و { أن يضلوك } محذوف منه الباء أي بأن يضلوك وإن مع الفعل بتأويل المصدر.
{ من شيء } من زائدة دخلت على نكرة عامة في سياق النفي أي لا يضرونك لا قليلا ولا كثيرا.
{ ما لم تكن تعلم } قال ابن عباس: هو الشرع والنجوى مصدر نجوت أنجو وهي المسارة بين اثنين فصاعدا، وقيل: جمع نحيي فإن كان مصدرا فلا بد في الكلام من حذف إما من الأول تقديره من ذوي نجوى أي أصحاب تناجيهم أو حذف من الآخر تقديره إلا نجوى من أمر وإن كان النجوى جمع نجى فالمعنى لا خير في كثير من القوم الذين يتناجون إلا من أمر فيكون استثناء متصلا ولا يحتاج إلى حذف.
{ بصدقة } يشمل الفرض والتطوع والمعروف عام في كل بر.
{ ومن يفعل ذلك } الإشارة بذلك إلى الأمر بما ذكر من الصدقة أو المعروف أو الاصلاح. وقرىء فسوف يؤتيه بالياء ففيه ضمير غيبة يعود على الله. وقرىء نؤتيه بالنون وهو التفات من الغيبة إلى التكلم وابتغاء مفعول من أجله ومرضات مصدر بمعنى الرضى.
[4.115-116]
{ ومن يشاقق الرسول } الآية نزلت في طعمة بن أبيرق لما فضحه الله بسرقته وبرأ اليهودي ارتد وذهب إلى مكة، وقيل في أهله قدموا فأسلموا ثم ارتدوا ومن يشاقق عام فيندرج فيه طعمة وغيره من المشاققين وفي سورة الحشر بيشاق بالإدغام وهي لغة تميم والفك لغة الحجاز وقد قرىء بهما في قوله:
من يرتد منكم عن دينه
[المائدة: 54] والرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم.
{ من بعد ما تبين له الهدى } أي اتضح له الحق الذي هو سبب الهداية وهذا تقبيح عظيم لمن اتضح له الحق وسلك غيره وسبيل المؤمنين هو الدين الحنيفي الذي هم عليه، وهذه الجملة المعطوفة هي على سبيل التوكيد والتشنيع والا فمن يشاقق الرسول هو متبع غير سبيل المؤمنين ضرورة ولكنه بدأ بالأعظم في الاثم واتبع بملازمة توكيدا واستدل الشافعي رضي الله عنه وغيره بهذه الآية والزمخشري في تفسيره على أن الإجماع حجة لا تجوز مخالفتها كما لا يتجوز مخالفة الكتاب والسنة وما ذكروه ليس بظاهر لأن المرتب على وصفين اثنين لا يلزم منه أن يترتب على كل واحد منهما فالوعيد إنما يترتب في الآية على من اتصف بمشاقة الرسول واتباع غير سبيل المؤمنين ولذلك كان الفعل معطوفا على الفعل، ولم يعد معه اسم الشرط فلو أعيد اسم الشرط فكان يكون ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ومن يتبع غير سبيل المؤمنين لكان فيه ظهورا على ما ادعوا وهذا كله على تسليم أن يكون قوله ويتبع غير سبيل المؤمنين مغايرا لقوله: ومن يشاقق الرسول، وليس بمغاير بل هو أمر لازم لمشاقة الرسول وذكر على سبيل المبالغة والتوكيد وتفظيع الأمر وتشنيعه والآية بعد هذا كله هي في وعيد الكفار فلا دلالة فيها على جزئيات فروع مسائل الفقه. وقرىء يوله ويصله بالياء وبالنون فيهما ويصل الهاءين بياء واختلاس الحركة فيهما وسكونها. وقرىء ونصله بفتح النون من صلا وبضمها من أصلي ومصيرا تمييز والمخصوص بالذم محذوف مضمر يعود على جهنم أي وساءت مصيرا هي.
{ إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية، تقدم تفسيرها إلا أن آخر ما تقدم فقد افترى إثما عظيما، وآخر هذه فقد ضل ضلالا بعيدا، ختمت كل آية بما يناسبها فتلك كانت في أهل الكتاب وهم مطلعون من كتبهم على ما لا يشكون في صحته من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ووجوب اتباع شريعته ونسخها جميع الشرائع ومع ذلك فقد أشركوا بالله مع أن عندهم ما يدل على توحيد الله والإيمان بما نزل فصار ذلك افتراء واختلافا مبالغا في العظم والجرأة على الله وهذه الآية في ناس مشركين ليسوا بأهل كتب ولا علوم ومع ذلك فقد جاءهم الهدى من الله وبأن لهم طريق الرشد فأشركوا بالله فضلوا بذلك ضلالا يستبعد وقوعه أو يبعد عن الصواب ولذلك جاء بعده أن يدعون من دونه إلا إناثا وجاء بعد تلك ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم.
وقوله:
انظر كيف يفترون على الله الكذب
[النساء: 50] ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد بهم اليهود وإن كان اللفظ عاما. ولما كان الشرك أعظم الكبائر كان الضلال الناشىء عنه بعيدا عن الصواب لأن غيره من المعاصي وإن كان ضلالا لكنه قريب من أن يراجع صاحبه الحق لأن له رأس مال يرجع إليه وهو التوحيد ، بخلاف المشرك، ولذلك قال تعالى:
يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه ذلك هو الضلال البعيد
[الحج: 12]. وناسب هنا أيضا ذكر الضلال لتقدم الهدى قبله.
[4.117-121]
{ إن يدعون من دونه إلا إنثا } المعنى ما يعيدون من دون الله ويتخذونه إليها إلا مسميات تسمية الإناث وكني بالدعاء عن العبادة لأن من عبد شيئا دعاه عند حوائجه ومصالحه وكانوا يحلون الأصنام بأنواع الحلى ويسمونها أنثى وإناث جمع أنثى كرباب جمع ربي وان نافية ويدعون يحتاج إلى مفعول وهو محذوف تقديره ما يدعون من دونه أي من دون الله أحدا إلا إناثا فإناثا مفعول بيدعون وهو استثناء مفرغ ونكر شيطانا مريدا تحقيرا لشأنه ومريدا فعيل للمبالغة في اسم الفاعل الذي هو ما رد من مرد أي عتا وعلا في الحذاقة وتجرد للشر والغواية والمراد به إبليس يدل عليه ما قاله بعد.
{ نصيبا مفروضا } أي نصيبا واجبا اقتطعه لنفسه من قولهم فرض الله له في العطاء، والمعنى لاستخلصنهم بغوايتي ولأحضنهم بإضلالي وهم الكفرة والعصاة هذه خمسة أقسم إبليس عليها أحدها اتحاذ نصيب من عبادة الله وهو اختياره إياهم. والثاني: إخلالهم وهو صرفهم عن الهداية وأسبابها. والثالث: تمنيته لهم وهو التسويل ولا ينحصر في نوع واحد لأنه تمني كل إنسان بما يناسب حاله من طول عمر وبلوغ وطر وغير ذلك وهي كلها أماني كواذب باطلة.
{ فليبتكن آذان } البتك: الشق، والقطع بتك بيتك وبتك للتكثير، والبتك القطع واحدها بتكة. قال الشاعر:
حتى إذا ما هوت كف الوليد لها
طارت وفي كفه من ريشها تبك
ومفعول لآمرنهم الثاني محذوف تقديره ولآمرنهم بالتبتيك وكذلك الثاني أي ولآمرنهم بتغيير خلق الله وحذف لدلالة المعنى عليه.
{ فليغيرن } عن ابن عباس وغيره أراد تغيير دين الله.
{ يعدهم ويمنيهم } أخبر تعالى بصدور ما وعدهم به إبليس واحتمل النصب في قوله غرورا أن يكون مفعولا ثانيا ليعدهم أو مفعولا من أجله أي لأجل الغرور أو مصدرا على غير الصدر لتضمين يعدهم معنى يعزهم ويكون ثم وصف محذوف أي إلا غرورا واضحا أو نحوه أو نعتا لمصدر محذوف على حذف مضاف أي وعدا ذا غرور
{ محيصا } المحيص مفعل من حاص يحيص إذا زاغ بنفور.
[4.122-126]
{ والذين } مبتدأ وسندخلهم الخبر ويجوز أن يكون من باب الاشتغال أي وستدخل الذين آمنوا سندخلهم وانتصب وعد الله على أنه مصدر مؤكد لنفسه. وانتصب حقا على أنه مصدر مؤكد لغيره فوعد الله مؤكد لقوله: سندخلهم وحقا مؤكدا لوعد الله.
{ وعد الله حقا } لما ذكر أن وعد الشيطان هو غرور باطل ذكر أن هذا الوعد منه هو الحق الذي لا ارتياب فيه ولا شك في إنجازه.
{ قيلا } منصوب على التمييز. والقيل والقول بمعنى واحد. والاستفهام معناه النفي أي لا أحد أصدق قولا من الله تعالى، وهي جملة مؤكدة أيضا لما قبلها، وفائدة هذا التوكيد المبالغة في ما أخبر به تعالى عباده المؤمنين بخلاف مواعيد الشيطان وأمانيه الكاذبة.
{ ليس بأمانيكم } ضمير الخطاب قيل: للكفار مطلقا، وقيل: لأهل الكتاب وللمشركين واسم ليس فيما نختاره ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله: سندخلهم، أي ليس دخول الجنة بأمانيكم، وقيل: اسم ليس ضمير يعود على وعد الله المؤمنين بدخول الجنة. وقرىء بأمانيكم بتخفيف الياء فيهما.
و { من يعمل سوءا يجز به } قال الجمهور: اللفظ عام. والكافر والمؤمن يجازيان بالسوء يعملانه فمجازاة الكافر النار. ومجازاة المؤمن نكبات الدنيا. وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
" لما نزلت قلت يا رسول الله ما أشد هذه الآية جاءت قاصمة الظهر فقال صلى الله عليه وسلم: إنما هي المصيبات في الدنيا "
وقرىء شاذا ولا يجد بالرفع وهو استئناف اخبار ليس داخلا في جزاء الشرط.
{ ومن يعمل } الآية، من الأولى للتبعيض، ومن الثانية في قوله: من ذكر، لتبيين الحاصل في قوله: ومن يعمل ومن ذكر أو أنثى تفصيل للعامل. { وهو مؤمن } جملة حالية قيد في عمل الصالحات إذ لا ينفع عمل صالح إلا بالإيمان. { فأولئك } جواب للشرط وروعي معنى من فلذلك جاء جمعا. وقرىء يدخلون مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول وكذا في سورة " مريم " وأولي غافر. { ولا يظلمون نقيرا } ظاهره أنه يعود إلى أقرب مذكور وهم المؤمنون ويكون حكم الكفار كذلك إذ ذكر أحد الفريقين يدل على الآخر إذ كلاهما مجزي بعمله، والفتيل تقدم.
{ ومن أحسن } استفهام معناه النفي أي لا أحد أحسن.
{ دينا } منصوب على التمييز.
{ وجهه } كني به عن الإنسان إذ كان أشرف الأعضاء. ومعنى أسلم لله: أي إنقاد لأمره وشرعه.
{ وهو محسن } جملة حالية مؤكدة.
وانتصب: { حنيفا } قيل: على أنه حال من إبراهيم، وقيل: حال من ملة، لأنه بمعنى الدين. والذي نختاره أنه حال من الضمير المستكن في اتبع أي واتبع ملة إبراهيم في حال كونه حنيفا أي مائلا عن العقائد الفاسدة والشرائع الباطلة.
{ واتخذ الله إبراهيم خليلا } هذا مجاز عن اصطفائه واختصاصه بكرامة نشبه كرامة الخليل عند خليله واتخذ هنا تعدت لمفعولين.
و { ولله ما في السموت وما في الأرض } لما تقدم ذكر عامل السوء وعامل الصالحات أخبر تعالى بعظيم ملكه، وملكه لجميع ما في السماوات وما في الأرض، والعالم مملوك له وعلى المملوك طاعة مالكه.
[4.127]
{ ويستفتونك في النسآء } الآية، سبب نزولها أن قوما من الصحابة سألوا عن أمر النساء وأحكامهن في المواريث وغير ذلك ولما كان النساء مطرحا أمرهن عند العرب في الميراث وغيره وكذلك اليتامى أكد الحديث فيهن مرارا ليرجعوا عن أحكام الجاهلية. وتقوم في صدر السورة شيء من أحكام النساء والمواريث وعادة العرب إذا ذكرت شيئا أن تستطرد إلى شيء آخر ثم ترجع إلى الأول والاستفتاء: طلب الفتيا وهو ما يتضح به الحكم المطلوب، والاستفتاء ليس في ذوات النساء وإنما هو عن شيء من أحكامهن ولم يبين فهو مجمل. ومعنى يفتيكم فيهن: يبين لكم حال ما سألتم عنه وحكمه. وعن عائشة رضي الله عنها قيل: نزلت هذه الآية يعني
وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى
[النساء: 3] أولا، ثم سأل ناس بعدها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر النساء فنزلت: { ويستفتونك في النسآء قل الله يفتيكم فيهن }. وفي إعراب ما في قوله: وما يتلى عليكم، جوزوا وجوها منها الرفع عطفا على لفظة الله وعطفا على الضمير المستكن في يفتيكم وعلى الابتداء وخبره محذوف تقديره في يتامى النساء يبين لكم. وقيل: الخبر في الكتاب وجوزوا في ما النصب تقديره ويبين لكم ما يتلى عليكم وجوزوا أحكامهن في ما أيضا الجر من وجهين، أحدهما: أن تكون الواو للقسم، وقاله الزمخشري. والثاني: أن يكون معطوفا على الضمير المجرور في فيهن، وقاله محمد بن أبي موسى، وهو الذي نختاره وإن كان لا يجيزه البصريون إلا في الشعر. وقد أجازه الكوفيون في الكلام وقد استدللنا على صحة مذهبهم عند الكلام على قوله:
وكفر به والمسجد الحرام
[البقرة: 217].
قال الزمخشري: ليس بسديد ان بعطف على المجرور في فيهن لاختلاله من حيث اللفظ والمعنى. " انتهى ". الذي اختاره هذا الوجه وإن كان مذهب جمهور البصريين إن ذلك لا يجوز إلا في الشعر وقد ذكرت دلائل الجواز عند قوله:
وكفر به والمسجد الحرام
[البقرة: 217]. وليس مختلا من حيث اللفظ لأنا قد استدللنا على جواز ذلك ولا من حيث المعنى كما زعم الزمخشري بل المعنى عليه ويكون على تقدير حذف أي يفتيكم في متلوهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء. وحذف لدلالة قوله: وما يتلى عليكم في الكتاب. وإضافة متلو إلى ضميرهن سائغة إذ الإضافة تكون بأدنى ملابسة لما كان متلوا فيهن صحت الاضافة إليهن، كما جاء:
بل مكر اليل والنهار
[سبأ: 33]، لما كان المكر يقع فيهما صحت الإضافة إليهما. ومن ذلك قول الشاعر:
إذا كوكب الخرقاء لاح بسمرة
وأما قول الزمخشري: لاختلاله في اللفظ والمعنى فهو قول الزجاج بعينه. قال الزجاج: وهذا بعيد بالنسبة إلى اللفظ وإلى المعنى، أما اللفظ فإنه يقتضي عطف المظهر على المضمر وذلك غير جائز كما لم يجز في قوله:
تسآءلون به والأرحام
[النساء: 1]، وأما المعنى فإنه تعالى أفتى في تلك المسائل وتقدير العطف على الضمير يقتضي أنه أفتى فيما يتلى عليكم في الكتاب. ومعلوم أنه ليس المراد ذلك، وإنما المراد أنه تعالى يفتي فيما سألوه من المسائل. " انتهى كلامه ".
وقد بينا صحة المعنى على تقديره ذلك المحذوف والرفع على العطف على الله أو على ضميره يخرجه عن التأسيس وعلى الابتداء تخرج الجملة بأسرها عن التأسيس وكذلك الجر على القسم، والنصب بإضمار فعل، والعطف على الضمير يجعله تأسيسا، وإذا دار الأمر بين التأسيس والتأكيد كان حمله على التأسيس أولى ولا يذهب إلى التأكيد إلا عند إتضاح عدم التأسيس.
قال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق قوله: في يتامى النساء؟ قلت: في الوجه الأول هو صلة يتلى عليكم في معناهن ويجوز أن يكون في يتامى الناس بدلا من فيهن، وإما في الوجهين الأخيرين فبدل لا غير. " انتهى كلامه ".
ويعني بقوله: في الوجه الأول أن يكون وما يتلى في موضع رفع فاما ما أجازه في هذا الوجه من أنه يكون صلة يتلى، فلا يتصور إلا إن كان في يتامى بدلا من في الكتاب، أو تكون في للسبب لئلا يتعلق حرفا جر بمعنى واحد بفعل واحد، وهو لا يجوز إلا إن كان على طريقة البدل أو بالعطف. واما ما أجازه في هذا الوجه أيضا من أن في يتامى النساء بدل من فيهن فالظاهر أنه لا يجوز للفصل بين البدل والمبدل منه بالعطف. ونظير هذا التركيب: زيد يقيم في الدار، وعمرو في كسر منها، ففصلت بين في الدار وبين في كسر منها بالعطف والتركيب المعتود زيد يقيم في الدار في كسر منها وعمرو.
وقال الزمخشري: فإن قلت: الإضافة في يتامى النساء ما هي؟ قلت: إضافة بمعنى من كقولك: عندي سحق عمامة. " انتهى ". الذي ذكره النحويون أن الإضافة التي هي بمعنى من هي إضافة الشيء إلى جنسه كقولك: خاتم حديد، وثوب خز، وخاتم فضة، ويجوز الفصل واتباع الجنس لما قبله ونصبه عمامه وجره والذي يظهر في يتامى النساء وفي سحق عمامة انها إضافة على معنى اللام ومعنى اللام الاختصاص وقرن في يتامى النساء بياءين أصله أيامي جميع أيم فأبدلت الهمزة ياء. والأيم من زوج لها.
ومعنى ما كتب لهن.
قال ابن عباس وغيره: هو الميراث. وقال آخرون: هو الصداق. والمخاطب بقوله: لا تؤتونهن أولياء المرأة، كانوا يأخذون صدقات النساء ولا يعطونهن شيئا. وقيل: أولياء اليتامى كانوا يتزوجون اليتامى اللواتي في حجورهم ولا يعدلون في صدقاتهن.
{ وترغبون أن تنكحوهن } عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يأخذ الناس بالدرجة الفضلى في هذا المعنى فكان إذا سأل الولي عن وليته فقيل: هي غنية جميلة.
قال له: اطلب لها من هو خير منك وأعود عليها بالنفع. وإذا قيل له: فقيرة ذميمة. قال له: أنت أولى بها وبالستر عليها من غيرك.
{ والمستضعفين من الولدن } معطوف على في يتامى النساء. وذلك أن العرب كانت لا تورث الصبية ولا الصبي الصغير ولا المرأة وكان الكبير ينفرد بالمال. وكانوا يقولون: إنما يرث من يحمي الحوزة ويرد الغنيمة ويقاتل عن الحريم، ففرض الله تعالى لكل أحد حقه.
{ وأن تقوموا } الظاهر أنه في موضع جر، أي وفي قيامكم.
{ لليتمى بالقسط } وهو العدل والذي تلى في هذا المعنى قوله تعالى:
ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم
[النساء: 2]. وجوز الزمخشري أن تكون في موضع نصب بمعنى ويأمركم أن تقوموا، وفي ري الظمآن أنه في موضع رفع على الابتداء والخبر محذوف تقديره وقيامكم لليتامى بالقسط خير.
{ وما تفعلوا من خير } ما شرطية مفعولة بفعل الشرط كأنه قال: وأي شيء تفعلوا ومن خير تبيين لما أبهم في لفظة ما.
[4.128-130]
{ وإن امرأة خافت } نزلت في أبي السنابل بن بعكك وامرأته. وقيل: في غيره. والنشوز تقدم شرحه وشيء من أحكامه في صدر هذه السورة والاعراض دون النشوز، وقرىء أن يصلحا من أصلحا، وقرىء يصالحا أصله يتصالحا فأدغم التاء في الصاد. وقرأ ابن مسعود إن أصلحا جعل ان شرطية والصالحا فعلا ماضيا.
{ وأحضرت الأنفس الشح } هذا من باب المبالغة جعل الشح كأنه شيء معد في مكان وأحضرته الأنفس وسيقت إليه ولم يأت واحضر شح الأنفس فيكون مسوقا إلى الأنفس بل الأنفس سيقت إليه لكون الشح مجبولا عليه الإنسان ومركوزا في طبيعته وذلك عام لا يخص في شيء.
{ وإن تحسنوا وتتقوا } قال الماتريدي: وإن تحسنوا في أن تعطوهن أكثر من حقهن وتتقوا في أن لا تنقصوا من حقهن شيئا أو ان تحسنوا في إيفاء حقهن والتسوية بينهن وتتقوا الجور والميل وتفضيل بعض على بعض. وختم آخر هذه بصفة الخبير: وهي علم ما يلطف إدراكه ويدق لأنه قد يكون بين الزوجين من خفايا الأمور ما لا يطلع عليه إلا الله تعالى ولا يظهر أن ذلك لأحد. وكان عمران بن حطان الخارجي من آدم بني آدم وامرأته من أجملهم فأجالت في وجهه نظرها يوما ثم تابعت الحمد لله، فقال مالك: قالت حمدت الله تعالى على أني وإياك من أهل الجنة. قال: كيف؟ قالت: لأنك رزقت مثلي فشكرت ورزقت مثلك فصبرت، وقد وعد الله عباده الشاكرين والصابرين الجنة.
{ ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النسآء } الآية، نبه تعالى على انتفاء استطاعة العدل بين النساء والتسوية حتى لا يقع ميل البتة ولا زيادة ولا نقصان فيما يجب لهن وفي ذلك عذر للرجال فيما يقع من التفاوت في الميل القلبي والتعهد والنظر والتأنيس والمفاكهة فإن التسوية في ذلك محال خارج عن حد الاستطاعة أو بالغ من الصعوبة جدا يكاد يكون كالمحال هذا إذا كن كلهن محبوبات وعلق انتفاء الاستطاعة في التسوية على تقدير وجود الحرص في الانسان على ذلك وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه فيعدل ويقول:
" هذه قسمتي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما تملك ولا أملك يعني المحبة ، لأن عائشة رضي الله عنها كانت أحب إليه رضي الله عن أزواجه وآله وأصحابه أجمعين ".
{ كالمعلقة } المعلقة هي التي ليست مطلقة ولا ذات بعل. قال الزاجر: هل هي الا حظة أو تطليق أو صلف أو بين ذاك تعليق. وفي حديث أم زرع زوجي العشنق ان انطق اطلق وان أسكت أعلق. شبهت المرأة بالشيء المعلق من شيء لأنه لا على الأرض استقر ولا على ما علق منه.
{ وإن يتفرقا } الضمير يعود على الزوجين وقرأ زيد بن أفلح وإن يتفارقا بألف الفاعلة والمعنى رضي كل واحد منهما بالفراق من صاحبه وقيل ذلك هو بالإطلاق قيل ولا مدخل للنساء في الطلاق وأجيب بأنها لما كانت سببا للطلاق بمشاقتها الزوج وسوء عشرتها نسب التفرق إليهما.
{ يغن الله كلا } حذف المضاف من كل والمعنى كل واحد من الزوجين والظاهر في الغنى أنه غنى المال وكان الحسن بن علي رضي الله عنهما فيما رووا طلقة ذوقة فقيل له في ذلك، فقال: إني رأيت الله تعالى علق الغني بأمرين فقال:
وأنكحوا الأيامى
[النور: 32] الآية، وقال: { وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته }.
[4.131-134]
{ ولقد وصينا } الآية، وصيا أمرنا أو عهدنا إليهم وإليكم.
و { من قبلكم } يحتمل أن يتعلق بأوتوا وهو الأقرب أو بوصينا، والمعنى أن الوصية بالتقوى هي سنة الله سبحانه وتعالى مع الأمم السابقة.
{ وإياكم } ضمير منفصل منصوب معطوفا على الذين وفي الممتحنة يخرجون الرسول وإياكم قدم الموصول على الضمير لتقدمه في الزمان وقدم في الممتحنة لشرف الرسول ومثل هذا فصيح في الكلام، نحو: رأيت زيدا، وإياك ومن خص ذلك بالشعر كابن عصفور والآبدي فهو واهم.
و { أن اتقوا } يحتمل أن تكون مصدرية أي بأن اتقوا الله، وأن تكون مفسرة التقدير أي اتقوا الله.
{ وكان الله غنيا } أي عن خلقه وعن عبادتهم لا تنفعه طاعتهم ولا يضره كفرهم.
{ حميدا } أي مستحقا لأن يحمد لكثرة نعمه وإن كفرتموه أنتم.
{ وكفى بالله } الباء زائدة في فاعل كفى ولذلك سقطت في قول الشاعر:
كفى الشيب والإسلم للمرء ناهيا
فإن كانت كفى بمعنى وقى، فلا تزاد الباء في فاعلها كقوله تعالى:
وكفى الله المؤمنين القتال
[الأحزاب: 25]، أي وقاهم. فلا يجوز في الكلام كفى بالله المؤمن الشر. { أيها الناس } عام يدخل على قدرة الله تعالى في إذهاب من شاء وإتيان من شاء وقد خصه قوم بمن كان يعادي رسول الله صلى الله عليه وسلم من العرب وغيرهم { ويأت بآخرين } أي بناس آخرين غيركم. ومدلول آخر أن يكون من جنس ما قبله، نحو: رأيت زيدا وآخر فلا يكون آخر من غير جنس زيد ولو قلت: اشتريت فرسا وآخر، لم يكن آخر إلا من جنس الفرس. وأجاز الزمخشري وابن عطية في قوله: بآخرين أن يكونوا من غير جنس الناس وهو خطأ لأن غير تقع على المغايرة في جنس أو وصف وآخر لا تقع إلا على المغايرة من الجنس.
[4.135-139]
{ يأيها الذين آمنوا } الآية، قيل: نزلت في اختصام غني وفقير عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ قومين } صفة مبالغة في القيام.
{ بالقسط } وهو العدل.
{ ولو على أنفسكم } أي تشهدون على أنفسكم أي تقرون بالحق وتقيمون القسط عليها وانتصب شهداء على أنه خبر بعد خبر ومجيء لو هنا لاستقصاء جميع ما تمكن فيه الشهادة لما كانت الشهادة من الانسان على نفسه بصدد أن لا يقيمها لما جبل عليه المرء من محاباة نفسه ومراعاتها نبه على هذه الحال وجاء هذا الترتيب في الاستقصاء في غاية من الحسن والفصاحة. فبدأ بقوله: ولو على أنفسكم لأنه لا شيء أعز على الإنسان من نفسه ثم ذكر الوالدين وهما أقرب إلى الإنسان وسبب نشأته، وقد أمر ببرهما وتعظيمهما والحوطة لهما، ثم ذكر الأقربين وهم فطنة المحبة والتعصب وإذا كان هؤلاء أمر بالقيام في حقهم بالقسط والشهادة عليهم فالأجنبي أحرى بذلك. ويتعلق قوله: على أنفسكم، بمحذوف لأن التقدير وإن كنتم شهداء على أنفسكم فكونوا شهداء لله، هذا تقدير الكلام. وقال ابن عطية: ولو على أنفسكم متعلق بشهداء. " انتهى ".
إن عنى بشهداء هذا الملفوظ به فلا يصح ذلك وإن عنى الذي قدرناه نحن فيصح.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى وإن كانت الشهادة وبالا على أنفسكم أو على آبائكم وأقاربكم وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره. " انتهى ".
وما قاله لا يجوز لأن ما تعلق به الظرف كون مقيد ولا يجوز حذف الكون المقيد. لو قلت: كان زيد فيك، وأنت تريد محبا فيك، لم يجز لأن محبا كون مقيد وإنما ذلك جائز في الكون المطلق وهو تقدير كائن أو مستقر.
{ إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما } أي إن يكن المشهود عليه غنيا فلا يمتنع من الشهادة عليه لغناه أو فقيرا فلا يمنعها ترحما عليه وإشفاقا فعلى هذا الجواب محذوف لأن العطف هو بأو ولا يثنى الضمير إذا عطف بها بل يفرد وتقدير الجواب فليشهد عليه ولا يراعي الغني لغناه أو لخوف منه ولا الفقير لمسكنته وفقره ويكون قوله: فالله أولى بهما، ليس هو الجواب بل لما جرى ذكر الغني والفقير عاد الضمير على ما دل عليه ما قبله، كأنه قيل: فالله أولى بجنس الغني والفقير، أي بالأغنياء والفقراء. وفي قراءة أبي: فالله أولى بهم ما يشهد بإرادة الجنس. وذهب الأخفش وقوم إلى أن أوفي معنى الواو فعلى قولهم يكون الجواب فالله أولى بهما حيث شرع الشهادة عليهما وهو أنظر لهما منكم ولولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرع.
{ وإن تلووا أو تعرضوا } الظاهر أن الخطاب للمأمورين بالقيام بالقسط والشهادة لله، والمنهيين عن اتباع الهوى. ومعنى وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها. وقرىء وان تلوا بضم اللام بواو واحدة.
{ فإن الله كان بما تعملون خبيرا } هذا فيه وعيد لمن لوى بالشهادة أو أعرض عنها.
{ يا أيها الذين آمنوا } الآية، خطاب للمؤمنين. ومعنى آمنوا داوموا على الإيمان. مناسبتها لما قبلها أنه لما أمر المؤمنين بالقيام بالقسط والشهادة لله بين أنه لا يتصف بذلك إلا من كان راسخ القدم في الإيمان بالأشياء المذكورة في هذه الآية فأمر بها.
{ إن الذين آمنوا } الآية، هي في المنافقين إذ هم المتلاعبون بالدين، فحيث لقوا المؤمنين قالوا: آمنا، وحيث لقوا أصحابهم قالوا: إنا مستهزؤن. ولذلك جاء بعده بشر المنافقين. الآية.
{ لم يكن الله ليغفر لهم } قال الزمخشري: نفي الغفران والهداية وهي اللطف على سبيل المبالغة التي تعطيها اللام، والمراد بنفيهما نفي ما يقتضيهما وهو الإيمان الثابت الخالص. " انتهى ". ظاهر كلامه أنه يقول بقول الكوفيين وهو أنهم يقولون إذا قلت: لم يكن زيد ليقوم أن خبر لم يكن هو قولك ليقوم، واللام للتأكيد زيدت في المنفي، والمنفي هو القيام، وليست ان مضمرة بل اللام هي الناصبة. والبصريون يقولون: النصب بإضمار ان وينسبك من أن المضمرة والفعل بعدها مصدر وذلك المصدر لا يصح أن يكون خبرا لأنه معنى المخبر عنه جثة ولكن الخبر محذوف واللام مقوية لتعدية ذلك الخبر إلى المصدر وأضمرت ان بعدها وصارت اللام كالعوض من أن المحذوفة ولذلك لا يجوز حذف هذه اللام ولا الجمع بينها وبين ان ظاهرة ومعنى قوله: والمراد بنفيهما نفي ما يقتضيهما ان المعنى لم يكونوا ليؤمنوا فيغفر لهم ويهديهم.
{ الذين يتخذون } الآية، الذين: خبر مبتدأ محذوف أو منصوب على الذم، كأنه قال: أذم الذين أو صفة لقوله المنافقين.
[4.140-143]
{ وقد نزل عليكم في الكتب } الظاهر أنه خطاب للمؤمنين الذي يجالسون المنافقين، ولذلك قال:
{ فلا تقعدوا معهم } نهوا عن القعود ولذلك جاء بعده إنكم إذا مثلهم وإن في قوله: إن إذا مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن محذوف تقديره انه، والجملة بعده الشرطية خبر ان وجوابه فلا تقعدوا وحتى غاية نهوا عن أن يقعدوا معهم إلا في وقت يخوضون في غير الكافر والاستهزاء، وإذا في قوله: إنكم إذا مثلهم، توسطت بين اسم ان وخبرها ومعناها معنى الشرط تقديره إنكم إن قعدتم معهم مثلهم.
{ إن الله جامع المنفقين } لما اتخذوهم في الدنيا أولياء جمع بينهم في الآخرة في النار والمرء مع من أحب وهذا توعد منه تعالى تأكد به التحذير من مخالطتهم ومجالستهم.
{ الذين يتربصون بكم } الآية، الاستحواذ، الاستيلاء والتغلب. ويقال: حاذ يحوذ حوذا وأحاذ، وكان القياس أن يقال: استحاذ، كما يقال: استطال، ولكنها شذت هذه اللفظة فصحت العين وهي الواو فلم تقلب الفا كما قلبت في استقام وأصله استقوم. ومعنى الآية الذين ينتظرون بكم ما يتجدد من الأحوال من ظفر لكم أو بكم.
{ فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم } مظاهرين والمعنى فأسهموا لنا بحكم انا مؤمنون.
{ وإن كان للكافرين } أي اليهود.
{ نصيب } أي نيل من المؤمنين.
{ قالوا ألم نستحوذ عليكم } أي ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم وأسركم وابقينا عليكم.
{ ونمنعكم من المؤمنين } بأن ثبطناهم عنكم فأسهموا لنا بحكم انا نواليكم فلا نؤذيكم ولا نترك أحدا يؤذيكم.
{ فالله يحكم بينكم } يحتمل أن يكون ثم معطوف محذوف تقديره وبينهم ويحتمل أن لا عطف ويكون قوله بينكم شاملا للمؤمنين والكفار، وغلب فيه الخطاب. وقوله: سبيلا، يعني في الآخرة، وقيل: سبيلا أي استيلاء على بيضة الإسلام في الدنيا ومعنى هو خادعهم أي منزل الخدع بهم وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب فعقوبتهم في الدنيا ذلهم وخوفهم، وفي الآخرة عذاب جهنم. وقرىء خادعهم بسكون العين.
و { كسالى } جمع كسلان وفعلان، هذا يجمع على فعالى كهذا وعلى فعالى كغضبان وغضابا. والكسل: الفتور عن الشيء والتواني فيه، وهو ضد النشاط. وقال بعضهم في ذم الفلاسفة: وما انتسبوا إلى الإسلام إلا لصون دمائهم ان لا تسألا، فيأتون المناكر في نشاط، ويأتون الصلاة وهم كسالى.
وانتصب قليلا على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره إلا ذكرا قليلا، قال الزمخشري: يجوز أن يراد بالقلة العدم. " انتهى ". لا يجوز أن يراد به هنا العدم لأن الاستثناء يأباه وقد رددنا هذه القول عليه وعلى ابن عطية في هذه السورة.
{ مذبذبين } أي مقلقين.
{ بين ذلك } أي بين الإيمان والكفر وذلك هو اسم إشارة مفرد وقد يشار به إلى اثنين، كما قال: عوان بين ذلك، أي بين الفارض والبكر.
قال لبيد: ان للشر وللخير مدى. وكلا ذلك وجه وقبل أي كلا ذينك أي الشر والخير. وقرىء مذبذبين بكسر الذال الثانية اسم فاعل أي مذبذبين أنفسهم. وقرىء مذبذبين اسم فاعل من تذبذب أي اضطراب وقرأ الحسن البصري " مذبذبين " بفتح الميم والذالين.
قال ابن عطية: وهي قراءة مردودة. انتهى الحسن البصري من أفصح الناس يحتج بكلامه فلا ينبغي أن ترد قراءته، ولها وجه في العربية وهو انه اتبع حركة الميم لحركة الذال وإذا كانوا قد اتبعوا حركة الميم لحركة عين الكلمة في مثل منتن وبينهما حائز فلان يتبعوا بغير حاجز أولى، وكذلك اتبعوا حركة عين منفعل لحركة اللام في حالة الرفع، فقالوا: منحدر وهذا أولى، لأن حركة الاعراب ليست بثابتة بخلاف حركة الذال وهذا كله توجيه شذوذ على تقدير صحة النقل عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك بفتح الميم. والله تعالى أعلم. وانتصب مذبذبين على الحال، قيل: من فاعل يراءون، وقيل: من فاعل يذكرون، فتكون الذبذبة قيدا في المراءاة أو في الذكر والذبذبة وصف ثابت لهم فالأولى أن يكون انتصابه على الذم، كأنه قيل: أذم مذبذبين بين ذلك. وقال الشاعر:
ولا لحجاج عيني بيت ماء
كأنه قال: أذم عيني بيت ماء، ويتعلق إلى بمحذوف تقديره لا فسو بين إلى هؤلاء ولا فسو بين إلا هؤلاء وهو في موضع الحال.
[4.144-149]
قوله تعالى: { لا تتخذوا الكافرين } عام يشمل المنافقين كبني قريظة إذ كان بينهم وبين الأنصار حلف ورضاع ويشمل الكافرين من غيرهم.
وقوله: { من دون المؤمنين } يعني المهاجرين، ويكون: يا أيها الذين آمنوا، خطاب للأنصار وغيرهم من المؤمنين.
{ سلطانا مبينا } أي بموالاة الكفار.
{ في الدرك الأسفل من النار } قال ابن عباس: هي لأهل النار كالدرج لأهل الجنة إلا أن الدرجات بعضها فوق بعض والدركات بعضها أسفل من بعض. وقال: أبو عبيدة: الدركات الطبقات، وأصلها من الإدراك أي هي متداركة متلاحقة. وقرىء في الدرك بسكون الراء.
{ إلا الذين } استثناء من المنافقين.
{ تابوا } من النفاق.
{ وأصلحوا } أعمالهم وتمسكوا بالله وكتابه.
{ وأخلصوا دينهم لله } أي لا يبتغون بعمل الطاعات إلا وجه الله. ولما كان المنافق متصفا بنقائض هذه الأوصاف من الكفر وفساد الأعمال والموالاة للكافرين والإعتزاز بهم والمراءة للمؤمنين شرط في توبتهم ما يناقص تلك الأوصاف وهي التوبة من النفاق وهي الوصف المحتوي على بقية الأوصاف من حيث المعنى. ثم فصل ما أجمل فيها وهو الإصلاح للعمل المستأنف المقابل لفساد أعمالهم الماضية، ثم الاعتصام بالله في المستقبل وهو المقابل لمولاة الكافرين والاعتماد عليهم في الماضي، ثم الإخلاص للدين لله تعالى وهو المقابل للرياء الذي كان لهم في الماضي، ثم بعد تحصيل هذه الأوصاف جميعها أشار إليهم بأنهم مع المؤمنين ولم يحكم عليهم بأنهم المؤمنون ولا من المؤمنين، وإن كانوا قد صاروا مؤمنين تنفيرا لما كانوا عليه من عظم كفر النفاق وتفظيعا لحال من كان متلبسا به. ومع المؤمنين أي رفقاؤهم ومصاحبوهم.
{ وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما } أتى بسوف لأن إيتاء الأجر هو يوم القيامة وهو زمان مستقبل ليس قريبا من الزمان الحاضر، وقد قالوا: ان سوف أبلغ في التنفيس من السين، ولم يعد الضمير عليهم. فيقال: وسوف يؤتيهم بل أخلص ذلك الأجر للمؤمنين وهم رفقاؤهم يشاركونهم فيه ويساهمونهم.
{ ما يفعل الله بعذابكم } ما الاستفهامية في موضع نصب بيفعل تقديره أي شيء يفعل ومعناه النفي أي ما يعذبكم. وأجيز أن تكون ما نافية. والباء في بعذابكم زائدة.
{ إن شكرتم وآمنتم } قدم الشكر على الإيمان لأن العاقل ينظر ما عليه من النعمة العظيمة في خلقه، وتعريضه للمنافع فيشكر شكرا مبهما فإذا انتهى به النظر إلى معرفة المنعم آمن به ثم شكر شكرا مفصلا، فكان الشكر متقدما على الإيمان فكأنه أصل التكليف ومداره.
{ شاكرا } أي مثبتا موفيا أجوركم. وأتى في صفة الشكر باسم الفاعل بلا مبالغة ليدل على أنه يتقبل ولو أقل شيء من العمل وينميه.
{ عليما } بشكركم وإيمانكم فيجازيكم. وفي قوله: عليما، تحذير وندب إلى الإخلاص لله عز وجل.
{ لا يحب الله الجهر بالسوء } الآية، مناسبها لما قبلها هي أنه تعالى لما ذكر من أحوال المنافقين وذمهم وإظهار فضائحهم ما ذكر وبين ظلمهم واهتضامهم جانب المؤمنين، سوغ هنا للمؤمنين أن يذكروهم بما فيهم من الأوصاف الذميمة. وقال عليه السلام: اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس.
{ إلا من ظلم } هذا الاستثناء متصل على تقدير حذف مضاف أي الأجهر من ظلم. وقيل: الاستثناء منقطع فالتقدير لكن المظلوم له أن ينتصف من ظالمه بما يوازي ظلامته. وقيل: من فاعل بالمصدر وهو الجهر تقديره لا يحب الله أن يجهر بالسوء من القول إلا من ظلم أي إلا المظلوم فإنه تعالى لا يكره جهره بالسوء، وفيه أعمال المصدر معرفا بالألف واللام وهي مسألة خلاف، ومذهب سيبويه جواز ذلك. قال ابن عطية: وإعراب من يحتمل في بعض هذه التأويلات النصب ، ويحتمل الرفع على البدل من أحد المقدر. " انتهى ".
يعني بأحد المقدر في المصدر إذ التقدير أن يجهر أحد. وما ذكره من جواز الرفع على البدل لا يصح، وذلك لأن الاستثناء المنقطع على قسمين: قسم يسوغ فيه البدل وهو ما يمكن توجه العامل عليه نحو: ما في الدار أحد إلا حمار، فهذا فيه البدل في لغة تميم والنصب على الاستثناء المنقطع في لغة الحجاز وإنما جاز فيه البدل لأنك لو قلت: ما في الدار إلا حمار، صح المعنى. وقسم، يتحتم فيه النصب على الاستثناء ولا يسوغ فيه البدل وهو ما لا يمكن توجه العامل عليه نحو: المال ما زاد إلا النقص، التقدير لكن النقص حصل له، فهذا لا يمكن أن يتوجه زاد على النقص لأنك لو قلت: ما زاد إلا النقص لم يصح المعنى. والآية، من هذا القسم لأنك لو قلت: لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا الظالم، فتفرغ أن يجهر لأن يعمل في الظالم لم يصح المعنى.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون من مرفوعا كأنه قيل: لا يحب الله أن يجهر بالسوء إلا الظالم، على لغة من يقول: ما جاءني زيد إلا عمرو، بمعنى ما جاءني إلا عمرو. ومنه: قل لا يعلم من في السماوات والأرض العتيب إلا الله. " انتهى ".
وهذا الذي جوزه الزمخشري لا يجوز لأنه لا يمكن أن يكون الفاعل يذكر لغوا زائدا ولا يمكن أن يكون الظالم بدلا من الله ولا عمرو بدلا من زيد لأن البدل في هذا الباب راجع إلى كونه بدل بعض من كل، اما على سبيل الحقيقة نحو: ما قام القوم إلا زيد، وأما على سبيل المجاز نحو: ما في الدار أحد إلا حمار، وهذا لا يمكن فيه البدل المذكور لا على سبيل الحقيقة ولا على سبيل المجاز لأن الله عليم وكذا زيد هو زيد فلا يمكن أن يتخيل فيه عموم فيكون الظالم بدلا من الله، وعمرو بدلا من زيد.
وأما ما يجوز فيه البدل من الاستثناء المنقطع فإنه يتخيل فيما قبله عموم ولذلك صح البدل منه على طريق المجاز وإن لم يكن بعضا من المستثنى منه حقيقة. وأما قول الزمخشري: على لغة من يقول: ما جاء في زيد الا عمرو بمعنى ما جاءني إلا عمرو فلا نعلم هذه اللغة إلا أن في كتاب سيبويه بعد أن أنشد أبياتا من الاستثناء المنقطع آخرها قوله الشاعر:
عشية لا تغني الرماح مكانها
ولا النبل إلا المشرفي المصمم
ما نصه. وهذا يقوي: ما أتاني زيد إلا عمرو، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه، لأنها معارف ليست الأسماء الأخيرة بها ولا منها. وانتهى كلام سيبويه ولم يصرح ولا لوح أن قوله: ما أتاني زيد إلا عمرو، من كلام العرب. وقال: من شرح كلامه فهذا يقوي: ما أتاني زيد إلا عمرو أن ينبغي ان يثبت هذا من كلامهم لأن النبل معرفة ليس بالمشرفي، كما أن زيد ليس بعمرو، وكما ان اخوة زيد ليسوا اخوانك. " انتهى ".
وليس ما أتاني زيد إلا عمرو ونظير البيت لأنه يتخيل عموم في البيت على سبيل المجاز كأنه قال: لا يغني السلاح مكانها إلى المشرفي، بخلاف ما أتاني زيد إلا عمرو، فإنه لا يتخيل في ما أتاني زيد عموم البتة على أنه لو سمع هذا من كلام العرب وجب تأويل حتى يصح البدل فكان بقدر: ما جاءني زيد ولا غيره إلا عمرو. وكان بدل على حذف المعطوف وجود هذا الاستثناء اما أن يكون على إلغاء الفاعل وزيادته أو على كون عمرو بدلا من زيد فإنه لا يجوز لما ذكرناه. وأما قول الزمخشري: ومنه قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله، فليس من باب ما ذكر لأنه يحتمل أن تكون من مفعوله والغيب بدلا من من بدل اشتمال أي لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلا الله أي ما يسرونه وما يخفونه لا يعلمه إلا الله وإن سلمنا أن من مرفوعة فيجوز أن يكون الله بدلا من من على سبيل المجاز في من لأن في السماوات يتخيل فيه عموم كأنه قيل : قل لا يعلم الموجودون الغيب إلا الله، أو على سبيل المجاز في الظرفية بالنسبة إلى الله تعالى إذ جاء ذلك عنه في القرآن في السنة كقوله تعالى:
وهو الله في السموت وفي الأرض
[الأنعام: 3].
وهو الذي في السمآء إله وفي الأرض إله
[الزخرف: 84]. وفي الحديث: أين الله قالت في السماء. ومن كلام العرب: لا وذو في السماء بيته، يعنون الله تعالى. وإذا احتملت الآية هذه الوجوه لم يتعين حملها على ما ذكر.
{ أو تخفوه } الظاهر أن الهاء في تخفوه تعود على الخبر. قال ابن عباس: يريد من أعمال البر كالصيام والصدقة.
[4.150-154]
{ إن الذين يكفرون } قيل: نزلت في اليهود والنصارى وجعل إيمانهم ببعض وكفرهم ببعض كفرا بالله ورسوله. وقوله:
{ بين ذلك } أي بين الإيمان والكفر. والجملة من قوله:
{ أولئك هم } وما بعدها خبر لأن والأفعال التي قبل ذلك صلات للذين. بدأ أولا بأشنعها وهو الكفر بالله ورسله إذ هم متظاهرون بذلك، ثم الاعتقاد القلبي وهو إرادة التفريق بين الله ورسله، ثم التلاعب بالذين في كونهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. وانتصب حقا على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره كفرا حقا. ويجوز في إعراب هم أن يكون مبتدأ والكافرون خبر. ويجور أن يكون هم فصلا والكافرون خبر عن أولئك ويجوز أن يكون بدلا من أولئك والبدل من المبتدأ مبتدأ فيكون الكافرون خبرا عن لفظ هم. ويجوز أن ينتصب حقا على أنه توكيد لمضمون الجملة والعامل محذوف تقديره أحق ذلك حقا. لما تقدم ذكر الكافرين ذكر مقابليهم وهم المؤمنون وذكر ما أعد لهم كما ذكر ما أعد للكافرين. وختم آية المؤمنين بقوله: غفورا رحيما أي غفورا لمن يقع منه بعض زلل، رحيما لكونه لا يؤاخذهم.
{ يسألك أهل الكتاب } عام في اليهود والنصارى. وقيل: خاص باليهود وسؤالهم سؤال تعنت. ولذلك قالوا: ان تنزل، والتنزيل إنما هو لله تعالى وقد نزل عليهم أشرف الكتب وأعظمها وهو القرآن.
{ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك } وقدروا قبل هذا كلاما محذوفا. فجعله الزمخشري شرطا هذا جوابه وتقديره فإن استكبرت ما سألوه منك فقد سألوا موسى أكبر من ذلك. وقدره ابن عطية فلا تبال يا محمد عن سؤالهم وتشطيطهم فإنها عادتهم، فقد سألوا موسى. وأسند السؤال إليهم وإن كان إنما وقع من آبائهم من نقبائهم السبعين لأنهم راضون بفعل آبائهم ومذاهبهم ومشابهون لهم في التعنت. وقرىء أكثر بالثاء مكان الباء. وتقدم تفسير باقي الآية في البقرة. والباء في قوله: فبما نقضهم تتعلق بمحذوف، فقدره الزمخشري فعلنا بهم ما فعلنا، وقدره ابن عطية لعناهم وذللناهم. وجوزوا أن تتعلق بقوله: جعلنا عليهم، على أن قوله:
فبظلم من الذين هادوا
[النساء: 160]، بدل من قوله:
فبما نقضهم ميثاقهم
[النساء: 155]، وقاله الزجاج وأبو بكر والزمخشري وغيره. وهذا فيه بعد لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه ولأن المعطوف على السبب سبب فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم في الوقت عن وقت التحريم فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو سببا إلا بتأويل بعيد. وبيان ذلك أن " قولهم على مريم بهتانا عظيما وقولهم انا قتلنا المسيح " متأخر في الزمان عن تحريم الطيبات عليهم، فالأولى أن يكون التقدير لعناهم. وقد جاء مصرحا به في قوله:
فبما نقضهم ميثاقهم
[النساء: 155] لعناهم.
[4.155-158]
قال ابن عطية: وحذف جواب هذا الكلام بليغ متروك مع ذهن السامع. انتهى تسمية ما يتعلق به المجرور بأنه جواب اصطلاح لم يعهد في علم النحو ولا تساعده اللغة لأنه ليس بجواب. والظاهر في قوله: ويكفرهم، وقولهم: انه معطوف على قوله: فبما نقضهم، وما بعده على أن الزمخشري أجاز أن يكون قوله: وبكفرهم. وقولهم معطوفا على بكفرهم وتكرر نسبة الكفر إليهم بحسب متعلقاته إذ كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فعطف بعض كفرهم على بعض. قال الزمخشري: أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه كأنه قيل فبجمعهم بين نقض الميثاق والكفر بآيات الله وقتل الأنبياء، وقولهم قلوبنا غلف، وجمعهم بين كفرهم وبهتهم مريم وافتخارهم بقتل عيسى عاقبناهم أو بل طبع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم وكذا وكذا.
وقال الزمخشري أيضا: فإن قلت: هلا زعمت أن المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله: بل طبع الله عليها، بكفرهم فيكون التقدير فبما نقضهم ميثاقهم طبع الله على قلوبهم بل طبع الله عليها بكفرهم.
قلت: لم يصح هذا التقدير لأن قوله: بل طبع الله عليها بكفرهم، ردوا إنكار لقولهم: قلوبنا غلف، فكان متعلقا به " انتهى ". وهو جواب حسن ويمتنع من وجه آخر وهو أن العطف ببل يكون للإضراب عن الحكم الأول وإثباته للثاني على جهة إبطال الأول أو الانتقال فاما في كتاب الله تعالى في الاخبار فلا يكون إلا للانتقال ويستفاد من الجملة الثانية ما لا يستفاد من الأولى، والذي قدره الزمخشري لا يسوغ فيه هذا الذي قدرناه لأن قوله: فبما نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وقولهم قلوبنا غلف، بل طبع الله على قلوبهم. هو مدلول الجملة التي صحبتها بل وهو قوله: { بل طبع الله عليها بكفرهم }. فأفادت الجملة الثانية ما أفادت الجملة الأولى وهو لا يجوز لو قلت: مر زيد بعمرو بل مر زيد بعمرو لم يجز. وقد أجاز ذلك أبو البقاء وهو أن يكون التقدير فبما نقضهم ميثاقهم وكذا وكذا طبع الله على قلوبهم، وقيل: التقدير فبما نقضهم ميثاقهم لا يؤمنون إلا قليلا والفاء مقحمة وما في قوله: فبما، كهي في فبما رحمة، وتقدم الكلام عليها. والبهتان العظيم هو رميها عليها السلام بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى عليه السلام في المهد، وقولهم رسول الله هو على سبيل الاستهزاء منهم. كقول فرعون: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون. وفي الكلام حذف تقديره وصلبناه ولذلك نفاه في قوله تعالى: { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم } وهذا إخبار منه تعالى بأنهم ما قتلوا عيسى ولا صلبوه.
واختلف الرواة في كيفية القتل والصلب وفيمن ألقي الشبه عليه اختلافا كثيرا. ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء وشبه مبني للمفعول، ولهم في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله، والذي نعتقده أن المشبه هو الملك الممخرق الذي كان في زمان عيسى عليه السلام لما رفعه الله تعالى إليه وفقدوه أخرج شخصا وقال لهم: هذا عيسى فقتله وصلبه، قيل: ولا يجوز أن يعتقد أن الله تعالى ألقى شبه عيسى عليه السلام على واحد منهم لأن ذلك تطرف إلى السفسطة كما ادعى بعض الجهال في الشيخ القرشي وكان شيخا مخدوما انه إذا أراد أن يخلو بامرأته للوطىء برز لها في صورة شاب أمرد حسن الصورة.
وحكي لنا عن بعض من كان تولى مشيخة الصوفية بخانقاه سعيد السعداء بالقاهرة أنه تكلم مع بعض العلماء في أنه يكون في الآن الواحد بشكله وصورته في مكان واحد ثم يكون بشكله وصورته في ذلك الآن في مكان آخر وعند هؤلاء المنتمين للتصوف من المكابرات وتجويز المستحيلات والابهامات شيء كثير.
{ وإن الذين اختلفوا فيه } الضمير قيل: عائد على اليهود. واختلافهم فيه هو قولهم انه ليس برسول وأنه ليس لرشده. والظاهر أنه عائد على النصارى واختلافهم فيه أن بعضهم يقول: قتل وصلب، وبعضهم يقول: قتل ناسوته لا لاهوته، وبعضهم يقول: لم يقتل ولم يصلب. واليقين الذي صح فيه نقل الكافة عن حوابسها أو أن شخصا صلب واما هل هو عيسى أم لا فليس من علم الحواس. { إلا اتباع الظن } استثناء منقطع إذ اتباع الظن ليس مندرجا تحت قوله: من علم.
وقال ابن عطية: هو استثناء متصل إذ الظن والعلم يضمهما جنس أنهما من معتقدات اليقين وقد يقول الظان على سبيل التجوز علمي في هذا الأمر أنه كذا وهو يعني ظنه. " انتهى ".
وليس كما ذكر من أن الظن والعلم يضمهما جنس انهما من معتقدات اليقين لأن الظن ليس من معتقدات اليقين لأن ترجيح أحد الجائزين وما كان ترجيحا فهو منافي اليقين كما ان اليقين ينافي ترجيح أحد الجائزين وعلى تقدير ان الظن والعلم يضمهما ما ذكر فلا يكون أيضا استثناء متصلا لأنه لم يستثن الظن من العلم فليست التلاوة ما لهم به من علم الا اتباع الظن وإنما التلاوة إلا اتباع الظن والاتباع للظن لا يضمه والعلم جنس ما ذكر. والظاهر ان الضمير في: { وما قتلوه } ، عائد على عيسى. وانتصب يقينا على أنه مصدر في موضع الحال، أو نعت لمصدر محذوف، أو بمعنى حقا يكون مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة ومن ذهب إلى أنه معمول لقوله: رفعه، فيكون فيه تقديم وتأخير. فقوله: خطأ لأن ما بعد بل لا يعمل فيما قبلها.
[4.159-162]
{ وإن من أهل الكتاب } ان هنا نافية والمخبر عنه محذوف قامت صفته مقامه التقدير وما أحد من أهل الكتاب كما حذف في قوله:
وإن منكم إلا واردها
[مريم: 71].
وقال الزمخشري: ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف تقديره وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به. ونحوه: وما منا إلا له مقام معلوم، وإن منكم إلا واردها. والمعنى وما من اليهود أحد إلا ليؤمنن به. " انتهى ". وهو غلط فاحش إذ زعم أن ليؤمنن به جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف إلى آخره، وصفة أحد المحذوف إنما هو الجار والمجرور وهو من أهل الكتاب، والتقدير كما ذكرناه وإن أحد من أهل الكتاب.
وأما قوله: ليؤمنن به. فليست صفة لموصوف ولا هي جملة قسمية كما زعم إنما هي جملة جواب القسم والقسم محذوف والقسم وجوابه في موضع خبر المبتدأ الذي هو أحد المحذوف إذ لا ينتظم من أحد والمجرور إسناد لأنه لا يفيد وإنما ينتظم الاسناد بالجملة القسمية وجوابها فذلك محط الفائدة، وكذلك أيضا الخبر هو الإله مقام، وكذا إلا واردها، إذ لا ينتظم مما قبل إلا تركيب إسنادي. والظاهر أن الضميرين في به وموته عائدان على عيسى وهو سياق الكلام والمعنى من أهل الكتاب الذين يكونون في زمن نزوله.
روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ليؤمن به حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام، قاله ابن عباس وغيره. وقال ابن عباس أيضا وجماعة: الضمير في به لعيسى وفي موته للكتابي قالوا وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ويعلم أنه نبي ولكن عند المعاينة للموت فهو إيمان لا ينفعه .
{ حرمنا عليهم طيبات } الطيبات ما ذكر تعالى في قوله:
وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر
[الأنعام: 146] الآية واحلت لهم. جملة في موضع الصفة لطيبات والمعنى كانت أحلت لهم، وانتصب كثيرا على أنه مفعول به أي ناسا كثيرا، وناصبه المصدر وهو قوله: وبصدهم. أو انتصب على أنه نعت لمصدر محذوف تقديره صدا كثيرا.
{ وقد نهوا عنه } جملة حالية تؤذن بتقبيح فعلهم إذ ما نهى تعالى عنه يجب أن يبعد منه قالوا: والربا محرم في جميع الشرائع. وقوله: بالباطل، هو الرشا التي كانوا يأخذونها على تغيير شرائعهم.
{ لكن الراسخون } الآية، مجيء لكن هنا في غاية الحسن لأنها داخلة بين نقيضين، وجوابهما وهما الكافرون والعذاب الأليم، والمؤمنون، والأجر العظيم، والراسخون الثابتون المتفننون المستبصرون منهم كعبد الله بن سلام وإضرابه.
{ والمؤمنون } يعني منهم، أو المؤمنون من المهاجرين والأنصار. والظاهر أنه عام فيمن آمن وارتفع الراسخون على الابتداء والخبر يؤمنون لا غير لأن المدح لا يكون إلا بعد تمام الجملة الأولى ومن جعل الخبر أولئك سنؤتيهم فقوله ضعيف.
وانتصب والمقيمين على المدح وارتفع والمؤتون أيضا على إضمار وهم على سبيل القطع إلى الرفع ولا يجوز أن يعطف على المرفوع قبله لأن النعت إذا قطع في شيء منه لم يعد ما بعده إلى إعراب المنعوت وهذا القطع لبيان فضل الصلاة والزكاة فكثر الوصف بأن جعل في جمل.
وقرىء: { والمقيمون } بالرفع عطفا على المرفوع قبله. قال ابن عطية: فرق بين الآية والبيت يعني بيت الخرنق وكان أنشده قبل وهو النازلين بكل معترك. والطيبون معاقد الأزر بحرف العطف الذي في الآية فإنه يمتنع عند بعضهم تقدير الفعل وفي هذا نظر. " انتهى ". إن منع ذلك أحد فهو محجوج بثبوته في كلام العرب مع حرف العطف ولا نظر في ذلك كما قال الشاعر:
ويأوي إلى نسوة عطل
وشعثا مراضيع مثل السعال
وذكر الزمخشري وغيره وجوها في أن والمقيمين في موضع جر عطفا على الضمير في منهم أي ومن المقيمين أو عطفا على ما في قوله: بما أنزل، أي وبالمقيمين أو عطفا على الضمير أي الكاف في أولئك أي وإلى المقيمين، أو عطفا على قلبك أي ومن قبل المقيمين أو عطفا على الكاف في قوله ومن قبلك وأجازوا فيمن قرأ والمقيمون بالرفع أن يكون في موضع خبر مبتدأ محذوف أو عطفا على الضمير المستكن في الراسخون أو على الضمير المستكن في المؤمنون أو على الضمير المستكن في تؤمنون وهذه أعاريب ينزه كتاب الله عنها ولا يحل اعتقاد شيء منها ولولا أن الزمخشري وابن عطية ذكراها وهما يدعى فيهما أنهما أجل من صنف في التفسير لما ذكرت ذلك.
[4.163-170]
{ إنآ أوحينآ إليك } جواب لأهل الكتاب عن سؤالهم رسول الله أن ينزل عليهم كتابا من السماء واحتجاج عليهم بأن شأنه في الوحي إليه كشأن سائر الأنبياء الذين سلفوا. والنبيين: جمع عام جرد منهم ما ذكره تعالى في قوله:
{ وأوحينآ إلى إبراهيم } تعظيما لهم وتنبيها على أنهم أشرف من غيرهم إذ كانوا أصحاب ملل كملة موسى وعيسى.
وقرىء { زبورا } بضم الزاي جمع زبور كعمود وعمد. والزبور الذي آتاه الله داود وأنزله عليه. قرأت فيه وقد عرب وهو يتضمن مواعظ وامتثالا كثيرة وانتصاب ورسلا على إضمار فعل أي قد قصصنا رسلا عليك فهو من باب الاشتغال والجملة من قوله قد قصصناهم مفسرة لذلك الفعل المحذوف ويدل على هذا قراءة أبي. ورسل بالرفع في الموضعين على الابتداء وجاز الابتداء بالنكرة هنا لأنه موضع تفصيل كما أنشدوا:
فثوب لبست وثوب أجر
وقوله:
بشق وشق عندنا لم يحول
ومرجع النصب على الرفع كون العطف على جملة فعلية وهي وآتينا داود زبورا.
{ وكلم الله موسى تكليما } هذا إخبار بأن الله شرف موسى بكلامه وأكد بالمصدر دلالة على وقوع الفعل على حقيقته لا على مجازه هذا هو الغالب وقد جاء التأكيد بالمصدر في المجاز إلا أنه قليل فمن ذلك قول هند بنت النعمان بن بشير الأنصاري:
بكى الخز من روح وأنكر جلده
وعجيت عجيجا من جذام المطارف
وقال ثعلب: لولا التأكيد بالمصدر لجاز أن يكون كما تقول: قد كلمت لك فلانا، بمعنى كتبت إليه رقعة وبعثت إليه رسولا، فلما قال: تكليما لم يكن إلا كلاما مسموعا من الله تعالى.
ومسألة الكلام مما طال فيه الكلام واختلف فيها علماء الإسلام وبها سمي علم أصول الدين بعلم. الكلام وهي مسألة يبحث فيها في أصول الدين.
وقرىء: { وكلم الله موسى تكليما } ، بالنصب في الجلالة. رسلا بدل من قوله: ورسلا. والجملة من قوله: وكلم الله موسى تكليما، جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه أفادت تشريف موسى عليه السلام بتكليمه تعالى إذ هو مندرج في قوله: ورسلا قد قصصناهم عليك.
{ مبشرين } بالثواب.
{ ومنذرين } بالعقاب. ولئلا تعليل لإرسال الرسل كما قال تعالى:
أن تقولوا ما جآءنا من بشير ولا نذير
[المائدة: 19].
{ لكن الله يشهد بمآ أنزل إليك } ، الآية، لكن الاستدراك يقتضي تقدم جملة محذوفة لأن لكن لا يبتدأ بها فالتقدير ما روي في سبب النزول وهو أنه لما نزل انا أوحينا إليك قالوا ما نشهد لك بهذا فنزل: لكن الله يشهد، وشهادته تعالى بما أنزله إليه إثباته بإظهار المعجزات كما ثبتت الدعاوي بالبينات.
وقرىء { لكن الله } بالتشديد ونصب الجلالة.
{ أنزله بعلمه } الباء للحال أي ملتبسا بعلمه أي عالما به.
{ إلا طريق جهنم } استثناء من قوله طريقا. وطريقا منفي من حيث المعنى لأن التقدير لم يكن الله مريدا لهدايتهم وإذا انتفت إرادة الهداية انتفت الهداية للطريق وإذا انتفت الهداية انتفت الطريق وهذا على طريق البصريين وأما الكوفيون فالنفي فحسب أولا على الهداية. وتقدم الكلام على لام الجحود في قوله:
وما كان الله ليضيع إيمانكم
[البقرة: 143].
[4.171-173]
{ لا تغلوا } الغلو: التجاوز في الأمر. ومعنى في دينكم، أي الذي أنتم مطلوبون به لا دينكم المضلل. والظاهر أن أهل الكتاب المراد بهم النصارى بدليل آخر الآية. وقيل: يشمل اليهود والنصارى. وغلو اليهود كونهم أنكروا رسالة عيسى ونسبوه لغير رشده وغلو النصارى قول بعضهم انه الله وقول بعضهم انه ثالث ثلاثة.
{ وكلمته } فقدم الكلام عليها في قوله: بكلمة منه.
{ ألقاها } جملة حالية أي أوجد فيها عيسى.
{ وروح منه } أي من الأرواح التي أوجدها والذين يظهران قوله: ثلاثة، خبر مبتدأ محذوف تقديره الإله أو المعبود، ثلاثة لأنهم يثبتون الله وصاحبته وولده، تعالى عن الصاحبة والولد.
{ انتهوا خيرا لكم } تقدم، قوله:
فآمنوا خيرا لكم
[النساء: 170]. وفي نصب خيرا ثلاثة أوجه، الأول: مذهب الخليل وسيبويه انه منصوب على فعل يجب إضماره تقديره وائتوا خيرا لكم الثاني: مذهب الكسائي وأبي عبيدة انه منصوب على خبر يكن محذوفة تقديره يكن هو خيرا لكم ويكن هو أي الانتهاء خيرا لكم. الثالث: مذهب الفراء ان انتصابه على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره فآمنوا إيمانا خيرا لكم وانتهوا انتهاء خيرا لكم. والترجيح بين هذه الأقوال مذكور في علم النحو.
{ لن يستنكف } الاستنكاف الانفة والترفع من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك من خدك ومنعته من الجري. وقيل: الاستنكاف من النكف يقال: ما عليه في هذا الأمر نكف ولا وكف. والنكف أن يقال له سوء واستنكف دفع ذلك السوء. وقوله:
{ ولا الملائكة المقربون } ظاهرة أن يكون معطوفا على قوله: لن يستنكف المسيح والمعنى ولا تستنكف الملائكة المقربون أن يكونوا عبيد الله وليس معطوفا على قوله المسيح لاختلاف الخبر. وقال الزمخشري: فإن قلت: من ان دل قوله: ولا الملائكة المقربون، على أن المعنى ولا من فوقه؟ قلت: من حيث أن علم المعاني لا يقتضي غير ذلك وذلك أن الكلام إنما سيق لرد مذهب النصارى وغلوهم في رفع المسيح عن منزلة العبودية، فوجب أن يقال لهم: لن يترفع عيسى عن العبودية ولا من هو أرفع منه درجة. كأنه قيل: لن تستنكف الملائكة المقربون من العبودية فكيف بالمسيح. ويدل عليه دلالة ظاهرة بينة تخصيص المقربين لكونهم ارفع الملائكة درجة وإعلاهم منزلة قول القائل:
وما مثله ممن يجاود حاتم
ولا البحر ذو الأمواج يلتج زاخر..
لا شبهة في انه قصد بالجر ذي الأمواج ما هو فوق حاتم في الجود ومن كان له ذوق فليذق مع هذه الآية، قوله:
ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى
[البقرة: 120] حتى يعترف بالفرق البين. " انتهى كلامه ".
التفضيل بين الأنبياء والملائكة إنما يكون بالسمع إذ نحن لا ندرك جهة التفضيل بالعقل، وأما الآية فقد يقال: متى نفى شيء عن اثنين فلا يدل ذلك على أن الثاني أرفع من الأول ولا أن ذلك في باب الترقي.
فإذا قلت: لن يأنف فلان أن يسجد لله ولا عمر فلا دلالة فيه على أن عمرا أفضل من زيد وإن سلمنا ذلك فليست الآية من هذا القبيل لأنه قابل مفردا بجمع ولم يقابل مفردا بمفرد ولا جمعا بجمع، فقد يقال: الجمع أفضل من المفرد ولا يلزم من الآية تفضيل الجمع على الجمع ولا المفرد على المفرد وإن سلمنا أن المعطوف في الآية أرفع من المعطوف عليه فيكون ذلك بحسب ما ألقي في أذهان العرب وغيرهم من تعظيم الملك وترفيعه حتى أنهم ينفون البشرية عن الممدوح ويثبتون له الملكية ولا يدل تخيلهم ذلك على أنه في نفس الأمر أفضل وأعظم ثوابا ومما ورد من ذلك على حسب ما ألقي في الأذهان قوله تعالى: حكاية عن النسوة اللاتي فاجاءهن حسن يوسف فلما رأينه أكبرنه وقطعن أيديهن، إلى قوله:
إلا ملك كريم
[يوسف: 31]. وقال الشاعر:
فلست بانسي ولكن لملاك
تنزل من وجوب السماء تصوب
قال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف قوله: ولا الملائكة؟ قلت: إما أن يعطف على المسيح أو على اسم يكون أو على المستتر في عبدا لما فيه من معنى الوصف لدلالته على معنى العبادة. وقولك: مررت برجل عبد أبوه، فالعطف على المسيح هو الظاهر لأداء غيره إلى ما فيه بعض انحراف عن الغرض وهو ان المسيح لا يأنف ان يكون هو ولا من فوته موصوفين بالعبودية أو أن يعبد الله هو ومن فوقه. " انتهى ". الانحراف عن الفرض الذي أشار إليه هو كون الاستنكاف يكون مختصا بالمسيح والمعنى التام اشتراك الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكاف عن العبودية لأنه يلازم من استنكافه وحده أن يكون هو والملائكة عبيدا أو أن يكون هو وهم يعبدونه، مع عدم استنكافهم هم فقد يرضى شخص أن يضرب هو وزيد عمرا ولا يرضى ذلك زيد ويظهر أيضا مرجوحية الوجهين من جهة دخول لا إذ لو أزيد العطف على الضمير في يكون أو على المستتر في عبدا لم تدخل لا بل كان يكون التركيب بدونها تقول: ما يريد زيد أن يكون هو وأبوه قائمين. وتقول: ما يريد زيد أن يصطلح هو وعمرو فهذان التركيبان ونحوهما ليسا من مظنات دخول لا. فإن وجد في لسان العرب دخول لا في نحو من هذا فهي زائدة.
وقرىء: { عبيدا } بالتصغير واستدل من قال بتفضيل الملائكة على الأنبياء بهذه الآية إذ فيها الترقي من أعلا إلى أعلا كما تقدم وهي مسألة خلاف وأجيب بأنه لما كان الملك في أنفس البشر مما يعظمونه ويرفعون من قدرة جاءت الآية على ذلك الأثر إلى قول صواحب امرأة العزيز في يوسف عليه السلام:
ما هذا بشرا إن هذآ إلا ملك كريم
[يوسف: 31]. وقوله:
فلست بأنسي البيت
وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله في قوله:
ولقد كرمنا بني ءادم
[الإسراء: 70] الآية.
{ ومن يستنكف عن عبادته } الآية، حمل أولا على لفظ من، فأفرد الضمير في يستنكف ويستكبر، ثم حمل على المعنى في قوله: فسيحشرهم، فالضمير عائد على معنى من. هذا هو الظاهر ويحتمل أن يكون الضمير عاما عائدا على الخلق لدلالة المعنى عليه لأن الحشر ليس مختصا بالمستنكف ولأن التفصيل بعده يدل عليه. ويكون ربط الجملة الواقعة جوابا بالاسم الشرط بالعموم الذي فيها، ويحتمل أن يعود الضمير على معنى من، ويكون قد حذف المعطوف عليه لمقابلته إياه التقدير فسيحشرهم ومن لم يستنكف إليه جميعا كقوله:
سرابيل تقيكم الحر
[النحل: 81]، أي والبرد. وعلى هذا الاحتمال يكون ما فصل بأما مطابقا لما قبله، وعلى الوجه الأول لا يطابق والاخبار بالحشر إليه وعيد، إذ المعنى به الجمع يوم القيامة حيث بذل المستنكف والمستكبر.
[4.174-176]
{ برهان من ربكم } الجمهور على أن البرهان هو محمد صلى الله عليه وسلم وأطلق عليه برهان لما ظهر على يديه من الحجج والدلائل. والنور المبين هو القرآن.
{ يستفتونك } وتقدم الكلام في الكلالة اشتقاقا ومدلولا وقال جابر: هي آخر آية نزلت. وفي الكلالة متعلق بيفتيكم وهو من أعمال الثاني لأن في الكلالة يطلبها يستفتونك ويفتيكم فاعمل الثاني. وبعض عوام القراء يقف على قوله: يستفتونك ويرى ذلك حسنا وهو لا يجوز لأن جهتي الأعمال متشبثة احداهما بالأخرى فلو قلت: ضربني، وسكت ثم قلت: وضربت زيدا، لم يجز إلا لإنقطاع النفس.
وقوله: { إن امرؤ هلك } تفسير لحكم الكلالة. و { ولد } يشمل الذكر والأنثى. وارتفع امرؤ على أنه فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده، والجملة من قوله: ليس له ولد، في موضع الصفة لامرؤ أي أن هلك امرؤ غير ذي ولد. وفيه دليل على جواز الفصل بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة في باب الاشتغال فعلى هذا تقول: زيدا ضربته العاقل، على أن العاقل صفة لزيد أجريت الجملة المفسرة في هذا الباب مجرى الجملة الخبرية في قولك: زيد ضربته العاقل، فكما جاز الفصل بالخبر جاز بالمفسر. ومنع الزمخشري أن يكون قوله: ليس له ولد جملة حالية من الضمير في هلك، فقال: ومحل ليس له ولد الرفع على الصفة لا النصب على الحال وأجاز ذلك أبو البقاء، فقال: ليس له ولد، الجملة في موضع الحال من الضمير في هلك.
{ وله أخت } جملة حالية أيضا والذي يقتضيه النظر إن ذلك ممتنع وذلك ان المسند إليه حقيقة إنما هو الاسم الظاهر المعمول للفعل المحذوف فهو الذي ينبغي أن يكون التقييد له، اما الضمير فإنه في جملة مفسرة لا موضع لها من الإعراب فصارت كالمؤكدة لما سبق وإذا تجاذب الاتباع والتقييد مؤكد. ومؤكد فالحكم إنما هو للمؤكد إذ هو معتمد الاسناد الأصلي فعلى هذا لو قلت: ضربت زيدا، ضربت زيدا العاقل، أنبغى أن يكون العاقل نعتا لزيدا في الجملة الأولى لا لزيدا في الجملة الثانية، لأنها جملة مؤكدة للجملة الأولى. والمقصود بالإسناد إنما هو الجملة الأولى لا الثانية قيل: وثم محذوف للاختصار ودلالة الكلام عليه والتقدير ليس له ولد ولا والد وله أخت المراد بها الشقيقة أو التي لأب دون التي لام، لأن الله فرض لها النصف وجعل أخاها عصبة وقال: للذكر مثل حظ الأنثيين، وأما الأخت للأم فلها السدس في آية المواريث مسوى بينها وبين أخيها. والضمير في قوله: وهو، وفي يرثها، يعود إلى ما تقدم لفظا دون معنى فهو من باب عندي درهم ونصفه لأن الهالك لا يرث، والحية لا تورث، ونظيره من القرآن: وما يعمر من معمر، ولا ينقص من عمره، وهذه الجملة مستقلة لا موضع لها من الإعراب.
وهي دليل جواب الشرط الذي بعدها المحذوف. { إن لم يكن لهآ ولد } المراد به هنا الابن لأن الابن يسقط الأخ دون البنت.
{ فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك } قالوا: الضمير في كانتا ضمير اختين دل على ذلك قوله: وله أخت، وقد تقرر في علم العربية ان الخبر يفيد ما لا يفيده الاسم وقد منع أبو علي وغيره سيد الجارية مالكها، لأن الخبر أفاد ما أفاده المبتدأ، والألف في كانتا تفيد التثنية كما أفاده الخبر وهو قوله تعالى: { اثنتين }. وأجاب الأخفش وغيره بأن قوله: اثنتين، يدل على عدم التقييد بالصغر أو الكبر أو غيرهما من الأوصاف فاستحق الثلثان بالاثنينية مجردة عن القيود فلهذا كان مقيدا. وهذا الذي قالوه ليس بشيء لأن الألف الضمير للاثنتين تدل أيضا على مجرد الاثنينة من غير اعتبار قيد فصار مدلول الألف ومدلول اثنتين سواء، وصار المعنى فإن كانت الأختان اثنتين، ومعلوم أن الأختين اثنتان.
قال الزمخشري: فإن قلت: إلى من يرجع ضمير التثنية والجمع في قوله: فإن كانتا اثنتين وإن كانوا إخوة؟ قلت: أصله فإن كان من يرث بالاخوة اثنتين، وإن كان من يرث بالإخوة ذكورا وإناثا، وإنما قيل: فإن كانتا، وإن كانوا، كما قيل: من كانت أمك. فكما أنت ضمير من لمكان تأنيث الخبر كذلك ثنى وجمع ضمير من يرث في كانتا وكانوا لمكان تأنيث الخبر وجمعه. " انتهى ". وهو تابع في هذا التخريج لغيره وهو تخريج لا يصح وليس نظير من كانت أمك لأن من صرح بها ولها لفظ. ومعنى فمن أنت راعي المعنى لأن التقدير أية أم كانت أمك. ومدلول الخبر في هذا مخالف لمدلول الاسم بخلاف الآية فإن المدلولين واحد ولم يؤنث في من كانت أمك لتأنيث الخبر، إنما أنت مراعاة لمعنى من إذ أراد بها مؤنثا، ألا ترى انك تقول: من قامت، فتؤنث مراعاة للمعنى إذا أردت السؤال عن مؤنث ولا خبر هنا فيؤنث قامت لأجله. والذي يظهر لي في تخريج الآية غير ما ذكروا وذلك وجهان، أحدهما: أن الضمير في كانتا لا يعود على أختين إنما يعود على الوارثتين ويكون ثم صفة محذوفة لاثنتين واثنتين بصفة هو الخبر والتقدير فإن كانت الوارثتان اثنتين من الأخوات فلهما الثلثان مما ترك، فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيد الاسم وحذف الصفة لفهم المعنى جائز. والوجه الثاني: أن يكون الضمير عائدا على الأختين كما ذكروا ويكون خبر كان محذوفا لدلالة المعنى عليه وإن كان حذفه قليلا ويكون اثنتين حالا مؤكدة والتقدير فإن كانت أختان له أي للمرء الهالك ويدل على حذف الخبر الذي هو له قوله: وله أخت، فكأنه قيل: فإن كان أختان له.
ونظيره أن تقول: إن لزيد أخ فحكمه كذا، وإن كان إخوان فحكمهما كذا، تريد وإن كان أخوان له.
{ وإن كانوا إخوة } يعني أنهم يحوزون المال على ما تقرر في إرث الأولاد من أنه للذكر مثل حظ الانثيين والضمير في كانوا إن عاد على الاخوة فقد أفاد الخبر بالتفضيل المحتوي على الرجال والنساء ما لا يفيده الاسم لأن الاسم ظاهر في الذكور وإن عاد على الوارث فظهرت إفادة الخبر ما لا يفيد المبتدأ ظهورا واضحا. والمراد بقوله: اخوة، الاخوة والأخوات وغلب حكم المذكر.
{ أن تضلوا } مفعول من أجله ومفعول يبين محذوف أي يبين لكم الحق فقدر البصري والمبرد وغيره كراهة أن تضلوا وقدر الكوفي وغيره لئلا تضلوا وحذف لا. ومثله عندهم قول القطامي:
رأينا ما رأى البصراء منها
فآلينا عليها أن تباعا
والظاهر أن المعنى يبين الله لكم شأن الكلالة كراهة أن تضلوا فيها.
{ والله بكل شيء عليم } يعلم مصالح العباد في المبدأ والمعاد وفيما كلفهم به من الأحكام. وهذه السورة مشتمل أولها على كمال تنزيه الله تعالى وسعة قدرته، وآخرها مشمل على بيان كمال العم، وهذان الوصفان بهما تثبت الربوبية والإلهية والجلال والعزة وبهما يجب أن يكون العبد منقادا للتكاليف.
[5 - سورة المائدة]
[5.1]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود } هذه السورة مدنية نزلت منصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ومنها ما نزل في حجة الوداع ومنها ما نزل عام الفتح وكل ما نزل بعد الهجرة بالمدينة أو في سفر أو بمكة فهو مدني ومناسبة افتتاحها لآخر ما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر استفتاءهم في الكلالة وأفتاهم فيها ذكر أنه يبين لهم كراهة الضلال فبين في هذه السورة احكاما كثيرة هي تفصيل لذلك المجمل أوفوا، يقال: وفي وأوفا ووفا. والعقود جمع عقد وهو ما التزمه الانسان من مطلوب شرعي وهو عام يندرج تحته ما ربط الانسان على نفسه أو مع صاحب له. مما يجوز شرعا وأصل العقود في الإجرام ثم توسع فيه فأطلق في المعاني.
{ أحلت لكم بهيمة الأنعام } هذا تفصيل بعد عموم. وبهيمة الانعام هي الانعام نفسها أو ما يشبهها من الوحش المباح أكله كالظباء والمها وبقر الوحش والابل والأرنب مما لا ناب له.
{ إلا ما يتلى عليكم } هذا استثناء من بهيمة الانعام. وما يتلى عليكم مبهم مفسر بقوله:
حرمت عليكم
[المائدة: 3]. الآية. وبما ثبت في السنة تحريمه. وما في موضع نصب لأنه استثناء من موجب، وهو قوله: { أحلت }. وموضع ما نصب على الاستثناء ويجوز الرفع على الصفة لبهيمة.
وقال ابن عطية: وأجاز بعض الكوفيين أن تكون في موضع رفع على البدل وعلى أن تكون إلا عاطفة، وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس نحو قولك: جاء الرجال إلا زيد، كأنك قلت: غير زيد. " انتهى ".
وهذا الذي حكاه عن بعض الكوفيين من أنه في موضع رفع على البدل لا يصح البتة، لأن الذي قبله موجب فكما لا يجوز: قام القوم إلا زيد، على البدل، كذلك لا يجوز البدل في: إلا ما يتلى، وأما كون إلا عاطفة فهو شيء ذهب إليه بعض الكوفيين كما ذكر ابن عطية. وقوله: وذلك لا يجوز عند البصريين ظاهره الإشارة إلى وجهي الرفع البدل والعطف، وقوله: إلا من نكرة هذا الاستثناء مبهم لا ندري من أي شيء هو، وكلا وجهي الرفع لا يصلح أن يكون استثناء منه لأن البدل من الموجب لا يجيزه أحد علمناه لا بصري ولا كوفي. وأما العطف فلا يجيزه بصري البتة وإنما الذي يجيزه البصريون أن يكون نعتا لما قبله في مثل هذا التركيب وشرط فيه بعضهم ما ذكر من أنه يكون المنعوت نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس فلعل ابن عطية اختلط عليه البدل والنعت فلم يفرق بينهما في الحكم ولو فرضنا تبعية ما بعد إلا لما قبلها من الإعراب على طريقة البدل حيث يسوغ ذلك، لم يشترط تنكير ما قبل إلا ولا كونه مقاربا للنكرة من أسماء الأجناس لأن البدل والمبدل منه يجوز اختلافهما بالتنكير والتعريف.
{ غير محلي الصيد وأنتم حرم } اتفق الجمهور على نصب غير، واتفق من وقفنا على كلامه من المعربين والمفسرين على أنه منصوب على الحال، واختلفوا في صاحب الحال. فقال الأخفش: هو ضمير الفاعل في أوفوا. وقال الجمهور: الزمخشري وابن عطية وغيرهما هو الضمير المجرور في أحل لكم. وقال بعضهم: هو الفاعل المحذوف من: أحل المقام مقامه المفعول به وهو الله. وقال بعضهم: هو الضمير المجرور في عليكم. ونقل القرطبي عن البصريين أن قوله: إلا ما يتلى عليكم هو استثناء من بهيمة الانعام وان قوله: غير محلي الصيد استثناء آخر منه، فالاستثناءان معا هما من بهيمة الانعام وهي المستثنى منها والتقدير إلا ما يتلى عليكم الا الصيد وأنتم محرمون بخلاف قوله:
إنآ أرسلنآ إلى قوم مجرمين
[الحجر: 58، الذاريات: 32]، على أن يأتي بيانه وهو قول مستثنى مما يليه من الاستثناء قال: ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام لأنه مستثنى من المحظور إذ كان إلا ما يتلى عليكم مستثنى من الإباحة وهذا وجه ساقط فإذن معناه أحلت لكم بهيمة الانعام غير محلي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد.
قال ابن عطية: وقد خلط الناس في هذا الموضع في نصب غير وقدروا تقديرات وتأخيرات وذلك كله غير مرضي لأن الكلام على إطراده متمكن استثناء بعد استثناء. انتهى كلامه.
وهو أيضا ممن خلط على ما نبينه، فاما قول الأخفش ففيه الفصل بين ذي الحال والحال بجملة غير اعتراضية بل هي منشئة أحكاما وذلك لا يجوز وفيه تقييد الإيفاء بالعقود بانتفاء إحلال الموفين الصيد وهم حرم وهم مأمورون بإيفاء العقود بغير قيد، ويصير التقدير أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلين الصيد وأنتم حرم فإذا لم توجد هذه الحال فلا توفوا بالعقود. واما قول الجمهور فهو مردود من هذا الوجه الأخير إذ يصير المعنى أحلت لكم بهيمة الانعام في حال انتفاء كونكم تحلون الصيد وأنتم حرم وهم قد أحلت لهم بهيمة الانعام في هذه الحال وفي غيرها من الأحوال إذا أريد ببهيمة الانعام أنفسها وإن أريد بها الظباء وبقر الوحش وحمرة. فيكون المعنى وأحل لكم هذه في حال انتفاء كونكم تحلون الصيد وأنتم حرم، وهذا تركيب قلق معقد ينزه القرآن أن يأتي فيه مثل هذا، ولو أريد بالآية هذا المعنى لجاء على أفصح تركيب وأحسنه. وأما قول من جعله حالا من الفاعل وقدره وأحل الله لكم بهيمة الانعام غير محل لكم الصيد وأنتم حرم قال كما تقول: أحل لكم كذا غير مبيحة لك يوم الجمعة وهو فاسد لأنهم نصوا على أن الفاعل المحذوف في مثل هذا التركيب يصير نسيا منسيا فلا يجوز وقوع الحال منه.
لو قلت: أنزل المطر للناس مجيبا لدعائهم إذ الأصل أنزل الله المطر مجيبا لدعائهم لم يجز وخصوصا على مذهب الكوفيين ومن وافقهم من البصريين لأن صيغة الفعل المبني للمفعول صيغة وضعت أصلا كما وضعت صيغته مبنيا للفاعل وليست مغيرة من صيغة بنيت للفاعل ولأنه بتقييد إحلاله تعالى بهيمة الانعام إذا أريد بها ثمانية الا الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم وهو تعالى قد أحلها في هذه الحال وفي غيرها. وأما قول من جعله حالا من الضمير في عليكم فالذي يتلى لا يتقيد بحال انتفاء إحلالهم الصيد وهم حرم بل هو ما يتلى عليهم في هذه الحال وفي غيرها. وأما ما نقله القرطبي عن البصريين فإن كان النقل صحيحا فهو يتخرج على ما سنوضحه إن شاء الله تعالى فنقول: إنما عرض الإشكال في الآية من جعلهم غير محلي الصيد حالا من المأمورين بإيفاء العقود أو من المحلل لهم أو من المحلل وهو الله أو من المتلو عليهم وغرهم في ذلك كونه كتب محلي بالياء وقدروه هم انه اسم فاعل من أحل وأنه مضاف إلى الصيد إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول وأنه جمع حذف منه النون للإضافة وأصله غير محلين الصيد وأنتم حرم إلا في قول من جعله حالا من الفاعل المحذوف فلا يقدر فيه حذف النون بل حذف التنوين وإنما يزول الاشكال ويتضح المعنى بأن يكون قول: محلي الصيد من باب قولهم: حسان النساء، والمعنى النساء الحسان، فكذلك هذا أصله غير الصيد المحل والمحل، صفة للصيد لا للناس ولا للفاعل المحذوف ووصف الصيد بأنه محل على وجهين، أحدهما: أن يكون معناه دخل في الحل كما تقول: أحل الرجل، أي دخل في الحل، وأحرم دخل في الحرم.
والوجه الثاني: أن يكون معناه صار ذا حل أي حلالا بتحليل الله، وذلك أن الصيد على قسمين حلال وحرام ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال ألا ترى إلى قول بعضهم أنه ليصيد الأرانب حتى الثعالب لكنه يختص به شرعا وقد تجوزت العرب وأطلقت الصيد على ما لا يوصف بحل ولا حرمة نحو قول الشاعر:
ليث بعثر يصطاد الرجال إذا
ما كذب الليث عن أقرانه صدقا
وعثر اسم موضع. وقال آخر:
وقد ذهبت سلمى بعقلك كله
فهل غير صيد أحرزته حبائله
وقال امرؤ القيس:
وهو نضيد قلوب الرجال
وأفلت منها ابن عمر وحجر
ومجيء أفعل البلوغ على الوجهين المذكورين كثير من لسان العرب فمن مجيىء أفعل البلوغ المكان ودخوله قولهم: أحرم الرجل وأعرق وأشأم وأيمن وأتهم وأنجد إذا بلغ هذه المواضع وحل بها.
ومن مجيء أفعل بمعنى صار ذا كذا قولهم: أعشبت الأرض وأبقلت وأغد البعير وألبنت الشاة وغيرها، وأجرت الكلبة وأصرم النخل وأبلت الناقة وأحصد الزرع وأجرب الرجل وانجبت المرأة. وإذا تقرر أن الصيد يوصف بكونه محلا باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحل أو صار ذا حل اتضح كونه استثناء ثانيا، ولا يكون استثناء من استثناء إذ لا يمكن ذلك لتناقض الحكم لأن المستثنى من المحلل محرم والمستثنى من المحرم محلل. بل إذا كان المعنى بقوله: بهيمة الانعام الانعام أنفسها فيكون استثناء منقطعا وإن كان المراد الظباء وبقر الوحوش وحمرة ونحوها فيكون استثناء متصلا على أحد تفسيري المحل استثناء الصيد الذي بلغ الحل في حال كونهم محرمين.
فإن قلت: ما فائدة هذا الاستثناء بقيد بلوغ الحل والصيد الذي في الحرم لا يحل أيضا؟ قلت: الصيد الذي في الحرم لا يحل للمحرم ولا لغير المحرم وإنما يحل لغير المحرم الصيد الذي في الحل، ففيه بأنه إذا كان الصيد الذي في الحل يحرم على المحرم وإن كان حلالا لغيره فأجرى أن حرم عليه الصيد الذي هو بالحرم. وعلى هذا التفسير يكون قوله: إلا ما يتلى عليكم، إن كان المراد به ما جاء بعده من قوله:
حرمت عليكم
[المائدة: 3]، الآية. استثناء منقطعا إذ لا تختص الميتة وما ذكر معها بالظباء وحمر الوحش وبقرة ونحوها فتصير لكن ما يتلى عليكم أي تحريمه فهو محرم. وإن كان المراد ببهيمة الانعام الانعام والوحوش فيكون الاستثناء ان راجعين إلى المجموع على التفصيل، فيرجع إلا ما يتلى عليكم إلى ثمانية الأزواج، ويرجع غير محلي الصيد إلى الوحوش، إذ لا يمكن أن يكون الثاني استثناء من الاستثناء الأول وإذا لم يمكن ذلك وأمكن رجوعه إلى الأول بوجه ما جاز. وقد نص النحويون على أنه لم يمكن استثناء بعض المستثنيات من بعض كانت كلها مستثنيات من الاسم الأول نحو قولك: قام القوم إلا زيدا إلا عمرا إلا بكرا.
فإن قلت: ما ذكرته من هذا التخريج الغريب وهو أن يكون المحل من صفة الصيد لا من صفة الناس ولا من صفة الفاعل المحذوف يعكر عليه كونه كتب في رسم المصحف بالياء، فدل ذلك على أنه من صفات الناس إذ لو كان من صفة الصيد لم يكتب بالياء وكون القراء وقفوا عليه بالياء يأبى ذلك أيضا.
قلت: لا يعكر على هذا التخريج لأنهم كتبوا كثيرا من رسم المصحف على ما يخالف النطق نحو: كتبهم لا أذبحنه ولا أوضعوا منه بألف بعد لام الألف، وكتبهم بأييد بياءين بعد الألف، وكتبهم أولئك بواو بعد الألف ونقصهم منه ألفا، وكتبهم الصلحت ونحوه بإسقاط الفين. وهذا كثير في الرسم وأما وقفهم عليه بالياء فلا يجوز لأنه لا يوقف على المضاف دون المضاف إليه وإنما قصدوا بذلك الاختبار أو بتقطع النفس فوقفوا على الرسم كما وقفوا على سندع من قوله تعالى:
سندع الزبانية
[العلق: 18]، من غير واو اتباعا للرسم على أنه يمكن توجيه كتبه بالياء والوقف عليه بها بأنه جاء ذلك على لغة الازد إذ يقفون على بزيدي بإبدال التنوين ياء فكتب محلي بالياء على الوقف على هذه اللغة وهذا توجيه شذوذ رسمي ورسم المصحف مما لا يقاس عليه. وقرأ ابن أبي عبلة غير بالرفع وأحسن ما يخرج عليه أن يكون صفة لقوله: بهيمة الانعام، ولا يلزم من الوصف بغير ان يكون ما بعدها مماثلا للموصوف في الجنسية ولا يضر الفصل بين النعت والمنعوت بالاستثناء وخرج أيضا على الصفة للضمير في يتلى.
قال ابن عطية: لأن غير محلي الصيد هو في المعنى بمنزلة غير مستحل إذا كان صيدا. " انتهى ". ولا يحتاج إلى هذا التكليف على تخريجنا محل الصيد وأنتم حرم، جملة حالية. وحرم: جمع حرام. ويقال: أحرم الرجل أي دخل في الإحرام بحج أو عمرة أو بهما فهو محرم. وحرام وأحرم الرجل دخل في الحرم. قال الشاعر:
فقلت لها فيىء إليك فإنن
حرام وإني بعد ذلك لبيب
أي ملب. ويحتمل الوجهين قوله: وأنتم حرم إذ الصيد يحرم على من كان في الحرم وعلى من كان كان أحرم بالحج أو العمرة وهو قول الفقهاء، وقال الزمخشري: وأنتم حرم حال من محلي الصيد، كأنه قيل: أحللنا لكم بعض الانعام في حال امتناعكم عن الصيد وأنتم محرمون لئلا يتحرج عليكم. " انتهى ". وقد بينا فساد هذا القول بأن الانعام مباحة مطلقا لا بالتقييد بهذه الحال.
{ إن الله يحكم ما يريد } هذه الجملة جاءت مقوية لهذه الأحكام الشرعية المخالفة لمعهود أحكام العرب من الأمر بإيفاء العقود وتحليل بهيمة الانعام والاستثناء منها ما يتلى تحريمه مطلقا في الحل والحرم إلا في الاضطرار واستثناء الصيد في حالة الإحرام، وتضمن ذلك حله لغير المحرم. فهذه خمسة أحكام ختمها بقوله: { إن الله يحكم ما يريد } ، فموجب الحكم والتكليف هو إرادته لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه، لا ما تقوله المعتزلة من مراعاة المصالح.
[5.2]
{ شعآئر الله } تقدم تفسيرها في البقرة. والشعائر هي ما حرم الله تعالى مطلقا سواء كان في الإحرام أو غيره. والشهر الحرام مفرد حلى بأل الجنسية فالمراد به عموم الأشهر الحرم وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، والمعنى لا تحلوا بقتال ولا غارة ولا نهب.
{ ولا الهدي } لا خلاف ان الهدى ما أهدى من النعم إلى بيت الله وقصدت به القربة فأمر الله أن لا يستحل ولا يغار عليه. { ولا القلائد } قال الجمهور: هي ما كانوا في الجاهلية يتقلدون به من شجر الحرم ليأمنوا فنهى المؤمنون عن فعل الجاهلية وعن أخذ القلائد من شجر الحرم. { ولا آمين البيت الحرام } قرىء آمى البيت الحرام بحذف النون للإضافة، ويقال: أممت الشيء أي قصدته، ولا آمين أي لا تحلو منع من قصد البيت الحرام. لحج وعمرة باستيفاء مناسكهما وهذه المعاطف الأربعة مندرجة في عموم قوله: لا تحلوا شعائر الله فكان ذلك تخصيصا بعد تعميم. { يبتغون } جملة حالية. وقرىء ورضوانا بكسر الراء وضمها وهو مصدر رضى رضي ورضوانا. { وإذا حللتم } تقدم شيآن أحدهما تحريم الصيد للحرم لقوله تعالى:
غير محلي الصيد وأنتم حرم
[المائدة: 1]. والثاني قوله في الجملة التي تأتي بعدها وهو قوله: { ولا آمين البيت الحرام } ، فرجع قوله: { وإذا حللتم } للأول. وقوله: { ولا يجرمنكم شنآن } وهذا من أجل الفصاحة ومعنى وإذا حللتم أي من مناسك الحج.
{ فاصطادوا } هو أمر إباحة لا أمر وجوب لأن الصيد كان قبل الحج حلالا فمنع منه الحاج فلما زال المانع رجع لأصله من الحل قرأ أبو واقد والجراح ونبيح والحسن بن عمران فاصطادوا بكسر الفاء.
قال الزمخشري: قيل هو بدل من كسر الهمزة عند الابتداء. قال ابن عطية: هي قراءة مشكلة ومن توجيهها أن يكون راعي كسر ألف الوصل إذا بدأت فقلت: اصطادوا، بكسر الفاء مراعاة وتذكر لكسرة ألف الوصل. " انتهى ". وليس عندي كسرا محضا إنما هو من باب الإمالة المحضة لتوهم وجود كسرة همزة الوصل كما أمالوا الفاء في فإذا لوجود كسر إذا.
{ ولا يجرمنكم } أي لا يحملنكم. يقال: جرمني كذا على بغضك أي حملني. وقرىء شنآن بفتح النون وسكونها وهو البغض. وفعله شني بكسر النون. وذكر له في البحر ثلاثة عشر مصدرا. وقال سيبويه: كل بناء كان من المصادر على فعلان بفتح العين لم يتعد فعله إلا أن يشذ شيء كالشنآن.
وقرىء: ان صدوكم بكسر الهمزة حرف شرط وبفتحها على التعليل أي لأن صدوكم. وقوله: { أن تعتدوا } أي على الاعتداء أي لا يحملنكم بغضهم على الاعتداء ومن فسر لا يجرمنكم بمعنى لا يكسبنكم البغض فهو يتعدى إلى اثنين أحدهما ضمير الخطاب. والثاني: قوله: ان تعتدوا فالمعنى لا يكسبنكم البغض الاعتداء عليهم.
{ على البر والتقوى } قال ابن عباس: البر ما أمرت به والتقوى ما نهيت عنه. { ولا تعاونوا على الإثم } أي المعاصي. { والعدوان } التعدي في حدود الله. { إن الله شديد العقاب } تقدم الأمر بإيفاء العقود وتحليل وتحريم ونهي عن أشياء فناسب أن يختم بالأمر بالتقوى والاخبار بأنه تعالى شديد العقاب لمن أمره ونهاه عن شيء فما انتهى.
[5.3]
{ حرمت عليكم } تقدم الكلام على هذه الأربعة في البقرة. { والمنخنقة } هي التي يحبس نفسها حتى تموت سواء أكان حبسه بحبل أو يد أو غير ذلك. والوقد: ضرب الشيء حتى يسترخي ويشرف على الموت. وقيل الموقوذة: المضروبة بعصا أو حجر لا حد له فتموت بلا ذكاة ويقال وقذه النعاس: غلبه. ووقذه الحكم: سكنه. التردي: السقوط في بئر أو التهور من جبل. ويقال ردي وتردى: أي هلك. ويقال ما أدري انى ردي: أي ذهب. { والنطيحة } هي التي ينطحها غيرها فتموت بالنطح. وهي فعيلة بمعنى مفعولة صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل ولذلك ثبتت فيها الهاء. { إلا ما ذكيتم } استثناء راجع للأنواع الخمسة فما وجد منها به رمق وذكى حل الله والتذكية الذبح.
{ وما ذبح على النصب } النصب جمع نصاب وهي مجارة منصوبة حول الكعبة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها لآلهتهم ولها أيضا وتلطخ بالدماء ويوضع عليها اللحم قطعا قطعا ليأكل منها الناس.
{ وأن تستقسموا بالأزلام } الأزلام القداح واحدها زلم. وزلم بضم الزاي وفتحها: وهي السهام. كان أحدهم إذا أراد سفرا أو غزوا أو تجارة أو نكاحا أو أمرا من معاظم الأمور ضرب بالقداح وهي مكتوب على بعضها نهاني ربي، وعلى بعضها أمرني ربي، وبعضها غفل، فإن خرج الآمر مضى لطلبته وإن خرج الناهي أمسك وإن خرج الغفل أعاد الضرب. وذكر هذه المرحمات هو تفضيل لما أجمل في عموم قوله: إلا ما يتلى عليكم وبهذا صار المستثني منه والمستثني معلومين وان تستقسموا هذا معطوف على ما قبله أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام وهو طلب معرفة القسم وهو النصيب أو القسم وهو المصدر وذكر مع المطاعم لأنهم كانوا يوقعون الاستقسام عند البيت.
{ ذلكم فسق } الظاهر أنه إشارة إلى الاستقسام بالأزلام إذ كان فيه استخراج شيء من المغيبات التي انفرد الله بعلمها. { اليوم يئس الذين } اليأس قطع الرجاء. يقال يأس بالهمز بيأس وييئس، ويقال: أيس، وهو مقلوب من يئس ودليل القلب تخلف الحكم عما ظاهره انه موجب له الا ترى أنهم لم يقبلوا ياءه الفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فلم يقولوا آس، كما قالوا: هات واليوم الألف واللام فيه للعهد وهو يوم عرفة، قاله مجاهد وابن زيد. وقيل: هو يوم نزولها بعد العصر في حجة الوداع يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقف على ناقته وليس في الموقف مشرك. وقيل: اليوم الذي دخل فيه الرسول صلى الله عليه وسلم مكة لثمان بقين من شهر رمضان سنة تسع، وقيل: سنة ثمان، ونادى مناديه بالأمان لمن لفظ بشهادة الاسلام ولمن وضع السلاح ولمن أغلق بابه.
و { الذين كفروا } أعم من مشركي العرب وغيرهم.
ومعنى: { من دينكم } من تغييره وتبديله إذ كان في حجته تلك صلى الله عليه وسلم كملت شرائع الاسلام، ولذلك قال: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } أي في ظهور الاسلام وكمال الدين وسعة الأحوال وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة والخلود فيها. وقيل: بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين وهدم منار الجاهلية ومناسكهم وأنه لم يحج مشرك ولم يطف بالبيت عريان وانتصب دينا على الحال. { فمن اضطر في مخمصة } المخمصة المجاعة التي تخمص فيها البطون أي تضمر. وقال الأعشي:
تبيتون في الشتاء ملاء بطونكم
وجاراتكم غرثى يبتن خمائص
أي فمن اضطر لأكل شيء مما ذكر تحريمه في مجاعة فأكل. { غير متجانف } أي غير متلبس بمعصية ولا مائل إليها فأكل فلا إثم عليه.
[5.4]
{ يسألونك ماذآ أحل لهم } سبب نزولها ما ثبت في صحيح أبي عبد الله الحاكم بسنده إلى أبي رافع قال:
" أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب. فقال الناس: يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها "
فنزلت { يسألونك }. الآية، ويحتمل أن يكون ماذا كلها استفهاما والجملة خبر ويحتمل أن تكون ما استفهاما وذا خبرا أي ما الذي أحل لهم والجملة من قوله: ما إذا أحل لهم في موضع نصب بيسألونك على إسقاط حرف الجر والسؤال هنا معلق وليس فعلا قلبيا لكن لما كان طريقا إلى العلم أجرى مجرى العلم فعلق لما كان يسألونك الفاعل فيه ضمير غائب قال لهم بضمير الغائب. ويجوز في الكلام ما ذا أحل لنا، كما تقول: أقسم زيد ليضربنه ولأضربن، وضمير المتكلم يقتضي حكاية ما قالوا كما أن لأضربن يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها.
قال الزمخشري في السؤال: معنى القول فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم كأنه قيل: يقولون ما إذا أحل لهم. " انتهى ". لا يحتاج إلى ما ذكر لأنه من باب التعليق، لقوله:
سلهم أيهم بذلك زعيم
[القلم: 40]، فالجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ليسألونك. ونصوا على أن فعل السؤال يعلق وان لم يكن من أفعال القلوب لأنه سبب للعلم فكما يعلق العلم فكذلك سببه.
{ الطيبات } هنا المستلذات. { وما علمتم } معطوف على الطيبات وهو على حذف مضاف تقديره وأكل ما علمتم من مصيد الجوارح والجوارح الكواسر من سباع البهائم والطير كالكلب والفهد والنمر والعقاب والصقر والبازي والشاهين. وسميت بذلك لأنها تجرح ما تصيد غالبا ولأنها تكسب. يقال: امرأة لا جارح لها، أي لا كاسب. ومنه ويعلم ما جرحتم بالنهار أي ما كسبتم. ويقال: جرح واجترح بمعنى كسب.
{ مكلبين } المكلب بالتشديد معلم الكلاب ومنصريها على الصيد، وبالتخفيف صاحب الكلاب، اشتقاق هذه الحال من الكلب وإن كانت عامة في الجوارح على سبيل التغليب لأن التأديب أكثر ما يكون في الكلب فاشتقت من لفظه لكثرة ذلك في جنسه. وقيل: لأن الغالب من صيدهم أن يكون بالكلاب أو اشتقت من الكلب وهو الضراوة. ويقال: هو كلب بكذا إذا كان ضاريا به. قال الزمخشري: أو لأن السبع يسمى كلبا، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:
" اللهم سلط عليه كلبا من كلابك فأكله الأسد "
" انتهى ". لا يصح هذا الاشتقاق لأن كون الأسد كلبا هو وصف فيه، والتكليب من صفة المعلم، والجوارح هي سباع بنفسها، وكلاب بنفسها لا بجعل المعلم.
{ تعلمونهن مما علمكم الله } أي أن تعليمكم إياهن ليس من قبل أنفسكم إنما هو من العلم الذي علمكم الله وهو ان جعل لكم روية وفكرة بحيث قبلتم العلم فكذلك الجوارح يصير لهم إدراك ما وشعور بحيث يقبلن الائتمار والانزجار.
وفي قوله: مما علمكم الله، اشعار ودلالة على فضل العلم وشرفه إذ ذكر ذلك في معرض الامتنان ومفعول علم وتعلمونهن.
الثاني: محذوف تقديره وما علمتموه طلب الصيد لكم لا لأنفسهن تعلمونهن ذلك. وفي ذلك دلالة على أن صيد ما لم يعلم حرام وأكله، لأن الله تعالى إنما أباح ذلك بشرط التعليم. والدليل على ذلك الخطاب في عليكم في قوله فكلوا مما أمسكن عليكم، وغير المعلم إنما يمسك لنفسه، ومعنى مما علمكم الله من الأدب الذي أدبكم به سبحانه وتعالى وهو اتباع أوامره واجتناب نواهيه فإذا أمر فائتمر وزجر. فانزجر فقد تعلم مما علمنا الله. وظاهر مما أمسكن عليكم أنه إذا أمسك على مرسله جاز الأكل سواء أكل أو لم يأكل. { واذكروا اسم الله عليه } أي على ما علمتم من الجوارح أي سموا عليه عند إرساله لقوله: (إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل)، والتسمية عند الإرسال أهي على الوجوب أو على الندب.
{ واتقوا الله } الآية، لما تقدم ذكر ما حرم وأحل من المطاعم، أمر بالتقوى فإن التقوى بها يمسك الانسان عن الحرام وعلل الأمر بالتقوى بأنه تعالى سريع الحساب لمن خالف ما أمر به من تقواه فهو وعيد بيوم القيامة وإن حسابه إياكم سريع إتيانه إذ يوم القيامة قريب.
[5.5-6]
{ اليوم أحل لكم الطيبات } كرر أحلال الطيبات تأكيدا للجملة قبلها ولما يعطف عليها من قوله: { وطعام الذين أوتوا الكتاب } ، وهو عام مخصوص خصة الجمهور بذبائحهم سواء أسموا اسم الله على الذبيحة أم لم يسموا، وما كان حراما على المسلم أكله وإن كان أهل الكتاب يأكلونه كالميتة والدم والخنزير فلا يجوز لنا أكله وان كان ذلك من طعامهم. وذهبت الزيدية والامامية الى أنه لا يجوز أكل ذبائحهم فأما ما كان مما هو طعام لهم وليس من الذبائح كالخبز والفواكه فلا خلاف بين المسلمين في جواز أكله وأصل الكتاب هم اليهود والنصارى المتأصلون في ذلك لا من تهود وتنصر من العرب وغيرهم لأنهم لم يؤتوا الكتاب ومن العلماء من أجرى هؤلاء مجرى الكتابي الأصلي، ومعنى وطعامكم حل لهم أي يحل لكم أن تطعموهم من طعامكم. والظاهر أن المجوسي والصابىء لا يحل لنا أكل ذبيحتهم لأنهم ليسوا من أهل الكتاب.
{ والمحصنات من المؤمنات } أي وأحل لكم نكاح المحصنات أي العفائف اللاتي لسن بزوان. { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } أي العفائف منهن. وظاهر هذه الآية جواز نكاح الكتابيات ذمية كانت أو حربية، وقد تزوج عثمان رضي الله عنه نائلة بنت الفرافصة وكانت نصرانية. وتزوج طلحة يهودية من الشام. ومن العلماء من منع نكاح الكتابيات واستدل بقوله تعالى:
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن
[البقرة: 221]، قال وأي شرك أعظم ممن يقول المسيح بن الله وعزيز بن الله، تعالى الله عما يقولون. وتقدم الكلام على هذه المسألة في البقرة ومذهب الامامية تحريم نكاح الكتابيات والمسلم يجد بينه وبين الكافرة نفرة دينية وقد تقوى فتصير نفرة طبيعية وأن شخصا لا يؤمن بالله تعالى ويكذب الرسل وخصوصا نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لجدير أن يهجر ولا يعاشر ولا يتخذ فراشا بل ولو كان مسلما فاسقا أو مبتدعا وجب هجره وترك معاشرته.
{ إذآ آتيتموهن أجورهن } أي مهورهن. وانتزع العلماء من هذا انه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجة إلا بعد أن يبذل لها من المهر ما يستحلها به ومن جوز أن يدخل دون بذل ذلك رأى أنه بحكم الالتزام في حكم المؤتي. { محصنين غير مسافحين } تقدم الكلام على نظيرها في سورة النساء. { ومن يكفر بالإيمان } أي شرائع الإيمان. { فقد حبط عمله } أي إذا وافى على الكفر.
{ يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة } الآية، نزلت في قصة عائشة حين فقدت العقد بسبب فقد الماء ومشروعية التيمم وذلك في غزوة المريسيع. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما افتتح الأمر بإيفاء العقود وذكر تحليلا وتحريما في المطعم والمنكح فاستقصى ذلك وكان المطعم آكد من المنكح فقدمه عليه وكان النوعان من لذات الدنيا الجسمية ومهماتها للإنسان وهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربه تعالى.
ومعنى قمتم أردتم القيام إلى الصلاة. وتم محذوف تقديره محدثين لأن من كان على طهارة الوضوء لا يجب عليه أن يتوضأ.
{ فاغسلوا وجوهكم } الوجه من منابت شعر الرأس إلى منتهى الذقن وهو ما واجه الناظر. والظاهر دخول البياض الذي بين الأذن والخد في ذلك وان الأذنين واللحية ليست داخلة في الوجه. والغسل إمرار الماء على العضو. ومذهب مالك ان الدلك داخل في الغسل. { وأيديكم إلى المرافق } اليد في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب وقد غيا الغسل إليها واختلفوا في دخولها في الغسل فذهب الجمهور إلى وجوب دخولها وذهب زفر وداود إلى أنه لا يجب.
وقال الزمخشري: إلى تفيد معنى الغاية مطلقا، ودخولها في الحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل. وقوله: إلى المرافق وإلى الكعبين، لا دليل فيه على أحد الأمرين. " انتهى ". وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد إلى قرينة دخول أو خروج فإن في ذلك خلافا، منهم من ذهب إلى أنه داخل، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين، وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل فإذا عرى من القرينة فيجب حمله على الأكثر.
وأيضا فإذا قلت: اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد، إلى هو الموضع الذي انتهى إليه المكان المشتري فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشترى، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء إلا أن يتجوز فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء فإذا لم يتصور أن يكون داخلا الإعجاز وجب أن يحمل على أنه غير داخل لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثم قرينة مرجحة للمجاز على الحقيقة. وقول الزمخشري عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج لا دليل فيه على أحد الأمرين مخالف. لنقل أصحابنا إذ ذكروا أن النحويين على مذهبين، أحدهما: الدخول، والآخر: الخروج، وهو الذي صححوه. وعلى ما ذكره الزمخشري يتوقف ويكون من المجمل حتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين فلا يتوقف على شيء من خارج في بيانه.
قال ابن عطية: تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال: إذا كان ما بعد إلى ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها إذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي ان الحد آخر المذكور بعدها، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل. والروايتان محفوظتان عن مالك وروي أشهب عنه أنهما غير داخلين وروي غيره أنهما داخلان.
" انتهى ".
هذا التقسيم ذكره عبد الدائم القيرواني، فقال: إن لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها لم يدخل وإن كان فيحتمل أن يدخل، ويحتمل أن لا يدخل، والأظهر أن لا يدخل. " انتهى ". ومذهب أبي العباس أنه إذا كان بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم.
{ وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين } هذا أمر بالمسح بالرأس. واختلفوا في مدلول باء الجر هنا فقبل: انها للالصاق وهو مذهب سيبويه وهو الذي نختاره.
قال الزمخشري: المراد الصاق المسح بالرأس وما مسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه. " انتهى ". وليس كما ذكر ليس. ماسح بعضه يطلق عليه انه ملصق المسح برأسه حقيقة، وإنما يطلق عليه ذلك على سبيل المجاز وتسمية لبعض بكل. وقيل: الباء للتبعيض وكونها للتبعيض ينكره أكثر النحاة. وقيل: الباء زائدة مؤكدة مثلها في قوله:
ومن يرد فيه بإلحاد بظلم
[الحج: 25]، أي الحادا. وحكى سيبويه في كتابه خشنت صدره وبصدره ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد وهذا نص في المسألة. وعلى هذه المفهومات ظهر الاختلاف بين العلماء في مسح الرأس، فمشهور مذهب مالك وجوب التعميم، والمشهور من مذهب الشافعي وجوب أدنى ما يطلق عليه اسم المسح، ومشهور مذهب أبي حنيفة ربع الرأس. وقال الثوري: إذا مسح شعرة واحدة أجزأه. { وأرجلكم } قرىء بالجر عطفا على رؤوسكم وقرىء بالنصب عطفا على موضع رؤوسكم، فاقتضى ظاهر ذلك مسح الرجلين. وذهب الجمهور إلى أن فرض الرجلين الغسل لا المسح وذلك هو الثابت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأحاديث التي قاربت التواتر من أنه كان يغسل رجليه في الوضوء وذهبت الامامية إلى أن فرضهما المسح لا الغسل. وذهب الحسن ومحمد بن جرير الطبري إلى أن المتوضىء مخير بين غسل رجليه وبين مسحهما إذ قد ثبت غسلهما بالسنة ومسهما، ومن ذهب إلى قراءة النصب في وأرجلكم عطف على قوله: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم، وفصل بينهما بهذه الجملة التي هي قوله: وامسحوا برؤوسكم، فقوله بعيد لأن فيه الفصل بين المتعاطفين بجملة إنشائية وقراءة وأرجلكم بالخبر تأتي ذلك وغيا مسح الرجلين بالانتهاء إلى الكعبين فعن مالك: انهما الكعبان العظمان الملتصقان للساق المحاذيان للعقب. وقالت الامامية: وكل من ذهب إلى وجوب مسح الكعب الذي هو وجه القدم فيكون المسح معنيا به.
{ وإن كنتم جنبا فاطهروا } لما ذكر تعالى الطهارة الصغرى ذكر الطهارة الكبرى وتقدم مدلول الجنب في قوله:
ولا جنبا إلا عابري سبيل
[النساء: 43]، والظاهر أن الجنب مأمور بالاغتسال.
وقال عمرو بن مسعود: لا يتيمم الجنب البتة بل يدع الصلاة حتى يجد الماء. والجمهور على خلاف ذلك وأنه يتيمم، وقد رجعا إلى ما عليه الجمهور.
والظاهر أن الغسل والمسح والتطهر إنما تكون بالماء لقوله: فلم تجدوا ماء أي للوضوء والغسل فتيمموا صعيدا طيبا فدل على أنه لا واسطة بين الماء والصعيد وهو قول الجمهور. وذهب الأوزاعي والأصم إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة.
{ وإن كنتم مرضى أو على سفر } تقدم تفسير هذه الجملة الشرطية وجوابها في النساء إلا أن في هذه الجملة زيادة منه وهي مرادة في تلك التي في النساء وفي لفظة منه دلالة على إيصال شيء من الصعيد إلى الوجه واليدين فلا يجوز التيمم بما لا يعلق باليدين كالحجر والخشب والرمل العاري عن أن يعلق شيء منه باليد فيصل إلى الوجه وهذا مذهب الشافعي.
وقال أبو حنيفة ومالك: إذا ضرب الأرض ولم يعلق بيده شيء من الغبار ومسح بها أجزأه. وظاهر الأمر بالتيمم للصعيد والأمر بالمسح أنه لو يممه غيره أو وقف في مهب ريح فنسفت على وجهه ويده التراب وأمر يده عليه أو لم يمر أو ضرب ثوبا وارتفع منه غبار إلى وجهه ويديه ان ذلك لا يجزئه وفي كل من المسائل الثلاث خلاف.
{ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } أي من تضييق بل رخص لكم في تيمم الصعيد عند فقد الماء وتقدم الكلام على مثل اللام في ليجعل في قوله:
يريد الله ليبين لكم
[النساء: 26] فأغني عن إعادته والذي يقتضيه النظر أنه كثير في لسان العرب تعدى لفظ الإرادة والأمر إلى معمول باللام كهذا المكان وكقوله: وأمرت لأسلم. وقول الشاعر:
أريد لأنسى ذكرها فكأنها
تمثل لي ليلا بكل طريق
فهذه اللام يجوز أن تأتي ان بعدها، وان يكتفي بها دون أن، وأن يؤتى بأن وحدها كقوله تعالى:
وأمرت أن أسلم
[غافر: 66] وتأويل من جعل يريد وأمرت لأسلم على تأويل المصدر بغير حرف سابك فيقدر إرادتي ليجعل وأمري لأسلم فيكون مبتدأ في التقدير والخبر في ليجعل وفي لأسلم تقديره إرادتي كائنة للجعل وأمري كائن للإسلام فهو تأويل متكلف.
[5.7-11]
{ واذكروا نعمة الله عليكم } الخطاب للمؤمنين والنعمة هنا الإسلام وما صاروا إليه من اجتماع الكلمة والعزة والميثاق هو ما أخذه الرسول صلى الله عليه وسلم في بيعة العقبة وبيعة الرضوان وكل مواطن، قاله ابن عباس. { يا أيهآ الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهدآء بالقسط } الآية، تقدم تفسير مثل الجملة الأولى في النساء إلا أن هناك بدىء بالقسط، وهنا آخر. وهذا من التوسع في الكلام والتفنن في الفصاحة ويلزم من كان قائما لله أن يكون شاهدا بالقسط ومن كان قائما بالقسط أن يكون قائما لله إلا أن التي في النساء جاءت في معرض الاعتراف على نفسه وعلى الوالدين والأقربين فبدأ فيها بالقسط الذي هو العدل والسؤال من غير محاباة نفس ولا والد ولا قرابة، وهنا جاءت في معرض ترك العداوات والاجن فبدىء فيها بالقيام لله إذ كان الأمر بالقيام لله أولا أردع للمؤمنين ثم أردف بالشهادة بالعدل فالتي في معرض المحبة والمحاباة بدىء فيها بما هو آكد وهو القسط والتي في معرض العداوة والشنآن بدىء فيها بالقيام لله فناسب كل معرض ما جيء به إليه وأيضا فتقدم هناك حديث النشور والإعراض. وقوله:
ولن تستطيعوا أن تعدلوا
[النساء: 129]، وقوله:
فلا جناح عليهمآ أن يصلحا
[النساء: 128]، فناسب ذكر تقدم القسط وهنا تأخر ذكر العداوة فناسب أن يجاورها ذكر القسط وتعدية يجر منكم بعلي هنا يدل على أن معناه يحملنكم لأن يكسبنكم لا يتعدى بعلي إلا أن ضمن معنى ما يتعدى بها وهو خلاف الأصل.
{ اعدلوا هو أقرب للتقوى } هو ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله: { اعدلوا } ، كقولهم: من كذب كان شرا له ففي كان ضمير يفهم من قولهم كذب وكذلك هو أي العدل أقرب للتقوى نهاهم أولا أن تحملهم الضغائن على ترك العدل ثم أمرهم ثانيا به تأكيدا، ثم استأنف نذكر لهم وجه الأمر بالعدل وهو قوله: هو أقرب للتقوى أي أدخل في مناسبتها أو أقرب لكونه لطفا فيها وفي الآية تنبيه على مراعاة حق المؤمنين بالعدل إذا كان تعالى قد أمر بالعدل مع الكافرين.
{ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون } لما كان الشنآن محلة القلب وهو الحامل على ترك العدل أمر بالتقوى وأتى بصفة خبير ومعناها عليم ولكنها مما تختص بما لطف إدراكه فناسب هذه الصفة أن ينبه بها على الصفة القلبية لما نادى المؤمنين وأمرهم بالقيام لله والشهادة بالسقط ذكر موعودهم بقوله: { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات } ووعد تعدى لاثنين والثاني محذوف تقديره الجنة وقد صرح بها في غير هذا الموضع والجملة من قوله: لهم مغفرة مفسرة لذلك المحذوف تفسير السبب للمسبب لأن الجنة مترتبة على الغفران وحصول الأجر وإذا كانت الجملة مفسرة فلا موضع لها من الإعراب والكلام قبلها تام.
{ والذين كفروا وكذبوا بآياتنآ } الآية، لما ذكر ما لمن آمن ذكر ما لمن كفر وفي المؤمنين، جاءت الجملة فعلية متضمنة الوعد بالماضي الذي هو دليل على الوقوع فأنفسهم متشوقة لما وعدوا به متشوقة إليه مبتهجة طول الحياة بهذا الوعد الصادق وفي الكافرين جاءت الجملة إسمية دالة على ثبوت هذا الحكم له وانهم أصحاب النار فهم دائمون في عذاب إذ حتم لهم أنهم أصحاب الجحيم ولم يأت بصورة الوعيد فكان يكون الرجاء لهم في ذلك.
{ يا أيهآ الذين آمنوا اذكروا } الآية، عن ابن عباس انها نزلت من أجل كفار قريش، وقد تقدم ذكرهم قوله: { ولا يجرمنكم شنآن قوم }.
[5.12-16]
{ ولقد أخذ الله } الآية. مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه أمر بذكر الميثاق الذي أخذه تعالى على المؤمنين في قوله:
وميثاقه الذي واثقكم به
[المائدة: 7]، ثم ذكر وعده إياهم ثم أمرهم بذكر نعمته عليهم إذ كف أيدي الكفار عنهم ذكرهم بقصة بني إسرائيل في أخذ الميثاق عليهم ووعده لهم بتكفير السيآت وإدخالهم الجنة فنقضوا الميثاق.
و { اثني عشر نقيبا } قيل: هم الملوك. وقيل: ما وفي منهم بالميثاق إلا خمسة داود وابنه سليمان وطالوت وحزقيل وابنه وكفر السبعة وبدلوا وقتلوا الأنبياء وخرج خلال الاثني عشر اثنان وثلاثون جبارا كلهم يأخذ الملك بالسيف ويبعث فيهم ورتب تعالى على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرسل وتعظيمهم واقراض الله تعالى قرضا حسنا تكفير سيآتهم وإدخالهم جنات وقدم قبل هذا أنه تعالى معهم بالكلاءة والحفظ.
قال الزمخشري: وهذا الجواب يعني لأكفرن ساد مسد جواب القسم والشرط جميعا. " انتهى ". ليس كما ذكر لا يسد لأكفرن مسدهما بل هو جواب للقسم فقط وجواب الشرط محذوف ولما علم تعالى أنه لا يفي بالميثاق بعضهم قال: فمن كفر بعد ذلك منكم ورتب على نقضهم الميثاق لعنهم وجعل قلوبهم قاسية، ثم ذكر تحريفهم لكلام الله ونسيانهم حظا مما ذكروا به.
{ ولا تزال تطلع } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي هذه عادتهم وديدنهم معك وهم على ما كان أسلافهم من خيانة الرسل وقتلهم الأنبياء فهم لا يزالون يخونونك وينكثون عهودك ويظاهرون عليك أعداءك ويهمون بالقتل وأن يسموك.
و { خآئنة } صفة لمحذوف قديره على نفوس خائنة وقد يراد بالخائنة المصدر جاء على فاعلة كأنه قال: تطلع على خيانة ثم استثنى بقوله: { إلا قليلا } ، كمن أسلم مثل عبد الله بن سلام وغيره ثم أمر نبيه عليه السلام بالعفو عنهم والصفح وإن ذلك من الإحسان إليهم، فقال: { إن الله يحب المحسنين } ثم ذكر تعالى أخذ الميثاق على النصارى والميثاق المأخوذ عليهم هو الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم إذا كان ذكره موجودا في كتبهم كما قال:
الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل
[الأعراف: 157].
قال الزمخشري: فإن قلت: فهلا قيل ومن النصارى. قلت: لأنهم إنما سموا أنفسهم بذلك ادعاء لنصرة الله وهم الذين قالوا لعيسى نحن أنصار الله ثم اختلفوا بعد نسطورية ويعقوبية وملكانية. " انتهى ". قد تقدم في أوائل البقرة أنه قيل: سموا نصارى لأنهم من قرية بالشام تسمى ناصرة وقوله: وهم الذين قالوا لعيسى: نحن أنصار الله القائل لذلك هم الحواريون وهم عند الزمخشري كفار وقد أوضح ذلك على زعمه في آخر هذه السورة وهم عند غيره مؤمنون ولم يختلفوا هم إنما اختلف من جاء بعدهم ممن يدعي تبعيتهم.
{ فأغرينا بينهم العداوة والبغضآء } ظاهره أنه يعود على النصارى. وقيل: النصارى هم النسطورية واليعقوبية والملكية كل فرقة منهم تعادي الأخرى. وقيل: الضمير عائد على اليهود والنصارى أي بين اليهود والنصارى فإنهم أعداء يلعن بعضهم بعضا ويكفر بعضهم ببعض.
{ وسوف ينبئهم الله } هذا تهديد ووعيد بعذاب الآخرة إذ موجب ما صنعوا إنما هو الخلود في النار. { يا أهل الكتاب } الخطاب لليهود والنصارى. ورسولنا هو محمد صلى الله عليه وسلم. { مما كنتم تخفون من الكتاب } من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومن رجم الزناة وغير ذلك. { نور } هو القرآن إذ هو مزيل لظلمات الشرك والشك. { مبين } واضح الدلالة موضع طرق الإسلام.
[5.17-19]
{ لقد كفر الذين قآلوا } الآية، ذكر سبحانه وتعالى أن من النصارى من قال أن المسيح هو الله، ومنهم من قال: هو ابن الله، ومنهم من قال: هو ثالث ثلاثة. وتقدم أنهم ثلاث طوائف ملكانية ويعقوبية ونسطورية، وكل منهم يكفر بعضهم بعضا ومن بعض اعتقادات النصارى استنبط من تستر بالإسلام ظاهرا. وانتمي إلى الصوفية حلول الله تعالى في الصور الجميلة ومن ذهب في ملاحدتهم إلى القول بالاتحاد والوحدة كالحلاج والشوذي وابن أحلى وابن عربي المقيم بدمشق وابن الفارض، واتباع هؤلاء كابن سبعين وتلميذ التستري وابن مطرف المقيم بمرسية والصفار المقتول بغرناطة وابن لباج وابن الحسن المقيم كان بلوزقة وممن رأيناه يرمي بهذا المذهب الملعون العفيف التلمساني وله في ذلك أشعار كبيرة وابن عباس المالقي الأسود الأقطع المقيم كان بدمشق وعبد الواحد بن المؤخر المقيم كان بصعيد مصر والأيكي العجمي الذي كان تولى المشيخة بخانقاه سعيد السعداء بالقاهرة وأبو يعقوب بن مبشر تلميذ التستري المقيم كان بجارة زويلة بالقاهرة والشريف عبد العزيز المتوفي وتلميذه عبد الغفار القوصي، وإنما سردت أسماء هؤلاء نصحا لدين الله يعلم الله ذلك، وشفقة على ضعفاء المسلمين وليحذروا منهم أشد من الفلاسفة الذين يكذبون الله ورسوله ويقولون بقدم العالم وينكرون البعث وقد أولع جهلة من ينتمي للتصوف بتعظيم هؤلاء وادعائهم أنهم صفوة الله وأولياؤه والرد على النصارى والحلولية والقائلين بالوحدة هو من علم أصول الدين.
{ قل فمن يملك من الله شيئا } الآية، هذا رد عليهم. والفاء في { فمن يملك } للعطف على جملة محذوفة تضمنت كذبهم في مقالتهم، التقدير قل: كذبوا أو قل ليس كما قالوا فمن يملك والمعنى من يمنع من قدرة الله وإرادته شيئا أي لا أحد يمنع مما أراد الله شيئا وهذا الاستفهام معناه النفي.
و { إن أراد } شرط جوابه محذوف تقديره فعل ذلك. { ومن في الأرض } عام معطوف على ما قبله. وما قبله نص على المسيح وأمه وقد اندرجا في العموم فصارا مذكورين مرة في نص ومرة في العموم.
{ ولله ملك السموت والأرض وما بينهما } والمسيح وأمه. من جملة ما في الأرض فهما مقهوران لله مملوكان له وهذه الجملة مؤكدة لقوله: { إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه } ، ودلالة على أنه إذا أراد فعل لأن من له ذلك الملك يفعل في ملكه ما يشاء.
{ يخلق ما يشآء } أي أن خلقه ليس مقصورا على نوع واحد بل ما تعلقت مشيئته بإيجاده أوجده واخترعه، فقد يوجد شيئا لا من ذكر ولا أنثى كآدم عليه السلام وأوائل الأجناس المتولد بعضها من بعض، وقد يخلق من ذكر وأنثى، وقد يخلق من أنثى لا من ذكر معها كالمسيح ففي قوله: { يخلق ما يشآء } ، إشارة إلى أن المسيح وأمه مخلوقان.
{ والله على كل شيء قدير } كثيرا ما تذكر القدرة عقب الاختراع وذكر الأشياء الغريبة. { وقالت اليهود والنصارى } الآية، ظاهر اللفظ أن جميع اليهود والنصارى قالوا عن جميعهم ذلك وليس كذلك بل في الكلام لف وإيجاز، والمعنى وقالت كل فرقة من اليهود والنصارى عن نفسها خاصة: نحن أبناء الله وأحباؤه يدل على ذلك.
وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء
[البقرة: 213]. والبنوة هنا بنوة الحنان والرأفة، وأحباؤه جمع حبيب فعيل نحو بمعنى مفعول أي محبوبوه وأجرى مجرى فعيل من المضاعف الذي هو اسم الفاعل نحو لبيب والباء. وقال ابن عباس: هم طائفة من اليهود خوفهم الرسول صلى الله عليه وسلم عقاب الله فقالوا: أتخوفنا بالله ونحن أبناء الله وأحباؤه. بعد قل محذوف تقديره كذبتم في دعواكم.
{ فلم يعذبكم بذنوبكم } ومن كان محبوبا لله وابنا له بمعنى الرأفة لا يعذبه. { بل أنتم بشر ممن خلق } اضرب عن الاستدلال الأول من غير إبطال وانتقل الى استدلال ثان من ثبوت كونهم بشرا من بعض من خلق فهم مساوون لغيرهم في البشرية والحدوث، وهما يمنعان البنوة فإن القديم لا يلد بشرا، والأب لا يخلق ابنه، فامتنع بهذين الوصفين البنوة وامتنع بتعذيبهم أن يكونوا أحباء الله فبطل الوصفان اللذان ادعوها.
{ يا أهل الكتاب } شامل لليهود والنصارى. { قد جآءكم رسولنا } هو محمد صلى الله عليه وسلم. { يبين لكم } مفعوله محذوف تقديره بين لكم شريعة الإسلام والدين. { على فترة من الرسل } أي على انقطاع من الرسل، إذ لم يكن بين محمد وعيسى عليهما السلام رسول على فترة. قال ابن عباس: أنه كان بين ميلاد عيسى والنبي عليهما السلام خمسمائة سنة وتسع وستون سنة بعث في أولها ثلاثة أنبياء، وهو قوله تعالى:
إذ أرسلنآ إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث
[يس: 14]. وهو شمعون وكان من الحواريين، وقال ابن الكلبي مثل قول ابن عباس إلا أنه قال بينهما أربعة أنبياء واحد من العرب من بني عبس وهو خالد بن سنان الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم ضيعه قومه.
و { أن تقولوا } مفعول من أجله تقدره البصريون كراهة أن تقولوا، أو حذار أن تقولوا، وقدره الفراء لئلا تقولوا وهو متعلق بقوله: قد جاءكم رسولنا. و { من بشير ولا نذير } من زائدة وهو فاعل بقوله ما جاءنا { فقد جاءكم } تكذيبا لهم وخصوصا اليهود.
[5.20-26]
{ وإذ قال موسى لقومه } الآية، مناسبتها لما قبلها أنه تعالى بين تمرد أسلاف اليهود على موسى وعصيانهم إياه مع تذكيره إياهم بنعم الله وتعداد ما هو العظيم منها وإن هؤلاء الذين هم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم هم جارون معك مجرى أسلافهم مع موسى عليه السلام وعدد عليهم من نعمة ثلاثا، الأولى: جعل أنبياء فيهم وذلك أعظم الشرف إذ هم الوسائط بين الله وبين خلقه والمبلغون عن الله شرائعه. الثانية: جعلهم ملوكا ظاهرة الامتنان عليهم بأن جعلهم ملوكا أي جعل منهم ملوكا إذ الملك شرف الدنيا واستيلاء، فذكرهم بأن منهم قادة الآخرة وقادة الدنيا. الثالثة: إيتاؤهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، فسره ابن عباس بالمن والسلوى والحجر والغمام.
و { الأرض المقدسة } المطهرة وهي إيليا المشتملة على بيت المقدس الآن، وقيل غير ذلك. وقال الفرزدق:
وبيتان بيت الله نحن نزوره
وبيت بأعلى إيلياء مشرف
وفي الحديث:
" لا تشد الرحال إلا إلى ثلاث مساجد، فمسجدي هذا والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ".
ومعنى: { كتب الله لكم } قسمها لكم وسماها وفي ذلك تنشيط لهم وتقوية، إذ أخبرهم بأن الله تعالى كتبها لهم. { ولا ترتدوا } أي لا تنكصوا. { على أدباركم } من خوف الجبابرة جنبا وهلعا. { قالوا ياموسى إن فيها } الظاهر أن قومه قالوا ذلك. وقيل: النقباء، وقيل: الأشراف المطلعون على الأسرار. { قوما جبارين } قيل: إنهم من الروم استولوا على الأرض المقدسة وكانوا شجعانا وذوي قوة، وقيل: من ولد العيص بن إسحاق. { وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها } بقتال غيرنا أو بسيب يخرجهم الله به فيخرجون.
{ قال رجلان } الأشهر عند المفسرين أن الرجلين هما يوشع بن نون بن أفراثيم بن يوسف وهو ابن أخت موسى، وكالب بن يوقنا ختن موسى على أخته مريم بنت عمران، وهما اللذان وفيا من النقباء الذي بعثهم موسى [عليه السلام] في كشف أحوال الجبابرة فكتما ما اطلعا عليه من حال الجبابرة إلا عن موسى عليه السلام وأفشى ذلك بقية النقباء في أسباطهم فآل بهم ذلك إلى الخور والجبن بحيث امتنعوا من القتال.
ومعنى: { من الذين يخافون } أي من قتال الجبابرة. { أنعم الله عليهما } أي بالوثوق بأن الله كتب لهم الأرض المقدسة. { ادخلوا عليهم الباب } والباب باب مدينة الجبارين. والمعنى أقدموا على الجهاد وكافحوا حتى تدخلوا عليهم الباب وهذا يدل على أن موسى كان قد أنزل محلته قريبا من المدينة.
{ فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } قالا ذلك ثقة بوعد الله في قوله: كتب الله لكم، وقيل: رجاء لنصر الله ورسله وغلب ذلك على ظنهم وما غزى قوم في عقر ديارهم إلا ذلوا وإذا لم يكونوا حافظي باب مدينتهم حتى دخل وهو المهم فلأن لا يحفظوا ما وراء الباب أولى.
{ وعلى الله فتوكلوا } لما رأيا بني إسرائيل قد عصوا الرسول صلى الله عليه وسلم في الاقدام على الجهاد مع وعد الله السابق لهم استرابا في إيمانهم فأمرهم بالتوكل على الله إذ هو الملجأ والمفزع عند الشدائد وعلقا ذلك بشرط الإيمان الذي استرابا في حصوله لبني إسرائيل، والفاء في قوله: فتوكلوا جواب أمر محذوف تقديره تنبهوا وعلى الله متعلق بتوكلوا كما قالت العرب زيدا فاضرب تقديره تنبه، فاضرب زيدا وكثيرا يأتي معمول ما بعد الفاء متقدما عليها.
{ قالوا ياموسى إنا لن ندخلهآ } لما كرر عليهم أمر القتال كرروا الامتناع على سبيل التوكيد الموئس وقيدوا أولا نفي الدخول بالظرف المختص بالاستقبال وحقيقة التأبيد. وقد يطلق على الزمان المتطاول وكأنهم أولا نفوا الدخول طول الأبد ثم رجعوا إلى تعليق ذلك بديمومية الجبارين فيها، وما في قوله: { ما داموا } مصدرية ظرفية تقديره مدة دوامهم فيها فأبدلوا زمانا مقيدا من زمان هو ظاهر في العموم في الزمان المستقبل فهو بدل بعض من كل.
{ فاذهب أنت وربك } ظاهر الذهاب الانتقال وهذا يدل على أنهم كانوا مشبهة ولذلك قال الحسن: هو كفر منهم بالله تعالى، ويدل على ذلك عبادتهم العجل واتخاذه إلها وكونهم حين مروا بقوم يعبدون البقر. قالوا لموسى عليه السلام:
اجعل لنآ إلها كما لهم آلهة
[الأعراف: 138]. وربك معطوف على الضمير المستكن في اذهب المؤكد بأنت. وتقدم الكلام على نظير هذا في قوله:
اسكن أنت وزوجك الجنة
[البقرة: 35].
{ إنا هاهنا قاعدون } هذا دليل على أنهم خارت طباعهم فلم يقدروا على النهوض معه للقتال ولا على الرجوع في حيث جاؤوا بل أقاموا حيث كانت المجاورة بين موسى وبينهم وها من قوله هاهنا للتنبيه وهنا ظرف مكان للقريب؛ والعامل فيه قاعدون.
{ قال رب إني لا أملك } لما عصوا أمر الله وتمردوا على موسى وسمع منهم ما سمع من كلمة الكفر وسوء الأدب مع الله ولم يبق معه من يثق به إلا هارون قال ذلك، وهذا من الكلام المنطوي صاحبه على الالتجاء إلى الله وشدة اللياذ به والشكوى إليه ورقة القلب التي تستجلب الرحمة وتستنزل النصرة. { وأخي } منصوب معطوف على نفسي، ويعني به هارون عليه السلام وكأنه ما اعتد بذينك الرجلين المؤمنين، كما روي عن علي كرم الله وجهه أنه خطب في مسجد الكوفة مستنجدا على قتال أعدائه فلم يجبه إلا رجلان، فقال: أين يقعان مما أريد. وأجاز الزمخشري وابن عطية أن يكون " وأخي " مرفوعا معطوفا على الضمير المستكن في أملك وجاز ذلك للفصل بينهما بالمفعول المحصور ويلزم من ذلك، ان موسى وهارون لا يملكان إلا نفس موسى فقط وليس المعنى على ذلك بل الظاهر ان موسى عليه السلام يملك أمر نفسه وأمر أخيه فقط.
{ فافرق بيننا } ظاهره أنه دعا بأن الله يفرق بينهما. { قال فإنها محرمة عليهم } قال فيه ضمير يعود على الله تعالى، فإنها أي الأرض المقدسة محرمة عليهم، أي محرم دخولها وتملكهم إياها وانتصب أربعين على أنه ظرف زمان والعامل فيه محرمة. قيل: وحكمة هذا العدد انهم عبدوا العجل أربعين يوما فجعل لكل يوم سنة، قيل: ان من كان جاوز عشرين سنة لم يعش الى الخروج من التيه وإن من كان دون العشرين عاش فكأنه لم يعش المكلفون العصاة.
{ يتيهون } التية في اللغة: الحيرة، يقال: تاه يتيه ويتوه وتيهته وتوهته، والياء أكثر. والأرض التيهاء التي لا يتهدى فيها، وأرض تيه. وقيل: العامل في قوله: أربعين، لفظ يتيهون. قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون العامل في أربعين مضمرا يدل عليه يتيهون المتأخر. انتهى. لا أدري ما الحامل له على قوله: إن العامل مضمر كما ذكر. بل الذي جوزه الناس في ذلك هو أن يكون العامل فيه يتيهون نفسه لا مضمر يفسره قوله: يتيهون في الأرض. قال ابن عباس: تسعة فراسخ. وقال مقاتل: هذا عرضها وطولها ثلاثون فرسخا. وروى في كيفية تيههم في هذه المدة أنهم كانوا يرحلون بالليل ويسيرون ليلهم أجمع حتى إذا أصبحوا وجدوا جملتهم في الموضع الذي ابتدؤا منه ويسيرون النهار جادين حتى إذا أمسوا إذا هم حيث ارتحلوا عنه فيكون سيرهم تحليقا. وقيل: إنهم كانوا ستمائة ألف مقاتلين. قيل: والحكمة في التيه هو أنهم لما قالوا أنا هاهنا قاعدون عوقبوا بالقعود فصاروا في صورة القاعدين وهم سائرون كلما ساروا يوما أمسوا في المكان الذي أصبحوا فيه وكان هذا التيه خرق عادة وعجبا من قدرة الله تعالى حيث كانوا عقلاء ولم يهتدوا للخروج من التيه، ومات موسى وهارون عليهما السلام في التيه، فكان التيه عذابا لبني إسرائيل ورحمة لموسى وهارون وراحة وروحا ونبأ الله تعالى بعد موتهما يوشع بن نون بعد كمال الأربعين سنة فصدقه بنو إسرائيل وأخبرهم بأن الله سبحانه أمرهم بقتال الجبابرة فبايعوه وسار بهم إلى اريحا وقتل الجبارين وأخرجهم وصار الشام كله لبني إسرائيل وفي تلك الحرب وقفت له الشمس ساعة حتى استمر هزم الجبارين.
{ فلا تأس } أي فلا تحزن يقال: أسى الرجل يأسى أسى، إذا حزن. والظاهر أنه خطاب لموسى عليه السلام ومعنى على القوم الفاسقين على عذابهم وإهلاكهم.
[5.27-30]
{ واتل عليهم } الآية، وهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم. وعليهم أي على بقية بني إسرائيل الذين عاصروه عليه السلام وهموا ببسط أيديهم وقالوا إنهم أبناء الله وأحباؤه، وذكرهم موسى عليه السلام بنعم الله تعالى. ومناسبة هذه الآية، لما قبلها أنه كان من آخر كلامهم لموسى عليه السلام اذهب أنت وربك فقاتلا وذلك لجبنهم وخور طباعهم عن قتال الجبارين. وفي قصة ابني آدم جسارة قابيل على قتل النفس التي حرم الله قتلها فتشابها من هذا الوجه فكان قابيل أول عاص في هذه المعصية العظيمة وبنو إسرائيل أول من خاطب رسولهم بقولهم: إذهب أنت وربك فقاتلا، والنبأ الخبر وابنا آدم هما قابيل وهابيل ابناه لصلبه.
{ إذ قربا } إذ منصوب بقوله نبأ. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون بدلا من النبأ، أي إتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت على تقدير حذف المضاف. " انتهى ". لا يجوز ما ذكر لأن إذ لا يضاف إليها إلا الزمان ونبأ ليس بزمان والقربان الذي قرباه هو زرع لقابيل وكبش لهابيل، وكانت علامة التقبل أكل النار النازلة من السماء القربان وترك غير المتقبل.
قال الزمخشري: يقال قرب صدقة وتقرب بها لأن تقرب مطاوع قرب. " انتهى ". ليس تقرب بصدقة مطاوع قرب لإتحاد فاعل الفعلين والمطاوع يختلف فيها الفاعل فيكون من أحدهما فعل ومن الآخر انفعال نحو كسرته فانكسر وفلقته فانفلق، وليس قربت صدقة وتقربت بها من هذا الباب فهو غلط. فاحش.
{ فتقبل من أحدهما } هو هابيل. { ولم يتقبل من الآخر } هو قابيل. { قال لأقتلنك } هذا تهديد شديد ووعيد بالقتل لأخيه. وأكده بالقسم المحذوف وتقديره والله لأقتلنك، ولما هدده بالقتل علم أنه لم يكن متقيا لله تعالى لتهديده بهذه المعصية العظيمة وكان ذلك حسدا له، فقال: { إنما يتقبل الله من المتقين } ومن لم يرض بفعل الله تعالى لم يكن متقيا له، ثم قال: { لئن بسطت } الآية، فبين التفاوت بينهما بأنك إن أردت قتلي فما أريد قتلك، واللام في لئن هي الموطئة المؤذنة بقسم محذوف وإن شرطية، وجواب القسم قوله: { مآ أنا بباسط } وجواب أن محذوف لدلالة جواب القسم عليه وذكر أن الحامل له على أنه لا يريد قتله خوفه من الله تعالى.
قال الزمخشري: فإن قلت: لم جاء الشرط بلفظ الفعل والجزاء بلفظ اسم الفاعل وهو قوله: لئن بسطت ما أنا بباسط؟ قلت: ليفيد أنه لا يفعل ما يكتسب به هذا الوصف الشنيع ولذلك أكده بالباء المؤكدة للنفي. " انتهى ". وأورد أبو عبد الله الرازي هذا السؤال والجواب ولم ينسبه للزمخشري وهو كلام فيه انتقاد وذلك أن قوله: ما أنا بباسط ليس جزاء للشرط بل هو جواب للقسم المحذوف ولو كان جوابا للشرط لكان بالفاء فإنه إذا كان جواب الشرط منفيا بما فلا بد من إلقاء إلا أن كانت الأداة ليست من الجوازم في الكلام فلا يحتاج إذ ذاك إلى الفاء كقوله تعالى:
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات
[يونس: 15]. ما كان حجتهم إلا أن قالوا: والقاعدة النحوية أنه إذا اجتمع قسم وشرط كان الجواب للسابق منهما إذا لم يتقدمهما ذو خبر.
{ إني أريد أن تبوء } الآية، المعنى أن قتلتني وسبق بذلك قدر فاختياري أن أكون مظلوما ينتصر الله لي في الآخرة. { فطوعت له نفسه } وهو فعل من التطوع وهو الانقياد كأن القتل كان ممتنعا عليه متعاصيا وأصله طاع له قتل أخيه أي انقاد إليه وسهل ثم عدى بالتضعيف فصار الفاعل مفعولا والمعنى أن القتل في نفسه مستصعب عظيم على النفوس فردته هذه النفس اللجوج الأمارة بالسوء طائعا منقادا حتى أوقعه صاحب هذه النفس. وقرىء فطاوعت يكون فاعل فيه للاشتراك نحو ضاربت زيدا. قال الزمخشري: فيه وجهان، أن يكون مما جاء على فاعل بمعنى فعل، وأن يراد أن قتل أخيه كأنه دعا نفسه إلى الاقدام عليه فطاوعته ولم تمتنع وله لزيادة الربط كقولك حفظت لزيد ماله. " انتهى ".
أما الوجه الثاني: فهو موافق لما ذكرناه، وأما الوجه الأول فقد ذكر سيبويه ضاعفت وضعفت مثل ناعمت ونعمت وقال: فجاؤا به على مثال عاقبته. قال: وقد يجيء فاعلت لا يراد بها عمل اثنين ولكنهم بنوا عليه الفعل كما بنوه على أفعلت وذكر أمثلة منها عافاه الله وهذا المعنى وهو أن فاعل بمعنى فعل أغفله بعض المصنفين. من أصحابنا في التصريف كابن عصفور وابن مالك وناهيك بهما جمعا وإطلاعا فلم يذكر أن فاعل يجيء بمعنى فعل ولا فعل بمعنى فاعل وقوله: وله لزيادة الربط يعني في قوله: فطوعت له، يعني أنه لو جاء فطوعت نفسه قتل أخيه لكان كلاما تاما جاريا على كلام العرب وإنما جيء به على سبيل زيادة الربط للكلام إذ الربط يحصل بدونه كما أنك لو قلت: حفظت مال زيد، كان كلاما تاما، فأصبح بمعنى صار.
[5.31-34]
{ فبعث الله غرابا } روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أول قتيل قتل على وجه الأرض ولما قتله تركه بالعراء لا يدري ما يصنع به فخاف عليه.
{ فبعث الله غرابا } والغراب طائر معروف ويجمع في القلة على أغربه، وفي الكثرة على غربان، قيل: وهو مشتق من الاغتراب وتتشاءم به العرب. قال الشاعر:
جرى بفراق العامرية غدوة
سواج سود ما تعيد وما تبدى
يعني الغربان: وظاهر الآية، أن الله تعالى بعث غرابا يبحث في الأرض فروي أنهما غرابان قتل أحدهما الآخر فحفر له بمنقاره ورجليه حفرة وألقاه فيها والبحث في الأرض نبش التراب وإثارته. { ليريه } متعلق بقوله: بعث، والمواراة: الستر، والضمير الفاعل في ليريه عائد على الغراب ويجوز أن يكون عائدا على المصدر المفهوم من قوله: يبحث، أي ليريه البحث، وكيف منصوب بقوله: يواري، والجملة استفهامية في موضع مفعول ثان لقوله ليريه بمعنى ليعلمه. والسوءة: العورة.
{ قال ياويلتا أعجزت } الآية، استقصر إدراكه وعقله في جهله ما يصنع بأخيه حتى تعلم وهو ذو العقل المركب فيه الفكر والروية والتدبير من طائر لا يعقل ومعنى هذا الاستفهام الإنكار على نفسه والنفي أي لا أعجز عن كوني مثل هذا الغراب وفي ذلك هضم لنفسه واستصغار لها بقوله: مثل هذا الغراب وأصل النداء أن يكون لمن يعقل ثم قد ينادي ما لا يعقل على سبيل المجاز كقولهم: يا عجبا ويا حسرة، والمراد بذلك التعجب، كأنه قال: انظروا لهذا العجب ولهذه الحسرة، والمعنى تنبهوا لهذه الهلكة وتأويله هذا أو انك فاحضري وقراءة الجمهور يا ويلتا بألف هي منقلبة عن الياء كما قالوا في يا غلامي يا غلاما، وقرىء يا ويلتي على أصل ياء المتكلم، وقرىء أعجزت بفتح الجيم وهي اللغة الفصيحة وبكسرها وهي قراءة شاذة، والعجز عن الشيء انتفاء القدرة عليه.
و { أن أكون } تقديره عن أن أكون فحذف عن وأن أكون هل هو في موضع رفع أو نصب أو في موضع جر فيه خلاف. { فأواري } معطوف على قوله أن أكون فالعجز متسلط على الكون وعلى المواراة. قرأ طلحة بن مصرف والفياض بن عروان فأواري بسكون الياء فالأولى أن تكون على القطع أي فأنا أواري سوءة أخي فيكون أواري مرفوعا.
وقال الزمخشري: وقرىء بالسكون على فأنا أواري أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف. " انتهى ". يعني أنه حذف الحركة وهي الفتحة تخفيفا استثقلها على حرف العلة.
قال ابن عطية: هي لغة لتوالي الحركات لا ينبغي أن تخرج على النصب لأن النصب مثل هذا هو بظهور الفتحة ولا تستثقل الفتحة فتحذف تخفيفا، كما أشار إليه الزمخشري ولا ذلك لغة كما زعم ابن عطية ولا يصح التعليل بتوالي الحركات فيه وهذا عند النحويين أعني النصب بحذف الفتحة لا يجوز إلا في الضرورة فلا تحمل القراءة عليها إذا وجد حملها على معنى صحيح وقد وجد وهو الاستئناف أي فأنا أواري.
قال ابن عباس: هو من حيث انتهاك حرمتها بالقتل أو صون حرمتها بالامتناع وباستحيائها. { ولقد جآءتهم } الضمير في جاءتهم عائد على بني إسرائيل. ومعنى بالبينات: بالمعجزات والكتب الإلهية الواضحة. فكان المناسب اتباع الرسل فيما جاؤا به من امتثال أمر الله والانقياد لأحكامه.
وقال الزمخشري: فأواري بالنصب على جواب الاستفهام. " انتهى ". وهو خطأ فاحش لأن الفاء الواقعة جوابا للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية والجواب شرط وجزاء وهنا لا تنعقد. تقول: أتزورين فأكرمك فالمعنى أن تزرني أكرمك لو قلت هنا: ان أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوار سوءة أخي لم يصح لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب.
{ فأصبح من النادمين } قبل هذا جملة محذوفة تقديرها فوارى سوءة أخيه. والظاهر أن ندمه كان على قتل أخيه لما لحقه من عصيان ربه وإسخاط أبويه وتبشيره أنه من أصحاب النار وهذا يدل على أنه كان عاصيا لا كافرا.
{ من أجل ذلك } متعلق بقوله: كتبنا، ويقال: أجل وأجل ومعناه. من سبب ذلك القتل. { كتبنا على بني إسرائيل } يقال: فعلت هذا من أجلك أي بسببك. وقيل: يتعلق من أجل بقوله: { من النادمين } أي صار من النادمين بسبب القتل، ويكون كتبنا على بني إسرائيل استئناف كلام.
وقوله: { بغير نفس } أي بغير قتل نفس. { أو فساد } هو معطوف على نفس أي وبغير فساد، والفساد: قطع الطريق وقطع الأشجار وقتل الدواب لا لضرورة وحرق الزرع وما يجري مجراه، وهو الفساد المشار إليه بعد هذه الآية. والضمير في أنه. ضمير الأمر والشأن، ومن شرطية وجوابه فكأنما، والجملة في موضع خبر انه، وتشبيهه قتل النفس الواحدة بقتل الناس جميعا وإحياها بإحيائهم.
{ ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك } أي بعد مجيء الرسل لمسرفون أي مجاوزون الحد في المعاصي وعدم اتباع الرسل ومنهم في موضع الصفة لقوله: كثيرا، وبعد منصوب على الظرف، والعامل فيه قوله: { لمسرفون }.
{ إنما جزآء الذين } الآية، نزلت في قوم من عكل وعرينة، وحديثهم مشهور. ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر في الآية قبلها تغليظ الإثم في قتل النفس بغير نفس ولا فساد في الأرض اتبعه ببيان الفساد في الأرض الذي يوجب القتل ما هو فإن بعض ما يكون فسادا في الأرض لا يوجب القتل.
{ يحاربون الله } هو على حذف مضاف تقديره يحاربون أولياء الله والمحاربة مطلقة ففسرها مالك بأن المحارب هو في حمل السلاح على الناس في مصر أو في برية فكادهم عن أنفسهم وأموالهم دون ثائرة ولا دخل ولا عداوة، ومذهب أبي حنيفة وجماعة ان المحاربين هم القطاع للطريق خارج المصر وأما في المصر فيلزمه حد ما.
اجترح من قتل أو سرقة أو غصب أو نحو ذلك. وقوله: في الأرض، ظاهرة العموم فيشمل المصر وغيره، كما قال مالك: والسعي في الأرض فسادا، يحتمل أن يكون المعنى بمحاربتهم أي يضيفون فسادا إلى المحاربة، وانتصب فسادا على أنه مفعول أو مصدر في موضع الحال أو مصدر من معنى يسعون على معنى ان يسعون في الأرض معناه يفسدون لما كان السعي للفساد جعل فسادا أي إفسادا. والظاهر في هذه العقوبات الأربع أن الإمام مخير بين إيقاع ما شاء منها بالمحارب في أي رتبة كان المحارب من الرتب التي قدمناها وبه قال جماعة من الصحابة وهو مذهب مالك وجماعة وقال ملك: استحسن أن يأخذ في الذي لم يقتل بأيسر العقاب ولا سيما إن لم يكن ذا شرور معرفة، وأما إن قتل فلا بد من قتله. وقال ابن عباس وجماعة من التابعين: لكل رتبة من الحرابة رتبة من العقاب فمن قتل يقتل ومن أخذ المال ولم يقتل فالقطع من خلاف ومن أخاف فقط فالنفي ومن جمعها قتل وصلب، والقائلون بهذا الترتيب اختلفوا. فقال أبو حنيفة ومحمد وغيرهما: يصلب حيا ويطعن حتى يموت. وقال الشافعي وجماعة: يقتل ثم يصلب نكالا لغيره، وأما القطع فاليد اليمنى من الرسغ والرجل الشمال من المفصل. واختلفوا في النفي فقال أبو حنيفة: النفي هو أن يسجن وهو إخراجه من الأرض. قال الشاعر وهو مسجون:
خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها
فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا
قال السدي: هو أن يطلب بالخيل والرجل فيقام عليه حد الله ويخرج من دار الإسلام. وقال مالك: لا يضطر مسلم إلى الدخول في دار الشرك. { ذلك لهم خزي في الدنيا } أي ذلك الجزاء من القتل والصلب والقطع والنفي. والخزي الهوان والذل والافتضاح. { ولهم في الآخرة } ظاهرة الجمع للمحارب بين عقاب الدنيا وعذاب الآخرة.
{ إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم } الآية ظاهرة أنه استثناء من المعاقبين عقاب قاطع الطريق، فإذا تابوا قبل القدرة على أخذهم سقط عنهم ما ترتب على الحرابة. وهذا ظاهر فعل علي رضي الله عنه بحارثة بن بدر الغداني فإنه كان محاربا ثم تاب قبل القدرة عليه فكتب له بسقوط الأموال والدم عنه كتابا منشورا. وقالوا: لا نظر للإمام فيه كما ينظر في سائر المسلمين؛ فإن طولب بدم نظر فيه وأقيد منه بطلب الولي، وإن طولب بمال فمذهب مالك والشافعي وأصحاب الرأي يؤخذ ما وجد عنده من مال وغيره ويطالب بقيمة ما استهلك. وقال قوم من الصحابة والتابعين: لا يطالب بما استهلك ويؤخذ ما وجد عنده بعينه. وظاهر قوله: غفور رحيم، عدم المطالبة بشيء من الجزاء السابق لمن تاب من المحاربين قبل القدرة عليه.
[5.35-40]
{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله } الآية مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جزاء المحاربين أمر المؤمنين بتقوى الله وابتغاء القربات إليه فإن ذلك هو المنجي من المحاربة والعقاب المعد للمحاربين والوسيلة القربة أمر المؤمنين بأوصاف خالف فيها المحارب إذ لم يتق الله تعالى ولا ابتغى قربة إليه، وجعل الحرابة عوض الجهاد في سبيل الله فاستحق بذلك العقاب العظيم في الدنيا والعذاب في الآخرة، ورتب هنا رجاء الفلاح على الاتصاف بهذه الأوصاف التي في هذه الآية من التقوى وابتغاء الوسيلة والجهاد.
{ إن الذين كفروا } الآية لما ذكر حال المؤمن ورجاء الفلاح له ذكر حال الكافر وما يقول إليه. وخبر إن هو لو، وجوابها ومثله معطوف على ما من قوله: ما في الأرض، أي الذي في الأرض، وجواب لو جاء منفيا وهو قوله: ما تقبل منهم، وجاء على الفصيح من ترك اللام إذ يجوز في الكلام لو جاء زيد لما جاء عمرو، فتدخل اللام على ما النافية. وقال به فأفرد الضمير وإن كان تقدمه شيآن ما الموصولة ومثله لتلازمهما، كما قالت العرب: رب يوم وليلة مربي، تريد مر أبي فأفرد الضمير لتلازم اليوم والليلة. (قال الزمخشري: ويجوز أن تكون الواو في ومثله معه بمعنى مع فيتوحد المرجوع إليه، فإن قلت: فيم ينتصب المفعول معه؟ قلت: بما تستدعيه لو من الفعل لأن التقدير لو ثبت أن لهم ما في الأرض جميعا. " انتهى ". إنما توحد الضمير لأن حكم ما قبل المفعول معه في الخبر والحال وعود الضمير متأخرا حكمه متقدما تقول الماء والخشبة استوا كما تقول الماء استوى والخشبة. وقد أجاز الأخفش في ذلك أن يعطي حكم المعطوف فتقول: الماء والخشبة استويا ومنع ذلك ابن كيسان، وقول الزمخشري: ويجوز أن تكون الواو في ومثله بمعنى مع ليس بشيء لأنه يصير التقدير مع مثله معه أي مع مثل ما في الأرض إن جعلت الضمير في معه عائدا على ما فيكون معه حالا من مثله، وإذا كان ما في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة فلا فائدة في ذكر معه لملازمة معية كل منهما للآخر. وإن جعلت الضمير عائدا على مثله أي مع مثله مع ذلك المثل فيكون المعنى مع مثلين فالتعبير عن هذا المعنى بتلك العبارة عن إذا الكلام المنتظم أن يكون التركيب إذا أريد ذلك المعنى مع مثله. وقول الزمخشري: فإن قلت: إلى آخر الجواب هذا السؤال لا يرد لأنا قد بينا فساد أن تكون الواو واو مع وعلى تقدير وروده فهذا بناء منه على أن أن إذا جاءت بعد لو كانت في موضع رفع على الفاء عليه فيكون التقدير على هذا لو ثبت كينونة ما في الأرض مع مثله لهم ليقتدوا به فيكون الضمير عائدا على ما فقط وهذا الذي ذكره وهو تقريع منه على مذهب المبرد في أن أن بعد لو في موضع رفع على الفاعلية وهو مذهب مرجوح.
ومذهب سيبويه أن إن بعد لو في موضع رفع على الابتداء والزمخشري لا يظهر من كلامه في هذا الكتاب وفي تصانيفه أنه وقف على مذهب سيبويه في هذه المسألة وعلى التقريع على مذهب المبرد لا يصح أن يكون، ومثله مفعولا معه ، ويكون العامل فيه ما ذكر من الفعل وهو ثبت بوساطة الواو فيه. ولما تقدم من وجود لفظه معه وعلى تقدير سقوطها لا يصح لأن ثبت ليست رافعة ما العائد عليها الضمير وإنما هي رافعة مصدر انسبكا من ان وما بعدها وهو كون إذ التقدير لو ثبت كون ما في الأرض جميعا لهم ومثله معه ليقتدوا به، والضمير عائد على ما دون الكون فالرافع للفاعل غير الناصب للمفعول معه إذ لو كان إياه للزم من ذلك وجود الثبوت مصاحبا للمثل، والمعنى كينونة ما في الأرض مصاحبا للمثل لا على ثبوت ذلك مصاحبا للمثل وهذا فيه غموض، وبيانه أنك إذا قلت: يعجبني قيام زيد وعمرا، وجعلت عمرا مفعولا معه، والعامل فيه يعجبني لزم من ذلك أن عمرا لم يقم وأنه أعجبك القيام وعمرو وال جعلت العامل فيه القيام كان عمرو قائما، وكان الإعجاب قد تعلق بالقيام مصاحبا القيام عمرو. فإن قلت: هلا كان ومثله معه مفعولا معه والعامل فيه هو العامل في لهم، إذ المعنى عليه؟ قلت: لا يصح ذلك لما ذكرناه من وجود معه في الجملة. وعلى تقدير سقوطها لا يصح لأنهم نصوا على أن قولك: هذا لك وأباك ممنوع في الاختيار. وقال سيبويه واما هذا لك وأباك فقبيح لأنه لم يذكر فعلا ولا حرفا فيه معنى فعل حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل. " انتهى ". فأفصح سيبويه بأن اسم الإشارة وحرف الجر المتضمن معنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه ولو كان أحدهما يجوز أن ينصب المفعول معه لخير بين أن ينسب العمل لإسم الإشارة أو لحرف الجر. وقد أجاز بعض النحويين أنه يعمل في المفعول معه الظرف وحرف الجر، فعلى هذا المذهب يجوز لو كانت الجملة خالية من قوله معه أن يكون ومثله مفعولا على أن العامل هو العامل في لهم.
{ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } الآية، قال السائب: نزلت في طعمة بن أبيرق ومضت قصته في سورة النساء ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر جزاء المحاربين بالعقوبات التي منها قطع الأيدي والأرجل من خلاف، ثم أمر بالتقوى لئلا يقع الإنسان في شيء من الحرابة ثم ذكر حال الكفار ذكر حكم السرقة لأن فيها قطع الأيدي بالقرآن، والأرجل بالسنة، على ما يأتي ذكره.
وهي أيضا حرابة من حيث المعنى لأن فيها سعيا بالفساد إلا أن تلك على سبيل الشوكة والظهور والسرقة على سبيل الاختفاء والتستر. والظاهر عموم السارق والسارقة فيمن سرق قليلا أو كثيرا، واختلفوا فيما يقطع فيه السارق فقيل: يقطع في القليل والكثير كما دل عليه ظاهر العموم وهو مذهب جماعة من الصحابة والتابعين وهو مذهب داود والخوارج. قال داود ومن وافقه: لا يقطع في سرقة حبة واحدة ولا تمرة واحدة بل في أقل شيء يسمى مالا وفي أقل شيء يخرج الشح والفئة. وقيل: النصاب الذي تقطع فيه اليد عشرة دراهم فصاعدا أو قيمتها من غيرها وهو قول بعض الصحابة والتابعين وبه قال أبو حنيفة والثوري. وقيل: ربع دينار فصاعدا أو قيمتها من غيرها وهو قول الصحابة وبعض التابعين وهو قول الأوزاعي والليث والشافعي وأبي ثور. وقيل: خمسة دراهم وهو قول أنس وعروة وسليمان بن يسار والزهري. وقيل: أربعة دراهم وهو مروي عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة. وقيل: ثلاث دراهم وهو قول ابن عمر وبه قال مالك وإسحاق وأحمد إلا أن كان ذهبا فلا يقطع إلا في ربع دينار. وقيل: درهم فما فوقه وبه قال عثمان الليثي وقطع عبد الله ابن الزبير في درهم. وللسرقة التي تقطع فيها اليد شروط ذكرت في الفقه. وقرأ الجمهور " والسارق والسارقة " بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف، والتقدير فيما يتلى عليكم أو فيما فرض عليكم السارق والسارقة أي حكمهما، ولا يجيز سيبويه أن يكون الخبر قوله: { فاقطعوا } ، لأن الفاء لا تدخل إلا في خبر المبتدأ موصول بظرف أو مجرور أو جملة صالحة لأداة الشرط الموصول هنا أل وصلتها اسم فاعل أو إسم مفعول وما كان هكذا لا تدخل الفاء في خبره عند سيبويه وقد أجاز ذلك جماعة من البصريين أعني أن يكون والسارق والسارقة مبتدأ والخبر جملة الأمر. اجروا أل وصلتها مجرى الموصول المذكور لأن المعنى فيه على العموم إذ معناه الذي سرق والتي سرقت. وقد تجاسر الفخر الرازي وأساء الأدب على سيبويه وتكلمنا معه بما يوقف عليه في البحر الملخص منه هذا الكتاب. وقرىء شاذا والسارق والسارقة بالنصب على الاشتغال أي اقطعوا السارق والسارقة، كما تقول: زيدا فاضربه أي اضرب زيدا فاضربه. وللزمخشري في هذه القراءة كلام غريب فهمه عن تحرير كلام سيبويه ورددناه عليه في البحر. والمخاطب بقوله: فاقطعوا، هو في تولي أمور المسلمين ممن يكون له إقامة الحدود عليهم. والظاهر من قوله: أيديهما، أنه يقطع من السارق يداه الثنتان لكن الإجماع على خلاف هذا الظاهر، وإنما يقطع من السارق يمناه ومن السارقة يمناها.
قال الزمخشري: أيديهما يديهما ونحوه فقد صغت قلوبكما النفي بتثنية المضاف إليه عن تثنية المضاف، وأريد باليدين اليمينان بدليل قراءة عبد الله: والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم. " انتهى ".
وسوى الزمخشري بين أيديهما وقلوبكما وليسا بشيئين لأن باب صغت قلوبكما يطرد فيه وضع الجمع موضع التثنية وهو ما كان اثنين من شيئين كالقلب والأنف والوجه والظهر، وأما إن كان في كل شيء منهما اثنان كاليدين والأذنين والفخذين فإن وضع الجمع موضع التثنية لا يطرد وإنما يحفظ ولا يقاس عليه. ولم تتعرض الآية في قطع الرجل في السرقة، وفي ذلك خلاف، ذكر في مسائل الخلاف وظاهر قطع اليد أنه يكون من المنكب وهو مذهب الخوارج. ومذهب الجمهور أنه من الرسغ وفي الرجل من المفصل. وروى عن علي أنه في اليد من الأصابع وفي الرجل من نصف القدم وهو معقد الشراك. والظاهر أن المترتب على السرقة هو قطع اليد فقط فإن كان المال قائما بعينه أخذه صاحبه وإن كان السارق استهلكه فلا ضمان عليه، وبه قال مكحول وجماعة من التابعين. وقال الشافعي وأحمد وإسحاق: يضمن ويغرم. وقال مالك: إن كان موسرا ضمن أو معسرا فلا شيء عليه.
{ جزآء بما كسبا نكالا من الله } الآية، قال الكسائي انتصب جزاء على الحال وقال قطرب على المصدر أي جزاء وهما جزاء. وقال الجمهور على المفعول من أجله وبما يتعلق بجزاء وما موصولة أي بالذي كسباه، ويحتمل أن تكون ما مصدرية أي جزاء بكسبهما وانتصاب نكالا على المصدر أو على أنه مفعول من أجله والنكال: العذاب. والنكل: القيد. وتقدم الكلام عليه عند فجعلناها نكالا. وقال الزمخشري: جزاء ونكالا مفعول لهما. " انتهى ".
وتبع في ذلك الزجاج وقال الزجاج هو مفعول من أجله يعني جزاء، قال وكذلك نكالا من الله. " انتهى ". وهذا ليس بجيد إلا إذا كان الجزاء هو النكال فيكون ذلك على طريق البدل واما إذا كانا متباينين فلا يجوز أن يكونا مفعولين لهما إلا بواسطة حرف العطف.
{ والله عزيز حكيم } عزيز في انتقامه من السارق وغيره من أهل المعصية، حكيم في فرائضه وحدوده. وروي أن بعض الأعراب سمع قارئا يقرأ هذه الآية، وختمها بقوله: { الله غفور رحيم } ، فقال: ما هذا كلام فصيح. فقيل له: ليست التلاوة كذلك وإنما هي: والله عزيز حكيم. فقال: بخ بخ عز فحكم فقطع.
{ فمن تاب } هذا عام في كل تائب من جراءته وسرقة وغيرهما، وقوله: ظلمه، هو مصدر مضاف للفاعل أي من بعد أن ظلم غيره أو نفسه بالمعصية. وقوله: وأصلح عطف على تاب فلم يقتصر على توبته وإصلاحه هو تنصله من التبعات، ومعنى يتوب عليه، أي يتجاوز عنه. { ألم تعلم } خطاب للسامع، وهو تقرير معناه الإثبات أي قد علمت وقدم يعذب هنا على يغفر لأنه تقدم ما يصنع بالمحارب من العذاب وبالسارق من القطع فذكر التعذيب أولا أردع له وأطلق التعذيب فجاز أن يراد به التعذيب في الدنيا أو في الآخرة أو كليهما. ومفعول يشاء محذوف تقديره من يشاء تعذيبه وكذلك قوله: ويغفر لمن يشاء. أي يشاء غفران ذنبه.
[5.41-43]
{ يأيها الرسول } الآية، سبب نزولها أن يهوديا زنا بيهودية فرفع أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم عليهما بالرجم فأنكر اليهود ذلك وزعموا أن التوراة ليس فيها الرجم فأتي بها فوجد فيها الرجم فافتضحوا.
{ من الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم } الآية، هم المنافقون. و { سماعون للكذب } يراد به اليهود. والمعنى على هذا لا تهتم بمسارعة المنافقين في الكفر واليهود أي بإظهار ما يلوح له من آثار الكفر وهو كيدهم للإسلام وأهله فإن الله ناصرك عليهم ومسارعتهم في الكفر وقوعهم وتهافتهم فيه أسرع شيء إذا وجدوا فرصة لم يخطؤها وتكون من الأولى والثانية على هذا تبيينا وتقسيما للذين يسارعون في الكفر، فيكون قوله: ومن الذين هادوا. معطوفا على قوله: { من الذين قالوا }. ويجوز أن يكون ومن الذين هادوا، استئناف كلام فلا يكون معطوفا على قوله: من الذين قالوا. وسماعون مبتدأ أي قوم سماعون، ومن الذين هادوا خبره. { سماعون لقوم آخرين } قيل: انهم أهل فدك كانت اليهود تستمع منهم. وقيل: غيرهم.
{ يحرفون الكلم } أي يزيلونه ويميلونه عن مواضعة التي وصفها الله فيها. قال ابن عباس والجمهور: هي حدود الله في التوراة وذلك أنهم غيروا الرجم أي وضعوا الجلد مكان الرجم.
{ إن أوتيتم هذا } إشارة إلى ما حرفوه من تبديل الرجم بالتحميم والجلد، أي إن حكم عليكم بهذا فخذوه أي فاقبلوه وإن لم تعطوا ما تحكمون به من التحميم والجلد فاحذروا أي فلا تقبلوا.
{ سماعون للكذب } تأكيد لما قبله. { أكالون للسحت } أي الرشا وهو المال الذي يأخذونه على تبديل أحكام الله تعالى وتحريفها. { فإن جآءوك } الآية، يعني للحكم بينهم فخير الله تعالى نبيه بين الحكم بينهم والإعراض عن الحكم.
{ وكيف يحكمونك } الآية، هذا تعجيب من تحكيمهم إياه مع أنهم لا يؤمنون به ولا بكتابه وفي كتابهم الذين يدعون الإيمان به حكم الله نص جلي فليسوا قاصدين حكم الله حقيقة وإنما قصدوا بذلك أن يكون عنده صلى الله عليه وسلم رخصة فيما تحاكموا إليه فيه اتباعا لأهوائهم وانهماكا في شهواتهم، ومن عدل عن حكم الله في كتابه الذي يدعي أنه مؤمن به إلى تحكيم من لم يؤمن به ولا بكتابه فهو لا يحكم إلا رغبة فيما يقصده من مخالفة كتابه. وإذا خالفوا كتابهم لكونه ليس على وفق شهواتهم فلأن يخالفوك إذا لم توافقهم أولى وأحرى والواو في " وعندهم " للحال وعندهم التوراة مبتدأ وخبر وفيها حال من التوراة وارتفع حكم على الفاعلية بالجار والمجرور أي كائنا فيها حكم الله.
{ من بعد ذلك } قال ابن عطية: أي من بعد كون حكم الله في التوراة في الرجم وما أشبهه من الأمور التي خالفوا فيها أمره تعالى. " انتهى ". وهذه الجملة مستأنفة أي ثم هم يتولون بعد ذلك وهي أخبار من الله تعالى بتوليهم على عادتهم في أنهم إذا وضح لهم الحق أعرضوا عنه. { ومآ أولئك بالمؤمنين } أي من ترك حكم كتابه وحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو منتف عنه الإيمان حقيقة. وانتصاب كيف على الحال وهو استفهام لا يراد به حقيقته بل التعجب من حالهم كيف علموا حكم الله في كتابهم وحكم الرسول عليه السلام.
[5.44-46]
{ إنآ أنزلنا التوراة } قال ابن عباس وابن مسعود نزلت في الجاحدين حكم الله وهي عامة في كل من جحد حكم الله، والذين أسلموا وصف مدح للأنبياء كالصفات التي تجري على الله وأريد بإجرائها التعريض باليهود والنصارى حيث قالوا: إن الأنبياء كانوا يهود وقالت النصارى: كانوا نصارى. فبين أنهم كانوا مسلمين كما كان إبراهيم ولذلك جاء هو سماكم المسلمين من قبل وفيه بهذا الوصف أن اليهود والنصارى بعداد من هذا الوصف الذي هو الإسلام وإن كان دين الأنبياء كلهم قديما وحديثا. وتقدم الكلام على الربانيين في آل عمران. والأحبار: هم العلماء، واحدهم: حبر، بفتح الحاء وكسرها. وقال أبو الهيثم: هو بفتح الحاء. وقال الفراء: هو بالكسر، فأما الذي يكتب به فبكسر الحاء.
{ بما استحفظوا من كتاب الله } الباء في بما لكسب وتتعلق بقوله: يحكم، واستفعل هنا للطلب والمعنى بسبب ما استحفظوا، والضمير في استحفظوا عائد على النبيين والربانيين والأحبار أي بسبب ما طلب الله منهم حفظهم لكتاب الله وهو التوراة، وكلفهم حفظها وأخذ عهده عليهم في العمل بها والقول بها. واستحفظوا مبني للمفعول حذف الفاعل وهو الله والمعنى استحفظهم الله أي طلب حفظهم له.
{ وكانوا عليه شهدآء } الظاهر أن الضمير عائد على كتاب الله، أي كانوا عليه رقباء لئلا يبدل. والمعنى محكم بأحكام التوراة النبيون بين موسى وعيسى وكان بينهما ألف نبي. للذين هادوا يحملونهم على أحكام التوراة لا يتركونهم أن يعدلوا عنها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حملهم على حكم الرجم وإرغام أنوفهم وآبائه عليهم ما اشتهوه من الجلد.
{ فلا تخشوا الناس } الآية، الظاهر أن هذا الخطاب لليهود على سبيل الحكاية. والقول لعلماء بني إسرائيل يشمل من كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من علماء اليهود. وفي الكلام التفات خرج من ضمير الغيبة وهو ضمير الرفع في يحكمونك إلى ضمير الخطاب في قوله: فلا تخشوا.
{ ولا تشتروا } هذا نهي للحكام عن أخذ الرشا وتبديل أحكام الله تعالى.
{ وكتبنا عليهم فيهآ } الآية مناسبتها لما قبلها أنه تعالى بين في التوراة أن حكم الزاني المحصن الرجم. وغير التوراة اليهود أيضا ففضلوا بني النضير على بني قريظة وحضوا إيجاد القود على بني قريظة دون بني النضير. ومعنى وكتبنا: فرضنا. وقيل: قلنا والكتابة بمعنى القول. ويجوز أن يراد الكتابة حقيقة وهي الكتابة في الألواح، لأن التوراة نزلت مكتوبة في الألواح. والضمير في " فيها " عائد على التوراة. وفي " عليهم " على الذين هادوا. وقوله: بالنفس جار ومجرور في موضع خبر أن فيتعلق بمحذوف، والأصل فيه أن يكون العامل لفظ كائن أو مستقر والباء في " بالنفس " للمقابلة فقدر ما هو قريب من الاستقرار وهو تقديرهم مأخوذة بالنفس والمعنى أنه إذا قتلت نفس نفسا قتلت بها والمعاطيف على هذا التقدير أي والعين مأخوذة بالعين أي من فقأ عينا فقئت عينه، ومن جدع أنفا جدع أنفه، ومن صلم أذنا صلمت أذنه، ومن كسر سنا كسرت سنه.
وقرىء بنصب والعين إلى قوله: والجروح مراعاة لاسم ان. وقرىء بالرفع قطعا عن اسم ان. وارتفعت الأسماء بالإبتداء وخبرها في الجار والمجرور كما قدرناه، وخبر والجروح قوله: قصاص، والظاهر في قوله: النفس بالنفس، العموم فيخرج منه ما يخرج منه بالدليل ويبقى الباقي على عمومه. والظاهر في قوله: والعين بالعين، العموم فتفقأ عين الأعور بعين من كان ذا عينين، وبه قال علي وأبو حنيفة والشافعي. ولهذه الجنايات أحكام ذكرت في كتب الفقه.
{ والجروح قصاص } أي ذات قصاص. ولفظ الجروح عام، والمراد به الخصوص وهو ما يكن فيه القصاص وتعرف المماثلة فلا يخاف منها على النفس فإن خيف كالمأمومة وكسر الفخذ وغير ذلك فلا قصاص فيها. ومدلول والجروح قصاص يقتضي أن يكون الجرح بمثله فإن لم يكن بمثله فلا قصاص.
{ فمن تصدق به فهو كفارة له } الآية، المتصدق صاحب الحق ومستوفي القصاص من مجروح أو ولي قتل. و " به " عائد على القصاص الشامل للنفس وللأعضاء وللجروح التي فيها القصاص، و " فهو " ضمير يعود على التصدق أي فالتصدق كفارة للمتصدق والمعنى ان من تصدق بجرحه أو دم وليه فعفى عن حقه في ذلك فإن العفو كفارة له عن ذنوبه يعظم الله أجره بذلك ويكفر عنه.
{ ومن لم يحكم بمآ أنزل الله فأولئك هم الظالمون } الآية تناسب فيما تقدم، ذكر الكافرين لأنه جاء عقب قوله: { إنآ أنزلنا التوراة فيها هدى ونور } ، الآية، ففي ذلك إشارة إلى أنه لا يحكم بجميعها بل يخالف رأسا ولذلك جاء ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا وهذا كفر فناسب ذكر الكافرين وهنا جاء عقب أشياء مخصوصة من أمر القتل والجروح، فناسب ذكر الظلم المنافي للقصاص وعدم التسوية فيه وإشارة إلى ما كانوا قرروه من عدم التساوي بين بني النضير وبني قريظة.
{ وقفينا على آثارهم } الآية مناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر أن التوراة يحكم بها النبييون ذكر أنه قفاهم بعيسى عليه السلام تنبيها على أنه من جملة الأنبياء وتنويها باسمه وتنزيها له عما تدعيه فيه اليهود وأنه من جملة مصدقي التوراة. ومعنى وففينا أتينا به يقفوا آثارهم أي يتبعها. والضمير في " آثارهم " يعود على النبيين من قوله: يحكم بها النبيون، وليس التضعيف في قفينا للتعدية بل ضمن معنى قفينا جئنا فذلك عداه بعلى والباء.
{ وآتيناه الإنجيل } هذه الجملة معطوفة على قفينا وفيها تعظيم عيسى بأن الله آتاه كتابا إلهيا. وقوله: فيه هدى، في موضع الحال وارتفاع هدى على الفاعلية بالجار والمجرور إذ قد اعتمد بأن وقع حالا الذي حال أي كائنا فيه هدى، ولذلك عطف عليه لما بين يديه. والضمير في " يديه " عائد على الإنجيل، والمعنى أن عيسى وكتابه الذي أنزل عليه هما مصدقان لما تقدمهما من التوراة فتظافر على تصديقه الكتاب الإلهي المنزل.
[5.47-50]
{ وليحكم أهل الإنجيل } الآية، أمر تعالى أهل الانجيل أن يحكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام ويكون هذا الأمر على سبيل الحكاية أي وقلنا لهم احكموا أي حين إيتائه عيسى أمرناهم بالحكم بما فيه إذ لا يمكن أن يكون ذلك بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ شريعته ناسخة لجميع الشرائع. وقرأ الجمهور: وليحكم بلام الأمر. وقرأ حمزة وليحكم بكسر اللام وفتح الميم جعلها لام كي. والظاهر أن نصب هدى وموعظة على المفعول له وعطف عليه قوله: وليحكم ما كان فاعل هدى وموعظة عائد على الإنجيل عطف عليه قوله: وأتى باللام لاختلاف الفاعل لأن فاعل وليحكم أهل الإنجيل. والفاعل في هدى وموعظة. هو الإنجيل فلما اختلفا على المفعول من أجله باللام، كما تقول: ضربت ابني تأديبا، ولخوف زيد منه، ففاعل التأديب هو الضمير وفاعل الخوف هو زيد. ويجوز أن يكون وهدى وموعظة معطوفا على ومصدقا، كأنه يقال: وهاديا وواعظا. ويكون وقوله: وليحكم على قراءة حمزة متعلقا بمحذوف تقديره وآتيناه الإنجيل ليحكم.
{ ومن لم يحكم بمآ أنزل الله } الآية، ناسب هنا ذكر الفسق لأنه خروج عن أمر الله تعالى إذ تقدم قوله: وليحكم، وهو أمر كما قال تعالى:
اسجدوا لأدم فسجدوا
[البقرة: 34] إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه، أي خرج عن طاعة أمره تعالى.
{ وأنزلنآ إليك الكتاب بالحق } الآية، لما ذكر تعالى أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراك علم الجميع في أنها أنزلت على موسى عليه السلام وترك ذلك للمعرفة بذلك ثم ذكر عيسى وأنه آتاه الإنجيل فذكره مفيدا أنه من جملة الأنبياء إذ اليهود تنكر نبوته وإذا أنكرته أنكرت كتابه فنص عليه وعلى كتابه ثم ذكر إنزال القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم فذكر الكتاب ومن أنزله عليه مقرر النبوة وكتابه لأن الطائفتين ينكرون نبوته وكتابه. وجاء هنا ذكر المنزل إليه بكاف الخطاب لأنه النص على المقصود، بالحق معناه متلبسا بالحق ومصاحبا له لا يفارقه. وانتصب مصدقا على الحال.
{ لما بين يديه } أي لما تقدمه. { من الكتاب } الألف واللام فيه للجنس لأنه عني به جنس الكتب المنزلة. { ومهيمنا عليه } قال ابن عباس: أمينا. وعنه أيضا: شاهدا. وقال الخليل: رقيبا. وبه وفسر الزمخشري قال: ومهيمنا رقيبا على سائر الكتب لأنه يشهد لها بالصحة والثبات. " انتهى كلامه ". وقال الشاعر:
مليك على عرش السماء مهيمن
لعزته تعنو الوجوه وتسجد
{ فاحكم بينهم } أمر يقتضي الوجوب. والضمير في " بينهم " عائد على المتحاكمين يهودا أو غيرهم. { ولا تتبع أهوآءهم } أي لا توافقهم على أغراضهم الفاسدة من التفريق في القصاص بين الشريف والوضيع وغير ذلك من أهوائهم التي هي راجعة لغير الدين والشرع.
{ عما جآءك من الحق } الذي هو القرآن وضمن تتبع معنى تنحرف أو تنصرف، فلذلك عدى بعن أي لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعا أهواءهم أو بسبب أهوائهم. قال أبو البقاء: عما جاءك في موضع الحال أي عادلا عما جاءك ولم يضمن تتبع معنى ما يتعدى بعن وهذا ليس بجيد لأن عن حرف جر ناقص لا يصلح أن يكون حالا من الجثث كما لا يصلح أن يكون خبرا وإذا كان ناقصا فإنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق، والكون المقيد لا يجوز حذفه.
{ لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا } الآية الظاهرة أن المضاف إليه كل المحذوف هو أمة أي لكل أمة. والخطاب في " منكم " للناس أي أيها الناس أي لليهود شرعة ومنهاج وللنصارى كذلك وللمسلمين كذلك، قاله علي رضي الله عنه وغيره. ويعنون في الأحكام وأما المعتقد فواحد لجميع العالم توحيد وإيمان بالرسل وكتبها. والشرعية والمنهاج لفظان بمعنى واحد فالثاني تأكيد للأول.
{ ولو شآء الله } مفعول شاء محذوف تقديره ولو شاء جعلكم أمة واحدة. وحذف لدلالة الجواب عليه وهو قوله: لجعلكم أمة واحدة في اتباع الحق أو اتباع الباطل.
{ ولكن ليبلوكم في مآ آتاكم } أي ولكن لم يشأ ذلك ليختبركم فيما آتاكم من الكتب. { فاستبقوا الخيرات } أي استقبلوا الأعمال الصالحة وهي التي عاقبها أحسن الأشياء. { إلى الله مرجعكم جميعا } هو استئناف في معنى التعليل لأمره تعالى باستباق الخيرات كأنه يقول: تظهر ثمرة استباق الخيرات والمبادرة إليها في وقت الرجوع إلى الله تعالى ومجازاته. { فينبئكم } أي فيخبركم بأعمالكم وهي كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب وهو إخبار إيقاع. وبهذه التنبئة يظهر الفصل بين المحق والمبطل والمستبق والمقصر في العمل. ونبأ هنا جاءت على وضعها الأصلي من تعديتها إلى واحد بنفسه وإلى آخر بحرف الجر ولم يضمنها معنى أعلم فيعيدها إلى ثلاثة.
{ وأن احكم بينهم بمآ أنزل الله } سبب نزولها قال ابن عباس: قال بعض اليهود لبعض منهم ابن صوريا وشاس بن قيس وكعب بن أسيد: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه فأتوه، فقالوا: يا محمد قد عرفت انا احبار يهود وأشرافهم وان اتبعناك اتبعك كل اليهود وبيننا وبين قوم خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ويؤمن بك، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت. وان أحكم ذكروا في إعرابه وجوها والذي نختاره أن يكون في موضع رفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر مؤخرا والتقدير وحكمك بما أنزل الله أمرنا وقولنا أو مقدما والتقدير ومن الواجب حكمك بما أنزل الله وأبعد من ذهب إلى أنه في موضع نصب عطفا على الكتاب أي وأنزلنا إليك الكتاب والحكم أو في موضع جر عطفا على بالحق أي بالحق والحكم.
{ واحذرهم أن يفتنوك } أي يستزلوك وحذره تعالى عن ذلك وإن كان مأيوسا من فتنتهم إياه وموضع أن يفتنوك نصب على البدل تقديره واحذرهم فتنتهم إياك أو يكون مفعولا من أجله تقديره من أن يفتنوك وحذف من. { فإن تولوا } الآية أي فإن تولوا عن الحكم بما أنزل الله وأرادوا غيره ومعنى أن يصيبهم ببعض ذنوبهم أي يعذبهم ببعض آثامهم وأبهم بعضا هنا ويعني به والله أعلم التولي عن حكم الله وإرادة خلافه فوضع ببعض ذنوبهم موضع ذلك وأراد أنهم ذوو ذنوب جمة كثيرة العدد وهذا الذنب مع عظمها بعضها. { أفحكم الجاهلية يبغون } هذا استفهام معناه الإنكار على اليهود حيث هم أهل الكتاب وتحليل وتحريم من الله تعالى ومع ذلك يعرضون على حكم الله تعالى ويختارون عليه حكم الجاهلية. وقرىء: أفحكم بالنصب وهو مفعول يبغون وبالرفع على الابتداء والخبر يبغون وحذف الضمير العائد على المبتدأ من الجملة تقديره يبغونه كقوله:
وخالد يحمد ساداتنا
بالحق لا يحمد بالباطل
تقديره يحمده.
{ ومن أحسن من الله حكما } أي لا أحد أحسن من الله حكما وتقدم وإن أحكم بينهم بما أنزل الله فجاءت هذه الجملة مشيرة لهذا المعنى والمعنى أن حكم الله هو الغاية في الحسن وفي العدل وهو استفهام معناه التقدير ويتضمن من التنكير عليهم واللام في لقوم يوقنون للبيان فيتعلق بمحذوف تقديره أي هذا الخطاب وهذا الاستفهام لقوم يوقنون.
[5.51-53]
{ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا } الآية، سبب نزولها قصة عبد الله بن أبي واستمساكه بحلف يهود وتبرىء عبادة بن الصامت من حلفهم عن انقضاء بدر وانتجاز أمر بني قينقاع وكانوا حنفاء عبد الله وعبادة في قصة فيها طول هذا ملخصها. والله أعلم. نهى تعالى المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى ينصرونهم ويستنصرون بهم ويعافونهم ويعاشرونهم معاشرة المؤمنين. والظاهر أن الضمير في " بعضهم " عائد على اليهود والنصارى. وقيل المعنى على أن ثم محذوفا والتقدير بعض اليهود أولياء بعض وبعض النصارى أولياء بعض لأن اليهود ليسوا أولياء النصارى ولا النصارى أولياء اليهود. ويمكن أن يقال جمعهم في الضمير على سبيل الإجمال ودل ما بينهم من المعاداة على التفصيل وإن بعض اليهود لا يتولى إلا جنسه وبعض النصارى كذلك. قال الحوفي: هي جملة من مبتدأ وخبر في موضع النعت لأولياء. والظاهر أنها جملة مستأنفة لا موضع لها من الإعراب.
{ فإنه منهم } قال ابن عباس: فإنه منهم في حكم الكفر، أي ومن يتولهم في الدين وهذا تشديد عظيم في الانتفاء من أهل الكفر وترك موالاتهم وانحاء عبد الله بن أبي ومن اتصف بصفته ولا يدخل في الموالاة معاملة اليهود والنصارى من غير مصافاة.
{ فترى الذين في قلوبهم مرض } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن عطية: وقرأ ابن وثاب فيرى الذين بالياء فيحتمل أن يكون الذين فاعل يرى والمعنى أن يسارعوا فحذفت أن إيجازا. " انتهى ". هذا ضعيف لأن حذف إن من هذا لا ينقاس والفاعل ضمير يعود على الله أو على الرأي. والذين في قلوبهم مرض عبد الله بن أبي ومن تبعه من المنافقين.
{ يسارعون فيهم } أي في مودتهم وموالاتهم. { يقولون نخشى أن تصيبنا دآئرة } هذا محفوظ من قول عبد الله بن أبي. وقاله معه منافقون كثير. قال ابن عباس: معناه نخشى أن لا يتم أمر محمد فيدور الأمر علينا.
{ فعسى الله أن يأتي بالفتح } هذه بشارة للرسول والمؤمنين بوعده تعالى بالفتح والنصر. قال قتادة: عني به القضاء في هذه النوازل والفتاح القاضي. قال ابن عطية: وظاهر الفتح في هذه الآية ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلو كلمته فيستغني عن اليهود. { أو أمر من عنده } هو اجلاء بني النضير وأخذ أموالهم لم يكن للناس فيه فعل بل طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير أن يوجف عليهم بخيل ولا ركاب وقتل قريظة وسبى ذراريهم. { فيصبحوا على مآ أسروا } أي يصيرون نادمين على ما حدثتهم به أنفسهم ان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتم أمره ولا تكون الدولة لهم.
و { نادمين } خبر فيصبحوا وعلى ما أسروا متعلق بنادمين.
{ ويقول الذين آمنوا } الآية، رأى المؤمنون ما قد ظهر من المنافقين قالوا أي المنافقون. { الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم } والمعنى يقول بعضهم لبعض تعجبا من حالهم إذا غلظوا للمؤمنين بالإيمان أنهم معهم وأنهم معاضد وهم وعلى اليهود فلما حل باليهود ما حل ظهر من المنافقين ما كانوا يسرونه من موالاة اليهود والتمالي على المؤمنين. وقرىء يقول بغير واو كأنه جواب قائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل: يقول الذين آمنوا.
وقرىء ويقول بالواو ورفع اللام. وقرىء ويقول بالواو ونصب اللام. وأما قراءة " ويقول " بالنصب فوجهت على أن هذا القول لم يكن إلا عند الفتح وأنه محمول على المعنى فهو معطوف على أن يأتي إذ معنى فعسى الله أن يأتي معنى فعسى أن يأتي الله، وهذا الذي تسميه النحويون العطف على التوهم يكون الكلام في قالب تقدره في قالب آخر، إذ لا يصح أن يعطف على لفظ أن يأتي لأنه لا يصح أن يقال: فعسى الله أن يقول المؤمنون، إذ ليس في المعطوف ضمير اسم الله ولا سببي منه. وأجاز ذلك أبو البقاء على تقدير ضمير محذوف، أي ويقول الذين آمنوا به أي بالله، فهذا الضمير يصح به الربط. أهؤلاء: استفهام تحقير واستصغار للمنافقين. والجملة من قوله: إنهم لمعكم، مؤكدة بأن واللام مبالغة من المنافقين في إيمانهم إذ جمعوا بين حرفي توكيد ان واللام.
{ حبطت أعمالهم } استئناف أخبار من الله تعالى بحبوط أعمالهم. والظاهر أنه من كلام المؤمنين. والحبوط: البطلان. وأعمالهم: هي التي كانوا يظهرونها من موافقة المؤمنين في الصلاة وغيرها وهم ولا يعتقدون ثوابا في ذلك.
[5.54-56]
{ يأيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه } قال الحسن وغيره نزلت خطابا للمؤمنين عامة إلى يوم القيامة. وقيل: هي خاصة في قبائل بأعيانهم فذكر المفسرون أن ارتد في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم مذ حج ورئيسهم عبهلة بن كعب ذو الخمار وهو الملقب بالأسود العنسي قتله فيروز على فراشه، وأخبر رسول الله بقتله وسمي قائله ليلة قتل، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغدو وأتى مقتلة في آخر ربيع الأول. وبنو حنيفة رئيسهم مسيلمة قتله وحشي قاتل حمزة وبنو أسد رئيسهم طليحة بن خويلد هزمه خالد وأفلت ثم أسلم وحسن إسلامه. هذه ثلاث فرق ارتدت في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وتنبأ رؤساؤها. وارتد في خلافة أبي بكر سبع فرق فزارة قوم عيينة بن حصن، وغطفان قوم قرة بن سلمة القشيري، وسليم قوم الفجأة بن عبد يا ليل، ويربوع قوم مالك بن نويرة، وبعض تميم قوم سجاح بنت المنذر وقد تنبأت وتزوجها مسيلمة. وقال شاعرهم:
أضحت نبيتنا أنثى نطيف بها
وأصبحت أنبياء الناس ذكرانا
وقال أبو العلاء المعري:
أمت سجاح ووالاها مسيلمة
كذابة في بن الدنيا وكذاب
وكندة قوم الأشعث وبكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن يزيد، وكفى الله أمرهم على يد أبي بكر رضي الله عنه، وفرقة في عهد عمر غسان قوم جبلة بن الأيهم نصرته اللطمة وسيرته إلى بلد الروم بعد إسلامه. وقرىء من يرتدد بالفك والإدغام وهي جملة شرطية، والجواب قوله: فسوف يأتي الله بقوم. والقاعدة النحوية أنه إذا كان جواب الشرط جملة واسم الشرط غير ظرف فلا بد من ضمير في جملة الجواب عائد على اسم الشرط والجملة ها هنا ليس فيها ضمير ظاهر فلا بد من تقديره وتقديره بقوم غيرهم أي غير من يرتد وبقوم فيه أقوال. وفي المستدرك لأبي عبد الله الحاكم بإسناده، أنه لما نزلت أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي موسى الأشعري وقال: هم قوم هذا، وهذا أصح الأقوال وكان لهم بلاء في الإسلام زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعامة فتوح عمر على أيديهم. ووصف تعالى هؤلاء القوم بأنه يحبهم ويحبونه محبة لله لهم هي توفيقهم للإيمان كما قال تعالى:
ولكن الله حبب إليكم الإيمان
[الحجرات: 7] وإثباته على ذلك وعلى سائر الطاعات وتعظيمه إياهم وثناؤه عليهم ومحبتهم له تعالى طاعته واجتناب مناهيه وامتثال مأموراته، وقدم محبته على محبتهم إذ هي أشرف وأسبق.
{ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين } هو جمع ذليل لا جمع ذلول الذي هو نقيض الضعف لأن ذلولا لا يجمع على أذلة بل على ذلك وعدي أذلة بعلى وإن كان الأصل باللام لأنه ضمنه معنى الحنو والعطف، كأنه قيل: عاطفين على المؤمنين والمعنى أنهم يذلون ويخضعون لمن فضلوا عليه مع شرفهم وعلو مكانتهم وهو نظير قوله تعالى:
أشدآء على الكفار رحمآء بينهم
[الفتح: 29]، وجاءت هذه الصفة بالاسم الذي فيه مبالغة لأن أذلة جمع ذليل، وأعزة جمع عزيز، وهما صفتا مبالغة وجاءت الصفة قبل هذا بالفعل في قوله: يحبهم ويحبونه، لأن الاسم يدل على الثبوت فلما كانت صفة مبالغة وكانت لا تتجدد بل هي كالغريزة جاء الوصيف بالاسم ولما كانت الصفة تتجدد لأنها عبارة عن أفعال الطاعات والثواب المترتب عليها جاء الوصف بالفعل الذي يقتضي التجدد ولما كان الوصف الذي يتعلق بالمؤمن آكد ولموصوفه ألزم قدم على الوصف المتعلق بالكافر ولشرف المؤمن أيضا ولما كان الوصف الذي بين المؤمن وربه أشرف من الوصف الذي بين المؤمن والمؤمن قدم قوله: يحبهم ويحبونه، على قوله: أذلة على المؤمنين، وفي هذه الآية دليل على بطلان قول من ذهب إلى أن الوصف إذا كان بالاسم وبالفعل لا يتقدم الوصف بالفعل على الوصف بالاسم إلا في ضرورة الشعر نحو قوله: وفرع يغش المتن أسود فاحم. إذ جاء ما ادعى أنه يكون في الضرورة في هذه الآية فقدم يحبهم ويحبونه وهو فعل على قوله: أذلة، وهو اسم. وكذلك قوله تعالى:
وهذا كتب أنزلنه مبارك
[الأنعام: 92، 155]. وقرىء شاذا أذلة بالنصب وكذا أعزة نصبا على الحال من النكرة إذ قربت من المعرفة بوصفها.
{ يجاهدون في سبيل الله } أي في نصرة دينه. وظاهر هذه الجملة أنها صفة ويجوز أن تكون استئناف أخبار. { ولا يخافون لومة لائم } أي هم صلاب في دينه لا يبالون بمن لام فيه فمتى شرعوا في أمر معروف أو نهي عن منكر أمضوه لا يمنعهم اعتراض معترض ولا قول قائل، وهذان الوصفان أعنى الجهاد والصلابة في الدين هما نتيجة الأوصاف السابقة لأن من أحب الله لا يخش إلا إياه ومن كان عزيزا على الكافر جاهد في إخماده واستئصاله وناسب تقديم الجهاد على انتفاء الخوف من اللائمين لمجاورته أعزة على الكافرين ولأن الخوف أعظم من الجهاد فكان ذلك ترقيا من الأدنى إلى الأعلى ويحتمل أن تكون الواو في ولا يخافون واو الحال أي يجاهدون وحالهم في المجاهدة غير حال المنافقين فإنهم كانوا موالين لليهود فإذا خرجوا في جيش المؤمنين خافوا أولياءهم اليهود وتخاذلوا وخذلوا حتى لا يلحقهم لوم من جهتهم وأما المؤمنون فكانوا يجاهدون لوجه الله تعالى لا يخافون لومة لائم. ولومة للمرة الواحدة، وهي نكرة في سياق النفي فتعم أي لا يخافون شيئا قط من اللوم.
{ ذلك فضل الله يؤتيه من يشآء } الظاهر أن ذلك إشارة إلى ما تقدم من الأوصاف التي تحلى بها المؤمن ذكر أن ذلك هو فضل الله يؤتيه من أراده ليس ذلك بسابقة ممن أعطاه إياه بل هو على سبيل الاحسان منه تعالى لمن أراد الإحسان إليه.
وقيل: ذلك إشارة إلى حب الله لهم وحبهم له.
{ والله واسع عليم } أي واسع الإحسان والافضال عليم بمن يصنع ذلك فيه. { إنما وليكم الله ورسوله } لما نهاهم عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء بين هنا من هو وليهم وهو الله ورسوله. والولي هنا الناصر والمعنى لأولى لكم إلا الله وقال: وليكم بالافراد ولم يقل أولياؤكم وإن كان المخبر به متعددا، لأن وليا اسم جنس أو لأن الولاية حقيقة هي لله تعالى على سبيل التأصل ثم فطم في سلكه من ذكر على سبيل التبع ولو جاء جمعا لم يتبين هذا المعنى من الأصالة والتبعية.
{ الذين يقيمون الصلاة } الآية هذه أوصاف ميز بها المؤمن الخالص الإيمان من المنافق، لأن المنافق لا يدوم على الصلاة ولا على الزكاة. قال تعالى:
وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى
[النساء: 142]. وقال: آشحة على الخير، ولما كانت الصحابة وقت نزول هذه الآية بين مقيم صلاة ومؤتي زكاة في كلتا الحالتين كانوا متصفين بالخضوع لله والتذلل له. نزلت الآية متضمنة هذه الأوصاف الجليلة. قال الزمخشري: فإن قلت: الذين يقيمون ما محله. قلت الرفع على البدل من الذين آمنوا أو على هم الذين يقيمون. " انتهى ". ولا أدري ما الذي منعه من الصفة إذ هو المتبادر إلى الذهن، ولأن المبدل منه في نية الطرح وهو لا يصح هنا طرح الذين آمنوا لأنه هو الوصف المرتب عليه صحة ما بعده من الأوصاف.
{ ومن يتول الله ورسوله } الآية يحتمل أن يكون جواب من محذوف لدلالة ما بعده عليه أي يكن من حزب الله ويغلب. ويحتمل أن يكون الجواب فإن حزب الله ويكون من وضع الظاهر موضع المضمر أي فأنتم هم الغالبون. وفائدة وضع الظاهر هنا موضع المضمر الإضافة إلى الله فيشرفون بذلك وصاروا بذلك أعلاما. وأصل الحزب القوم يجتمعون لأمر حزبهم. وهم يجوز أن يكون فصلا، والغالبون خبر ان، ويجوز أن يكون مبتدأ، والغالبون خبره، والجملة في موضع خبر ان.
[5.57-63]
{ يأيها الذين آمنوا } الآية قال ابن عباس: كان رفاعة بن زيد وسويد بن الحارث قد أظهر الإسلام ثم نافقا وكان رجال من المسلمين يوادونهما فنزلت. ولما نهى تعالى المؤمنين عن اتخاذ اليهود والنصارى أولياء نهى هنا عن اتخاذ الكفار أولياء يهودا كانوا أو نصارى أو غيرهما. وكرر ذكر اليهود والنصارى بقوله: { من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم } ، وإن كانوا مندرجين في عموم الكفار على سبيل النص على بعض أفراد العام لسبقهم في الذكر في الآيات قبل ولأنهم أوغلوا في الاستهزاء وأبعد انقيادا للإسلام إذ يزعمون أنهم على شريعة إلهية، ولذلك كان المؤمنون من المشركين في غاية الكثرة والمؤمنون من اليهود والنصارى في غاية القلة. وقرىء والكفار بالنصب عطفا على الذين اتخذوا وبالجر عطفا على من الذين. { واتقوا الله } أي في موالاة الكفار ثم نبه على الوصف الحامل على التقوى وهو الإيمان أي من كان مؤمنا حقا يأبى موالاة إعداد الدين.
{ وإذا ناديتم إلى الصلاة } قال الكلبي: كان إذا نودي بالصلاة قام المسلمون إليها، فتقول اليهود: قاموا لا قاموا صلوا لا صلوا، ركعوا لا ركعوا، على طريق الاستهزاء والضحك فنزلت. وإذا ناديتم، أي نادى بعضكم إلى الصلاة لأن الجميع لا ينادون. وقال بعض العلماء: فيها دليل على مشروعية الآذان بنص الكتاب لا بالمنام وحده. " انتهى ". ولا دليل في ذلك على مشروعيته لأنه قال وإذا ناديتم، ولم يقل ونادوا على سبيل الأمر، وإنما هذه جملة شرطية دلت على سيق المشروعية لا على إنشائها ولما قدم أنهم اتخذوا الدين هزوا ولعبا اندرج في ذلك الجميع ما إنطوى عليه الدين فجرد من ذلك أعظم أركان الدين ونص عليه بخصوصه وهو الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه فنبه على أن من استهزأ بالصلاة ينبغي أن لا يتخذ وليا وأن يطرد ويتخذ عدوا فهذه الآية جاءت كالتوكيد للآية التي قبلها.
{ ذلك } أي الفعل منهم كائن بسبب انتفاء عقلهم ونفاه عنهم لكونهم لم ينتفعوا به في الدين. { قل يأهل الكتاب } الآية قل أمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهل استفهام معناه النفي. وتنقمون بكسر القاف ماضية نقم وهي أفصح من نقم ينقم وإلا ان آمنا استثناء مفرغ أي لا يغيبون منا شيئا إلا الإيمان بالله وهذه محاورة لطيفة وجيزة تنبه الناقم على أنه ما نقم عليهم إلا ما لا ينقم ولا يعد عيبا ونظيره:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
بهن فلول من قراع الكتائب
وما أنزل معطوف على بالله وهو القرآن وما أنزل من قبل هي الكتب الإلهية كالتوراة والإنجيل وغيرهما. وقرأ نعيم بن ميسرة وإن أكثركم فاسقون بكسر الهمزة وهو واضح المعنى أمره تعالى أن يقول لهم هاتين الجملتين.
وقرأ الجمهور وأن بفتح الهمزة وخرج ذلك على وجوه منها الرفع على الابتداء. وقدر الزمخشري الخبر مؤخرا محذوفا أي وفسق أكثركم معلوم عندكم لأنكم علمتم انا على الحق وانكم على الباطل. " انتهى ". ولا ينبغي أن يقدر الخبر إلا مقدما أي ومعلوم فسق أكثركم لأن الأصح أن ان لا يبتدأ بها متقدمة إلا بعد أما فقط ومنها النصب عطفا على ان آمنا، إلا أنه على حذف مضاف تقديره واعتقادنا فيكم أن أكثركم فاسقون. وهذا معنى واضح ويكون ذلك داخلا فيما ينقمون حقيقة، ومنها الجر عطفا على قوله: بما أنزل إلينا وما أنزل من قبل أي وبأن أكثركم فاسقون. { قل هل أنبئكم } الخطاب بالأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم بضمير الخطاب لأهل الكتاب الذين أمر أن يناديهم ويخاطبهم أو يكون خطابا للمؤمنين بقوله: { قل يأهل الكتاب هل تنقمون منآ }.
و { ذلك } إسم إشارة فعلى تقدير ان الخطاب للكفار يكون ذلك إشارة إلى حال من نقم ويكون من لعنة الله على حذف مضاف أي حال من لعنة الله. وللعرب لغة منقولة وان اسم الإشارة يكون على كل حال من تأنيث وتثنية وجمع كما يكون للواحد المذكر فيحتمل أن يكون ذلك من هذه اللغة ويحتمل أن يكون ذلك إشارة أيضا إلى متشخص وأفرد على معنى الجنس كأنه قال: قل هل أنبئكم بشر من جنس الكتابي أو من جنس المؤمن على اختلاف التقديرن اللذين سبقا ويكون أيضا من لعنة الله تفسير شخص لشخص وانتصب مثوبة على التمييز وجاء على التركيب الأكثر الأفصح من تقديم المفضل عليه على التمييز كقوله تعالى:
ومن أصدق من الله حديثا
[النساء: 87]، وتقديم التمييز على المفضل أيضا فصيح كقوله تعالى:
ومن أحسن قولا ممن دعآ إلى الله
[فصلت: 33]، ومن في موضع رفع كأنه قيل: من هو؟ فقيل هو من لعنة الله، أو في موضع جر على البدل من قوله بشر ومن موصولة عاد الضمير عليه على لفظه في قوله: لعنة الله، وفي قوله: عليه، وأعاده على معنى من في قوله: وجعل منهم القردة، ثم عاد على لفظة من في وعبد فأفرد الضمير. قال ابن عباس: هم أصحاب السبت مسخ شبابهم قردة وشيوخهم خنازير. وقرأ جمهور السبعة وعبد الطاغوت. وقرأ ابن وثاب والأعمش وحمزة وعبد بضم الباء الطاغوت بكسر التاء. قال الزمخشري: ومعناه الغلو من العبودية كقولهم: رجل حذر فطن للبليغ في الحذر. وقال ابن عطية: عبد لفظ مبالغة كيقظ وندس فهو لفظ مؤد يراد به الجنس ويبني بناء الصفات لأن عبدا في الأصل صفة وإن كان يستعمل استعمال الأسماء وذلك لا يخرجه عن حكم الصفة ولذلك لم يمتنع أن يبني منه بناء مبالغة.
وأنشد هو والزمخشري:
ابني ليبنى ان أمكم أمة وإن أباكم عبد
وعد ابن مالك في أبنية أسماء الجمع فعلا فقال: ومنها فعل كنحو : سمر وعبد، وعلى هذه القراءة يكون وعبد معطوفا على قوله: القردة والخنازير. وعلى قراءة الجمهور يكون معطوفا على صلة من. وفي البحر الكبير ان في قوله: وعبد الطاغوت، اثنين وعشرين قراءة وتكلمنا على توجيهها فيه منها قراءة الحسن في رواية عبد الطاغوت بإسكان الباء ونصب التاء. قال ابن عطية: أراد وعبدا منونا، فحذف التنوين كما حذف في قوله: ولا ذاكر الله إلا قليلا. " انتهى ". ولا وجه لهذا التخريج لأن عبدا لا يمكن أن ينصب الطاغوت بوجه إذ ليس بمصدر ولا إسم فاعل والتخريج الصحيح أن يكون تخفيفا من عبد بفتح الباء.
{ أولئك } إشارة إلى الموصوفين باللعنة وما بعدها. { وإذا جآءوكم قالوا آمنا } الآية، ضمير الغيبة في جاؤكم لليهود المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو خاصة للمنافقين منهم، قاله ابن عباس وغيره. وضمير الخطاب في جاؤكم يقوي أن الخطاب في قوله: هل أنبئكم للمؤمنين. ونقول ان الجملة الاسمية الواقعة حالا المصدرة بضمير ذي الحال. أكد من الجملة الفعلية من جهة أنه يتكرر فيها المسند إليه فيصير نظير: قام زيد زيد، ولما كانوا حين جاؤا الرسول والمؤمنين قالوا آمنا ملتبسين بالكفر كان ينبغي لهم أن لا يخرجوا بالكفر لأن رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم كافية في الإيمان ألا ترى إلى قول بعضهم حين رآه عليه السلام قال: علمت ان وجهه ليس بوجه كذاب، مع ما يظهر لهم منه في خوارق الآيات وباهر الدلالات فكان المناسب أنهم وإن كانوا دخلوا بالكفر أن لا يخرجوا به بل يخرجون بالرسول مؤمنين ظاهرا وباطنا فأكد وصفهم بالكفر بأن كرر المسند إليه تنبيها على تحققهم بالكفر وتماديهم عليه وإن رؤية الرسول لم يجد عندهم ولم يتأثروا لها.
{ والله أعلم } الآية عام في كفرهم ونفاقهم وتغيير صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وفي هذا مبالغة في إفشاء ما كانوا يكتمونه من المكر بالمسلمين والعداوة وإن قولهم آمنا خالف ظاهر قولهم باطنهم.
{ وترى كثيرا منهم } الآية يحتمل ترى أن تكون بصرية فيكون يسارعون صفة بعد صفة وأن تكون عملية فيكون مفعولا ثانيا. والمسارعة الشروع بسرعة.
{ الإثم } قيل: الكذب. { والعدوان } الظلم. وليس حقيقة الإثم الكذب إذ الإثم هو الحكم المتعلق بصاحب المعصية أو الإثم ما يختص بهم والعدوان ما يتعداهم إلى غيرهم. والسحق تقدم الكلام عليه. { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار } الآية لولا تحضيض يتضمن توبيخ العلماء والعباد على سكوتهم عن النهي عن معاصي الله تعالى والأمر بالمعروف. وقال العلماء: ما في القرآن آية أشد توبيخا للعلماء منها. وأنشدوا من شعر ابن المبارك:
وهل أفسد الدين إلا الملوك
وأخبار سوء ورهبانها
[5.64-69]
{ وقالت اليهود } الآية نزلت في فنحاص وابن صوريا وعازر بن أبي عازر قالوا ذلك ونسب ذلك إلى اليهود لأن هؤلاء علماؤهم وهم أتباعهم في ذلك واليد حقيقة في الجارحة، وفي غيرها مجاز فيراد بها النعمة والقوة والملك والقدرة، وظاهر قول اليهود ان لله تعالى يدا فإن كانوا أرادوا الجارحة فهو يناسب مذهبهم إذ هم مجسمة، وظاهر مساق الآية يدل على أنهم أرادوا بغل اليد وبسطها المجاز عن البخل والجود ومنه لا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط.
{ غلت أيديهم } خبر وإيعاد واقع بهم في جهنم لا محالة، قاله الحسن. أو خبر عنهم في الدنيا جعلهم الله أبخل قوم، قال الزجاج. ويظهر أن قولهم: يد الله مغلولة، استعارة من الامساك من الإحسان الصادر من المقهور على الإمساك ولذلك جاؤوا بلفظ مغلولة ولا يغل إلا المقهور، فجاء قوله: غلت أيديهم، دعاء عليهم بغل الأيدي فهم في كل بلد مع كل أمة مقهورون مغلوبون لا يستطيع أحد منهم أن يستطيل ولا يستعلي فهي استعارة عن ذلهم وقهرهم وان أيديهم لا تبسط لدفع ضر نزل بهم وذلك مقابلة عما تضمنه قولهم: يد الله مغلولة، وليست هذه المقالة بدعاء منهم. فقد قالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء.
{ ولعنوا بما قالوا } يحتمل أن يكون خيرا وأن يكون دعاء وبما قالوا يحتمل أن يكون يراد به مقالتهم هذه ويحتمل أن يكون عاما فيما نسبوه إلى الله تعالى مما لا يجوز نسبته إليه فتندرج هذه المقالة في عموم ما قالوا. { بل يداه مبسوطتان } معتقد أهل الحق أن الله سبحانه وتعالى ليس بجسم ولا جارحة له ولا يشبهه شيء من خلقه ولا يكيف ولا يتحيز ولا تحله الحوادث، وأدلة هذا مقررة في علم أصول الدين، والجمهور على أن هذا استعارة عن جوده وإنعامه السابغ وأضاف ذلك إلى اليدين جريا على طريقة العرب في قولهم: فلأن ينفق بكلتا يديه، ومنه قول الشاعر:
يداك يدا مجدا فكف مفيدة
وكف إذا ما ضن بالمال تنفق
ويؤيدان اليدين هنا بمعنى الانعام قرينة الإنفاق ومن نظر في كلام العرب أدنى نظر عرف يقينا أن بسط اليد وقبضها استعارة للجود والبخل.
{ ينفق كيف يشآء } هذا تأكيد للوصف بالسخاء وإنه لا ينفق إلا على ما تقتضيه مشيئته. ولا موضع لقوله: ينفق، من الإعراب إذ هي جملة مستأنفة. قال الحوفي: كيف سؤال عن حال وهي نصب بيشاء. " انتهى ". ولا يعقل هنا كونها سؤالا عن حال بل هي بمعنى الشرط كما تقول كيف يكون أكون وفعول يشاء محذوف وجواب كيف محذوف يدل عليه ينفق المتقدم كما يدل في قولك: أقوم ان قام زيد، على جواب الشرط والتقدير ينفق كيف يشاء أن ينفق كما تقول: كيف أضربك أضربك ولا يجوز أن يعمل في كيف ينفق لأن اسم الشرط لا يعمل فيه ما قبله إلا إن كان جارا فقد يعمل في بعض أسماء الشرط ونظير ذلك قوله تعالى:
فيبسطه في السمآء كيف يشآء
[الروم: 48].
{ وليزيدن كثيرا } ذكر كثيرا لأن منهم من آمن كعبد الله بن سلام. { وألقينا بينهم العداوة والبغضآء } الآية، قيل: الضمير في بينهم عائد على اليهود والنصارى لأنه جرى ذكرهم في قوله: لا يتخذوا اليهود والنصارى أولياء، ولشمول قوله: قل يا أهل الكتاب، للفريقين، وهذا قول الحسن وغيره. وقيل: هو عائد على اليهود إذ فيهم جبرية وقدرية وموحدة ومشبهه وكذلك فرق النصارى كالملكانية واليعقوبية والنسطورية والذي يظهر أن المعنى لا يزالون متباغضين متعادين فلا يمكن اجتماع كلمتهم على قتالك ولا يقدرون على حربك ولا يصلون إليك ولا إلى أتباعك لأن الطائفتين لا تواد بينهما فيجتمعان على حربك وفي ذلك اخبار بالمغيب وهو أنه لم يجتمع لحرب المسلمين جيش يهود ونصارى منذ كان الإسلام وإلى هذا الوقت.
{ كلمآ أوقدوا نارا للحرب } الآية قال الجمهور: هي استعارة. وإيقاد النار عبارة عن إظهار الحقد والكيد والمكر بالمؤمنين والاغتيال والقتال وإطفاؤها صرف الله عنهم ذلك وتفرق آرائهم وحل عزائمهم وتفريق كلمتهم وإلقاء الرعب في قلوبهم فهم لا يرون محاربة أحد إلا غلبوا وقهروا ولم يقم لهم نصر من الله على أحد.
{ ويسعون في الأرض فسادا } الظاهر أنه يراد به العمل والفعل، أي يجتهدون في الكيد للإسلام ومحو ذكر الرسول من كتبهم، والأرض يجوز أن يراد بها الجنس أو أرض الحجاز فتكون آل فيه للعهد.
{ ولو أن أهل الكتب ءامنوا واتقوا } قيل المراد أسلافهم ودخل فيها المعاصرون بالمعنى والغرض الاخبار عن أولئك الذين أطفأ الله نيرانهم وأذلهم بمعاصيهم والذي يظهر أنهم معاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي ذلك ترغيب لهم في الدخول في الإسلام وذكر شيئين وهما الإيمان والتقوى، ورتب عليهما شيئين وهما قابل الإيمان بتكفير السيئات إذ الإسلام يجب ما قبله، ورتب على التقوى وهي امتثال الأوامر واجتناب النواهي دخول جنة النعيم وأضاف الجنة إلى النعيم تنبيها على ما كانوا يستحقونه من العذاب لو لم يؤمنوا ويتقوا. وإن في قوله: ولو أنهم، حرف مصدري ينسبك منه ما بعده مصدر. فقيل: يرتفع على الفاعلية التقدير لو ثبت إيمانهم وتقواهم لكفرنا عنهم. وقيل: هو مبتدأ والخبر محذوف التقدير لو أن إيمانهم وتقواهم موجودان لكفرنا.
{ ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل } الآية هذا استدعاء لإيمانهم وتنبيه لهم على اتباع ما في كتبهم وترغيب لهم في عاجل الدنيا وبسط الرزق عليهم فيها إذ أكثر ما في التوراة من الموعود به على الطاعات هو الإحسان إليهم في الدنيا ولما رغبهم في الآية قبل في موعود الآخرة من تكفير السيئات وإدخالهم الجنة رغبهم في هذه الآية في موعود الدنيا ليجمع لهم بين خيري الدنيا والآخرة، وكان تقديم موعود الآخرة أهم لأنه هو الدائم الباقي والذي به النجاة السرمدية والنعيم الذي لا ينقضي.
ومعنى إقامة التوراة والإنجيل إظهار ما انطوت عليه من الأحكام والتبشير بالرسول والأمر باتباعه فهو كقولهم: أقاموا السوق، أي حركوها وأظهروها وذلك تشبيه بالقائم من الناس إذ هي أظهر هيئاته وفي قوله: والانجيل، دليل على دخول النصارى في لفظ أهل الكتاب.
وظاهر قوله: { ومآ أنزل إليهم من ربهم } العموم في الكتب الإلهية مثل كتاب أشعياء وكتاب دانيال فإنها مملوءة من البشارة بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: ما أنزل إليهم من ربهم هو القرآن.
وظاهر قوله: { لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم } انه استعارة عن سبوغ النعم عليهم وتوسعة الرزق، كما يقال: قد عمه الرزق من فوقه إلى قدمه، ولا فوق ولا تحت. وقال ابن عباس وغيره: لأعطتهم السماء مطرها وبركتها والأرض نباتها، كقوله تعالى:
لفتحنا عليهم بركت من السمآء والأرض
[الأعراف: 96]. { منهم أمة مقتصدة } الضمير في منهم يعود على أهل الكتاب. والأمة هنا يراد بها الجماعة القليلة للمقابلة لها بقوله وكثير منهم. والاقتصاد: من القصد وهو الاعتدال، وهو افتعل بمعنى اعتمل واكتسب أي كانت أولا جائرة ثم اقتصدت. وقيل: هم مؤمنوا الفريقين كعبد الله بن سلام وأصحابه وثمانية وأربعين من النصارى واقتصادهم هو الإيمان بالله تعالى. { وكثير منهم سآء ما يعملون } هذا تنويع في التفصيل فالجملة الأولى جاءت منهم أمة مقتصدة، جاء الخبر الجار والمجرور ومقتصدة وصف. والجملة الثانية جاء فيها الوصف الجار والمجرور. والخبر الجملة من قوله: ساءيا يعملون، وبين التركيبين تفاوت غريب من حيث المعنى وذلك أن الاقتصاد جعل وصفا والوصف ألزم للموصوف من الخبر فأتى بالطائفة الممدوحة بالوصف اللازم وأخبر عنها بقوله: منهم، والخبر ليس من شأنه اللزوم ولا سيما هنا فأخبر عنهم بأنهم من أهل الكتاب في الأصل ثم قد تزول هذه النسبة بالاسلام فيكون التعبير عنهم والإخبار بأنهم منهم باعتبار الحالة الماضية. وأما في الجملة الثانية فإنهم منهم حقيقة لأنهم كفار فجاء الوصف بالإلزم ولم يجعل خبرا أو جعل خبر الجملة التي هي " ساء ما يعملون " لأن الخبر ليس من شأنه اللزوم فهم بصدد أن يسلم ناس منهم فيزول عنهم الإخبار بمضمون هذه الجملة واختيار الزمخشري في ساء أن تكون التي لا تتصرف قال: فيه التعجب كأنه قيل: وكثير منهم ما أسؤا عملهم، ولم يذكر غير هذا الوجه. واختار ابن عطية أن تكون المتصرفة تقول: ساء الأمر يسوء.
وأجاز أن تكون غير المتصرفة فتستعمل استعمال نعم وبئس، كقوله تعالى: { سآء } ، مثلا فالمتصرفة تحتاج إلى تقدير مفعول أي ساء ما كانوا يعملون المؤمنين، وغير المتصرفة تحتاج إلى تقدير تمييز أي ساء عملا ما كانوا يعملون. " انتهى ". فإذا كانت ساء للتعجب كان وزنها فعل كما تقول: قضوا لرجل، أي ما أقضاه. وكذلك يكون وزنها فعل إذا كانت من باب نعم وبئس وإذا كانت متصرفة متعدية كان وزنها فعل بفتح العين ويجوز في ما أيضا أن تكون مصدرية أي ساء عملهم وأن تكون موصولة بمعنى الذي ويكون التقدير ما يعملونه وحذف الضمير العائد على الموصول.
{ يأيها الرسول } الآية، هذا نداء بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصاف الجنس الانساني وأمر بتبليغ ما أنزل الله إليه وهو عليه السلام قد بلغ ما أنزل إليه فهو أمر بالديمومة. { وإن لم تفعل } تبليغ ما أنزل إليك. وظاهر هذا الجواب لا ينافي الشرط إذ صار المعنى وإن لم تفعل لم تفعل فالجواب لا بد أن يغاير الشرط حتى يترتب عليه. وقال الزمخشري: المراد وإن لم تفعل فلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب، فوضع السبب موضع المسبب ويعضده قوله عليه السلام: فأوحى الله إلي ان لم تبلغ رسالاتي لأعذبنك. " انتهى ". وقال ابن عطية: أي ان تركت شيئا فكأنك قد تركت الكل وصار ما بلغت غير معتد به، فمعنى وإن لم تفعل، وإن لم تستوف.
{ والله يعصمك من الناس } قال محمد بن كعب: نزلت بسبب الإعرابي الذي اخترط سيف النبي صلى الله عليه وسلم ليقتله. " انتهى ". وهو غورث بن الحارث وذلك في غزوة ذات الرقاع.
" وهذه الآية نزلت بالمدينة والرسول مقيم بها سهر ليلة وحرسه سعد وحذيفة. فنام حتى غط فنزلت فأخرج إليهما رأسه من قبة آدم وقال: انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله لا أبالي من نصرني ومن خذلني "
وأصل هذا الحديث في صحيح مسلم.
{ إن الله لا يهدي } الآية أي من قضي عليه بالكفر والموافاة عليه لا يهديه الله أبدا فليس لفظ الكافرين على عمومه لأنه قد وجد كفار وقد هداهم الله.
{ قل يأهل الكتاب } الآية
" قال رافع بن حارثة وغيره: يا محمد ألست تزعم أنك على ملة إبراهيم وأنك تؤمن بالتوراة ونبوة موسى وأن ذلك حق. قال: بلى ولكنكم أحدثتم وغيرتم وكتمتم. فقالوا: انا نأخذ بما في أيدينا فإنه الحق ولا نصدقك ولا نتبعك "
فنزلت. وتقدم الكلام على إقامة التوراة والإنجيل وما أنزل فأغنى عن إعادته ونفي أن يكونوا على شيء جعل ما هم عليه عدما صرفا لفساده وبطنه فنفاه من أصله أو لاحظ فيه صفة محذوفة أي على شيء يعتد به فنتوجه النفي إلى الصفة دون الموصوف.
والضمير في تقيموا عائد على أهل الكتاب من اليهود والنصارى. وقيل: جمع الضمير والمقصود التفصيل أي حتى يقيم أهل التوراة التوراة ويقيم أهل الإنجيل الإنجيل ولا يحتاج إلى ذلك أن أريد ما في الكتابين من التوحيد فإن الشرائع فيه متساوية.
{ فلا تأس } أي لا تحزن عليهم فأقام الظاهر مقام المضمر تنبيها على العلة الموجبة لعدم لتأسف وهي الفسق، أو هو عام فيندرجون فيه.
{ إن الذين آمنوا } الآية تقدم الكلام على نظيرها. وقرأ أبي وعثمان وغيرهما والصابئين منصوبا عطفا على اسم إن وما بعدها. قال الزمخشري: وبها قرأ ابن كثير. " انتهى ". وليس ذلك مشهورا عن ابن كثير. وقرأ القراء السبعة والصابئون بالرفع ووجه ذلك على وجوه منها مذهب سيبويه والخليل ونحاة البصرة انه مرفوع بالابتداء وهو منوي به التأخير ونظيره أن زيدا وعمرو قائم، التقدير أن زيدا قائم وعمرو قائم فحذف خبر عمرو لدلالة خبر ان عليه . والنية بقوله: وعمرو، التأخير ويكون وعمرو قائم بحبره هذا المقدر معطوفا على الجملة من آل زيدا قائم وكلاهما لا موضع له من الإعراب. الوجه الثاني أنه معطوف على موضع اسم إن لأنه قبل دخول ان كان في موضع رفع فروعي هذا الموضع، وهذا مذهب الكائن والفراء. ودلائل هذه المسألة مقررة في علم النحو.
[5.70-74]
{ لقد أخذنا } الآية هذا إخبار بما صدر من أسلاف اليهود من نقض الميثاق الذي أخذه الله تعالى عليهم وما اجترحوه من الجرائم العظام من تكذيب الأنبياء وقتل بعضهم والذين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أخلاف أولئك فغير بدع ما يصدر منهم للرسول من الأذى والعصيان إن ذلك شنشنة من أسلافهم.
{ كلما جآءهم رسول } الآية تقدم تفسير مثلها في البقرة. وقال الزمخشري: هنا فإن قلت: أين جواب الشرط؟ فإن قوله: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون، ناب عن الجواب، لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين ولأنه لا يحسن أن تقول: ان أكرمت أخي أخاك أكرمت. قلت: هو محذوف ودل عليه قوله: فريقا كذبوا وفريقا يقتلون، كأنه قيل: كلما جاءهم رسول منهم ناصبوه. وقوله: فريقا كذبوا، جواب مستأنف لقائل يقول: كيف فعلوا برسلهم. " انتهى ". فقوله فإن قلت: أين جواب الشرط؟ سمي قوله: كلما جاءهم رسول شرطا وليس بشرط بل كل منصوبة على الظرف لإضافتها إلى المصدر المنسبك من ما المصدرية الظرفية والعامل فيها هو ما يأتي بعد ما المذكورة وصلتها في الفعل كقوله تعالى:
كلما نضجت جلودهم بدلنهم
[النساء: 56]، وقوله:
إذآ ألقوا فيها سمعوا
[الملك: 7]. وأجمعت العرب على أنه لا يجزم بكلما وعلى تسليم تسميته شرطا فذكر ان قوله: فريقا كذبوا ينبوا على الجواب لوجهين، أحدهما: قوله لأن الرسول الواحد لا يكون فريقين وليس كما ذكر لأن الرسول في هذا التركيب لا يراد به الواحد بل المراد به الجنس، ألا قرىء انك إذا قلت: لا أصحبك ما طلع نجم، لا يراد به واحد بل يراد به الجنس وأي نجم طلع، وإذا كان المراد به الجنس انقسم إلى الفريقين فريق كذب وفريق قتل. والوجه الثاني: في قوله: ولأنه لا يحسن أن تقول: إن أكرمت أخي أخاك أكرمت، يعني أنه لا يجوز تقديم منصوب فعل الجواب عليه وليس كما ذكر بل مذهب البصريين الكسائي أن ذلك جائز حسن ولم يمنعه إلا الفراء وحده وهذا كله على تقدير تسليم أن كلما شرط وإلا فلا يلزم أن يعتذر بهذا بل يجوز تقديم منصوب الفعل العامل في كلما عليه فتقول: كلما جئتني أخاك أكرمت. وعموم نصوص النحويين على ذلك لأنهم حين حصروا ما يجب تقديم المفعول به على العامل وحصروا ما يجب تأخيره عنه قالوا: وما سوى ذلك يجوز فيه التقديم على العامل والتأخير عنه ولم يستثنوا هذه الصورة ولا ذكروا فيها خلافا فعلى هذا الذي قررناه يكون العامل في كلما قوله كذبوا وما عطف عليه ولا يكون محذوفا. وقال الحوفي وابن عطية: كلما ظرف والعامل فيه كذبوا.
وقال أبو البقاء: كذبوا جواب كلما. " انتهى ". وجاء بلفظ يقتلون على حكاية الحال الماضية استنباطا للقتل واستحضارا لتلك الحال الشنيعة للتعجب منها، قاله الزمخشري: ويحسن مجيئه كونه رأس آية والمعنى أنهم كذبوا فريقا فقط وقتلوا فريقا ولا يقتلونه إلا مع التكذيب فاكتفي بذكر القتل عن ذكر التكذيب أي اقتصر ناس على تكذيب فريق وزاد ناس على التكذيب القتل.
{ وحسبوا ألا تكون فتنة } قال ابن الأنباري: نزلت في قوم كانوا على الكفر قبل البعثة فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوه بغيا وحسدا.
{ فعموا وصموا } بمجانبة الحق. { ثم تاب الله عليهم } أي عرضهم للتوبة بإرسال الرسول وإن لم يتوبوا. { ثم عموا وصموا كثير منهم } لأنهم كلهم لم يجمعوا على خلافة. " انتهى ". وقرىء: أن لا تكون بنصب النون بأن. وقرىء برفعها على أن أن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الأمر محذوف تقديره أنه لا تكون ولا تكون جملة في موضع خبر أن وفي كلتا القراءتين نائب مناب مفعولي حسب فعموا عن النظر في دلائل الحق وصموا عن سماع الآيات الإلهية ثم تاب الله عليهم ببعثه عيسى عليه وسلم ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فاتبع ناس منهم عيسى ومحمدا عليهما السلام.
و { كثير } بدل من الضمير في صموا أو في عمو الآن فيهم من آمن بالنبيين المذكورين. { لقد كفر الذين قالوا } الآية تقدم تفسير هذه الجملة مستوفى في أول السورة. { وقال المسيح } الآية رد تعالى عليهم مقالتهم بقول من يدعون الإلهية فيه وهو عيسى عليه السلام أنه لا فرق بينه وبينهم في أنهم كلهم مربوبون وأمرهم بإخلاص العبادة له ونبه على الوصف الموجب للعبادة وهو الربوبية وفي ذلك أعظم دليل عليهم في فساد دعواهم وهو أن الذي يعظمونه ويرفعون قدره عما ليس له يرد عليهم مقالتهم وهذا الذي ذكره تعالى عنه هو مذكور في إنجيلهم يقرؤونه ولا يعملون به وهو قول المسيح: يا معشر بني المعمودية. وفي رواية: يا معشر الشعوب قوموا بنا إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ومخلصي ومخلصكم.
{ إنه من يشرك بالله } الظاهر أنه من كلام المسيح فهو داخل تحت القول وفيه أعظم ردع منه عن عبادته إذ أخبر أنه من عبد غير الله منعه الله دار من أفرده بالعبادة وجعل مأواه النار ان الله لا يغفر أن يشرك به. وقيل: هو من كلام الله تعالى مستأنف أخبر بذلك على سبيل الوعيد والتهديد.
{ وما للظالمين من أنصار } ظاهره أنه من كلام عيسى عليه السلام أخبرهم أنه من تجاوز وضع الشيء غير موضعه فلا ناصر له ولا مساعد فيما افترى وتقول وفي ذلك ردع لهم عما انتحلوه في حقه من دعوى أنه إله وأن ذلك ظلم إذ جعلوا ما هو مستحيل في العقل واجبا وقوعه أو فلا ناصر له ولا منجي من عذاب الله في الآخرة ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى أخبر أنهم ظلموا وعدلوا عن الحق في أمر عيسى وتقولهم عليه فلا ناصر لهم.
{ لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } هؤلاء هم الملكانية من النصارى القائلون بالتثليث. وظاهر قوله: ثالث ثلاثة، أحد آلهة ثلاثة. قال المفسرون: أرادوا بذلك أن الله وعيسى وأمه آلهة ثلاثة ويؤكده أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي الهين من دون الله ما اتخذ الله صاحبة ولا ولدا أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله. وحكى المتكلمون عن النصارى أنهم يقولون: وجوهر واحد ثلاثة أقانيم أب وأم وروح قدس، وهذه الثلاثة إله واحد كما أن الشمس تناول القرص والشعاع والحرارة وعنوا بالأب الذات، وبالابن الكلمة، وبالروح الحياة. وأثبتوا الذات والكلمة والحياة وقالوا أن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء بالخمر واختلاط اللبن بالماء وزعموا أن الأب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد، وهذا معلوم البطلان ببديهة العقل أن الثلاثة لا تكون واحدا وإن الواحد لا يكون ثلاثة. ولا يجوز في العربية في ثالث ثلاثة إلا الإضافة لأنك لا تقول ثلثت الثلاثة وأجاز النصب أحمد بن يحيى ثعلب وردوه عليه.
{ وما من إله إلا إله واحد } معناه لا يكون إله في الوجود إلا متصفا بالوحدانية وأكد ذلك بزيادة من الاستغراقية وحصر الهيئة في صفة الوحدانية. وإله رفع على البدل من إله على الموضع. وأجاز الكسائي اتباعه على اللفظ فيجر لأنه لا يجيز زيادة من في الواجب. والتقدير وما إله في الوجود إلا إله واحد أي موصوف بالوحدانية لا ثاني له وهو الله تعالى.
{ وإن لم ينتهوا } قبل ان قسم محذوف والأكثر مجيء اللام الموطنة لجواب القسم المحذوف كقوله تعالى:
لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن
[المنافقون: 8]، وقد تحذف اللام فيكون التقدير لئن لم ينتهوا كما حذف في قوله:
وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن
[الأعراف: 23]، وما في قوله: عما يقولون، أي عن قولهم أو موصولة تقديره عن الذي يقولونه وحذف الضمير العائد على ما.
و { ليمسن الذين } اللام فيه جواب قسم محذوف قبل أداة الشرط وأكثر ما يجيء هذا التركيب وقد صحبت أن اللام المؤذنة بالقسم المحذوف كقوله تعالى:
لئن لم ينته المنافقون
[الأحزاب: 60]،
والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم
[الأحزاب: 60]. ومعنى الذين كفروا أي الذين ثبتوا على هذا الاعتقاد فأقام الظاهر مقام المضمر إذ كان الربط يحصل بقوله: وليمسنهم لتكرير الشهادة عليهم بالكفر في قوله: { لقد كفر } ، الآية والاعلام بأنهم كانوا بمكان من الكفر إذ جعل الفعل في صلة الذين وهي تقتضي كونها معلومة للسامع مفروغا من ثبوتها واستقرارها لهم ومن في فهم للتبعيض أي كائنا منهم والربط حاصل بالضمير، فكأنه قيل: كافرهم وليسوا كلهم بقوا على الكفر بل قد تاب كثير منهم عن النصرانية.
ومن أثبت أن من تكون لبيان الجنس أجاز ذلك هنا.
{ أفلا يتوبون إلى الله } هذا لطف منه سبحانه وتعالى بهم واستدعاء أبى التنصل من تلك المقالة الشنعاء بعد أن كرر عليهم الشهادة بالكفر والفاء في أخلا للعطف حجزت بين همزة الاستفهام ولا النافية والتقدير فأولا، وقال ابن عطية: رفق جل وعلا بهم بتحقيقه إياهم على التوبة وطلب المغفرة. " انتهى ". وما ذكره من الحث والتحضيض على التوبة هو من حيث المعنى لا من حيث مدلول اللفظ لأن مدلول أفلا غير مداول الا التي للحض والحث.
[5.75-81]
{ ما المسيح } الآية لما رد على النصارى قولهم الأول بقول المسيح
اعبدوا الله ربي وربكم
[المائدة: 72، 117]، والثاني، بقوله:
وما من إله إلا إله واحد
[المائدة: 73]، أثبت له الرسالة بصورة الحصر أي: ما المسيح ابن مريم شيء مما تدعيه النصارى من كونه إلها وكونه أحد آلهة ثلاثة بل هو رسول من جنس الرسل الذين خلوا وتقدموا جاء بآيات من عند الله. { وأمه صديقة } هذا البناء من ابنيه المبالغة، والأظهر أنه من الثلاثي المجرد نحو: سكير من سكر. ويجوز أن يكون بناء من صدق لقوله تعالى:
وصدقت بكلمات ربها
[التحريم: 12]. كما قيل في أبي بكر رضي الله عنه الصديق. { كانا يأكلان الطعام } هذا تنبيه على سمة الحدوث وتبعيد عن اعتقاد ما اعتقدته النصارى فيهما من الألوهية لأن من احتاج إلى الطعام وما يتبعه من العوارض لم يكن إلا جسما مركبا من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام.
{ انظر كيف نبين لهم الآيات } أي الاعلام في الأدلة الظاهرة على بطلان ما اعتقدوه، وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم وفي ضمن ذلك الأمر لأمته بالنظر في ضلال هؤلاء وبعدهم عن قبول ما نبهوا عليه. { ثم انظر أنى يؤفكون } كرر الأمر بالنظر لاختلاف المتعلق لأن الأول أمر بالنظر في كونه تعالى أوضح لهم الآيات وبينهما بحيث لا يقع معها لبس، والأمر الثاني هو بالنظر في كونهم يصرفون عن استماع الحق وتأمله أو في كونهم يقلبون ما بين لهم إلى الشد منه وهذان أمرا تعجيب. ودخلت ثم لتراخي ما بين العجبين وكأنه يقتضي العجب من توضيح الآيات وتبيينها ثم ينظر في حال من بينت له فترى إعراضهم عن الآيات أعجب في توضيحها لأنه يلزم من تبيينها تبنها لهم والرجوع إليهما فكونهم أفكوا عنها أعجب.
{ قل أتعبدون } الآية لما كان إشراكهم بالله تضمن القول والاعتقاد جاء الختم بقوله: وهو السميع أي لأقوالكم العليم باعتقادكم وما انطوت عليه نياتكم. وفي الاخبار عنه تعالى بهاتين الصفتين تهديد ووعيد على ما يقولونه ويعتقدونه وتضمنت الآية الإنكار عليهم حيث عبدوا من دونه من هو متصف بالعجز عن دفع أو جلب نفع. قيل ومن مرت عليه مدد لا يسمع فيها ولا يعلم لجدير أن لا يعبد كيف وقد تركوا عبادة القادر على الإطلاق السميع للأصوات العليم بالنيات.
{ قل يأهل الكتاب لا تغلوا } ظاهره نداء أهل الكتاب الحاضرين زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتناول من جاء بعدهم ولما سبق القول في أباطيل اليهود وثنى بأباطيل النصارى جمع الفريقان في النهر عن الغلو في الدين وانتصب غير الحق على معنى غلوا غير الحق وهو الغلو الباطل.
وليس المراد هنا بالدين ما هم عليه بل المراد الدين الحق الذي جاء به موسى وعيسى عليهما السلام. ومن غلو اليهود إنكار نبوة عيسى وادعاؤهم فيه أنه لغيه ومن غلو النصارى ما تقدم من اعتقاد بعضهم فيه أنه الله وبعضهم أنه أحد آلهة ثلاثة.
{ ولا تتبعوا أهوآء قوم } الآية، هؤلاء القوم هم أسلاف اليهود والنصارى ضلوا في أنفسهم وأضلوا غيرهم كثيرا ثم عين ما ضلوا عنه وهو السبيل السوي المتوسط في الدين. وتخصيص ابن عطية والزمخشري عموم أهل الكتاب بالنصارى خروج عن الظاهر وهو العموم من غير داعية إلى ذلك ويؤيد العموم قوله بعد ذلك على لسان داود وعيسى ابن مريم، داود بالنسبة إلى اليهود وعيسى بالنسبة إلى النصارى.
{ لعن الذين كفروا } الآية، قال ابن عباس: لعنوا بكل لسان لعنوا على عهد موسى في التوراة وعلى عهد داود في الزبور وعلى عهد عيسى في الإنجيل وعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن ولعن مبني للمفعول حذف فاعله فيجوز أن يكون الله ويجوز أن يكون الفاعل غيره تعالى كالأنبياء. والأفصح أنه إذا فرق بين الجزأين اختير لفظ الإفراد على لفظ التثنية وعلى لفظ الجمع فلذلك جاء على لسان مفردا ولم يأت على لساني داود وعيسى ولا على ألسن داود وعيسى فلو كان المتضمنان غير مفترقين اختير لفظ الجمع على التثنية وعلى الإفراد نحو قوله تعالى:
فقد صغت قلوبكما
[التحريم: 4]، والمراد باللسان هنا الجارحة لا اللغة أي أن الناطق بلعنهم هو لسان داود وعيسى. { ذلك بما عصوا } أي ذلك اللعن كائن بسبب عصيانهم وذكر هذا على سبيل التوكيد وإلا فقد فهم سبب ولكن بإسنادها إلى من تعلق بهذا الوصف الدال على العلية وهو الذين كفروا كما تقول: رجم الزاني، فيعلم أن الرجم سببه الزنا، كذلك اللعن سببه الكفر، ولكن أكد بذكره ثانية في قوله: ذلك بما عصوا، وما مصدرية في قوله: بما عصوا أي بعصيانهم وكانوا يجوزان يكون معطوفا على عضوا فيكون داخلا في صلة ما أي بعصيانهم وكونهم ويجوز أن يكون إخبارا من الله تعالى أن شأنهم الإعتداد.
{ كانوا لا يتناهون } الآية ظاهرة التفاعل بمعنى الاشتراك أي لا ينهي بعضهم بعضا وذلك أنهم جمعوا بين فعل المنكر والتجاهر به وعدم النهي عنه والمعصية إذا فعلت وقدرت على العبد ينبغي أن يستتر بها من ابتلي منكم بشيء من هذه القاذورات فليستتر فإذا فعلت جهارا وتواطؤا على عدم الإنكار كان ذلك تحريضا على فعلها وسببا مثيرا لإفشائها كثيرا.
قرىء { كثيرا منهم } الآية الظاهر عود الضمير في منهم على بني إسرائيل فقال مقاتل كثيرا منهم هم من كان بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتولون الكفار وعبدة الأوثان، والمراد كعب بن الأشرف وأصحابه الذين استجاشوا المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى هذا تكون قرى بصرية، ويحتمل أن تكون من رؤية القلب.
{ أن سخط الله عليهم } الآية، قال الزمخشري في قوله: أن سخط، أنه المخصوص بالذم ومحله الرفع كأنه قيل: لبئس زادهم إلى الآخرة سخط الله عليهم، والمعنى موجب سخط الله عليهم. " انتهى ". ولا يصح هذا الإعراب إلا على مذهب الفراء والفارس في ان ما موصولة، أو على مذهب من جعل في بئس ضميرا وجعل ما تمييزا بمعنى شيئا، وقدمت صفة للتمييز وأما على مذهب سيبويه فلا يستوي ذلك لأن ما عنده اسم تام معرفة بمعنى الشيء، والجملة بعده صفة للمخصوص المحذوف والتقدير ليس الشيء شيء قدمت لهم أنفسهم فيكون على هذا أن سخط في موضع رفع على البدل من المخصوص المحذوف أو على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أن سخط. وقال ابن عطية: وإن سخط في موضع رفع بدل من ما. " انتهى ". ولا يصح هذا سواء كانت ما موصولة أم تامة لأن البدل يحل محل المبدل منه وإن سخط لا يجوز أن يكون فاعلا لبئس لأن فاعل بئس ونعم لا يكون أن والفعل. وقيل: ان سخط في موضع نصب بدلا من الضمير المحذوف في قدمت أي قدمته، كما تقول: الذي ضربت زيدا أخوك تريد ضربته زيدا، وقيل: على إسقاط اللام أي لأن سخط.
{ ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي } الآية إن كان المراد بقوله: ترى كثيرا منهم، أسلافهم فالنبي داود وعيسى عليهما السلام أو معاصري الرسول فالنبي هو محمد صلى الله عليه وسلم والذين كفروا عبدة الأوثان والمعنى لو كانوا يؤمنون إيمانا خالصا غير نفاق إذ موالاة الكفار دليل على النفاق. والظاهر في ضمير كانوا وضمير الفاعل في ما اتخذوهم أنه يعود على كثير منهم وفي ضمير المفعول أنه يعود على الذين كفروا. وقال القفال وجها آخر وهو أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم ما اتخذوهم هؤلاء اليهود أولياء والوجه الأول أولى لأن الحديث إنما هو عن قوله: كثيرا منهم، فعود الضمائر على نسق واحد أولى من اختلافهما وجاء جواب لو حنفيا بما بغير لام وهو الأفصح ودخول اللام عليه قليل، نحو قول الشاعر:
لو أن بالعلم تقضي ما تعيش به
لما ظفرت من الدنيا بتفروق
{ ولكن كثيرا منهم } خص الكثير بالفسق إذ فيهم قليل قد آمن والمخبر عنهم أولا هؤلاء الكثير والضمائر بعده له، وليس المعنى ولكن كثيرا من ذلك الكثير ولكنه لما طال أعيد بلفظه وكان من وضع الظاهر بلفظه موضع الضمير إذ كان السياق يكون ما اتخذوهم أولياء ولكنهم فاسقون فوضع الظاهر موضع هذا الضمير.
[5.82-86]
{ لتجدن } الآية قال قتادة: نزلت في ناس من أهل الكتاب كانوا على شريعة مما جاء به عيسى عليه السلام آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأثنى الله عليهم قيل: هو النجاشي وأصحابه تلا عليهم جعفر بن أبي طالب حين هاجر إلى الحبشة سورة مريم فآمنوا وفاضت أعينهم من الدمع. وظاهر اليهود العموم وذلك أنهم مرنوا على تكذيب الأنبياء وقتلهم وعلى العتو والمعاصي واستشعار اللعنة وضرب الذلة والمسكنة فتحررت عداوتهم وكيدهم وحسدهم وخبثهم. وفي الحديث:
" ما خلا يهوديان بمسلم إلا هما بقتله "
وفي وصف الله إياهم بأنهم أشد عداوة اشعار بصعوبة إجابتهم إلى الحق ولذلك قل إسلام اليهود، وعطف الذين أشركوا على اليهود وجعلهم تبعا لهم في ذلك إذ كان اليهود أشد في العداوة إذ تباينوا هم والمسلمون في الشريعة وفي الجنس، وتباين المسلمون والمشركون في الشريعة لا في الجنس إذ بينهم وشائح متصلة من القرابات والأنساب القريبة فتعطفهم على كل حال الرحم على المسلمين ولأنهم ليسوا على شريعة من عند الله فهم أسرع الإيمان من كل واحد من اليهود والنصارى. واللام في لتجدن جواب قسم محذوف ومفعول تجدن الأول أشد الناس، والمراد بالناس الكفار والذين آمنوا متعلق بأشد، والمفعول الثاني اليهود وما عطف عليه، وعداوة تمييز.
{ ولتجدن أقربهم مودة } أي هم ألين عريكة وأقرب ودا ولم يصفهم بالود إنما جعلهم أقرب من اليهود والمشركين وهم أمة لهم وفاء واليهود ليسوا على شيء من أخلاف النصارى بل شأنهم الخبث.
وقوله: { الذين قالوا إنا نصارى } إشارة إلى أنهم ليسوا متمسكين بحقيقة النصرانية بل ذلك قول منهم وزعم. { ذلك } إشارة إلى قرب المودة، وهو مبتدأ، والخبر قوله: بأن منهم أي كائن بأن منهم، واسم ان قسيسين القس بفتح القاف: تتبع الشيء، وبكسرها: رئيس النصارى، وقسيس بناء للمبالغة كشريب، وجمع بالواو والنون جمع سلامة وجمع أيضا جمع تكسير قالوا: قساوسة.
قال أمية بن أبي الصلت: لو كان منفلت كانت قساوسة يحييهم الله في أيديهم الزير. قال الفراء: هو مثل مهالبة كثرت السيئات فأبدلوا إحداهن واوا، يعني أن قياسه قساسسة وفي هذا التعليل دليل على جلالة العلم بقوله تعالى: { قسيسين } ، وأنه سبيل إلى الهداية وعلى حسن عاقبة الانقطاع والانفراد بقوله تعالى: { ورهبانا } ، وإنه طريق إلى النظر في العاقبة وعلى التواضع بقوله: لا يستكبرون، وأنه سبب لتعظيم الموجد إذ يشهد من نفسه ومن كل محدث أنه مفتقر للموجد فيعظم عنده مخترع الأشياء البارىء سبحانه وتعالى.
{ وإذا سمعوا مآ أنزل } الآية تقدم قصة الحبشة وأصحابه الذين أسلموا على يد جعفر بن أبي طالب. والظاهر أن الضمير يعود على قسيسين ورهبانا فيكون عاما، ويكونون قد أخبر عنهم بما يقع من بعضهم كما جرى للنجاشي حين تلا عليه جعفر سورة مريم إلى قوله:
ذلك عيسى ابن مريم
[الآية: 34]، وسورة طه إلى قوله:
وهل أتاك حديث موسى
[الآية: 9]، فبكى. وكذلك قومه الذين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قرأ عليهم يس فبكوا. والجملة من قوله: وإذا سمعوا، تحتمل الاستئناف وتحتمل أن تكون معطوفة على خبر انهم.
{ ترى أعينهم } هي من رؤية العين وأسند الفيض إلى الأعين وإن كان حقيقة للدموع، كما قال: ففاضت دموع العين مني صبابة. إقامة للمسبب مقام السبب لأن الفيض مسبب عن الامتلاء فالأصل ترى أعينهم تمتلىء من الدموع حتى تفيض لأن الفيض على جوانب الإناء ناشىء عن امتلائه، قال الشاعر:
وقد يملأ القطر الإناء فيفعم
ويحتمل أنه أسند الفيض إلى الأعين على سبيل المبالغة في البكاء لما كانت يفاض فيها جعلت الفائضة بأنفسها على سبيل المجاز والمبالغة. ومن في قوله: من الدمع، متعلقة بمحذوف تقديره مملوءة من الدمع. ومن في قوله: مما عرفوا للسبب بمعنى الباء متعلقة بتفيض، وما مصدرية في قوله: مما عرفوا، ومن الحق بدل من قوله: مما. ويجوز أن تكون ما موصولة تقديره من الذي عرفوه، وحذف الضمير العائد عليها، ومن الحق في موضع الحال أي مستقرا من الحق.
{ يقولون } جملة مستأنفة. قال ابن عطية: يقولون في موضع نصب على الحال. " انتهى ". وقال مثله أبو البقاء ولم يبينا ذا الحال ولا العامل فيها ولا جائز أن يكون حالا من الضمير في أعينهم لأنه مجرور بالإضافة لا موضع له من رفع ولا نصب إلا على مذهب من يجوز تنزل الجر المضاف منزلة المضاف إليه وهو قول خطأ، وقد بينا ذلك في كتابنا وضح المسالك من تأليفنا ولا جائزان يكون حالا من ضمير الفاعل في عرفوا لأنها تكون قيدا في العرفان وهم قد عرفوا الحق في هذا الحال وفي غيرها فالأولى أن تكون مستأنفة. أخبر تعالى عنهم بأنهم التبسوا بهذا القول، والمعنى أنهم عرفوا الحق بقلوبهم ونطقت به ألسنتهم وأقرت به. وآمنا معناه أنشأنا الإيمان بالرسول، والمعنى أنهم عرفوا الحق.
{ مع الشاهدين } قال ابن عباس: هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا ذلك إذ هم شهداء على سائر الأمم، كما قال تعالى:
لتكونوا شهدآء على الناس
[البقرة: 143].
{ وما لنا لا نؤمن بالله } الآية هذا إنكار واستبعاد لانتفاء الإيمان منهم مع قيام موجبه وهو عرفان الحق. والظاهر أن قولهم: ذلك هو لأنفسهم، على سبيل المكالمة معها لدفع الوسواس والهواجس إذ فراق طريق وسلوك أخرى لم ينشأ عليها مما يشق ويصعب، وما استفهامية مبتدأ، ولنا في موضع الخبر التقدير أي شيء كائن لنا، ولا نؤمن جملة حالية التقدير غير مؤمنين، والعامل فيها هو العامل في الجار المجرور.
{ ونطمع } الظاهر أنه استئناف إخبار منهم ويجوز أن يكون في موضع الحال عطفا على قوله: لا نؤمن: فيكون في حيز النفي لما قالوا: إشارة إلى قوله: يقولون ربنا آمنا، إلى آخر كلامهم. وتقدم فيما عرفوا من الحق فاجتمع القول والمعرفة فكان ذلك إيمانا محضا. قال الزمخشري: والواو في ونطمع واو الحال، والعامل في الحال معنى الفعل العامل في لا نؤمن ولكن مقيدا بالحال الأولى لأنك لو أزلتها وقلت: وما لنا نطمع لم يكن كلاما. " انتهى ". ما ذكره من أن الحالين العامل فيهما واحد وهو ما في اللام من معنى الفعل كأنه قيل: أي شيء حصل لنا غير مؤمنين طامعين ليس بجيد لأن الأصح أنه لا يجوز أن يقتضي العامل حالين لذي حال واحد إلا بحرف عطف إلا أفعل التفضيل فالأصح أنه يجوز فيه ذلك وذو الحال هنا واحد وهو الضمير المجرور بلام لنا ولأنه أيضا تكون الواو دخلت على المضارع المثبت ولا تدخل واو الحال على المضارع إلا بتأويل فتحتاج أن تقدر ونحن نطمع. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ونطمع حالا من لا نؤمن على أنهم أنكروا على أنفسهم أنهم لا يوحدون الله ويطمعون مع ذلك أن يصحبوا الصالحين. " انتهى ". وهذا أيضا ليس بجيد لأن فيه دخول واو الحال على المضارع ويحتاج إلى تأويل. وقال الزمخشري: وأن يكون معطوفا على لا نؤمن على معنى وما لنا نجمع بين التثليث وبين الطمع في صحبة الصالحين أو على معنى وما لنا لا نجمع بينهما بالدخول في الإسلام لأن الكافر ما ينبغي له أن يطمع في صحبة الصالحين. " انتهى ". ويظهر لي وجه غير ما ذكروه وهو أن يكون معطوفا على نؤمن على معنى أنه منفي كنفي نؤمن التقدير وما لنا لا نؤمن ولا نطمع، فيكون في ذلك إنكار لانتفاء إيمانهم وانتفاء طمعهم مع قدرتهم على تحصيل الشيئين الإيمان والطمع في الدخول مع الصالحين. " انتهى ".
و { المحسنين } يجوز أن يكون ذلك من وضع الظاهر موضع المضمر كأنه قال جزاؤهم ونبه على الصفة الجليلة التي هي أعظم مراتب العبادة التي
" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الإحسان؟ فقال: أن تعبد الله كأنك تراه "
ويجوز أن يكون المحسنين عاما واندرج هؤلاء فيهم. { والذين كفروا وكذبوا } الآية اندرج فيهم اليهود والنصارى وغيرهم لما ذكر تعالى ما للمؤمنين ذكر ما أعد للكافرين.
[5.87-92]
{ يأيها الذين آمنوا } الآية ذكروا سبب نزولها في قصة مطولة ملخصها أن جماعة من الصحابة عزموا على التقشف المفرط والعبادة الدائمة من الصيام الدائم وترك إتيان النساء واللحم والودك والطيب ولبس المسوح والسياحة في الأرض وحب المذاكير، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فنزلت. ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما مدح النصارى بأن منهم قسيسين ورهبانا وعادتهم الاحتراز عن طيبات الدنيا ومستلذاتها أوهم ذلك المدح ترغيب المسلمين في مثل ذلك التقشف والتبتل فبين تعالى أن الإسلام لا رهبانية فيه. وقال عليه السلام:
" أما أنا فأقوم وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء وأنال الطيب فمن رغب عن سنتي فليس مني "
وأكل النبي صلى الله عليه وسلم الدجاج والفالوذج وكان يعجبه الحلواء والعسل. والطيبات هنا: المستلذات من الحلال، ومعنى لا تحرمونها لا تمنعوها أنفسكم كمنع التحريم، أو لا تقولوا حرمناها على أنفسنا مبالغة منكم في العزم على تركها تزهدا منكم وتقشفا.
{ وكلوا مما رزقكم الله } الآية تقدم تفسير مثلها في قوله:
يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا
[البقرة: 168] { واتقوا الله } وهذا تأكيد للتوصية بما أمر به وزاد تأكيدا بقوله: { الذي أنتم به مؤمنون } لأن الإيمان به يحمل على التقوى في امتثال ما أمر به واجتناب ما نهى عنه. { لا يؤاخذكم الله } الآية تقدم الكلام على تفسيرها. ومعنى عقدتم وثقتم بالقصد والنية، وقرىء عاقدتم وعقدتم. وقال أبو علي الفارسي: يحتمل أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص. " انتهى ". وليس مثله لأنك لا تقول طرقت النعل وعقبت اللص بغير ألف. وهذا تقول فيه: عاقدت اليمين وعقدت اليمين. قال الحطيئة:
قوم إذا عقدوا عقدا لجارهم. فجعله بمعنى المجرد هو الظاهر كما ذكرناه. والإيمان: جمع يمين، واليمين المنعقدة بالله أو بأسمائه أو بصفاته. وقال الإمام أحمد: إذا حلف بالنبي صلى الله عليه وسلم انعقدت يمينه لأنه حلف بما لا يتم الايمان إلا به، وفي بعض الصفات تفصيل وخلاف ذكر في كتب الفقه.
{ فكفارته } الضمير عائد على ما ان كانت ما موصولة إسمية وهو على حذف مضاف التقدير بحنث الذي عقدتم عليه الإيمان، وإن كانت مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من المعنى وهو إثم الحنث وإن لم يجر له ذكر صريح ولكن يقتضيه المعنى.
و { مساكين } أعم من أن يكونوا ذكورا أو إناثا أو من الصنفين. والظاهر تعداد الأشخاص فلو أطعم مسكينا واحدا للكفارة عشرة أيام لم يجز له. وبه قال مالك والشافعي. وقال أبو حنيفة: يجزىء. وتعرضت الآية لجنس ما يطعم منه وهو من أوسط ما تطعمون ولم تتعرض لمقدار ما يطعم كل واحد هذا الظاهر.
وقد رأى مالك وجماعة أن هذا التوسط هو في القدر. ورأى جماعة أنه في الصنف وبه قال ابن عمر وغيره. وقال ابن عطية: الوجه أن يعم بلفظ الوسط القدر والصنف. " انتهى ". وقال مالك والشافعي: مد لكل مسكين بمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو حنيفة: نصف صاع من برا وصاع من تمر. والظاهر أنه لا يجزىء إلا الإطعام بما فيه كفاية وقتا واحدا فإن غداهم وعشاهم أجزأه، وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال الشافعي: من شرط صحة الكفارة تمليك الطعام للفقراء فإن غداهم وعشاهم لم يجزه، وبه قال ابن جبير والحكم، والظاهر أنه لا يشترط الادام. وقال ابن عمر: الأوسط الخبر والتمر والزبيب وخير ما نطعم أهلينا الخبز واللحم. وعن غيره الخبز والسمن. وقال ابن سيرين: أفضله اللحم وأوسطه السمن وأحسنه الخبز مع التمر. وروي عن أبي مسعود مثله. وقال ابن حبيب: لا يجزىء الخبز قفارا ولكن بإدام زيت أو لبن أو لحم ونحوه. والظاهر أن المراعي ما يطعم أهله الذين يختصون به آي من أوسط ما يطعم كل شخص أهله وقيل المراعى عيش البلد فالمعنى من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة من مدينة أو صقع، ومن أوسط في موضع مفعول ثان لإطعام، والأول هو عشرة مساكين أي طعاما من أوسط، والعائد على ما من ما تطعمون محذوف تقديره تطعمونه. وجمع أهل جمع تكسير، قالوا: أهال وجمع سلامة بالواو والنون رفعا وبالياء والنون نصبا وجرا وهو شاذ في القياس، وأهليكم هو المفعول الأول وعلامة النصب فيه الياء، والمفعول الثاني هو الضمير المقدر في تطعمونه.
{ أو كسوتهم } هذا معطوف على قوله: { إطعام } ، والظاهر أن الكسوة هي مصدر وأن كان يستعمل لثوب الذي يستر ولما لم يذكر مقدار ما يطعم ولم يذكر مقدار الكسوة، وظاهره مطلق الكسوة، وأجمعوا على أن القلنسوة بانفرادها لا تجزىء، وللعلماء اختلاف كثير فيما يكسى به الفقير في الكفارة مذكور في كتب الفقه. والظاهر إطلاق الإطعام والكسوة والرقبة، ويجزىء ما دل عليه الإسم مما جرت به العادة. والظاهر حصول الكفارة بتحرير ما يصدق عليه رقبة من غير اعتبار شيء آخر فيجزىء عتق الكافر وذي العاهة، وبه قال داود وجماعة من أهل الظاهر، وقال مالك: لا يجزىء كافر ولا أعمى ولا أبرص ولا مجنون.
{ فمن لم يجد } أحد هذه الثلاثة التي وقع فيها التخيير من الإطعام والكسوة والتحرير فالواجب عليه صيام ثلاثة أيام. ومن لم يجد شرطية، وما بعده جملة الجزاء وقدرناه فالواجب عليه، فالهاء في عليه عائدة على من، وصيام خير. { ذلك كفارة أيمانكم } أي ذلك المذكور. واستدل بهذا الشافعي على جواز التكفير بعد اليمين وقبل الحنث وفيها تنبيه على أن الكفارة قبل اليمين لا تجوز، وذهب الجمهور إلى أن التكفير لا يكون إلا بعد الحنث، فهم يقدرون محذوفا أي إذا حلفتم وحنثتم.
{ يأيها الذين آمنوا } الآية نزلت بسبب قصة سعد بن أبي وقاص حين شرب طائفة من الأنصار والمهاجرين وتفاخروا فقال سعد: المهاجرون خير. فرماه أنصاري بلحمي جمل فغزر أنفسه. وتقدم الكلام على الخمر والميسر في البقر وذكروا حد الأنصاب في قوله:
وما ذبح على النصب
[المائدة: 3] والأزلام في قوله:
وأن تستقسموا بالأزلام
[المائدة: 3]، في أوائل هذه السورة.
{ رجس } قال الزجاج الرجس اسم لكل ما استقذر من عمل. يقال: رجس الرجل يرجس رجسا إذا عمل عملا قبيحا. وقال ابن دريد: الرجس الشر. ولما كان الشيطان هو الداعي إلى التلبس بهذه المعصية والمغري بها جعلت من عمله وفعله ونسبت إليه على جهة المجاز والمبالغة في كمال تقبيحه كما جاء
فوكزه موسى فقضى عليه قال هذا من عمل الشيطان
[القصص: 15]، والضمير في فاجتنبوه عائد على الرجس المخبر به عن الأربعة فكان الأمر باجتنابه متناولا لها. وقال الزمخشري: فإن قلت: إلى م يرجع الضمير في قوله: فاجتنبوه؟ قلت: إلى المضاف المحذوف. كأنه قيل: إنما شأن الخمر والميسر أو تعاطيهما وما أشبه ذلك ولذلك قال: رجس من عمل الشيطان. " انتهى ". ولا حاجة إلى تقدير هذا المضاف بل الحكم على هذه الأربعة أنفسها أنها رجس أبلغ من تقدير ذلك المضاف كقوله تعالى:
إنما المشركون نجس
[التوبة: 28].
{ إنما يريد الشيطان } الآية ذكر تعالى في الخمر والميسر مفسدتين إحداهما دنيوية والأخرى دينية فاما الدنيوية فإن الخمر تثير الشرور والحقود وتؤول بشرابها إلى التقاطع، وأما الميسر فإن الرجل لا يزال يقامر حتى يبقى سلبيا لها شيء له وينتهي من سوء الصنيع في ذلك إلى أن يقامر حتى على أهله وولده فيؤدي به ذلك الحال إلى أن يصير أعدى عدو ولمن قمره وغلبه لأن ذلك يؤخذ منه على سبيل القهر والغلبة، وأما الدينية فالخمر لغلبة السرور بها والطرب على النفوس والاستغراق في الملاذ الجسمانية تلهي عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة والميسر إن كان غالبا به انشرحت نفسه ومنعه حب الغلب والقهر والكسب عن ذكر الله تعالى وإن كان مغلوبا فما حصل له من الانقباض والندم والاحتيال إلى أن يصير غالبا لا يخطر بقلبه ذكر الله تعالى فأفرد الخمر والميسر هنا وإن كان قد جمعا مع الأنصاب والأزلام. قيل: لأن الخطاب كان للمؤمنين وإنما ذكر معهما الأنصاب والأزلام تأكيدا لقبح الخمر والميسر وتبعيدا عن تعاطيهما فنزلا في الترك منزلة ما قد تركه المؤمنون من الأنصاب والأزلام والعداوة تتعلق بالأمور الظاهرة وعطف عليها ما هو أشد منها وهو البغضاء لأن متعلقها القلب، كذلك ذكر الله عطف عليه ما هو ألزم وأوجب وآكد وهو الصلاة وفيما ينتجه الخمر والميسر من العداوة والبغضاء والصد عن ذكر وعن الصلاة أقوى دليل على تحريمها وعلى أن ينتهي المسلم عنها، ولذلك جاء بعد:
{ فهل أنتم منتهون } وهذا الاستفهام من أبلغ ما ينهى به كأنه قيل قد تلى عليكم ما فيها من المفاسد الدنيوية والدينية التي توجب الانتهاء فهل أنتم منتهون أم باقون على حالكم مع علمكم بتلك المفاسد وجعل الجملة إسمية، والمواجهة لهم بأنتم أبلغ من جعلها فعلية.
وقيل: هو استفهام تضمن معنى الأمر أي فانتهوا، ولذلك قال عمر: انتهينا يا رب.
{ وأطيعوا الله } هذا أمر والأحسن أن لا يقيد الأمر هنا بل أمروا أن يكونوا طائعين دائما حذرين لأن الحذر مدعاة إلى عمل الحسنات واتقاء السيئات. { فإن توليتم } أي فإن أعرضتم فليس على الرسول إلا أن يبلغ أحكام الله وليس عليه خلق الطاعة فيكم ولا يلحقه من توليكم شيء بل ذلك لاحق بكم، وفي هذا من الوعيد البالغ ما لا خفاء به إذ تضمن أن عقابكم إنما يتولاه المرسل لا الرسول. ووصف البلاغ بالمبين اما لأنه بين في نفسه واضح. وإما لأنه مبين لكم أحكام الله.
[5.93-96]
{ ليس على الذين آمنوا } الآية قال ابن عباس والبراء بن عازب وأنس: لما تزل تحريم الخمر قال قوم: كيف بمن مات منا وهو يشربها ويأكل الميسر. فنزلت. فأعلم تعالى أن الدم والجناح إنما يتعلق بفعل المعاصي والذين ماتوا قبل التحريم ليسوا بعاصين. والظاهر من سبب النزول أن اللفظ عام ومعناه الخصوص.
{ ثم اتقوا } ثبتوا وداموا على الحالة المذكورة. { ثم اتقوا وأحسنوا } انتهوا في التقوى إلى امتثال ما ليس بفرض من النوافل في الصلاة والصدقة وغير ذلك.
{ يأيها الذين آمنوا ليبلونكم الله } الآية نزلت عام الحديبية وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتنعيم فكان الوحش والطير يغشاهم في رحالهم وهم محرمون. وقيل: كان بعضهم أحرم وبعضهم لم يحرم فإذا عرض صيد اختلفت أحوالهم واشتبهت الأحكام. وقيل: قتل أبو اليسر حمار وحش برمحه، فقيل: قتلت الصيد وأنتم محرم. فنزلت. ومناسبتها لما قبلها هو أنه لما أمرهم أن لا يحرموا الطيبات وأخرج من ذلك الخمر والميسر وهما حرامان وإنما أخرج بعده ما حرم من الطيبات في حال دون حال وهو الصيد وكان الصيد مما تعيش به العرب وتتلذذ باقتناصه ولهم فيه الأشعار والأوصاف الحسنة. والظاهر أن الخطاب بقوله: يا أيها الذين آمنوا، عام للمحل والمحرم لكن لا يتحقق الإبتلاء إلا مع الإحرام أو الحرم. { ليعلم الله من يخافه بالغيب } هذا تعليل لقوله: ليبلونكم، ومعنى ليعلم ليتميز من يخاف عقاب الله وهو غائب منتظر في الآية فيتقي العبيد ممن لا يخافه فيقدم عليه.
{ فمن اعتدى بعد ذلك } أي فمن اعتدى بالمخالفة فصاد. وذلك إشارة إلى النهي الذي تضمنه معنى الكلام السابق، وتقديره فلا تصيدوا يدل عليه قوله: { ليعلم الله من يخافه بالغيب }.
{ فله عذاب أليم } قيل: في الآخرة. وقيل: في الدنيا. قال ابن عباس: يوسع بطنه وظهره جلدا ويسلب ثيابه. { وأنتم حرم } جملة حالية. وحرم جمع حرام، والحرام ينطلق على من كان محرما وعلى من حل الحرم.
{ ومن قتله منكم } الآية الظاهر تقييد القتل بالعمد فمن لم يتعمد فقتل خطأ بأن كان ناسيا لإحرامه أو رماه ظانا أنه ليس بصيد فإذا هو صيد أو عدل سهمه الذي رماه لغير صيد فأصاب صيدا فلا جزاء عليه، وروى ذلك عن أبي عباس وابن جبير وطاووس وعطاء وسالم، وبه قال أبو ثور وداود والطبري، وهو أحد قولي الحسن البصري ومجاهد وأحمد وغيرهم. ومذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأصحابه أن الخطأ بنسيان أو غيره، كالعمد والعمد أن يكون ذاكرا لإحرامه قاصدا للقتل، وروي ذلك عن عمر وابن عباس.
وقرأ الكوفيون فجزاء بالتنوين مثل بالرفع فارتفاع جزاء على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره فالواجب عليه أو اللازم له جزاء، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر تقديره فعليه جزاء ومثل صفة أي فجزاء يماثل ما قتل.
وقرأ باقي السبعة فجزاء مثل برفع جزاء وإضافته إلى مثل، فقيل: مثل كأنها مفخمة. كما تقول: مثلك يفعل كذا أي أنت تفعل كذا فالتقدير فجزاء ما قتل. وقيل: ذلك من إضافة المصدر إلى المفعول وكان الأصل فعليه جزاء مثل ما قتل أي يغرم مثل ما قتل ثم أضيف إلى المفعول، ويدل على هذا التقدير قراءة السلمي فجزاء بالرفع والتنوين مثل ما قتل بالنصب. ومن النعم صفة لجزاء سواء أرفع جزاء مثل أو أضيف جزاء إلى مثل أي كائن من النعم. ويجوز في وجه الإضافة أن يتعلق من النعم بجزاء إلا في الوجه الأول لأن جزاء مصدر موصوف فلا يعمل. ووهم أبو البقاء في تجويزه أن يكون من النعم حالا من الضمير في قتل يعني من الضمير المنصوب المحذوف في قتل العائد على ما قال لأن المقتول يكون من النعم وليس المعنى على ذلك لأن الذي هو من النعم هو ما يكون جزاء لا الذي يقتله المحرم ولأن النعم لا تدخل في اسم الصيد. والظاهر في المثلية أنها مثلية في الصورة والخلقة والعظم والصغر وهو قول الجمهور وظاهر قوله: من النعم أنه لا يشترط سن فتجزىء الجفرة والعناق على قدر الصيد وبه قال ابو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يهدي إلا ما يجزىء في الأضحية.
{ يحكم به ذوا عدل } الآية أن يحكم به بمثل ما قتل. قال ابن وهب: من السنة أن يخير الحكمان من قتل الصيد كما خيره الله تعالى في أن يخرج هديا بالغ الكعبة. وانتصب هديا على الحال من الضمير في قوله: به، ومعنى بالغ الكعبة وأصلا إليها أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياما فإن اختار الهدى حكما عليه بما يريانه نظيرا لما أصاب وأدنى الهدى شاة وما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ثم خير بين أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوما وكذلك قال مالك. والظاهر أنه يحكم به عدلان وكذلك فعل عمر في حديث قبيصة بن جابر استدعى عبد الرحمن بن عوف وحكم في ظبي بشاة وفعل ذلك جرير وابن عمر رضي الله عنهما. والظاهر أن العدلين ذكران فلا يحكم في امرأتان عدلتان.
{ أو كفارة طعام مساكين } قرأ الصاحبان بالإضافة. وزعم الزمخشري أن هذه الإضافة مبنية، كأنه قيل: أو كفارة من طعام مسكين، كقوله: خاتم فضة بمعنى خاتم من فضة. وليست من هذا الباب لأن خاتم فضة من باب إضافة الشيء إلى جنسه، والطعام ليس جنسا للكفارة إلا بتجوز بعيد جدا. وقرأ باقي السبعة بالتنوين ورفع طعام، وقرأ كذلك الأعرج وعيسى بن عمر إلا أنهما أفردا مسكين على أنه اسم جنس، قال أبو علي: طعام عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة.
" انتهى ". وهذا لا يجوز على مذهب البصريين لأنهم شرطوا في عطف البيان أن يكون في المعارف لا في النكرات فالأولى أن يعرب بدلا وقد أجمل في مقدار الطعام وفي عدد المساكين. والظاهر أنه يكفي ما يسمى طعاما وأنه يكفي أقل ما ينطلق عليه جمع مساكين. وجوزوا أن يكون ذلك إشارة إلى الصيد المقتول، وفي الظبي ثلاثة أيام، وفي الإبل عشرون يوما، وفي النعامة وحمار الوحش ثلاثون يوما، قاله ابن عباس. وقال ابن جبير: يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة أيام. والظاهر عدم تقييد الإطعام والصوم بمكان، وبه قال جماعة من العلماء فحيثما شاء كفر بهما. وقال عطاء وغيره: الهدي والإطعام بمكة والصوم حيث شاء.
{ ليذوق وبال أمره } الذوق معروف، فاستعير هنا لما يؤثر من غرامة أو أتعاب النفس بالصوم. والوبال: سوء عاقبة ما فعل، وهو هتكه حرمة الإحرام بقتل الصيد. قال الزمخشري: ليذوق متعلق بقوله: فجزاء، أي فعليه أن يجازى أو يكفر ليذوق. " انتهى ". وهذا لا يجوز إلا على قراءة من أضاف فجزاء أو نون ونصب مثل وأما على قراءة من نون ورفع مثل فلا يجوز أن تتعلق اللام به، لأن مثل صفة لجزاء، وإذا وصف المصدر لم يجز لمعموله أن يتأخر عن الصفة، لو قلت: أعجبني ضرب زيد الشديد عمرا، لم يجز، فإن تقدم المعمول على الوصف جاز ذلك، والصواب أن يتعلق على هذه القراءة بفعل محذوف التقدير جوزي بذلك ليذوق.
{ عفا الله عما سلف } أي في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرم. قال الزمخشري: لأنهم كانوا متعبدين بشرائع من قبلهم وكان الصيد فيها محرما. " انتهى ". وقال ابن زيد: عفا الله عما سلف لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم. { ومن عاد } قال ابن عباس: ان عاد متعمدا عالما بإحرامه فلا كفارة عليه وينتقم الله منه. { أحل لكم صيد البحر } الآية، قال الكلبي: نزلت في بين مدلج وكانوا ينزلون في أسياف البحر سألوا عما نضب عنه الماء من السمك. فنزلت. قال الزمخشري: صيد البحر مصيدات البحر مما يؤكل ومما لا يؤكل وطعامه وما يطعم من صيده. ومعنى أحل لكم: الانتفاع بجميع ما يصاد من البحر، وأحل لكم أكل المأكول منه وهو السمك وحده عند أبي حنيفة، وعند ابن أبي ليلى جميع ما يصاد منه على أن تفسير الآية عنده أحل لكم صيد حيوان البحر وأن تطعموه. " انتهى ". وتفسير وطعامه بقوله: وأن تطعموه، خلاف الظاهر ويكون على قول ابن أبي ليلى الضمير في وطعامه عائدا على صيد البحر، والظاهر عوده على البحر فإنه يراد به المطعوم لا الإطعام، ويدل على ذلك ظاهر لفظ وطعامه.
وقراءة ابن عباس وطعمه بضم الطاء وسكون العين تدل على أنه لا يراد به المصدر، وقد فسر قوله: وطعامه، بما يرمي به البحر ولم يصد. وفي الأثر: كلوا السمكة الطافية وهي الميتة التي طفت على وجه الماء، وقد أكل جماعة من الصحابة في سفر لهم من دابة عظيمة تسمى العنبر حسر عنها البحر، والحديث في ذلك مشهور. وانتصب متاعا قال ابن عطية: على المصدر، والمعنى متعكم به متاعا تنتفعون به وتأتدمون. وقال الزمخشري: متاعا لكم مفعول له أي أحل لكم تمتيعا لكم وهو في المفعول له بمنزلة قوله: ووهبنا له اسحاق ويعقوب. نافلة في باب الحال لأن قوله: متاعا لكم، مفعول له مختص بالطعام كما أن نافلة حال مختصة بيعقوب يعني أحل لكم طعامه تمتيعا تأكلونه طريا ولسيارتكم يتزودونه قديدا كما تزود موسى عليه السلام الحوت في مسيرة إلى الخضر. " انتهى ". وتخصيصه المفعول له بقوله: وطعامه، جار على مذهب أبي حنيفة بأن صيد البحر منه ما يؤكل وما لا يؤكل. وان قوله: وطعامه، هو المأكول منه، وانه لا يقع التمتيع إلا بالمأكول منه طريا وقديدا. وعلى مذهب غيره يجوز أن يكون مفعولا له باعتبار صيد البحر وطعامه، والخطاب في لكم لحاضري البحر ومدته.
{ وللسيارة } أي المسافرين. { وحرم عليكم صيد البر } الآية كرر تعالى تحريم الصيد على المحرم تغليظا لحكمه. والظاهر تحريم صيد البر على المحرم من جميع الجهات صيد وأكل صيد ذلك من أجله أو من أجل غيره روي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر وجماعة من التابعين. وعن أبي هريرة وبعض التابعين أنهم أجازوا للمحرم أكل ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذ لم يدل عليه ولم يشد. وروي عن عمر وعثمان والزبير أنه يأكل المحرم ما صاده الحلال لنفسه أو لحلال مثله. وقال آخرون: يحرم على المحرم أن يصيد فأما ان اشتراه من مالك فذبحه وأكله فلا يحرم، وفعل ذلك أبو سلمة بن عبد الرحمن. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أكل المحرم الصيد جائز إذا اصطاده الحلال ولم يأمر المحرم بصيد، ولا دل عليه. وقال مالك والشافعي وأحمد: يأكل ما صاده الحلال إن لم يصده لأجله فإن صيد من أجله فلا يأكل فإن أكل، فقال مالك والأوزاعي والحسن بن صالح: عليه الجزاء. وقال الشافعي: لا جزاء عليه. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما يصنع أبو حنيفة بعموم قوله: صيد البر؟ قلت : قد أخذ أبو حنيفة بالمفهوم من قوله: وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرما، لأن ظاهره أنه صيد المحرمين دون صيد غيرهم لأنهم هم المخاطبون، فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صدتم في البر، فيخرج منه مصيد غيرهم ومصيدهم حين كانوا غير محرمين. ويدل عليه قوله تعالى: { يأيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم }. " انتهى ". وهذه مكابرة من الزمخشري في الظاهر بل الظاهر من قوله: صيد البر، العموم سواء صاده محرم أم حلال: وقرىء وحرم مبنيا للفاعل صيد بالنصب وحرم بفتح الحاء والراء، { واتقوا الله } هذا فيه تنبيه وتهديد جاء عقيب تحليل وتحريم وذكر الحشر إذ فيه يظهر جزاء من أطاع وعصى.
[5.97-102]
{ جعل الله الكعبة } الآية مناسبتها لما قبلها ظاهرة، وذلك أنه تعالى ذكر تعظيم الإحرام بالنهي عن قتل الوحش فيه بحيث شرع بقتله ما شرع. وذكر تعظيم الكعبة بقوله:
هديا بالغ الكعبة
[المائدة: 95]، فذكر تعالى في هذه الآية أنه جعل الكعبة قياما للناس أي ركز في قلوبهم تعظيمها؛ وجعل هنا بمعنى صير، وقيل: بمعنى بين وحكم. وينبغي أن يحمل هذا على تفسير المعنى إذ لم ينقل جعل مرادفة لهذا المعنى لكنه من حيث التصيير يلزم منه التبيين والحكم، ولما كان لفظ الكعبة قد أطلقه بعض العرب على غير البيت الحرام كالبيت الذي كان في خثعم يسمى كعبة اليمانية، بين تعالى أن المراد هنا بالكعبة البيت الحرام، وهو بدل من الكعبة أو عطف بيان. وقال الزمخشري: البيت الحرام عطف بيان على جهة المدح لا على جهة التوضيح، كما تجيء الصفة كذلك. " انتهى ". وليس كما ذكر لأنهم ذكروا في شرط عطف البيان الجمود وإذا كان شرطه أن يكون جامدا لم يكن فيه إشعار بمدح إذ ليس مشتقا وإنما يشعر بالمدح المشتق. إلا أن يقال: إنه لما وصف عطف البيان بقوله: الحرام، اقتضى المجموع المدح فيمكن ذلك. والقيام مصدر، يقال: قيام الأمر، وقوام الأمر، وكونه قياما للناس باتساع الرزق عليهم وبامتناع الإغارة في الحرم وبسبب صيرورتهم أهل الله فكل أحد يتقرب إليهم وبما يقام فيها من المناسك وفضل العبادات وبأمن من توجه إليها أذى من جر جريرة ولجأ إليها وببقاء الدين ما حجت واستقبلت.
{ والشهر الحرام } ، الحرام ظاهره الافراد وهو ذو الحجة لإقامة موسم الحج فيه. وقيل: المراد به الجنس فيشمل الأشهر الحرم الأربعة الثلاثة بإجماع من العرب وشهر مضر وهو رجب كان كثير من العرب لا يراه ولذلك يسمى شهر الله، إذ كان تعالى قد ألحقه في الحرمة بالثلاثة فنسبه وشدده وكانوا لا يهجون أحدا في الشهر الحرام ولا من ساق الهدى لأن يعلم أنه لم يجيء لحرب ولا من خرج يريد البيت لحج أو عمرة فتقلد من لحاء السمر ولا من قضى نسكه فتقلد من شجر الحرم.
{ ذلك لتعلموا } الظاهر أن الإشارة هي للمصدر المفهوم، أي ذلك الجعل لهذه الأشياء قياما للناس وأمنا لهم لتعلموا أنه تعالى يعلم تفاصيل الأمور الكائنة في السماوات والأرض ومصالحكم في دنياكم ودينكم. وقيل: الإشارة إلى صرف قلوب الناس إلى مكة في الأشهر المعلومة فتعيش أهلها معهم ولولا ذلك لماتوا جوعا لعلمه بما في ذلك من مصالحهم وليستدلوا على أنه يعلم ما في السماوات وما في الأرض.
{ اعلموا أن الله } الآية هذا تهديد إذ أخبر أن عقابه شديد لمن انتهك حرمته.
{ وأن الله غفور رحيم } وهذا ترجية بالغفران والرحمة لمن حافظ على طاعته تعالى أو تاب عن معاصيه.
{ قل لا يستوي الخبيث والطيب } روى جابر
" أن رجلا قال: يا رسول الله إن الخمر كانت تجارتي فهل ينفعني ذلك المال إذا عملته في طاعة الله؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا يقبل إلا الطيب "
فنزلت هذه الآية، ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما حذر عن المعصية ورغب في الطاعة بقوله: اعلموا أن الله شديد العقاب، الآية، وأتبعها بالتكليف بقوله: ما على الرسول إلا البلاغ، ثم بالترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية بقوله: والله يعلم ما تبدون وما تكتمون، أتبعه بنوع آخر من الترغيب في الطاعة والتنفير عن المعصية فقال: قل لا يستوي، الآية. { يأيها الذين آمنوا لا تسألوا } الآية روى البخاري ومسلم واللفظ للبخاري عن أنس قال:
" قال رجل: يا رسول الله من أبي؟ قال: أبوك فلان "
ونزلت الآية، والسائل هو عبد الله بن حذافة. وأشياء اسم جمع كطرفاء، وعلى مذهب سيبويه أصلها شيئا، من لفظ شيء ثم قلب فجعل لامه وهي الهمزة أولا مكان فاء الكلمة فوزنها نفعاء وجعلت فاء الكلمة وهي الشين تلي اللام، وجعلت الياء مكان لام الكلمة وهي كانت عينا لأن المادة هي الشين والياء والهمزة، وفي وزنها أقوال أخر ذكرت في البحر. والجملة من قوله: أن تبدلكم تسؤكم، وما عطف عليها من الشرط والجزاء في موضع الصفة لأشياء.
{ عفا الله عنها } أي عن الأشياء التي نهيتكم عن السؤال عنها. { قد سألها قوم } ظاهره أنه يعود على الأشياء ولا يمكن لأن الأشياء التي نهوا عن السؤال عنها ليست الأشياء التي سألها القوم الذين في هذه الآية فيكون ذلك على حذف مضاف تقديره قد سأل أمثالها وكان بنوا إسرائيل يسألون على حذف مضاف تقديره قد سأل أمثالها وكان بنوا إسرائيل يسألون أنبياءهم عن أشياء هي تعنتات وسؤالات لا تجوز، كقولهم:
أرنا الله جهرة
[النساء: 153]. { ثم أصبحوا بها } أي بتلك السؤالات كافرين.
[5.103-105]
{ ما جعل الله من بحيرة } الآية مناسبتها لما قبلها تعالى لما نهى عن سؤال ما لم يأذن فيه ولا كلفهم إياه منع من التزام أمور ليست مشروعة منه تعالى. والبحيرة فعيلة بمعنى مفعولة، كالنطيحة بمعنى المنطوحة وهي الناقلة إذا أنتجت خمسة أبطن في آخرها ذكر شقوا أذنها وخلوا سبيلها لا تركب ولا تحلب ولا تطرد عن ماء ولا مرعى. والسائبة فاعلة من ساب يسبب إذا جرى على وجه الأرض، يقال: ساب الماء وسابت الحية. وقال ابن عباس: السائبة هي التي تسيب للأصنام أي تعتق. وكان الرجل يسيب من ماله شيئا فيجيء به إلى السدنة وهم خدم آلهتهم فيطعمون من لبنها للسبيل. والوصيلة قال ابن عباس: إنها الشاة تنتج سبعة أبطن فإن كان السابع أنثى لم ينتفع النساء منها بشيء إلا أن تموت فيأكلها الرجال والنساء، وإن كان ذكرا ذبحوه وأكلوه جميعا، وإن كان ذكرا وأنثى قالوا وصلت أخاها فتترك مع أخيها فلا تذبح، ومنافعها للرجال دون النساء فإذا ماتت اشترك الرجال والنساء فيها. والحافي إسم فاعل من حمى وهو الفحل من الإبل. قال ابن مسعود وابن عباس: هو الفحل ينتج من صلبه عشرة أبطن، فيقولون: قد حمي ظهره، فيسيبونه لآلهتهم فلا يحمل عليه شيء. ومن في قوله: من بحيرة، زائدة وبحيرة مفعولة. بجعل. قال الزمخشري: معنى ما جعل ما شرع ذلك ولا أمر بالتبحير والتسييب وغير ذلك. " انتهى ". وقال ابن عطية: وجعل في هذه الآية لا يتجه أن تكون بمعنى خلق لأن الله تعالى خلق هذه الأشياء كلها، ولا هي بمعنى صير لعدم المفعول الثاني إنما هو بمعنى ما سن ولا شرع. " انتهى ". لم يذكر النحويون في معنى جعل شرع بل ذكروا أنها تأتي بمعنى خلق، وبمعنى ألقى، وبمعنى صير، وبمعنى الأخذ في الفعل، فتكون من أفعال المقاربة، وذكر بعضهم أنها تجيء بمعنى سمى وقد جاء حذف أحد مفعولي ظن وأخواتها لكنه قليل والحمل على ما سمع أولى من إثبات معنى لم يثبت في لسان العرب فيحتمل أن يكون المفعول الثاني محذوفا أي ما صير الله بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حاميا مشروعة بل هي من شرع غير الله والانعام خلقها الله رفقا بعباده ونعمة عددها عليهم ومنفعة بالغة وأهل الجاهلية قطعوا طريق الانتفاع بها واذهاب نعمة الله فيها.
{ ولكن الذين كفروا } الآية استدراك بعد نفي والمعنى ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب يجعلون البحيرة وما بعدها من جعل الله تعالى ذلك وعبر بقوله الكذب عن نسبة ذلك الجعل إلى الله تعالى. { وإذا قيل لهم تعالوا } الآية تقدم تفسيرها في البقرة.
وهنا تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه أباءنا، وهناك اتبعوا ما أنزل الله قالوا: بل نتبع ما ألفينا عليه اباءنا، وهنا لا يعلمون شيئا، وهناك لا يعقلون شيئا ، والمعنى في هذا التغاير لا يكاد يختلف. قال ابن عطية: في أولو ألف التوقيف دخلت على واو العطف كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى والتزموا شنيع القول فإنما التوقيف توبيخ لهم كأنهم يقولون بعده نعم ولو كانوا كذلك. " انتهى ". قوله في الهمزة ألف التوقيف عبارة لم أقف عليها من كلام النحاة يقولون: همزة الإنكار همزة التوبيخ وأصلها همزة الإستفهام، وقوله: كأنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى يعني فكان التقدير وأولو فاعتنى بالهمزة فقدمت، كقوله:
أولم يسيروا في الأرض
[الروم: 9]، وليس كما ذكر من أنهم عطفوا هذه الجملة على الأولى على ما نبينه إن شاء الله تعالى. قال الزمخشري: والواو في قوله: أولو كان آباؤهم، واو الحال وقد دخلت عليها همزة الإنكار والتقدير أحسبهم ذلك ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون، والمعنى أن الاقتداء إنما يصح بالعالم المهتدي وإنما يعرف اهتداؤه بالحجة، جعل الزمخشري الواو في أولو واو الحال وهو مغاير لقول ابن عطية انها واو العطف كأنهم عطفوا هذه الجملة على الجملة الأولى وتقول أنها يصح أن يقال هي واو العطف لها من الجهة التي ذكرها ابن عطية واو الحال لكن يحتاج ذلك إلى تبيين، وذلك أنه قد تقدم من كلامنا أن لو التي تجيء هذا المجيء هي شرطية وتأتي لاستقصاء ما قبلها والتنبيه على حالة داخلة فيما قبلها وإن كان مما ينبغي أن لا يدخل كقوله:
" اعطوا السائل ولو جاء على فرس "
" وردوا السائل ولو بظلف محرق "
" واتقوا النار ولو بشق تمرة "
وقول الشاعر:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم
دون النساء ولو باتت باظهار
والمعنى أعطوا السائل على كل حال ولو في الحالة التي تشعر بالغنى وهي مجيئه على فرس، وكذلك يقدر ما ذكرنا من المثل على ما يناسب، فالواو عاطفة على كل حال مقدرة فمن حيث هذا العطف صح أن يقال هي عاطفة ومن حيث أن العطف على الحال حال صح أن يقال انها واو الحال، وقد تقدم الكلام على ذلك في البحر باشبع من هذا ، فالتقدير في الآية أحسبهم اتباع ما وجدوا عليه آباءهم على كل حال ولو كان في الحالة التي تنتفي عن آبائهم العلم والهداية فإنها حالة ينبغي أن لا تتبع فيها الاباء لأن ذلك حال من غلب عليه الجهل المفرط.
{ يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم } قال ابن أمية الشعباني:
" سألت أبا ثعلبة الخشني عن هذه الآية فقال: لقد سألت عنها خبيرا سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إئتمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر فإذا رأيت دنيا مؤثرة وشحا مطاعا وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك "
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما بين أنواع التكاليف. ثم قيل: ما على الرسول إلا البلاغ إلى قوله: وإذ قيل لهم تعالوا، الآية، كان المعنى أن هؤلاء الجهال بما تقدم من المبالغة في الإعزاز والإنذار والترغيب والترهيب لم ينتفعوا بشيء منه بل بقوا مصرين على جهلهم فلا تبالوا أيها المؤمنون بجهالتهم وضلالتهم فإن ذلك لا يضركم، بل كونوا منقادين لتكاليف الله تعالى مطيعين لأوامره، وعليكم من كلم الإعزاء، وله باب معقود في النحو وهو معدود في أسماء الأفعال فإن كان الفعل متعديا كان اسمه متعديا وإن كان لازما كان لازما. وعليكم اسم كقولك إلزم فهو متعد فلذلك نصب المفعول به. والتقدير هنا عليكم إصلاح أنفسكم أو هداية أنفسكم.
{ إلى الله مرجعكم } أي مرجع المهتدين والضالين، وغلب الخطاب على الغيبة كما تقول: أنت وزيد تقومان، وهذا فيه تذكير بالحشر وتهديد بالمجازاة.
[5.106]
{ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } الآية روى البخاري وغيره عن ابن عباس قال:
" كان تميم الداري وعدي يختلفان إلى مكة فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس فيها مسلم فأوصى إليهما فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما من فضة مخوصا بالذهب فاستحلفهما "
وفي رواية
" فحلفهما بعد العصر النبي صلى الله عليه وسلم ما كتمتما ولا اطلعتما ثم وجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من عدي وتميم فجاء الرجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا قال: فأخذوا الجام "
وفيهم نزلت هذه الآية، ومناسبتها لما قبلها هو أنه لما ذكر: يا أيها الذين آمنوا، كان في ذلك تنفير عن الضلال واستبعاد عن أن ينتفع بهم في شيء من أمور المؤمنين من شهادة أو غيرها، فأخبر تعالى بمشروعية شهادتهم أو الإيصاء إليهم في السفر على ما سيأتي بيانه. وقرأ الجمهور شهادة بالرفع بينكم بالجر، وشهادة مبتدأ، واثنان خبره على أحد تقديرين، أحدهما: أن يكون التقدير ذو شهادة بينكم اثنان. والتقدير الثاني: أن لا يحذف من الأول ويحذف من الثاني فتقدر الشهادة اثنين فيطابق المبتدأ الخبر في التقديرين إذ لو حمل على غير حذف لم يصح لأن الشهادة ليست تفسير الاثنين. وقرأ السلمي شهادة بالنصب والتنوين وقدره الزمخشري ليقم شهادة اثنان فجعل شهادة مفعولا بإضمار هذا الأمر، واثنان مرتفع بليقم على الفاعلية وهذا الذي قدره الزمخشري هو تقدير ابن جني بعينه، قال ابن جني: التقدير ليقم شهادة بينكم اثنان. " انتهى ". وهذا الذي ذكره ابن جني مخالف لما قاله أصحابنا قالوا: لا يجوز حذف الفعل وإبقاء فاعله إلا أن أشعر بالفعل ما قبله كقوله تعالى:
يسبح له فيها بالغدو والآصال * رجال
[النور: 36-37]، على قراءة من فتح الباء فقرأه مبنيا للمفعول وذكروا في اقتياس هذه خلافا أي يسبحه رجال فدل يسبح على يسبحه أو أجيب به نفي كان يقال لك ما قام أحد عندك، فتقول: بلى زيد أي قام زيد، أو أجيب به استفهام كقول الشاعر:
ألا هل أتى أم الحويرث مرسل
بلى خالد إن لم تعقه العوائق
التقدير أتى خالد أو يأتيها خالد، وليس حذف الفعل الذي قدره ابن جني وتبعه الزمخشري واحدا من هذه الأقسام الثلاثة، والذي عندي أن هذه القراءة الشاذة تتخرج على وجهين، أحدهما: أن يكون شهادة منصوبا على المصدر الذي ناب مناب الفعل بمعنى الأمر، واثنان مرتفع به، والتقدير ليشهد بينكم اثنان. والوجه الثاني: أن يكون أيضا مصدرا ليس بمعنى الأمر بل يكون خبر أناب مناب الفعل في الخبر وإن كان ذلك قليلا كقولهم: افعل وكرامة ومسرة، أي أكرمك وأسرك، أي يشهد اثنان.
{ ذوا عدل } صفة لقوله: اثنان، ومنكم صفة أخرى، ومن غيركم صفة لآخران. قال ابن عباس وغيره: أمر تعالى بإشهاد عدلين من القرابة إذ هم أحق بحال الوصية وأدرى بصورة العدل فيها فإن كان الأمر في سفر ولم تنحصر قرابة أسندها إلى غيرهما من المسلمين الأجانب. وهذا القول مخالف لما ذكره الزمخشري وغيره من المفسرين حتى أن ابن عطية قال: لا نعلم خلافا أن سبب هذه الآية أن غيما الداري وعديا بن زياد كانا نصرانيين، وساق الحديث المذكور أولا. وقال أبو جعفر النحاس: ناصر القول ابن عباس أن هذا القول ينبني على معنى غامض في العربية وذلك أن معنى آخر في العربية من جنس الأول تقول: مررت بكريم وكريم آخر، فقولك: آخر، يدل على أنه من جنس الأول. ولا يجوز عند أهل العربية مررت بكريم وخسيس آخر، ولا مررت برجل وحمار آخر، فوجب من هذا أن يكون معنى قوله: أو آخران من غيركم، أي عدلان والكفار لا يكونون عدولا. " انتهى ". وما ذكره في المثل صحيح إلا أن الذي في الآية مخالف للمثل التي ذكرها النحاس في التركيب لأنه مثل بتأخير آخر وجعله صفة لغير الجنس وأما الآية فمن قبيل ما تقدم فيه آخر على الوصف والأربع واندرج آخر في الجنس الذي قبله ولا يعتبر جنس الأول تقول: جاءني رجل مسلم وآخر كافر، ومررت برجل قائم وآخر قاعد، واشتريت فرسا سابقا وآخر مبطئا. فلو أخرت آخر في هذه المثل لم تجز المسألة. لو قلت: جاءني رجل مسلم وكافر آخر، ومررت برجل قائم وقاعد آخر، واشتريت فرسا سابقا ومبطئا آخر، لم يجز. وليست الآية من هذا القبيل لأن التركيب فيها جاء اثنان ذوا عدل منكم وآخران من غيركم فآخران من جنس قوله: اثنان ولا سيما إذا قدرته رجلان اثنان فآخران هما من جنس قولك: رجلان اثنان، ولا يعتبر وصف قوله: ذوا عدل منكم، وإن كان مغايرا لقوله: من غيركم، كما لا يعتبر وصف الجنس في قولك: عندي رجلان اثنان مسلمان وآخران كافران، إذ ليس من شرط آخر إذا تقدم أن يكون من جنس الأول بقيد وصفة وعلى ما ذكرته هو لسان العرب. قال تعالى:
قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة
[آل عمران: 13]. وأخرى تأنيث آخر. وقال زهير بن أبي سلمى:
كانوا فريقين يصفون الزجاج على قعسي الكواهل في أكتافهم شمم وآخرين ترى الماذى عدتهم من نسح داود أو ما أورثت ارم. قوله: يصغون أي يميلون. والزجاج عني به الأسنة. وقعس جمع أقعس وهو الأحدب. والشمم: الارتفاع. والماذي: الدروع اللينة الصافية وارم: أمة قديمة.
التقدير كانوا فريقين فريقا أو ناسا يصغون الزجاج ثم قال: وآخرين ترى الماذي، فآخرين من جنس قولك: فريقا، ولم يعتبره. بوصفه وهو قوله: يصغون الزجاج، لأن الشاعر قسم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصف متحدين في الجنس وهذا الفرق قل من يفهمه فضلا عمن يعرفه. والظاهر أن أو للتخيير، وقال به ابن عباس. فمن جعل قوله: من غيركم أي من غير عشيرتكم كان مخيرا بين أيستشهد أقاربه أو الأجانب من المسلمين. ومن زعم أن قوله: من غيركم، أي من الكفار. فاختلفوا فقيل: غيركم يعني به أهل الكتاب، وروي ذلك عن ابن عباس وقيل: أهل الكتاب والمشركون وهو ظاهر قوله: من غيركم. وقيل: أو للترتيب إذا كان قوله: من غيركم، يعني به من غير أهل ملتكم فالتقدير إن لم يوجد من ملتكم.
{ إن أنتم ضربتم في الأرض } الآية هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب ولو جرى على لفظ إذا حضر أحدكم الموت لكان التركيب إن هو ضرب في الأرض فأصابته مصيبة الموت. وإنما جاء الالتفات جمعا لأن قوله: أحدكم معناه إذا حضر كل واحد منكم الموت، والمعنى إذا سافرتم في الأرض لمصالحكم ومعاشكم، وظاهر الآية يقتضي أن استشهاد آخرين من غير المسلمين مشروط بالسفر في الأرض وحضور علامات الموت.
{ تحبسونهما } قال الفارسي والحوقي وأبو البقاء: صنفه لآخران. واعترض بين الموصوف والصفة بالشرط وما عطف عليه وأفاد الاعتراض أن العدول إلى آخرين من غير الملة أو القرابة حسب اختلاف العلماء في ذلك إنما يكون مع ضرورة السفر وحلول الموت فيه واستغنى عن جواب إن لما تقدم من قوله: أو آخران من غيركم. " انتهى ". وقال الزمخشري: فإن قلت ما موضع تحسبونهما؟ قلت: هو استئناف كلام كأنه قيل: بعد اشتراط العدالة فيهما فكيف إن ارتبنا فيهما. فقيل: تحسبونهما " انتهى ". وما قاله الزمخشري من الاستئناف أظهر من الوصف لطول الفصل بالشرط والمعطوف عليه بين الموصوف وصفته وإنما غيركم معناه أو عدلان آخران من غير القرابة والخطاب في ذلك لمن يلي ذلك من ولاة المسلمين وضمير المفعول عائد في قوله على آخرين من غير المؤمنين، والظاهر عوده على اثنين منا أو من غيرنا سواء أكانا وصيين أم شاهدين. وظاهر قوله: من الصلاة أن الألف واللام ليسا للجنس أي من بعد صلاة. وقد قيل بهذا الظاهر وقيل: هي صلاة العصر، ورجح بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلف تميما وعديا بعدها عند المنبر.
{ فيقسمان بالله إن ارتبتم } الآية الظاهر تقييد حلفهما بوجود الارتياب فمتى لم توجد الريبة فلا تحليف. { لا نشتري } جواب القسم والضمير في به عائد على القسم بالله. و { ثمنا } على حذف مضاف تقديره مالا ذا ثمن وفي كان ضمير يعود على من يقسم لأجله قريبا منا من حيث المعنى. { ولا نكتم شهادة الله } معطوف على قوله: { لا نشتري به ثمنا } فيكون من جملة المقسم عليه، وأضاف الشهادة إلى الله لأنه تعالى هو الآمر بإقامتها الناهي عن كتمانها. وقرأ الأعمش وابن محيصن لملائمين بإدغام نون من في لام الآثمين بعد حذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام وإذا هاهنا تؤدي معنى الشرط والمعنى وإنا إن اشترينا أو كتمنا لمن الآثمين.
[5.107-110]
{ فإن عثر } أي فإن اطلع بعد حلفهما. { على أنهما استحقآ إثما } أي ذنبا بحنثهما في اليمين بأنها ليست مطابقة للواقع. { فآخران } أي رجلان آخران. { يقومان مقامهما } أي مقام ذينك الرجلين اللذين استحقا إثما بما ظهر عليهما من خيانتهما في الجام يقومان مقامهما في الإيمان أنهما يستحقان ذلك الجام ويكونان من الورثة لمال الميت الذي كان مسافرا. وقرىء استحق عليهم مبني للمفعول أي استحق عليهم أي أخذ الجام الذي كان الأولان خانا فيه وكتماه عن الورثة. وقرىء استحق مبنيا للفاعل أي استحق الأولان أخذه بخيانتها. وقرىء الأولين صفة للذين ويريد به الوارث لأنهم أولون باعتبار استحقاق المال والآخران المعثور على خيانتهما آخران. وقرىء الأوليان على إضمار مبتدأ محذوف أي الآخران القائمان مقام الأولين اللذين كتما الجام تقديره هما الأوليان. { فيقسمان بالله لشهادتنا } أي لإيماننا أن الجام مما نستحقه أحق من شهادة ذينك الأولين ويريد بالشهادة الإيمان لأن الإيمان تثبت بها الحقوق كما تثبت بالشهادة لشهادتنا جواب القسم.
{ وما اعتدينآ } معطوف عليه كما جاء قسم الآخرين له جوابان لا نشتري ولا نكتم كذلك جاء هاهنا جوابان لشهادتنا وما اعتدينا. { إنا إذا } أي إن زللنا في الشهادة واعتدينا. { لمن الظالمين } وهذه الآية نزلت في قضية معينة على ما دل عليه سبب النزول في صحيح البخاري ولم تقيد شهادة العدلين بالسفر وقيدت به شهادة آخرين من غير المسلمين بقوله تعالى:
إن أنتم ضربتم في الأرض
[المائدة: 106]. وثم محذوف تقديره ووضعتما أيديكما على جميع ما خلفه الميت ثم أديا ذلك للورثة فإن ارتيب فيهما حلفا اليمين المذكور بعد الصلاة فإن اطلع على خيانة منهما في شيء معين حلف الآخران على استحقاق ذلك وأخذاه وذكر في البحر تقادير من الإعراب تطالع فيه. { ذلك } الإشارة إلى الحكم السابق. ولما كان الشاهدان لهما حالتان حالة يرتاب فيها إذا شهدا فإذ ذاك يحبسان بعد الصلاة ويحلفان اليمين المشروعة في الآية وحالة يطلع فيها إذا شهدا على إثمهما بالشهادة وكذبهما في الحلف فإذ ذاك لا يلتفت إلى إيمانكم وترد على شهود آخرين فيعمل بإيمانهم، فقوبلت كل حالة بما يناسبها وكان العطف بأولانها لأخذ الشيئين والإشارة بالفاسقين إلى من حرف الشهادة.
{ يوم يجمع الله الرسل } الآية، مناسبتها لما قبلها أنه لما أخبر تعالى بالحكم في شاهدي الوصية ذكر بهذا اليوم المخوف وهو يوم القيامة فجمع بذلك بين فضيحة الدنيا وعقوبة الآخرة لمن حرف الشهادة ومن لم يتق الله تعالى. وقوله: { ماذآ أجبتم } سؤال توبيخ لأمهم لتقوم الحجة عليهم وانتصاب ماذا بأجبتم انتصاب مصدره على معنى أي إجابة أجبتم. كما تقول: ماذا يقوم زيد، تريد أي قيام يقوم.
{ قالوا } هو الناصب لقوله: يوم يجمع، والسؤال عن الإجابة متضمن المجاب به. ونفيهم العلم عنهم بقوله: { لا علم لنآ } قال ابن عباس: معناه لا علم لنا إلا علما أنت أعلم به منا. وقرىء علام بالنصب وهو على حذف الخبر لفهم المعنى، فيتم الكلام بالمقدر في قوله: إنك أنت، أي إنك الموصوف بأوصافك المعروفة من العلم وغيره. قال الزمخشري: ثم نصب علام الغيوب على الاختصاص أو على النداء وهو صفة لإسم إن. " انتهى ". وهذا الوجه الأخير لا يجوز لأنهم أجمعوا على أن ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا يجوز أن يوصف وإنما ضمير الغائب ففيه خلاف شاذ للكسائي.
{ إذ قال الله } إذ بدل من قوله: يوم يجمع. { يعيسى ابن مريم } وصف عيسى بقوله: ابن مريم. واحتمل عيسى أن يكون مضموما ومفتوحا في التقدير كما كانتا ظاهرتين في قولك: يا زيد بن عمرو، ويا زيد بن عمرو، والنعمة هنا جنس ويدل على ذلك ما عدده بعد هذا التوحيد اللفظي من النعم وأضافها إليه تنبيها على عظمها ونعمته عليه قد عددها هنا وفي البقرة وآل عمران ومريم وفي مواضع من القرآن ونعمته على أمة براءتها مما نسب إليها وتكفيلها لزكريا وتقبلها بقبول حسن، وما ذكر في سورة التحريم ومريم ابنة عمران إلى آخر السورة وغير ذلك. وأمر يذكر نعمة أمه لأنها نعمة صائرة إليه.
و { أيدتك } معناه قويتك، مشتقا من الأيد وأيد وزنه فعل مضارعه يؤيد. قال الزمخشري: يكون على أفعلتك. وقال ابن عطية: على وزن فاعلتك، ويظهر أن الأصل في القراءتين أأيدتك على وزن أفعلتك. ثم اختلف الاعلال والمعنى فيهما قويتك من الأيد. " انتهى ". ولو كان أفعل لكان المضارع يؤيد كمضارع آمن يؤمن. وأما من قرأ أآيد فيحتاج إلى نقل مضارعه من كلام العرب فإن كان يؤايد فهو فاعل، وإن كان يؤيد فهو أفعل وأما قول ابن عطية في القراءتين يظهر أن وزنه أفعلتك، ثم اختلف الإعلال فلا أفهم ما أراد بذلك.
{ تكلم الناس في المهد وكهلا } تقدم تفسير نظير هذه الجمل والقراءات التي فيها والإعراب وما لم يتقدم ذكره نذكره فنقول: جاء هنا كهيئة الطير فتنفخ فيها فتكون طائرا. قال مكي: هو في آل عمران عائد على الطائر، وفي المادة عائد على الهيئة، قال: ويصح عكس هذا. وقال غيره: الضمير المذكر عائد على الطين، قال ابن عطية: ولا يصح عود هذا الضمير لا على الطير ولا على الطين ولا على الهيئة، لأن الطير أو الطائر الذي يجيء الطين على هيئته لا نفخ فيه ألبتة وكذلك لا نفخ في هيئته الخاصة به. وكذلك الطين إنما هو الطين العام ولا نفخ في ذلك انتهى. وقال الزمخشري: ولا يرجع يعني الضمير إلى الهيئة المضاف إليها لأنها ليست من خلقه ولا نفخه في شيء وكذلك الضمير في فتكون.
" انتهى ". والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام مكي أنه لا يريد به ما فهم عند بل يكون قوله: عائد على الطائر، لا يريد به الطائر المضاف إليه لهيئة بل الطائر الذي صوره عيسى ويكون التقدير وإذ تخلق من الطين طائرا صورته مثل صورة الطائر الحقيقي فتفنخ فيه فيكون طائرا حقيقة بإذن الله ويكون قوله: عائد على الهيئة، لا يريد به الهيئة المضافة إلى الطائر بل الهيئة التي تكون الكاف صفة لها، ويكون التقدير وإذ تخلق من الطين هيئة مثل هيئة الطير فتنفخ فيها أي في الهيئة الموصوف بالكاف المنسوب خلقها إلى عيسى.
{ وإذ تخرج الموتى } أي تحيي الموتى. فعبر بالإخراج عن الإحياء كقوله تعالى:
كذلك الخروج
[ق: 11]، بعد قوله:
وأحيينا به بلدة ميتا
[ق: 11]، أو يكون التقدير وإذ تخرج الموتى من قبورهم أحياء. { وإذ كففت بني إسرائيل عنك } أي منعتهم من قتلك حين هموا بك وأحاطوا بالبيت الذي أنت فيه. { بالبينات } والبينات هنا هي المعجزات التي تقدم ذكرها وظهرت على يديه ولما فصل تعالى نعمته ذكر ذلك منسوبا لعيسى عليه السلام دون أمه لأن من هذه النعم نعمة النبوة وظهور هذه الخوارق فنعمته عليه أعظم منها على أمة فخص بالذكر أعظم النعمتين ولأن جميع ما وصف به عيسى هو فخر لأمه إذ ولدت مثل هذا النبي الكريم. وقال الشاعر:
شهد العوالم أنها لنجيبة
بدليل ما ولدت من النجباء.
{ فقال الذين كفروا منهم إن هذا إلا سحر مبين } قرىء ساحر بالألف هنا وفي هود، والصق، فهذا إشارة إلى عيسى. وقرىء سحر فهذا إشارة إلى ما جاء به عيسى من البينات. ويجوز أن يكون قوله: هذا، إشارة إلى عيسى. ويكون قوله: سحر، أي ذو سحر فيكون على حذف مضاف أو جعلوا عيسى سحرا على سبيل المبالغة.
[5.111-116]
{ وإذ أوحيت إلى الحواريين } الظاهر أن الوحي على ألسنة الرسل والرسول هنا هو عيسى عليه السلام وهذا الإيحاء هو إلى الحواريين هو من نعم الله تعالى على عيسى بأن جعل له أتباعا يصدقونه ويعملون بما جاء به.
{ أن آمنوا } أن تفسيرية بمعنى أي، ويجوز أن تكون مصدرية أي بالإيمان. { قالوا آمنا } أي بك وبرسولك. و { مسلمون } أي منقادون لأمرك.
{ إذ قال الحواريون } ظاهر اللفظ أن قوله تعالى:
إذ قال الله يعيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك
[المائدة: 110]، إلى آخر قصة المائدة، كان ذلك في الدنيا ذكر تعالى عيسى بنعمته وبما أجراه على يده من المعجزات وباختلاف بني إسرائيل عليه وانقسامهم إلى كافر ومؤمن وهم الحواريون وغيرهم ثم استطرد إلى قصة المائدة إعلاما لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما صدر من الحواريين في قصة المائدة بعد إقرارهم بالإيمان بالله وبعيسى عليه السلام إذ في سؤال المائدة بعض تعنت من الحواريين، وفي قولهم: السلام إذ في سؤال المائدة بعض تعنت من الحواريين، وفي قولهم: يا عيسى ابن مريم سوء أدب، إذ لم يقولوا: يا روح الله، أو يا رسول الله. وفي قولهم: هل يستطيع ربك سوء أدب، وقرأ الجمهور: هل يستطيع ربك بالياء وربك بالرفع. وقرأ الكسائي: هل تستطيع بالتاء، وربك بالنصب وهو على حذف مضاف تقديره سؤال ربك، فالمعنى هل تستطيع أن تسأل ربك أن ينزل، وهذه القراءة أحسن من المحاورة من قراءة الجمهور.
{ علينا مآئدة من السمآء } والمائدة الخوان الذي عليه طعام فإن لم يكن عليه طعام فليس بمائدة. { قال اتقوا الله } فيه إنكار عليهم. واقتراح هذه الآية وبشاعة اللفظ في قولهم: هل يستطيع ربك، بعد قولهم: امنا بك وبرسولك، ويدل على اضطرابهم الآية التي تأتي بعدها. روي أن عيسى عليه السلام لبس جبة شعر ورداء شعر وقام يصلي ويبكي ويدعو.
والآية قولهم: { نريد أن نأكل منها } أي مما على المائدة. { وتطمئن قلوبنا ونعلم أن قد صدقتنا } وإن هذه هي المخففة من الثقيلة تقديره أنك قد صدقتنا.
{ ونكون عليها من الشاهدين } قال الزمخشري: عاكفين عليها على أن عليها في موضع الحال. " انتهى ". وهذا التقدير ليس بجيد لأن حرف الجر لا يحذف عامله وجوبا إلا إذا كان كونا مطلقا لا كونا مقيدا والعكوف كون مقيد ولأن المجرور إذا كان في موضع الحال كان العامل فيها عاكفين المقدر، وقد ذكرنا أنه ليس بجيد. ثم ان قول الزمخشري مضطرب لأن عليها إذا كان ما يتعلق به هو عاكفين كانت في موضع نصب على المفعول الذي تعدى إليه العامل بحرف الجر، وإذا كانت في موضع الحال كان العامل فيها كونا مطلقا واجب الحذف فظهر التنافي بينهما والله أعلم.
ثم أن عيسى عليه السلام دعا الله تعالى باسمه العلم الذي لا شركة فيه وهو: اللهم، وربنا، أي مصلحنا ومالك أمرنا.
{ تكون لنا عيدا } المعنى تكون يوم نزولها عيدا. قيل: وهو يوم الأحد، ومن أجل ذلك اتخذه النصارى عيدا، والعيد السرور والفرح، ولذلك يقال: يوم عيد، والمعنى أن تكون لنا سرورا وفرحا، والعيد المجتمع للقوم المشهور وعرفه أن يقال فيما يستدير بالسنة أو بالشهر أو بالجمعة ونحوه.
{ لأولنا } لأهل زماننا. { وآخرنا } من يجيء بعدنا. ولأولنا بدل من ضمير المتكلم في قوله: لنا، وأعيد فيه حرف الجر وجاز ذلك لأن معنى قوله: لأولنا وآخرنا، كلنا. كقولك: مررت بكم صغيركم وكبيركم، أي كلكم. وضمير المتكلم والمخاطب لا يبدل منهما إلا بتوكيد نحو: قمت أنا نفسي قمت، وأنت نفسك، إلا أن كان البدل يفيد معنى التوكيد فيجوز كهذه الآية.
{ وآية منك } أي علامة شاهدة على صدق عبدك. { وارزقنا } عام في طلب الرزق من المائدة وغيرها. { قال الله إني منزلها عليكم } الآية اختلفوا في كيفية نزولها، وفيما كان عليها، وعدد من أكل منها، وفيما آل إليه حال من أكل منها اختلافا مضطربا معارضا ذكره المفسرون واضربت عنه صفحا إذ ليس فيه شيء يدل عليه لفظ الآية وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر. قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أنزلت المائدة من السماء خبزا ولحما وأمروا أن لا يدخروا لغد ولا يخونوا فخانوا وادخروا ورفعوا لغد فمسخوا قردة وخنازير "
{ فمن يكفر } جملة شرطية جوابها فأنى أعذبه الآية. قال الحسن ومجاهد: لما سمعوا هذا الشرط أشفقوا فلم تنزل.
{ وإذ قال الله يعيسى } الآية، قال ابن عباس وقتادة والجمهور: هذا القول إنما هو من عند الله يوم القيامة يقول له على رؤوس الأشهاد فيعلم الكفار أن ما كانوا فيه باطل فيكون هذا من تمام قوله: اذكر نعمتي عليك وعلى والدتك إذ أيدتك المقول في الآخرة، وفصل بينهما بآية المائدة تنبيها على ما صدر من بني إسرائيل وإن كانوا أظهروا الإيمان بالله وبعيسى عليه السلام لينبه المؤمنين على أن سؤال الاقتراح ينبغي أن يتحرز منه وكثيرا اقترح بنوا إسرائيل ما لا يجوز كقولهم:
اجعل لنآ إلها كما لهم آلهة
[الأعراف: 138]، وكقولهم:
أرنا الله جهرة
[النساء: 153]، وفي إيلاء الاستفهام الاسم ومجيء الفعل بعده دلالة على صدور الفعل في الوجود لكن وقع الاستفهام عن النسبة. أكان هذا الفعل الواقع صادرا عن المخاطب أم ليس بصادر عن بيان ذلك انك تقول: أضربت زيدا، فهذا الاستفهام هل صدر منك ضرب لزيد أم لا، ولا اشعار فيه بأن ضرب زيد وقع فإذا أفلت أنت ضربت زيدا، كان الضرب قد وقع بزيد لكنك استفهمت عن إسناده للمخاطب وهذه مسألة بيانية نحوية نص على ذلك أبو الحسن الأخفش.
وذكر المفسرون أنه لم يقل أحد من النصارى بآلهية مريم فكيف قيل: إلهن، وأجابوا بأنهم لما قالوا: لم تلد بشرا وإنما ولدت إلها لزمهم أن يقولوا من حيث البعضية بإلهية من ولدته فصاروا بمثابة من قاله. " انتهى ". والظاهر صدور القول في الوجود لا من عيسى عليه السلام ولا يلزم من صدور القول وجود الاتخاذ.
{ قال سبحانك } أي تنزيها لك عن أن يقال هذا وينطق به أو أن يكون لك شريك بدأ أولا بتنزيه الله تعالى. ثم ثانيا بإنكار ذلك القول بقوله: { ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق }. ثم ثالثا بقوله: { إن كنت قلته فقد علمته } علق مستحيلا على مستحيل وهو نفيه علمه تعالى بذلك القول فانتفى ذلك القول. ثم رابعا بإحاطة علمه تعالى بما في نفس عيسى عليه السلام بقوله: { تعلم ما في نفسي }. وقوله: { ولا أعلم ما في نفسك } من باب المقابلة، ولا يقال أن لله نفسا وإن كان قد جاء قوله تعالى:
ويحذركم الله نفسه
[آل عمران: 28] قالوا: معناه: عقابه. ونظيره في المقابلة قوله تعالى:
ومكروا ومكر الله
[آل عمران: 54].
[5.117-120]
{ ما قلت لهم } أخبر أنه لم يتعد أمر الله تعالى في أن أمر بعبادته وأقر بربوبيته. وفي قوله: ربي وربكم، براءته مما ادعوه فيه. قال الحوفي وابن عطية: وان في أن اعبدوا مفسرة لا موضع لها من الإعراب ويصح أن يكون بدلا، وما ويصح أن تكون بدلا من الضمير في به، وزاد ابن عطية أنه يصح أن تكون في موضع خفض على تقدير بأن اعبدوا وأجاز أبو البقاء الجر على البدل من الهاء، والرفع على إضمار هو، والنصب على إضمار أعني أو بدلا من موضع به. وقال أبو عبد الله الرازي: كان الأصل أن يقال ما أمرتني به، إلا أنه وضع القول موضع الأمر نزولا على موجب الأدب. قال الحسن: إنما عدل لئلا يجعل نفسه وربه آمرين معا، ودل على أن الأصل ما ذكر أن المفسرة. " انتهى ". وقال الزمخشري: أن في قوله: أن اعبدوا الله، إن جعلتها مفسرة لم يكن لها بد من مفسر، والمفسر اما فعل القول واما فعل الأمر، وكلاهما لا وجه له، اما فعل القول فيحكى بعده الكلام من غير أن توسط بينهما حرف التفسير لا نقول ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله، ولكن ما قلت لهم إلا اعبدوا الله، وأما فعل الأمر فمسند إلى ضمير الله تعالى فلو فسرته باعبدوا الله ربي وربكم لم يستقم لأن الله تعالى لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم، وإن جعلتها موصولة بالفعل لم يخل من أن تكون بدلا من ما أمرتني به أو من الهاء في به، وكلاهما غير مستقيم، لأن البدل هو الذي يقوم مقام المبدل منه، ولا يقال ما قلت لهم إلا أن اعبدوا الله بمعنى ما قلت لهم إلا عبادته لأن العبادة لا يقال، وكذلك إذا جعلته بدلا من الهاء لأنك لو أقمت أن اعبدوا الله مقام الهاء فقلت: إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله، لم يصح لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته. فإن قلت: كيف تصنع؟ قلت: يحمل فعل القول على معناه لأن معنى ما قلت لهم إلا ما أمرتني به ما أمرتهم إلا بما أمرتني به حتى يستقيم تفسيره بأن اعبدوا الله ربي وربكم، ويجوز أن تكون موصولة عطفا على بيان الهاء لا بدلا. " انتهى ". وفيه بعض تعقب. أما قوله: وأما فعل الأمر إلى آخر المنع، وقوله: لأن الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم، فإنما لم يستقم لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومة إلى فعل الأمر ويستقيم فعل الأمر أن يكون مفسرا بقوله: اعبدوا الله ويكون ربي وربكم من كلام عيسى عليه السلام على إضمار أعني، أي أعني ربي وربكم، لا على الصفة التي فهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عنده.
وأما قوله: لأن العبادة لا تقال، فصحيح لكن ذلك يصح على حذف مضاف أي ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله أي القول المتضمن عبادة الله، وأما قوله: لبقاء الموصول بغير راجع إليه من صلته، فلا يلزم في كل بدل أن يحل محل المبدل منه ألا ترى إلى تجويز النحويين زيد مررت به أبي عبد الله. ولو قلت: مررت بأبي عبد الله لم يحز ذلك إلا على رأي الأخفش. وأما قوله: عطفا على بيان للهاء، فهذا فيه بعد لأن عطف البيان أكثره بالجوامد الاعلام، وما اختاره الزمخشري وجوزه من كون أن مفسرة لا يصح لأنها جاءت بعد الا وكل ما كان بعد إلا المستثنى بها فلا بد أن يكون له موضع من الإعراب وأن التفسيرية لا موضع لها من الإعراب ويظهر لي أن تكون أن مفسرة لفعل محذوف يدل على معنى القول وتقديره أمرتهم أن اعبدوا الله، ويدل على هذا الفعل قوله: ما أمرتني، وإذا أمره الله بشيء فلا بد أن يأمر به عباده، والذي صدر من عيسى عليه السلام في غير موضع أمره بعبادة الله تعالى. ومنه وقال المسيح: يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، وقال: إن الله ربي وربكم فاعبدوه، ولو ذهب ذاهب إلى أن ان زائدة لمجرد التوكيد، وإن قوله: اعبدوا الله ربي وربكم، من قوله: ما أمرتني به، لكان وجها حسنا سائغا، وصار التقدير إلا ما أمرتني به اعبدوا الله ربي وربكم.
{ وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم } أي رقيبا كالشاهد على المشهود عليه أمنعهم من قول ذلك أن يتدينوا به وأتى بصيغة فعيل للمبالغة كثير الحفظ عليهم والملازمة لهم، وما ظرفية، ودام تامة أي ما بقيت فيهم أي شهيدا في الدنيا.
{ فلما توفيتني } هي وفاة رفعه عليه السلام إلى السماء لا وفاة الموت ألا ترى إلى قوله تعالى:
وما قتلوه يقينا * بل رفعه الله إليه
[النساء: 157-158]. وتظافرت الأخبار الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في السماء حي وأنه ينزل ويقتل، وقال تعالى:
وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته
[النساء: 159]، به أي بعيسى قبل موته أي الموتة الحقيقية.
{ إن تعذبهم فإنهم عبادك } الآية قال أهل السنة: مقصود عيسى عليه السلام تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى وترك الاعتراض بالكلية، ولذلك ختم الكلام بقوله: فإنك أنت العزيز الحكيم، أي قادر على كل ما تريد حكيم في كل ما تفعل لا اعتراض عليك. { هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم } قرأ الجمهور: هذا يوم، بالرفع على أن هذا مبتدأ ويوم خبره والجملة محكية يقال: وهو في موضع المفعول به لقال.
وقرأ نافع: هذا يوم بفتح الميم فخرجه الكوفيون على أنه مبني خبرا لهذا ويبنى لإضافته إلى الجملة الفعلية المصدرة بالمضارع فتتحد القراءتان والبصريون لا يجيزون بناء الظرف إلا إذا كانت الجملة مصدرة بالفعل الماضي نحو: عجبت من يوم قدم زيد، وهذه المسألة ذكرت في علم النحو.
{ لهم جنات تجري من تحتها الأنهار } هذا كأنه جواب سائل سأل ما لهم جزاء على الصدق فقيل: لهم جنات. { خالدين فيهآ أبدا } إشارة إلى تأييد الديمومة في الجنة.
{ ذلك الفوز العظيم } ذلك إشارة إلى ما تقدم من كينونة الجنة لهم على التأييد وإلى رضوان الله عنهم، لأن الجنة بما فيها كالعدم بالنسبة إلى رضوان الله تعالى. وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" يطلع الله على أهل الجنة فيقول: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون يا ربنا وكيف لا نرضى وقد بعدتنا عن نارك وأدخلتنا. فيقول الله عز وجل: ولكم عندي أفضل من ذلك. فيقولون: وما أفضل من ذلك؟ فيقول الله عز وجل: عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعدها أبدا "
وقال أبو عبد الله الرازي: مفتتح السورة كان بذكر العهد المنعقد بين الربوبية والعبودية فيشرع العبد في العبودية وينتهي إلى الفناء المحصن عن نفسه بالكلية، فالأول هو الشريعة وهو البداية، والآخر هو الحقيقة وهو النهاية، فمفتتح السورة من الشريعة ومختتمها بذكر كبرياء الله وجلاله وقهره وعزته وعلوه وذلك هو الوصول إلى مقام الحقيقة فما أحسن المناسبة بين ذلك المفتتح وهذا المختتم. " انتهى ". وليست الحقيقة والشريعة والتمييز بينهما من ألفاظ الصحابة والتابعين وإنما ذلك من ألفاظ الصوفية ولهم في ذلك كلام طويل.
[6 - سورة الأنعام]
[6.1-2]
{ بسم الله الرحمن الرحيم } { الحمد لله الذي خلق السموت والأرض } الآية، هذه السورة مكية كلها إلا آيات وقيل: إلا آيات نزلت بالمدينة، ومناسبة افتتاحها لآخر المائدة أنه تعالى لما ذكر ما قالته النصارى في عيسى وأمه من كونهما إلهين من دون الله وجرت تلك المحاورة وذكر ثواب الصادقين وأعقب ذلك بأن له ملك السماوات والأرض وما فيهن وأنه قادر على كل شيء؛ ذكر بأن الحمد لله المستغرق جميع المحامد فلا يمكن أن يثبت معه شريك في الإلهية فيحمد، ثم نبه على العلة المقتضية لجميع المحامد والمقتضية كون ملك السماوات والأرض وما فيهن له بوصف خلق السماوات والأرض، لأن الموجد للشيء المنفرد باختراعه له الاستيلاء والسلطنة عليه. ولما تقدم قولهم في عيسى وكفرهم بذلك وذكر الصادقين وجزاءهم أعقب خلق السماوات والأرض بجعل الظلمات والنور فكان ذلك مناسبا للكافر والصادق. وقال الزمخشري: يتعدى إلى مفعول واحد إذا كان بمعنى أحدث وأنشا، كقوله: { وجعل الظلمت والنور } ، وإلى مفعولين إذا كان بمعنى صير كقوله تعالى:
وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا
[الزخرف: 19]، والفرق بين الخلق والجعل أن الخلق فيه معنى التقدير، وفي الجعل معنى التصيير كإنشاء شىء من شىء أو تصيير شىء شيئا أو نقله من مكان إلى مكان، ومنه: جعل الظلمات والنور، لأن الظلمات من الاجرام المتكاتفة والنور من النار. " انتهى ". وما ذكره من أن جعل بمعنى صير في قوله: وجعلوا الملائكة، لا يصح لأنهم لم يصيروهم إناثا وإنما قال بعض النحويين: إنها هنا بمعنى سمى. وتقدم الكلام في البقرة على جمع السماوات وإفراد الأرض وجمع الظلمات وإفراد النور وثم كما تقرر في اللسان العربي أصلها للمهلة في الزمان. قال ابن عطية: ثم دالة على قبح فعل الذين فروا لأن المعنى أن خلقه السماوات والأرض وغيرهما قد تقرر وآياته قد سطعت وإنعامه بذلك قد تبين ثم بعد هذا كله عدلوا بربهم، فهذا كما تقول: يا فلان أعطيتك وأكرمتك وأحسنت إليك ثم تشتمني، أي بعد وضوح هذا كله ولو وقع العطف في هذا ونحوه بالواو لم يلزم التوبيخ كلزومه بثم. " انتهى ". وقال الزمخشري: فإن قلت: فما معنى ثم قلت استبعاد أن يعدلوا به بعد وضوح آيات قدرته وكذلك ثم أنتم تمترون استبعاد لأن يمتروا فيه بعدما ثبت أنه محييهم ومميتهم وباعثهم. انتهى. وهذا الذي ذهب إليه ابن عطية في أن ثم للتوبيخ والزمخشري من أن ثم للاستبعاد ليس بصحيح لأن ثم لم توضح لذلك وإنما التوبيخ والاستبعاد مفهوم من سياق الكلام لا من مدلول ثم، ولا أعلم أحدا من النحويين ذكر ذلك بل ثم هنا للمهلة في الزمان وهي عاطفة جملة إسمية على جملة إسمية أخبر تعالى بأن الحمد له، ونبه على العلة المقتضية للحمد من جميع الناس وهي خلق السماوات والأرض والظلمات والنور ثم أخبر أن الكافرين به يعدلون فلا يحمدونه.
وقال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف قوله: ثم الذين كفروا؟ قلت: اما على قوله: الحمد لله، على معنى ان الله حقيق بالحمد على ما خلق لأنه ما خلقه إلا نعمة ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فيكفرون نعمه. وأما على قوله: خلق السماوات والأرض، على معنى أنه خلق ما خلق مما لا يقدر عليه أحد سواه ثم هم يعدلون به ما لا يقدر على شيء منه. " انتهى ".
وهذا الوجه الثاني الذي جوزه لا يجوز لأنه إذ ذاك يكون معطوفا على الصلة والمعطوف على الصلة صلة فلو جعلت الجملة من قوله تعالى: { ثم الذين كفروا } ، صلة لم يصح هذا التركيب لأنه ليس فيها رابط يربط الصلة بالموصول إلا إن خرج على قولهم أبو سعيد الذي رويت عن الخدري يريد رويت عنه فيكون الظاهر قد وقع موقع المضمر فكأن قيل: ثم الذين كفروا به يعدلون، وهذا من الندور بحيث لا يقاس عليه ولا يحمل كتاب الله عليه مع ترجيح حمله على التركيب الصحيح الفصيح ، والذين كفروا الظاهر فيه العموم فيندرج فيه عبدة الأصنام وأهل الكتاب فعبدت النصارى المسيح، واليهود عزيرا، واتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله، والمجوس عبدوا النار، والمانوية عبدوا النور. والباء في بربهم يحتمل أن تتعلق بكفروا وفيه إشارة إلى أن مالكهم لا ينبغي أن يكفروا به ويعدلوا عن طاعته، ويحتمل أن تتعلق بيعدلون وتكون الباء بمعنى عن أي يعدلون عنه إلى غيره مما لا يخلق ولا يقدر أو يكون المعنى يعدلون به غيره أي يسوون به غيره في اتخاذه ربا وإلها وفي الخلق والإيجاد وعدل الشىء بالشىء التسوية به وفي الآية رد على القدرية في قولهم: الخير من الله، والشر من الإنسان، فعدلوا به غيره في الخلق والإيجاد.
{ هو الذي خلقكم من طين } ظاهره إنا مخلوقون من الطين - وذكر ذلك المهدوي ومكي والزهراوي عن فرقة والنطفة التي يخلق منها الإنسان أصلها من طين ثم يقلبها الله نطفة. قال ابن عطية: وهذا يترتب على قول من يقول يرجع بعد التوالد والاستحالات الكثيرة نطفة، وذلك مردود عند الأصوليين. " انتهى ". والمشهور عند المفسرين أن المخلوق من الطين هو آدم. قال مجاهد وقتادة والسدي وغيرهم: المعنى خلق آدم من طين والبشر من آدم فلذلك قال: خلقكم من طين. وذكر ابن سعد في الطبقات عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" الناس من ولد آدم وآدم من تراب "
وقال بعض شعراء الجاهلية:
إلى عرق الثرى وشجت عروقي
وهذا الموت يسلبني شبابي
فسره الشراح بأن عرق الثرى هو آدم فعلى هذا يكون التأويل على حذف مضاف. أما في خلقكم أي خلق أصلكم، وإما من طين أي من عرق طين أو فرعه.
{ ثم قضى أجلا } الآية قضى إن كانت هنا بمعنى قدر وكتب كانت هنا للترتيب في الذكر لا في الزمان، لأن ذلك سابق على خلقنا إذ هي صفة ذات وان كانت بمعنى أظهر كانت للترتيب الزماني على أصل وضعها لأن ذلك متأخر عن خلقنا فهي صفة فعل. والظاهر من تنكير الأجلين أنه تعالى أبهم أمرهما، وقيل: الأول أجل الدنيا من وقت الخلق إلى الموت، والثاني أجل الآخرة لأن الحياة في الآخرة لا انقضاء لها ولا يعلم كيفية الحال في هذا الأجل إلا الله تعالى. وقال الزمخشري: فإن قلت: المبتدأ النكرة إذا كان خبره ظرفا وجب تقديمه فلم جاز تقديمه في قوله: وأجل مسمى عنده؟ قلت: لأنه تخصص بالصفة فقارب المعرفة كقوله تعالى:
ولعبد مؤمن خير من مشرك
[البقرة: 221] " انتهى ". وهذا الذي ذكره من مسوغ الابتداء بالنكرة لكونها وصفت لا بتعين هنا أن يكون هو المسوغ لأنه يجوز أن يكون المسوغ هو التفصيل لأن من مسوغات الابتداء بالنكرة أن يكون الموضع موضع تفصيل نحو قوله:
إذا ما بكى من خلفها انحرفت له
بشق وسق عندنا لم يحول
قال الزمخشري: فإن قلت الكلام السائر أن يقال: عندي ثوب جيد ولي كيس وما أشبه ذلك. قلت: أوجبه أن المعنى وأي أجل مسمى عنده تعظيما لشأن الساعة فلما جرى فيه هذا المعنى وجب التقديم. " انتهى ". وهذا لا يجوز لأنه إذا كان التقدير وأي أجل مسمى عنده كانت أي صفة لموصوف محذوف تقديره وأجل أي أجل مسمى عنده، ولا يجوز حذف الصفة إذا كانت أيا ولا حذف موصوفها وإبقاؤها، فلو قلت: مررت بأي رجل، تريد برجل أي رجل لم يجز، وقوله: أي منافق، ضعيف إذ حذف موصوف أي والكلام في ثم هنا كالكلام فيها في قوله: ثم الذين كفروا، والذي يظهر أن قوله: هو الذي خلقكم، على جهة الخطاب هو التفات من الغائب الذي هو قوله: ثم الذين كفروا، وإن كان الخلق وقضاء الأجل ليس مختصا بالكفار إذ اشترك فيه المؤمن والكافر لكنه قصد به الكافر تنبيها له على أصل خلقه وقضاء الله عليه وقدرته، وإنما قلت: انه من باب الإلتفات، لأن قوله: ثم أنتم تمترون، لا يمكن أن يندرج في هذا الخطاب من اصطفاه الله تعالى بالإيمان والنبوة.
[6.3-7]
{ وهو الله في السموت } الآية، لما تقدم ما يدل على القدرة التامة والاختيار ذكر ما يدل على العلم التام فكان في التنبيه على هذه الأوصاف دلالة على كونه تعالى قادرا مختارا عالما بالكليات والجزئيات وابطالا لشبه منكري المعاد قيل: هو ضمير الشأن وما بعده مبتدأ خبره وهو علم تضمن معنى المعبود، وفي السماوات وفي الأرض متعلق به، والاسم العلم قد تضمن معنى المشتق فيعمل فيما بعده كما قال الشاعر:
أنا أبو المنهال بعض الأحيان
فضمن أبو المنهال معنى المشهور فلذلك نصب بعض الأحيان، وبعض ظرف زمان لإضافته لظرف زمان. وقال: نحوا من هذا الزمخشري وابن عطية.
{ ويعلم ما تكسبون } عام لجميع الاعتقادات والأقوال والأفعال وكسب كل إنسان عمله المفضي به إلى اجتلاب نفع أو دفع ضر ولهذا لا يوصف به الله تعالى.
{ وما تأتيهم من آية } الآية من الأولى زائدة تدل على الاستغراق وآية فاعل بتأتيهم ومن الثانية في موضع الصفة للتبعيض تقديره من آية كائنة من آيات ربهم، أي تلك الآية بعض آيات الله تعالى والمراد بآية، والآية علامة تدل على الوحدانية وانفراده بالألوهية والرسالة والمعجز الخارق والقرآن. وفي تأتيهم التفات وهو خروج من خطاب في قوله: يعلم بسركم إلى غيبة في تأتيهم، والرب هو المالك المصلح الناظر في مصالح عباده فكان المناسب أن لا يعرضوا عن آيات مالكهم ومصلحهم وكانوا بعد إلا في موضع نصب على الحال ولم يجيء في القرآن هذه الحال بعد إلا إلا بلفظ الماضي. وقد جاءت في كلام العرب مصحوبة بقد. قال الشاعر:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة
لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
قال الزمخشري: يعني ما يظهر لهم قط دليل من الأدلة التي يجب فيها النظر والإستدلال والاعتبار إلا كانوا عنه معرضين. " انتهى ". واستعمال الزمخشري قط مع المضارع في قوله: وما يظهر لهم قط دليل ليس بجيد، لأن قط ظرف مختص بالماضي إلا ان كان أراد بقوله: وما يظهر وما ظهر، ولا حاجة إلى استعمال ذلك. ومعنى عنها أي عن قبولها أو سماعها والإعراض ضد الإقبال وهو مجاز إذ حقيقته في الأجسام.
{ فقد كذبوا بالحق لما جآءهم } كذب فعل متعد إلى مفعول بنفسه كقوله:
وإن يكذبوك
[الحج: 42] وجاء هنا متعديا بالباء كما في قوله:
يكذب بالدين
[الماعون: 1]. وقوله:
وكذب به قومك
[الأنعام: 66]، ضمن معنى الاستهزاء فتعدى بالباء والحق عام في القرآن والإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم وانشقاق القمر والوعد والوعيد. والفاء في قوله: فقد كذبوا للتعقيب وان إعراضهم عن الآية أعقبه التكذيب. وقال الزمخشري: فقد كذبوا مردود على كلام محذوف كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها، وهو الحق لما جاءهم يعني القرآن الذي تحدوا به على تبالغهم في الفصاحة فعجزوا عنه.
" انتهى ". ولا ضرورة تدعو إلى تقدير شرط محذوف إذا الكلام منتظم دون هذا التقدير.
{ فسوف يأتيهم } هذه رتب ثلاثة صدرت من هؤلاء الكفار الأول عن تأمل الدلائل ثم التكذيب ثم الاستهزاء. والنبأ: الخبر الذي يعظم وقعه، وكني بالانباء عما يحل بهم في الدنيا من القتل والسبي والجلاء وما يحل بهم في الآخرة من عذاب النار. وبه متعلق يستهزئون ودل قوله: يستهزؤون على أن المراد بقوله: كذبوا بالحق، أي استهزؤوا ولذلك عداه بالباء.
{ ألم يروا كم أهلكنا } الآية، لما هددهم وأوعدهم على إعراضهم وتكذيبهم واستهزائهم أتبع ذلك بما يجري مجرى الموعظة والنصيحة وحض على الإعتبار بالقرون الماضية. ويروا هنا بمعنى يعلموا. وكم في موضع المفعول بأهلكنا. ويروا معلقة. والجملة في موضع مفعوليها، ومن الأولى لإبتداء الغاية، ومن الثانية للتبعيض، والمفرد بعدها واقع موقع الجمع كأنه قال: من القرون ويعني به قوم نوح وعاد وثمود وأشباههم ومكن في مكناهم متعد بمفعول كقوله:
ما مكني فيه ربي خير
[الكهف: 95]. ويتعدى باللام في قوله: لكم، وكقوله تعالى:
مكنا ليوسف في الأرض
[يوسف: 21].
{ وأرسلنا السمآء } المراد بالإرسال الإنزال والسماء قيل: عبر بها عن المطر. كما قال الشاعر:
إذا نزل السماء بأرض قوم
يعني المطر. وقيل: هو على حذف مضاف أي وأرسلنا مطر السماء.
و { مدرارا } منصوب على الحال من السماء أو من المضاف إليه وهو المطر. ومدرارا مفعال يستوي فيه المذكر والمؤنث.
{ وجعلنا الأنهار } تقدم تفسيره في البقرة: والظاهر أن الذنوب هنا هي كفرهم وتكذيبهم برسل الله تعالى وآياته.
{ وأنشأنا } فائدة إنشاء قرن بعد قرن إظهار القدرة على إهلاك ناس وإنشاء ناس. وقرن مفرد وصف بالجمع مراعاة لمعناه إذ كان تحته أفراد كثيرون ولو وصف في غير القرآن يعتل قرنا آخر على اللفظ ولكن روعي المعنى فجمع مراعاة للفواصل.
و { نزلنا عليك كتبا } الآية، سبب نزولها اقتراح عبد الله بن أبي أمية وتعنته إذ قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لا أؤمن لك حتى تصعد إلى السماء ثم تنزل بكتاب فيه من رب العزة إلى عبد الله بن أبي أمية يأمرني بتصديقك وما أراني مع هذا كنت أصدقك، ثم أسلم بعد ذلك وقتل شهيدا بالطائف. ولما ذكر تعالى تكذيبهم بالحق لما جاءهم ثم وعظهم وذكرهم بإهلاك القرون الماضية بذنوبهم، ذكر مبالغتهم في التكذيب بأنهم لو رأوا كلاما مكتوبا في قرطاس ومع رؤيتهم جسده بأيديهم لم تزدهم الرؤية واللمس إلا تكذيبا وادعوا ان ذلك من باب السحر لا من باب المعجز عنادا وتعنتا. والفاء في فلمسوه للتعقيب أي بنفس ما رأوا الكتاب لم يكتفوا برؤية البصر بل أعقبوا ذلك بحاسة اللمس وهي اليد إذ كانت أقوى في الإحساس من غيرها، وجاء لقال الذين كفروا، لأن مثل هذا الغرض يقتضي انقسام الناس إلى مضمن وكافر فالمؤمن يراه من أعظم المعجزات والكافر يجعله من باب السحر ووصف السحر بمبين أما لكونه بينا في نفسه وإما لكونه أظهر غيره.
[6.8-12]
{ وقالوا لولا أنزل عليه ملك } قال ابن عباس: قال النضر بن الحارث وعبد الله بن أبي أمية ونوفل بن خالد: يا محمد لن نؤمن لك حتى تأتينا بكتاب من عند الله ومعه أربعة من الملائكة يشهدون أنه من عند الله وأنك رسوله. " انتهى ". والظاهر أن قوله: وقالوا استئناف اخبار من الله تعالى حكي عنهم أنهم قالوا ذلك، ويحتمل أن يكون عطوفا على جواب لو، أي لقال الذين كفروا، ولقالوا: لولا أنزل عليه ملك. ولولا بمعنى هلا للتحضيض.
{ ولو أنزلنا ملكا } قال ابن عباس وغيره: في الكلام حذف تقديره ولو أنزلنا ملكا فكذبوه لقضي الأمر بعذابهم ولم يؤخروا حسب ما في كل أمة اقترحت آية وكذبت بها بعد ظهورها.
{ ولو جعلنه ملكا } أي ولو جعلنا الرسول ملكا كما اقترحوا لأنهم كانوا يقولون لولا أنزل على محمد ملك، وتارة يقولون: ما هذا إلا بشر مثلكم. ولو شاء ربنا لأنزل ملائكة. ومعنى لجعلناه رجلا أي لصيرناه في صورة رجل كما كان جبريل عليه السلام ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غالب الأحوال في صورة دحية، وكما تمثل لمريم في صورة بشر، وكما في حديث سؤال جبريل عليه السلام بحيث رآه الصحابة في صورة رجل يسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان. وللبسنا أي لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم حينئذ بأنهم يقولون إذا رأوا الملك في صورة إنسان هذا إنسان وليس بملك.
{ ولقد استهزىء برسل من قبلك } هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من قومه وتأس بمن سبق من الرسل. وقالت الخنساء:
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسي
{ فحاق } يقال: حاق يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا، أي أحاط. ومعنى سخروا استهزؤا إلا أن استهزأ تعدى بالباء وسخر بمن كما قال
إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون
[هود: 38]. وبالباء تقول سخرت به، وكان اللفظ سخروا وإن كان معناه استهزوا لئلا يكثر في الجملة الواحدة لفظ الاستهزاء إذ أوله ولقد استهزىء وآخره يستهزؤون فكان سخروا أفصح.
{ قل سيروا في الأرض } الآية، لما ذكر تعالى ما حل بالمكذبين المستهزئين وكان المخاطبون بذلك أمة أمية لم تدرس الكتب ولم تجالس العلماء فلها أن تكابر في الاخبار بهلاك من أهلك بذنوبهم أمروا بالسير في الأرض والنظر في ما حل بالمكذبين ليعتبروا بذلك ويتظافر مع الاخبار الصادق الحس فللرؤية من مزيد الاعتبار ما لا يكون في الاخبار كما قال بعض العصريين:
لطائف معنى في العيان لم تكن
لتدرك إلا بالتزاور واللقا
والظاهر أن السير المأمور به هو الانتقال من مكان إلى مكان وان النظر المأمور به هو نظر العين، وان الأرض هي ما قرب من بلاؤهم من ديار المهلكين بذنوبهم كأرض عاد ومدين ومدائن قوم لوط وثمود.
وقال قوم: الأرض هنا عام لأن في كل قطر منها آثار الهالكين وعبرا للناظرين. وجاء هنا خاصة ثم انظروا بحرف المهلة وفيما سوي ذلك بالفاء التي هي للتعقيب. وقال الزمخشري في الفرق: جعل النظر مسببا عن السير في قوله: فانظروا، فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر ولا تسيروا سير الغافلين. وهنا معناه أمر الإباحة للسير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع وإيجاب النظر في آثار الهالكين ونبه على ذلك بثم لتباعد ما بين الواجب والمباح. " انتهى ". وما ذكر أولا متناقض لأنه جعل النظر متسببا عن السير فكان السير سببا للنظر. ثم قال: فكأنه قيل: سيروا لأجل النظر فجعل السير معلولا بالنظر فالنظر سبب له فتناقضا ودعوى ان الفاء تكون سببية لا دليل عليها وإنما معناها التعقيب فقط وأما مثل: ضربت زيدا فبكى، وزنا ماعز فرجم، فالتسبب فهم من مضمون الجملة لا ان الفاء موضوعة له وإنما تفيد تعقيب الضرب بالبكاء وتعقيب الزنا بالرجم فقط وعلى تسليم أن الفاء تفيد التسبيب فلم كان السير هنا سير إباحة وفي غيره سير واجب فيحتاج ذلك إلى فرق بين هذا الموضع وتلك المواضع وعاقبة الشيء منتهاه وما آل إليه. والمراد به هنا العذاب على العصيان. قال النابغة: ومن عصاك نعاقبه ومعاقبة. تنهي الحسود كنهي الحسود ولا تقعد على ضمد، والضمد: الحقد.
{ قل لمن ما في السموت والأرض } الآية: لما ذكر تعالى تصريفه فيمن أهلكهم بذنوبهم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بسؤالهم ذلك فإنه لا يمكنهم أن يقولوا إلا أن ذلك لله تعالى فليزمهم بذلك أنه تعالى هو المالك المهلك لهم، وهذا السؤال سؤال تبكيت وتقرير، وما موصولة بمعنى الذي أريد بها العموم وهي مبتدأ، ولمن في موضع الخبر، ثم أمره تعالى بنسبة ذلك إلى الله تعالى ليكون أول من بادر إلى الإعتراف بذلك.
{ كتب على نفسه الرحمة } ظاهر كتب أنه بمعنى سطر وخط، وقيل: أوجب إيجاب فضل وكرم لا إيجاب لزوم، والرحمة هنا الظاهر أنها عامة فتعم المحسن والمسيء في الدنيا وهي عبارة عن الإفضال عليهم والإحسان إليهم.
{ ليجمعنكم } جواب قسم وهو ان كتب أجرى مجرى القسم فأجيب بجوابه وهو ليجمعنكم كما في قوله:
لأغلبن أنا ورسلي
[المجادلة: 21]. والظاهر أن إلى للغاية والمعنى ليحشرنكم منتهين إلى يوم القيامة.
{ الذين خسروا أنفسهم } الظاهر أن الذين مرفوع على الابتداء، والخبر قوله: فهم لا يؤمنون، ودخلت الفاء لما تضمن المبتدأ من معنى الشرط كأنه قيل: من يخسر نفسه فهو لا يؤمن. وخسروا في معنى قضى الله عليهم بالخسران وترتيب على ذلك عدم إيمانهم.
[6.13-18]
{ وله ما سكن في الليل والنهار } لما ذكر تعالى أن له ملك ما حوى المكان من السماوات والأرض ذكر ما حواه الزمان من الليل والنهار وإن كان كل واحد من المكان والزمان يستلزم الآخر لكن النص عليهما أبلغ في الملكية وقدم المكان لأنه أقرب إلى العقول والأفكار من الزمان. والظاهر أنه استئناف أخبار وليس مندرجا تحت قوله: قل، والظاهر أن السكون ضد الحركة واقتصر عليه لأنه ما من متحرك إلا سكن ولا ينعكس. وقيل: هو على تقدير معطوف حذف تقديره وما تحرك.
{ قل أغير الله أتخذ وليا } الآية، لما تقدم أنه تعالى اخترع السماوات والأرض وأنه مالك لما تضمنه المكان والزمان أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك على سبيل التوبيخ لهم أي من هذه صفاته هو الذي يتخذ وليا وناصرا ومعينا لا إله إلا لا الآلهة التي لكم إذ هي لا تنفع ولا تضر لأنها بين جماد أو حيوان مقهور. ودخلت همزة الاستفهام على الاسم دون الفعل لأن الإنكار في اتخاذ غير الله وليا لا في اتخاذ الولي كقولك لمن ضرب زيدا وهو ممن لا يستحق الضرب بل يستحق الإكرام أزيدا ضربت؟ تنكر عليه أن يكون مثل هذا يضرب ونحوه قوله تعالى:
أفغير الله تأمروني أعبد
[الزمر: 64] والله إذن لكم. وقرأ الجمهور فاطر بالجر، فوجهه ابن عطية والزمخشري وقبلهما الحوفي على أنه نعت لله. وخرجه أبو البقاء على أنه بدل وكأنه رأى أن الفصل بين المبدل منه والبدل أسهل من الفصل بين المنعوت والنعت إذ البدل على المشهور هو على نية تكرار العامل. وقرأ ابن أبي عبلة برفع الراء على إضمار هو. قال ابن عطية: أو على الابتداء. " انتهى ". ويحتاج إلى إضمار خبر ولا دليل على حذفه. وقرىء: بالنصب على المدح أي أمدح فاطر السماوات، يقال: فطر أي خلق واخترع من غير مثال.
{ وهو يطعم ولا يطعم } أي يرزق ولا يرزق كقوله:
مآ أريد منهم من رزق
[الذاريات: 57]، الآية، والمعنى أن المنافع كلها من عند الله وخص الإطعام من أنواع الإنتفاعات لمس الحاجة إليه، كما خص الربا بالأكل وإن كان المقصود الإنتفاع بالربا.
{ قل إني أمرت } قال الزمخشري: لأن النبي صلى الله عليه وسلم سابق أمته في الإسلام كقوله:
وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين
[الأنعام: 163]، وكقول موسى عليه السلام:
سبحانك تبت إليك وأنا أول المؤمنين
[الأعراف: 143]. وقال ابن عطية: المعنى أول من أسلم من هذه الأمة وبهذه الشريعة، وفي هذا القول نظر لأنه عليه السلام لم يصدر منه امتناع عن الحق وعدم انقياد إليه وإنما هذا على طريق التحريض على الإسلام كما يأمر الملك رعيته بأمر ثم يتبعه بقوله: أنا أول من يفعل ذلك ليحملهم على فعله.
{ قل إني أخاف إن عصيت ربي } الظاهر أن الخوف هنا على بابه والخوف ليس بحاصل لعصمته صلى الله عليه وسلم بل هو معلق بشرط هو ممتنع في حقه صلى الله عليه وسلم.
{ من يصرف عنه } قرىء مبنيا للمفعول، ومن مبتدأة، والضمير في يصرف عائد على من، والضمير في عنه عائد على العذاب، والفاعل في رحمة عائد على الله تعالى؛ وقرىء من يصرف مبنيا للفاعل، والفاعل بيصرف ضمير يعود على الله تعالى، ومن مفعول مقدم تقديره أي شخص يصرف الله عنه العذاب فقد رحمه.
{ وذلك الفوز المبين } الإشارة بذلك إلى المصدر المفهوم من يصرف أي وذلك الصرف هو الظفر والنجاة من الهلكة. والمبين: البين في نفسه. أو المبين غيره.
{ وإن يمسسك الله بضر } أي إن يصبك وينلك بضر وحقيقة المس تلاقي جسمين، وكشف الضر أزاله. وكشفت عن ساقيها: أزالت ما يسترهما. والضر أخص من الشر فناسب ذكر المسيس الذي هو أخص من الاستيلاء. وفي قوله: { فلا كاشف له } محذوف تقديره عنك.
{ وإن يمسسك بخير } أراد يتعدى لمفعولين أحدهما بنفسه والآخر بالباء والباء تدخل على الذات، وينتصب الثاني كقوله:
يريد الله بكم اليسر
[البقرة: 185]، وتارة تدخل الباء على المعنى، كقول الشاعر:
أرادت عرار بالهوان ومن يرد
عرار العمري بالهوان فقد ظلم
وعرار اسم رجل، وكقوله تعالى:
أو أرادني برحمة
[الزمر: 38] وجاء جواب الأول بالحصر في قوله: فلا كاشف له إلا هو مبالغة في الإستقلال بكشفه، وجاء جواب بالثاني بقوله: فهو على كل شيء قدير، دلالة على قدرته على كل شيء فيندرج فيه المس بخيره وغيره. ولو قيل: ان الجواب محذوف لدلالة الأول عليه لكان وجها حسنا وتقديره فلا موصل له إليك إلا هو، والأحسن تقديره فلا زاد له للتصريح بما يشبهه في قوله:
وإن يردك بخير فلا رآد لفضله
[يونس: 107] ثم أتى بعد بما هو شامل للخير والشر وهو قدرته على كل شيء.
{ وهو القاهر فوق عباده } القهر: الغلبة، والحمل على الشىء من غير اختيار المحمول. لما ذكر انفراده تعالى بتصرفه بما يريده من خير وشر وقدرته على الأشياء ذكر قهره وغلبته وأن العالم مقهورون ممنوعون من بلوغ مرادهم. وفوق حقيقة في المكان، ولا يراد به الحقيقة إذ البارىء سبحانه وتعالى منزه عن أن يحل في جهة والعرب تستعمل فوق إشارة إلى علو المنزلة وشغوفها على غيرها من الرتب، ومنه قوله تعالى:
يد الله فوق أيديهم
[الفتح: 10]. وقوله:
وفوق كل ذي علم عليم
[يوسف: 76]. وقال النابغة:
بلغنا السما مجدا وجودا وسؤددا
وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
يريد علو الرتبة والمنزلة. وفوق العامل فيه القاهره أي المستعلي بقهره فوق عباده. أو في موضع رفع على أنه خبر ثان لهو أخبر عنه بشيئين: أحدهما أنه القاهر، والثاني أنه فوق عباده بالرتبة والمنزلة.
{ وهو الحكيم } أي المحكم أفعاله متقنة آمنة من وجوه الخلل والفساد.
{ الخبير } هو العالم بخفيات الأمور كجلاياتها.
[6.19-20]
{ قل أي شيء } الآية، قال الكلبي: قال رؤساء مكة: يا محمد ما نرى أحدا يصدقك فيما تقول من أمر الرسالة ولقد سألنا اليهود والنصارى عنك فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر ولا صفة فأرنا من يشهد لك أنك رسول الله كما تزعم، فأنزل الله هذه الآية. وقال الزمخشري: هنا الشىء أعم العام لوقوعه على كل ما يصح أن يعلم ويخبر عنه فيقع على القديم والجوهر والعرض والمحال والمستقيم ولذلك صح أن يقال في الله عز وجل شىء لا كالأشياء، كأنك قلت: معلوم لا كسائر المعلومات، ولا يصح جسم لا كالأجسام. وأراد أي شىء أكبر شهادة فوضع شىء مكان شهيد ليبالغ في التعميم. " انتهى ". وقال جهم بن صفوان: لا يطلق على الله لفظ شىء، وخالفه الجمهور في ذلك.
{ شهدة } منتصب على التمييز. وقال ابن عطية: ويصح على المفعول بأن يحمل أكبر على التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل. " انتهى ". وهذا كلام عجيب لأنه لا يصح نصبه على المفعول ولأن أفعل من لا يشبه بالصفة باسم الفاعل، ولا يجوز في أفعل من أن يكون من باب الصفة المشبهة باسم الفاعل لأن بشرط الصفة المشبهة باسم الفاعل أن تؤنث وتثنى وتجمع وأفعل من لا يكون فيها ذلك وهذا منصوص عليه من النحاة، فجعل ابن عطية المنصوب في هذا مفعولا وجعل أكبر مشبها بالصفة المشبهة وجعل منصوبة مفعولا وهذا تخبيط فاحش ولعله يكون من الناسخ لا من المصنف.
{ قل الله شهيد بيني وبينك } مبتدأ وخبر، فهي جملة مستقلة بنفسها لا تعلق لها من قبلها من جهة الصناعة الأعرابية بل قوله: { أي شيء أكبر شهدة } هو استفهام على جهة التقرير والتوقيف ثم أخبر بأن خالق الأشياء والشهود هو الشهيد بيني وبينكم، وانتظم الكلام من حيث المعنى فالجملة ليست جوابا صناعيا وإنما يتم ما قالوه لو اقتصر على قل الله وقد ذهب إلى ذلك بعضهم فأعربه مبتدأ محذوف الخبر لدلالة ما تقدم عليه والتقدير قل الله أكبر شهادة، ثم أضمر مبتدأ يكون شهيد خبرا له تقديره هو شهيد بيني وبينكم.
{ لأنذركم } ولأبشركم فحذف المعطوف لدلالة المعنى عليه وقد صرح به في قوله:
لينذر بأسا شديدا من لدنه ويبشر
[الكهف: 2]. واقتصر على الإنذار لأنه في مقام تخويف لهؤلاء المكذبين بالرسالة المتخذين غير الله إلها والظاهر أن من في موضع نصب عطفا على مفعول لأنذركم، والعائد على من ضمير منصوب محذوف، وفاعل بلغ ضمير يعود على أن القرآن أي ومن بلغه هو أي القرآن، ومن بلغه عام في العرب والعجم ويجوز أن يكون في موضع رفع عطفا على الضمير المستكن في لأنذركم، وجاز ذلك للفصل بينه وبين الضمير بضمير المفعول وبالجار والمجرور أي ولينذر به من بلغه القرآن.
{ أئنكم لتشهدون } قرىء: إنكم لتشهدون بصورة الإيجاب فاحتمل أن يكون خبرا محضا واحتمل الإستفهام على تقدير حذف أداته ويبين ذلك قراءة الاستفهام، وهذا الاستفهام معناه التقريع لهم والتوبيخ والإنكار عليهم، فإن كان الخطاب لأهل مكة فالآلهة الأصنام فإنهم أصحاب أوثان وإن كان لجميع المشركين فالآلهة كل ما عبد غير الله تعالى من وثن أو كوكب أو نار أو آدمي.
و { أخرى } صفة لآلهة وصفة جمع ما لا يعقل كصفة الواحدة المؤنثة كقوله تعالى:
مآرب أخرى
[طه: 18]، ولما كانت الآلهة حجارة وخشبا أجريت مجرى المفرد تحقيرا لها فوصفت بما توصف به المفردة وهو لفظة أخرى.
{ قل لا أشهد } إلى آخره وما أبدع هذا الترتيب أمر أولا بأن يخبرهم أنه لا يوافقهم في الشهادة ولا يلزم من ذلك إفراد الله بالألوهية فأمر به ثانيا ليجتمع مع انتفاء موافقتهم إثبات الوحدانية لله تعالى ثم أخبر ثالثا بالتبرؤ من إشراكهم وهو كالتأكيد لما قبله.
{ الذين آتيناهم الكتاب } الآية، تقدم شرح الجملة الأولى في البقرة وشرح الثانية في هذه السورة.
[6.21-26]
{ ومن أظلم } الآية تقدم الكلام عليها، والإفتراء : الاختلاق، والمعنى لا أحد أظلم ممن كذب على الله أو كذب بآيات الله، جمعوا بين أمرين متناقضين فكذبوا على الله بما لا حجة عليه، وكذبوا بما ثبت بالحجة البينة والبرهان الصحيح حيث قالوا:
لو شآء الله مآ أشركنا ولا آباؤنا
[الأنعام: 148]، وقالوا:
والله أمرنا بها
[الأعراف: 28]، وقالوا: الملائكة بنات الله؛ وهؤلاء شفعاؤنا عند الله. ونسبوا إليه تحريم البحائر والسوائب، وكذبوا القرآن والمعجزات وسموها سحرا، ولم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومعنى: { لا يفلح الظلمون } أي لا يظفرون بمطالبهم في الدنيا والآخرة بل يبقون في الحرمان والخذلان. ونفي الفلاح عن الظالم فدخل فيه الأظلم. والظالم غير الأظلم، وإذا كان هذا لا يفلح فكيف يفلح الأظلم.
{ ويوم نحشرهم } الناصب ليوم فيه أقوال ذكرت في البحر، أحدها أنه مفعول لأذكر محذوفة على أنه مفعول به وهو خطاب للسامع، والثاني لمحذوف متأخر تقديره ويوم نحشرهم كان كيت وكيت فترك ليبقى على الإبهام الذي هو أدخل في التخويف. والضمير المنصوب في نحشرهم عام في العالم كلهم وعطف بثم للتراخي الحاصل بين مقامات يوم القيامة في المواقف فإن فيه مواقف بين كل موقف وموقف تراخ على حسب طول ذلك اليوم.
و { للذين أشركوا } عام في المشركين.
و { أين شركآؤكم } سؤال توبيخ وتقريع. وظاهر مدلول أين شركاؤكم غيبة الشركاء عنهم أي تلك الأصنام قد اضمحلت فلا وجود لها وأضيف الشركاء إليهم لأنه لا شركة في الحقيقة بين الأصنام وبين شىء وإنما أوقع عليها اسم الشريك بمجرد تسمية الكفرة لها شركاء فأضيفت إليهم بهذه النسبة والزعم والقول الأميل إلى الباطل والكذب في أكثر الكلام. وقد يطلق على مجرد القول ومن ذلك قول سيبويه في كتابه: وزعم الخليل، أي قال: والذين موصول صلته كنتم تزعمون والعائد عليه محذوف تقديره كنتم تزعمونهم شركاء.
{ ثم لم تكن فتنتهم } تقدم مدلول الفتنة وشرحت هنا بحب الشىء والإعجاب به كما تقول: فتنت بزيد، فعلى هذا يكون المعنى ثم لم يكن حبهم للأصنام وإعجابهم بها واتباعهم لها لما سئلوا عنها ووقفوا على عجزها إلا التبرؤ منها والإنكار لها وفي هذا توبيخ لهم وثم لم تكن فتنتهم فيه قراءات الجاري منها على الأشهر، ثم لم يكن بالياء فتنتهم بالنصب.
{ إلا أن قالوا } إن مع ما بعدها أجريت في التعريف مجرى الضمير وإذا اجتمع الأعرف وما دونه في التعريف فذكروا أن الأشهر جعل الأعرف هو الاسم وما دونه الخبر، ولذلك أجمعت السبعة على ذلك في قوله:
فما كان جواب قومه إلا أن قالوا
[النمل: 56] و
ما كان حجتهم إلا أن قالوا
[الجاثية: 25]. ومن قرأ بالياء ورفع الفتنة فذكر الفعل لكون تأنيث الفتنة مجازيا.
والفتنة إسم يكن والخبر إلا أن قالوا جعل غير الأعرف الاسم والأعرف الخبر ومن قرأ ثم لم تكن فتنتهم بالتاء ورفع الفتنة فأنت لتأنيث الفتنة، والإعراب كإعراب ما قبله، ومن قرأ ثم لم تكن بالتاء فتنتهم بالنصب فالأحسن أن يقدر إلا أن قالوا مؤنثا أي ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم. وقرىء: ربنا بالجر صفة لله تعالى وبالنصب على النداء أي يا ربنا.
{ انظر كيف كذبوا على أنفسهم } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والنظر قلبي، وكيف منصوب بكذبوا، والجملة في موضع نصب بانظر لأن أنظر معلقة، وكذبوا ماض وهو في أمر لم يقع لكنه حكاية عن يوم القيامة ولا إشكال في استعمال الماضي فيها موضع المستقبل تحقيقا لوقوعه ولا بد.
{ وضل } يحتمل أن يكون عطفا على كذبوا فيدخل في حيز أنظر ويحتمل أن يكون إخبارا مستأنفا فلا يدخل في حيزه ولا يتسلط النظر عليه.
{ ما كانوا } قال ابن عطية: ما مصدرية ومعناه ذهب افتراؤهم في الدنيا وكذبهم بادعائهم لله الشركاء. وقال الزمخشري: ما موصولة بمعنى الذي، قال: وغاب عنهم ما كانوا يفترون الهيته وشفاعته.
{ ومنهم من يستمع إليك } الآية، عن ابن عباس أن أبا سفيان وجماعة من كفار قريش استمعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة ما يقول؟ فقال: ما يقول إلا أساطير الأولين مثل ما أحدثكم عن القرون الماضية وكان صاحب أشعار سمع أقاصيص في ديار العجم مثل قصة رستم واسفنديار. قال أبو عبيدة: أساطير جمع أسطارة وهي النزهات وقيل غير ذلك. قال ابن عطية: وقيل: هو اسم جمع لا واحد له من لفظه كعباديد وشماطيط. " انتهى ". وهذا لا تسميه النحاة إسم جمع لأنه على وزن الجموع بل يسمونه جمعا وإن لم يلفظ له بواحد. والضمير في ومنهم عائد على الذين أشركوا ووحد الضمير في يستمع حملا على لفظ من، وجمعه في على قلوبهم حملا على معناها ويستمع متعد إلى مفعول به إذا كان من جنس الأصوات كقوله:
يستمعون القرآن
[الأحقاف: 29] عدي هنا بإلى لتضمنه معنى يصغون بأسماعهم إليك. والجملة من قوله: وجعلنا معطوفة على الجملة قبلها عطف فعلية على إسمية فيكون إخبارا من الله تعالى أنه جعل كذا. وقيل: الواو واو الحال أي وقد جعلنا من ينصت إلى سماعك وهم من الغباوة في جد من قلبه في كنان وأذن صماء. وجعل هنا يحتمل أن تكون بمعنى ألقى فتتعلق على بها وبمعنى صير فتتعلق بمحذوف إذ هي في موضع المفعول الثاني، ويجوز أن تكون بمعنى خلق فتكون في موضع الحال لأنها في موضع نعت لو تأخرت، فلما تقدمت صارت حالا. والإكنة جمع كنانا كعنان وأعنة، والكتاب: الغطاء الجامع.
قال الشاعر:
إذ ما انتضوها في الوغى من أكنة
حسبت بروق الغيث هاجت غيومها
و { أن يفقهوه } في موضع المفعول من أجله تقديره عندهم كراهة أن يفقهوه. وقيل: المعنى لئلا يفقهوه. وتقدم نظير هذين التقديرين في قوله تعالى:
أن تضلوا
[النساء: 44] والضمير المنصوب في يفقهوه عائد على القرآن الدال عليه من حيث المعنى. قوله: ومنهم من يستمع إليك، والوقر: الثقل في الأذن، ويقال: بفتح الواو وبكسرها. وفعله وقر بفتح القاف وكسرها وهو عبارة عما جعل الله تعالى في نقوس هؤلاء القوم من الغلظ والبعد عن قبول الخير كأنهم لم يكونوا سامعين لأقواله.
{ وإن يروا } الآية، لما ذكر عدم انتفاعهم بعقولهم انتقل من حاسة الأكنة والوقر إلى الحاسة التي هي أبلغ من حاسة السماع وهي الرؤية ، فنفى ما يترتب على إداركها وهو الإيمان.
وقال ابن عباس: كل آية، كل دليل وحجة.
{ لا يؤمنوا بها } لأجل ما جعل على قلوبهم أكنة. " انتهى ". ومقصود هذه الجملة الشرطية الاخبار عن المبالغة التامة والعناء المفرط في عدم إيمانهم حتى إن الشىء المرئي الدال على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حقيقة لا يرتبون عليه مقتضاه بل يرتبون عليه ضد مقتضاه وحتى أصلها أن تكون حرف غاية، وقد تأتي بمعنى الفاء فإذا كانت بمعنى الغاية كانت حرف ابتداء تعلقت بقوله: ومنهم من يستمع إليك، أي يمتد استماعهم وتكررهم إلى أن يقولوا في القرآن إن هذا إلا أساطير الأولين، فيكون المبتدأ محذوفا بعدها تقديره حتى هم والجملة الشرطية خبر المبتدأ وإذا كانت بمعنى الفاء كان التقدير فإذا جاؤك، ويجادلونك جملة حالية أي مجادليك، وبلغ تكذيبهم بالآيات إلى المجادلة، ويقول جواب إذا. وأساطير: جمع أسطارة وأسطورة أو أسطور، والذين كفروا قام مقام الضمير إذ لو جرى على الغيبة لكان اللفظ لقالوا.
{ وهم ينهون عنه وينأون عنه } النائي: البعد. يقال: نأى ينأى نايا. والضمير في وهم عائد على الكفار، وتقدم ذكر الرسول في قوله: يجادلونك، وتقدم ذكر القرآن في قوله: إن هذا، أي القرآن، فاحتمل أن يكون الضمير في عنه في الموضعين عائدا على الرسول فيكون من الإلتفات إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة، ومعناه ينهون الناس عن الرسول وعن أتباعه، وينأون عنه أي يبعدون عن الرسول وما جاء به. ويحتمل أن يكون الضمير في عنه عائدا على القرآن المشار إليه بقولهم: إن هذا فلا يكون من باب الإلتفات. وفي قوله: ينهون وينأون تجنيس التصريف وقيل: تجنيس التحريف وهو أن تنفرد كل كلمة عن الأخرى بحرف فينهون انفردت بالهاء، وينأون انفردت بالهمزة.
[6.27-32]
{ ولو ترى } الآية جواب لو محذوف لدلالة المعنى عليه وتقديره لرأيت أمرا شنيعا وهولا عظيما. وترى في معنى رأيت، ومفعوله محذوف تقديره ولو تراهم، وإذ ظرف لما مضى.
{ يليتنا نرد } الآية قرىء بنصب نكذب ونكون، وهذا النصب هو عند جمهور البصريين هو بإضمار أن بعد الواو فهو ينسبك من أن المضمرة، والفعل بعدها مصدر مرفوع معطوف على مصدر متوهم مقدر من الجملة السابقة والتقدير يا ليتنا يكون لنا رد. وانتفاء تكذيب وكون من المؤمنين وكثيرا ما يوجد في كتب النحو أن هذه الواو المنصوب بعدها هو على جواب التمني كما قال الزمخشري. وقرىء: ولا نكذب ونكون بالنصب بإضمار أن على جواب التمني، ومعناه إن رددنا لم نكذب ونكن من المؤمنين. " انتهى ". وليس كما ذكر فإن نصب الفعل بعد الواو ليس على جهة الجواب لأن الواو لا تقع في جواب الشرط ولا ينعقد مما قبلها ولا مما بعدها شرط وجواب وإنما هي واو الجمع تعطف ما بعدها على المصدر المتوهم قبلها وهي واو العطف يتعين مع النصب أحد محاملها الثلاثة وهي المعية ويميزها من الفاء تقدير مع موضعها كما أن فاء الجواب إذا كان بعدها فعل منصوب ميزها تقدير شرط قبلها أو حال مكانها وشبهة من قال انها جواب انها تنصب في المواضع التي تنصب فيها الفاء فتوهم أنها جواب، ويوضح لك أنها ليست بجواب انفراد الفاء دونها بأنها إذا حذفت انجزم الفعل بعدها بما قبلها لما فيه من معنى الشرط إلا إذا نصبت بعد النفي وسقطت الفاء فلا ينجزم، وإذا تقرر هذا فالأفعال الثلاثة من حيث المعنى متمناة على سبيل الجمع بينهما، إلا أن كل واحد متمني وحده إذ التقدير كما قلنا يا ليتنا يكون لنا رد مع انتفاء التكذيب وكوننا من المؤمنين. وقرىء ولا نكذب ونكون برفعهما عطفا على نرد فيكونان داخلين في التمني أو رفعا على الاستئناف والقطع أي ونحن لا نكذب ونكون وقرىء: برفع ولا نكذب عطفا على نرد أو على الإستئناف، ونكون بالنصب عطفا على مصدر متوهم وتكون ان مضمرة بعد الواو أي وأن نكون فالتقدير يكون منا رد وكون من المؤمنين.
{ بل بدا لهم } بل هنا للإضراب والإنتقال من شىء إلى شىء من غير إبطال لما سبق بل بدا لهم أي لليهود والنصارى سئلوا في الدنيا: هل تعاقبون على ما أنتم عليه؟ قالوا: لا. وقيل: كفار مكة ظهر لهم ما أخفوه من أمر البعث بقولهم:
ما هي إلا حياتنا الدنيا
[الجاثية: 24]. أو المنافقون كانوا يخفون الكفر فظهر لهم وباله يوم القيامة.
{ ولو ردوا } أي إلى الدنيا بعد وقوفهم على النار وتمنيهم الرد.
{ لعادوا لما نهوا عنه } من الكفر.
{ وإنهم لكاذبون } تقدم الكلام عليها. وهل التكذيب راجع إلى ما تضمنته جملة التمني من الوعد بالإيمان أو ذلك اخبار من الله تعالى على عادتهم دينهم وما هم عليه من الكذب في مخاطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك منقطعا مما قبله من الكلام.
{ وقالوا إن هي } الآية لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم كفار مكة بالبعث قالوا ذلك وان نافية وهي ضمير الحياة، قالوا: ان الحياة إلا حياتنا الدنيا. فنفوا أن يكون ثم حياة أخرى في الآخرة، ولذلك قالوا:
{ وما نحن بمبعوثين } يعني إلى الحشر والجزاء لما دل الكلام على نفي البعث بما تضمنه من الحصر صرحوا بالنفي المحض الدال على عدم البعث بالمنطوق وأكدوا ذلك بالباء الداخلة في الخبر على سبيل المبالغة في الإنكار وهذا يدل على أن هذه الآية في مشركي العرب ومن وافقهم في إنكار البعث.
{ ولو ترى إذ وقفوا } الآية، جواب لو محذوف كما حذف في ولو ترى أولا، وذلك مجاز عن الحبس والتوبيخ والسؤال كما يوقف العبد الجاني بين يدي سيده ليعاقبه.
{ قال أليس هذا بالحق } الظاهر أن الفاعل يقال: هو الله، فيكون السؤال منه تعالى لهم سؤال تقريع وتوبيخ والإشارة بهذا إلى البعث ومتعلقاته. وقال أبو الفرج ابن الجوزي: أليس هذا العذاب بالحق. وكأنه لاحظ قوله: قال فذوقوا العذاب.
{ قالوا بلى وربنا } بلى جواب لما تقرر وأكدوا جوابهم باليمين في قولهم وربنا هو إقرار بالإيمان حيث لا ينفع وناسب التوكيد بقولهم: وربنا، صدر الآية في قوله: وقفوا على ربهم، والباء في قوله: بما للسبب وكفرهم كان بالبعث وغيره.
و { قد خسر الذين كذبوا } الآية، خسرانهم أنهم استعاضوا الكفر عن الإيمان فصار ذلك شبيها بحالة البائع الذي أخذ وأعطى وكان ما أخذ سببا لهلاكه وما أعطاه من الإيمان سببا لنجاته. ومعنى بلقاء الله: بلوغ الآخرة وما يكون فيها من الجزاء ورجوعهم إلى أحكام الله فيها. وحتى غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم.
{ بغتة } البغتة: الفجأة. يقال: بغته يبغته، أي فجأة وهو مجيء الشىء سرعة من غير جعل بالك إليه وغير علمك بوقت مجيئه فرط قصر مع القدرة على ترك التقصير. وقال أبو عبيدة: فرط: ضيع، والتكذيب فعيا بالحسرة لأنه لا يزال بهم التكذيب إلى قولهم: يا حسرتنا وقت مجيء الساعة. والضمير في فيها عائد على الحياة الدنيا إذ قد تقدم ذكرها. وما في قوله: ما فرطنا، مصدرية أي على تفريطنا. والجملة من وهم يحملون أوزارهم، جملة حالية. وذو الحال الضمير في قالوا. والأوزار: الخطايا والآثام، وأصله الثقل من الحمل، يقال: وزرته أي حملته، وأوزار الحرب: أثقالها من السلاح، وهو مجاز عبر تحمل الوزر عما يجده من المشقة والآلام بسبب ذنوبه، والمعنى أنهم يقاسون عقاب ذنوبهم مقاساة تثقل عليهم.
{ ألا سآء } ساء على وزن فعل متعدية لمفعول محذوف تقديره ساءهم، وما مصدرية، أي ساءهم وزرهم، أو موصولة بمعنى الذي. وحذف الضمير العائد عليه والتقدير ساءهم الذي يزرونه أي يحملونه، ويجوز في ساء أن يكون وزنها فعل التي تكون في التعجب كقولهم: قضوا الرجل، أي ما أقضاه، فيكون تقديره ما أسوأ الذي يزرونه وافتتح بألا تنبيها وإشارة بسوء مرتكبهم.
{ وما الحيوة الدنيآ } الآية لما ذكر قولهم وقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا، ذكر قصاراها وأن منتهى أمرها أنها فانية منقضية عن قريب فصارت شبيهة باللهو واللعب إذ هما لا يدومان ولا طائل لهما. وقرىء: ولدار الآخرة على الإضافة، فقيل: هو من إضافة الموصوف إلى صفته إذ أصله لا الدار الآخرة، وقيل: على حذف موصوف تقديره ولدار الحياة الآخرة.
[6.33-35]
{ قد نعلم إنه ليحزنك } الآية، قيل: نزلت في الحارث بن عمرو بن نوفل بن عبد مناف فإنه كان يكذب في العلانية ويصدق في السر، ويقول : يخاف أن تتخطفنا العرب ونحن أكلة رأس. وقيل: نزلت في الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب فإنه ليس عندنا أحد غيرنا. فقال له: والله ان محمد الصادق وما كذب قط ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فنزلت. قد نعلم عبر هنا بالمضارع عن الماضي لأن علم الله لا يتجدد وهي هنا معلقة وأنه والجملة بعدها في موضع مفعولي نعلم ويقولون أي بألسنتهم.
و { لا يكذبونك } أي ببواطنهم بل يعتقدون صدقك. وقرىء لا يكذبونك أي لا يجدونك تكذب، تقول: أكذبته أي وجدته يكذب لأن أفعل تأتي للوجدان كقولهم: أحمدته أي وجدته محمودا. وقرىء لا يكذبونك بالتشديد أي لا يعتقدون كذبك.
{ ولكن الظلمين } نبه على الوصف المؤدي بهم إلى جحود الآيات وهو الظلم.
{ ولقد كذبت رسل من قبلك } الآية، تسلية له صلى الله عليه وسلم ولما سلاه تعالى بأنهم بتكذيبك إنما كذبوا الله، سلاه ثانيا بأن عادة أتباع الرسل قبلك تكذيب رسلهم وان الرسل صبروا فتأس بهم في الصبر.
{ وأوذوا } يحتمل أن يكون معطوفا على قوله: كذبت، ويحتمل أن يكون معطوفا على قوله: فصبروا.
{ ولا مبدل لكلمات الله } أي لمواعيده في نصر رسله، نحو قوله:
ولقد سبقت كلمتنا
[الصافات: 171]، الآية.
{ من نبإ } قال الفارسي: من زائدة، وفاعل جاء نبأ بعد من وهو نبأ المرسلين والذي يظهر أن الفاعل مضمر تقديره هو ويعود على ما دل عليه المعنى من الجملة السابقة أي ولقد جاءك هذا الخبر من تكذيب أتباع الرسل للرسل والصبر والإيذاء إلى أن نصروا، وأن هذا الاخبار هو بعض نبأ المرسلين الذين تتأسى بهم. ومن نبأ في موضع الحال، وذو الحال ذلك المضمر.
{ وإن كان كبر عليك إعراضهم } وكبر أي شق وصعب إعراضهم عن الإيمان وعن اتباع ما جئت به، فإن شرط ثان وإن تخلص الماضي للإستقبال، وكبر أعراضهم واقع ماض لكن يتأول على معنى الاستقبال، أي وأن يتبين كبر أعراضهم والتبين مستقبل والاستطاعة مستقبلة فصار عطف مستقبل على مستقبل وهو البيتين. والنفق: السرب في داخل الأرض الذي يتواى فيه. وقرأ نبيح الغنوي أن تبتغي نافقا وهو في اللغة أحد حجرة اليربوع. قال الشاعر:
ويستخرج اليربوع من نافقاته
ومن حجره بالشبحة اليتقصع
والسلم الذي يصعد عليه ويرتقي. ومعنى الآية أنك لا تستطيع ذلك والمراد بيان حرصه على إسلام قومه وأنه لو استطاع أن يأتيهم بآية من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم.
والظاهر من قوله: فتأتيهم بآية، أن الآية هي غير ابتغاء النفق في الأرض أو السلم في السماء وان المعنى أن تبتغي نفقا في الأرض فتدخل فيه أو سلما في السماء فتصعد عليه إليها فتأتيهم بآية غير الدخول في السرب والصعود إلى السماء مما يرجى إيمانهم بسببها أو مما اقترحوه رجاء إيمانهم، وتلك الآية من أحد الجهتين. قال ابن عطية: فتأتيهم بآية بعلامة ويريد اما في فعلك ذلك أي تكون الآية نفس دخولك في الأرض وارتقائك في السماء واما في أن تأتيهم بالآية من إحدى الجهتين. " انتهى ". وقال نحوا من ذلك الزمخشري وما جوزاه من ذلك لا يظهر من دلالة اللفظ إذ لو كان ذلك كما جوزاه لكان التركيب فتأتيهم بذلك آية، وأيضا فأي آية في دخول في سرب في الأرض. وأما الرقي إلى السماء فيكون آية واسم كان في قوله: وإن كان، هو ضمير الأمر والشان، وكبر أعراضهم فعل، وفاعل جملة في موضع خبر كان، وأجاز قوم أن يكون اعراضهم اسم كان، وكبر في موضع نصب على الخبر، وجواب الشرط في قوله: فإن استطعت محذوف تقديره فافعل أحد الأمرين ابتغاء النفق وابتغاء السلم.
{ لجمعهم على الهدى } أي اما أن يخلق ذلك في قلوبهم أو لا. فلا يضل أحد واما أن يخلقه فيهم بعد هلاكهم ودل هذا التعليق على أن الله تعالى ما شاء منهم جميعهم الهدى بل أراد إبقاء الكافر على كفره، ومفعول شاء محذوف لدلالة جواب لو عليه تقديره ولو شاء جمعهم على الهدى، ويحذف مفعول شاء كثيرا في القرآن لدلالة جواب لو عليه.
{ فلا تكونن من الجهلين } ذكرو في هذه الآية أقوالا مدخولة ذكرت في البحر والذي اختاره أن هذا الخطاب ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك أن الله تعالى قال: { ولو شآء الله لجمعهم على الهدى } ، فهذا إخبار وعقد كلي أنه لا يقع في الوجود إلا ما شاء الله سبحانه وتعالى وقوعه ولا يختص هذا الاخبار بهذا الخطاب بالرسول بل هو صلى الله عليه وسلم عالم بمضمون هذا الاخبار فإنما ذلك للسامع. فالخطاب والنهي في فلا تكونن للسامع دون الرسول عليه السلام، فكأنه قيل: ولو شاء الله أيها السامع الذي لا يعلم أن ما وقع في الوجود هو بمشيئة الله تعالى جمعهم على الهدى لجمعهم عليه فلا تكونن من الجاهلين فإن ما شاء الله إيقاعه وقع وإن الكائنات معذوقة بإرادته.
[6.36-39]
{ إنما يستجيب } أي إنما يستجيب للإيمان.
{ الذين يسمعون } سماع قبول وإصغاء، كما قال:
إن في ذلك لذكرى
[الزمر: 21، ق: 37]، ويستجيب بمعنى يجيب. وفرق الرماني بين أجاب واستجاب بأن استجاب فيه قبول لما دعي ويستجيب جاء معدي باللام كقوله تعالى:
فليستجيبوا لي
[البقرة: 186]. و
فاستجاب لهم ربهم
[آل عمران: 195]. وجاء معدا بنفسه للمفعول. قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا
فلم يستجبه عند ذاك مجيب
{ والموتى يبعثهم الله } الظاهر أن هذه جملة مستقلة من مبتدأ وخبر. والظاهر أن الموت هنا والبعث حقيقة وذلك إخبار منه تعالى أن الموتى على العموم من مستجيب وغير مستجيب يبعثهم الله تعالى فيجازيهم على أعمالهم. وقيل: الموت والبعث مجازان استعير الموت للكفر والإيمان والبعث. وقيل: الجملة من قوله: والموتى يبعثهم الله، مبتدأ وخبر أي والموتى بالكفر يحييهم الله بالإيمان.
{ وقالوا لولا نزل عليه } الآية، قال ابن عباس: نزلت في رؤساء قريش سألوا الرسول آية تعنتا منهم وإلا فقد جاءهم بآيات كثيرة فيها مقنع. " انتهى ".
{ قل إن الله قادر } أي إن ما سألتموه من إنزال آية، الله قادر على ذلك، كما أنزل الآيات السابقة فلا فرق في تعلق القدرة بالآيات المقترحة على سبيل التعنت والآيات التي لم تقترح وقد اقترحتم آيات كانشقاق القمر فلم يجد عنكم ولا أثرت فيكم وقلتم هذا سحر مستمر.
{ لا يعلمون } قدرته على إنزال الآيات.
{ وما من دآبة في الأرض } تقدم الكلام عليها وهي هنا في سياق النفي مصحوبة بمن التي تفيد استغراق الجنس فهي عامة تشمل كل ما يدب فيندرج فيها الطائر فذكر الطائر بعد ذكر دابة تخصيص بعد تعميم وذكر بعض من كل وصار من باب التجريد كقوله تعالى:
وجبريل وميكل
[البقرة: 98]، بعد ذكر الملائكة، وإنما جرد الطائر لأن تصرفه في الجو دون تصرف غيره من الحيوان أبلغ في القدرة وأول على عظمها من تصرف غيره من الحيوان في الأرض إذ الأرض جسم كثيف يمكن تصرف الأجرام عليها والهواء جسم لطيف لا يمكن عادة تصرف الأجرام الكثيفة فيها إلا بباهر القدرة الإلهية ولذلك قال تعالى:
ألم يروا إلى الطير مسخرت
[النحل: 79]، الآية، وجاء قوله في الأرض إشارة إلى تعميم جميع الأماكن لما كان لفظ: من دابة، وهو المتصرف أي المتصرف فيه عاما وهو الأرض ويشمل الأرض البر والبحر ويطير بجناحيه تأكيد لقوله: ولا طائر، لأنه لا طائر إلا يطير بجناحيه. وليرفع المجاز الذي كان يحتمله قوله: ولا طائر، ولو اقتصر عليه ألا ترى إلى استعارة الطائر للعمل في قوله:
وكل إنسان ألزمناه طآئره في عنقه
[الإسراء: 13]. وقولهم: طار لفلان طائر كذا في القسمة، أي سهمه.
وطائر السعد والنحس ففيه تنبيه على تصور هيئته على حالة الطيران واستحضار لمشاهدة هذا الفعل الغريب، وجاء الوصف بلفظ يطير لأنه مشعر بالديمومة والغلبة لأن أكثر أحوال الطائر كونه يطير وقل ما يسكن، حتى ان المحبوس منها يكثر ولوعه بالطيران في الذي حبس فيه من قفص وغيره. ومن دابة في موضع رفع بالابتداء إذ من زائدة في النفي وخبره. { أمم أمثالكم }.
{ ما فرطنا في الكتب من شيء } الآية، وكثيرا ما يستدل بعض الظاهرية بهذه الآية، وقوله: من شىء، يشير إلى أن الكتاب تضمن الأحكام التكليفية كلها. والتفريط : التقصير. وأصل فعله أن يتعدى بفي كقوله تعالى:
على ما فرطت في جنب الله
[الزمر: 56]، وإذا كان كذلك فيكون قد ضمن معنى ما أغفلنا في الكتاب شيئا يحتاج إليه من دلائل النبوة والألوهية والتكاليف.
{ ثم إلى ربهم يحشرون } الظاهر أنه يراد به البعث يوم القيامة وهو قول الجمهور، فتحشر البهائم والدواب والطير وفي ذلك حديث يرويه يزيد بن الأصم عن أبي هريرة قال:
" يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة البهائم والدواب والطير وكل شيء فيبلغ من عدل الله عز وجل يومئذ أن يأخذ للجماء من القرناء، ثم يقول: كوني ترابا "
، فذلك قوله تعالى:
ويقول الكافر يليتني كنت ترابا
[النبأ: 40].
{ والذين كذبوا بآياتنا } قال النقاش: نزلت في بني عبد الدار ثم انسحبت على من سواهم. والآيات هنا: القرآن، أو ما ظهر على يدي الرسول عليه السلام من المعجزات والدلائل والحجج والاخبار عنهم بقوله:
{ صم وبكم في الظلمات } الظاهر أنه استعارة عن عدم الإنتفاع الديني بهذه الحواس لا أنهم صم وبكم في الظلمات حقيقة. وجاء قوله: في الظلمات، كناية عن عمي البصيرة فهو ينظر لقوله:
صم بكم عمي
[البقرة: 18، 171]، لكن قوله: في الظلمات، أبلغ من قوله: عمي، إذ جعلت الظلمات ظرفا لهم وجمعت لاختلاف جهات الكفر.
{ من يشإ الله } الآية من مبتدأة شرطية ويشأ مجزوم بمن، ومفعول يشأ محذوف تقديره من يشأ الله إضلاله يضلله؛ وكذلك مفعول يشأ الثاني محذوف تقديره أي ومن يشأ جعله. وظاهر الآية يدل على مذهب أهل السنة في أن الله تعالى هو الهادي وهو المضل وان ذلك معذوق بمشيئته لا يسأل عما يفعل.
[6.40-45]
{ قل أرءيتكم } الآية قال الفراء: للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان، إحداهما: أن تسأل الرجل: أرأيت زيدا، أي بعينك فهذه مهموزة. وثانيهما، أن تقول: أرأيت، وأنت تريد أخبرني فهاهنا تترك الهمزة إن شئت، وهو أكثر كلام العرب يومىء إلى ترك الهمزة للفرق بين المعنين. " انتهى ". وإذا كانت بمعنى أخبرني جاز أن تختلفا لتاء مفتوحة كحالها للواحد المذكر. ومذهب البصريين أن التاء هي الفاعل وما لحقها حرف خطاب يدل على اختلاف المخاطب. ومذهب الكسائي أن الفاعل هو التاء وأن أداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول. ومذهب الفراء ان التاء هي حرف خطاب كهي في أنت وان أداة الخطاب بعده هي في موضع الفاعل استعيرت ضمائر النصب للرفع والكلام على هذه المذاهب إبطالا وتصحيحا مذكور في النحو وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني نص عليه سيبويه وغيره من أئمة العربية، وكون أرأيت بمعنى أخبرني هو تفسير معنى لا تفسير إعراب لأن أخبرني تتعدى بعن فنقول: أخبرني عن زيد وأرأيت تتعدى لمفعول به صريح وإلى جملة استفهامية هي في موضع المفعول الثاني كقولك: أرأيت زيدا ما صنع فما بمعنى أي شىء وهو مبتدأ وضع في موضع الخبر وأما في هذه الآية فنقول: هو من باب الأعمال فارأيتكم يطلب مرفوعا وهو قوله: عذاب الله فلما اجتمع العاملان أرأيتكم وفعل الشرط الذي هو أتاكم أعمل الثاني وهو أتاكم على اختيار مذهب البصريين أن الثاني هو أولى بالأعمال ولو كان على أعمال أرأيتكم لكان التركيب بنصب عذاب والساعة فكان يكون في غير القرآن أرأيتكم ان أتاكم عذاب الدنيا أو الساعة لكنه لما أعمل الثاني حذف مفعول أرأيتكم الأول، والثاني هو جملة الاستفهام وهو قوله: أغير الله ورابط هذه الجملة الاستفهامية بالمفعول المحذوف في أرأيتكم مقدر تقديره أغير الله تدعون لكشفه وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره ان أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة فأخبروني. وأتاكم عذاب الله، أي أتاكم خوفه وإماراته وأوائله مثل الجدب والبأساء والأمراض التي يخاف منها الهلاك، ولا يحتاج إلى تأويل العذاب بمقدماته بل إذا حل بالإنسان العذاب واستمر عليه لا يدعو إلا الله تعالى. وقوله: أغير الله، تقديره إلها غير الله تدعون وهو استفهام توبيخ وتقرير.
{ تدعون } أي لكشف ما حل بكم وإياه مفعول مقدم انتقل من استفهام التوبيخ إلى حصر من يدعونه بقوله: بل إياه، أي بل الله تدعون. وما من قوله: ما تدعون، إلا ظهر انها موصولة. قال ابن عطية: ويصح أن تكون ظرفية. " انتهى ". فيكون مفعول يكشف محذوفا أي فيكشف العذاب مدة دعائكم أي ما دمتم داعية وهذا فيه حذف المفعول وخروج عن الظاهر لغير حاجة ويضعفه وصل ما الظرفية بالمضارع وهو قليل جدا إنما بابها أن توصل بالماضي، تقول: لا أكلمك ما طلعت الشمس.
ويضعف ما تطلع الشمس ولذلك علة ذكرت في علم النحو، وقوله: إن شاء، مفعول شاء محذوف تقديره إن شاء كشفه وتنسون أي تتركون الإلتجاء إلى آلهتكم التي تشركون بها ربكم.
{ ولقد أرسلنآ إلى أمم } الآية، هذه تسلية له عليه السلام وإن عادة الأمم مع رسلهم التكذيب والمبالغة في قسوة القلوب، حتى إذا أخذوا بالبلايا لا يتذللون لله تعالى ولا يسألونه كشفها وهؤلاء الأمم الذين بعث الله إليهم الرسل أبلغ انحرافا وأشد شكيمة وأجلد من الذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خاطبهم تعالى بقوله: { قل أرءيتكم } ، الآية، وأخبر أنهم عند الإمارات لا يدعون لكشفها إلا الله. وفي الكلام حذف التقدير ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فكذبوا فأخذناهم. وتقدم تفسير البأساء والضراء في البقرة. والترجي هنا بالنسبة إلى البشر أي لو رأى أحد ما حل بهم لرجا تضرعهم وابتهالهم إلى الله في كشفه. والأخذ: الإمساك بقوة وبطش وقهر، وهو هنا مجاز عن مبالغة العقوبة والملازمة، والمعنى فعاقبناهم في الدنيا.
{ فلولا إذ جآءهم بأسنا تضرعوا } ، ولولا هنا حرف تحضيض يليها الفعل ظاهرا أو مضمرا أو فصل بينهما بالظرف فصل بين لولا وتضرعوا بإذ وهي معمولة لتضرعوا والتحضيض بدل على أنه يقع تضرعهم حين جاء البأس، فمعناه إظهار معاتبة بذنب غائب وإظهار سوء فعله. وإسناد المجيء إلى البأس مجاز عن وصوله إليهم، والمراد أوائل البأس وعلاماته.
{ ولكن قست قلوبهم } أي صلبت وصبرت على ملاقاة العذاب لما أراد الله تعالى من كفرهم ووقوع لكن هنا حسن لأن المعنى انتفاء التذلل عند مجيء البأس. ووجود القسوة الدالة على العتو والتعزز فوقعت لكن بين ضدين وهما اللين والقسوة، وكذا إن كانت القسوة عبارة عن الكفر فعبر بالسبب عن المسبب والضراعة عبارة عن الإيمان فعبر بالمسبب عن السبب كانت أيضا واقعة بين ضدين. تقول: فسأقلبه فكفر وآمن فتضرع.
{ وزين لهم الشيطان } يحتمل أن تكون الجملة داخلة تحت الاستدراك. ويحتمل أن يكون استئناف اخبار، والظاهر الأول فيكون الحامل على ترك التضرع قسوة قلوبهم وإعجابهم بأعمالهم التي كان الشيطان سببا في تحسينها لهم.
{ فلما نسوا } أي تركوا الاتعاظ والازدجار بما ذكروا به من البأس استدرجناهم بتسير مطالبهم الدنيوية وعبر عن ذلك بقوله: فتحنا عليهم أبواب كل شىء إذ يقتضي شمول الخيرات وبلوغ الطلبات.
{ حتى إذا فرحوا بمآ أوتوا أخذناهم بغتة } ومعنى هذه الجملة معنى قوله:
ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثما
[آل عمران: 178]. وفي الحديث الصحيح عن عقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا رأيت الله يعطي العباد ما يشاؤن على معاصيهم فإنما ذلك استدراج منه لهم. ثم تلا: فلما نسوا "
، الآية. والأبواب عبارة عن الأسباب التي هيأها الله لهم المقتضية لبسط الرزق عليهم والإيهام في هذا العموم لتهويل ما فتح عليه وتعظيمه، وغيا الفتح بفرحهم بما أوتوا وترتب على فرحهم أخذهم بغتة أي إهلاكهم فجأة وهو أشد الاهلاك إذ لم يتقدم شعور به فتتوطن النفس على لقائه ابتلاهم أولا بالبأساء والضراء فلم يتعظوا ثم نقلهم إلى ما أوجب سرورهم من إسباغ النعم عليهم فلم يجد ذلك عندهم ولا تصدوا لشكر ولا أصغوا إلى إنابة بل لم يحصلوا إلا على فرح بما أسبغ عليهم. قال محمد بن النضر الحارثي: أمهل هؤلاء القوم عشرين سنة.
{ فإذا هم مبلسون } أي باهتون بائسون لا يخبرون جوابا.
{ فقطع دابر القوم } عبارة عن استئصالهم بالهلاك ونبه على سبب الاستئصال بذكر الوصف الذي هو الظلم وهو هنا الكفر. والدابر: التابع للشىء من خلفه. يقال: دبر الولد يدبره. قال أمية بن أبي الصلت:
استئصلوا بعذاب خص دابرهم
فلما استطاعوا له صرفا ولا انتصروا
{ والحمد لله رب العالمين } الظاهر أنه تعالى لما أرسل الرسل إلى هؤلاء الأمم كذبوهم وآذوهم فابتلاهم الله تعالى تارة بالبلاء وتارة بالرخاء فلم يؤمنوا، فأهلكهم واستراح الرسل من شرهم وتكذيبهم، وصار ذلك نعمة في حق الرسل إذ أنجز الله وعده على لسانهم بهلاك مكذبيهم فناسب هذا الفعل كله الختم بالحمد لله رب العالمين.
[6.46-50]
{ قل أرأيتم } الآية لما ذكر أولا تهديدهم بإتيان العذاب أو الساعة كان ذلك أعظم من هذا التهديد فأكد خطاب الضمير بحرف الخطاب فقيل: أرأيتكم، ولما كان هذا التهديد أخف من ذلك لم يؤكد به بل اكتفى بخطاب الضمير فقيل: أرأيتم، وفي تلك وهذه الاستدلال على توحيد الله تعالى وأنه المتصرف في العالم الكاشف للعذاب والراد لما شاء بعد الذهاب وأن آلهتهم لا تغني عنهم شيئا. والظاهر من قوله: أخذ سمعكم وأبصاركم أنه إذهاب للحاسة السمعية والبصرية فيكون أخذا حقيقيا. وقيل: هو أخذ معنوي. والمراد إذهاب نور البصر بحيث يحصل العمى وإذهاب سمع الأذن بحيث يحصل الصمم. وتقدم الكلام على إفراد السمع وجمع الأبصار وعلى الختم على القلوب في أوائل البقرة. ومفعول أرأيتم الأول محذوف والتقدير قل أرأيتم سمعكم وأبصاركم ان أخذها الله، والمفعول الثاني هو الجملة الاستفهامية كما تقول: أرأيتك زيدا ما صنع. وقد قررنا أن ذلك من باب الأعمال أعمل الثاني وحذف من الأول وأوضحنا كيفية ذلك في الآية قبل هذه. والضمير في به أفرده إجراء له مجرى اسم الإشارة كأنه قيل يأتيكم بذلك أو يكون التقدير بما أخذ وختم عليه. للتبشير والإنذار لا لأن تقترح عليهم.
أنظر خطاب للسامع وتصريفها تأتي مرة بالنقمة ومرة بالنعمة ومرة بالترغيب ومرة بالترهيب والصدف والصدوف الإعراض والنفور ويصدفون أي يعرضون ولا يعتبرون.
{ قل أرءيتكم إن أتكم عذاب الله بغتة أو جهرة } هذا تهديد ثالث، فالأول بأحد أمرين العذاب أو الساعة، والثاني بالأخذ والختم، والثالث بالعذاب فقط. وبغتة: فجأة، لا يتقدم لكم به علم. وجهرة يبدو لكم مخايلة ثم ينزل ولما كانت البغتة تضمنت معنى الخفية صح مقابلتها للجهرة، ويبدىء به لأنها أردع من الجهرة والجملة من قوله: هل يهلك معناها النفي أي ما يهلك إلا القوم الظالمون ولذلك دخلت الا وهي في موضع المفعول الثاني لا رأيتكم، والرابط محذوف أي هل يهل به والأول من مفعولي أرأيتكم محذوف من باب الأعمال لما قررناه ولما كان التهديد شديدا جمع فيه بين أداتي الخطاب والخطاب لكفار قريش والعرب، وفي ذكر الظلم تنبيه على علة الهلاك، والمعنى هل يهل إلا أنتم لظلمكم.
{ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين } الآية، أي مبشرين بالثواب ومنذرين بالعقاب. وانتصب مبشرين ومنذرين على الحال، وفيهما معنى العلية أي أرسلناهم للتبشر والإنذار لا لأن تقترح عليهم الآيات بعد وضوح ما جاؤوا به وتبيين صحته.
{ فمن ءامن وأصلح } أي من صدق بقلبه وأصلح في عمله.
{ فلا خوف عليهم } الآية، ومعنى يمسهم العذاب جعل العذاب ماسا كأنه ذو حياة يفعل بهم ما يشاء من الآلام.
{ قل لا أقول لكم } الآية، قال الطبري: المعنى أني لا أقول لكم اني إله فاتصف بصفاته من كينونة خزائنه عندي وعلم الغيب.
{ ولا أقول لكم إني ملك } قال الزمخشري في الملائكة: هم أشرف جنس خلقه الله وأفضله وأقرب منزلة منه. " انتهى ". وهو جار على مذهب المعتزلة وقد تكلمنا على ذلك عند قوله:
ولا الملائكة المقربون
[النساء: 172]. وهذه الثلاثة أجوبة لما سأله المشركون، فالأول جواب لقولهم: إن كنت رسولا فسل الله حتى يوسع علينا خيرات الدنيا، والثاني جواب: إن كنت رسولا فأخبرنا بما يقع في المستقبل من المصالح والمضار فنستعد لتحصيل تلك ودفع هذه، والثالث جواب قولهم:
وقالوا مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق
[الفرقان: 7]. " انتهى ". وقال الزمخشري: فإن قلت: أعلم الغيب ما محله من الإعراب؟ قلت: النصب عطفا على محل قوله عندي خزائن الله، لأنه من جملة المقول كأنه قال: لا أقول لكم هذا القول ولا هذا القول. " انتهى ". ولا يتعين ما قاله بل الظاهر أنه معطوف على لا أقول لا معمول له فهو أمر أن يخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو قل وغاير في متعلق النفي فنفى قوله: عندي خزائن الله ، وقوله: إني ملك، ونفى علم الغيب ولم يأت التركيب ولا أقول: اني أعلم الغيب، لأن كونه ليس عنده خزائن الله من أرزاق العباد وقسمهم معلوم ذلك الناس كلهم فنفى ادعاءه ذلك وكونه بصورة البشر معلوم أيضا لمعرفته بولادته ونشأته بين أظهرهم فنفى أيضا ادعاءه ذلك ولم ينفهما من أصلهما لأن انتفاء ذلك من أصله معلوم عندهم فنفى أن يكابرهم في ادعاء شىء يعلمون خلافه قطعا، ولما كان علم الغيب يمكن أن يظهر على لسان البشر بل قد يدعيه كثير من الناس كالكهان وضراب الرمل والمنجمين، وكان صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأشياء من المغيبات وطابقت ما أخبر به نفي علم الغيب من أصله، فقال: ولا أعلم الغيب، تنصيصا على محض العبودية والافتقار وان ما صدر عنه من اخبار بغيب إنما هو من الوحي الوارد عليه لا من ذات نفسه.
فقال: { إن أتبع إلا ما يوحى إلي } كما قال فيما حكى الله عنه ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء، وكما أثر عنه صلى الله عليه وسلم:
" لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمني ربي "
وجاء هذا النفي على سبيل الترقي فنفى أولا ما يتعلق به رغبات الناس أجمعين من الأرزاق التي هي قوام الحياة الجسمانية ثم نفى ثانيا ما يتعلق به وتتشوق إليه النفوس الفاضلة من معرفة ما يجهلون وتعرف ما يقع من الكوائن، ثم نفى ثالثا ما هو مختص بذاته من صفة الملكية التي هي مباينة لصفة البشرية، فترقى في النقي من عام إلى خاص إلى أخص، ثم حصر ما هو عليه في أحواله كلها بقوله: ان اتبع إلا ما يوحى إلي أي أنا متبع ما أوحى الله تعالى غير شارع شيئا من جهتي فظاهره حجة لنفاة القياس.
{ قل هل يستوي الأعمى والبصير } أي لا يستوي الناظر المفكر في الآيات والمعرض الكافر الذي يهمل النظر.
{ أفلا تتفكرون } هذا عرض وتحضيض، معناه الأمر أي تفكروا ولا تكونوا ضالين أشباه العامى.
[6.51-55]
{ وأنذر به الذين يخافون } لما أخبر أنه لا يتبع إلا ما يوحى إليه أمره تعالى أن ينذر به فقال: وأنذر به أي بما أوحي إليك. وظاهر قوله: الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم عموم من خاف الحشر وآمن بالبعث.
{ إلى ربهم } أي إلى جزائه.
{ ليس لهم } هذه الجملة في موضع الحال أي في حال من لا ولي له ولا شفيع. وذو الحال الضمير في قوله: يحشروا، والعامل فيها يحشروا، ويجوز أن يكون إخبارا من الله تعالى عن صفة الحال يومئذ.
{ لعلهم يتقون } متعلق بقوله: وأنذر، أي رجاء أن يحصل لهم التقوى.
{ ولا تطرد الذين يدعون ربهم } الآية، قال سعد بن أبي وقاص: نزلت فينا ستة في وفي ابن مسعود وصهيب وعمار والمقداد وبلال. قالت قريش: انا لا نرضى أن نكون لهؤلاء أتباعا فاطردهم عنك. فنزلت: ولما أمر تعالى بإنذار غير المتقين لعلهم يتقون أردف ذلك بتقريب المتقين وإكرامهم ونهاه عن طردهم ووصفهم بموافقة ظاهرهم لباطنهم من دعاء ربهم وخلوص نياتهم. والظاهر في قوله: يدعون ربهم، يسألونه ويلجأون إليه ويقصدونه بالدعاء والرغبة.
و { بالغداة والعشي } كناية عن الزمان الدائم ولا يراد بهما خصوص زمانهما، كما تقول: الحمد لله بكرة وأصيلا، تريد على كل حال، فكني بالغداة عن النهار وبالعشي عن الليل، وخصهما بالذكر لأن الشغل فيهما غالب على الناس ومن كان في هذين الوقتين يغلب عليه ذكر الله ودعاؤه كان في وقت الفراغ أغلب عليه. وقرأ ابن عامر وجماعة بالغدوة.
{ يريدون } جملة حالية وذو الحال الواو في يدعون وهي الفاعل، ويدعون هو العامل في الحال.
و { وجهه } هو كناية عن الله تعالى إذ الجسمانية تستحيل بالنسبة إلى الله تعالى.
{ ما عليك من حسابهم } الآية، قال الزمخشري: كقوله:
إن حسابهم إلا على ربي
[الشعراء: 113]، وذلك أنهم طعنوا في دينهم وإخلاصهم. فقال: ما عليك من حسابهم من شىء، بعد شهادته لهم بالإخلاص وبإرادة وجه الله في أعمالهم وإن كان الأمر كما يقولون عند الله فما يلزمك إلا اعتبار الظاهر والاتسام بسيرة المتقين، وإن كان لهم باطن غير مرضي فحسابهم عليهم، أي لازم لهم لا يتعداهم إليك كما أن حسابك عليك لا يتعداك إليهم كقوله تعالى:
ولا تزر وازرة وزر أخرى
[الأنعام: 164]. " انتهى ". لا يمكن ما ذكره من الترديد في قوله: وإن كان الأمر إلى آخره لأنه تعالى قد أخبر أنهم يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه واخبار الله تعالى هو الصدق الذي لا شك فيه، فلا يقال فيهم وإن كان الأمر كما يقولون وإن كان لهم باطن غير مرحي لأنه فرض مخالف لما أخبر الله تعالى به من خلوص بواطنهم ونياتهم لله تعالى.
و { من شيء } في موضع المبتدأ ومن زائدة ومن حسابهم في موضع الحال لأنه لو تأخر كان في موضع الصفة، وعليك في موضع خبر المبتدأ كأنه قيل ما شيء من حسابهم كائن عليك، فالمعنى نفي حسابهم عليه، وجوابه أي النفي قوله: فتطردهم فينتفي الحساب والطرد كأنه قيل: لا حساب عليك فكيف يكون طرد، ولما نفى حسابهم عليه نفى حسابه عليهم في قوله: وما من حسابك عليهم من شىء. قال الزمخشري: فإن قلت: أما كفى قوله: ما عليك من حسابهم من شىء، حتى ضم إليه: وما من حسابك عليهم من شيء؟ قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة وقصدهما مؤدى واحد وهو المعنى في قوله:
ولا تزر وازرة وزر أخرى
[الأنعام: 164]. ولا يستقل بهذا المعنى إلا الجملتان جميعا كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه. انتهى قوله كأنه قيل: لا تؤاخذ أنت ولا هم بحساب صاحبه، تركيب غير عربي لا يجوز عود الضمير هنا غائبا ولا مخاطبا لأنه إن أعيد غائبا فلم يتقدم له اسم مفرد غائب يعود عليه. إنما تقدم قوله: ولا هم، ولا يمكن العود إليه على اعتقاد الاستغناء بالمفرد عن الجمع لأنه يصير التركيب بحساب صاحبهم وإن أعيد مخاطبا فلم يتقدم له مخاطب يعود عليه إنما تقدم قوله: لا تؤاخذ أنت ولا يمكن العود عليه لأنه ضمير مخاطب فلا يعود عليه غائبا ولو أبرزته مخاطبا لم يصح التركيب أيضا فإصلاح هذا التركيب أن يقال: لا يؤاخذ كل واحد منك ولا منهم بحساب صاحبه، أو لا تؤاخذ أنت بحسابهم ولا هم بحسابك أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم فتغلب الخطاب على الغيبة، كما تقول: أنت وزيد تضربان، وفسر الحساب هنا بالأعمال، وقيل: بالأرزاق أي كل منهما له حسابه، وقوله: فتكون من الظالمين هو جواب للنهي في قوله: ولا تطرد الذين كقوله تعالى:
لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب
[طه: 61] فصار جواب كل من النهي ومن النفي على ما يناسبه.
{ وكذلك فتنا بعضهم ببعض } الآية، الكاف للتشبيه في موضع نصب. والإشارة بذلك إلى فتون سابق وهو افتتان الكفار الذين أشاروا بطرد من كان أسلم من ضعفاء المؤمنين وهم الذين نهاهم الله تعالى عن طردهم وكنى بقوله: بعضهم، عن أولئك الكفار، وقوله: ببعض، كناية عن أولئك المؤمنين، وقوله: ليقولوا، علة للفتون. وأهؤلاء إشارة إلى أولئك المؤمنين واستحقار لهم كقول الكفار:
أهذا الذي بعث الله رسولا
[الفرقان: 41]. وكقولهم:
أءلقي الذكر عليه من بيننا
[القمر: 25].
وقوله: { من الله عليهم } أي بالدين علينا.
{ أليس الله بأعلم بالشكرين } هذا استفهام معناه التقرير والرد على أولئك القائلين أي الله أعلم بمن يشكر فيضع فيه هدايته دون من يكفر فلا يهديه.
وجاء لفظ الشكر هنا في غاية من الحسن إذ تقدم من قولهم: أهؤلاء من الله عليهم، أي أنعم عليهم، فناسب ذكر الانعام لفظ الشكر، والمعنى أنه تعالى عالم بهؤلاء المنعم عليهم الشاكرين لنعمائه، وتضمن العلم معنى الثواب والجزاء على شكرهم.
{ وإذا جآءك الذين يؤمنون } الآية، الجمهور أنها نزلت في الذين نهى الله عن طردهم فكان إذا رآهم بدأهم بالسلام وقال: الحمد لله الذي جعل في أمتي من أبدؤهم بالسلام. ولفظة الذين يؤمنون عامة في هؤلاء وفي كل مؤمن يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره تعالى بإنشاء التحية لهم.
{ كتب ربكم على نفسه الرحمة } في صحيح البخاري
" أن الله تعالى كتب كتابا فهو عنده فوق العرش ان رحمتي سبقت غضبي "
والكتب هنا كناية عن إيصال رحمته تعالى لعباده.
{ أنه من عمل منكم سوءا } الآية، السوء: الشرك. وتقدم تفسير عمل السوء في النساء.
{ ثم تاب من بعده } أي من بعد عمل السوء.
{ وأصلح } شرط استدامة الإصلاح في الشىء الذي تاب منه. وقرىء أنه فانه بفتح الهمزتين. والضمير في أنه ضمير الأمر والشأن وأنه بدل من الرحمة، والرحمة منصوب بكتب. ومن في قوله: من عمل، يجوز أن تكون شرطية، والفاء في فإنه جواب الشرط وما بعده مقدر بالمصدر. وقبله مبتدأ يكون المصدر خبره، فالتقدير فالأمر غفران الله له. ويجوز أن تكون من مبتدأ والفاء دخلت في خبره، وهذه الجملة المقدرة في موضع خبر المبتدأ الذي هو من. وقرىء: بكسر الهمزتين فيهما الأولى على جهة التفسير للرحمة والثانية في موضع الخبر أو الجواب على التقديرين في من عمل أهي شرط أو موصول. وقرىء: بفتح الأولى على البدل من الرحمة كما تقدم وبكسر الثانية على التقديرين اللذين سبقا وما أحسن مساق هذا المقول أمره أولا أن يقول للمؤمنين سلام عليكم، فبدأ أولا بالسلامة والأمن لمن آمن ثم خاطبهم ثانيا بوجوب الرحمة، وأسند الكتابة إلى ربهم أي كتب الناظر في مصالحكم والذي يربيكم ويملككم الرحمة فهذا تبشير بعموم الرحمة، ثم أبدل منها شيئا خاصا وهو غفرانه ورحمته لمن تاب وأصلح.
{ وكذلك } الآية الكاف للتشبيه. وذلك إشارة إلى التفصيل الواقع في هذه السورة أي ومثل ذلك التفصيل البين نفصل آيات القرآن ونلخصها في صفة أحوال المجرمين من هو مطبوع على قلبه لا يرجى إسلامه ومن نرى فيه إمارة القبول وهو الذي يخاف إذا سمع ذكر القيامة ومن دخل في الإسلام، إلا أنه لا يحفظ حدوده واستبان يكون لازما ومتعديا وتميم وأهل نجد يذكرون السبيل وأهل الحجاز يؤنثونها.
وقرىء: { وليستبين } بالياء سبيل بالرفع أي وليظهر.
{ سبيل المجرمين } وقرىء: ولتستبين بتاء الخطاب سبيل بالنصب، فاستبان هنا متعدية فقيل: هو خطاب للرسول عليه السلام. وقيل: له ظاهرا والمراد أمته وحض سبيل المجرمين لأنه يلزم من استبانتها استبانة سبيل المؤمنين أو يكون على حذف معطوف لدلالة المعنى عليه التقدير سبيل المجرمين والمؤمنين.
[6.56-59]
{ قل إني نهيت } الآية، أمره تعالى أن يجاهرهم بالتبريء من عبادتهم غير الله تعالى ولما ذكر تفصيل الآيات ليستبين سبيل المبطل من المحق نهاه عن سلوك سبيلهم. ومعنى نهيت: زجرت. والذين تدعون هم الأصنام، عبر عنها بالذين على زعم الكفار حين أنزلوها منزلة من يعقل وتدعون. قال ابن عباس: معناه تعبدون. وقيل: تسمونهم آلهة من دعوت ولدي زيدا سميته. وقيل: تدعون في أموركم وحوائجكم. وفي قوله: تدعون من دون الله، استجهال لهم ووصف بالاقتحام فيما كانوا منه على غير بصيرة. ولفظة نهيت، أبلغ من النفي بلا أعبد إذ فيه ورود تكليف.
{ قل لا أتبع أهوآءكم } الآية ولما كانت أصنامهم مختلفة كان لكل عابد صنم هوى يخصه فلذلك جمع.
و { إذا } معناها الجزاء أي قد ظللت ان اتبعت أهواءكم.
{ ومآ أنا من المهتدين } جملة مؤكدة لما قبلها وأتى بالأولى بقوله: ضللت. والفعل يدل على التجدد. وفي الثانية باسم الفاعل وهو المهتدين ويدل على الثبوت فنفى تجدد الضلال وثبوت الهداية.
{ قل إني على بينة من ربي } أي على شريعة واضحة. والبينة: هي المعجزة التي تبين صدقي، وكذبتم به اخبار منه عنهم أنهم كذبوا به. والظاهر عود الضمير على ربي أي وكذبتم بربي.
{ ما تستعجلون به } الذي استعجلوا به هو العذاب، والاستعجال لم يأت في القرآن إلا للعذاب.
{ إن الحكم } الآية، أي الحكم على الإطلاق، وهو الفصل بين الخصمين المختلفين بإيجاب الثواب والعقاب. وقرىء: يقضي من القضاء، والحق نعت لمصدر محذوف أي يقضي القضاء الحق. وقيل: الحق مفعول بيقضي، ومعنى يقضي يصنع قال الشاعر:
وعليهما مسرودتان قضاهما داود
أي صنعهما. وقرىء: يقص الحق من قص الحديث، كقوله:
نحن نقص عليك أحسن القصص
[يوسف: 3]، أو من قص الأثر أي اتبعه.
{ قل لو أن عندي } الآية أي لو كان في قدرتي الوصول إلى ما تستعجلون به من حلول العذاب لبادرت إليه ووقع الانفصال.
{ بيني وبينكم والله أعلم بالظالمين } الظاهر أن المعنى والله أعلم بكم فوضع الظاهر المشعر بوصفهم بالظلم موضع المضمر. ومعنى أعلم بهم، أي بمجازاتهم ففيه وعيد وتهديد.
{ وعنده مفاتح الغيب } الآية، لما قال تعالى: ان الحكم إلا بالله، وقال: وهو أعلم بالظالمين، بعد قوله: ما تستعجلون به، انتقل من خاص إلى عام، وهو علمه تعالى بجميع الأمور الغيبية واستعار للقدرة عليها المفاتح لما كانت سببا للوصول إلى الشىء فاندرج في هذا العام ما استعجلوا وقوعه وغيره. والمفاتيح جمع مفتاح بكسر الميم وهي الآلة التي يفتح بها ما أغلق. قال الزهراوي: ومفتح أفصح من مفتاح. وروى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله إن الله عنده علم الساعة "
، إلى آخر السورة.
{ لا يعلمهآ إلا هو } حصر أنه لا يعلم تلك المفاتح ولا يطلع عليها غيره تعالى، ولقد يظهر من هؤلاء المنتسبة إلى التصوف أشياء من ادعاء علم المغيبات، والاطلاع على علم عواقب أتباعهم، وأنهم معهم في الجنة مقطوع لهم ولأتباعهم بها يخبرون بذلك على رؤوس الاشهاد ولا ينكر ذلك أحد، هذا مع خلوهم عن العلوم الشرعية، يوهمون أنهم يعلمون الغيب. وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: ومن زعم أن محمدا يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية، والله تعالى يقول:
قل لا يعلم من في السموت والأرض الغيب إلا الله
[النمل: 65]. وقد كثرت هذه الدعاوي والخرافات في ديار مصر وقام بها ناس صبيان العقول يسمون بالشيوخ.
{ ويعلم ما في البر والبحر } لما كان ذكره تعالى مفاتح الغيب أمرا معقولا أخبر تعالى باستئثاره بعلمه واختصاصه به ذكر تعلق علمه بهذا المحسوس على سبيل العموم، ثم ذكر علمه بالورقة والحبة والرطب واليابس على سبيل الخصوص، فتحصل أخباره تعالى بأنه عالم بالكليات والجزئيات مستأثر بعلمه وبما نعلمه نحن. وقدم البر لكثرة مشاهدتنا لما اشتمل عليه من المدن والقرى والمفاوز والجبال والحيوان والنبات والمعادن، أو على سبيل الترقي إلى ما هو أعظم في الجملة لأن ما فيه من أجناس الحيوانات أعجب وطوله وعرضه أعظم، وما في البحر من حيوان وجواهر وغير ذلك. وعبر بلفظ ما التي هي لآحاد ما لا يعقل لكثرة أجناسه وأنواعه وأشكاله فشمل النوعين العاقل وغيره تغليبا لما لا يعقل. وقال سيبويه: ما مبهمة تقع على كل شيء. فظاهر كلامه أنها لا تختص بما لا يعقل.
و { من ورقة } من: زائدة. وورقة: فاعل بتسقط، ويعلمها مطلقا قبل السقوط ومعه وبعده، ويعلمها في موضع الحال من ورقة، وهي الحال من النكرة كما تقول: ما جاء أحد إلا راكبا.
{ ولا حبة } أتى بجزءين لطيفين: أحدهما علوي وهو سقوط ورقة من علو إلى أسفل، والثاني سفلي وهو اختفاء حبة في بطن الأرض.
{ إلا في كتب } الآية، هذا الاستثناء جار مجرى التوكيد لأن قوله: ولا حبة ولا رطب ولا يابس، معطوف على قوله: من ورقة، والاستثناء الأول منسحب عليها كما تقول: ما جاءني من رجل إلا أكرمته ولا امرأة، فالمعنى إلا أكرمتها، ولكنه لما طال الكلام عليها أعيد الاستثناء على سبيل التوكيد وحسنه كونه فاصلة رأس آية، والرطب واليابس وصفان معروفان والمراد العموم في المتصف بهما والكتاب المبين كناية عن علمه تعالى المحيط بجميع الأشياء.
[6.60-64]
{ وهو الذي يتوفكم باليل } الآية، مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر استئثاره بالعلم التام للكليات والجزئيات ذكر استئثاره بالقدرة التامة تنبيها على ما تختص به الإلهية ذكر شيئا محسوسا قاهرا للأنام وهو التوفي بالليل والبعث بالنهار، وكلاهما ليس للإنسان فيه قدرة؛ بل هو أمر يوقعه الله تعالى بالإنسان. والتوفي عبارة في العرف عن الموت، وهنا المعنى به النوم على سبيل المجاز للعلاقة التي بينه وبين الموت وهي زوال إحساسه ومعرفته وفكره.
و { جرحتم } كسبتم. ومنه جوارح الطير أي كواسبها. واجترحوا السيئات: اكتسبوها. والمراد منه أعمال الجوارح. ومنه قيل: للأعضاء جوارح. والضمير في فيه عائد على النهار، وقضاء الأجل فصل مدة العمر من غيرها.
و { مسمى } أي في علم الله تعالى.
{ ثم إليه مرجعكم } وهو المرجع إلى موقف الحساب.
{ وهو القاهر } الآية، تقدم الكلام عليها.
{ ويرسل } ظاهره أن يكون معطوفا على وهو القاهر عطف جملة فعلية على جملة إسمية وهي من آثار القهر.
و { عليكم } ظاهره أنه متعلق بيرسل كقوله تعالى:
يرسل عليكما شواظ من نار
[الرحمن: 35]. ولفظة عليكم مشعرة بالعلو والاستيلاء لتمكنهم منا جعلوا كان ذلك علينا، وجوزوا أن يكون متعلقا بحفظة أي حافظين عليكم. وحفظة: جمع حافظ، وهو قياس مطرد في فاعل كقولهم: بار وبررة.
{ حتى إذا جآء أحدكم الموت } أي أسباب الموت.
{ توفته } قبضت روحه.
{ رسلنا } جاء جمعا فعني به ملك الموت وأعوانه. والظاهر أن الرسل هنا غير الحفظة ولا تعارض بين قوله:
الله يتوفى الأنفس حين موتها
[الزمر: 42] وبين قوله:
قل يتوفاكم ملك الموت
[السجدة: 11] وبين قوله: توفته رسلنا، لأن نسبة ذلك إلى الله تعالى بالحقيقة ولغيره بالمباشرة.
{ وهم لا يفرطون } جملة حالية. والعامل فيها توفته أو استئنافية أخبر عنهم بأنهم لا يفرطون في شىء مما أمروا به من الحفظ والتوفي.
{ ثم ردوا } الظاهر عود الضمير على العباد وانتقل من ضمير الخطاب في عليكم إلى ضمير الغيبة في ردوا. وفاعل الرد المحذوف هو الله تعالى كان الأصل ثم ردهم الله. وقرىء: ردوا بكسر الراء أصله رددوا، أتبعت حركة الراء لحركة الدال ثم سكنت الدال للإدغام، فقيل: ردوا، كما قرىء ردت إلينا في سورة يوسف. وظاهر الأخبار بالرد إلى الله أنه يزاد به البعث والرجوع إلى حكم الله وجزائه يوم القيامة، ويدل عليه آخر الآية. ومولاهم: فيه اشعار بإحسانه تعالى إليهم إذ مولاهم هو سيدهم وهم عبيده، ووصفه تعالى بالحق معناه العدل أي الذي لا يحكم إلا بالحق.
{ ألا له الحكم } تنبيه منه تعالى عباده بأن أنواع التصرفات جميعها له.
{ وهو أسرع الحاسبين } تقدم الكلام عليه في سرعة حسابه تعالى في قوله:
والله سريع الحساب
[البقرة: 202، النور: 39].
{ قل من ينجيكم } الآية، لما تقدم ذكره تعالى دلائل على ألوهيته من العلم التام والقدرة الكاملة، ذكر نوعا من أثرهما وهو الإنجاء من الشدائد، وهو استفهام يراد به التقرير والإنكار والتوبيخ والتوقيف على سوء معتقد من عبد الأصنام وترك الذي ينجي من الشدائد ويلجأ إليه في كشفها. والظلمات: أريد بها حقيقة الظلمة، وجمعت باعتبار مواردها ففي البر والبحر ظلمة الليل وظلمة السحاب وظلمة الصواعق، وفي البر أيضا ظلمة الغبار وظلمة الغيم وظلمة الريح، وفي البحر أيضا ظلمة الأمواج، ويكون ذلك على حذف مضاف التقدير من مهالك ظلمة البر والبحر ومخاوفهما. وأكثر المفسرين على أن الظلمات مجاز عن شدائد البر والبحر ومخاوفهما وأهوالهما. والعرب تقول: يوم أسود، ويوم مظلم، ويوم ذو كواكب.
و { تدعونه } جملة حالية. وذو الحال ضمير الخطاب أي تنادونه مظهري الحاجة إليه ومخفيها. والتضرع وصف باد على الإنسان. والخفية: الإخفاء. وقال الحسن: تضرعا: علانية. وخفية أي نية، وانتصبا على المصدر أي تتضرعون تضرعا وتخفون خفية.
{ لئن أنجانا } قبله قسم محذوف، واللام هي الموطئة لجواب القسم وهو لنكونن. والإشارة بهذه إلى الظلمات. وأن شرطية بعد اللام وجوابها محذوف لدلالة جواب القسم عليه.
{ قل الله ينجيكم منها } الضمير في منها عائد على ما أشير إليه بقوله: من هذه، ومن كل معطوف على الضمير المجرور وأعيد معه الخافض، وأمره تعالى بالمسابقة إلى الجواب ليكون هو صلى الله عليه وسلم أسبق إلى الخير وإلى الاعتراف بالحق. ثم ذكر أنه تعالى ينجي من هذه الشدائد التي حضرتهم.
{ ومن كل كرب } فعم بعد التحضيض ثم ذكر قبح ما يأتون به بعد ذلك وبعد إفراده بالدعاء والتضرع ووعدهم إياه بالشكر من إشراكهم معه في العبادة غيره. قال ابن عطية: وعطف بثم للمهلة التي تبين قبح فعلهم أي ثم بعد معرفتكم بهذا كله، وتحققه أنتم تشركون. " انتهى ".
[6.65-69]
{ قل هو القادر } الآية، لما نزلت استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال في الثالثة: هذه أهون أو أيسر. والظاهر أن الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، والآية متضمنة للوعيد.
{ عذابا من فوقكم } كما فعل بقوم لوط وكما فعل بأصحاب الفيل أرسل عليهما حجارة من سجيل.
{ أو من تحت أرجلكم } كما فعل بقارون وبداره. قال تعالى:
فخسفنا به وبداره الأرض
[القصص: 81]. ويذيق بعضكم كما جرى في حرب صفين بين علي رضي الله عنه ومعاوية، وكما جرى بين علي والخوارج، وكل هؤلاء مسلمون مؤمنون.
{ أو يلبسكم } أي يخلطكم.
{ شيعا } جمع شيعة. وانتصب على الحال أي يخلطكم متشايعين فرقا مختلفة. والبأس: الشدة.
{ انظر كيف نصرف الآيات } هذه استرجاع لهم ولفظة تعجب له عليه السلام. والمعنى أنا نسلك في مجيء الآيات أنواعا رجاء أن يفقهوا ويفهموا عن الله لأن في اختلاف الآيات ما يقتضي الفهم إن عزبت آية كم تعزب أخرى.
{ وكذب به } الضمير عائد على القرآن. ويدل عليه ذكر الآيات قبله.
{ وهو الحق } جملة استئناف أخبر بأن القرآن هو الحق، ويجوز أن يكون حالا من الضمير في به وهو أشنع عليهم في التكذيب بشىء هو الحق.
{ قل لست عليكم بوكيل } أي لست بقائم عليكم لأكرهكم على التوحيد.
{ لكل نبإ مستقر } أي لكل شىء ينبأ به وقت استقرار وحصول لا بد منه.
{ وسوف تعلمون } مبالغة في التهديد والوعيد.
{ وإذا رأيت الذين يخوضون } الآية، هذا خطاب له صلى الله عليه وسلم ويدخل فيه المؤمنون لأن علة النهي وهو سماع الخوض في آيات الله يشمله وإياهم. ورأيت هنا بصرية ولذلك تعدت إلى واحد ولا بد من تقدير حال محذوفة، أي وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا وهو خائضون فيها والخوض أصله في الماء شبه تنقلهم في آيات الله بالخوض في الماء وتنقلهم قولهم في الآيات: هذا سحر هذا افتراء هذه أساطير الأولين.
{ فأعرض عنهم } أمر له عليه السلام بالإعراض عنهم وهو تركهم بالنية والجلوس معهم ببينة قوله تعالى:
وقد نزل عليكم
[النساء: 140]، الآية،
فلا تقعدوا معهم
[النساء: 140].
{ وإما ينسينك الشيطن } أي يشغلك عن النهي عن مجالستهم.
{ فلا تقعد } معهم.
{ بعد الذكرى } أي ذكرك النهي. وما أحسن مجيء الشرط الأول بإذا التي هي للتحقق لأن كونهم يخوضون في الآيات محقق، ومجيء الشرط الثاني بأن لأن أن لغير المحقق، وجاء مع القوم الظالمين تنبيها على علة الخوض في الآيات والطعن فيها، وأن سبب ذلك ظلمهم وهو مجاوزة الحد. وما زائدة بعد أن الشرطية والفعل قد لحقته النون الشديدة وكثر ذلك في القرآن. قال تعالى:
فإما نذهبن بك
[الزخرف: 41]
وإما ينزغنك
[الأعراف: 200، فصلت: 36]، ويجوز حذف ما في غير القرآن، وحذف نون التوكيد، وحذف إيهما شئت فتقول: ان ما تقم أقم، وان تقومن أقم، نص على ذلك سيبويه. قال الزمخشري: ويجوز أن يراد وإن كان الشيطان ينسيك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين لأنها مما تنكره العقول. فلا تقعد بعد الذكرى أي بعد أن ذكرناك قبحها ونبهناك عليه معهم. " انتهى ". وهذا خلاف ظاهر الشرط لأنه قد نهى عن القعود معهم قبل. ثم عطف على الشرط السابق هذا الشرط وكله مستقبل.
{ وما على الذين يتقون } هم المؤمنون. والضمير في حسابهم عائد على المستهزئين الخائضين في الآيات روي أن المؤمنين قالوا لما نزلت: فلا تقعدوا معهم. قالوا: لا يمكننا طواف ولا عبادة في الحرم. فنزلت:
{ من شيء } من: زائدة. وشىء: مبتدأ خبره على الذين. وذكرى يحتمل أن تكون في موضع نصب أي ولكن يذكرونهم ذكرى أو ذكروهم أو في موضع رفع أي ولكن عليهم ذكرى.
{ لعلهم يتقون } الوعيد بتذكيركم إياهم. قال الزمخشري: ولا يجوز أن يكون عطفا على محل من شىء كقولك: ما في الدار من أحد ولكن زيد، لأن قوله: من حسابهم، يأبى ذلك. " انتهى ". كأنه تخيل أن في العطف يلزم القيد الذي في المعطوف عليه وهو من حسابهم لأنه قيد في شىء فلا يجوز عنده أن يكون من عطف المفردات عطفا على من شىء على الموضع لأنه يصير التقدير عنده، ولكن ذكرى من حسابهم. وليس المعنى على هذا وهذا الذي تخيله ليس بشىء. لأنه لا يلزم في العطف بولكن ما ذكر تقول: ما عندنا رجل سوء ولكن رجل صدق، وما عندنا رجل من تميم ولكن رجل من قريش، وما قام من رجل عالم ولكن رجل جاهل. فعلى هذا الذي قررناه يجوز أن يكون من قبيل عطف الجمل كما تقدم، ويجوز أن يكون من عطف المفردات والعطف إنما هو للواو ودخلت لكن للإستدراك.
[6.70-72]
{ وذر الذين اتخذوا } الآية، هذا أمر بتركهم وكان ذلك لقلة اتباع الإسلام حينئذ ودينهم ما كانوا عليه من البحائر والسوائب والحوامي والوصائل وعبادة الأصنام والطواف حول البيت عراة يصفقون ويصفرون.
{ وذكر به } الضمير في به عائد على القرآن.
و { تبسل } قال ابن عباس: تفضح. وقال قتادة: تحبس وترتهن. وأن تبل اتفقوا على أنه في موضع المفعول من أجله وقدروا كراهة أن تبسل ومخافة أن تبسل ولئلا تبسل. ويجوز عندي أن يكون في موضع جر على البدل من الضمير. والضمير مفسر بالبدل وأضمر الابسال لما في الاضمار من التفخيم، كما أضمروا ضمير الأمر والشأن وفسر بالبدل وهو الإبسال فالتقدير وذكر بارتهان النفوس وحسبها بما كسبت. وقد روي:
إذا هي لم تستك بعود اراكة
تنحل فاستاكت به عود أسحل
بجر عود على أنه بدل من الضمير.
{ ليس لها } هذه جملة استئناف اخبار.
و { من دون الله } أي من دون عذاب الله.
{ ولي } فينصرها.
{ ولا شفيع } فيدفع عنها بمسألته.
{ وإن تعدل } أي وإن تفد كل فداء. والعدل: الفدية، لأن الفادي يعدل الفداء بمثله.
{ أولئك الذين أبسلوا } الظاهر أنه يعود على الذين اتخذوا دينهم. وقال ابن عطية: أولئك إشارة إلى الحبس المدلول عليه بقوله: أن تبسل، نفس الآية.
{ لهم شراب من حميم } الحميم: الماء الحار. والأظهر أنها جملة استئناف اخبار، ويحتمل أن تكون حالا. وشراب بمعنى مفعول كطعام بمعنى مطعوم، ولا ينقاس فعال بمعنى مفعول، لا يقال: ضراب ولا قتال بمعنى مضروب ومقتول.
{ قل أندعوا من دون الله } الآية، هذا استفهام بمعنى الإنكار أي لا يقع شىء من هذا من دون الله النافع الضار المبدع للأشياء القادر.
قوله و: { ما لا ينفعنا } إذ هي أصنام خشب وحجارة وغير ذلك.
{ ونرد } معطوف على أندعو وهو داخل في استفهام التقرير.
{ على أعقابنا } أي إلى الشرك أي رد القهقرى إلى وراء وهي المشية الدنية. واستعمل المثل بها فيمن رجع من خير إلى شر. قال الطبري وغيره: الرد على العقب يستعمل فيمن أمل أمرا فخاب أمله.
{ كالذي } الآية، في موضع نصب على أنه نعت لمصدر محذوف أي ردا مثل رد الذي. والأحسن أن يكون حالا أي كائنين كالذي. والذي ظاهره أنه مفرد ويجوز أن يراد به معنى الجمع أي كالفريق الذي استهوته الشياطين حمله الزمخشري على أنه من الهوى الذي هو المودة والميل كأنه قيل: كالذي أمالته الشياطين عن الطريق الواضح إلى المهمة القفر وحمله غيره كأبي علي على أنه من الهوى أي ألقته في هوة، ويكون استفعل بمعنى أفعل نحو استزل وأزل.
{ في الأرض } متعلق باستهوته.
{ حيران } حال من ضمير النصب في استهوته وهو لا ينصرف ومؤنثه حيرى.
{ له أصحاب } قال الزمخشري: أي لهذا المستوى أصحاب رفقة.
{ يدعونه إلى الهدى } أي إلى أن يهدوه إلى الطريق المستوي. قال ابن عباس في معنى الآية: مثل عابد الصنم مثل من دعاه الغول فيتبعه فيصبح وقد ألقته في مهمة ومهلكة فهو حائر في تلك المهامة.
{ ائتنا } معمول لقول محذوف تقديره قائلين إئتنا وهو من الإتيان بمعنى جيء إلينا.
{ قل إن هدى الله هو الهدى } من قال ان قوله: له أصحاب، يعني به من الشياطين. وأن قوله: إلى الهدى، بزعمهم كانت هذه الجملة ردا عليهم أي ليس ما زعمتم هدى بل هو كفر وإنما الهدى هدى الله وهو الإيمان. ومن قال ان قوله: له أصحاب مثل للمؤمنين الداعين إلى الهدى الذي هو الإيمان كانت اخبارا بأن الهدى هدى الله من شاء لا أنه يلزم من دعائهم إلى الهدى وقوع الهداية بل ذلك بيد الله تعالى من هداه اهتدى.
{ وأمرنا لنسلم لرب العالمين } الظاهر أن اللام لام كي، ومفعول أمرنا الثاني محذوف وقدروه وأمرنا بالإخلاص لكن ننقاد ونستسلم. قال ابن عطية: ومذهب سيبويه أن لنسلم هو موضع المفعول، وأن قولك: أمرت لأقوم وأمرت أن أقوم يجريان سواء. " انتهى ". وما ذكره ابن عطية عن سيبويه ليس كما ذكر بل ذلك مذهب الكسائي والفراء زعما أن لام كي تقع في موضع أن في أردت وأمرت. قال تعالى:
يريد الله ليبين لكم
[النساء: 26].
{ وأن أقيموا } أن مصدرية دخلت على الأمر فيسبك منه مصدر ولا يلحظ فيه معنى الأمر ويكون معطوفا على قوله: لنسلم، أي للاستسلام ولإقامة الصلاة. والضمير في واتقوه عائد على رب العالمين.
{ واتقوه } معطوف على أقيموا فيكون مأمورا بالإخلاص للإسلام ولإقامة الصلاة ولتقوى الله.
{ وهو الذي إليه تحشرون } جملة خبرية تتضمن التنبيه والتخويف لمن ترك امتثال ما أمر به من الإسلام والصلاة، واتقاء الله تعالى، وإنما تظهر ثمرات فعل هذه الأعمال وحسرات تركها يوم الحشر والقيامة.
[6.73-78]
{ وهو الذي خلق السموت والأرض بالحق } الآية، لما ذكر أنه تعالى إلى جزائه يحشر العالم وهو منتهى ما يؤول إليه أمرهم ذكر مبتدأ وجود العالم واختراعه له بالحق أي بما هو حق لا عبث فيه ولا هو باطل أي لم يخلقهما باطلا ولا عبثا، بل صدرا عن حكمة وصواب وليستدل بهما على وجود الصانع أن هذه المخلوقات العظيمة الظاهر عليها سمات الحدوث لا بد لها من صانع واحد عالم قادر مريد جل وتعالى.
{ ويوم يقول } خبر المبتدأ وهو قوله: والحق، صفة والتقدير قوله: الحق كائن يوم يقول، كما تقول: اليوم القتال.
و { كن } معمول ليقول.
و { فيكون } خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو يكون وهذا تمثيل لإخراج الشيء من العدم إلى الوجود وسرعته إلا أن ثم شيئا يؤمر.
{ وله الملك } الملك مبتدأ وخبره المجرور قبله. ويوم: منصوب بما تعلق به الجار والمجرور، أي الملك كائن له.
{ يوم ينفخ في الصور } كقوله تعالى:
لمن الملك اليوم
[غافر: 16].
{ علم } خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو عالم.
{ وهو الحكيم الخبير } لما ذكر خلق الخلق وسرعة إيجاده لما يشاء وتضمن البعث إفناءهم قبل ذلك ناسب ذكر الوصف بالحكيم، ولما ذكر أنه عالم الغيب والشهادة ناسب ذكر الوصف بالخبير، إذ هي صفة تدل على علم ما لطف إدراكه من الأشياء.
{ وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر } الآية، لما ذكر بقوله:
قل أندعوا من دون الله ما لا ينفعنا ولا يضرنا
[الأنعام: 71]، ناسب ذكر هذه الآية هنا وكان التذكار بقصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه وقومه أنسب لرجوع العرب إليه إذ هو جدهم الأعلى، فذكروا بأن إنكار هذا النبي محمد صلى الله عليه وسلم عليكم عبادة الأصنام هو مثل إنكار جدكم إبراهيم على أبيه وقومه عبادتها. وفي ذلك التنبيه على اقتفاء من سلف من صالحي الآباء والأجداد وهم وسائر الطوائف يعظمون إبراهيم عليه السلام. والظاهر أن آزر اسم أبيه. قال ابن عباس وغيره: وفي كتب التواريخ أن اسمه بالسريانية تارخ، فعلى هذا يكون له اسمان كيعقوب وإسرائيل. وهو عطف بيان أو بدل وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة، وقرىء: آزر بالضم على النداء أي يا آزر.
{ أتتخذ أصناما } معمول لقال وهو استفهام معناه الإنكار والتوبيخ.
{ أصناما آلهة } مفعولان لتتخذ وبدأ بقوله: أصناما، تقبيحا وتبعيدا لأن يتخذ ما كان من حجر أو خشب معبودات آلهة لما أنكر على أبيه أخبر أنه وقومه في ضلال وجعلهم مظروفين للضلال أبلغ من وصفهم بالضلال كان الضلال صار ظرفا لهم.
و { مبين } ظاهر.
{ وكذلك نري إبراهيم } الآية. هذه جملة اعتراض بين قوله تعالى: { وإذ قال إبراهيم } ، من منكرا على أبيه عبادة الأصنام، وبين جملة الاستدلال عليهم بإفراد المعبود الحق، وكونه لا يشبه المخلوقين وهي قوله: { فلما جن عليه الليل } ، والكاف في كذلك للتشبيه وذلك إشارة إلى الرؤية المفهومة من قوله: أني أراك أي مثل تلك الرؤية نرى.
ونرى بمعنى أرأينا، ويجوز أن تكون الكاف للتعليل بمعنى اللام كأنه قيل: وكذلك.
و { ملكوت } بمعنى: الملك. كالرحموت بمعنى: الرحمة. والرغبوت بمعنى: الرغبة. وفي هذا البناء على فعلوت اشعار بالتكثير. والإراءة هنا بمعنى: الإبصار، لأنها تعدت إلى اثنين الأول إبراهيم والثاني ملكوت. والهمزة فيها للنقل أرأيته جعلته يرى فأصل الفعل رأى بمعنى أبصر يتعدى إلى واحد فلما أدخل همزة النقل تعدى إلى اثنين. وروي عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" كشف الله له السماوات والأرض حتى العرش وأسفل الأرضين "
، فليس المعنى مجرد الإبصار ولكن وقع له معها من الإعتبار والعلم ما لم يقع لأحد من أهل زمانه الذين بعث إليهم، قاله ابن عباس. وقال الشاعر :
ولكن للعيان لطيف معنى
له سأل المعاينة الخليل
{ وليكون من الموقنين } أي أريناه الملكوت.
{ فلما جن عليه الليل } الآية، هذه الجملة معطوفة على قوله: وإذ قال إبراهيم، على قول من جعل وكذلك نرى اعتراضا وهو قول الزمخشري. وقال ابن عطية: الفاء في قوله: فلما، رابطة جملة ما بعدها بما قبلها وهي ترجح أن المراد بالملكوت هو هذا التفصيل الذي في هذه الآية. جنى عليه وأجن أظلم هذا تفسير المعنى، وهو بمعنى ستر متعديا. قال الشاعر:
وما وردت قبيل الكرى
وقد جنه السدف الأدهم
{ رأى } جواب لما.
{ كوكبا } هو الزهرة، قاله ابن عباس. ووزنه فوعل عند البصريين فالواو زائدة وأصوله الكافان والباء. وقال الصاغاني. حق لفظ كوكب أن يذكر تركيب و ك ب عند حذاق النحويين فإنها صدرت بكاف زائدة عندهم إلا أن الجوهري أوردها في تركيب ك و ك ب، ولعله تبع نية الليث فإنه ذكره في الرباعي ذاهبا إلى أن الواو أصلية. " انتهى ". وليت شعري من حذاق النحويين الذين تكون الكاف عندهم من حروف الزيادة فضلا عن زيادتها في أول الكلمة، والكاف ليست من حروف الزيادة.
{ قال هذا ربي } استئناف كلام من إبراهيم حين رأى الكوكب. ولا يريد بذلك الإعتقاد وإنما ذلك مثل أن ترى رجلا ضعيف القوة لا يكاد ينهض فيقول إنسان: هذا ناصري، بمعنى أنه لا يقدر على نصرتي مثل هذا. وقال الزمخشري: كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والشمس والقمر والكواكب فأراد أن ينبههم على الخطأ في دينهم وأن يرشدهم إلى طريق النظر والاستدلال ويعرفهم أن النظر الصحيح مؤد إلى أن شيئا منها لا يصح أن يكون إلها لقيام دليل الحدوث فيها، وإن وراءها محدثا أحدثها وصانعا صنعها ومدبرا دبر طلوعها وأفولها وانتقالها وسيرها وسائر أحوالها.
" انتهى ".
{ فلمآ أفل } أفل يأفل أفولا، أي غاب. قال ذو الرمة:
مصابيح ليست باللواتي تقودها
نجوم ولا بالآفلات الدوالك
{ لا أحب الآفلين } أي عبادة الآفلين المتغيرين عن حال إلى حال المنتقلين من مكان إلى مكان، فإن ذلك من صفات الاجرام، والله تعالى منزه عن ذلك.
{ فلمآ رأى القمر بازغا قال هذا ربي } لم يأت في الكوكب بازغا لأنه أولا ما ارتقب حتى يبزغ الكوكب لأنه بإظلام الليل تظهر الكواكب بخلاف حاله مع القمر والشمس فإنه لما أوضح لهم أن هذا النير هو الكوكب الذي رآه لا يصلح أن يكون ربا، وارتقب ما هو أنور منه وأضوأ على سبيل إلحاقه بالكوكب والاستدلال على أنه لا يصلح للعبادة، فرآه أول طلوعه وهو البزوع ثم عمل كذلك في الشمس ارتقبها إذ كانت أنور من القمر وأضوأ وأكبر جرما وأعلم نفعا ومنها يستمد القمر على ما قيل، فقال: ذلك على سبيل الاحتجاج عليهم وبين أنها مساوية للقمر والكوكب في صفة الحدوث.
{ لئن لم يهدني ربي } تنبيه لقومه على أن من اتخذ القمر إلها وهو نظير الكوكب في الأفول فهو ضال فإن الهداية إلى الحق بتوفيق الله تعالى.
{ فلما رأى الشمس بازغة } المشهور في الشمس أنها مؤنثة. وقيل: تذكر وتؤنث. فأنثت أولا على المشهور وذكرت في الإشارة على اللغة القليلة مراعاة ومناسبة للخبر فرجحت لغة التذكير التي هي أقل على لغة التأنيث. ويمكن أن يقال أن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر ولا في الإشارة بين المذكر والمؤنث ولا علامة عندهم للتأنيث، بل المذكر والمؤنث سواء في ذلك عندهم، فلذلك أشار للمؤنث عندنا حين حكى كلام إبراهيم لما يشار به إلى المذكر، بل لو كان المؤنث بفرج لم تكن لهم علامة تدل عليه في كلامهم. وحين أخبر تعالى عنها بقوله: بازغة، وأفلت، أنث على مقتضى العربية إذ ليس ذلك بحكاية. ولما أفلت الشمس ولم يبق شىء يمثل لهم به وظهرت حجته وقوي بذلك على منابذتهم تبرأ من شركهم وناداهم بقوله:
{ يقوم } لينبههم على تحقيق براءته من الشرك.
[6.79-83]
{ إني وجهت وجهي } الآية. وهذا من التجنيس المغاير الأول فعل والثاني اسم والمعنى قصدي وعبادتي.
{ للذي فطر السموت } السماوات ظرف للكواكب والشمس والقمر معبوداتهم من دون الله تعالى.
{ والأرض } ذكر الظرف الذي فيه أصنامهم المتخذة من الخشب والحجارة . وانتصب: { حنيفا } ، على الحال. وذو الحال الثاني وجهت. والعامل فيها الفعل وتقدم تفسير الحنيف وهو المائل عن الأديان كلها إلى دين الحق. وختم ذلك بانتفاء كونه من المشركين وما أحسن ختم هذه الجمل، ختم أولا في رؤية الكوكب بقوله: لا أحب الآفلين، وثانيا في تعليق الضلالة على انتفاء الهداية، وثالثا في البراءة من الشرك، ورابعا على سبيل التوكيد في انتفائه أن يكون من المشركين.
{ وحآجه قومه } المحاجة: مفاعلة من اثنين مختلفين في حكمين يولي كل واحد منهما بحجته على صحة دعواه، والمعنى وحاجه قومه في توحيد الله تعالى ونفي الشركاء عنه منكرين لذلك ومحاجة مثل هؤلاء إنما هي بالتمسك باقتفاء آبائهم تقليدا وبالتخويف مما يعبدونه من الأصنام كقول قوم هود: ان تقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء، فأجابهم بأن الله تعالى قد هداه بالبرهان القاطع على توحيده ورفض ما سواه، وأنه لا يخاف من آلهتهم.
{ وقد هدان } جملة حالية.
{ ولا أخاف } استئناف اخبار.
و { إلا أن يشآء ربي } إستثناء منقطع، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضرا استثنى مشيئة الله تعالى.
{ وسع ربي كل شيء علما } ذكر عقب الاستثناء سعة علم الله تعالى في تعلقه بجميع الكوائن وانتصب علما على التمييز المحول من الفاعل أصله وسع علم ربي كل شيء وأكثر ما يجيء التمييز المحول من الفاعل مع الفعل اللازم نحو: تصبب زيد عرقا، وهنا جاء مع الفعل المتعدي لأن كل شىء مفعول بوسع ووسع متعد قال تعالى:
وسع كرسيه السموت
[البقرة: 255].
{ أفلا تتذكرون } تنبيه لهم على غفلتهم حيث عبدوا ما لا يضر ولا ينفع وأشركوا بالله وعلى ما حاجهم به من إظهار الدلائل التي أقامها على عدم صلاحية هذه الأصناف للربوبية.
{ وكيف أخاف مآ أشركتم } هذا استفهام معناه التعجب والإنكار كأنه تعجب من فساد عقولهم حيث خوفوه خشبا وحجارة لا تضر ولا تنفع، وهم لا يخافون عقبى شركهم بالله تعالى وهو الذي بيده النفع والضر والأمر كله.
{ ولا تخافون } معطوف على أخاف فهو داخل في التعجب والإنكار واختلف متعلق الخوف فبالنسبة إلى إبراهيم علق الخوف بالأصنام وبالنسبة إليهم علقه بإشراكهم بالله تركا للمقابلة ولئلا يكون الله تعالى عديل أصنامهم لو كان التركيب ولا تخافون الله وأتى بلفظ ما الموضوعة لما لا يعقل لأن الأصنام لا تعقل إذ هي خشب وحجارة وكواكب. والسلطان: الحجة. والإشراك لا يصح أن يكون عليه حجة وكأنه أقام الدليل العقلي على بطلان الشركاء وربوبيتهم نفي أيضا أن يكون على ذلك دليل سمعي، فالمعنى أن ذلك ممتنع عقلا وسمعا فوجب إطراحه.
{ فأي الفريقين أحق بالأمن } لما خوفوه في مكان الأمن ولم يخافوا في مكان الخوف، أبرز الاستفهام في صورة الاحتمال وإن كان قد علم قطعا أنه هو الآمن لا هم، قال الشاعر:
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن
أيي وأيك فارس الأحزاب
أي أينا. ومعلوم عنده أنه فارس الأحزاب لا المخاطب، وأضاف أيا إلى الفريقين ويعني فريق المشركين وفريق الموحدين وأعدل عن أينا أحق بالأمن أنا أم أنتم احترازا من تجريد نفسه فيكون ذلك تزكية لها. وجواب الشرط محذوف أي إن كتم ذوي العلم والاستبصار فأخبروني أي هذين الفريقين أحق بالأمن.
{ الذين آمنوا } الآية الظاهر أنه من كلام إبراهيم لما استفهم استفهام عالم بمن هو الآمن نص على من له الأمن فقال: الذين آمنوا. الذين خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين أو مبتدأ.
و { أولئك } مبتدأ ثان.
و { لهم الأمن } خبر أولئك، والجملة من أولئك وما بعده خبر عن الأول ولم يلبسوا يحتمل أن يكون معطوفا على الصلة فلا موضع لها من الإعراب، ويحتمل أن تكون الجملة المنفية حالا والعامل فيها آمنوا أي آمنوا غير لابسي إيمانهم بظلم. وما ذهب إليه ابن عصفور من أن وقوع الجملة المنفية بلم قليل جدا ليس كذلك. ألا ترى إلى قوله:
فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء
[آل عمران: 174]. وكذلك ما ذهب إليه ابن خروف من وجوب الواو فيها إذا كان فيها ضمير يعود على ذي الحال خطأ. ألا ترى إلى قوله: لم يمسسهم، فيه ضمير يعود على ذي الحال، وهو ضمير النصب في يمسسهم ولم تدخل الواو على لم.
{ وتلك حجتنآ ءاتينهآ إبرهيم } الآية. الإشارة بتلك الى ما وقع به الاحتجاج من قوله: فلما جن عليه الليل إلى قوله: وهم مهتدون، هذا هو الظاهر وأضافها إليه تعالى على سبيل التشريف وكان المضاف إليه بنون العظمة لا بياء المتكلم. وآتيناها أي أحضرناها بيانا له وخلقناها في نفسه إذ هي من الحجج العقلية أو آتيناها بوحي منا ولقناه إياها. وتلك مبتدأ وحجتنا خبره، وآتيناها خبر ثان.
{ على قومه } في موضع الحال من الهاء في آتيناها أي آتيناها مستعلية على قومه هو على حذف مضاف تقديره على حجج قومه.
{ نرفع درجت من نشآء } أي مراتب ومنزلة من نشاء. وأصل الدرجات في المكان ورفعها بالحجة والبيان. وقرىء: درجات بالتنوين فمن مفعول بنرفع، ودرجات منصوب على الظرف أي في درجات. وقرىء: مضافا لمن فدرجات مفعول بنرفع.
{ إن ربك } الظاهر أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بقوله: وتلك حجتنا إلى آخره.
[6.84-90]
{ ووهبنا له إسحاق } الآية. هذه الجملة معطوفة على قوله: { وتلك حجتنآ } ، عطف جملة فعلية على إسمية. قال ابن عطية: ووهبنا، عطف على آتيناها. " انتهى ". لا يصح هذا لأن آتيناها لها موضع من الإعراب، إما خبر، وإما حال، ولا يصح في ووهبنا شىء منهما وذكر ما من عليه به من هبته له هذا النبي الذي تفرعت منه أنبياء بني إسرائيل.
{ كلا هدينا } أي كل واحد من إسحاق ويعقوب هدينا وفي قوله: من قبل تنبيها على قدمه، وفي ذكره لطيفة وهو أن نوحا عليه السلام عبدت الأصنام في زمانه وقومه أول قوم عبدوا الأصنام ووحد هو الله تعالى، وكذلك إبراهيم عبدت الأصنام في زمانه ووحد هو الله تعالى ودعا برفضها.
{ ومن ذريته } الضمير عائد على نوح لأنه أقرب مذكور ولأن في المذكورين لوطا، وليس هو من ذرية إبراهيم لأنه ابن أخيه فهو من ذرية نوح عليه السلام.
{ داوود وسليمان } وقدم داود لتقدمه في الزمان، ولكونه صاحب كتاب، ولكونه أصلا لسليمان وهو فرعه .
{ وأيوب ويوسف } قرنهما لاشتراكهما في الامتحان أيوب بالبلاء في جسده ونبذ قومه له، ويوسف بالسجن وتغريبه عن أهله، وفي مآلهما إلا السلامة والعافية. وقدم أيوب لأنه أعظم في الامتحان.
{ وموسى وهارون } قرنهما لاشتراكهما في الاخوة. وقدم موسى عليه السلام لأنه كليم الله وصاحب كتاب وهو التوراة والمعجزات التي ذكرها الله تعالى في كتابه.
{ وكذلك نجزي المحسنين } أي مثل ذلك الجزاء من إيتاء الحجة وهبة الأولاد الخيرين نجزي من كان محسنا في عبادتنا مراقبا في أعماله لنا.
{ وزكريا ويحيى وعيسى وإلياس } قرن بينهم لاشتراكهم في الزهد الشديد والإعراض عن الدنيا. وبدأ بزكريا ويحيى لسبقهما عيسى في الزمان، وقدم بزكريا لأنه والد يحيى فهو أصل ويحيى فرع. وقدم عيسى لأنه صاحب كتاب ودائرة متسعة. وتقدم ذكر أنساب هؤلاء الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إلا الياس، وهو الياس بن بشير بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران، وقيل: الياس هو الخضر عليه السلام. وفي ذكر عيسى عليه السلام هنا دليل على أن ابن البنت داخل في الذرية وبهذه الآية استدل على دخوله في الوقف على الذرية، وسواء أكان الضمير في ومن ذريته عائدا على نوح أو على إبراهيم فنقول الحسن والحسين ابنا فاطمة رضي الله عنهم هما من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبهذه الآية استدل أبو جعفر الباقر ويحيى بن يعمر على ذلك، وكان الحجاج بن يوسف طلب منهما الدليل على ذلك إذ كان هو ينكر ذلك فسكت في قصتين جرتا لهما معه.
{ كل من الصالحين } لا يختص كل بهؤلاء الأربعة بل يعم جميع من سبق ذكره.
{ وإسماعيل } هو ابن إبراهيم من هاجر وهو أكبر ولده. وقيل: هو نبي من بني إسرائيل وكان زمان طالوت وهو المعني بقوله:
ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله
[البقرة: 246].
{ واليسع } قرأ الجمهور: واليسع، كأن أل دخلت على مضارع وسع يسع فقيل: هو عربي دخلت أل عليه. وقرىء: والليسع على وزن فيعل كضيغم، والصحيح أنه في القراءتين أعجمي لزمته أل في القراءتين. وقال ابن مالك: ما قارنت أل نقله كالمسمى بالنضر أو بالنعمان أو ارتجاله كاليسع والسمؤل فإن الأغلب ثبوت أل فيه، وهذه الأسماء لا تنصرف للعلمية والعجمة الا اليسع فإنه منصرف يجر بالكسرة ولا ينون وإلا لوطا ونوحا فإنهما مصروفان لخفة البناء وسكون وسطهما وإن كانت العلتان موجودتين فيهما وهما العلمية والعجمة الشخصية.
{ وكلا فضلنا على العالمين } فيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الأولياء. فالبعض من ينتمي إلى التصوف في زعمهم أن الولي أفضل من النبي كمحمد بن العربي الحاتمي صاحب كتاب الفصوص، وكتاب الفتوح المكية، وعنقا مغرب وغيرهما من كتب الضلال وفيه دلالة على أن الأنبياء أفضل من الملائكة لعموم العالمين وهم الموجودون سوى الله تعالى فيندرج في العموم الملائكة.
{ ومن آبائهم وذرياتهم } المجرور في موضع نصب. قال الزمخشري: عطفا على كلا بمعنى وفضلنا بعض آبائهم فمن للتبعيض، والمراد من آمن منهم نبيا كان أو غير نبي.
{ واجتبيناهم } عطف على فضلنا أي اصطفيناهم وكرر الهداية على سبيل التوضيح والتوكيد.
{ ذلك } إشارة إلى الهدى السابق. وفيه دليل على أن الهدى بمشيئة الله تعالى.
{ ولو أشركوا } فرض تقديري لا يقع من الأنبياء عليهم السلام كقوله تعالى:
لئن أشركت ليحبطن عملك
[الزمر: 65]. والحبوط مترتب على مستحيل إذ الأنبياء معصومون فلا يمكن أن يقع منهم إشراك البتة.
{ أولئك } إشارة إلى من سبق ذكره فذكر ما فضلوا به.
و { الكتاب } جنس للكتب الإلهية كصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل والزبور.
{ والحكم } الحكمة، أو الحكم بين الخصوم.
{ فإن يكفر بها } الضمير في بها عائد على النبوة، أو على الكتاب والحكم والنبوة. والإشارة بهؤلاء إلى كفار قريش وكل كافر في ذلك العصر، قاله ابن عباس.
ومعنى: { وكلنا بها } أي أرصدنا للإيمان بها. والتوكيل هنا استعارة للتوفيق للإيمان بها والقيام بحقوقها والقوم الموكلون بها هم مؤمنوا أهل الكتاب من أهل المدينة، قاله ابن عباس.
{ أولئك الذين هدى الله } الإشارة بأولئك إلى المشار إليهم بأولئك الأولى وهم الأنبياء السابق ذكرهم وأمره تعالى أن يقتدي بهداهم. والهداية السابقة هي توحيد الله تعالى وتقديسه عن الشريك، فالمعنى فبطريقتهم في الإيمان بالله وتوحيده وأصول الدين دون الشرائع، فإنها مختلفة فلا يمكن أن يؤمر بالاقتداء بالمختلفة وهي هدى ما لم تنسخ، فإذا نسخت لم تبق هدى بخلاف أصول الدين فإنها كلها هدى أبدا.
{ فبهداهم } متعلق باقتده. وقرىء اقده بالهاء الساكنة وصلا ووقفا، وهي هاء السكت أجروها وصلا مجراها وقفا. وقرىء: بحذفها وصلا وإثباتها وقفا وهذا هو القياس. وقرىء: اقتده باختلاس الكسرة في الهاء وصلا وسكونها وقفا. وقرىء: بكسرها ووصلها بياء وصلا، وسكونها وقفا، وتؤول على أنها ضمير المصدر لا هاء السكت.
{ قل لا أسألكم عليه أجرا } أي على الدعاء إلى القرآن وهو الهدى والصراط المستقيم. أجرا أي أجرة، أتكثر بها وأخص بها أن القرآن إلا ذكرى أي موعظة لجميع العالمين.
[6.91-93]
{ وما قدروا الله حق قدره } قال ابن عباس:
" نزلت في مالك بن الصيف اليهودي إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى عليه السلام أتجد فيها أن الله تعالى يبغض الحبر السمين. قال: نعم. قال: فانت الحبر السمين "
فغضب ثم قال:
{ مآ أنزل الله على بشر من شيء } وأصل القدر معرفة الكمية. يقال: قدر الشىء إذا أحرزه وسبره. قال ابن عطية: معناه ما عظموا الله حق تعظيمه. وانتصب حق قدره على المصدر وهو في الأصل وصف أي قدره الحق ووصف المصدر إذا أضيف إليه انتصب نصب المصدر. والعامل في إذ قدروا من شىء مفعول بانزل. ومن: زائدة تدل على الاستغراق.
{ قل من أنزل الكتب } الآية، فيها دليل على أن النقض يقدح في صحة الكلام وذلك أنه نقض قولهم: ما أنزل الله، بقوله: قل من أنزل الكتاب، فلو لم يكن النقض دليلا على فساد الكلام لما كانت حجة الله مفيدة لهذا المطلوب. والكتاب هنا: التوراة. وانتصب نورا وهدى على الحال والعامل أنزل أو جاء.
{ تجعلونه قراطيس } أي ذا قراطيس أي أوراقا وبطائق.
{ وتخفون كثيرا } كإخفائهم الآيات الدالة على بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك من الأحكام التي أخفوها. وأدرج تعالى تحت الإلزام توبيخهم وذمهم بسوء حملهم لكتابهم وتحريفهم وإبداء بعض وإخفاء بعض.
{ وعلمتم ما لم تعلموا } ظاهره أنه خطاب لبني إسرائيل مقصود به الامتنان عليهم وعلى آبائهم بأن علموا من دين الله وهدايته ما لم يكونوا به عالمين.
{ قل الله } أمره تعالى بالمبادرة إلى الجواب أي قل: الله أنزله فإنهم لا يدرون أن يناكروك لأن الكتاب الموصوف بالنور والهدى الآتي به من أيد بالمعجزات إنما أنزله الله تعالى.
{ ثم ذرهم في خوضهم يلعبون } أي في باطلهم الذين يخوضون فيه، ويقال لمن كان في عمل لا يجدي عليه: إنما أنت لاعب. ويلعبون حال من مفعول ذرهم أو من ضمير خوضهم. وفي خوضهم متعلق بذرهم أو بيلعبون أو حالا من يلعبون.
{ وهذا كتب أنزلنه مبارك } الإشارة إلى القرآن لما قرر إنكار من أنكر أن يكون الله أنزل على بشر شيئا أخبر أن هذا الكتاب الذي أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبارك كثير النفع والفائدة. ولما كان الإنكار إنما وقع على الإنزال فقالوا: ما أنزل الله. وقيل: من أنزل الكتاب، كان تقديم وصفه بالإنزال آكد من وصفه بكونه مباركا، ولأن ما أنزله الله تعالى فهو مبارك قطعا فصارت الصفة بكونه مباركا كأنها صفة مؤكدة إذ تضمنها ما قبلها.
{ ولتنذر } قرىء: بالتاء.
والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرىء: بالياء. والضمير فيه عائد على الكتاب.
و { أم القرى } هو على حذف مضاف تقديره أهل أم القرى. وأم القرى: مكة، سميت بذلك لأنها منشأ الدين ولدحو الأرض منها، ولكونها وسط الارض، ولكونها قبلة، وموضع الحج، ومكان أول بيت وضع للناس.
{ ومن } معطوف على أهل المحذوف. ولا يجوز حذف من والعطف على أم القرى لأنه يكون عطفا على المفعول به وحول ملتزم فيه الظرفية فلا يصح عطفه على أم القرى فكان يكون مفعولا به وهو لا يجوز لإلتزامه الظرفية.
{ والذين يؤمنون بالأخرة } الظاهر أن الضمير في به عائد على الكتاب أي الذين يصدقون بأن لهم حشرا وجزاء يؤمنون بهذا الكتاب لما انطوى عليه من ذكر الوعد والوعيد والتبشير والتهديد.
{ وهم على صلاتهم يحافظون } خص الصلاة لأنها عماد الدين ومن كان محافظا عليها كان محافظا على أخواتها.
{ ومن أظلم } ، الآية نزلت في النضر بن الحارث ومن معه من المستهزئين لأنه عارض القرآن بكلام سخيف لا يذكر لسخفه ويندرج في عموم من افترى مسيلمة والأسود العنسي وكل من افترى على الله كذبا. وتقدم الكلام على: ومن أظلم، وفسروه بأنه استفهام معناه النفي أي لا أحد أظلم.
{ أو قال } معطوف على صلة من وبدأ أولا بالعام وهو افتراء الكذب على الله تعالى وهو أعم من أن يكون ذلك الافتراء بادعاء وحي أو غيره، ثم ثانيا بخاص وهو افتراء منسوب إلى وحي من الله تعالى.
{ ولم يوح إليه شيء } جملة حالية أي غير موحى إليه لأن من قال أوحي إلي وهو موحى إليه هو صادق، ثم ثالثا بأخص مما قبله لأن الوحي قد يكون بإنزال القرآن وبغيره. وقصة ابن أبي سرج هي دعواه أنه سينزل قرآنا مثل ما أنزل الله، وقوله: مثل ما أنزل الله، ليس معتقده أن الله أنزل شيئا، وإنما المعنى مثل ما أنزل الله على زعمكم وإعادة من تدل على تغاير مدلوله لمدلول من المتقدمة فالذي قال: سأنزل غير من افترى. أو قال: أوحى، وإن كان ينطلق عليه ما قبله انطلاق العام على الخاص. وقوله: سأنزل، وعد كاذب وتسميته إنزالا مجاز وإنما المعنى سأنظم كلاما يماثل ما ادعيتم أن الله تعالى أنزله. وهذه الآية وإن كان سبب نزولها في مخصوصين فهي شاملة لكل من ادعى مثل دعواهم كطليحة الأسدي، والمختار بن أبي عبيد، وسجاح وغيرهم. وقد ادعى النبوة عالم كثيرون وكان ممن عاصرناه إبراهيم الغازازي الفقير ادعى ذلك بمدينة مالقة وقتله السلطان أبو عبد الله محمد بن يوسف بن نصر الخزرجي ملك الأندلس بغرناطة وصلبه.
{ ولو ترى إذ الظالمون } الآية، ترى بمعنى: رأيت. وإذ: ظرف معمول له. وجواب لو محذوف أي لرأيت أمرا عظيما. والظالمون عام اندرج فيه اليهود والمتنبئة وغيرهم. والظالمون: مبتدأ خبره في غمرات.
{ والملائكة } جملة حالية.
{ باسطوا أيديهم } أي بالضرب بدليل يضربون وجوههم وادبارهم.
{ أخرجوا } معمول لمحذوف تقديره قائلين أخرجوا أنفسكم وهذه عبارة عن العنف في السياق والإلحاح والتشديد من غير تنفيس وامهال.
{ اليوم } منصوب بتجزون.
{ الهون } الهوان والعذاب ما عذبوا به من شدة النزع.
{ بما كنتم } متعلق بتجزون.
{ غير الحق } نعت لمصدر محذوف تقديره قولا غير الحق. وعلل جزاء العذاب بالكذب على الله تعالى وباستكبارهم عن آياته أي عن الاعتبار وعن الإيمان بها.
[6.94-96]
{ ولقد جئتمونا فردى } قال النضر بن الحارث: سوف تشفع لي اللات والعزى. فنزلت: وجئتمونا ماض معناه المضارع. والظاهر أنه من كلام الله تعالى والخطاب للكفار فرادى واحدا واحدا من غير الأهل والمال والولد.
{ كما } الكاف للتشبيه تقديره مجيئا مثل خلقنا إياكم.
وانتصب: { أول مرة } على الظرف، أي أول زمان خلقناكم أي أبرزناكم للوجود.
{ وتركتم ما خولنكم } أي ما تفضلنا به عليكم من الخول والأهل والمال.
{ وراء ظهوركم } منصوب بقوله: وتركتم، وكني به عن الدنيا.
{ وما نرى معكم شفعآءكم } وقفهم على الخطأ في عبادتهم الأصنام وتعظيمها وكانوا يعتقدون شفاعة الملائكة.
{ أنهم فيكم } سدت ان مسد مفعولي زعمتم وفيكم متعلق بشركاء والمعنى في استعبادكم لأنهم حين دعوهم آلهة وعبدوها فقد جعلوا لله شركاء فيهم وفي استعبادهم.
{ لقد تقطع بينكم } قرىء: بينكم بالرفع على أنه فاعل بتقطع اتسع فيه، وأسند إليه الفعل فصار اسما كما استعملوه إسما في قوله:
ومن بيننا وبينك حجاب
[فصلت: 5]. وقرىء: بينكم بالنصب فقيل: الحركة حركة بناء، وبني لإضافته إلى المبني وهو ضمير الخطاب فيكون فاعلا بتقطع فتستوي القراءتان ويظهر أن الفاعل ضمير يعود على المصدر المفهوم مما قبله تقديره هو، أي التواصل الذي كان بينكم وبين شفعائكم، ويظهر أيضا أن يكون من باب الأعمال تقدم تقطع وعطف عليه وضل فتنازعا على ما فاعمل الثاني فما فاعل بضل وأضمر في تقطع الفاعل وهو ضمير ما ومفعولا تزعمون محذوف اختصارا لدلالة ما قبله عليه تقديره تزعمونهم شركاء فيكم.
{ إن الله فالق الحب والنوى } الظاهر أن المعنى أنه تعالى فالق الحب شاقه فمخرج منه النبات، والندى فمخرج منه الشجر. والحب والنوى عامان أي كل حبة وكل نواة. وهذه إشارة إلى فعل الله تعالى في أن يشق جميع الحب عن جميع النبات الذي يكون منه، ويشق النوى عن جميع الأشجار الكائنة عنه. ولما كان قد تقدم ذكر البعث نبه على قدرته تعالى الباهرة في شق النواة مع صلابتها وإخراجه منها نبتا أخضر لينا إلى ما بعد ذلك مما فيه القدرة التامة والإشارة إلى البعث والنشر بعد الموت.
{ يخرج الحي من الميت } تقدم تفسيره في أوائل آل عمران، وعطف قوله:
{ ومخرج الميت } على قوله: فالق الحب، اسم فاعل على إسم فاعل ولم يعطفه على يخرج لأن قوله: فالق الحب والنوى، من جنس إخراج الحي من الميت لأن النامي في حكم الحيوان ألا ترى إلى قوله:
يحيي الأرض بعد موتها
[الحديد: 17]، فوقع قوله: يخرج الحي من الميت، من قوله: فالق الحب والنوى موقع الجملة المبنية فلذلك عطف على إسم فاعل لا على الفعل ولما كان هذا مفقودا في آل عمران وتقدم قبل ذلك جملتان فعليتان وهما:
تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل
[آل عمران: 27]، كان العطف بالفعل على أنه يجوز أن يكون معطوفا وهو اسم فاعل على المضارع لأنه في معناه. كما قال الشاعر:
بات يغشيها بعضب باتر
يقصد في أسوقها وجائر
{ فأنى تؤفكون } فكيف تصرفون عن عبادة من له هذه القدرة الباهرة.
{ فالق الإصباح } الأصباح مصدر سمي به الصبح قال الشاعر:
ألا أيها الليل الطويل الا انجلى
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وفلقه إخراج هذا النور المنتشر من ظلمة الليل وغبشها سكنا إذ هو أعظم من فلق الحب والنوى إذ هو من الآثار العلوية والأحوال الفلكية أعظم وقعا في النفوس من الأحوال الأرضية.
{ سكنا } فعل بمعنى مفعول، كالقنص بمعنى المقنوص. وانتصب على أنه مفعول ثان لجاعل وأضيف جاعل إلى المفعول الثاني وهو الليل. وقرىء: وجعل فعلا ماضيا ونصب الليل والحسبان جمع حساب كشهاب وشهبان. قال ابن عباس: يعني بها عدد الأيام والشهور والسنين ومن قرأ وجعل عطف والشمس وما بعده على معمولي جعل. ومن قرأ بالإضافة فقيل: هو عطف على موضع الليل لأن موضعه نصب وهذا لا يجوز على مذهب سيبويه بل لا يعطف على موضع إسم الفاعل عنده، بل يضمر فعلا تقديره وجعل الشمس والقمر. قال الزمخشري: أو يعطفان على محل الليل فإن قتل: كيف يكون الليل محل والإضافة حقيقة، لأن إسم الفاعل المضاف إليه في معنى المضي ولا تقول: زيد ضارب عمرا أمس؟ قلت: ما هو في معنى الماضي وإنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة. " انتهى ". ملخصه أنه ليس اسم فاعل ماضيا فلا يلزم أن يكون عاملا فيكون للمضاف إليه موضع من الإعراب وهذا على مذهب البصريين أن اسم الفاعل الماضي لا يعمل وإنما قوله: إنما هو دال على جعل مستمر في الأزمنة يعني فيكون إذ ذاك عاملا ويكون للمجرور بعده موضع فيعطف عليه والشمس والقمر وهذا ليس بصحيح إذا كان لا يتقيد بزمان خاص وإنما هو للاستمرار، فلا يجوز له أن يعمل ولا لمجروره محل. وقد نصوا على ذلك وأنشدوا:
ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة
فليس الكاسب هنا مقيدا بزمان
{ ذلك تقدير } ذلك إشارة إلى جميع الاخبار من قوله: فالق الحب، إلى آخره.
[6.97-99]
{ وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها } نبه تعالى على أعظم فوائد خلقها وهي الهداية للطرق والمسالك والجهات التي تقصد والقبلة، إذ حركات الكواكب في الليل يستدل بها على القبلة كما يستدل بحركة الشمس في النهار عليها. والخطاب عام لكل الناس ولتهتدوا متعلق بجعل مضمرة لأنها بدل من لكم، أي جعل ذلك لاهتدائكم، وجعل معناها خلق، فهي تتعدى إلى واحد. قال ابن عطية: ويمكن أن تكون بمعنى صير ويقدر المفعول الثاني من لتهتدوا أي جعل لكم النجوم هداية. " انتهى ". هذا ضعيف لندور حذف أحد مفعولي باب ظن وأخواتها.
{ قد فصلنا } أي بينا وقسمنا وخص من يعلم لأنهم الذين ينتفعون بتفصيلها.
{ من نفس وحدة } وهو آدم عليه السلام.
{ فمستقر ومستودع } أي موضع استقرار وموضع استيداع، أو مصدرا أي فاستقرار واستيداع. وقرىء: فمستقر بكسر القاف اسم فاعل وعلى هذه القراءة يكون ومستودع بفتح الدال إسم مفعول.
{ قد فصلنا الآيت لقوم يفقهون } لما كان الاهتداء بالنجوم واضحا ختمه بيعلمون أي من له أدنى إدراك ينتفع بالنظر في النجوم وفائدتها ولما كان الإنشاء من نفس واحدة والتصريف في أحوال كثيرة يحتاج إلى فكر وتدقيق ختمه بقوله تعالى: { يفقهون } إذ الفقه هو استعمال فطنة ودقة نظر وفكر فناسب ختم كل جملة بما يناسب ما صدر به الكلام.
{ وهو الذي أنزل من السمآء مآء } لما ذكر إنعامه تعالى بخلقنا ذكر انعامه علينا بما يقوم به أودنا ومصالحنا. والسماء هنا: السحاب. والظاهر أن المعنى بنبات كل شىء ما يسمى نباتا في اللغة وهو ما ينمى من الحبوب والفواكه والبقول والحشائش والشجر، ومعنى كل شىء مما ينبت، وأشار إلى أن السبب واحد والمسببات كثيرة. وقال الطبري: نبات كل شىء جميع ما ينمو من الحيوان والنبات والمعادن وغير ذلك لأن ذلك كله يتغذى وينمو بنزول الماء من السماء.
وفي قوله: { فأخرجنا } التفات من غيبة إلى تكلم بنون العظمة.
{ فأخرجنا منه } أي من النبات.
{ خضرا } غضا ناضرا طريا.
{ نخرج منه } جملة في موضع الصفة لخضرا ويجوز أن يكون استئناف اخبار.
{ حبا متراكبا } أي من الخضر كالقمح والشعير وسائر القطاني، ومن الثمار كالرمان والسنوبر. وغيرهما مما تراكب حبه وركب بعضه بعضا.
{ من طلعها } بدل من قوله: ومن النخل، أعيد فيه حرف الجر. والطلع: أول ما يخرج من النخلة في أكمامه، أطلعت النخلة: أخرجت طلعها.
{ قنوان } القنو بكسر القاف وضمها: العذق بكسر العين، وهو الكباسة وهو عنقود النخلة. وجمعه في القلة أقناء وفي الكثرة قنوان بكسر القاف في لغة الحجاز وضمها في لغة قيس، وبالياء بدل الواو في لغة ربيعة وتميم بكسر القاف وضمها.
ويجتمعون في المفرد على قنو وقنو بالواو ولا يقولون فيه قنى ولا قنى.
{ دانية } أي قريبة من المتناول. وهذه الجملة مبتدأ وخبر قطعت مما قبلها في الاعراب لما في تجريدها من عظم المنة والنعمة إذ كانت من أعظم قوت العرب لتدل على الثبوت والاستغراق وأن ذلك مفروغ منه، فلها شبه بالحب المتراكب في القوت ولها شبه بالتفكه كالعنب المذكور فناسب الاعتراض بهذه الجملة بينهما. قال ابن عطية: ومن النخل تقديره ويخرج من النخل ومن طلعها قنوان ابتداء خبره مقدم، والجملة في موضع المفعول بنخرج. " انتهى ". هذا خطاب لأن ما يتعدى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله إلا إذا كان الفعل مما يعلق وكانت الجملة فيها مانع من أن يعمل في شىء من مفرداتها الفعل من الموانع المشروحة في علم النحو. ونخرج ليست مما يعلق وليس في الجملة مانع من عمل الفعل في شىء من مفرداتها إذ لو كان الفعل هنا مقدر التسلط على ما بعده ولكان التركيب والتقدير ونخرج من النخل من طلعها قنوانا دانية بالنصب. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الخبر محذوفا لدلالة أخرجنا عليه تقديره ونخرجه من طلع النخل قنوان. " انتهى ". لا حاجة إلى هذا التقدير إذ الجملة مستقلة في الاخبار بدونه، ومن قرأ: قنوانا دانية بالنصب أشرك بين ذلك وبين المنصوب قبله والمنصوب بعده.
{ وجنت } معطوف على نبات، ولما جرد النخل جرد جنات الأعناب لشرفهما.
{ والزيتون } شجر معروف ووزنه فيعول كقيصوم لقولهم: أرض زتنة، ولعدم فعلون أو قلته. فمادته مغايرة لمادة الزيت.
{ والرمان } فعال كالحماض والعناب وليس بفعلان لقوهم: أرض رمنة. قال الزجاج: قرن الزيتون بالرمان لأنهما شجرتان تعرف العرب أن ورقهما يشتمل على الغصن من أوله إلى آخره.
{ مشتبها } أي بعضه متشابه وبعضه غير متشابه في القدر واللون والطعم وانتصب مشتبها على أنه حال من الرمان لقربه منه. وحذفت الحال من الأول أو حال من الأول لسبقه فالتقدير، والزيتون مشتبها وغير متشابه والرمان كذلك.
{ انظروا إلى ثمره إذآ أثمر } النظر نظر رؤية ولذلك عداه بإلى لكن يترتب عليه الفكر والاعتبار والاستبصار والاستدلال على قدرة باهرة تنقله من حال إلى حال ونبه على حالين: الابتداء وهو وقت ابتداء الأثمار، والانتهاء وهو وقت نضجه.
والينع مصدر ينع بفتح الياء في لغة الحجاز وبضمها في لغة بعض نجد. وكذا الينع بضم الياء والنون والينوع بواو بعد الضمتين. يقال: ينعت الثمرة، إذا أدركت ونضجت وأينعت. كذلك أيضا قال الفراء: ينع الثمر وأينع أي احمر. والعامل في إذا أنظروا وينعه معطوف على ثمره.
{ إن في ذلكم لأيت لقوم يؤمنون } الإشارة بذلك إلى جميع ما سبق ذكره من فلق الحب والنوى إلى آخر ما خلق تعالى وما امتن به.
والآيات: العلامات الدالة على كمال قدرته وإحكام صنعته وتفرده بالخلق دون غيره وظهور الآيات لا ينفع إلا لمن قدر الله له الإيمان وأما من سبق قدر الله له بالكفر فإنه لا ينتفع بهذه الآيات فنبه بتخصيص الإيمان على هذا المعنى وانظر إلى حسن مساق هذا الترتيب لما تقدم أن الله فالق الحب والنوى جاء الترتيب بعد ذلك تابعا لهذا الترتيب: فحين ذكر أنه أخرج نبات كل شىء ذكر الزرع وهو المراد بقوله تعالى: { خضرا } فخرج منه حبا متراكبا. وابتدأ به كما ابتدأ به في قوله: فالق الحب، ثم ثني بماله نوى فقال: ومن النخل من طلعها قنوان، إلى آخره، كما ثنى به في قوله: والنوى، وقدم الزرع على الشجر لأنه غذاء والثمر فاكهة والغذاء مقدم على الفاكهة. وقدم النخل على سائر الفواكه لأنه يجري مجرى الغذاء بالنسبة إلى العرب، وقدم العنب لأنه أشرف الفواكه وهو في جميع أطواره ينتفع به حنوط ثم حصرم ثم عنب ثم أن عصر كان منه خل ودبس وإن جف كان منه زبيب، وقدم الزيتون لأنه أكثر في المنفعة في الأصل وفيما يعصر منه من الدهن العظيم النفع في الأكل والاستصباح وغيرهما وذكر الرمان لعجب حاله وغرابته في أنه مركب من قشر وشحم وعجم وماء، فالثلاثة باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عفصة قوية في هذه الصفات وماؤه بالفنذ ألذ الأشربة وألطفها وأقربها إلى خير الاعتدال، وفيه تقوية للخراج الضعيف غذاء من وجه دواء من وجه، فجمع تعالى فيه بين المتضادين المتعاقدين فما أبهر قدرته وأعجب ما خلق.
[6.100-103]
{ وجعلوا لله شركآء الجن } لما ذكر تعالى ما اختص به من باهر قدرته ومتقن صنعته وامتنانه على عالم الإنسان لما أوجد له مما يحتاج إليه في قوام حياته، وبين أن ذلك آيات لقوم يعلمون ولقوم يفقهون ولقوم يؤمنون ذكر ما عاملوا به منشأهم من العدم وموجد أرزاقهم من إشراك غيره له في عبادته ونسبة ما هو مستحيل عليه من وصفه بسمات الحدوث من البنين والبنات. والضمير في وجعلوا عائد على الكفار لأنهم مشركون، وأهل كتاب شركاء مفعول أول ولله متعلق به والجن مفعول ثان وأعرب أستاذنا العلامة أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي قال: انتصب الجن على إضمار فعل جواب سؤال مقدر كأنه قيل: من جعلوا لله شركاء. قيل: الجن، أي جعلوا الجن. ويؤيد هذا المعنى قراءة أبي حيوة ويزيد بن قطيب الجن بالرفع على تقديرهم الجن جوابا لمن قال: من الذي جعلوهم شركاء فقيل لهم هم الجن. ويكون ذلك على سبيل الاستعظام لما فعلوه والانتقاص لمن جعلوه شريكا لله تعالى، فعلى قراءة الرفع في الجن يكون شركاء مفعول أول، ولله جار ومجرور في موضع المفعول الثاني أي صيروا شركاء كائنين لله. قال الزمخشري وابن عطية: الجن مفعول أول لجعلوا وهو بمعنى صيروا وشركاء مفعول ثان، ولله متعلق بشركاء. قال الزمخشري: فإن قلت: فما فائدة التقديم؟ قلت: فائدته استعظام أن يتخذ لله شريك من كان ملكا أو جنيا أو إنسيا ولذلك قدم اسم الله على الشركاء " انتهى ". وأجاز والحوفي وأبو البقاء أن يكون الجن بدلا من شركاء، ولله في موضع المفعول الثاني، وشركاء هو المفعول الأول وما أجازوه لا يجوز لأنه لا يصح للبدل أن يحل محل المبدل منه فيكون الكلام منتظما. لو قلت: وجعلوا لله الجن لم يصح. وشرط البدل أن يكون على نية تكرار العامل على أشهر القولين أو معمولا للعامل في المبدل منه على قول وهذا لا يصح هنا البتة كما ذكرنا. والضمير في وخلقهم عائد على الجاعلين إذ هم المحدث عنهم وهي جملة حالية أي وقد خلقهم وانفرد بإيجادهم دون من اتخذوه شريكا له وهم الجن فجعلوا من لم يخلقهم شريكا لخالقهم وهذه غاية الجهالة.
{ وخرقوا } قرىء: بتخفيف الواو وتشديدها، أي اختلقوا وافتروا. ويقال: خلق الإفك وخرقه واختلقه واخترقه وافتعله وافترا، وخرصه إذا اكذب فيه، قال الفراء. وأشار بقوله: بنين، إلى قول أهل الكتاب بنين في المسيح وعزيز، وبقوله: وبنات إلى قول قريش في الملائكة.
{ بديع السموت والأرض } خبر مبتدأ محذوف تقديره وهو بديع، وتقدم تفسيره في البقرة.
{ أنى يكون له ولد } أي كيف يكون له ولد وهذه حالة أي أن الولد إنما يكون من الزوجة وهو لا زوجة له فلا ولد له.
وفي ابطال الولد من ثلاثة أوجه أحدها أنه مبتدع السماوات والأرض وهي أجسام عظيمة لا يستقيم أن يوصف بالولادة لأن الولادة من صفات الأجسام ومخترع الأجسام لا يكون جسما حتى يكون والدا، والثاني أن الولادة لا تكون إلا بين زوجين من جنس واحد وهو تعالى متعال عن مجانس فلم يصح أن تكون له صاحبة فلم تصح الولادة، والثالث أنه ما من شىء إلا وهو خالقه والعالم به؛ ومن كان بهذه الصفة كان غنيا عن كل شىء والولد إنما يطلبه المحتاج إليه.
{ ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو } أي ذلكم الموصوف بتلك الأوصاف السابقة من كونه بديعا لم يتخذ صاحبة ولا ولدا خالق الموجودات عالما بكل شىء هو الله بدأ بالاسم العلم ثم قال: ربكم، أي مالككم والناظر في مصالحكم ثم حصر الألوهية فيه ثم كرر وصف خلقه كل شىء، ثم أمر بعبادته لأن من استجمعت فيه هذه الصفات كان جديرا بالعبادة وأن يفرد بها فلا يتخذ معه شريك ثم أخبر أنه مع تلك الصفات السابقة التي منها خلق كل شىء هو المالك لكل شىء من الأرزاق والآجال رقيب على الأعمال.
{ لا تدركه الأبصر } اختلف المفسرون في الإدراك في هذه الآية ما هو فقيل: الإدراك هنا الرؤية. وبه قال جماعة من الصحابة وقيل: الإدراك هنا هو الإحاطة بالشىء وليس بمعنى الرؤية وهو قول جماعة من الصحابة أيضا. وسيأتي الكلام على الرؤية في سورة الأعراف عند قوله حكاية عن موسى عليه السلام في قوله:
رب أرني أنظر إليك
[الأعراف: 143]. الآية.
[6.104-107]
و { قد جآءكم بصآئر من ربكم } هذا وارد على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله: وما أنا عليكم بحفيظ، والبصيرة: نور القلب الذي يستبصر به، كما أن البصر نور العين الذي به تبصر أي جاءكم من الوحي والتنبيه بما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز ها هو للقلوب كالبصائر.
{ فمن أبصر فلنفسه } أي فالأبصار لنفسه أي نفعه وثمرته.
{ ومن عمي فعليها } أي فالعمى عليها أي فجدوى العمى عائد على نفسه والإبصار والعمى كنايتان عن الهدى والضلال. والمعنى أن ثمرة الهدى والضلال إنما هي للمهتدي والضال لأنه تعالى غني عن خلقه وهذه من الكنايات الحسنة لما ذكر البصائر أعقبها بالإبصار والعمى، وهذه مطابقة لطيفة.
{ وكذلك نصرف الآيات } أي ومثل ما بينا تلك الآيات التي هي بصائر وصرفناها نصرف الآيات ونرددها على وجوه كثيرة.
{ وليقولوا } يعني أهل مكة حين تقرأ عليهم القرآن.
{ درست } وقرىء: دارست، أى دارست يا محمد غيرك في هذه الأشياء، أي قارأته وناظرته إشارة منهم إلى سلمان وغيره من الأعاجم واليهود. وقرىء: درست مبنيا للفاعل مضمرا فيه، أي درست الآيات، أي ترددت على أسماعهم حتى بليت وقدمت في نفوسهم وأمحيت. وقرىء: درست أي يا محمد في الكتب القديمة ما تجيئنا به. واللام في: وليقولوا، ولنبينه، هي لام كي. وقيل: لام الصيرورة. والمعنى وليقول من كفر ولنبين لمن علم وآمن. وتتعلق اللامان بمحذوف تقديره ليكون كذا ويكون كذا صرفنا الآيات ولا يتعين ما ذكره المعربون والمفسرون من أن اللام في: وليقولوا، لام كي أو لام الصيرورة، بل الظاهر أنها لام الأمر. والفعل مجزوم بها لا منصوب بإضمار أن ويؤيده قراءة من سكن اللام والمعنى عليه متمكن كأنه قيل: ومثل ذلك نصرف الآيات وليقولوا هم ما يقولون من كونها درستها وتعلمتها أو درست هي أي بليت وقدمت، فإنه لا يحفل بهم ولا يلتفت إلى قولهم، وهو أمر معناه الوعيد والتهديد وعدم الاكتراث بهم وبما يقولون في الآيات أي نصرفها وليدعوا فيها ما شاؤوا فلا اكتراث بدعواهم.
{ ولنبينه لقوم يعلمون } أي كأنه قال: وكذلك نصرف القرآن نصرف الآيات. وأعاد الضمير مفردا قالوا: على معنى الآيات لأنها القرآن.
{ اتبع مآ أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو } أمره تعالى بأن يتبع ما أوحى إليه وبأن يعرض عمن أشرك والأمر بالإعراض عنهم كان قبل نسخه بالقتال والسوق إلى الدين طوعا أو كرها. والجملة بين الأمرين اعتراض أكد به وجوب اتباع الوحي أو في موضع الحال المؤكدة.
{ ولو شآء الله مآ أشركوا } أي أن إشراكهم ليس في الحقيقة بمشيئتهم وإنما هو بمشيئة الله تعالى. وظاهر الآية يرد على المعتزلة ويتألونها على مشيئة القسر والإلجاء.
{ وما جعلناك عليهم حفيظا } أي رقيبا تحفظهم من الإشراك.
{ ومآ أنت عليهم بوكيل } أي بمسلط عليهم والجملتان متقاربتان في المعنى إلا أن الأولى فيها نفي جعل الحفظ منه تعالى عليهم، والثانية فيها نفي الوكالة عليهم. والمعنى إنا لم نسلطك عليهم ولا أنت في ذاتك بمسلط فناسب أن تعرض عنهم إذ لست مأمورا منا بأن تكون حفيظا عليهم ولا أنت وكيل عليهم من تلقائك.
[6.108-110]
{ ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله } الآية، قال ابن عباس: سببها أن كفار قريش قالوا لأبي طالب: اما أن تنهى محمدا وأصحابه عن سب آلهتنا والغض منها، وإما أن نسب إلهه ونهجوه. فنزلت. وحكم هذه الآية باق في هذه الأمة فإذا كان الكافر في منعة وخيف أن يسب الإسلام أو الرسول أو الله تعالى فلا يحل لمسلم ذم دين الكافر ولا صنمه ولا صليبه ولا يتعرض إلى ما يؤدي إلى ذلك. ولما أمر تعالى باتباع ما أوحي إليه وبموادعة المشركين عدل عن خطابه إلى خطاب المؤمنين، فنهوا عن سب أصنام المشركين ولم يواجه هو عليه السلام بالخطاب وإن كان هو الذي سب الأصنام جاء على لسانه وأصحابه تابعون له في ذلك، لما في مواجهته وحده بالنهي من خلاف ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من الأخلاق الكريمة، إذ لم يكن صلى الله عليه وسلم فحاشا ولا ضحابا ولا سبابا، فلذلك جاء الخطاب للمؤمنين فقيل: ولا تسبوا. ولم يكن التركيب ولا تسب كما جاء. وفي: أعرض عن المشركين وإذا كانت الطاعة تؤدي إلى مفسدة خرجت عن أن تكون طاعة فيجب النهي عنها كما ينهي عن المعصية. والذين يدعون هم الأصنام، أي يدعوهم المشركون وعبر عن الأصنام وهي لا تعقل بالذين يعبر عن العاقل على معاملة ما لا يعقل معاملة من يعقل، إذ كانوا نزلوهم منزلة من يعقل في عبادتهم واعتقادهم فيهم أنهم شفعاء لهم عند الله تعالى. وقيل: يحتمل أن يراد بالذين يدعون الكفار. وظاهر قوله: فيسبوا الله، إنهم يقدمون على سبه إذا سبت آلهتهم، وإن كانوا معترفين بالله تعالى لكن يحملهم على ذلك انتصارهم لآلهتهم وشدة غيظهم لأجلها، فيخرجون عن الاعتدال إلى ما ينافي العقل كما يقع من بعض المسلمين إذا اشتد غضبه وانحرف فإنه قد يلفظ بما يؤدي إلى الكفر نعوذ بالله من ذلك.
{ فيسبوا } جواب للنهي في قوله ولا تسبوا. وانتصب بإضمار أن بعد الفاء كقوله تعالى:
لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب
[طه: 61].
و { عدوا } مصدر عدا، وكذا عدو وعدوان بمعنى اعتدى أي ظلم، وانتصب على المصدر أو في موضع الحال المؤكدة أو على المصدر من غير لفظ الفعل لأن معنى فيسبوا يعتدوا على الله تعالى. ومعنى بغير علم أي على جهالة بما يجب لله تعالى أن يذكر به وهو بيان لمعنى الاعتداء.
{ كذلك زينا لكل أمة عملهم } مثل تزيين عبادة الأصنام للمشركين زينا لكل أمة عملهم. وظاهر لكل أمة العموم في الأمم وفي العمل فيدخل فيه المؤمنون والكافرون، وتزيينه هو ما يخلقه ويخترعه في النفوس من المحبة للخير أو الشر والاتباع لطرقه وتزيين الشيطان بما يقذفه في النفوس من الوسوسة وخطرات السوء.
{ وأقسموا بالله جهد أيمنهم لئن جآءتهم آية } مقترحة نحو قولهم: تجعل الصفا ذهبا. فقام رسول الله ليدعو فجاءه جبريل عليه السلام فقال له: إن شئت أصبح ذهبا، فإن لم يؤمنوا أهلكوا عن آخرهم معاجلة كما فعل بالأمم الماضية إذ لم يؤمنوا بالآيات المقترحة، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم. فقال: بل حتى يتوب تائبهم. وإنما اقترحوا آية معينة لأنهم شكوا في القرآن، ولهذا قالوا: دارست، أي العلماء. وباحثت أهل التوراة والإنجيل وكابر أكثرهم وعاندوا، المعنى أنهم حلفوا غاية حلفهم، وسمي الحلف قسما لأنه يكون عند انقسام الناس إلى التصديق والتكذيب، وكان إقسامهم بالله غاية في الحلف، وكانوا يقسمون بآبائهم وآلهتهم فإذا كان الأمر عظيما أقسموا بالله، والجهد بفتح الجيم: المشقة، وبضمها: الطاقة. ومنهم من يجعلها بمعنى واحد. وانتصب جهد على المصدر المنصوب باقسموا أي اقسموا جهد إقساماتهم والايمان بمعنى الاقسامات، ولئن جاءتهم اخبار عنهم لا حكاية لقولهم إذ لو حكى لكان لئن جاءتنا آية. ويعامل الاخبار عن القسم معاملة حكاية القسم بلفظ ما نطق به المقسم وآية لا يراد بها مطلق آية، إذ قد جاءتهم آيات كثيرة ولكنهم أرادوا آية مقترحة كما ذكرناه.
{ قل إنما الآيت عند الله } هذا أمر بالرد عليهم وأن مجيء الآيات ليس لي، إنما ذلك لله تعالى وهو القادر عليها ينزلها على وجه المصلحة كيف يشاء بحكمته، وليست عندي فتقترح علي { ليؤمنن بها } جواب القسم.
{ وما يشعركم أنهآ إذا جآءت لا يؤمنون } قرىء: بفتح الهمزة. وما: استفهامية، ويعود عليها ضمير الفاعل في يشعركم، وأما الخطاب فقيل: هو للكفار. وقيل: المخاطب بها المؤمنون. وقرىء: لا تؤمنون بتاء الخطاب. وقرىء: بياء الغيبة أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون البتة على تقدير مجيء الآية وتم الكلام عند قوله: وما يشعركم. ومتعلق يشعركم محذوف أي وما يشعركم ما يكون فإن كان الخطاب للكفار كان التقدير وما يشعركم ما يكون منكم ثم أخبر على جهة الإلتفات بما علمه من حالهم لو جاءتهم الآيات وإن كان الخطاب للمؤمنين كان التقدير وما يشعركم أيها المؤمنون ما يكون منهم. ثم أخبر المؤمنين بعلمه فيهم أنهم لا يؤمنون. وقرىء: بكسر الهمزة، والمناسب أن يكون الخطاب للكفار في هذه القراءة، كأنه قيل: وما يدريكم أيها الكفار ما يكون منكم. ثم أخبرهم على جهة الجزم أنهم لا يؤمنون على تقدير مجيئها.
{ ونقلب أفئدتهم وأبصرهم } الآية، الظاهر أنها جملة استئنافية أخبر تعالى أنه يفعل بهم ذلك وهي إشارة إلى الحيرة والتردد وصرف بالشىء عن وجهه، والمعنى أنه تعالى يحولهم عن الهدى ويتركهم في الضلال والكفر. وكما: للتعليل، أي يفعل بهم ذلك لكونهم لم يؤمنوا به أول وقت جاءهم هدى الله كما قال تعالى
وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجسا إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون
[التوبة: 125] ويؤكد هذا المعنى آخر الآية: ونذرهم، أي وما نتركهم في تغمطهم في الشر والإفراط فيه يتحيرون، وهذا كله إخبار من الله تعالى بفعله بهم في الدنيا.
{ كما لم يؤمنوا به أول مرة } الكاف للتعليل لا للتشبيه وما مصدرية والمعنى أنه تعالى يقلب ما ذكر لكونهم لم يؤمنوا بالقرآن أول وقت جاءهم إذ كان ينبغي المبادرة إلى الإيمان.
{ ونذرهم } أي نتركهم في طغيانهم يتحيرون.
[6.111-113]
{ ولو أننا نزلنآ إليهم الملائكة } الآية أي لو آتيناهم بالآيات التي اقترحوها من إنزال الملائكة في قولهم:
وقالوا لولا أنزل عليه ملك
[الأنعام: 80]، وتكليم الموتى إياهم في قولهم: فأتوا بآبائنا، وفي قولهم: أخي قصي بن كلاب وجدعان بن عمرو، وهما أمينا العرب والوسطان فيهم وحشر كل شىء عليهم من السباع والدواب والطيور، وشهادتهم بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجواب لو ما كانوا ليؤمنوا. وقدره الحوفي لما كانوا قال: وحذفت اللام وهي مرادة. " انتهى ". وليس قوله بجيد لأن المنفي بما إذا وقع جوابا للو فالأكثر في لسان العرب أن لا تدخل اللام على ما وقل دخولها على ما، فلا نقول ان اللام حذفت منه بل إنما أدخلوها على ما تشبيها للمنفي بما بالموجب، ألا ترى أنه إذا كان النفي بلم لم تدخل اللام على لم فدل على أن أصل المنفي أن لا تدخل عليه اللام. واللام في ليؤمنوا لام الجحود أتت بعد كون ماض منفي، وخبر كان محذوف تقديره ما كانوا أهلا للإيمان، لأن أن مقدرة بعد اللام فيسبك منها مع ما بعدها مصدر والكثير حذف خبر كان في هذا التركيب. وقد جاء مصرحا به في قول الشاعر:
سموت ولم تكن أهلا لتسمو
و { إلا أن يشآء } الله استثناء متصل من محذوف هو علة. وسبب التقدير ما كانوا ليؤمنوا بشىء من الأشياء إلا بمشيئة الله تعالى. والظاهر أن الضمير في أكثرهم عائد على ما عادت عليه الضمائر قيل من الكفار وإنما قال أكثرهم لأن هؤلاء الكفار من شاء الله إيمانه فآمن وصدق.
ومعنى: { يجهلون } أي الحق الذي جئت به من عند الله تعالى.
{ وكذلك جعلنا لكل نبي } الآية، المعنى مثل جعل هؤلاء الكفار المقترحين الآيات وغيرهم أعداء لك جعلنا لمن قبلك من الأنبياء أعداء.
{ شيطين الإنس والجن } أي متمردي الصنفين.
{ يوحي } يلقي في خفية.
{ بعضهم إلى بعض } أي بعض الصنف الجني إلى بعض الصنف الأنسي. أو يوحي شياطين الجن إلى شياطين الإنس.
{ زخرف القول } أي محسنه ومزينه بالأباطيل ليغروهم ويخدعوهم ويوهموهم أنهم على شىء، وثمرة هذا الجعل الامتحان، فيظهر الصبر على ما منوا به ممن يعاديهم فيعظم الثواب والأجر. وفيها تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتأس بمن تقدمه من الأنبياء وإنك لست منفردا بعداوة من عاصرك، بل هذه سنة من قبلك من الأنبياء. وانتصب غرورا على أنه مفعول من أجله أي للغرور أو مصدرا في موضع الحال أي غارين والناصب لهما يوحي.
{ ولو شآء ربك ما فعلوه } الضمير المنصوب جوزوا أن يكون عائدا على العداوة المفهومة من عدوا، والإيحاء المفهوم من يوحي، أو على الزخرف، أو على القول، أو على الغرور أوجها خمسة.
{ فذرهم وما يفترون } أي اتركهم وما يفترون من تكذيبك. ويتضمن الوعد والوعيد. وقال قتادة: كل ذر في كتاب الله تعالى فهو منسوخ بالقتال وما بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره يفترونه أو مصدرية تقديره وافتراؤهم.
{ ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون } أي ولتميل إليه. الضمير يعود على ما عاد عليه في فعلوه.
{ وليرضوه وليقترفوا } ما هم مكتسبون من الآثام. واللام: لام كي، وهي معطوفة على قوله: غرورا، لما كان معناه للغرور فيه متعلقة بيوحى ونصب غرورا لاجتماع شروط النصب فيه وعدي يوحى إلى هذا باللام لفوت شرط صريح المصدرية واختلاف الفاعل لأن فاعل يوحي هو بعضهم، وفاعل تصغي هو أفئدة وترتيب هذه المفاعيل في غاية الفصاحة لأنه أولا يكون الخداع، فيكون الميل، فيكون الرضا، فيكون فعل الاقتراف، فكان كل واحد مسبب عما قبله.
[6.114-117]
{ أفغير الله أبتغي حكما } قال مشركوا قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إجعل بيننا وبينك حكما من أحبار اليهود وإن شئت من أساقفة النصارى ليخبرنا عنك بما في كتابهم من أمرك. فنزلت. والفاء في: أفغير، للعطف فترتيبها قبل الهمزة وقدمت الهمزة لأن الاستفهام له صدر الكلام كما قدمت على الواو في قوله:
أولم يروا
[النحل: 48] وعلى ثم في قوله:
أثم إذا ما وقع
[يونس: 51]، وهذا استفهام معناه النفي، أي لا أبتغي حكما غير الله. قالوا: والحكم أبلغ من الحاكم لأنه من عرف منه الحكم مرة بعد أخرى. والحاكم اسم فاعل يصدق على المرة الواحدة، وجوزوا في اعراب غير أن يكون مفعولا بابتغي وحكما حال وعكسه، وأجاز الحوفي وابن عطية أن ينتصب على التمييز عن غير كقولهم: ان لنا غيرها إبلا وشاء.
{ وهو الذي أنزل } وهذه الجملة في موضع الحال مفصلا موضحا فيه الأحكام من الأمر والنهي والحلال والحرام والواجب والمندوب والضلال والهدى.
{ والذين آتيناهم } علم التوراة والإنجيل والزبور والصحف. والمراد علماء أهل الكتاب. وهذه الجملة تكون استئنافا ويتضمن الاستشهاد بمؤمني أهل الكتاب والطعن على مشركيهم وحسدتهم.
{ فلا تكونن } خطاب للسامع الذي يمكن أن يجوز منه الامتراء لا للنبي صلى الله عليه وسلم.
و { كلمت ربك } هو القرآن وكل ما أخبر به من أمر ونهي ووعد ووعيد وانتصب صدقا وعدلا على أنهما مصدران في موضع الحال. ومعنى تمت: استمرت، لا أنه كان بها نقص فكملت كما قال: وتم حمزة على إسلامه، أي استمر.
{ وإن تطع أكثر من في الأرض } أي وإن توافق فيما هم عليه من عبادة غير الله تعالى وشرع ما شرعوه بغير إذن الله لأن الأكثر إذ ذاك كانوا كفارا. والأرض هنا الدنيا، قاله ابن عباس.
{ إن يتبعون إلا الظن } أي ليسوا راجعين في عقائدهم إلى علم ولا في ما شرعوه إلى حكم الله تعالى.
{ وإن هم إلا يخرصون } أي يقدرون ويحزرون وهذا تأكيد لما قبله.
{ إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله } لما ذكر تعالى يضلون عن سبيل الله أخبر أنه أعلم العالمين بالضال والمهتدي. والمعنى أنه أعلم بهم وبك فإنهم الضالون وأنت المهتدي. ومن قيل: في موضع جر على إسقاط حرف الجر وإبقاء عمله وهذا ليس بجيد لأن مثل هذا لا يجوز إلا في الشعر. وقال أبو الفتح: في موضع نصب بأعلم بعد حذف حرف الجر، وهذا ليس بجيد لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في المفعول به. وقال أبو علي: في موضع نصب بفعل محذوف، أي يعلم من يضل، ودل على حذفه أعلم ومثله ما أنشده أبو زيد: وأضرب منا بالسيوف القوانسا. أي يضرب القوانس وهي إذ ذاك موصولة وصلتها يضل.
[6.118-121]
{ فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } الآية، ذكر أن السبب في نزولها أنهم
" قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: من قتل الشاة التي ماتت؟ قال الله تعالى: قالوا: فتزعم أن ما قتلت أنت وأصحابك وما قتله الصقر والكلب حلال وما قتله الله تعالى حرام "
فنزلت. ولما تضمنت الآية التي قبلها الإنكار على اتباع المضلين الذين يحلون الحرام ويحرمون الحلال وكانوا يسمون في كثير مما يذبحونه اسم آلهتهم، أمر المؤمنين بأكل ما سمي على ذكاته إسم الله تعالى لا غيره من آلهتهم.
{ إن كنتم بآياته مؤمنين } علق أكل ما سمي الله على ذكاته بالإيمان كما تقول: أطعني إن كنت ابني، أي إن كنتم مؤمنين فلا تخالفوا أمر الله تعالى، وهو حث على أكل ما أحل وترك لما حرم.
{ وما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه } أي وأي غرض لكم في الامتناع من أكل ما ذكر اسم الله عليه. وهو استفهام يتضمن الإنكار على من امتنع من ذلك، أي لا شىء يمنع من ذلك.
{ وقد فصل لكم } في هذه السورة لأنها على ما نقل مكية ونزلت في مرة واحدة فلا يناسب أن يكون. وقد فصل راجعا إلى تفصيل البقرة والمائدة لتأخرهما في النزول عن هذه السورة. والجملة من قوله: وقد فصل، في موضع الحال، وقرىء: فصل وحرم مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول.
{ إلا ما اضطررتم } إستثناء من قوله: ما حرم عليكم.
{ وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم } أي وإن كثيرا من الكفار المجادلين في المطاعم وغيرها ليضلون بالتحليل والتحريم بأهوائهم وشهواتهم.
{ بغير علم } أي بغير شرع من الله تعالى بل بمجرد أهوائهم كعمرو بن لحي ومن دونه من المشركين كأبي الأحوص بن مالك الجشمي، وبديل بن ورقاء الخزاعي، وحليس بن يزيد القرشي، الذين اتخذوا البحائر والسوائب.
{ وذروا ظهر الإثم وباطنه } الآية، الإثم عام في جميع المعاصي لما عتب عليهم في ترك أكل ما سمي الله عليه، أمروا بترك الإثم ما فعل ظاهرا وما فعل في خفية، فكأنه قال: اتركوا المعاصي ظاهرها وباطنها، قاله أبو العالية وغيره.
{ إن الذين يكسبون الإثم } في الدنيا.
{ سيجزون } في الآخرة، وهذا وعيد وتهديد للعصاة.
{ ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } الآية، لما أمر بأكل ما سمي عليه وكان مفهومه أنه لا يؤكل ما لم يذكر اسم الله عليه أكد هذا المفهوم بالنص عليه. والظاهر تحريم أكل ما لم يذكر اسم الله عليه عمدا كان ترك التسمية أو نسيانا، ربه قال ابن عباس وجماعة. وروي عن أبي الدرداء وعبادة بن الصامت وجماعة، من التابعين: أنها منسوخة بقوله تعالى:
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم
[المائدة: 5]، وأجازوا ذبائح أهل الكتاب وإن لم يذكر اسم الله عليها. ولا يسمى ذلك نسخا بل هو تخصيص. وروي عن عائشة وعلي وابن عمر أن الآية محكمة ولا يجوز لنا أن نأكل من ذبائحهم إلا ما ذكر اسم الله عليه.
{ وإنه } الضمير في " وانه " عائد إلى المصدر الدال عليه تأكلوا، أي وان الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه.
{ لفسق } لمعصية وهذه الجملة لا موضع لها من الاعراب وتضمنت معنى التعليل، فكأنه قيل: لفسقه.
{ وإن الشيطين } عام في شياطين الإنس والجن كما في أول الحزب عدوا شياطين الإنس والجن.
{ ليوحون } ليلقون في خفاء ووسوسة بالتمويه والتلبيس.
{ إلى أوليآئهم } يعني من الإنس ككفار قريش وغيرهم.
{ ليجدلوكم } علة للإيحاء.
{ وإن أطعتموهم } هذا إخبار أن ما صدر من جدال الكفار للمؤمنين ومنازعتهم فإنما هو من الشياطين يوسوسون لهم به. ولذلك ختم بقوله تعالى: { وإن أطعتموهم إنكم لمشركون } أي وإن أطعتم أولياء الشياطين إنكم لمشركون لأن طاعتهم طاعة للشياطين وذلك إشراك وجواب الشرط زعم الحوفي أنه إنكم لمشركون على حذف الفاء، أي فإنكم لمشركون وهذا الحذف من الضرائر فلا يكون في القرآن، وإنما الجواب محذوف. وإنكم لمشركون جواب قسم محذوف التقدير والله إن أطعتموهم. وكقوله تعالى:
وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن
[المائدة: 73]، وأكثر ما يستعمل هذا التركيب بتقديم اللام المؤذنة بالقسم المحذوف على أن الشرطية كقوله تعالى:
لئن أخرجوا لا يخرجون معهم
[الحشر: 12]، وحذف جواب الشرط لدلالة جواب القسم عليه.
[6.122-124]
{ أو من كان ميتا فأحيينه } قال ابن عباس: نزلت في حمزة وأبي جهل رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم بفرث فأخبر بذلك حمزة حين رجع من قنصه وبيده قوس وكان لم يسلم فغضب فعلا بها أبا جهل وهو يتضرع إليه ويقول: سفه عقولنا وسب آلهتنا وخالف آباءنا فقال حمزة: ومن أسفه منكم تعبدون الحجارة من دون الله تعالى، وأسلم رضي الله تعالى عنه. ولما تقدم ذكر المؤمنين والكافرين مثل تعالى فيهما بأنه شبه المؤمن بعد أن كان كافرا بالحي المجعول له نور يتصرف به كيف سلك، والكافر بالمختبط في الظلمات المستقر فيها دائما ليظهر الفرق بين الفريقين، والموت والحياة والنور والظلمة مجاز، فالظلمة مجاز عن الكفر، والحياة مجاز عن الإيمان، والموت مجاز عن الكفر. والجملة من قوله: أو من، معطوفة على ما قبلها. والأصل تقديم واو العطف وإنما قدمت الهمزة لأن الاستفهام له صدر الكلام وكان الأصل وآمن ومن مبتدأ موصول بمعنى الذي وكان ميتا صلته ولما ذكر صفة الإحسان إلى العبد المؤمن نسب ذلك إليه فقال فأحييناه.
{ وجعلنا له } وفي صفة الكافر لم ينسبها إلى نفسه، بل قال:
{ كمن مثله في الظلمت } وكمن في موضع خبر من المتقدمة الذكر، ومن في كمن: موصولة. ومثله في الظلمات من مبتدأ وخبر صلة لمن ومثله معناه صفته وعبر بها عن الذات كأنه قيل: كمن هو في الظلمات. وفي الناس: إشارة إلى تنويره على نفسه وعلى غيره من الناس فذكر أن منفعة المؤمن ليست مقتصرة على نفسه، وقابل تصرفه بالنور وملازمة النور له باستقرار الكافر في الظلمات، وكونه لا يفارقها، وأكد ذلك بدخول الباء في خبر ليس.
{ كذلك زين } الإشارة بذلك إلى إحياء المؤمن أي كما أحيينا المؤمن زين للكافرين فقابل الشىء بضده أو إشارة إلى كينونة الكافر في الظلمات زين للكافرين فقابل الشىء بمثله.
{ وكذلك جعلنا في كل قرية } الآية أي مثل ذلك الجعل جعلنا في مكة صناديدها.
{ ليمكروا فيها } جعلنا في كل قرية وتضمن ذلك فساد حال الكفرة المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ حالهم حال من تقدمهم من نظرائهم الكفار وجعلنا بمعنى صيرنا ومفعولها الأول أكابر مجرميها، وفي كل قرية المفعول الثاني، وأكابر على هذا مضاف إلى مجرميها. وأجاز أبو البقاء أن يكون مجرميها بدلا من أكابر. وأجاز ابن عطية أن يكون مجرميها المفعول الأول، وأكابر المفعول الثاني والتقدير مجرميها أكابر وما أجازاه خطأ وذهول عن قاعدة نحوية وهو أن أفعل التفضيل إذا كان بمن ملفوظا بها أو مقدرا أو مضافا إلى نكرة كان مفردا مذكرا دائما سواء كان لمذكر أم لمؤنث مفرد أو مثنى أو مجموع فإذا أنث أو ثنى أو جمع طابق ما هو له في ذلك ولزمه أحد أمرين: أما الألف واللام، أو الإضافة إلى معرفة، وإذا تقرر هذا فالقول بأن مجرميها بدل من أكابر أو أن مجرميها مفعول أول خطأ لإلتزامه أن يبقى أكابر مجموعا وليس فيه ألف ولام ولا هو مضاف إلى معرفة، وذلك لا يجوز.
والهاء في مجرميها عادة على قرية فلا يجوز تقديم أكابر مجرميها على قوله: في كل قرية. ولام ليمكروا: لام كي، وهي متعلقة بجعلنا وحذف الممكور به للعلم به.
{ وما يشعرون } أن وباله يحيق بهم، ولا يعني نفي شعورهم على الاطلاق وهو مبالغة في نفي العلم إذ نفي عنهم شعور الذي هو يكون للبهائم.
{ وإذا جآءتهم آية } الآية، قال مقاتل: روي أن الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النبوة حقا لكنت أولى بها منك لأني أكبر منك سنا وأكثر مالا منك. وروي أن أبا جهل قال: تزاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي يوحى إليه، والله لا نرضي به، ولا نتبعه أبدا، إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه. فنزلت. والضمير في جاءتهم عائد على الأكابر وتغيية إيمانهم بقولهم: حتى نؤتى دليل على تمحلهم في دعواهم واستبعاد منهم أن الإيمان لا يقع منهم البتة إذ علقوه بمستحيل عندهم.
وقولهم: { رسل الله } ليس فيه إقرار بالرسل من الله تعالى وإنما قالوا ذلك على سبيل التهكم والاستهزاء، ولو كانوا موقنين وغير معاندين لاتبعوا رسل الله تعالى. والمثلية كونهم تجري على أيديهم المعجزات فتحيي لهم الأموات ويفلق لهم البحر ونحو ذلك كما جرت على أيدي الرسل.
{ الله أعلم حيث يجعل رسالته } هذا استئناف إنكار عليهم، وأنه تعالى لا يصطفي للرسالة إلا من علم أنه يصلح لها وهو أعلم بالجهة التي يضعها فيها وقد وضعها فيمن اختاره لها وهو محمد صلى الله عليه وسلم دون أكابر مكة كأبي جهل والوليد بن المغيرة ونحوهما، وقالوا حيث لا يمكن إقرارها على الظرفية فتكون مفعولا على السعة ولا يعمل فيه أعلم، إذ أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به فاحتاجوا إلى إضمار فعل يفسره أعلم تقديره يعلم حيث هكذا. قال الحوفي والتبريزي وابن عطية وأبو البقاء : وما أجازوه من أنه مفعول به على السعة أو مفعول به على غير السعة تأباه قواعد النحو لأن النحاة نصوا على أن حيث من الظروف التي لا تتصرف، وشذ إضافة لدى إليها وجرها بالباء وبفي. ونصوا على أن الظرف الذي يتوسع فيه لا يكون إلا متصرفا وإذا كان الأمر كذلك امتنع نصب حيث على المفعول به لا على السعة ولا غيرها، والذي يظهر لي إقرار حيث على الظرفية المجازية على أن يضمن أعلم معنى ما يتعدى إلى الظرف فيكون التقدير الله أنفذ علما حيث يجعل رسالاته، أي هو نافذ العلم في الموضع الذي يجعل فيه رسالته.
والظرفية هنا مجاز كما قلنا.
{ سيصيب } وعيد شديد.
{ الذين أجرموا } عام في الأكابر وغيرهم والصغار مقابل للأكابر وهو الهوان والذل. يقال منه: صغر يصغر، وصغر يصغر، واسم الفاعل صاغر وصغير.
{ عند الله } أي في عرصة قضاء الآخرة وقدم الصغار على العذاب لأنهم تمردوا عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وتكبروا طلبا للعز والكرامة فقوبلوا أولا بالهوان والذل.
{ بما كانوا } الباء للسبب. وختمها بقوله:
{ يمكرون } مراعاة لقوله تعالى: { ليمكروا فيها }.
[6.125-129]
{ فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلم } قال مقاتل: نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبي جهل. والهداية هنا مقابلة الضلال، والشرح كناية عن جعله قابلا للإسلام متوسعا لقبول تكاليفه. والضمير في يجعل عائد على الله تعالى ومعنى يجعل يصير لأن الإنسان يخلق أولا على الفطرة وهي كونه متهيئا لما يلقى إليه ولما يجعل فيه، فإذا أراد الله تعالى إضلاله أضله وجعله لا يقبل الإيمان.
وقرىء: { ضيقا } بحذف الياء التي هي عين الكلمة، إذ وزنه قبل الحذف فيعل وبعد الحذف فيل كقولهم: لين ولين.
{ حرجا } إسم فاعل من حرج يحرج فهو حرج. ومن قرأ حرجا فهو وصف بالمصدر.
{ كأنما يصعد } هذه الجملة التشبيهية معناها أنه كما يزاول أمرا غير ممكن لأن صعود السماء مثل فيما يقصد ويمتنع من الاستطاعة وتضيق عنه المقدرة. وقرىء: يصاعد ويصعد ويصعد.
{ كذلك يجعل الله } الإشارة بذلك إلى المصدر المفهوم من قوله: يجعل.
{ الرجس } بمعنى العذاب، قاله أهل اللغة. وتعدية يجعل بعلى يحتمل أن يكون معناها يلقى كما تقول: جعلت متاعك بعضه على بعض، وأن يكون بمعنى يصير، وعلى في موضع المفعول الثاني.
{ وهذا صراط ربك مستقيما } الإشارة بقوله: وهذا، إلى القرآن والشرع الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قاله ابن عباس. وانتصب مستقيما على أنه حال مؤكدة، لأن صراطه تعالى لا يكون إلا مستقيما.
و { قد فصلنا الآيات } أي بيناها ولم نترك فيها إجمالا ولا التباسا.
{ لقوم يذكرون } أي يتدبرون بعقولهم.
{ لهم دار السلم عند ربهم } أي الجنة. والسلام من أسماء الله تعالى كما قيل في الكعبة بيت الله، وأضيفت إليه تشريفا، قاله ابن عباس.
{ وهو وليهم } أي مواليهم وناصرهم على أعدائهم، ومتوليهم بالجزاء على أعمالهم.
{ ويوم يحشرهم جميعا } أعرب بعضهم يوم مفعول باذكر محذوفة والأولى أن يكون الظرف معمولا لفعل القول المحكي به النداء، أي ويوم نحشرهم نقول: يا معشر الجن وهو أولى مما أجاز بعضهم من نصبه باذكر مفعولا به لخروجه عن الظرفية. وقال الزمخشري: ويوم نحشرهم منصوبا بفعل مضمر غير فعل القول واذكر تقديره عندهم ويوم نحشرهم. وقلنا: يا معشر الجن كان ما لا يوصف لفظاعته. " انتهى ". وما ذكره يستلزم حذف جملتين: جملة وقلنا، وجملة العامل. ويجوز أن يكون يا معشر في موضع الحال لقول محذوف تقديره قائلين على سبيل التوبيخ لهم ويكون قوله: وقال أولياؤهم مقولهم ربنا على سبيل الاعتذار. والعامل في يوم قال: النار مثواكم: والضمير في نحشرهم عائد على الثقلين. وجميعا: توكيد. ومعنى الاستكثار هنا إضلالهم منهم كثيرا وجعلهم اتباعهم، كما تقول: استكثر فلان من الجنود واستكثر فلان من الاشياع.
{ وقال أوليآؤهم من الإنس } الآية، أي وقال أولياء الجن أي الكفار. من الإنس { ربنا استمتع } انتفع.
{ بعضنا ببعض } فانتفاع الإنس بالشياطين حيث دلوهم على الشهوات وعلى التوصلات إليها وانتفاع الجن بالإنس حيث أطاعوهم وساعدوهم على مرادهم من إغوائهم، روي هذا المعنى عن ابن عباس. والأجل الذي بلغوه هو الموت.
{ قال النار مثوكم } أي مكان ثوائكم أي إقامتكم. وقال أبو علي: هو عندي مصدر لا موضع وذلك لعمله في الحال التي هي خالدين. والموضع ليس فيه معنى فعل، فيكون عاملا والتقدير النار ذات ثوائكم.
{ إلا ما شآء الله } اضطربت أقوال المفسرين في هذا الاستثناء ولا أراه يصح منها شىء ونظيره الاستثناء الذي في سورة هود وسيأتي الكلام في ذلك.
{ إن ربك حكيم عليم } هذه صفتان مناسبتان لهذه الآية لأن تخليد هؤلاء الكفرة في النار صادر عن حكمته.
{ وكذلك نولي بعض الظلمين بعضا } الآية، لما ذكر تعالى أنه ولى المؤمنين يعني أنه يحفظهم وينصرهم بين أن الكافرين بعضهم أولياء بعض في الظلم والخزي. قال قتادة: نجعل بعضهم ولي بعض في الكفر والظلم، يريد ما تقدم من ذكر الجن والإنس واستمتاع بعضهم ببعض.
[6.130-135]
{ يمعشر الجن والإنس } هذا النداء أيضا يوم القيامة والاستفهام للتوبيخ والتقريع حيث أعذر الله إليهم بإرسال الرسل فلم يقبلوا منهم. والظاهر أن من الجن رسلا إليهم كما أن من الإنس رسلا إليهم بعث الله تعالى رسولا واحدا من الجن إليهم. وقيل: رسل الجن هم رسل الإنس، فهم رسل الله تعالى بواسطة إذ هم رسل رسله ويؤيده قوله تعالى:
ولوا إلى قومهم منذرين
[الأحقاف: 29] قاله ابن عباس.
{ قالوا شهدنا على أنفسنا } الظاهر أن هذه حكاية لتصديقهم وإيجابهم قوله: ألم يأتكم، لأن الهمزة الداخلة على نفي إتيان الرسل للإنكار فكان تقديرا لهم. والمعنى قالوا شهدنا على أنفسنا باتيان الرسل إلينا وإنذارهم إيانا هذا اليوم. وهذه الجملة نابت مناب بل هنا فقد صرح بها في قوله: قالوا بلى أقروا بأن حجة الله تعالى لازمة لهم وأنهم محجوجون بها.
{ وغرتهم الحياة الدنيا } هذا إخبار عنهم من الله تعالى، وتنبيه على السبب الموجب لكفرهم، وإفصاح لهم بأذم الوجوه الذي هو الخداع. قال الزمخشري: فإن قلت: لم كرر شاءتهم على أنفسهم؟ قلت: الأولى حكاية لقولهم: كيف يقولون ويعترفون، والثانية ذم لهم وتخطئة لرأيهم ووصف لقلة نظرهم وأنهم قوم غرتهم الحياة الدنيا واللذات الحاضرة، وكان عاقبة أمرهم أن اضطروا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر والاستسلام لربهم واستيجاب عذابه، وإنما قال: ذلك تحذيرا للسامعين مثل حالهم. " انتهى ". لم تتكرر الشهادة لاختلاف المخبر ومتعلقها فالأولى إخبارهم عن أنفسهم، والثانية إخباره تعالى عنهم. والأولى متعلقها الإقرار بإتيان الرسل إليهم قاصين ومنذرين، والثانية إخباره تعالى أنهم شهدوا على أنفسهم بالكفر فهذه الشهادة غير الأولى.
{ ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم } الآية، الإشارة بذلك إلى أقرب مذكور دل عليه الكلام، وهو إتيان الرسل قاصين الآيات ومنذرين بالحشر والحساب والجزاء بسبب انتفاء إهلاك القرى بظلم وأهلها لم ينبهوا ببعثة الرسل إليهم والإعذار إليهم والتقدم بالاخبار بما يحل بهم إذا لم يتبعوا الرسل. وفي الحديث:
" ليس أحد أحب إليه العذر من الله تعالى، فمن أجل ذلك أنزل الكتب وأرسل الرسل ".
{ ولكل درجت مما عملوا } أي لكل من المكلفين مؤمنهم وكافرهم درجات متفاوتة من جزاء أعمالهم وتفاوتها بنسبة بعضهم إلى بعض وبنسبة عمل كل عامل فيكون هو في درجة فيترقى إلى أخرى كاملة ثم إلى أكمل. والظاهر إندراج الجن في العموم في الجزاء كما اندرجوا في التكليف وفي إرسال الرسل إليهم. قال ابن عباس: جزاء مؤمني الجن إجارتهم من النار. وقال أبو حنيفة: ليس للجن ثواب لأن الثواب فضل من الله تعالى فلا يقال به إلا ببيان من الله تعالى. ولم يذكر الله تعالى في حقهم إلا عاقبة عاصيهم لا ثواب طائعهم.
وخالفه صاحباه أبو يوسف ومحمد فقالا: لهم ثواب على الطاعات وعقاب على المعاصي، ودليلهما عمومات الكتاب والسنة.
{ وما ربك بغفل } أي ليس بساه تخفى عليه مقادير الأعمال. وما يترتب عليها من الأجور، وفي ذلك تهديد ووعيد.
{ وربك الغني ذو الرحمة } لما ذكر تعالى من أطاع ومن عصى والثواب والعقاب، ذكر أنه هو الغني من جميع الجهات لا تنفعه الطاعة ولا تضره المعصية.
{ إن يشأ يذهبكم } الآية، هذا فيه إظهار القدرة التامة والغنى المطلق والخطاب عام للخلق كلهم، كما قال تعالى: { إن يشأ يذهبكم } أيها الناس
ويأت بآخرين
[النساء: 133]. فالمعنى إن يشأ إفناء هذا العالم واستخلاف ما يشاء من الخلق غيرهم فعل، وكما أنشأكم في موضع مصدر على غير الصدر، لقوله: ويستخلف، لأن معناه وينشىء؛ والمعنى أن يشأ الاذهاب والإستخلاف يذهبكم ويستخلف فكل من الإذهاب والاستخلاف معذوق بمشيئة الله تعالى ومن: لابتداء الغاية.
{ إن ما توعدون لآت } ظاهر ما العموم في كل ما توعدونه. والإشارة إلى الوعيد المتقدم خصوصا واما أن يكون للعموم مطلقا.
{ ومآ أنتم بمعجزين } أي فائتين. أعجزني الشيء فاتني، أي لا تفوتوننا عما أردنا بكم.
{ قل يقوم اعملوا على مكانتكم } الآية، قرىء مكانتكم على الجمع حيث وقع فمن جمع قابل جمع المخاطبين بالجمع، ومن أفرد فعلى الجنس. والمكانة: مصدر مكن فالميم أصلية وبمعنى المكان. ويقال: المكانة مفعل ومفعلة من الكون، فالميم زائدة فيحتمل أن يكون المعنى على تمكنكم من أمركم وأقصى استطاعتكم وإمكانكم. والظاهر أن من مفعول بتعلمون وأجازوا أن تكون مبتدأ اسم استفهام وخبره تكون والفعل معلق، والجملة في موضع المفعول إن كان تعلمون معدي إلى واحد أو في موضع المفعولين إن كان معدى إلى مفعولين.
و { عقبة الدار } مآلها وما تنتهي إليه. والدار يظهر منه أنها دار الآخرة.
[6.136-139]
{ وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعم نصيبا } روي عن ابن عباس وغيره أن العرب كانت تجعل من غلاتها وزروعها وأثمارها وأنعامها جزأ تسميه لله تعالى، وجزأ تسميه لأصنامها، وكانت عادتها أن تبالغ وتجتهد في إخراج نصيب الأصنام أكثر منها في نصيب الله تعالى إذ كانوا يعتقدون أن الأصنام بها فقر، وليس ذلك بالله تعالى. فكانوا إذا جمعوا الزرع فهبت الريح فحملت من الذي لله إلى ذلك لشركائهم تركوه ولم يردوه إلى نصيب الله ويفعلون عكس هذا وإذا تفجر من سقى ما جعلوه لله تعالى في نصيب شركائهم تركوه وبالعكس سدوه وإذا لم ينجح شىء من نصيب آلهتهم جعلوا نصيب الله تعالى لها، وكذا في الانعام وإذا أجدبوا أكلوا نصيب الله وتركوا نصيبها. لما ذكر تعالى قبح طريقة مشركي العرب في إنكارهم البعث ذكر أنواعا من جعالتهم تنبيها على ضعف عقولهم. وفي قوله تعالى: { مما ذرأ } ، أنه تعالى كان أولى أن يجعل له الأحسن والأجود، وأن يكون جانبه تعالى هو الأرجح إذ كان تعالى هو الموجد لما جعلوا منه نصيبا له، والقادر على تنميته دون أصنامهم العاجزة عما يحل بها فضلا عن أن تخلق شيئا أو تنميه.
{ سآء ما يحكمون } هذا ذم بالغ عام لأحكامهم فيدخل فيه حكمهم هذا السابق وغيره أو في إيثار آلهتهم على الله تعالى وعملهم ما لم يشرع لهم. وما: مصدرية. وساء: متعدية، حذف مفعولها لدلالة المعنى تقديره ساءهم حكمهم، أي جلب لهم السوء وقد ذكروا في ما إعرابا غير ما ذكرناه نبهنا عليه في البحر. وقال ابن عطية: وما في موضع رفع، كأنه قال: ساء الذي يحكمون. ولا يتجه عندي أن تجري هنا ساء مجرى نعم وبئس لأن المفسر هنا مضمر، ولا بد من إظهاره باتفاق من النحاة وإنما اتجه أن تجري مجرى بئس في قوله:
سآء مثلا القوم
[الأعراف: 177]، لأن المفسر ظاهر في الكلام. " انتهى ". وهذا قول من شذا يسيرا من العربية ولم ترسخ قدمه فيها بل إذا جرت ساء مجرى نعم وبئس كان حكمها حكمهما سواء لا تختلف في شىء البتة من فاعل مضمرا. وظاهر ويتميز ولا خلاف في جواز حذف المخصوص بالمدح والذم والتمييز فيها لدلالة الكلام عليه فقوله لأن المفسر هنا مضمر ولا بد من إظهاره باتفاق النحاة إلى آخره كلام ساقط ودعواه الاتفاق مع أن الاتفاق على خلاف ما ذكر عجب عجاب.
{ وكذلك زين لكثير } الإشارة بذلك إلى المصدر المفهوم من قوله: وجعلوا لله تقديره. ومثل ذلك الجعل في التزيين زين لكثير من المشركين.
{ قتل أولدهم } بالوأد أو بنحرهم للآلهة وكان الرجل يحلف في الجاهلية لئن ولد لي كذا غلاما لينحرن أحدهم كما حلف عبد المطلب.
وقرىء زين مبنيا للفاعل والفاعل شركاؤهم. وقتل مصدر مضاف للمفعول. وقرىء زين مبنيا للمفعول، وقتل مفعول لم يسم فاعله وشركاؤهم مرفوع بفعل محذوف يدل عليه ما قبله تقديره زينه شركاؤهم. ونظيره قراءة من قرأ يسبح له مبنيا للمفعول. ورجال فاعل بفعل محذوف يدل عليه ما قبله تقديره ويسبحه رجال. وقرأ ابن عامر كذلك، ألا أنه نصب أولادهم وجر شركائهم فصل بين المصدر المضاف إلى الفاعل بالمفعول وهي مسألة مختلف في جوازها فجمهور البصريين يمنعونها متقدموهم ومتأخروهم ولا يجيزون ذلك إلا في ضرورة الشعر. وبعض النحويين أجازها وهو الصحيح لوجودها في هذه القراءة المتواترة المنسوبة إلى العربي الصريح المحصن ابن عامر الآخذ للقرآن عن عثمان بن عفان رضي الله عنه، قبل أن يظهر اللحن في لسان العرب، ولوجودها أيضا في لسان العرب في عدة أبيات. من ذلك قول الشاعر:
فزججتها بمزجة زج
القلوص أبي مزاده
قال الزمخشري: والفصل بينهما يعني المضاف والمضاف إليه لو كان في مكان الضرورات وهو الشعر لكان سمجا مردودا كما سمج ورود: زج القلوص أبي مزاده. فكيف به في الكلام المنثور، فكيف به في القرآن المعجز بحسن نظمه وجزالته، والذي حمله على ذلك أنه رأى في بعض المصاحف شركائهم مكتوبا بالياء. ولو قرأ بجر الأولاد والشركاء لأن الأولاد وشركاؤهم في أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب. " انتهى ". أعجب لعجمي ضعيف في النحو يرد على عربي صريح محض قراءة متواترة موجود نظيرها في لسان العرب في غير ما بيت وأعجب لسوء ظن هذا الرجل بالقراء الأئمة الذين تخيرتهم هذه الأمة لنقل كتاب الله شرقا وغربا. وقد اعتمد المسلمون على نقلهم لضبطهم ومعرفتهم وديانتهم.
ومعنى: { ليردوهم } ليهلكوهم من الردى، وهو الهلاك.
{ وليلبسوا } ليخلطوا.
و { دينهم } ما كانوا عليه من دين إسماعيل حتى زلوا عنه إلى الشرك.
{ ولو شآء الله ما فعلوه } الظاهر عود الضمير على القتل لأنه المصرح به والمحدث عنه. والواو في فعلوه: عائدة على الكثير.
{ فذرهم وما يفترون } أي يختلقون من الإفك على الله تعالى. والأحكام التي يشرعونها وهو أمر تهديد ووعيد. وما: مصدرية، أي وافتراؤهم، أو موصولة بمعنى الذي. والعائد من الصلة محذوف تقديره يفترونه.
{ وقالوا هذه أنعم وحرث حجر } الآية، أعلم تعالى بأشياء مما شرعوها وتقسيمات ابتدعوها والتزموها على جهة الفرية والكذب منهم على الله تعالى أفردوا من أنعامهم وزروعهم وأثمارهم شيئا. وقالوا: هذا حجر، أي حرام ممنوع. والحجر بمعنى المحجور كالذبح والطحن.
{ لا يطعمهآ } والضمير في يطعمها عائد على الإنعام والحرث. ومفعول نشاء محذوف تقديره من نشاء طعمه. وقيل: هم الرجال دون النساء. وقيل: هم سدنة الأصنام أي خدمتها.
{ وأنعم حرمت ظهورها } هي البحائر والسوائب والحوامي، وتقدم تفسيرها في المائدة.
{ وأنعم لا يذكرون اسم الله عليها } أي عند الذبح. وقال أبو وائل وجماعة: لا يحجون عليها ولا يلبون، وكانت تركب في كل وجه إلا الحج.
{ افترآء عليه } أي اختلاقا وكذبا على الله تعالى حيث قسموا هذه الأنعام هذه التقسيم ونسبوا ذلك إلى الله تعالى. وانتصب افتراء على أنه مفعول من أجله أو مصدر على إضمار فعل أي يفترون.
{ وقالوا ما في بطون هذه الأنعم } الذي في بطونها هو الأجنة. يقولون: في أجنة البحائر والسوائب، ما ولد منها حيا، فهو خالص للذكور ولا تأكل منه الإناث، وما ولد ميتا اشترك فيه الذكور والإناث. وقيل: ما في بطونها اللبن. وقال الطبري: اللفظ يعم الأجنة واللبن. " انتهى ". والظاهر الأجنة لأنها التي في البطن حقيقة، وأما اللبن ففي الضرع لا في البطن إلا بمجاز بعيد. ما: مبتدأ خبره خالصة أنث على المعنى، ثم ذكر في قوله: محرم، حملا على لفظ ما. وقرىء: خالصة بالنصب على الحال وخالصا بالنصب على الحال أيضا. وقرىء: خالص بالرفع بغير تاء خبر لما.
{ لذكورنا } متعلق بخالص أو بخالصة.
{ وإن يكن ميتة فهم فيه شركآء } كانوا إذا خرج الجنين ميتا اشترك في أكله الرجال والنساء. وكذلك ما مات من الانعام الموقوفة نفسها. وقرىء: وإن تكن بتاء التأنيث ميتة بالنصب أي وإن تكن الأجنة التي تخرج ميتة. وقرىء: وإن يكن ميتة بالرفع على كان التامة. وأجاز الأخفش أن تكون الناقصة، وجعل الخبر محذوفا التقدير وإن يكن في بطونها ميتة. قال الزمخشري: وقرأ أهل مكة وإن تكن ميتة بالتأنيث والرفع. " انتهى ". ان عنى بقوله: أهل مكة، ابن كثير فهو وهم. وإن عنى غيره من أهل مكة فيمكن أن يكون نقلا صحيحا. وهذه القراءة التي عزاها الزمخشري لأهل مكة هي قراءة ابن عامر رحمه الله.
{ سيجزيهم وصفهم } أي جزاء وصفهم.
[6.140-143]
{ قد خسر الذين قتلوا أولدهم } الآية، كان جمهور العرب لا يئدون بناتهم وكان بعض ربيعة مضر يئدونهن وهو دفنهن أحياء فبعضهم يئد خوف العيلة والاقتار، وبعضهم خوف السبي. فنزلت هذه الآية في ذلك إخبارا بخسران فاعل ذلك. ولما تقدم تزيين قتل الأولاد وتحريم ما حرموه في قولهم: هذه أنعام وحرث. حجر جاء هنا تقديم قتل الأولاد وتلاه التحريم.
وفي قوله: { سفها بغير علم } إشارة إلى خفة عقولهم وجهلهم بأن الله تعالى هو الرزاق والمقدر السبي وغيره.
{ وهو الذي أنشأ جنت } الآية، مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أخبر عنهم أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله أخذ يذكر تعالى ما امتن به عليهم من الرزق الذي تصرفوا فيه بغير إذنه تعالى إفتراء منهم واختلاقا فذكر نوعي الرزق النباتي والحيواني، فبدأ بالنباتي كما بدأ به في الآية المشبهة لهذه واستطرد منه إلى الحيواني إذ كانوا قد حرموا أشياء من النوعين.
{ معروشت } ويقال: عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكا تنعطف عليه القضبان.
{ والنخل } قدمه على الزرع لأن العرب كانت أحوج إليه إذ كانت غالب قوتهم واختلاف أكله وهو المأكول، هو بأن لكل نوع من أنواع النخل والزرع طعما ولونا وحجما ورائحة تخالف به النوع الآخر. والمعنى مختلفا أكل ثمره وانتصب مختلفا على أنه حال مقدرة، لأنه لم يكن وقت الإنشاء مختلفا. قال الزمخشري: والضمير في أكله عائد على النخل والزرع، وأفرد لدخوله في حكمه بالعطفية. " انتهى ". ليس بجيد لأن العطف بالواو لا يجوز إفراد ضمير المتعاطفين. وقال الحوفي: والهاء في أكله عائدة على ما تقدم من ذكره هذه الأشياء والمنشآت. " انتهى ". وعلى هذا لا يكون ذو الحال النخل والزرع فقط بل جميع ما أنشأ لاشتراكها كلها من اختلاف المأكول ولو كان كما زعم لكان التركيب مختلفا أكلها، إلا أن أخذ على حذف مضاف، أي ثمر جنات وروعي هذا المحذوف فقيل: أكله بالإفراد على مراعاته فيكن ذلك نحو قوله:
أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج
[النور: 40] أي أو كذي ظلمات. والظاهر عوده على أقرب مذكور وهو الزرع فيكون قد حذفت حال النخل لدلالة هذه الحال عليها التقدير النخل مختلفا أكله والزرع مختلفا أكله كما في زيد وعمرو قائم. وتقدم الكلام على قوله: والزيتون والرمان كلوا من ثمره إذا أثمر لما كان مجيء تلك الآية في معرض الاستدلال بها على الصانع وقدرته والحشر وإعادة الأرواح إلى الأجساد بعد العدم وإبراز الجسد وتكوينه من العظم الرميم وهو عجب الذنب. قال: انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه إشارة إلى الإيجاد أولا، وإلى غايته وهنا لما كان معرض الغاية الامتنان، وإظهار الإحسان بما خلق لنا.
قال: كلوا من ثمره إذا أثمر فحصل بمجموعها الحياة الأبدية والحياة الدنيوية السريعة الانقضاء. وتقدم النظر وهو الفكر على الأكل لهذا السبب، وهو أمر بإباحة الأكل، واستدل به على أن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق، وقيده بقوله: إذا أثمر وإن كان من المعلوم أنه إذا لم يثمر فلا أكل، تنبيها على أنه لا ينتظر به محل إدراكه واستوائه بل متى أمكن الأكل منه فعل.
{ وآتوا حقه يوم حصاده } والذي يظهر عود الضمير على ما عاد عليه من ثمره وهو جميع ما تقدم ذكره مما يمكن أن يؤكل إذا أثمر وألحق هنا مجمل، واختلف فيه أهو الزكاة أم غيرها. وقرىء: حصاده وحصاده بفتح الحاء وكسرها.
{ ولا تسرفوا } روى ابن عباس أن ثابت بن قيس بن شماس جذ خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا. فنزلت. ولما أمر تعالى بالأكل من ثمره وإيتاء حقه نهى عن مجاوزة الحد، فقال: ولا تسرفوا، وهذا النهي يتضمن إفراد الإسراف فيدخل فيه الإسراف من أكل الثمرة حتى لا يبقى منها شيء للزكاة، والإسراف في الصدقة بها حتى لا يبقى لنفسه ولا لعياله شيئا.
{ ومن الأنعم حمولة وفرشا } هذا معطوف على جنات، أي وأنشأ من الانعام حمولة وفرشا. والحمولة ما يحمل عليه من الإبل والبقر، والحمولة: الأحمال. ويقال: الحمول بفتح الحاء بمعنى الحمولة. قال الشاعر:
حي الحمول بجانب العزل
إذ لا يلائم شكلها شكل
والفرش: الغنم. وقدم الحمولة على الفرش لأنها أعظم في الانتفاع إذ ينتفع بها في الأكل والحمل.
{ ثمنية أزوج } تقدم تفسير ما أحل المشركون وما حرموا ونسبتهم ذلك إلى الله تعالى، فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم وكان خطيبهم مالك بن عوف بن أبي الأحوص الجشمي فقال:
" يا محمد بلغنا أنك تحل أشياء فقال له: إنكم قد حرمتم أشياء على غير أصل وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها، فمن أين جاء هذا التحريم؟ أمن قبل المذكر أم من قبل الأنثى؟ فسكت مالك بن عوف وتحير "
وقوله ثمانية أزواج بدل من قوله: حمولة وفرشا.
{ من الضأن } الضأن: معروف بسكون الهمزة وفتحها. ويقال ضيئن. وكلاهما اسم جمع لضائنة وضائن.
{ ومن المعز اثنين } المعز معروف، بسكون العين وفتحها، ويقال: معيز ومعزى، وهي أسماء جموع لماعزة وماعز وأمعوز.
{ قل ءآلذكرين حرم أم الأنثيين } وهذا الاستفهام هو استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع حيث نسبوا ما حرموه إلى الله تعالى وكانوا مرة يحرمون الذكور والإناث مرة أولادها ذكورا أو إناثا ومختلطة فبين تعالى أن هذا التقسيم هو من قبل أنفسهم لا من قبله تعالى.
{ نبئوني بعلم إن كنتم صدقين } في نسبة ذلك التحريم إلى الله تعالى فأخبروني عن الله تعالى بعلم لا بافتراء ولا بتخرص وأنتم لا علم لكم بذلك إذ لم يأتكم بذلك وحي من الله تعالى فلا يمكن منكم تنبئة بذلك وفصل بهذه الجملة المعترضة بين المتعاطفين على سبيل التقريع لهم والتوبيخ، حيث لم يستندوا في تحريمهم إلا إلى الكذب البحت والافتراء.
[6.144-145]
{ ومن الإبل } الآية الإبل الجمال للواحد والجمع، ويجمع على إبال، وتأبل الرجل: اتخذ إبلا. وقولهم: ما أبل الرجل في التعجب شاذ، وقدم الإبل على البقر لأنها أغلى ثمنا وأغنى نفعا في الرحلة وحمل الأثقال عليها واصبر على الجوع والعطش وأطوع وأكثر انقيادا في الإناخة والإشارة.
{ أم كنتم شهدآء } انتقل من توبيخهم في نفي علمهم بذلك إلى توبيخهم في نفي شهادتهم. وذلك وقت توصية الله إياهم بذلك لأن مدرك الأشياء المعقول والمحسوس، فإذا انتفيا فكيف يحكم بتحليل أو بتحريم.
{ فمن أظلم } الآية، أي لا أحد أظلم.
{ ممن افترى على الله كذبا } فنسب إليه تحريم ما لم يحرمه تعالى فلم يقتصر على افتراء الكذب في حق نفسه وضلالها حتى قصد بذلك ضلال غيره فسن هذه السنة الشنعاء. وغايته بها إضلال الناس فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
{ إن الله لا يهدي القوم الظلمين } نفي هداية من وجد منه الظلم. فكان من فيه الأظلمية أولى بأن لا يهديه. وهذا عموم في الظاهر وقد تبين تخصيصه بما يقتضيه الشرع.
{ قل لا أجد في مآ أوحي إلي } الآية، لما ذكر أنهم حرموا ما حرموا افتراء على الله، أمره تعالى أن يخبرهم بأن مدرك التحريم إنما هو بالوحي من الله تعالى وبشرعه لا بما تهوى الأنفس وما تختلقه على الله تعالى. وجاء الترتيب هنا كالترتيب الذي في البقرة والمائدة وجاءت هنا هذه المحرمات منكرة والدم موصوفا بقوله: مسفوحا. والفسق موصوفا بقوله: أهل لغير الله به. وفي تينك السورتين معرفا لأن هذه السورة مكية فعلق بالمنكر وتانك السورتان مدنيتان، فجاءت تلك الأسماء معارف بالعهد وحوالة على ما سبق تنزيله في هذه السورة.
و { إلا أن يكون } استثناء منقطع لأنه كون والمحرم عين من الأعيان. ويجوز أن يكون بدلا على لغة بني تميم، ونصبا على لغة الحجاز، كقوله تعالى:
ما لهم به من علم إلا اتباع الظن
[النساء: 157] لأن اتباع الظن ليس بعلم فهو استثناء منقطع، واسم كان ضمير مذكر يعود على محرم تقديره إلا أن يكون المحرم ميتة. ومعنى مسفوحا، أي مصبوبا سائلا كالدم في العروق لا كالطحال والكبد. وقد رخص في دم العروق بعد الذبح. وقيل لأبي مجلز القدر تعلوه الحمرة من الدم ، فقال: إنما حرم الله تعالى المسفوح. وفي قوله: أو دما مسفوحا، دلالة على أن دم البق والبراغيث والذباب ليس بنجس لأنه ليس بمسفوح. والظاهر أن الضمير في فإنه عائد على لحم الخنزير. وزعم أبو محمد بن حزم أنه عائد على خنزير فإنه أقرب مذكور. وإذا احتمل الضمير العود إلى شيئين كان عوده على الأقرب أرجح، وعورض بأن المحدث عنه إنما هو اللحم.
وجاء ذكر الخنزير على سبيل الإضافة إليه لا أنه هو المحدث عنه المعطوف. ويمكن أن يقال: ذكر اللحم تنبيها على أنه أعظم ما ينتفع به من الخنزير وإن كان سائره مشاركا له في التحريم بالتنصيص على العلة من كونه رجسا، أو لإطلاق الأكثر على كله أو الأصل على التابع لأن الشحم وغيره تابع للحم أو فسقا معطوف على ما قبله. قال الزمخشري: فسقا منصوب على أنه مفعول من أجله مقدم على العامل فيه وهو أهل كقوله:
طربت وما شوقا إلى البيض أطرب
وفصل بين أو وأهل بالمفعول له. " انتهى ". هذا إعراب متكلف جدا وتركيبه خارج عن الفصاحة، وغير جائز على قراءة من قرأ إلا أن يكون ميتة بالرفع، فيبقى الضمير في به ليس له ما يعود عليه، ولا يجوز أن يتكلف محذوف حتى يعود الضمير عليه فيكون التقدير أو شىء أهل لغير الله به لأن مثل هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر وسمي ما أهل لغير الله به فسقا لتوغله في باب الفسق. ومنه:
ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق
[الأنعام: 121]، وأهل في موضع الصفة له. واختلفوا في هذه الآية أهي محكمة وهو قول الشعبي وابن جبير فعلى هذا لا شىء محرم من الحيوان إلا فيها وليس هذا مذهب الجمهور. وقيل: هي منسوخة بآية المائدة وينبغي أن يفهم هذا النسخ بأنه نسخ للحصر فقط. وقيل: جميع ما حرم داخل في الاستثناء سواء كان بنص قرآن أم حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاشتراك في العلة التي هي الرجسية. والذي نقوله ان الآية مكية وجاءت عقب قوله: ثمانية أزواج، وكان الجاهلية يحرمون ما يحرمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي من هذه الثمانية فالآية محكمة. وأخبر فيها أنه لم يجد فيما أوحي إليه إذ ذاك من القرآن سوى ما ذكر، ولذلك أتت صلة ما جلمة مصدرة بالفعل الماضي فجميع ما حرم بالمدينة لم يكن إذ ذاك سبق منه وحي فيه بمكة فلا تعارض بين ما حرم بالمدينة وبين ما أخبر أنه أوحى إليه بمكة تحريمه. وذكر الخنزير وإن لم يكن من ثمانية أزواج لأن من الناس من كان يأكله إذ ذاك، ولأنه أشبه شىء بثمانية الأزواج في كونه ليس سبعا مفترسا يأكل اللحوم ويتغذى بها، وإنما هو من نمط الثمانية في كونه يعيش بالنبات ويرعى كما ترعى الثمانية، وذكر المفسرون أشياء مما اختلف أصل العلم فيه ذكرناه في البحر المحيط.
{ فمن اضطر } تقدم ولما كان صدر الآية مفتتحا بخطابه تعالى بقوله: قل لا أجد، اختتم الآية بالخطاب فقال:
{ فإن ربك } وذلك بدل على اعتنائه به تعالى بتشريف خطابه افتتاحا واختتاما.
[6.146-150]
{ وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر } مناسبتها لما قبلها أنه لما بين أن التحريم إنما يستند للوحي الإلهي أخبر أنه حرم على بعض الأمم السابقة أشياء كما حرم على أهل هذه الملة أشياء مما ذكرها في الآية قبل، فالتحريم إنما هو راجع إلى الله تعالى في الأمم جميعها، وفي قوله: حرمنا. تكذيب لليهود في قولهم: إن الله تعالى لم يحرم علينا شيئا، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه. قال ابن عباس وجماعة: هي ذوات الظلف كالإبل والنعام وما ليس بذي أصابع منفرجة كالبط والوز ونحوهما، واختاره الزجاج.
{ ومن البقر } من متعلقة بحرمنا. والضمير المثنى في شحومهما عائد على البقر والغنم.
{ إلا ما حملت ظهورهما } أي إلا الشحم الذي حملته ظهور البقر والغنم. قال ابن عباس: وهو ما علق بالظهر من الشحم وبالجنب من داخل بطونهما. وما: موصولة. والضمير العائد على ما محذوف تقديره حملته الحوايا إن قدر وزنها فواعل فجمع حاوية كزواية وزواياه، أو جمع حاوياء كقاصعاء وقواصع، وإن قدر وزنها فعائل فجمع حوية كمطية ومطايا، وتقرير صيرورة ذلك إلى حوايا مذكور في علم التصريف وهي الدوارة التي تكون في بطون الشياه. وقال علي بن عيسى الرماني: هو كل ما يحويه البطن، فاجتمع واستدار. وقال ابن عباس وجماعة: هي الماعز. قال الزمخشري: وأو في " أو الحوايا " بمنزلتها في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين. " انتهى ". الذي قاله النحويون أن أو في هذا المثال للإباحة فيجوز له أن يجالسهما معا وأن يجالس أحدهما والأحسن في الآية إذا قلنا إن ذلك معطوف على شحومهما أن تكون أوفية للتفصيل فصل بها ما حرم عليهم من البقر والغنم.
{ أو ما اختلط } معطوفا على ما حملت ظهورهما.
{ بعظم } هو شحم الألية لأنه على العصعص، قاله السدي وابن جريج.
{ ذلك جزينهم } ذلك إشارة إلى المصدر الدال عليه التحريم كأنه قال: ذلك التحريم جزيناهم.
{ وإنا لصدقون } إخبار عما حرم الله تعالى عليهم لا أن ذلك من تحريم إسرائيل.
{ فإن كذبوك } الظاهر عود الضمير على أقرب مدكور وهم اليهود أي فإن كذبوك فيما أخبرت به أنه تعالى حرمه عليهم. وقالوا: لم يحرمه الله تعالى وإنما حرمه إسرائيل.
{ فقل }: متعجبا من حالهم ومعظما لافترائهم مع علمهم بما قلت.
{ ربكم ذو رحمة واسعة } حيث لم يعاجلكم بالعقوبة مع شدة هذا الجرم كما تقول عند رؤية معصية عظيمة ما أحلم الله تعالى وأنت تريد لإمهاله العاصي.
و { القوم المجرمين } عام فيندرج فيه مكذبوا الرسول وغيرهم من المجرمين. ويحتمل أن يكون من وقوع الظاهر موقع المضمر، أي ولا يرد بأسه عنكم.
وجاء معمول قل الأول جملة إسمية لأنها أبلغ في الاخبار من الجملة الفعلية فناسبت الأبلغية في وصفه تعالى بالرحمة الواسعة وجاءت الجملة الثانية فعلية ولم تأت إسمية فيكون التركيب وذو بأس لئلا يتعادل الاخبار عن الوصفين، وباب الرحمة أوسع فلا تعادل.
{ سيقول الذين أشركوا لو شآء الله } الآية، هذا إخبار بمستقبل وقد وقع وفيه إخبار بمغيب معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان كما أخبر به تعالى. وهذا القول ورد منهم حين بطل احتجاجهم وثبت الرد عليهم فعدلوا إلى أمر حق، وهو أنه لو أراد الله تعالى أن لا يقع شىء من ذلك لم يقع وأورد ذلك على سبيل الحوالة على المشيئة والمقادير مغالطة وحيدة عن الحق وإلحادا، لا اعتقادا صحيحا والذين أشركوا عام في مشركي قريش وغيرهم. ومفعول شاء محذوف تقديره لو شاء الله عدم إشراكنا ما أشركنا.
{ ولا آباؤنا } معطوف على الضمير في أشركنا. ولم يحتج إلى توكيد إذ فضل بين الضمير والمعطوف عليه لفظة لا ولو كان في غير القرآن لاحتيج إلى فصل الضمير كما تقول: ما قمنا نحن وزيد. وهذا على مذهب أهل البصرة والكوفيون لا يشترطون الفصل بالضمير في العطف.
{ كذلك كذب الذين من قبلهم } أي مثل ذلك التكذيب المشار إليه في قوله: فإن كذبوك كذبت الأمم السالفة. فمتعلق التكذيب هو غير قولهم: لو شاء الله ما أشركنا، أي بنحو هذه الشبهة من ظنهم أن ترك الله دليل على رضاه بحالهم.
{ حتى ذاقوا بأسنا } غاية لامتداد التكذيب إلى وقت العذاب لأنه إذا حل العذاب لم يبق تكذيب البتة.
{ قل هل عندكم من علم } هذا استفهام على معنى التهكم بهم وهو إنكار، أي ليس عندكم من علم تحتجون به فتظهروه لنا ما تتبعون في دعاويكم إلا الظن الكاذب الفاسد. وما أنتم إلا تكذبون أو تقدرون وتحذرون. ومن علم: مبتدأ زيدت فيه من، وعندكم: الخبر.
{ فتخرجوه } جواب الاستفهام وهو منصوب بحذف النون كقوله تعالى:
فهل لنا من شفعآء فيشفعوا لنآ
[الأعراف: 53]. وان في الموضعين نافية تقديره ما تتبعون وما أنتم.
{ قل فلله الحجة البالغة } أي البالغة في الاحتجاج الغالبة كل حجة حيث خلق عقولا يفكر بها وأسماعا يسمع بها وأبصارا يبصر بها. وكل هذه مدارك للتوحيد ولاتباع ما جاء به الرسل عن الله تعالى.
{ قل هلم شهدآءكم الذين يشهدون } بين تعالى كذبهم على الله تعالى وافتراءهم في تحريم ما حرموا منسوبا إلى الله تعالى فقال نبئوني بعلم، وقال: أم كنتم شهداء. ولما انتفى هذان الوجهان انتقل إلى وجه ثالث ليس بهذين الوجهين، وهو أن يستدعي منهم من يشهد لهم بتحريم الله تعالى ما حرموا وهلم هنا على لغة الحجاز إسم فعل وهي متعدية، ولذلك انتصب المفعول به بعدها وتأتي الأزمة كقوله:
هلم إلينا
[الأحزاب: 18]، أي اقبلوا إلينا وإضافة الشهداء إليهم تدل على أنهم غيرهم، وهذا أمر على سبيل التعجيز، أي لا يوجد من يشهد لهم بذلك شهادة حق، لأنها دعوى كاذبة.
{ ولا تتبع أهوآء الذين كذبوا بآياتنا } الظاهر في العطف أنه يدل على مغايرة الذوات، والذين كذبوا بآياتنا يعم جميع من كذب الرسول، وإن كان مقرا بالآخرة كأهل الكتاب.
{ والذين لا يؤمنون بالآخرة } قسم من المكذبين بالآيات وهم عبدة الأوثان والجاعلون لربهم عديلا، وهو المثل عدلوا به الأصنام في العبادة والألوهية. ويحتمل أن يكون العطف من تغاير الصفات والموصوف واحد وهو قول الأكثرين.
{ بربهم } متعلق.
{ يعدلون } ومفعول يعدلون محذوف، والتقدير وهم يعدلون بربهم غيره من الآلهة التي عبدوها.
[6.151-153]
{ قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم } لما ذكر ما حرموا افتراء عليه ثم ذكر ما أباحه تعالى لهم من الحبوب والفواكه والحيوان، ذكر ما حرمه تعالى عليهم من أشياء نهاهم عنها وما أوجب عليهم من أشياء أمرهم بها. وتقدم شرح تعالوا عند قوله تعالى:
تعالوا إلى كلمة
[آل عمران: 64]. والخطاب في: قل لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي: تعالوا، قيل: للمشركين. وقيل: لمن بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مؤمن وكتابي ومشرك. وسياق الآيات يدل على أنه للمشركين وإن كان حكم غيرهم. في ذلك حكمهم أمره تعالى أن يدعو جميع الخلق إلى سماع ما حرم الله تعالى بشرع الإسلام المبعوث به إلى الأسود والأحمر. وأتل: أسرد. وأنص من التلاوة وهي اتباع بعض الحروف بعضا. وقال كعب الأحبار: هذه الآية هي مفتتح التوراة: بسم الله الرحمن الرحيم قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم... إلى آخر الآية. وقال ابن عباس: هذه الآيات هي المحكمات التي ذكرها الله تعالى في سورة آل عمران أجمعت عليها شرائع الخلق ولم تنسخ قط في ملة. وقد قيل: انها العشر كلمات أنزلت على موسى عليه السلام. وما: بمعنى الذي، وهي مفعولة بأتل، أي أقرأ الذي حرمه ربكم عليكم. وعليكم متعلق بحرم لا باتل.
{ ألا تشركوا به شيئا } الظاهر أن ان تفسيرية. ولا: ناهية، لأن أتل فعل بمعنى القول وما بعد أن جملة فاجتمع في أن شرطا التفسيرية وهي أن يتقدمها معنى القول، وأن يكون ما بعدها جملة. قال الزمخشري: فإن قلت: إذا جعلت ان مفسرة لفعل التلاوة وهو معلق بما حرم عليكم، وجب أن يكون بعدها منهيا عنه محرما كله كالشرك وما بعده مما دخل عليه حرف النهي فما تصنع بالأول؟ قلت: لما وردت هذه الأوامر مع النواهي، وتقدمهن جميعا فعل التحريم، واشتركن في الدخول تحت حكمه على أن التحريم راجع إلى أضدادها وهي الإساءة إلى الوالدين، وبخس الكيل والميزان وترك العدل في القول ونكث عهد الله. " انتهى ". وكون هذه الأشياء اشتركت في الدخل تحت حكم التحريم وكون التحريم راجعا إلى أضداد الأوامر بعيد جدا والغاز في المعاني ولا ضرورة تدعو إلى ذلك، وأما عطف هذه الأوامر فيحتمل وجهين: أنها معطوفة لا على المناهي قبلها فيلزم انسحاب التحريم عليها حيث كانت في حيز ان التفسيرية بل هي معطوفة على قوله: اتل ما حرم أمرهم أولا بأمر مرتب عليه ذكر مناه ثم أمرهم ثانيا بأوامر، وهذا معنى وأفلح. والثاني أن تكون الأوامر معطوفة على المناهي داخلة تحت أن التفسيرية، ويصح ذلك على تقدير محذوف تكون أن مفسرة له وللمنطوق قبله الذي دل على حذفه.
والتقدير وما أمركم به فحذف، وما أمركم به لدلالة ما حرم عليه، لأن معنى ما حرم ربكم عليكم ما نهاكم ربكم عنه، فالمعنى قل تعالوا أتل ما نهاكم ربكم عنه وما أمركم به وإذا كان التقدير هكذا أصح أن تكون أن تفسيرية لفعل النهي الدال عليه التحريم، وفعل الأمر المحذوف ألا ترى أنه يجوز أن تقول: أمرتك أن لا تكرم جاهلا، وأكرم عالما، إذ يجوز عطف الأمر على النهي والنهي على الأمر، كما قال امرؤ القيس:
وقوفا بها صحبي على مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
وهذا ألا نعلم فيه خلافا بخلاف الجمل المتباينة بالخبر والاستفهام والإنشاء فإن في جواز العطف فيها خلافا. قال الزمخشري: فإن قلت: وجب هلا قلت هي التي تنصب الفعل، وجعلت أن لا تشركوا بدلا مما حرم. قلت: وجب أن يكون لا تشركوا ولا تقربوا ولا تقتلوا ولا تتبعوا السبل نواهي الانعطاف الأوامر عليها. وهي قوله: وبالوالدين إحسانا، التقدير وأحسنوا بالوالدين إحسانا وأوفوا. وإذا قلتم: فاعدلوا وبعهد الله أوفوا. " انتهى ".
ولا يتعين أن تكون جميع الأوامر معطوفة على جميع ما دخل عليه لا لأنا بينا جواز عطف وبالوالدين إحسانا على تعالوا، وما بعده معطوفة عليه، ولا يكون قوله: وبالوالدين معطوف على أن لا تشركوا.
{ وبالوالدين إحسانا } تقدم تفسيره في البقرة.
{ ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم } من هنا سببية أي من فقر، يقال: أملق الرجل إذا افتقر، ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين نهي عن الإساءة إلى الأولاد، ونبه على أعظم الإساءة للأولاد وهو إعدام حياتهم بالقتل خوف الفقر، كما قال في الحديث:
" وقد سئل عن أكبر الكبائر فذكر الشرك بالله تعالى وهو قوله: أن تجعل لله ندا وهو خلقك. ثم قال: وان تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قال: وإن تزاني حليلة جارك "
وجاء هذا الحديث منتزعا من هذه الآية، وجاء التركيب هنا من إملاق نحن نرزقكم وإياهم. وفي سورة الإسراء
خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم
[الآية: 31]. فيمكن أن يكون ذلك من التفنن في الكلام، ويمكن أن يقال في هذه الآية: جاء من املاق. وظاهره حصول الاملاق للوالد لا توقعه وخشيته وإن كان واجدا للحال. فبدأ أولا بقوله: نحن نرزقكم، خطابا للآباء وتبشيرا لهم بزوال الإملاق وإحالة الرزق على الخالق الرازق، ثم عطف عليهم الأولاد، وأما في سورة الإسراء فظاهر التركيب أنهم موسرون، وإن قتلهم إياهم إنما هو لتوقع حصول الإملاق والخشية منه فبدىء فيه بقوله: نحن نرزقهم، إخبارا بتكفله تعالى برزقهم، فلستم أنتم رازقيهم. وعطف عليهم الآباء وصارت الآيتان مفيدتان معنيين أحدهما: أن الآباء نهوا عن قتل الأولاد مع وجود إملاقهم، والآخر: أنهم نهوا عن قتلهم وإن كانوا موسرين، لتوقع الإملاق وخشيته.
وحمل الآيتين على ما يفيد معنيين أولى من التأكيد.
{ ولا تقربوا الفواحش } الآية، المنقول فيما ظهر وما بطن كالمنقول في قوله: وذروا، ظاهر الاثم وباطنه. وتقدم فأغنى عن إعادته.
{ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } هذا مندرج تحت عموم الفواحش، إذ الأجود أن لا يخص الفواحش بنوع ما، وإنما جرد منها قتل النفس تعظيما لهذه الفاحشة واستهوالا لوقوعها ولأنه لا يتأتى الاستثناء بقوله: إلا بالحق إلا من القتل لا من عموم الفواحش. وقوله: التي حرم الله، حوالة على سبق العهد في تحريمها فلذلك وصفت بالتي. والنفس المحرمة هي المؤمنة والذمية والمعاهدة وبالحق بالسبب الموجب لقتلها كالردة والقصاص والزنا بعد الاحصان والمحاربة.
{ ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون } إشارة إلى جميع ما تقدم. وفي لفظ وصاكم من اللطف والرأفة، وجعلهم أوصياء له تعالى ما لا يخفى من الإحسان. ولما كان العقل هو مناط التكليف قال: لعلكم تعقلون، أي فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا والآخرة والوصاة، الأمر المؤكد المقرر. قال الأعشى: أجدك لم تسمع وصاة محمد نبي الإله حين أوصى وأشهدا.
{ ولا تقربوا مال اليتيم } هذا نهي عن القرب الذي يعم جميع وجوه التصرف، وفيه سد الذريعة.
{ إلا بالتي هي أحسن } أي بالخصلة التي هي أحسن في حق اليتيم. ولم يأت إلا بالتي هي حسنة، بل جاء بأفعل التفضيل مراعاة لمال اليتيم وأنه لا يكفي فيه الحالة الحسنة بل الخصلة الحسنى، وأموال الناس ممنوع من قربانها. ونص على اليتيم لأن الطمع فيه أكثر لضعفه وقلة مراعاته.
{ حتى يبلغ أشده } هذه غاية من حيث المعنى لا من حيث هذا التركيب اللفظي. ومعناه: احفظوا على اليتيم ماله إلى بلوغ أشده فادفعوه إليه. وبلوغ الأشد هنا لليتيم هو بلوغ الحلم، مع أنه لا يثبت معه سفه.
{ وأوفوا الكيل والميزان بالقسط } أي بالعدل والسوية. وقيل: القسط هنا أدنى زيادة ليخرج بها عن العهدة بيقين لما روي:
" إذا وزنتم فارجحوا وأوفوا "
فعل أمر وبعده أوامر أيضا وبعده مناه فيحتمل الوجهين السابقين إلى قوله:
{ لا نكلف } الآية، تقدم الكلام على مثلها في البقرة.
{ وإذا قلتم فاعدلوا } أي ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة، فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص، ويدخل في ذي القربى نفس القائل ووالده وأقربوه، فهو ينظر إلى قوله تعالى:
ولو على أنفسكم أو الولدين والأقربين
[النساء: 135]. وعني بالقول هنا ما لا يطلع عليه إلا بالقول من أمر وحكم وشهادة وخبر ووساطة بين الناس وغير ذلك.
{ وبعهد الله أوفوا } يحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل أي بما عاهدكم الله عليه أوفوا، وأن يكون مضافا إلى المفعول، أي بما عاهدتم الله عليه أوفوا.
{ ذلكم وصكم به لعلكم تذكرون } ولما كانت الخمسة المذكورة قبل هذا من الأمور والظاهرة الجلية وجب تعقلها وتفهمها. فختمت بقوله: لعلكم تعقلون. وهذه الأربعة خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والذكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال ختمت بقوله: لعلكم تذكرون.
{ وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه } قرىء: وإن بكسر الهمزة وتشديد النون على الاستئناف. وفاتبعوه: جملة معطوفة على الجملة المستأنفة. وقرىء: بفتح الهمزة وتشديد النون وهو على إضمار اللام تقديره ولأن، كقوله تعالى:
لإيلاف
[قريش: 1]، وقوله:
فليعبدوا رب هذا البيت
[قريش: 3]. وقرىء: وأن وهو على إضمار اللام وأن مخففة من الثقيلة وفيها ضمير الشأن وهذا صراطي مبتدأ وخبر فسر ذلك لضمير الشأن. والإشارة بهذا إلى الآيات التي أعقبتها هذه الآية من الأوامر والنواهي لأنها هي المحكمات التي لم تنسخ في ملة من الملل. ومستقيما حال مؤكدة، لأن صراطه تعالى لا يكون إلا مستقيما.
{ ولا تتبعوا السبل } في مسند الدارمي عن ابن مسعود قال:
" خط لنا يوما رسول الله صلى الله عليه سلم خطا ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن يساره ثم قال: هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها، ثم قرأ هذه الآية "
وانتصب فتفرق لأجل النهي جوابا له أي فتفرق فحذف التاء. وقرىء فتفرق بتشديد التاء.
{ ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } كرر التوصية على سبيل التوكيد، ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف وأمر تعالى باتباعه، ونهى عن بنيات الطريق ختم ذلك بالتقوى التي هي إتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية.
[6.154-158]
{ ثم آتينا موسى الكتاب تماما } ثم تقتضي المهلة في الزمان هذا أصل وضعها، ثم تأتي للمهلة في الاخبار، قال الزمخشري: عطف على وصاكم به قال: فإن قلت: كيف صح عطفه عليه بثم، والإيتاء قبل التوصية بدهر طويل؟ قلت: هذه التوصية قديمة لم تزل تواصاها كل أمة على لسان نبيها، كما قال ابن عباس: محكمات لم ينسخن بشيء من جميع الكتب فكأنه قيل: ذلكم وصاكم به يا بني آدم قديما وحديثا، ثم أعظم من ذلك أنا آتينا موسى الكتاب وأنزلنا هذا الكتاب المبارك. " انتهى ".
والذي قاله الزمخشري هو أنه رام إبقاء على المهلة الزمانية فصار التقدير أن وصاته تعالى تقدمت قبل زمان موسى عليه السلام ثم آتينا ففيه خروج من ضمير الغائب في وصاكم به إلى ضمير المتكلم في قوله: ثم آتينا. والكتاب هنا التوراة. وتماما: منصوب على الحال، وهو مصدر في الأصل. والذي أحسن جنس، أي على من كان محسنا. ويؤيده قراءة ابن مسعود على الذين أحسنوا، وقراءة أبي تماما للمحسنين وهاتان القراءتان تفسير لا قرآن.
{ بلقآء ربهم } أي بالبعث والحساب.
{ وهذا كتب أنزلنه } هذا: إشارة إلى القرآن. وأنزلناه ومبارك صفتان لكتاب، وكان الوصف الأول جملة فعلية مسندة لضمير الله تعالى بنون العظمة، وكان الوصف بالإنزال آكد من الوصف بالبركة، فقدم لأن الكلام هو مع من ينكر رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينكر إنزال الكتب الإلهية وكونه مباركا عليهم هو وصف حاصل لهم منه متراخ عن الإنزال، فلذلك تأخر الوصف بالبركة وتقدم الوصف بالإنزال وبركته بما يترتب عليه من النقع والنماء بجمع كلمة العرب به والمواعظ والحكم والاعلام بأخبار الأمم السالفة والأجور التالية، والشفاء من الادواء، والشفاعة لقارئه، وعده من أهل الله تعالى.
{ أن تقولوا إنمآ أنزل الكتاب } أن تقولوا مفعول من أجله فقدره الكوفيون: لئلا تقولوا ولأجل أن لا تقولوا، وقدره البصريون: كراهة أن تقولوا والعامل في كلا المذهبين أنزلناه محذوفة يدل عليها أنزلناه المتقدمة. والكتاب هنا: جنس. والطائفتان: هم أهل التوراة والإنجيل اليهود والنصارى بلا خلاف. والخطاب متوجه إلى كفار قريش بإثبات الحجة عليهم بإنزال هذا الكتاب لئلا يحتجوا هم وكفار العرب بأنهم لم يكن لهم كتاب، فكأنه قيل: وهذا القرآن يا معشر العرب أنزل حجة عليكم لئلا تقولوا، إنما أنزلت التوراة والإنجيل بغير لساننا على غيرنا، ونحن لم نعرف ذلك فهذا كتاب بلسانكم مع رجل منكم.
{ وإن كنا } قال الزمخشري: وإن هي المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة بينها وبين أن النافية، والأصل وانه كنا عن دراستهم غافلين على أنها ضمير. " انتهى ".
وما ذهب إليه من أن أصله وأنه كنا، والهاء ضمير الشأن يلزم منه أن ان المخففة من الثقيلة عاملة في مضمر محذوف حال التخفيف، كما قال النحويون: في أن المخففة من الثقيلة، والذي نص عليه أن ان المخففة من الثقيلة إذا لزمت اللام في أحد الجزئين بعدها، أو في أحد معمولي الفعل الناسخ الذي يليها أنها مهملة لا تعمل في ظاهر ولا في مضمر لا مثبت ولا محذوف فهذا الذي ذهب إليه مخالف للنصوص، وليست إذا وليها الناسخ داخلة في الأصل على ضمير شأن البتة.
{ أو تقولوا لو أنآ أنزل علينا } الآية، انتقال من الاخبار لحصر إنزال الكتاب على غيرهم وأنه لم ينزل عليهم إلى الأخبار بكم على تقرير. والكتاب هو الكتاب السابق ذكره. ومعنى أهدى منهم أي أرشد وأسرع اهتداء، لكونه نزل علينا بلساننا فنحن نتفهمه ونتدبره وندرك ما تضمنه من غير اكداد فكر ولا تعلم لسان، بخلاف الكتاب الذي أنزل على الطائفتين فإنه بغير لساننا فنحن لا نعرفه ونغفل عن دراسته.
{ فقد جآءكم بينة من ربكم } هذا قطع لاعتذارهم بانحصار إنزال الكتاب على الطائفتين وبكونهم لم ينزل عليم كتاب، ولو نزل لكانوا أهدى من الطائفتين. والظاهر أن البينة هي القرآن، وهو الحجة الواضحة لدلالة النيرة حيث نزل عليهم بلسانهم، وألزم العالم أحكامه وشريعته، وأن الهدى والنور من صفات القرآن.
{ وصدف } أي أعرض عنها، وتأخر الإعراض لأنه ناشىء عن التكذيب. والإعراض عن الشىء هو بعد رؤيته وظهوره. سنجزي الذين وعيد شديد. وعلق الجزاء على الصدوق لأنه ناشىء عن التكذيب.
{ هل ينظرون } الضمير في ينظرون عائد على الذين. قيل لهم: فقد جاءتكم بينة من ربكم أي ما ينتظرون إلا أن تأتيهم الملائكة إلى قبض أرواحهم وتعذيبها.
{ أو يأتي ربك } بعلمه وقدرته تعالى، بلا أين ولا كيف، لفصل القضاء بين خلقه في الموقف يوم القيامة.
{ أو يأتي بعض ءايات ربك } يريد آيات القيامة والهلاك الكلي. وفي بعض آيات ربك إشراط الساعة كطلوع الشمس من مغربها وغيرها.
{ يوم يأتي } يوم منصوب بلا ينفع، وإيمانها فاعل بينتفع واجب تأخيره لعود الضمير على المفعول فصار نحو: ضرب زيدا غلامه. وتقدم نظيره في البقرة.
وإذا ابتلى إبراهيم ربه قال الزمخشري: وقرأ ابن سيرين: لا تنفع بالتاء لكون الإيمان مضافا إلى ضمير المؤنث الذي هو بعضه كقولهم: ذهبت بعض أصابعه. انتهى. هذا غلط، لأن الإيمان ليس بعضا للنفس، ويحتمل أن يكون أنث على معنى الإيمان، وهو المعرفة أو العقيدة فيكون مثل: جاءته كتابي فاحتقره على معنى الصحيفة. ووصف نفسا بالجملة المنفية وهي لم تكن آمنت من قبل فدل على أن إيمانها وحده نافع قبل ذلك اليوم.
وقوله: { أو كسبت } عطف على قوله آمنت التقدير أو تكن كسبت في إيمانها خيرا فدل ذلك على أنها إذا كانت مؤمنة، وكسبت خيرا قبل ذلك اليوم نفعها ذلك. وملخص هذا أنه قبل ذلك اليوم ينفع الإيمان وحده، أو ينفع مع كسب الخير.
{ قل انتظروا } هذا أمر تهديد ووعيد.
{ إنا منتظرون } ما يحل بكم.
[6.159-165]
{ إن الذين فرقوا دينهم } وقرىء: فارقوا وفرقوا دينهم.
{ وكانوا شيعا } كاليهود افترقوا على قرابين وربانيين وسحرة، وكالنصارى افترقوا على ملكية ويعقوبية ونسطورية، وأهل الضلال من هذه الأمة وأصحاب البدع وأهل الأهواء منهم كالخوارج وهم طوائف.
{ لست منهم في شيء } هو إخبار عن المباينة التامة والمباعدة كقول النابغة:
إذا حاولت في أسد فجورا
فإني لست منك ولست مني
{ من جآء بالحسنة } الآية، روى أبو سعيد الخدري وابن عمر أنها نزلت في الاعراب، الذين آمنوا بعد الهجرة، ضوعفت لهم الحسنة بعشر وضوعفت للمهاجرين بسبعمائة. " انتهى ". ولما ذكر حال من فارق دينه ورتب عليه أن الله ينبئه بما فعل وذكر المجازاة. والظاهر عموم من جاء وعموم الحسنة وحصر العدد فيما ذكر، فأي شخص ما جاء بحسنة ما جوزي عليها بعشر أمثالها، ومن جاء بسيئة جوزي بمثلها. وقرىء: عشر أمثالها على الإضافة. وقرىء: عشر أمثالها. فأمثالها صفة لعشر والضمير في أمثالها عائد على الحسنة.
{ قل إنني هداني ربي } الآية، أمره تعالى بالاعلان بالشريعة ونبذ ما سواها، ووضعها بأنه طريق مستقيم لا عوج فيها وهو إشارة إلى قوله تعالى:
وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه
[الأنعام: 153].
انتصب: { دينا قيما } دينا قيما على إضمار فعل تقديره هداني دينا قيما، ودل على ذلك قوله: قبل هداني ربي، وتعدى هدى تارة بإلى كقوله: إلى صراط، وتارة بنفسه إلى مفعول ثان كقوله تعالى:
وهديناهما الصراط المستقيم
[الصافات: 118]. وقرىء قيما وتقدم توجيهه في أوائل سورة النساء. وقرىء: قيما كسيد وفي كلتا القراءتين هو وصف لقوله: دينا.
و { ملة } بدل من قوله: دينا.
و { حنيفا } حال. وتقدم نظير ذلك في البقرة.
{ وما كان من المشركين } نعي عليهم في اتخاذهم آلهة وإشراكهم مع الله تعالى. وإبراهيم عليه السلام بريء من ذلك كله، فكان يجب عليهم اتباع أبيهم إبراهيم إذ هو النبي المجمع وعلى تعظيمه من سائر الطوائف.
{ قل إن صلاتي } ظاهره العموم من الصلاة المفروضة وغيرها.
{ ونسكي } قال ابن عباس: هي الذبائح التي تذبح لله تعالى وجمع بينهما كما جمع بينهما في قوله تعالى:
فصل لربك وانحر
[الكوثر: 2].
معنى: { ومحياي ومماتي لله } أنه لا يملكهما إلا الله.
{ لا شريك له } عام والإشارة بذلك الظاهر أنه إلى قوله: قل انني هداني ربي، الآية. الألف واللام في المسلمين للعهد، ويعني به هذه الأمة، لأن إسلام كل نبي سابق على إسلام أمته لأنهم منه يأخذون شريعته.
{ قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء } حكى النقاش أنه روي أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إرجع يا محمد إلى ديننا، واعبد آلهتنا، واترك ما أنت عليه ونحن نتكفل لك بكل ما تحتاج إليه في دنياك وآخرتك فنزلت هذه الآية.
والهمزة: للإستفهام، ومعناه الإنكار والتوبيخ وهو رد عليهم إذ دعوه إلى آلهتهم، والمعنى أنه كيف يجتمع لي دعوة غير الله تعالى ربا وغيره مربوب له.
{ ولا تكسب كل نفس } تقدم الكلام عليها في البقرة.
{ ثم إلى ربكم مرجعكم } والتنبئة عبارة عن الجزاء والذي اختلفوا فيه هو من الأديان والمذاهب يجازيكم بما ترتب عليه من الثواب والعقاب، وسياق هذه الجمل سياق الخبر، والمعنى على الوعيد والتهديد.
{ وهو الذي جعلكم خلائف الأرض } أذكرهم تعالى بنعمة عليهم إذ كان النبي المبعوث، وهو محمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، فأمته خلفت سائر الأمم ولا تجيء بعدها أمة تخلفها إذ عليهم تقوم الساعة. ورفع الدرجات هو بالشرف في المراتب الدنيوية والعلم وسعة الرزق.
و { ليبلوكم } متعلق بقوله: ورفع.
{ في مآ آتاكم } من ذلك جاها ومالا وعلما وكيف يكونون في ذلك.
{ إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم } لما كان الابتلاء به يظهر المسيء والمحسن والطائع والعاصي ذكر هذين الوصفين وختم بهما، ولما كان الغالب على فواصل الآي قبلها هو التهديد بدأ بقوله: سريع العقاب، يعني لمن كفر ما أعطاه الله تعالى وسرعة عقابه إن كان في الدنيا فالسرعة ظاهرة وإن كان في الآخرة، فوصف بالسرعة لتحققه إذ كل ما هو آت آت ولما كانت جهة الرحمة أرجى أكد ذلك بدخول اللام في الخبر، ويكون الوصفين بنيا بناء المبالغة ولم يأت من جهة العقاب بوصفه بذلك، فلم يأت ان ربك معاقب وسريع العقاب من باب الصفة المشبهة.
والله الموفق للصواب.
[7 - سورة الأعراف]
[7.1-7]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * المص * كتاب أنزل إليك } الآية، هذه السورة مكية، قاله ابن عباس وجماعة. وقال مقاتل: إلا قوله واسألهم عن القرية إلى قوله: من ظهورهم ذرياتهم فإن ذلك مدني. وروي هذا أيضا عن ابن عباس وقيل: إلى قوله تعالى:
وإذ نتقنا الجبل
[الأعراف: 171] واعتلاق هذه السورة بما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر قوله:
وهذا كتب أنزلنه مبارك فاتبعوه
[الأنعام: 155]. واستطرد منه لما بعده وإلى قوله آخر السورة:
وهو الذي جعلكم خلائف الأرض
[الأنعام: 165] وذكر ابتلاءهم فيما آتاهم، وذلك لا يكون إلا بالتكاليف الشرعية، ذكر ما به تكون التكاليف وهو الكتاب الإلهي وذكر الأمر باتباعه كما أمر في قوله:
وهذا كتب أنزلنه مبارك فاتبعوه
[الأنعام: 155]. وتقدم الكلام على هذه الحروف المقطعة أوائل السور في أول البقرة وذكر ما حدسه الناس فيها، ولم يقم دليل واضح على شىء من تفسيرهم يتعين به ما قالوا. وزادوا هنا لأجل الصاد أقوالا لا يقوم الدليل على صحة شىء منها ونهيه تعالى أن يكون في صدره حرج منه، أي من سببه لما تضمنه من أعباء الرسالة وتبليغها لمن لم يؤمن بكتاب ولا أعتقد صحة رسالة، وتكليف الناس أحكامها، وهذه أمور صعبة ومعانيها تشق عليه. وأسند النهي إلى الحرج، ومعناه نهي المخاطب عن التعرض للحرج وكان أبلغ من نهي المخاطب لما فيه من أن الحرج لو كان مما ينهى لنهيناه عنك، فانته أنت عنه بعدم التعرض له ولأن فيه تنزيها لنبيه صلى الله عليه وسلم بأن ينهاه، فيأتي التركيب فلا تحرج منه لأن ما أنزله تعالى إليه يناسبان يسر به وينشرح لما فيه من تخصيصه بذلك وتشريفه حيث أهله لإنزاله عليه وجعله سفيرا بينه وبين خلقه. فلهذه الفوائد عدل عن أن ينهاه ونهى الحرج. كتاب: خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الكتاب، وأنزل جملة في موضع الصفة للكتاب. والظاهر أن الضمير في منه عائد على الكتاب وذهب الفراء وتبعه الحوفي والزمخشري وابن عطية أن تنزل ومتعلق بقوله: انزل إليك. وقوله: أنزل ماضي الزمان. ولتنذر مستقبل الزمان فلذلك احتيج في جعله مفعولا من أجله للام الجر لما اختلف زمانهما. والجملة من قوله: فلا يكن اعتراض بين أنزل وبين لتنذر.
{ وذكرى } مصدر وهو مجرور عطفا على المصدر المنسبك من أن. والفعل المنصوب بإضمارها أي ان في قوله: لتنذر، أي لإنذارك ولذكرى ومعنى ذكرى هنا المراد به ولتذكير المؤمنين كقوله تعالى:
وما هي إلا ذكرى للبشر
[المدثر: 31]، وحذف مفعول تنذر أي لتنذر الكافرين ويدل على حذفه نظيره في قوله: وذكرى للمؤمنين.
{ اتبعوا مآ أنزل إليكم } يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى:
وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى
[النجم: 3-4].
والضمير في { من دونه } عائد على ربكم.
{ أوليآء } من دون الله كالأصنام والرهبان والكهان والأحبار والنار والكواكب وغير ذلك.
وانتصب: { قليلا } على أنه نعت لمصدر محذوف. وما: زائدة أي يتذكرون تذكرا قليلا.
{ وكم من قرية أهلكناها } كم هنا خبرية التقدير وكثير من القرى أهلكناها وأعاد الضمير في أهلكناها على معنى كم، وهي في موضع رفع بالابتداء وأهلكناها جملة في موضع الخبر. وأجازوا أن تكون في موضع نصب بإضمار فعل يفسره أهلنكاها تقديره وكم من قرية أهلكناها ولا بد في الآية من تقدير محذوف مضاف لقوله: أو هم قائلون فمنهم من قدره وكم من أهل قرية، ومنهم من قدره أهلكنا أهلها. وينبغي أن يقدر عند قوله: فجاءها بأسنا أي فجاء أهلها لمجيء الحال من أهلها بقوله: بياتا، بدليل أو هم قائلون لأنه يمكن إهلاك القرى بالخسف والهدم وغير ذلك، فلا ضرورة تدعو إلى حذف المضاف قبل قوله: فجاءها، والضمير في أهلكناها المرفوع ضمير المتكلم المعظم وفيه التفات إذ فيه خروج من ضمير الغائب المفرد إلى ضمير المتكلم.
{ قآئلون } يعني من نوع القيلولة نوع مجيء البأس إلى نوعين الاستراحة وهو بياتا أي ليلا إذ هو وقت سكون وراحة، وإلى زمان القيلوة وهو وقت الراحة أيضا وأو هنا للتفصيل. قال الزمخشري: فإن قلت: لا يقال: جاء زيد هو فارس بغير واو فما بال قوله تعالى: { أو هم قآئلون } قلت: قدر بعض النحويين الواو محذوفة ورده الزجاج. وقال: لو قلت: جاءني زيد راجلا أو هو فارس أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج فيه إلى واو، لأن الذكر قد عاد إلى الأول. والصحيح أنها إذا عطفت على حال قبلها حذفت الواو استثقالا لاجتماع حرفي عطف لأن واو الحال هي واو العطف استعيرت للوصل. فقولك: جاءني زيد راجلا أو هو فارس كلام فصيح وارد على حدة. وأما جاءني زيد هو فارس فخبيث. " انتهى ". فأما بعض النحويين الذي أبهمه الزمخشري فهو الفراء. وأما قول الزجاج في التمثيلين لم يحتج فيهما إلى الواو لأن الذكر قد عاد إلى الأول ففيه إبهام وتعيينه لم يجز دخولها في المثال الأول ويجوز دخولها في المثال الثاني فانتفاء الاحتياج ليس على حد سواء لأنه في الأول لامتناع الدخول، وفي الثاني لكثرة الدخول لا لإقناعه. وأما قول الزمخشري: والصحيح إلى آخره، فتعليله ليس بصحيح لأن واو الحال ليست حرف عطف فيلزم من ذكرها اجتماع حرفي عطف لأنها لو كانت للعطف للزم أن يكون ما قبل الواو حالا حتى يعطف حالا على حال فمجيئها فيما لا يمكن أن يكون حالا دليل على أنها ليست واو عطف ولا لحظ فيها معنى واو العطف، تقول: جاءني زيد والشمس طالعة.
فجاء زيد ليس بحال فتعطف عليه جملة حال وإنما هذه الواو مغايرة لواو العطف بكل حال، وهي قسم من أقسام الواو كما تأتي للقسم، وليست فيه للعطف إذا قلت: والله لتخرجن. وأما قوله: فخبيث فليس بخبيث وذلك أنه بناة على أن الجملة الاسمية إذ كان فيها ضمير ذي الحال فإن حذف الواو منها شاذ. وتبع في ذلك الفراء وليس بشاذ بل هو كثير وقوعه في القرآن وفي كلام العرب نثرها ونظمها وهو أكثر من رمل بيرين ومها فلسطين. وقد رجع الزمخشري عن هذا المذهب إلى مذهب الجماعة.
{ فما كان دعواهم } قال ابن عباس: دعواهم تضرعهم إلا إقرارهم بالشرك. " انتهى ". ودعواهم إسم كان.
و { إذ } ظرف معمول لدعواهم وخبر كان.
{ أن قالوا } أي إلا قولهم وإنا وما بعدها معمول للقول.
{ فلنسألن الذين } أي نسأل الأمم المرسل إليهم عن أعمالهم وعما بلغه إليهم الرسل كقوله تعالى:
ويوم يناديهم فيقول ماذآ أجبتم المرسلين
[القصص: 65]، وتسأل الرسل عما أجاب به من أرسلوا إليه كقوله تعالى:
يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذآ أجبتم
[المائدة: 109] وسؤال الأمم تقرير وتوبيخ يعقب الكفار والعصاة عذابا وسؤال الرسل تأنيس يعقب الأنبياء ثوابا وكرامة.
{ فلنقصن عليهم } أي نسرد عليهم أعمالهم قصة قصة.
{ بعلم } منا لذلك واطلاع عليه.
{ وما كنا غآئبين } عن شىء منه وهذا من أعظم التوبيخ حيث يقرون بالظلم وتشهد عليهم أنبياؤهم ويقص الله عليهم أعمالهم.
[7.8-16]
{ والوزن يومئذ الحق } مذهب الجمهور أن في القيامة موازين توزن بها أعمال العباد اتباعا لظواهر النصوص في ذلك. وذهب مجاهد والضحاك والأعمش وجماعة وهو قول المعتزلة: إلى أن ما ورد من الوزن والموازين إنما هو كناية عن العدل ومحاسبة أهل الموقف بحساب أعمالهم والوزن مبتدأ ويومئذ ظرف منصوب بالوزن والتنوين في إذ تنوين العوض من جملة محذوفة تقديره يوم إذ نسأل ونقص فحذف ذلك وعوض منه التنوين ولذلك لا يجتمعان، وكذا كل موضع يلحق التنوين فيه لاذ والحق خبر عن المبتدأ الذي هو الوزن.
{ فمن ثقلت موازينه } من أثبت الميزان ذكر أنه ذو كفتين ولسان ولم يثبت مثل هذا نصا لا في القرآن ولا في السنة والثقل والخفة إنما هما من صفات الأجسام والحسنات والسيئات من صفات الاعراض، فقال: هؤلاء ان الموزون إنما هو الصحف التي كتبت فيها الحسنات والسيئات. وقوله: موازينه أفرد الضمير مراعاة للفظ من ثم جمع في قوله: فأولئك، مراعاة لمعنى من.
ويتعلق بآياتنا بقوله: { يظلمون } لتضمنه معنى يكذبون أو لأنها بمعنى يجحدون.
{ ولقد مكناكم في الأرض } تقدم معنى مكناكم في قوله: أول الانعام مكناهم في الأرض. والخطاب راجع للذين خوطبوا اتبعوا ما أنزل إليكم وما بينهما أورد مورد الاعتبار والاتعاظ بذكر ما آل إليه أمرهم في الدنيا وما يؤول إليه في الآخرة.
{ معايش } جمع معيشة. وقرأ خارجة عن نافع: معائش، بالهمز شبهها بصحائف من حيث عدد الحروف والحركات والكون. والمعيشة: ما يعاش به من المطاعم والمشارب وغيرهما مما يتوصل به إلى ذلك. وهي في الأصل مصدر ينزل منزلة الآلات.
وإعراب: { قليلا ما تشكرون } كإعراب قليلا ما تذكرون.
{ ولقد خلقناكم ثم صورناكم } هو على حذف مضاف تقديره خلقنا أباكم ثم صورنا أباكم ويبقى ثم دالة على موضوعها من المهملة في الزمان. فبدأ بالخلق وهو إخراج من العدم الصرف إلى مادة وهي الترائب. ولقوله تعالى:
خلقه من تراب
[آل عمران: 59]، ثم ثنى بالتصوير وهو تشكيله بالصورة الآدمية.
وتقدم تفسير: { قلنا للملائكة اسجدوا } في البقرة فاغنى عن إعادته.
وقوله: { لم يكن من الساجدين } جملة لا موضع لها من الإعراب مؤكدة لمعنى ما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس كقوله:
أبى واستكبر
[البقرة: 34]، بعد قوله: إلا إبليس، في البقرة.
{ قال ما منعك } انتقل من ضمير المتكلم المعظم إلى ضمير الغيبة في قال. وما: استفهامية مبتدأة. والجملة بعدها خبره ولا في أن لا تسجد زائدة للتوكيد يدل على زيادتها سقوطها في قوله: أن تسجدوا وإذ معمولة لقوله: منعك. والمعنى أنه وبخه وقرعه على امتناعه من السجود، وإن كان تعالى عالما لما منعه من السجود. وما: استفهامية، تدل على التوبيخ كما قلنا قبل.
{ قال أنا خير منه } هذا ليس بجواب مطابق للسؤال، لكنه يتضمن الجواب إذ معناه منعني فضلي عليه لشرف عنصري على عنصره ولم ينظر المسكين لأمر من أمره بالسجود وهو الله تعالى فامتثال الأمر طاعة الله تعالى، وقد تكلم الناس في تفضيل النار على الطين وفي تفضيل الطين على النار، بما هو مذكور في البحر.
{ قال فاهبط منها } لما كان امتناعه من السجود بسبب ظهور شرفه على آدم عند نفسه قابله الله بالهبوط المشعر بالنزول من علو إلى أسفل. والضمير في: منها عائد على الجنة وإن لم يجر لها ذكر. قال ابن عطية: أهبط أولا وأخرج من الجنة وصار في السماء، لأن الاخبار تظافرت أنه أغوى آدم وحواء من خارج الجنة ثم أمر آخرا بالهبوط من السماء مع آدم وحواء.
ومعنى: { فما يكون لك } أي لا يصح لك، أو لا يتم، أو لا ينبغي.
والضمير في { فيها } يعود على ما عاد عليه منها ولا مفهوم لهذا الظرف بل التكبر منهي عنه في كل موضع. وكرر معنى الهبوط بقوله:
{ فاخرج } لأن الهبوط منها خروج ولكنه أخبر بصغاره وذلته وهو أنه جزاء على تكبره قوبل بالضد مما اتصف به وهو الصغار الذي هو ضد التكبر، والتكبر تفعل منه لا أنه خلق كبيرا عظيما ولكنه هو الذي تعاطى الكبر.
{ قال أنظرني إلى يوم يبعثون } هذا يدل على إقراره بالبعث، وعلمه بأن آدم سيكون له ذرية ونسل يعمرون الأرض ثم يموتون. والضمير في يبعثون، عائد على ما دل عليه المعنى إذ ليس في اللفظ ما يدل عليه ومعنى أنظرني: أخرني.
{ قال فبمآ أغويتني } الظاهر أن الباء: للقسم. وما: مصدرية، ولذلك تلقت الحلف بقوله:
{ لأقعدن } وأغويتني بمعنى أضللتني، قاله ابن عباس. والإغواء نسبه إبليس إلى الله تعالى وهو فعل من أفعال الله تعالى جار على الحكمة الإلهية، فجاز أن يقسم به. قال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلقت الباء؟ فإن تعليقها بلأقعدن يصد عنه لام القسم لا تقول: والله بزيد لأمرن. قلت: تعلقت بفعل القسم المحذوف تقديره فبما أغويتني أقسم بالله لأقعدن أي بسبب إغوائك أقسم. " انتهى ". ما ذكره من أن اللام تصد عن تعلق الباء بلأقعدن ليس مجمعا عليه بل في ذلك خلاف. وعبر بالقعود عن الثبوت في المكان والتلبث فيه، قالوا: وانتصب صراطك على إسقاط على، قاله الزجاج. وشبهه بقول العرب: ضرب زيد الظهر والبطن، أي على الظهر والبطن وإسقاط حرف الجر لا ينقاس في مثل هذا، لا يقال: قعدت الخشبة، تريد قعدت على الخشبة، والأولى أن يضمن لأقعدن معنى ما يتعدى بنفسه فينتصب الصراط أنه مفعول به. والتقدير لألزمن بقعودي صراطك المستقيم وهذا الصراط هو دين الإسلام وهو الموصل إلى الجنة.
[7.17-25]
{ ثم لآتينهم من بين أيديهم } الظاهر أن إتيانه من هذه الجهات الأربع كناية عن وسوسته وإغوائه له والجد في إضلاله من كل وجه ممكن، ولما كانت هذه الجهات يأتي منها العدو غالبا ذكرها، لا انه يأتي من الجهات الأربع حقيقة وغاير في حرف الجر الذي هو من وعن، لأنه لو كان الكل بمن أو بعن لكان في تكرار ذلك قلق في التركيب.
{ مذءوما } يقال: ذأمه يذأمه ذأما، بسكون الهمزة، ويجوز إبدالها ألفا.
{ مدحورا } يقال: دحره أبعده وأقصاه دحورا. قال الشاعر:
دهرت بني الحصيب إلى قديد
وقد كانوا ذوي أشر وفخر
وهذه ثلاث أوامر أمر بالهبوط مطلقا وأمر بالخروج مخبرا أنه ذو صغار وأمر بالخروج مقيدا بالذم والطرد.
{ لمن تبعك } منهم قرأ الجمهور لمن بفتح اللام، والظاهر أنها اللام الموطئة للقسم، ومن: شرطية في موضع رفع على الابتداء، وجواب الشرط محذوف يدل عليه جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة. ويجوز أن تكون اللام لام الابتداء. ومن: موصولة. ولأملأن: جواب قسم محذوف بعد من تبعك وذلك القسم المحذوف وجوابه في موضع خبر من الموصولة. وقرأ الجحدري وعصمة عن أبي بكر عن عاصم لمن تبعك بكسر اللام، واختلفوا في تخريجها. قال ابن عطية: المعنى لأجل من تبعك منهم لأملأن. " انتهى ". ظاهر هذا التقدير أن اللام تتعلق بلأملأن. ويمتنع ذلك على قول الجمهور وإن ما بعد لام القسم لا يعمل فيما قبلها. قال الزمخشري: يعني لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله: لأملأن جهنم منكم أجمعين على أن لأملأن في محل الابتداء، ولمن تبعك خبره. " انتهى ". إن أراد ظاهر كلامه فهو خطأ على مذهب البصريين لأن قوله: لأملأن جملة هي جواب قسم محذوف لمن حيث كونها جملة فقط لا يجوز أن تكون مبتدأة، ومن حيث كونها جوابا للقسم المحذوف يمتنع أيضا لأنه إذا ذاك من هذه الحيثية لا موضع لها من الإعراب، ومن حيث كونها مبتدأ، لها موضع من الإعراب. ولا يجوز أن تكون الجملة لها موضع من الإعراب ولا موضع لها بحال لأنه يلزم أن تكون في موضع رفع لا في موضع رفع داخلا عليها عامل غير داخل عليها عامل ذلك لا يتصور.
و { ويآءادم اسكن أنت وزوجك الجنة } أي وقلنا يا آدم. وتقدم تفسيرها في البقرة، إلا أن هنا فكلا من حيث شئتم، وفي البقرة
وكلا منها رغدا
[الآية: 35]. قالوا وجاءت على أحد محاملها وهي أن يكون الثاني بعد الأول وحذف رغدا هنا على سبيل الاختصار وأثبت هناك لأن تلك مدنية وهذه مكية فوفى المعنى هناك باللفظ.
{ فوسوس لهما الشيطان } أي فعل الوسوسة لأجلهما، وأما قوله: فوسوس إليه، فمعناه ألقي الوسوسة إليه.
{ ليبدي } اللام: لام كي، وهي علة للوسوسة.
{ ما ووري } أي ما ستر. وقرأ عبد الله بن مسعود أوري بإبدال الواو همزة، وهو بدل جائز. وقرىء: ما وري بواو مضمومة من غير واو بعدها على وزن كسى. وقرأ مجاهد والحسن من سؤتهما بالإفراد وتسهيل الهمزة وبإبدالها واوا وإدغام الواو فيها.
و { إلا أن تكونا ملكين } استثناء مفرغ من المفعول من أجله، أي ما نهاكما ربكما لشىء إلا أن تكونا ملكين أو من الخالدين من الذين لا يموتون ويبقون في الجنة ساكنين.
{ وقاسمهمآ إني لكما لمن الناصحين } لم يكتف إبليس بالوسوسة وهي الإلقاء خفية سرا ولا بالقول، حتى أقسم على أنه ناصح لهما والمقاسمة مفاعلة تقتضي المشاركة في العقل. وأما هنا فمعنى وقاسمهما أي أقسم لهما لأن اليمين لم يشاركا فيها، وهي كقول الشاعر:
وقاسمهما بالله جهرا لأنتم
ألذ من السلوى إذا ما نشورها
وفاعل قد يأتي بمعنى أفعل نحو: باعدت الشىء وأبعدته. ولكما: متعلق بمحذوف تقديره ناصح لكما أو أعني أو بالناصحين على أن أل موصولة وتسومح في الظرف المجرور ما لا يتسامح في غيرهما.
{ فدلاهما بغرور } أي استنزلهما إلى الأكل من الشجرة بغروره أي بخداعه إياهما وإظهار النصح لهما وإبطان الغش وإطماعهما أن يكونا ملكين أو خالدين وبإقسامه أنه ناصح لهما، جعل من يغتر بالكلام حتى يصدق فيقع في مصيبة كالذي يدلى من علو إلى سفل بحبل ضعيف فيتقطع به فيهلك.
{ فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما } أي وجدا طعمها آكلين منها. قال تعالى:
فأكلا منها
[طه: 121] وتطايرت عنهما ملابس الجنة وظهرت لهما عوراتهما. وتقدم أنهما كانا قبل ذلك لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر.
{ وطفقا } طفق من أفعال المقاربة بفتح الفاء وكسرها. وبالباء مكان الفاء مكسورة.
و { يخصفان } خبر طفق، ومعنى يخصفان أي جعلا يلصقان ورقة على ورقة ويلصقانها.
والأولى أن يعود الضمير في { عليهما } على عورتيهما. كأنه قيل: يخصفان على سوآتهما.
{ من ورق الجنة } وعاد بضمير الاثنين لأن الجمع يراد به اثنان. وعلى هنا ظرف مجازي بمعنى فوق لا حرف جر. ونظير هذا التركيب قوله تعالى:
أمسك عليك زوجك
[الأحزاب: 37]. وقول الشاعر:
هون عليك فإن الأمور
بكف الإله مقاديرها
{ وناداهما ربهمآ } لما كان وقت الهناء شرف بالتصريح باسمه في النداء. وقيل: ويا آدم اسكن. وحين كان وقت العتاب أخبر أنه ناداه ولم يصرح باسمه. والظاهر أنه تعالى كلمهما بلا واسطة، والجملة معمولة لقول محذوف أي قائلا:
{ ألم أنهكما } وهو استفهام معناه العتاب على ما صدر منهما. والنهي قوله تعالى: { ولا تقربا }. وثم مضاف محذوف تقديره عن قربان تلك وتي اسم الإشارة، واللام: للبعد، حذفت ياء تي للالتقاء الساكنين. وكما: خطاب للإثنين.
{ وأقل لكمآ } إشارة إلى قوله: فقلنا يا آدم. ان هذا عدو لك ولزوجك، الآية في سورة طه.
و { لنكونن } جواب قسم محذوف قبل أن، كقوله تعالى:
وإن لم ينتهوا عما يقولون
[المائدة: 73]، ليمسن التقدير والله إن لم تغفر لنا. وأكثر. ما تأتي ان هذه ولام الموطئة قبلها، كقوله: لئن لم ينته المنافقون، ثم قال: لنغرينك بهم.
{ قال اهبطوا } تقدم تفسيرها في البقرة.
{ قال فيها تحيون } هذا كالتفسير لقوله: ولكم في الأرض مستقر ومتاع، أي بالحياة. إلى حين، أي حين الموت.
{ ومنها تخرجون } أي إلى المجازاة بالثواب والعقاب.
[7.26-30]
{ يبني ءادم قد أنزلنا عليكم لباسا } الآية مناسبتها لما قبلها، هو أنه تعالى ذكر قصة آدم وفيها ستر السوآت وجعل في الأرض له مستقرا ومتاعا، ذكر ما امتن به على نبيه وما أنعم به عليهم من اللباس الذي يواري السوآت والرياش الذي يمكن به استقرارهم في الأرض واستمتاعهم بما حولهم.
{ قد أنزلنا } إلإنزال مجاز من باب إطلاق السبب على مسببه فأنزل المطر وهو سبب ما يتهيأ به اللباس، واللباس يعم جميع ما يلبس ويستر. والريش معروف، وهو هنا عبارة عن سعة الرزق ورفاهة العيش والتمتع. وقال الزمخشري: لباس الزينة استعير من ريش الطائر، لأنه لباسه وزينته، أي أنزلنا عليكم لباسين لباسا يواري سوآتكم، ولباسا يزينكم لأن الزينة غرض صحيح. وكما قال تعالى:
لتركبوها وزينة
[النحل: 8]، ولكم فيها جمال. " انتهى ". ويحسنه قوله تعالى:
حلية تلبسونها
[النحل: 14، فاطر: 12] وقرىء: ولباس بالنصب عطفا على ما قبله. وقرىء: بالرفع وهو مبتدأ وذلك خبر مبتدأ وخير خبر عن قوله: ولباس، والرابط بينهما إسم الإشارة كا يربط المضمر. وكأنه قال ولباس التقوى هو خبر.
والإشارة بقوله: { ذلك من آيات الله } إلى ما تقدم من إنزال اللباس والرياش ولباس التقوى. والمعنى من آيات الله الدالة على فضله ورحمته على عباده.
{ لعلهم يذكرون } هذه النعم فيشكرون الله تعالى عليها.
{ يابني ءادم لا يفتننكم الشيطان } أي لا يستهوينكم ويغلب عليكم، وهو نهي للشيطان. والمعنى نهيهم أنفسهم عن الإصغاء إليه والطواعية لأمره، كما قالوا: لا أرينك ها هنا، ومعناه النهي عن الإقامة بحيث يراه.
و { كمآ } في موضع نصب أي فتنة، مثل فتنة إخراج أبويكم من الجنة.
و { ينزع } حال من الضمير في أخرج أو من أبويكم لأن الجملة فيها ضمير الشيطان وضمير الأبوين ونسب النزع والإراءة إلى الشيطان لما كان متسببا فيه.
{ إنه يراكم هو وقبيله } قال الزمخشري: الضمير في أنه يراكم ضمير الشأن والحديث. " انتهى " ولا ضرورة تدعو إلى هذا بل الظاهر أنه ضمير عائد على الشيطان وهو إبليس يبصركم هو وجنوده من الجهة التي لا تبصرونه منها وهم أجسام لطيفة معلوم من هذه الشريعة، وجودهم، كما أن الملائكة أيضا معلوم وجودهم من هذا الشريعة، ولا يستنكر وجود أجسام لطيفة جدا لا نراها نحن. ألا ترى أن الهواء جسم لطيف لا ندركه نحن وقد قام البرهان العقلي القاطع على وجوده وقد صح تصورهم في الأجسام الكثيفة. ورؤية بني آدم لهم في الأجسام كالشيطان الذي رآه أبو هريرة حين جعل يحفظ تمر الصدقة، والعفريت الذي رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال فيه:
" لولا دعوة أخي سليمان لربطته إلى سارية من سواري المسجد "
الحديث. وكحديث خالد بن الوليد حين سير لكسر ذي الخلصة. وكحديث سوار بن قارب مع رئيه من الجن إلا أن رؤيتهم في الصور نادرة، كما أن الملائكة تبدو في صور كحديث جبريل عليه السلام. وقوله تعالى: { إنه يراكم } ، تعليل للنهي وتحذير من فتنته بأنه بمنزلة العدو المواجي يكيدكم ويغتالكم من حيث لا تشعرون.
{ إنا جعلنا } إي صيرنا.
{ الشياطين } الآية، ناصريهم ومعاضديهم في الباطل.
{ وإذا فعلوا فاحشة } الظاهر أنه اخبار مستأنف عن هؤلاء الكفار بما كانوا يقولون إذا ارتكبوا الفواحش.
وقولهم: { وجدنا عليهآ آباءنا } تقليد لآبائهم في فعل ذلك. والتقليد ليس طريقا لحصول العلم.
وقولهم: { والله أمرنا بها } إفتراء عليه تعالى. وكانوا يقولون: لو كره الله ذلك لنقلنا عنها.
{ قل إن الله لا يأمر بالفحشآء } أي بفعل الفحشاء. وإنما لم يرد التقليد لظهور بطلانه، فأبطل تعالى دعواهم إن الله أمر بها، إذ مدرك ذلك إنما هو الوحي على لسان الرسل والأنبياء ولم يقع ذلك.
{ أتقولون على الله ما لا تعلمون } ومجنهم على كذبهم ووقفهم على ما لا علم لهم به ولا رواية لهم فيه بل هي دعوى واختلاق.
{ قل أمر ربي بالقسط } أي بالعدل.
{ وأقيموا وجوهكم } معطوف على ما ينحل إليه المصدر الذي هو القسط، أي بأن أقسطوا وأقيموا وكما ينحل المصدر لأن والفعل الماضي نحو: عجبت من قيام زيد. وخرج تقديره من أن قام زيد وخرج، ولأن والمضارع، نحو:
للبس عباءة وتقر عيني
أحب إلي من لبس الشفوف
تقديره لأن ألبس عباءة وتقر عيني. ولما أشكل هذا التخريج جعل الزمخشري وأقيموا على تقدير وقل، فقال: وقل أقيموا وجوهكم. قال ابن عباس: المعنى إذا حضرت الصلاة فصلوا في كل مسجد، ولا يقل أحدكم أصلي في مسجدي.
{ وادعوه } الدعاء على بابه أمر به مقرونا بالإخلاص.
{ كما بدأكم تعودون } هذا إعلام بالبعث أي كما أوجدكم واخترعكم كذلك يعيدكم بعد الموت. والكاف في كما: للتشبيه. وما: مصدرية. والمعنى تعودون بإنشائه تعالى مثل بدئه تعالى إياكم شبه الإعادة بالبدء.
{ فريقا هدى } تقسيم للمؤمن والكافر. وانتصب فريقا على أنه مفعول بهدى.
{ وفريقا } الثاني بإضمار فعل يفسره ما بعده تقديره وأضل فريقا. وهذا من باب الاشتغال.
فسر فكل ناصب من معنى قوله:
{ حق عليهم الضلالة إنهم اتخذوا الشياطين } تعليل للفريق الذين حقت عليهم الضلالة.
[7.31-34]
{ يابني ءادم خذوا زينتكم عند كل مسجد } الآية، كان أهل الجاهلية يطوفون بالبيت عراة، وكانوا لا يأكلون في أيام حجهم دسما، ولا ينالون من الطعام إلا قوتا، تعظيما لحجهم. فنزلت. والزينة فعلة من التزين وهو اسم ما يتجمل به من ثياب وغيرها، كقوله تعالى:
وازينت
[يونس: 24] أي بالنبات. والزينة هنا المأمور بأخذها هو ما يستر العورة في الصلاة. وفي صحيح مسلم عن عروة أن العرب كانت تطوف عراة إلا الحمس، وهم قريش إلا أن تعطيهم الحمس ثيابا فتعطى الرجال الرجال والنساء النساء. وفي غير مسلم: من لم يكن له صديق بمكة يعيره ثوبا طاف عريانا أو في ثيابه وألقاها بعد ذلك فلا يمسها أحد، وتسمى اللقاء. وقال بعضهم في ذلك:
كفى حزنا كدى عليه كأنه
لقى بين أيدي الطائفين حريم
" فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه: يا بني آدم خذوا زينتكم، أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ".
{ وكلوا واشربوا } الظاهر أنه أمر بإباحة الأكل والشرب من كل ما يمكن أن يؤكل ويشرب مما لم يخطر أكله وشربه في الشريعة. وإن كان النزول على سبب خاص كما ذكروا من امتناع المشركين من أكل اللحم والدسم أيام إحرامهم، والنهي عن الإسراف يدل على التحريم لقوله تعالى: { إنه لا يحب المسرفين }. والظاهر تعلق الإسراف بالأكل والشرب كما يوجد للمحترفين في الدنيا من مغالاة التأنق في الأكل بحيث يغرم على الدجاجة الواحدة نحو من عشرين درهما، وكما يغرم على الرطل من الحلوى نحو من أربعين درهما، ولقد شاهدنا بعض أكابرهم رسم بأن يعمل له خميرة ورد في مئين من القناني في كل قنينة أربع أواق فقيل له: الورد كما دخل وهو غال، فقال: أليس موجودا؟ فقيل له: نعم. فقال: كل موجود ليس بغال. وكما بلغنا عن بعض الناس أنه كان يأكل الفستق مقشورا بالسكر النبات في القطايف، وقد سئل عن حال من يأكل قشور الموز من الجوع والفقر فقال ذلك الآكل: كلنا فقراء. وأما تأنقهم في الأواني الصينية وفعالاتهم في أثمانها فكثير، ويسألون درهما لفقير فلا يبورن به.
{ قل من حرم زينة الله } هي ما حسنته الشريعة وقررته مما يتجمل به الناس من الثياب وغيرها. وأضيفت إلى الله تعالى لأنه هو الذي أباحها. والطيبات: هي المستلذات من المأكول والمشروب بطريقه وهو الحل، ومعنى الاستفهام إنكار تحريم هذه الأشياء وتوبيخ محرميها. وقد كانوا يحرمون أشياء من لحوم الطيبات وألبانها. والاستفهام إذا تضمن الإنكار لا جواب له.
ومعنى: { أخرج لعباده } أي أبرزها وأظهرها وفصل حلالها من حرامها.
{ قل هي للذين آمنوا } الآية، وقرىء: خالصة بالرفع. وقرأ باقي السبعة بالنصب، فأما النصب فعلى الحال والتقدير قل هي مستقرة للذين آمنوا في حال خلوصها لهم يوم القيامة وهي حال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع خبرا لهي. وفي الحياة متعلق بآمنوا. وأما الرفع فجوزوا فيه أن يكون خبرا لهي. وللذين آمنوا متعلق بخالصة. وفي الحياة الدنيا متعلق بآمنوا. ويصير المعنى قل هي خالصة يوم القيامة لمن آمن من الدنيا، ولا يعني بيوم القيامة وقت الحساب، وخلوصها كونهم لا يعاقبون عليها، وإلى هذا المعنى يشير ابن جبير. وجوزوا فيه أن يكون خبرا بعد خبر، والخبر الأول هو للذين آمنوا. وفي الحياة الدنيا متعلق بما يتعلق به للذين وهو الكون المطلق، أي قل هي كائنة في الحياة الدنيا للمؤمنين وإن كان يشركهم فيها في الحياة الدنيا الكفار وخالصة لهم يوم القيامة. ويراد بيوم القيامة استمرار الكون في الجنة، وهذا المعنى من أنها لهم ولغيرهم في الدنيا خالصة لهم يوم القيامة هو قول ابن عباس وجماعة.
{ قل إنما حرم ربي الفواحش } تقدم تفسير الفواحش.
و { ما ظهر منها وما بطن } في أواخر الانعام قال ابن عباس: هنا ما ظهر منها ما كانت تفعله الجاهلية من نكاح الأبناء نساء الآباء، والجمع بين الأختين، وأن تنكح المرأة على عمتها وخالتها، وما بطن، وهو الزنا، وما عطف عليه بدل من الفواحش وهو بدل تفصيلي لإنقسام الفواحش إلى ظاهرة وباطنة. ونظيره قول الشاعر:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
ورجل رمى فيها الزمان فشلت
والاثم عام يشمل الأقوال والأفعال التي يترتب عليها الاثم. والبغي: التعدي وتجاوز الحد مبتدئا كان أو منتصرا.
وقوله: { بغير الحق } زيادة بيان وليس يتصور بغي بحق، لأن ما كان بحق لا يسمى بغيا.
وتقدم تفسير { ما لم ينزل به سلطانا } في الانعام فأغنى عن إعادته.
{ ولكل أمة أجل } أي لكل واحد من الأمة عمر ينتهي إليه بقاؤه في الدنيا، فإذا مات علم ما كان عليه من حق أو باطل. وقرىء: جاء أجلهم بإبدال همزة أجلهم ألفا. وقرىء أيضا بحذفها. وقرىء: أيضا بإقرارها همزة وجواب إذا.
قوله: { لا يستأخرون } وقال الحوفي:
{ ولا يستقدمون } معطوف على لا يستأخرون. " انتهى ". وهذا لا يمكن لأن إذا شرطية فالذي يترتب عليها إنما هو مستقبل، ولا يترتب على مجيء الأجل في المستقبل إلا مستقبل، وذلك يتصور في انتفاء الاستئخار لا في انتفاء الاستقدام لأن الاستقدام سابق على مجيء الأجل في الاستقبال فيصير نظير قولك: إذا قمت في المستقبل، لم يتقدم قيامك في الماضي. ومعلوم أنه إذا قام في المستقبل لم يتقدم قيامه، هذا في الماضي. وهذا شبيه بقول زهير:
بدا لي أني لست مورك ما مضى
ولا سابقا شيئا إذا كان جائيا
ومعلوم أن الشىء إذا كان جائيا إليه لا يسبقه. والذي تخرج عليه الآية أن قوله: لا يستقدمون، منقطع من الجوا بعلى سبيل استئناف اخبار، أي وهم لا يستقدمون الأجل أي لا يسبقونه. وصار معنى الآية أنهم لا يسبقون الأجل ولا يتأخرون عنه.
[7.35-41]
{ يابني ءادم إما يأتينكم رسل منكم } هذا الخطاب هو لبني آدم في الأزل وقيل: هو مراعى به وقت الإنزال. وجاء بصورة الاستقبال لتقوى الإشارة بصحة النبوة إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وما في اما: تأكيد. وجواب الشرط: فمن اتقى وأصلح.
{ فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا } لما ذكر المكذبين ذكر من هو أسوأ حالا منهم وهو من يفتري الكذب على الله تعالى أيضا. وذكر أيضا من كذب بآياته.
{ أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب } ذكروا أقوالا كثيرة. والذي يظهر أن الذي كتب لهم في الدنيا من رزق وأجل وغيرهما ينالهم فيها، ولذلك جاءت التغيبة بعد هذا بحتى.
{ حتى إذا جآءتهم رسلنا يتوفونهم } تقدم الكلام على حتى إذا في أوائل الانعام. والمعنى أنهم ينالهم حظهم مما كتب لهم إلى أن تأتيهم رسل الموت يقبضون أرواحهم فيسألونهم سؤال توبيخ وتقرير: أين معبوداتكم من دون الله تعالى فيجيبون بأنهم:
{ ضلوا عنا } أي هلكوا واضمحلوا. والرسل: ملك الموت عليه السلام وأعوانه، ويتوفونهم في موضع الحال وكتبت أينما متصلة، وكان قياس كتابتها الإنفصال لأن ما موصولة كهي في أن ما توعدون لآت؛ إذ التقدير أين الآلهة التي كنتم تعبدون؟ ومعنى تدعون أي تستغيثو لهم لقضاء حوائجكم. وجواب سؤالهم ليس مطابقا من جهة اللفظ لأنه سؤال عن مكان وأجيب بفعل، وهو مطابق من جهة المعنى إذ تقدير السؤال ما فعل معبودكم من دون الله معكم؟ قالوا: ضلوا عنا.
{ وشهدوا على أنفسهم } إستئناف إخبار من الله تعالى بإقرارهم على أنفسهم بالكفر.
{ قال ادخلوا في أمم } الآية. أي يقول الله لهم أي للكفار من العرب وهم المفترون الكذب والمكذبون بالآيات، وذلك يوم القيامة. وعبر بالماضي لتحقق وقوعه، وقوله ذلك على لسان الملائكة. ويتعلق في أمم في الظاهر بادخلوا والمعنى في جملة أمم، ويحتمل أن يتعلق بمحذوف فيكون في موضع الحال. وقد خلت من قبلكم، أي تقدمتكم في الحياة الدنيا أو تقدمتكم، أي تقدم دخولها في النار. وقدم الجن لأنهم الأصل في الإغواء والإضلال. ودل ذلك أن عصاة الجن يدخلون النار. وفي النار متعلق بخلق على أن المعنى تقدم دخولها أو بمحذوف هو صفة لأمم أي في أمم سابقة في الزمان كائنة من الجن والإنس كائنة في النار.
{ كلما دخلت أمة لعنت أختها } كلما: للتكرار، ولا يستوي ذلك في الأمة الأولى فاللاحقة تلعن السابقة أو يلعن بعض الأمة الداخلة بعضها. ومعنى أختها، أي في الدين، والمعنى كلما فعلت أمة من اليهود والنصارى وعبدة الأوثان وغيرهم من الكفار.
{ حتى إذا اداركوا فيها جميعا } حتى غاية لما قبلها. والمعنى أنهم يدخلون فوجا ففوجا لاعنا بعضهم بعضا إلى انتهاء تداركهم وتلاحقهم في النار واجتماعهم فيها.
وأصل اداركوا تداركوا أدغمت التاء في الدال فاجتلبت همزة الوصل. وأخرى هنا بمعنى آخره مؤنث آخر مقابل أول لا مؤنث آخر بمعنى غير كقوله:
وزر أخرى
[الأنعام: 164]. واللام في لأولادهم: لام السبب، أي لأجل أولاهم لأن خطابهم مع الله تعالى لا معهم.
{ أضلونا } شرعوا لنا الضلال أو جعلونا نضل وحملونا عليه.
{ ضعفا } زائدا على عذابنا إذ هم كافرون ومسببوا كفرنا.
{ قال لكل ضعف } أي لكل من الأخرى، والأولى عذاب مضاعف زائد إلى غير نهاية وذلك أن العذاب مؤبد فكل ألم يعقبه آخر. وقرأ الجمهور بالتاء على الخطاب للسائل أي لا تعلمون ما لكل فريق من العذاب أو لا تعلمون المقادير وصور العذاب أو خطاب لأهل الدنيا أي ولكن يا أهل الدنيا لا تعلمون مقدار ذلك، وهذه الجملة رد على أولئك السائلين وعدم إسعاف لما طلبوا.
{ وقالت أولاهم لأخراهم } أي قالت الطائفة المتبوعة للطائفة المتبعة. واللام في لأخراهم لام التبليغ نحو: قلت لك أضع كذا لأن الخطاب هو مع أخراهم بخلاف اللام في لأولاهم فإنهما كما ذكرنا لام السبب لأن الخطاب هناك مع الله تعالى، وقيل: قوله: فما، جملة محذوفة تقديرها فما أجابكم الله تعالى إلى ما طلبتم من تضعيف العذاب لنا.
{ فما كان لكم علينا من فضل } باتباعكم إيانا من الدنيا، بل كفرتم اختيار إلا ان حملناكم على ذلك إجبارا. وإن قوله: فذوقوا العذاب، من كلام الأولى خطابا للأخرى على سبيل التشفي منهم وإن ذوق العذاب هو بما كسبتم من الآثام لا بسبب دعواكم أنا أضللناكم.
{ إن الذين كذبوا بآيتنا واستكبروا عنها } أي عن قبولها والتفكر فيها والإيمان والاستكبار هو نتيجة التكذيب.
{ لا تفتح لهم أبواب السمآء } قرىء لا تفتح مخففا ومثقلا وبياء الغيبة أبواب السماء قال ابن عباس: لا تفتح لأعمالهم ولا لدعائهم ولا لما يريدون به طاعته تعالى أي لا يصعد لهم عمل صالح فتفتح له أبواب السماء. وقيل: المعنى لا تفتح لهم أبواب السماء في القيامة ليدخلوا منها إلى الجنة.
{ حتى يلج } الولوج: التقحم في الشىء.
{ الجمل } الحيوان المعروف. والجمل حبل السفينة ولغاته تأتي.
{ سم الخياط } ثقبة وتضم سين سم وتفتح وتكسر وكل ثقب في أنف أو أذن إو غير ذلك فالعرب تسميه سما. والخياط: المخيط، وهما آلتان كازار ومئزر ولحاف وملحف وقناع ومقنع ويلح هذا نفي مغيا بمستحيل وذكر الجمل لأنه أعظم الحيوان المزاول للإنسان جثة فلا يلج إلا في باب واسع فلا يدخلون الجنة أبدا. قال الشاعر:
لقد عظم البعير بغير لب
فلم يستغن بالعظم البعير
وقرأ ابن عباس في جماعة وابان عن عاصم الجمل بضم الجيم وفتح الميم مشددة. وفسر بالقلس الغليظ وهو حبل السفينة تجمع من حبال وتفتل وتصير حبلا واحدا.
{ وكذلك نجزي المجرمين } أي مثل ذلك الجزاء نجزي أهل الجرائم.
{ لهم من جهنم مهاد } هذه استعارة لما تحيط بهم من النار من كل جانب، كما قال تعالى:
لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل
[الزمر: 16]. والغواشي جمع غاشية. قال ابن عباس: هي اللحف.
[7.42-46]
{ والذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية لما أخبر تعالى بوعيد الكفار أخبر بوعد المؤمنين. وخبر والذين الجملة من لا نكلف نفسا أي منهم أو الجملة من أولئك وما بعده وتكون جملة لا نكلف اعتراضا بين المبتدأ والخبر. وفائدته أنه ذكر قوله: وعملوا الصالحات، نبه على أن ذلك العمل وسعهم وغير خارج عن قدرتهم وفيه تنبيه للكفار على أن الجنة مع عظم محلها يوصل إليها بالعمل السهل من غير مشقة.
{ ونزعنا ما في صدورهم من غل } الغل: الحقد والأحنة الخفية في النفس وجمعها غلال ومنه الغلول: أخذ الشىء في خفاء. ونزعنا أي أذهبنا في الجنة ما انطوت عليه صدورهم من الحقود ونزع الغل في الجنة أن لا يحسد بعضهم بعضا في تفاضل منازلهم وكني بالصدر عن الشخص، والذي يظهر أن النزع للغل كناية عن خلقهم في الآخرة سالمي القلوب طاهريها متوادين متعاطفين كما قال:
إخونا على سرر متقبلين
[الحجر: 47]، وتجري حال، قاله الحوفي قال: والعامل فيه نزعنا. وقال أبو البقاء: حال والعامل فيها معنى الإضافة، وكلا القولين لا يصح لأن تجري ليس من صفات الفاعل الذي هو ضمير نزعنا ولا من صفات المفعول الذي هو ما في صدورهم ولأن معنى الإضافة لا يعمل إلا إذا كانت إضافة يمكن للمضاف أن يعمل إذا جرد من الإضافة رفعا ونصبا فيما بعده. والظاهر أنه خبر مستأنف عن صفة حالهم.
{ وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا } أي وفقنا لتحصيل هذا النعيم الذي صرنا إليه بالإيمان والعمل الصالح إذ هو نعمة عظيمة يجب عليهم بها حمده تعالى والثناء عليه.
{ وما كنا لنهتدي } قرىء: ما كنا وقرىء: وما كنا. ومعنى لنهتدي أي من ذوات أنفسنا.
{ لولا أن هدانا الله } وجواب لولا الجملة قبلها وهو وما كنا لنهتدي ولا ينكر تقديم جواب لولا عليها ألا ترى إلى قوله تعالى:
إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها
[القصص: 10]. وقوله:
ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه
[يوسف: 24]. وإن كان الأكثر في لسان العرب تأخير جواب لولا كقوله تعالى:
ولولا فضل الله عليكم ورحمته
[النساء: 83] ما زكى. وان هدانا في موضع رفع بالابتداء تقديره لولا هداية الله إيانا.
{ لقد جآءت رسل ربنا بالحق } أي لموعود الذي وعدونا في الدنيا قضوا بأن ذلك حق قضاء مشاهدة بالحس وكانوا في الدنيا يقضون بذلك قضاء استدلال.
{ ونودوا } يحتمل أن يكون النداء من الله تعالى وهو أسر لقلوبهم وأرفع لقدرهم ويحتمل أن يكون من الملائكة وأن يحتمل أن تكون المخففة من الثقيلة أي ونودوا بأنه تلكم الجنة واسمها ضمير الشأن يحذف إذا خففت. ويحتمل أن تكون ان مفسرة لوجود شرطيها وهما أن يكون قبلها جملة في معنى القول وبعدها جملة.
وكأنه قيل: تلكم الجنة، وتلكم إسم إشارة والذي بعدها خطاب للجماعة، والمعنى أن البعد فيها باعتبار سبق الوعد بها في الدنيا. والجنة صفة لتلكم وأورثتموها خبر عن تلكم والهمزة في أورثتموها بدل من واو بدلا جائزا لأن أصل المادة الواو والراء والثاء تقول ورث يرث، ولو قرىء وأورثتموها لكان عربيا لأن فاعل من ذوات الواو نحو: وأرى إذا بنيت للمفعول يجوز أن تبدل واوه همزة فتقول: أوري وأصله ووري.
{ ونادى أصحاب الجنة } عبر بالماضي عن المستقبل لتحقق وقوعه وهذا النداء فيه تقريع وتوبيخ وتوقيف على مآل الفريقين وزيادة في كرب أهل النار بأن يشرف عليهم أهل الجنة ويخلق إدراك أهل النار لذلك النداء في أسماعهم. وأتى في إخبار أهل الجنة ما وعدنا بذكر المفعول، وفي قصة أهل النار على ما وعدكم بذكر المفعول وعدلان أهل الجنة مستبشرون بحصول موعودهم فذكروا ما وعدهم الله تعالى مضافا إليهم ولم يذكروا حين سألوا أهل الجنة متعلق ما وعدهم باسم الخطاب فيقولوا: ما وعدكم ليشمل كل موعود من عذاب أهل النار ونعيم أهل الجنة وتكون إجابتهم بنعم تصديقا لجميع ما وعد الله تعالى بوقوعه في الآخرة للصنفين ويكون ذلك اعترافا منهم بحصول موعود المؤمنين ليتحسروا على ما فاتهم من نعيمهم، إذ نعيم أهل الجنة مما يحزنهم ويزيد في عذابهم. وأن يحتمل أن تكون تفسيرية، وأن تكون مصدرية مخففة من أن الثقيلة وإذا ولى المخففة فعل متصرف غير دعاء فصل بينهما بقد في الأجود كقوله: إن قد وجدنا.
{ فأذن مؤذن بينهم } أي أعلم معلم وأبهم تعالى من المؤذن فقيل: هو اسرافيل صاحب الصور وقيل غيره. بينهم ظرف لإذن معمول له. والضمير في بينهم عائد على الفريقين. وان المخففة من الثقيلة أو مفسرة.
و { يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا } تقدم تفسير مثله. وهذا الوصف بالموصول هو حكاية عن حالهم السابقة والمعنى الذين كانوا يصدون لأنهم وقت الآذان لم يكونوا متصفين بهذا الوصف والمعنى بالظالمين الكفار، بدليل قوله: وهم بالآخرون كافرون، لأن الفاسق ليس كافرا بالآخرة بل مؤمن مصدق بها.
{ ويبغونها } أي يبغون لها. والضمير عائد على السبيل، والسبيل يذكر ويؤنث.
{ وبينهما حجاب } أي بين الفريقين لأنهم المحدث عنهم. وهو الظاهر. وقيل: بين الجنة والنار وبهذا بدأ الزمخشري وابن عطية وفسر الحجاب بأنه المعني بقوله تعالى:
فضرب بينهم بسور
[الحديد: 13]. وقال ابن عباس: ويقوي أنه بين الفريقين لفظ بينهم، إذ هو ضمير العقلاء ولا يحيل ضرب السور بعد ما بين الجنة والنار وإن كانت تلك السماء والنار أسفل السافلين.
{ وعلى الأعراف رجال } الاعراف جمع عرف وهو المرتفع من الأرض. قال الشماخ:
فظلت باعراف تعالى كأنها
رماح نحاها وجهة الريح راكز
ومنه عرف الفرس وعرف الديك لعلوهما. وقال ابن عباس: الأعراف تل بين الجنة والنار.
{ يعرفون كلا بسيماهم } أي كلا من فريقي الجنة والنار بعلامتهم التي ميزهم الله تعالى بها من ابيضاض وجوه واسوداد وجوه في هذه الجملة التجنيس المغاير وهو أن يكون إحدى الكلمتين إسما والأخرى فعلا فالاعراف اسم ويعرفون فعل والرجال قوم تساوت حسناتهم وسيآتهم وقفوا هنالك ما شاء الله تعالى لم تبلغ حسناتهم بهم دخول الجنة ولا سيئآتهم دخول النار. وروي في مسند ابن أبي خيثمة عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث فيه قيل:
" يا رسول الله فمن استوت حسناته وسيئاته؟ قال: أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون ".
{ ونادوا أصحاب الجنة } الضمير في نادوا عائد على رجال. وان تفسيرية او مخففة من الثقيلة كما تقدم.
و { لم يدخلوها } جملة حالية العامل فيها، نادوا أي نادوا غير داخلي الجنة.
{ وهم يطمعون } جملة حالية أيضا أي يطمعون في دخولها وأجاز الزمخشري أن يكون لم يدخلوها وهم يطمعون صفة لرجال وهو بعيد للفصل بين الموصوف والصفة بجملة ونادوا وليست جملة اعتراض.
[7.47-53]
{ وإذا صرفت أبصارهم } الضمير في ابصارهم عائد على رجال الاعراف يسلمون على أهل الجنة وإذا نظروا إلى أهل النار دعوا الله تعالى في التخلص منها، قاله ابن عباس وجماعة. وفي قوله: صرفت أبصارهم، دليل على أن أكثر أحوالهم النظر إلى تلقاء أصحاب الجنة وأن نظرهم إلى أصحاب النار هو بكونهم صرفت أبصارهم تلقاءهم فليس الصرف من قبلهم بل هم محمولون عليه مفعول بهم ذلك لأن ذلك المطلع مخوف من سماعه فضلا عن رؤيته فضلا عن التلبس به، والمعنى أنهم إذا حملوا على صرف أبصارهم ورأوا ما هم عليه من العذاب استغاثوا بربهم من أن لا يجعلهم معهم. ولفظة ربنا مشعرة بوصفه تعالى بأنه مصلحهم وسيدهم وهم عبيده فبالدعاء به طلب رحمته واستعطاف كرمه وتلقاء تفعال من اللقاء استعمل ظرف مكان، تقول: زيد تلقاء عمرو أي مكان لقائه وجهته.
{ ونادى أصحاب الأعراف رجالا } الآية هذا النداء، وأولئك الرجال في النار، ومعرفتهم إياهم في الدنيا بعلامات.
{ مآ أغنى عنكم جمعكم } في الدنيا المال والولد والاجناد والحجاب والجيوش. وما أغنى استفهام توبيخ وتقريع، وما في ما أغنى يجوز أن تكون نافية، وما في وما كنتم مصدرية أي وكونكم تستكبرون. وقرأت فرقة تستكثرون بالثاء المثلثة من الكثرة.
{ ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من المآء } الآية هذا يقتضي سماع كل من الفريقين كلام الآخر وهذا جائز عقلا على بعد المسافة بينهما من العلو والسفل وجائز أن يكون ذلك مع رؤية واطلاع من الله تعالى وذلك أخزى وأنكى للكفار. وجائز أن يكون ذلك وبينهم الحجاب والسور. وعن ابن عباس: أنه لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج بعد اليأس فقالوا: يا رب لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فنظروا إليهم وإلى ما هم فيه من النعيم فعرفوهم، ونظر أهل الجنة إلى قراباتهم من أهل النار فلم يعرفوهم قد اسودت وجوههم وصاروا خلقا آخر، فنادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم وأخبروهم بقراباتهم فينادي الرجل أخوه فيقول: يا أخي قد احترقت فأغثني، فيقول: الله حرمهما على الكافرين، ويحتمل ان ان تكون مصدرية ومفسرة. وكلام ابن عباس يدل على أن هذا النداء كان عن رجاء وطمع في حصول ذلك، وقيل: هو مع اليأس لأنهم قد علموا دوام عقابهم وأنهم لا يفتر عنهم ولكن اليائس من الشىء قد يطلبه كما يقال في المثل: الغريق يتعلق بالزبد وان علم أنه لا يغنيه.
و { أفيضوا } أمكن من اسقونا لأنها تقتضي التوسعة كما يقال: أفاض الله عليه نعمة، أي وسعها. وسؤالهم الماء لشدة التهابهم واحتراقهم ولأن من عادته إطفاء النار.
{ أو مما رزقكم الله } لأن البنية البشرية لا تستغني عن الطعام إذ هو مقولها، أو لرجائهم الرحمة بأكل طعام أهل الجنة، وأو على بابها من كونهم سألوا أحد الشيئين. وأتى أو مما رزقكم الله عاما والعطف بأو يدل على أن الأول لا يندرج في العموم. وقيل: أو بمعنى الواو لقولهم: إن الله حرمهما. وقيل: المعنى حرم كلا منهما فأو على بابها وما رزقكم الله عام فيدخل فيه الطعام والفاكهة والأشربة غير الماء أو تضمن أفيضوا معنى ألقوا فيتعدى للماء ولغيره وما في مما موصولة والعائد عليها محذوف تقديره رزقكموه. ومعنى التحريم هنا المنع كما قال: حرام على عيني أن تطعم الكرى وإخبارهم بذلك هو عن أمر الله تعالى.
{ الذين اتخذوا دينهم لهوا ولعبا } تقدم تفسيرها في الانعام فأغنى عن إعادته.
{ فاليوم ننسهم } هذا إخبار من الله عما يفعل بهم. قال ابن عباس وجماعة: يتركهم في العذاب كما تركوا النظر للقاء هذا اليوم.
{ وما كانوا } معطوف على ما نسوا وما فيها مصدرية والكاف في كما للتعليل أي لنسيانهم وكونهم جحدوا آيات الله تعالى.
{ ولقد جئناهم بكتاب } الضمير عائد على ما تقدم ذكره ويكون الكتاب على هذا جنسا أي بكتاب إلهي إذ الضمير عام في الكفار.
و { فصلناه } صفة لكتاب.
و { على علم } الظاهر أنه حال من فاعل فصلناه.
وانتصب: { هدى ورحمة } على الحال. وقيل: مفعول من أجله أي لأجل الهدى. وقرىء بالرفع أي هو هدى ورحمة.
{ هل ينظرون إلا تأويله } أي مآل أمره وعاقبته. قال ابن عباس: مآله يوم القيامة.
{ يوم يأتي تأويله } أي يوم يظهر عاقبة ما أخبره به من الوعد والوعيد يسأل تاركوا اتباع الرسل: هل لنا من شفعاء؟ والناصب ليوم يقول والجملة بعد يوم في تقدير مصدر أي يوم إتيان تأويله.
{ يقول الذين نسوه } أي تركوا العمل به واتباعه.
{ فهل لنا من شفعآء } هو معمول القول. ومن زائدة، وشفعاء مبتدأ، ولنا في موضع الخبر.
{ فيشفعوا } جواب الاستفهام منصوب بحذف النون.
{ أو نرد } هو على إضمار هل أي هل نرد، وجوابه:
{ فنعمل } عطف جملة استفهام فعلية على جملة استفهام إسمية.
{ قد خسروا أنفسهم } أي خسروا في تجارة أنفسهم حيث ابتاعوا الخسيس الفاني من الدنيا بالنفيس الباقي من الآخرة، وبطل عنهم افتراؤهم على الله تعالى ما لم يقله ولا أمر به وكذبهم في اتخاذهم الآلهة دون الله تعالى.
[7.54-56]
{ إن ربكم الله } الآية، لما ذكر تعالى أشياء من مبتدأ خلق الإنسان وانقسامهم إلى مؤمن وكافر ومعادهم وحشرهم إلى جنة ونار، ذكر مبدأ العالم واختراعه، ثم بعد إلى النبوة والرسالة إذ مدار القرآن على تقدير المسائل الأربع التوحيد والقدرة والمعاد والنبوة وربكم خطاب عام للمؤمن والكافر.
{ في ستة أيام } في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال:
" أخذ بيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خلق الله عز وجل التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاث، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات يوم الجمعة فيما بين العصر إلى الليل، وأما استواؤه تعالى على العرش فحمله على ظاهره من الاستقرار بذاته على العرش قوم تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا "
والجمهور من السلف السفيانان ومالك والأوزاعي والليث وابن المبارك وغيرهم في أحاديث الصفات على الإيمان بها وإمرارها على ما أراد الله تعالى من غير تعيين مراد وقوم تأولوا ذلك على عدة تأويلات ومسألة الإستواء مذكورة في علم أصول الدين والعرش السقف وكل ما علا وأظل فهو عرش.
{ يغشي اليل النهار يطلبه حثيثا } التغشية: التغطية، والمعنى أنه يذهب الليل نور النهار فالليل للسكون والنهار للحركات وفحوى الكلام يدل على أن النهار يغشيه الله الليل وهما مفعولان لأن التضعيف والهمزة يعديان. وقرىء: بالتضعيف والهمز وقرأ حميد بن قيس يغشى الليل بفتح الياء وسكون الغين وفتح الشين وضم اللام، كذا قال عنه أبو عمرو الداني. وقال أبو الفتح بن جني عن حميد بنصب الليل ورفع النهار. قال ابن عطية: وأبو الفتح أثبت. هذا الذي قاله من أن أبا الفتح أثبت كلام لا يصح إذ رتبه أبي عمرو الداني في القراءات ومعرفتها وضبط رواياتها واختصاصه بذلك بالمكان الذي لا يدانيه أحد من أئمة القراء فضلا عن النحاة الذين ليسوا مقرئين ولا رووا القرآن عن أحد ولا روى عنهم القرآن أحد هذا مع الديانة الزائدة والتثبت في النقل وعدم التجاسر ووفور الحظ من العربية فقد رأيت له كتابا في كلا وكلتا، وكتابا في إدغام أبي عمر والكبير دلا على إطلاعه على ما لا يكاد يطلع عليه أئمة النحاة ولا المقرئين إلى سائر تصانيفه والذي نقله أبو عمر الداني عن حميد أمكن من حيث المعنى لأن ذلك موافق لقراءة الجماعة إذ الليل في قراآتهم وإن كان منصوبا هو الفاعل من حيث المعنى إذ همزة النقل والتضعيف صيراه مفعولا ولا يجوز أن يكون مفعولا ثانيا من حيث المعنى لأن المنصوبين تعدى إليهما الفعل، وأحدهما فاعل من حيث المعنى فيلزم أن يكون الأول منهما كما لزم ذلك في ملكت زيدا عمرا إذ رتبه التقديم هي الموضحة أنه الفاعل من حيث المعنى ذلك في ضرب موسى عيسى يطلبه حثيثا الجملة من يطلبه حال من الفاعل من حيث المعنى وهو الليل إذ هو المحدث عنه قبل التعدية وتقديره حاثا ويجوز أن يكون حالا من النهار وتقديره محثوثا.
ويجوز أن ينتصب نعتا لمصدر محذوف أي طلبا حثيثا أي حاثا أو محثا ولنسبة الطلب إلى الليل مجازية وهو عبارة عن تعاقبه اللازم فكأنه طالب له لا يدركه بل هو في أثره بحيث يكاد يدركه وقدم الليل هنا كما قدمه في:
يولج الليل في النهار
[الحج: 61]، وفي:
ولا اليل سابق النهار
[يس: 40]، وفي:
وجعل الظلمت والنور
[الأنعام: 1].
{ والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره } وانتصب مسخرات على الحال من المجموع، أي وخلق الشمس. وقرىء بالرفع في الأربعة على الابتداء والخبر. وقرأ ابان بن ثعلب برفع والنجوم مسخرات فقط على الابتداء والخبر ومعنى بأمره بمشيئته وتصريفه وهو متعلق بمسخرات أي خلقهن جاريات بمقتضى حكمته وتدبيره وكما يريد أن يصرفها سمى ذلك أمرا على التشبيه كأنهن مأمورات بذلك.
{ ألا له الخلق والأمر } لما تقدم ذكر الخلق وأمره فيها قال ذلك، أي له الإيجاد والاختراع وجرى ما خلق واخترع على ما يريده وما يأمره لا أحد يشركه في ذلك ولا في شىء منه.
{ تبارك الله رب العالمين } أي علا وعظم، ولما تقدم أن ربكم صدر الآية جاء آخرها فتبارك الله رب العالمين وجاء العالمين أعم من ربكم لأنه خلق تلك الأشياء البديعة وهي عوالم كثيرة فجاء العالمين جمعا لجميع العوالم واندرج فيه المخاطبون بربكم وغيرهم وتبارك فعل جامد لا يتصرف، فلا يقال منه مضارع ولا اسم فاعل ولا فعل أمر لا يقال يتبارك ولا متبارك ولا تبارك.
{ ادعوا ربكم تضرعا وخفية } الظاهر أن الدعاء هو مناجاة الله بندائه لطلب أشياء ولدفع أشياء وانتصب تضرعا وخفية على الحال أي متضرعين ومخفين أو ذوي تضرع واختفاء في دعائكم. وفي الحديث الصحيح:
" إنكم لستم تدعون أصم ولا غائبا إنكم تدعونه سميعا قريبا ".
{ إنه لا يحب المعتدين } وهذا اللفظ عام يدخل فيه أولا الدعاء على غير هذين الوجهين من عدم التضرع وعدم الخفية بأن يدعوه وهو ملتبس بالكبر والزهو وان ذلك دأبه في المواعيد والمدارس فصار ذلك صنعة وعادة فلا يلحقه تضرع ولا تذلل وبأن يدعوه بالجهر البليغ والصياح كدعاء الناس عند الاجتماع في المشاهد والمزارات. وقال العلماء: الاعتداء في الدعاء على وجوه كثيرة منها الجهر الكثير والصياح.
{ ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها } هذا نهي عن إيقاع الفساد في الأرض وإدخال لماهيته في الوجود فيتعلق بجميع أنواعه من إفساد النفوس والأموال والأنساب والعقول والأديان ومعنى بعد إصلاحها أي بعد أن أصلح الله خلقها على الوجه الملائم لمنافع الخلق ومصالح المكلفين.
{ وادعوه خوفا وطمعا } لما كان الدعاء من الله تعالى بمكان كرره فقال: ادعوا ربكم تضرعا وخفية وهاتان الحالتان من الأوصاف الظاهرة لأن الخشوع والاستكانة وإخفاء الصوت ليسا من الأفعال القلبية ثم كرر الأمر بالدعاء خوفا وطمعا وهما من الأفعال القلبية أي وجلين مشفقين وراجين مؤملين. فبدأ أولا بأفعال الجوارح، ثم ثانيا بأفعال القلوب. وانتصب خوفا وطمعا على أنهما مصدران في موضع الحال أو انتصاب المفعول له وعطف أحدهما على الآخر يقتضي أن يكون الخوف والرجاء متساويين، وقد قال كثير من العلماء ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة فإذا جاء الموت غلب الرجاء.
{ إن رحمت الله قريب من المحسنين } والرحمة مؤنثة مقياسها أن يخبر عنها اخبار المؤنث فيقال: قريبة. قال الفراء: إذا استعمل في النسب والقرابة فهي مع المؤنث بتاء ولا بد تقول هذه قريبة فلان وإذا استعملت في قرب المسافة أو الزمن فقد يجيء مع المؤنث بتاء وقد تجيء بغير تاء تقول: دارك مني قريب، وفلانة منا قريب. ومن هذا قول الشاعر:
عشية لا عفراء منك قريبة
فتدنو ولا عفراء منك بعيد
فجمع بين الوجهين في هذا البيت " انتهى ". وقال تعالى:
وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا
[الأحزاب: 63].
وقال الشاعر:
له الويل إن أمسى ولا أم هاشم
قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا
[7.57-62]
{ وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } لما ذكر الدلائل على كمال ألوهيته وقدرته وعلمه من العالم العلوي اتبعها بالدلائل على أحوال العالم السفلي وجعل الخبر موصولا في أن ربكم الله الذي خلق وفي قوله: وهو الذي، دلالة على كون ذلك معهودا عند السامع مفروغا من تحقق النسبة فيه والعلم به, ولم يأت التركيب أن ربكم خلق ولا هو يرسل الرياح. نشرا جمع نشور كصبور وصبر. وقرىء: نشرا بإسكان الشين تخفيفا من الضم كرسل ورسل ونشرا مصدر نشر وبشرى والألف للتأنيث وهو مصدر بشر كرجعى ومعنى بين يدي رحمته أي أمام نعمته وهو المطر الذي هو من أجل النعم وأحسنها أثرا والتعبير عن امام الرحمة بقوله: بين يدي رحمته من مجاز الاستعارة إذ الحقيقة هو ما بين يدي الإنسان من الاجرام.
{ حتى إذآ أقلت سحابا ثقالا } هذه غاية لإرسال الرياح، والمعنى أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات أو مبتشرات إلى سوق السحاب وقت إقلاله إلى بلد ميت. والسحاب إسم جنس بينه وبين مفرده تاء التأنيث فيذكر كقوله تعالى:
والسحاب المسخر
[البقرة: 164]، ويؤنث ويوصف ويخبر عنه بالجمع كقوله تعالى: { ثقالا } ، وثقله بالماء الذي فيه، ونسب السوق إليه تعالى بنون العظمة التفاتا إذ فيه خروج من ضمير الغيبة في رحمته إلى ضمير المتكلم في سقناه ولما فيه من عظيم المنة وجليل النعمة ذكر الضمير في سقناه رعيا للفظه كما قلنا أنه يذكر. واللام في لبلد لام التبليغ كقولك: قلت لك. وقال الزمخشري: لأجل بلد، فجعل اللام لام العلة ولا يظهر وفرق بين قولك: سقت لك مالا وسقت لأجلك مالا، فإن الأول معناه أوصلته لك وأبلغتك هو، والثاني لا يلزم منه وصوله إليه بل قد يكون الذي وصل له المال غير الذي علل به السوق. ألا ترى صحة قول القائل: لأجل زيد سقت لك مالك. ووصف البلد بالموت استعارة حسنة لجدبه وعدم نباته كأنه من حيث عدم الانتفاع به كالجسد الذي لا روح فيه.
{ فأنزلنا به المآء } الظاهر أن الباء ظرفية، والضمير عائد على بلد ميت أي فأنزلنا فيه الماء وهو أقرب مذكور فحسن عوده إليه.
{ فأخرجنا به } أي بالماء.
{ من كل الثمرات } ظاهره العموم.
{ كذلك نخرج الموتى } أي مثل هذا الإخراج وهو إخراج النبات نخرج الموتى من قبورهم أحياء إلى الحشر .
{ لعلكم تذكرون } بإخراج الثمرات وإنشائها خروجكم للبعث إذا لإخراجان سواء فهذا الإخراج المشاهد نظيره الإخراج الموعود به.
{ والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه } الطيب: الجيد التربة الكريم الأرض.
{ والذي خبث } المكان السبخ الذي لا ينبت ما ينتفع به وهو الرديء من الأرض. ولما قال: فأخرجنا به من كل الثمرات، تم هذا المعنى بكيفية ما يخرج من النبات من الأرض الكريمة والأرض السبخة.
وفي الكلام حال محذوفة أي يخرج نباته وافيا حسنا، وحذفت لفهم المعنى ولدلالة البلد الطيب عليها ولمقابلتها بقوله:
{ إلا نكدا } ولدلالة بإذن ربه لأن ما أذن الله تعالى في إخراجه لا يكون إلا على أحسن حال وبإذن ربه في موضع الحال وخص خروج النبات الطيب بقوله: بإذن ربه، على سبيل المدح له والتشريف ونسبة الأشياء الشريفة الطيبة إليه تعالى وإن كان كلا النباتين يخرج بإذنه تعالى. ومعنى بإذن ربه: بتيسيره. وحذف من الجملة الثانية الموصوف أيضا، والتقدير والبلد الذي خبث لدلالة والبلد الطيب عليه فكل من الجملتين فيه حذف.
{ كذلك نصرف الآيات } أي مثل هذا التصريف والترديد والتنويع ننوع الآيات ونرددها وهي الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة التامة والفعل بالاختيار ولما كان ما سبق ذكره من إرسال الرياح مبشرات ومنتشرات سببا لإيجاد النبات الذي هو سبب إيجاد الحياة وديموميتها كان ذلك أكبر نعمة على الخلق فقال: لقوم يشكرون أي يشكرون هذه النعمة التي لا تكاد توازيها نعمة وخص الشاكرين لأنهم هم المنتفعون بهذه النعم.
{ لقد أرسلنا نوحا } الآية لما ذكر تعالى في هذه السورة مبدأ الخلق الإنساني وهو آدم عليه السلام وقص من أخباره ما قص واستطرد من ذلك إلى المعاد ومصير أهل السعادة إلى الجنة وأهل الشقاوة إلى النار قص تعالى على نبيه أحوال الرسل الذين كانوا قبله وأحوال من بعثوا إليه على سبيل التسلية له صلى الله عليه وسلم والتأسي بهم فبدأ بنوح عليه السلام إذ هو آدم الثاني وأول رسول بعث إلى من في الأرض، وأمته أدوم تكذيبا له وأقل استجابة له. وتقدم رفع نسبه إلى آدم عليه السلام وكان نجارا بعثه الله تعالى إلى قومه وهو ابن أربعين سنة، قاله ابن عباس. قال الزمخشري: فإن قلت: ما بالهم لا يكادون ينطقون بهذه اللام إلا مع قد وقل عنهم: حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا. قلت: إنما كان ذلك لأن الجملة القسمية لا تساق إلا تأكيدا للجملة المقسم عليها التي هي جوابها فكانت مظنة لمعنى التوقع الذي هو معنى قد عند استماع المخاطب كلمة القسم. " انتهى ". وبعض أصحابنا يقول إذا أقسم على جملة مصدرة بماض مثبت متصرف وكان قريبا من زمان الحال أتيت مع اللام بقد الدالة على التقريب من زمن الحال ولم تأت بقد بل باللام وحدها ان لم ترد التقريب.
{ قال يقوم } في ندائه قومه تنبيه لهم لما يلقيه إليهم واستعطاف وتذكير بأنهم قومه فالمناسب أن لا يخالفوه ومعمول القول جملة الأمر بعبادة الله وحده ورفض آلهتهم المسماة ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وغيرها.
والجملة المنبهة على الوصف الداعي إلى عبادة الله تعالى وهو انفراده بالألوهية المرجو إحسانه المحذور انتقامه دون آلهتهم.
{ ما لكم من إله غيره } قرىء: غيره بالجر نعتا لإله على اللفظ. وقرىء غيره بالرفع نعتا لإله على الموضع. ومن زائدة، وإله مبتدأ، ولكم خبره. وأخاف على بابها من الخوف لأنه يجوز عنده أن يؤمنوا أو يؤمن بعضهم، ويوم عظيم هو يوم القيامة أو يوم حلول العذاب بهم في الدنيا وهو الطوفان. وفي هذه الجملة إظهار الشفقة والحنو عليهم.
{ قال الملأ من قومه } الملأ هم الأشراف وساداتهم وهم الذين يتعاصون على الرسل لانغمار عقولهم بالدنيا وطلب الرياسة والعلو فيها ونراك الظاهر أنها من رؤية البصر، وفي ضلال جعلوه ظرفا لنوح عليه السلام ومعنى مبين واضح وجاءت جملة جوابهم مؤكدة بأن وباللام.
{ قال يقوم ليس بي ضللة } لم يرد النفي فيه على لفظ ما قالوه فلم يأت التركيب لست في ضلال مبين بل جاء في غاية الحسن من نفي أن يلتبس به ويختلط ضلالة ما واحدة فأنى يكون في ضلال فهذا أبلغ من الإنتفاء من الضلال إذا لم تتعلق به ضلالة واحدة وفي ندائه لهم ثانيا والإعراض عن جفائهم ما يدل على سعة صدره والتلطف بهم، ولما نفى عنه التباس ضلالة ما به دل على أنه الصراط المستقيم، فصح أن يستدرك كما تقول: ما زيد بضال لكنه مهتد، فلكن واضعة بين نقيضين لأن الإنسان لا يخلو من أحد الشيئين الضلال والهدى ولا تجامع الضلالة الرسالة.
وفي قوله: { من رب العلمين } تنبيه على أنه ربهم لأنهم من جملة العالم أي من ربكم المالك لأموركم الناظر لكم بالمصلحة حيث وجه إليكم رسولا يدعوكم إلى إفراده بالعبادة.
و { أبلغكم } إستئناف على سبيل البيان لكونه رسولا، أو جملة في موضع الصفة لرسول ملحوظا فيه كونه خبر الضمير متكلم، كما تقول: أنا رجل آمر بالمعروف، فتراعي لفظ أنا. ويجوز يأمر بالمعروف تراعي لفظ رجل والأكثر مراعاة ضمير المتكلم والمخاطب فيعود الضمير ضمير متكلم أو مخاطب. قال تعالى:
بل أنتم قوم تفتنون
[النمل: 47]، بالتاء ولو قرىء بالياء لكان عربيا مراعاة للفظ قوم لأنه غائب. وجمع رسالات باعتبار ما أوحي إليه في الأزمان المتطاولة أو باعتبار المعاني المختلفة من الأمر والنهي والزجر والوعظ والتبشير والإنذار أو باعتبار ما أوحي إليه وإلى من قبله. وتقدم الكلام على نصح وتعديتها باللام نحو: نصحت زيدا ونصحت لزيد. وكقول الشاعر:
نصحت بني عوف فلم يتقبلوا
وصاتي فلم تنجح لديهم وسائلي
وفي قوله: { ما لا تعلمون } إبهام عليهم وهو عام، ولكن ساق ذلك مساق المعلومات التي يخاف عليهم ولم يسمعوا قط بأمة عذبت، فتضمن التهديد والوعيد. وما أحسن سياق هذه الأفعال قال أولا أبلغكم رسالات ربي وهذا مبدأ أمره معهم وهو التبليغ كما قال:
إن عليك إلا البلاغ
[الشورى: 48]. ثم قال: وأنصح لكم، أي أخلص لكم في تبيين الرشد والسلامة في العاقبة إذا عبدتم الله وحده. ثم قال: وأعلم من الله ما لا تعلمون، من بطشه بكم وهو مآل أمركم إذا لم تفردوه بالعبادة فنبه على مبدأ أمره معهم ومنتهاه.
[7.63-72]
{ أو عجبتم } الآية ، تضمن قولهم:
إنا لنراك في ضلال مبين
[الأعراف: 60]، استبعادهم واستمحالهم وأخبرهم به من خوف العذاب عليهم وأنه بعثه الله تعالى إليهم بعبادته وحده ورفض آلهتهم وتعجبوا من ذلك. والهمزة للإنكار والتوبيخ أي هذا مما لا يتعجب منه إذ له تعالى التصرف التام بإرسال من يشاء لمن يشاء. قال الزمخشري: الواو للعطف والمعطوف محذوف كأنه قيل: أكذبتم وعجبتم أن جاءكم. " انتهى ". وهذا كلام مخالف لكلام سيبويه والنحاة لأنهم يقولون ان الواو تعطف ما بعدها على ما قبلها من الكلام ولا حذف هناك وكان الأصل وأعجبتم لكنى أعتني بهمزة الاستفهام فقدمت على حرف العطف لأن الاستفهام له صدر الكلام.
{ ذكر } أي كتاب.
{ من ربكم على رجل } هو على حذف مضاف تقديره على لسان رجل منكم، إن جاءكم على إسقاط حرف الجر تقديره لأن جاءكم وهو تعليل لعجبتم.
{ لينذركم } به أي فجاءكم الذكر للإنذار بالمخوف والإنذار بالمخوف لأجل وجود التقوى منهم ووجود التقوى لرجاء الرحمة وحصولها، فعلل المجيء بجميع هذه العلل المترتبة لأن المرتب على السبب سبب.
وفي قوله: { وأغرقنا الذين كذبوا } إعلام بعلة الغرق وهو التكذيب.
و { بآياتنآ } يقتضي أن نوحا عليه السلام كانت له آيات ومعجزات تدل على إرساله والفلك يذكر ويفرد كقوله تعالى:
في الفلك المشحون
[يس: 41]. ويجمع كقوله تعالى:
وجرين بهم
[يونس: 22]، ويتعلق في الفلك بما تعلق به الظرف الواقع صلة أي والذين استقروا معه في الفلك. ويحتمل أن يتعلق بأنجيناه أي أنجيناهم في السفينة من الطوفان.
و { عمين } من عمى القلب، أي غير مستبصرين. ويدل على ثبوت هذا الوصف كونه جاء على وزن فعل ولو قصد الحدوث لجاء على فاعل. وقال معاذ النحوي: رجل عم في أمره لا يبصره، وأعمى في البصر. قال زهير الشاعر:
ولكنني عن علم ما في غد عمي
{ وإلى عاد } إلى متعلق بمحذوف تقديره وأرسلنا إلى عاد وعاد اسم الحي ولذلك صرفه. وبعضهم جعله اسما للقبيلة فمنعه الصرف. قال الشاعر:
لو شهد عاد في زمان عاد
لابتزها مبارك الجلاد
سميت القبيلة باسم أبيهم وهو عاد بن عوض بن أرم بن نوح وهود. وقال شيخنا الأستاذ الحافظ أبو الحسن الأبدي النحوي المعروف: أن هودا عربي. والذي يظهر من كلام سيبويه لما عده مع نوح ولوط وهما عجميان أنه عجمي عنده. " انتهى ". وهود هو غابر بن شالخ بن أرمخشد بن سام بن نوح ونزل أرض اليمن فهو أب لليمن كلها.
و { أخاهم } مفعول بأرسلنا المحذوفة وأخاهم ليس من عاد بل هو مجاز كما تقول: يا أخا العرب، للواحد منهم. وقيل: هو من عاد وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الجلود بن عاد بن عوض بن أرم بن سام بن نوح، فعلى هذا يكون من عاد.
{ ما لكم من إله غيره } تقدم الكلام على هذا.
{ أفلا تتقون } استعطاف وتحضيض على تحصيل التقوى مخافة أن تحل بهم واقعة قوم نوح.
{ قال الملأ الذين كفروا من قومه } أتى بوصف الملأ بالذين كفروا ولم يأت بهذا الوصف في قوم نوح لأن قوم هود كان في أشرافهم من كان آمن به منهم مرثد بن سعد بن عفير ولم يكن في اشراف قوم نوح مؤمن، فلذلك قالوا: واتبعك الأرذلون.
{ في سفاهة } أي في خفة حلم وسخافة عقل وسفاهة يقتضي أنه فيها قد احتوت عليه كالظرف المحتوي على الشىء. واتبعوا ذلك بقولهم:
{ وإنا لنظنك من الكاذبين } فدل ذلك على أنه أخبرهم بما يحل بهم من العذاب من أن لم يتقوا الله تعالى.
{ قال يقوم ليس بي سفاهة } تقدمت كيفية هذا النفي في قوله:
ليس بي ضللة
[الأعراف: 61]، وهناك جاء: وأنصح لكم، وهنا جاء: وأنا لكم ناصح أمين، لما كان أخرجوا بهم جملة إسمية جاء قوله كذلك، فقالوا هم: وإنا لنظنك من الكاذبين. قال هود: وأنا لكم ناصح أمين. وجاء بوصف الأمانة وهي الوصف العظيم الذي تحمله الإنسان ولا أمانة أعظم من أمانة الرسالة وإيصال أعبائها إلى المكلفين.
{ أو عجبتم } تقدم الكلام عليه.
{ واذكروا إذ جعلكم } إذ ظرف لما مضى وناصبه محذوف تقديره واذكروا انعامه عليكم وقت جعلكم خلفاء فإنعامه مفعول اذكروا . قال الزمخشري: إذ مفعول به وهو منصوب باذكروا أي اذكروا وقت جعلكم. وهذا ليس بجيد لأن إذ من الظروف التي لا تتصرف فلا تكون مبتدأة ولا فاعلة ولا مفعولة. ومعنى خلفاء: أي ملوكا في الأرض استخلفكم فيها.
{ من بعد قوم نوح } هذا يدل على قرب زمانهم من زمن نوح.
{ وزادكم في الخلق بصطة } ظاهر بعض التواريخ أن البسطة الامتداد والطول والجمال في الصور والأشكال. ويحتمل أن يكون المعنى وزادكم بسطة أي اقتدارا في المخلوقين وتسليطا عليهم واستيلاء.
{ فاذكروا ءالآء الله } الآلاء: النعم واحدها إلى نحو: معي وأمعاء. ذكرهم أولا نعما مخصوصة من جعلهم خلفاء وزيادة البسطة وذكرهم ثانيا نعمه مطلقا وناط بذكر نعمه رجاء فلاحهم.
{ قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده } الظاهر أنهم أنكروا أن يتركوا أصنامهم ويفردوا الله تعالى بالعبادة مع اعترافهم بالله تعالى حبا لما نشأوا عليه وتألفا لما وجدوا آباءهم عليه.
{ فأتنا بما تعدنآ } دليل على أنه كان يعدهم بعذاب الله إن داموا على الكفر. وقولهم ذلك يدل على تصميمهم على تكذيبه واحتقارهم لأمر النبوة واستعجال العقوبة إذ هي عندهم لا تقع أصلا.
{ قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب } قال ابن عباس: الرجس السخط أي حل بكم وتحتم عليكم.
{ أتجدلونني في أسمآء سميتموهآ أنتم وآبآؤكم } هذا إنكار منه لمخاصمتهم له فيما لا ينبغي فيه الخصام وهو ذكر ألفاظ ليس تحتها مدلول تستحق العبادة فصارت المنازعة باطلة بذلك. ومعنى سميتموها. أي أحدثتموها قريبا أنتم وأباؤكم، وهي صمود وصداء والهباء وقد ذكر ذلك مرثد بن سعد في شعره فقال:
عصمت عاد رسولهم فأضحوا
عطاشا ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود
يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد
فأبصرنا الهدى وجلى العماء
وإن إله هود هو إلهي
على الله التوكل والرجاء
{ فانتظروا إني معكم من المنتظرين } وهذا غاية في التهديد والوعيد أي فانتظروا عاقبة أمركم في عبادة غير الله تعالى وفي تكذيب رسوله عليه السلام وهذا غاية في الوثوق بما يحل بهم وأنه كائن لا محالة.
{ فأنجيناه والذين معه برحمة منا } يعني من آمن معه برحمة سابقة لهم من الله وفضل عليهم حيث جعلوا منهم. فكان ذلك سببا لنجاتهم مما أصاب قومه من العذاب.
{ وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا } كناية عن استئصالهم بالهلاك وبالعذاب. وتقدم الكلام في دابر في قوله:
فقطع دابر القوم الذين ظلموا
[الأنعام: 45]. وفي قوله: الذين كذبوا، تنبيه على علة قطع دابرهم. وفي قوله: بآياتنا، دليل على أنه كانت لهود عليه السلام معجزات ولكن لم تذكر لنا بتعينيها.
{ وما كانوا مؤمنين } جملة مؤكدة لقوله: كذبوا بآياتنا، ويحتمل أن يكون إخبارا من الله تعالى أنهم ممن علم الله تعالى أنهم لو بقوا لم يؤمنوا أي ما كانوا ممن يقبل إيمانا البتة.
[7.73-80]
{ وإلى ثمود أخاهم صالحا } إسم القبيلة ثمود، سميت باسم أبيهم الأكبر وهو ثمود أخو جديس وهما أبناء جاثر بن أرم بن سام بن نوح، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام وإلى وادي القرى، وصالح عليه السلام هو صالح بن سالف بن كاشح بن ارم بن ثمود بن جاثر بن ارم بن سام بن نوح.
{ قد جآءتكم بينة من ربكم } أي آية ظاهرة جليلة وشاهد على صحة نبوتي. فقوله: قد جاءتكم بينة من ربكم، كأنه جواب لقولهم: أئتنا ببينة تدل على صدقك وأنك مرسل إلينا. ومن ربكم متعلق بجاءتكم أو في موضع الصفة لبينة.
{ هذه ناقة الله لكم آية } لما أبهم في قوله: قد جاءتكم بينة من ربكم بين ما الآية فكأنه قيل: ما البينة! قال: هذه ناقة الله. وأضافها إلى الله تشريفا وتخصيصا نحو: بيت الله، وروح الله، ولكونه خلقها بلا واسطة ذكر وأنثى، ولأنه لا مالك لها غيره، ولأنها حجة على القوم. ولما أودع فيها من الآيات الآتي ذكرها في قصة قوم صالح ولكم بيان لمن هي له آية موجبة عليه الإيمان وهم ثمود لأنهم عاينوها وسائر الناس أخبروا عنها كأنه قال لكم خصوصا. وانتصب آية على الحال والعامل فيها على ما نختاره فعل محذوف تقديره انظروا إليها في حال كونه آية.
{ فذروها تأكل في أرض الله } لما أضاف الناقة إلى الله تعالى أضاف محل رعيها إليه تعالى إذ الأرض وما أنبت فيها ملكه تعالى.
{ ولا تمسوها بسوء } الآية نهاهم عن مسها بشىء من الأذى وهذا تنبيه بالأدنى على الأعلى، إذ كان قد نهاهم عن مسها بسوء إكراما لآية الله تعالى فنهيه عن نحرها وعقرها ومنعها من الماء والكلأ أولى وأحرى، والمس والأخذ هنا استعارة وهذا وعيد شديد لمن يمسها بسوء. والعذاب الأليم هو ما حل بهم إذ عقروها وما أعد لهم في الآخرة. وقوله تعالى: { فيأخذكم } جواب للنهي والناصب للفعل ان مضمرة بعد الفاء.
{ واذكروا إذ جعلكم خلفآء من بعد عاد } ذكر صالح قومه نعما خاصة وهي جعلهم خلفاء بعد الأمة التي سبقتهم.
{ وبوأكم في الأرض } أي أنزلكم بها وأسكنكم إياها. والمباءة: المنزل في الأرض وهو من باء أي رجع.
{ تتخذون } جملة حالية العامل فيها بوأكم ومعناه تعملون كقوله تعالى:
كمثل العنكبوت اتخذت بيتا
[العنكبوت: 41]. فتعدى اتخذ لمفعول واحد.
{ وتنحتون الجبال بيوتا } النحت النجر والنشر في الشىء الصلب كالحجر والخشب وغير ذلك. وقال الشاعر:
أما النهار ففي قيد وسلسلة
والليل في بطن منحوت من الساج
وانتصب بيوتا على أنه حال مقدرة لأنها وقت النحت لم تكن بيوتا بل صارت بيوتا بعد ذلك كقولك: خط لي هذا قباء.
قال ابن عباس: القصور لمصائفهم والبيوت في الجبال لمشتاهم.
{ ولا تعثوا في الأرض مفسدين } تقدم الكلام على هذه الجملة في البقرة في قصة استسقاء موسى لقومه.
{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه } قرأ ابن عامر وقال الملأ بواو العطف. والجمهور قال بغير واو. والذين استكبروا وصف للملأ. أما للتخصيص لأن من اشرافهم من آمن وهو جندع بن عمرو. واستكبروا: طلبوا الهيبة لأنفسهم وهو الكبر، فيكون استفعل للطلب وهو بابها أو يكون استفعل بمعنى فعل أي كبروا بكثرة المال والجاه فيكون مثل عجب واستعجب.
{ للذين استضعفوا } أي استضعفهم رؤساء الكفار واستذلوهم وهم العامة وهم اتباع الرسل.
و { لمن آمن } بدل من الذين استضعفوا.
والضمير في: { منهم } إن عاد على المستضعفين كان بدل بعض من كل ويكون الذين استضعفوا قسمين مؤمنين وكافرين، وإن عاد على قومه كان بدل كل من كل أعيد معه حرف الجر وهو اللام، وكان الاستضعاف مقصورا على المؤمنين، وكان الذين استضعفوا قسما واحدا. ومن آمن مفسر للمستضعفين من قومه، واللام في للذين للتبليغ، والجملة المقولة استفهام على جهة الاستهزاء والاستخفاف. وفي قولهم: من ربه، اختصاص بصالح. ولم يقولوا من ربنا ولا من ربكم.
{ قالوا إنا بمآ أرسل به مؤمنون } وجواب المستضعفين وعدولهم عن قولهم: هو مرسل إلى قولهم: انا بما أرسل به مؤمنون، في غاية الحسن إذ أمر رسالته معلوم واضح مسلم لا يدخله ريب لما أتى به من هذا المعجز الخارق العظيم فلا يحتاج إلى أن يسأل عن رسالته ولا أن يستفهم عن العلم بإرساله فأخبروا أنهم مؤمنون بما أرسل به لأنه لا يلزم بعد وضوح رسالته إلا التصديق بما جاء به وتضمن كلامهم العلم بأنه مرسل من الله تعالى. ومؤمنون خبر انا. وبما أرسل متعلق به. وبه متعلق بأرسل.
{ فعقروا الناقة } نسب العقر إلى الجميع وإن كان صادرا من واحد لما كان عقرها عن تمالؤ واتفاق وقصة عاد وثمود مشهورة عند العرب. قال الأفوه الأودي:
فينا معاشركم بينوا لقومهم
وإن بني قومهم ما أفسدوا عادوا
أضحوا كقيل بن عثر في عشيرته
إذا أهلكت بالذي سدى لها عادوا
أو بعده كقدار حين بايعه
على الغواية أقوام فقد بادوا
وقيل: ابن عثر هو رئيس عاد وقوم هود.
{ وعتوا عن أمر ربهم } أي استكبروا عن امتثال أمره. يقال: عتا يعتو عتوا.
{ ائتنا بما تعدنآ } أي من العذاب لأنه كان سبق منه ولا تمسوها بسوء فيأخذكم فاستعجلوه ما وعدهم به من ذلك إذ كانوا مكذبين له في الاخبار بذلك الوعيد وبغيره، ولذلك علقوه بما هم به كافرون، وهو كونه من المرسلين.
{ فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين } روي أن السقب هو ولد الناقة لما عقروها، رغا ثلاثا فقال صالح: لكل رغوة أجل يوم تمتعوا في داركم ثلاثة أيام.
فقالوا هازئين به: متى ذلك، وما آية ذلك؟ فقال: تصبحون غداة مؤنس مصفرة وجوهكم وغداة العروبة محمرتها ويوم سيار مسودتها ثم يصبحكم العذاب يوم أول وهو يوم الأحد.
{ فأخذتهم الرجفة } أي أخذتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة وصوت كل شىء له صوت في الأرض فقطعت قلوبهم وهلكوا. وقد ذكره علقمة السقب في شعره فقال:
رغا فوقهم سقب السماء فداحض
بشكته لم يستلب وسليب
وإنما نسبه للسماء لأنه آية من آيات الله تعالى.
{ جاثمين } الجثوم اللصوق بالأرض على الصدر مع قبض الساقين كما يرقد الأرنب والطير.
{ فتولى عنهم } الآية ظاهر العطف بالفاء يدل على أن هذا التولي كان بعد هلاكهم ومشاهد ما جرى عليهم، فيكون الخطاب على سبيل التفجع عليهم والتحسر لكونهم لم يؤمنوا فهلكوا والاغتمام لهم وليسمع ذلك من كان معه من المسلمين فيزداد إيمانا وانتفاء عن معصية الله تعالى واقتفاء لما جاء به نبيه عليه السلام عنه تعالى. وبكون معنى قوله: ولكن لا تحبون الناصحين، ولكن كنتم لا تحبون الناصحين، فيكون حكاية حال ماضية. وقد خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل قليب بدر.
{ ولوطا إذ قال لقومه } الآية هو لوط بن هاران ابن أخي إبراهيم عليه السلام وناحور وهم بنو تادح بن ناحور. وانتصب لوطا بإضمار وأرسلنا عطفا على الأنبياء قبله. وإذ معمولة لأرسلنا. وجوز الزمخشري وابن عطية نصبه بواذكر مضمرة. زاد الزمخشري أن إذ بدل من لوط أي واذكر وقت إذ قال لقومه وتقدم الكلام على كون إذ مفعولا بها صريحا لأذكر وان ذلك تصرف فيها.
{ أتأتون الفاحشة } الاستفهام هنا على جهة الإنكار والتوبيخ والتشنيع والتوقيف على هنا الفعل القبيح والفاحشة هنا إتيان ذكر ان الآدميين في الإدبار، ولما كان هذا الفعل معهودا قبحه ومركوزا في العقول فحشه أتى معرفا بالألف واللام. أو تكون أل فيه للجنس على سبيل المبالغة كأنه لشدة قبحه جعل جميع الفواحش. ولبعد العرب عن ذلك البعد التام وذلك بخلاف الزنا فإنه قال فيه: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة، فأتى به منكرا أي فاحشة من الفواحش. وكان كثير من العرب يفعله ولا يستنكرون فعله، ولا ذكره في أشعارهم، والجملة المنفية تدل على أنهم أول من فعل هذه الفعلة القبيحة وانهم مبتكروها. والمبالغة في من أحد حيث زيدت من لتأكيد نفي الجنس وفي الإتيان بعموم العالمين جميعا. قال عمرو بن دينار: ما رؤي ذكر على ذكر قبل قوم لوط.
و { ما سبقكم } جملة حالية من الفاعل أو من الفاحشة لأن في سبقكم بها ضميرهم وضميرها. وقال الزمخشري: هي جملة مستأنفة أنكر عليهم أولا بقوله: أتأتون الفاحشة، ثم وبخهم عليها فقال: أنتم أول من عملها، أو على أنه جواب لسؤال مقدر كأنهم قالوا: لم لا نأتيها؟ فقال: ما سبقكم بها أحد فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به.
وقال الزمخشري: والباء للتعدية من قولك سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله. ومنه قوله صلى الله عليه وسلم:
" سبقك بها عكاشة "
" انتهى ". ومعنى التعدية هنا قلق جدا لأن الباء المعدية في الفعل المتعدي إلى واحد هي تجعل المفعول الأول يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة. وبيان ذلك أنك إذا قلت: صككت الحجر بالحجر، فمعناه أصككت الحجر الحجر، أي جعلت الحجر يصك الحجر. وكذلك: دفعت زيدا بعمرو وعن خالد، معناه أدفعت زيدا عمرا عن خالد، أي جعلت زيدا يدفع عمرا عن خالد. فللمفعول الأول تأثير في الثاني ولا يتأتى هذا المعنى هنا إذ لا يصح أن تقدر أسبقت زيدا الكرة، أي جعلت زيدا يسبق الكرة إلا بمجاز متكلف، وهو أن تجعل ضربك الكرة أول جعل ضربه وقد سبقها أي تقدمها في الزمان فلم يجتمعا.
[7.81-87]
{ إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النسآء } هذا بيان لقوله: أتأتون الفاحشة، وأتى هنا من قولهم: أتى المرأة، إذا غشيها، وهو استفهام على جهة الإنكار والتوبيخ. وشهوة مصدر في موضع الحال أي مشتهين وإن كانت حالا من الضمير في تأتون أو مشتهين ان كان حالا من الرجال. ويجوز أن ينتصب مفعولا من أجله أي للشهوة. وبل هنا للخروج من قصة إلى قصة تنبىء بأنهم متجاوزوا الحد في الاعتداء، وجاء هنا مسرفون باسم الفاعل ليدل على الثبوت ولموافقتها ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأسماء. وجاء في النمل تجهلون بالمضارع لتجدد الجهل فيهم ولموافقة ما سبق من رؤوس الآي في ختمها بالأفعال.
{ وما كان جواب قومه } الآية الضمير المنصوب في أخرجوهم عائد على لوط ومن آمن به ولما تأخر نزول هذه السورة عن سورة النمل أضمر ما فسره الظاهر في النمل من قوله:
أخرجوا آل لوط من قريتكم
[النمل: 56]، الآية، ويتطهرون قال ابن عباس ومجاهد: يتقذرون عن إتيان أدبار الرجال والنساء.
{ فأنجيناه وأهله } أي من العذاب الذي جعل بقومه وأهله وهم المؤمنون معه.
{ إلا امرأته } فلم تنج واسمها واهلة كانت منافقة تسر الكفر موالية لأهل سدوم.
ومعنى: { من الغابرين } من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا. والجملة من قوله: كانت، تأكيد لما تضمنه الاستثناء من عدم نجاة امرأته.
{ وأمطرنا عليهم مطرا } ضمن أمطرنا معنى أرسلنا فلذلك عداه بعلى كقوله:
فأمطر علينا حجارة من السمآء
[الأنفال: 32]. والمطر هنا هي الحجارة وقد ذكرت في غير آية.
{ فانظر كيف كان عاقبة المجرمين } هذا خطاب للسامع قصتهم كيف كان مآل من أجرم، وفيه اتعاظ وازدجار أن تسلك هذه الأمة مسلكهم. والمجرمين عام في قوم نوح وهود وصالح ولوط وغيرهم. ومن نظر التفكر أو من نظر البصر فيمن بقيت له آثار منازل ومساكن كثمود وقوم لوط كما قال تعالى:
وعادا وثمودا
[الفرقان: 38]، وقد تبين لكم من مساكنهم وكيف خبر كان وعاقبة اسم كان، والجملة في موضع نصب لأن أنظر معلقة عنها.
{ وإلى مدين أخاهم شعيبا } قال الفراء: مدين، اسم بلد وقطر. والجمهور على أن مدين اسم أعجمي، فإن كان عربيا احتمل أن يكون فيعلا من مدن بالمكان أقام به وهو بناء نادر أو مفعلا من دان فتصحيحه شاذ وكان قياسه مدان. وشعيب اسم عربي هو تصغير شعب أو شعب واختلف في نسب شعيب اختلافا كثيرا ذكر ذلك في البحر المحيط. وشعيب قيل : هو ابن بنت لوط، وقيل: زوج بنته.
{ قد جآءتكم بينة من ربكم } هذا دليل على أنه قد جاء بالمعجزة إذ كل نبي لا بد له من معجزة تدل على صدقه ولكنه لم يعين هنا ما المعجزة ولا من أي نوع هي.
{ فأوفوا الكيل والميزان } أمرهم أولا بشىء خاص وهو إيفاء الكيل والميزان، ثم نهاهم عن شىء عام وهو قوله:
{ ولا تبخسوا الناس أشياءهم } والكيل مصدر كني به عن الآلة التي يكال بها.
{ ولا تفسدوا في الأرض } تقدم تفسير هذه الجملة قريبا.
{ ذلكم } الإشارة بذلكم إلى إيفاء الكيل والميزان وترك البخس والإفساد، وخير أفعل التفضيل، أو خير من الخيور.
{ ولا تقعدوا بكل صراط توعدون } ظاهرة العموم قال الزمخشري: ولا تقعدوا بكل صراط ولا تقتدوا بالشيطان. في قوله: لأقعدن لهم صراط المستقيم فتقعدوا بكل صراط أي بكل منهاج من مناهج الدين. والدليل على أن المراد بالصراط سبيل الحق قوله:
{ وتصدون عن سبيل الله } فإن قلت: صراط الحق واحد وإن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق به عن سبيله. فكيف قيل: بكل صراط؟ قلت: صراط الحق واحد ولكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام كثيرة مختلفة فكانوا إذا رأوا واحد يشرع في شىء منها أوعدوه وصدوه عنها. انتهى جمل القعود والصراط على المجاز وقد تقدم أن الظاهر أنه حقيقة وأنهم كانوا يقعدون على الطرقات المفضية إلى شعيب فيتوعدون من أراد المجيء إليه ويصدونه ويقولون انه كذاب فلا تذهب إليه على نحو ما كانت قريش تفعله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا تظهر الدلالة على أن الصراط سبيل الحق من قوله: وتصدون عن سبيل الله، كما ذكر بل الظاهر التغاير لعموم كل صراط وخصوص سبيل الله، فيكون بكل صراط حقيقة في الطرق وسبيل الله مجاز عن دين الله. والباء في بكل صراط ظرفية نحو: زيد بالبصرة أي في كل صراط وفي البصرة.
{ توعدون } جملة حالية أي من جاء للإيمان بشعيب.
{ وتصدون } معطوف على توعدون. قال الزمخشري: فإن قلت: إلى م يرجع الضمير في من آمن به؟ قلت: إلى كل صراط تقديره وتوعدون من آمن به وتصدون عنه، فوضع الظاهر الذي هو سبيل الله موضع الضمير زيادة في تقبيح أمرهم دلالة على عظم ما يصدون عنه. هذا تعسف في الإعراب لا يليق أن يحمل عليه القرآن لما في التقديم والتأخير ووضع الظاهر موضع المضمر من غير حاجة إلى ذلك، وعود الضمير على ابعد مذكور مع إمكان عوده على أقرب مذكور الإمكان. السائغ الحسن الراجح. وجعل من آمن منصوبا بتوعدون فيصير من أعمال الأول وهو قليل. وقد قال النحاة: انه لم يرد في القران لقلته. ولو كان من أعمال الأول للزم ذكر الضمير في الفعل الثاني وكان يكون التركيب وتصدونه أو تصدونهم إذ هذا الضمير لا يجوز حذفه على قول الأكثرين إلا ضرورة: وعلى قول بعض النحاة: يحذف في قليل من الكلام.
ويدل على أن من آمن منصوب بتصدون الآية الأخرى وهي: قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن فنصبه بتوعدون بعيد هذا مع التكلفات المضافة إلى ذلك فكان جديرا بالمنع لما في ذلك من التعقيد البعيد عن الفصاحة. قال ابن عطية: يجوز أن يعود على شعيب في قوله من رأى القعود على الطرف تفرد عن شعيب. " انتهى ". وهذا بعيد لأن القائل ولا تقعدوا هو شعيب فكان يكون التركيب من آمن بي ولا يسوغ هنا أن يكون التفاتا، لو قلت: يا هند أنا أقول لا تهيني من أكرمه، تريد أكرمني لم يصح، وتبغونها الضمير عائد على سبيل الله والسبيل تذكر وتؤنث وهي جملة حالية أي باغيها والتقدير تبغون لها عوجا.
{ واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم } روي أن مدين بن إبراهيم تزوج بنت لوط فولدت فرمى الله تعالى في نسلها بالبركة والنماء فكثروا وفشوا.
{ وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين } هذا تهديد لهم وتذكير بعاقبة من أفسد قبلهم وتمثيل لهم بمن حل به العذاب من قوم نوح وهود وصالح ولوط وكانوا قريبي عهد بما أصاب المؤتفكة وإعراب هذه الجملة كإعراب الجمل الواقعة أثر قصة قوم لوط، قال الزمخشري: إذ مفعول به غير ظرف أي واذكروا على جهة الشكر وقت كونكم قليلا عددكم فكثركم الله ووفى عددكم. " انتهى ". وذكر غيره أنه منصوب على الظرف فلا يمكن أن يعمل فيه واذكروا لاستقبال واذكروا وكون إذ ظرفا لما مضى والقلة والتكثير هنا بالنسبة إلى الأشخاص أو إلى الفقر والغنى، أو إلى قصر الأعمار وطولها، أقوال ثلاثة أظهرها الأول. وقال الزمخشري: إذ كنتم أقلة أذلة فأعزكم بكثرة العدد والعدد. " انتهى ". ولا ضرورة تدعو إلى حذق صفعة وهي أذلة، ولا إلى تحميل قوله: فكثركم معنى بالعدد. ألا ترى أن القلة لا تستلزم الذلة ولا الكثرة تستلزم العزة. قال الشاعر:
تعيرنا انا قليل عديدنا
فقلت لها إن الكرام قليل
وما ضرنا أنا قليل وجارنا
عزيز وجار الأكثرين ذليل
وقيل: المراد مجموع الأقوال الأربعة كثر عددهم وارزاقهم وطول أعمارهم وأعزهم بعد أن كانوا على مقابلاتها.
{ وإن كان طآئفة منكم آمنوا } هذا الكلام من أحسن ما تلطف به في المجاورة إذ أبرز المتحقق في صورة المشكوك فيه وذلك أنه قد آمن به طائفة بدليل قول المستكبرين عن الإيمان: { لنخرجنك يشعيب والذين آمنوا معك } ، وهو أيضا من بارع التقسيم إذ لا يخلوا قومه من القسمين. والذي أرسل به هنا ما أمرهم به من افراد الله تعالى بالعبادة وإيفاء الكيل والميزان، ونهاهم عنه من البخس والإفساد والقعود المذكور. ومتعلق لم يؤمنوا محذوف دل عليه ما قبله وتقديره لم يؤمنوا به. والخطاب بقوله: منكم، لقومه وينبغي أن يكون قوله: فاصبروا، خطابا لفريقي قومه من آمن ومن لم يؤمن.
و { بيننا } أي بين الجميع فيكون ذلك وعد للمؤمنين بالنصر الذي هو نتيجة الصبر فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى آتاهم نصرنا، ووعيدا للكفار بالعقوبة والخسار.
[7.88-93]
{ قال الملأ الذين استكبروا من قومه } الآية، لنخرجنك جواب قسم محذوف والقسم يكون على فعل المقسم كقوله: لتخرجنك وعلى فعل غيره، كقوله: أو لتعودن، وهذا يدل على صعوبة مفارقة الوطن إذ قرنوا ذلك بالعود إلى الكفر وفي الإخراج والعود طباق معنوي، والعود هنا بمعنى الصيرورة.
{ قال أولو كنا كارهين } أي أيقع منكم أحد هذين الأمرين على كل حال حتى في حال كراهيتنا لذلك. والاستفهام للتوقيف على شنعة المعصية بما أقسموا عليه من الإخراج عن مواطنهم ظلما، والإقرار بالعود في ملتهم. قال الزمخشري: الهمزة للاستفهام، والواو واو الحال تقديره أتعيدوننا في حال كراهيتنا وليست واو الحال التي يعبر عنها النحويون بواو الحال بل هي واو العطف عطفت على حال محذوفة كقوله عليه السلام:
" ردوا السائل ولو بظلف محرق "
، ليس المعنى ردوه في حال الصدقة عليه بظلف محرق بل المعنى ردوه مصحوبا بالصدقة ولو مصحوبا بظلف محرق. وتقدم لنا إشباع القول في هذا المعنى.
{ قد افترينا على الله كذبا } الآية هذا إخبار مقيد من حيث المعنى بالشرط، وجواب الشرط محذوف من حيث الصناعة وتقديره ان عدنا في ملتكم فقد افترينا. وليس قوله: قد افترينا على الله كذبا، هو جواب الشرط الأعلى مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط على الشرط فيمكن أن يخرج هذا عليه ونظير هذا التركيب الفصيح قول الاشتر النخعي واسمه الحرث:
بقيت وفدى وانحرفت عن العلا
ولقيت أضيافي بوجه عبوس
إن لم أشن على ابن هند غارة
لم تخل يوما من ذهاب نفوس
{ وما يكون لنآ أن نعود فيهآ } أي ما ينبغي ولا يتهيأ لنا أن نعود في ملتكم.
{ إلا أن يشآء الله ربنا } وهذا الاستثناء على سبيل عذق الأمور جميعها بمشيئة الله تعالى وإرادته. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبد الله به المؤمنين مما تفعله الكفرة من القربات فلما قال لهم: إنا لا نعود في ملتكم، ثم خشي أن يتعبده الله بشىء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك، ويقول: هذه عودة إلى ملتنا، استثنى مشيئة الله تعالى فيما يمكن أن يتعبد به. " انتهى ". وهذا الاحتمال لا يصح لأن قوله: بعد إذ نجانا الله منها إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البر. وقيل: هذا الاستثناء إنما هو تسليم وتأدب. قال ابن عطية: ويقلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ولو كان الكلام إن شاء قوي هذا التأويل. " انتهى ". وليس يقوى هذا التأويل بل لا فرق بين إلا إن يشاء وبين إلا أن يشاء لأن ان تخلص الماضي للاستقبال كما تخلص ان المضارع للاستقبال فكلا الفعلين مستقبل.
{ وسع ربنا كل شيء علما } الآية تقدم تفسير نظيرها في الانعام في قصة إبراهيم عليه السلام.
{ على الله توكلنا } في دفع ما توعدتمونا به وفي حمايتنا من الضلال وفي ذلك استسلام لله تعالى وتمسك بلطفه.
{ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } أي احكم والفاتح والفتاح القاضي بلغة حمير. وقيل: بلغة مراد. وقال بعضهم:
ألا أبلغ بني عصم رسولا
فإني عن فتاحتكم غني
وقال ابن عباس: ما كنت أعرف ما معنى هذه اللفظة حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها: تعال أفاتحك، أي أحاكمك. وقال الفراء: أهل عمان يسمون القاضي الفاتح.
{ وقال الملأ الذين كفروا من قومه } أي قال بعضهم لبعض أي كبراؤهم لاتباعهم تثبيطا عن الإيمان.
{ لئن اتبعتم شعيبا } فيما أمركم به ونهاكم عنه.
{ إنكم إذا لخاسرون } أي مغبونون. قال الزمخشري: فإن قلت: ما جواب القسم الذي وطأته اللام في لئن اتبعتم وجواب الشرط؟ قلت: قوله إنكم إذا لخاسرون ساد مسد الجوابين. " انتهى ". والذي تقوله النحويون إن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه ولذلك وجب مضي فعل الشرط. فإن عني الزمخشري بقوله: ساد مسد الجوابين، انه اجتزىء به عن ذكر جواب الشرط فهو قريب، وإن عنى به أنه من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم، لأن الجملة يمتنع أن تكون لا موضع لها من الإعراب وأن يكون لها موضع من الإعراب. وإذا هنا معناها التوكيد وهي الحرف الذي هو جواب ويكون معه الجزاء وقد لا يكون.
{ فأخذتهم الرجفة } تقدم تفسير هذه الجملة. قال قتادة: أرسل شعيب إلى أصحاب الايكة فأهلكوا بالظلة، وإلى أصحاب مدين فصاح بهم جبريل عليه السلام صيحة فهلكوا جميعا.
{ الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها } أي كان لم يقيموا ناعمي البال رخيي العيش في دارهم وفيها قوة الاخبار عن هلاكهم وحلول المكروه بهم والتنبيه على الاعتبار بهم كقوله تعالى:
فجعلناها حصيدا كأن لم تغن بالأمس
[يونس: 24]. وفي كأن ضمير الشأن محذوف تقديره قبل الحذف كأنه والجملة بعدها في موضع الخبر منفيا بلم وهو الكثير وقد جاء النفي بلما في قول حماد الكلبي: وكان لما يكون قط لم. والنفي بلما قليل.
{ كانوا هم الخاسرين } هم فصلا بين الإسم والخبر ويجوز أن يكون بدلا من الاسم في كانوا، ولما كان قولهم إنكم إذا لخاسرون قوبلوا بقوله: هم الخاسرون، وأفاد الفصل الاختصاص.
{ فتولى عنهم } تقدم تفسير نظيره في قصة صالح.
{ فكيف ءاسى على قوم كفرين } أي فيكف أحزن على من لا يستحق أن يحزن عليه ونبه على العلة الموجبة لعدم الحزن عليهم وهي الكفر إذ هي أعظم ما يعادى به المؤمن.
[7.94-99]
{ ومآ أرسلنا في قرية من نبي } الآية لما ذكر تعالى ما حل بالأمم السالفة من بأسه وسطوته عليهم آخر أمرهم حين لا تجدي فيهم موعظة ذكر تعالى أن تلك عادته في اتباع الأنبياء إذا أصروا على تكذيبهم. وجاء بعد إلا فعل ماضي وهو أخذنا، ولا يليها فعل ماض إلا أن تقدم فعل أو أصحب بقد فمثال ما تقدمه فعل هذه الآية ومثال ما أصحب قد، قولك: ما نريد إلا قد قام. قال الشاعر:
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة
لنفسي إلا قد قضيت قضاءها
والجملة من قوله: أخذنا، حالية أي الآخذين أهلها، وهو استثناء مفرغ من الأحوال. وتقدم تفسير نظير قوله: إلا أخذنا إلى آخرها.
{ ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة } أي مكان الحالة السيئة من البأساء والضراء الحالة الحسنة من السراء والنعمة. ومكان هو محل الباء أي بمكان السيئة. وفي لفظ مكان اشعار يتمكن البأساء منهم كأنه صار عندهم للشدة مكان.
{ حتى عفوا } أي كثروا وتناسلوا.
{ وقالوا قد مس آباءنا الضرآء والسرآء } أبطرتهم النعمة وأسروا فقالوا هذه عادة الدهر ضراء وسراء. وقد أصاب آباءنا مثل ذلك وليس ذلك بابتلاء وقصد ، بل ذلك بالاتفاق لا على ما تخبر الأنبياء جعلوا أسلافهم وما أصابهم مثلا لهم ولما يصيبهم فلا ينبغي أن تنكر هذه العادة من أفعال الدهر.
{ فأخذناهم بغتة } تقدم الكلام على مثل هذا لما فسدوا على التقديرين أخذوا هذا الأخذ.
{ ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا } الآية، أي لو كانوا ممن سبق في علم الله تعالى أن يتلبسوا بالإيمان بما جاءت به الأنبياء وبالطاعات التي هي ثمرة الإيمان لتيسر لهم من بركات السماء ولكن كانوا ممن سبق في علمه أنهم يكذبون الأنبياء فيؤخذون باجترامهم وكل من الإيمان والتكذيب والثواب والعقاب سيق به القدر. وأضيف الإيمان والتكذيب إلى العبد كسبا، والموجد لهما هو الله تعالى، لا يسأل عما يفعل. والظاهر أن قوله: بركات من السماء والأرض، لا يراد بها معين، ولذلك جاءت نكرة. وقيل: بركات السماء: المطر، وبركات الأرض: الثمار.
{ أفأمن أهل القرى } الهمزة دخلت على أمن للاستفهام على جهة التوقيف والتوبيخ والإنكار والوعيد للكافرين المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك. والفاء لعطف هذه الجملة على ما قبلها. قال الزمخشري: فإن قلت: ما المعطوف عليه ولم عطفت الأولى بالفاء والثانية بالواو؟ قلت: المعطوف عليه قوله: فأخذناهم بغتة. وقوله: ولو أن أهل القرى، إلى قوله: يكسبون. وقع اعتراضا بين المعطوف والمعطوف عليه وإنما عطفت بالفاء لأن المعنى فعلوا وصنعوا فأخذناهم بغتة أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وأمنوا أن يأتيهم بأسنا ضحى.
" انتهى ". وهذا الذي ذكره الزمخشري من أن حرف العطف الذي بعد همزة الاستفهام هو عاطف ما بعدها على ما قبل الهمزة من الجمل رجوع عن مذهبه إلى مذهب الجماعة في ذلك. وتخريج لهذه الآية على خلاف ما قرر هو من مذهبه في غير آية أنه يقدر محذوف بين الهمزة وحرف العطف يصح بتقديره عطف ما بعد الحرف عليه، وان الهمزة وحرف العطف واقعان في موضعهما من غير اعتبار تقديم حرف العطف على الهمزة في التقدير وأنه قدم الاستفهام اعتناء لأن له صدر الكلام.
{ أو أمن أهل القرى } الآية أي في حال الغفلة والإعراض والاشتغال بما لا يجدي كأنهم يلعبون وضحى منصوب على الظرف أي ضحوة ويقيد كل ظرف بما يناسبه من الحال فيقيد البيات بالنوم وتقيدت الضحى باللعب وجاء نائمون باسم الفاعل لأنها حالة ثبوت واستقرار للبائتين وجاء يلعبون بالمضارع لأنهم مشتغلون بأفعال متجددة شيئا فشيئا في ذلك الوقت.
{ أفأمنوا مكر الله } جاء العطف بالفاء وإسناد الفعل إلى الضمير لأن الجملة المعطوفة تكرير لقوله: أفأمن أهل القرى، أو أمن تأكيد لمضمون ذلك فناسب إعادة الجملة مصحوبة بالفاء ومكر الله مصدر أضيف إلى الفاعل وهو استعارة لأخذه العبد من حيث لا يشعر وكرر المكر مضافا إلى الله تعالى تحقيقا لوقوع جزاء المكر بهم.
[7.100-102]
{ أولم يهد للذين يرثون الأرض } الآية، قال ابن عباس: يهد يبين. والفاعل بيهد يحتمل وجوها: احدها، أن يعود على الله تعالى ويؤيده قراءة من قرأ نهد بالنون. والثاني، أن يكون ضميرا عائدا على ما يفهم من سياق الكلام السابق، أي أو لم يهد ما جرى للأمم السالفة أهل القرى وغيرهم. وعلى هذين الوجهين يكون ان لو نشاء وما بعده في موضع المفعول بنهد أي أو لم يبين الله تعالى أو ما سبق من قصص القرى ومآل أمرهم للوارثين أصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك، أي علمهم بإصابتنا أو قدرتنا على إصابتنا إياهم، والمعنى أنكم مذنبون كهم وقد علمتم ما حل بهم أفما تحذرون أن يحل بكم ما حل بهم فذلك ليس بممتنع علينا لو شئنا. والوجه الثالث، أن يكون الفاعل بنهد قوله: ان لو نشاء، فينسبك المصدر من جواب لو والتقدير أو لم يبين ويوضح للوارثين مآلهم وعاقبتهم إصابتنا إياهم بذنوبهم لو شئنا ذلك أي علمهم بإصابتنا وقدرتنا على إصابتنا إياهم على التقديرين إذا كانت إن مفعولة، وأن هنا هي المخففة من الثقيلة لأن الهداية فيها معنى العلم واسمها ضمير الشأن محذوف. والخبر الجملة المصدرة بلو ونشاء في معنى شئنا لأن لو التي هي حرف لما كان سيقع لوقوع غيره إذا جاء بعدها المضارع صرفت معناه إلى المعنى ومفعول نشاء محذوف دل عليه جواب لو والجواب أصبناهم، ولم يأت باللام، وإن كان الفعل مثبتا إذ حذفها جائز فصيح كقوله تعالى:
لو نشآء جعلناه أجاجا
[الواقعة: 70] والأكثر الإتيان باللام كقوله تعالى:
لو نشآء لجعلناه حطاما
[الواقعة: 65]،
ولو شئنا لرفعناه بها
[الأعراف: 176]، والذين يرثون الأرض من بعد أهلها، أي يخلفون فيها من بعد هلاك أهلها. وظاهره التسميع لمن كان في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من مشركي قريش وغيرهم.
{ ونطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون } الظاهر أنها جملة مستأنفة أي ونحن نطبع على قلوبهم، والمعنى أن من أوضح الله تعالى له سبيل الهدى وذكر له أمثالا ممن أهلكه الله تعالى بذنوبهم وهو مع ذلك دائم على غيه لا يرعوي يطبع الله على قلبه فينبو سمعه عن سماع الحق. وأجاز الزمخشري في عطف ونطبع وجهين: أحدهما ضعيف، والآخر خطأ. قال الزمخشري: فإن قلت: بم يتعلق قوله ونطبع على قلوبهم؟ قلت: فيه أوجه أن يكون معطوفا على ما دل عليه معنى أو لم يهد لهم، كأنه قيل: يغفلون عن الهداية ونطبع على قلوبهم، أو على يرثون الأرض. " انتهى ". فقوله: انه معطوف على مقدر وهو يغفلون عن الهداية ضعيف لأنه إضمار لا يحتاج إليه إذ قد يصح أن يكون على الاستئناف من باب العطف في الجمل فهو معطوف على مجموع الجملة المصدرة بأداة الاستفهام، وقد قال الزمخشري وغيره.
وقوله انه معطوف على يرثون خطأ، لأنه إذا كان معطوفا على يرثون كان صلة للذين، لأن المعطوف على الصلة صلة، ويكون قد فصل بين أبعاض الصلة بأجنبي من الصلة وهو قوله: أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم، سواء أقدرنا ان لو نشاء في موضع الفاعل ليهدأ وفي موضع المفعول فهو معمول ليهد لا تعلق له بشىء من صلة الذين وهو لا يجوز.
{ تلك القرى نقص عليك من أنبآئها } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والقرى في بلاد قوم نوح وهود وصالح وشعيب بلا خلاف بين المفسرين. وجاءت الإشارة بتلك إشارة إلى بعد هلاكها وتقادمه وحصل الربط بين هذه وبين قوله:
ولو أن أهل القرى
[الأعراف: 96]، ونقص يحتمل بقية على حاله من الاستقبال والمعنى قد قصصنا عليك من أنبائها ونحن نقص أيضا منها مفرقا في السور. ويجوز أن يكون عبر بالمضارع عن الماضي، أي تلك القرى قصصنا والأنباء هنا أخبارهم مع أنبيائهم ومآل عصيانهم. وتلك مبتدأ، والقرى خبر، ونقص جملة حالية نحو قوله تعالى:
فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا
[النمل: 52]. وفي الإخبار بالقرى معنى التعظيم لها ولمهلكها، كما قيل في قوله: ذلك الكتاب. وفي قوله عليه السلام: أولئك الملأ من قريش. ولما كان الخبر مقيدا بالحال أفاد كالتقييد بالصفة. ومعنى من أنباء من للتبعيض فدل على أن لها أنباء آخر لم نقصها عليه وإنما قص عليه ما فيه عظة وازدجار واذكار بما جرى على من خالف الرسل ليتعظ بذلك السامع من هذه الأمة.
{ فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل } والذي يظهر أن الضمير في كانوا وفي ليؤمنوا هو عائد على أهل القرى، وأن الباء في بما ليست سببية فالمعنى أنهم انتفت عنهم قابلية الإيمان وقت مجيء الرسل بالمعجزات بما كذبوا به من قبل مجيء الرسل بالمعجزات بل حالهم واحد قبل ظهور المعجزات وبعد ظهورها لم تجد عنهم شيئا وفي الإتيان بلام الجحود في ليؤمنوا مبالغة في نفي القابلية والوقوع وهو أبلغ في تسليط النفي على الفعل بغير لام وما في بما كذبوا موصولة. والعائد منصوب محذوف أي بما كذبوه وجوز أن تكون مصدرية.
{ وما وجدنا لأكثرهم من عهد } أي لأكثر الناس أو أهل القرى والأمم الماضية. ومن في من عهد تدل على استغراق الجنس.
{ وإن وجدنآ أكثرهم لفاسقين } إن هنا هي المخففة من الثقيلة. ووجد بمعنى علم. ومفعول وجدنا الأولى لأكثرهم، ومفعول الثانية لفاسقين، واللام للفرق بين أن المخففة من الثقيلة، وأن النافية. وتقدم الكلام على ذلك في قوله:
وإن كانت لكبيرة
[البقرة: 143]. ودعوى بعض الكوفيين أن إن في نحو هذا التركيب هي النافية، واللام بمعنى إلا. وقال الزمخشري: وإن الشأن والحديث وجدنا. انتهى. ولا يحتاج إلى هذا التقدير وكأن الزمخشري يزعم أن إن إذا خففت كان محذوفا منها الاسم وهو الشأن والحديث إبقاء لها على الاختصاص بالدخول على الأسماء. وقد تقدم لنا تقدير نظير ذلك ورددنا عليه.
[7.103-108]
{ ثم بعثنا من بعدهم موسى } الآية لما قص الله تعالى على نبيه أخبار الأمم وما آل إليه أمر قومهم وكان هؤلاء لم يبق منهم أحد أتبع بقصص موسى وفرعون وبني إسرائيل إذ كانت معجزاته من أعظم المعجزات وأمته من أكثر الأمم تعنتا واقتراحا وكان قد بقي منهم عالم وهم اليهود فقص تعالى قصصهم لنعتبر وننزجر أن نشبه بهم. ومناسبة هذه الآية لما قبلها أن بين موسى وشعيب عليهما السلام مصاهرة كما حكى الله تعالى في كتابه ونسبا لكونهما من نسل إبراهيم عليه السلام ولما استفتح قصة نوح بأرسلنا بنون العظمة أتبع ذلك بقصة موسى فقال: ثم بعثنا، والضمير في من بعدهم عائد على الرسل. وفي قوله:
ولقد جآءتهم رسلهم بالبينت
[الأعراف: 101]، وتعدية فظلموا بالباء على سبيل التضمين بمعنى كفروا.
{ وقال موسى يفرعون إني رسول من رب العالمين } هذه محاورة من موسى لفرعون وخطاب له بأحسن ما يدعي به وأحبها إليه إذ كان من ملك مصر يقال له: فرعون، كنمرود في يونان، وقيصر في الروم، وكسرى في فارس، والنجاشي في الحبشة، وعلى هذا لا يكون فرعون وأمثاله علما شخصيا بل يكون علم جنس كأسامة وثعالة ولما كان فرعون قد ادعى الربوبية فاتحه موسى عليه السلام بقوله: إني رسول من رب العالمين، لينبهه على الوصف الذي ادعاه وأنه فيه مبطل لا محق.
ولما كان قوله:
{ حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق } دعوى أردفها بما يدل على صحتها وهو قوله: قد جئتكم ببينة. ولما قرر رسالة فرع عليها تبليغ الحكم وهو قوله: فأرسل، ولم ينازعه فرعون في هذه السورة في شىء مما ذكره موسى عليه السلام إلا أنه طلب المعجز، ودل ذلك على موافقته لموسى وأن الرسالة ممكنة لإمكان المعجزة إذ لم يدفع إمكانها، بل قال: إن كنت جئت بآية. ومعنى حقيق جدير، وخليف وارتفاعه على أن صفة لرسول أو خبر بعد خبر. وان لا أقول الأحسن فيه أن يكون فاعلا بحقيق كأنه قيل: يحق علي كذا ويجب ويجوز أن يكون أن لا أقول كأنه مبتدأ وحقيق خبره. وقال الزمخشري في القراءة المشهورة وهي قوله: علي أن لا أقول أشكال ولا يخلو من وجوه أحدها أن يكون مما يقلب من الكلام لا من الإلباس كقول الشاعر:
وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر
ومعناه وتشقى الضياطرة بالرماح.
انتهى هذا الوجه وأصحابنا يخصون القلب بالشعر ولا يجيزونه في فصيح الكلام فينبغي أن ينزه القرآن عنه وعلى هذا يصير معنى هذه القراءة معنى قراءة نافع. قال الزمخشري: والثاني ان ما لزمك فقد لزمته فلما كان قول الحق حقيقا عليه كان هو حقيقا على قول الحق أي لازما له.
قال الزمخشري: والثالث أن يضمن حقيق معنى حريص كما ضمن هيجني معنى ذكرني في بيت الكتاب. " انتهى ". ويعني بالكتاب كتاب سيبويه. والبيت المنشد نصفه:
إذا تغنى الحمام الورق هيجني
ولو تسليت عنها أم عمار
قال: والرابع وهو الأوجه والأدخل في نكت القرآن أن يغرق موسى عليه السلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام لا سيما وقد روي ان عدو الله فرعون قال له لما قال: إني رسول من رب العالمين، كذبت، فيقول: انا حقيق على قول الحق، أي واجب على قول الحق أن أكون أنا قائله والقائم به ولا يرضى إلا بمثلي ناطقا به. " انتهى ". ولا يصح هذا الوجه إلا ان عنى أنه يكون على أن لا أقول صفة له كما تقول: انا على قول الحق، أي طريقتي، ودعاني قول الحق، وقال ابن مقسم: حقيق من نعت الرسول أي رسول حقيق من رب العالمين أرسلت على أن لا أقول على الله إلا الحق وهذا معنى صحيح واضح وقد غفل أكثر المفسرين من أرباب اللغة عن تعليق على برسول، ولم يخطر لهم تعليقه إلا بقوله: حقيق. " انتهى ". وهذا الكلام فيه تناقض في الظاهر لأنه قدر أولا العامل في على أرسلت. وقال أخيرا إنهم غفلوا عن تعليق علي برسول، فأما الأخير فلا يجوز على مذهب البصريين لأن رسولا قد وصف قبل أن يأخذ معموله وذلك لا يجوز. وأما التقدير الأول وهو إضمار أرسلت ويفسره لفظ رسول فهو تقدير سائغ ويتناول كلام ابن مقسم أخيرا في قوله: عن تعليق على برسول أي بما دل عليه رسول.
{ قال إن كنت جئت بآية فأت بهآ } الآية، لما عرض موسى عليه السلام رسالته على فرعون وذكر الدليل على صدقه وهو مجيئه بالبينة والخارق المعجز استدعى منه فرعون خرق العادة الدال على الصدق، وهذا الاستدعاء يحتمل أن يكون على سبيل الاختبار وتجويزه ذلك، ويحتمل أن يكون على سبيل التعجيز لما تقرر في ذهن فرعون أن موسى عليه السلام لا يقدر على الإتيان ببينة، والمعنى ان كنت جئت بآية من ربك فأحضرها عندي لتصح دعواك ويثبت صدقك.
{ فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين } هذه إذا الفجائية وفيها خلاف مذكور في النحو وبدأ بالعصا دون سائر المعجزات لأنها معجزة تحتوي على معجزات كثيرة، منها انقلابها ثعبانا وانقلاب خشبة لحما ودما قائما به الحياة من أعظم الإعجاز ويحصل بانقلابها ثعبانا من التهويل ما لا يحصل في غيرها وتلقفها لحبال السحرة وعصيهم وإبطالها لما صنعوه من كيدهم وسحرهم والإلقاء حقيقة في الاجرام.
{ ونزع يده } أي جذب يده، قيل: من جيبه، وهو الظاهر لقوله تعالى:
وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضآء من غير سوء
[النمل: 12] وللناظرين أي للنظارة وفي ذكر ذلك تنبيه على عظم بياضها لأنه لا يعرض العجب بها للنظارة إلا إذا كان بياضها عجيبا خارجا عن العادة. وقال ابن عباس: صارت نورا ساطعا يضيء ما بين السماوات والأرض له لمعان مثل لمعان البرق فخروا على وجوههم وما أعجب أمر هذين الخارقين العظيمين أحدهما في نفسه وذلك اليد البيضاء والأخرى في غير نفسه وهي العصا. وجمع بذينك تبدل الذوات من الخشبة إلى الحيوانية وتبدل الأعراض من السمرة إلى البياض الساطع فكانا والتي على جواز الأمرين وأنهما كلاهما ممكن الوقوع وكان موسى عليه السلام أسمر.
[7.109-122]
{ قال الملأ من قوم فرعون } وفي سورة الشعراء قال للملأ حوله والجمع بينهما أن فرعون وهم قالوا هذا الكلام فحكى هنا قولهم وهناك قوله أو قاله ابتداء فتلقفه منه الملأ ولما كان الانقلاب وبياض اليد مما مستحيل في العادة وهم ينكرون النبوة نسبوه إلى السحر ووصفوه بعليم لمبالغته عندهم في السحر.
{ يريد أن يخرجكم } استشعرت نفوسهم ما صار إليه أمرهم من إخراجهم من أرضهم وخلو مواطنهم منهم وإخراب بيوتهم فبادروا إلى الاخبار بذلك وكان الأمر كما استشعروا إذ أغرق الله تعالى فرعون وآله وأخلى منازلهم منه ونبهوا على هذا الوصف الصعب الذي هو معادل لقتل النفس كما قال تعالى:
ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم
[النساء: 66] الآية وتحتمل ماذا أن تكون كلها استفهاما، وتكون مفعولا ثانيا لتأمرون على سبيل التوسع فيه بأن حذف منه حرف الجر كما قال: أمرتك الخير. ويكون المفعول الأول محذوفا لفهم المعنى أي أي شىء تأمرونني وأصله بأي شىء ويجوز أن تكون ما استفهاما مبتدأ، وذا موصولة بمعنى الذي خبر عنه، وتأمرون صلة ذا، ويكون قد حذف مفعولي تأمرون وهو ضمير المتكلم، والثاني وهو الضمير العائد على الموصول التقدير فأي شىء الذي تأمروننيه أي تأمرونني به. وكلا الإعرابين في ماذا جائز في قراءة من كسر النون إلا أنه حذف ياء المتكلم وأبقى الكسرة دلالة عليهم، وقدر ابن عطية الضمير العائد على ذا إذا كانت موصولة مقرونا بحرف الجر فقال وفي تأمرون ضمير عائد على الذي تقديره تأمرون به. " انتهى ". وهذا ليس بجيد لفوات شرط جواب حذف الضمير إذا كان مجرورا بحرف جر وذلك الشرط هو أن لا يكون الضمير في موضع رفع وأن يجر ذلك الحرف الموصول أو الموصوف به أو المضاف إليه، ويتحد المتعلق به الحرفان لفظا ومعنى، ويتحد معنى الحرف أيضا والعذر لابن عطية أنه قدره على سبيل الأصل ثم اتسع فيه فتعدى إليه الفعل بغير واسطة الحرف ثم حذف بعد الاتساع.
{ قالوا أرجه وأخاه } أي قال من حضر مناظرة موسى عليه السلام من عقلاء ملأ فرعون وأشرافه، قيل: ولم يكن فرعون يجالس ولدغية وإنما كانوا أشرافا ولذلك أشاروا عليه بالارجاء ولم يشيروا عليه بالقتل، وقالوا: ان قتلته وخلت على الناس شبهة ولكن أغلبه بالحجة. وقرىء بالهمزة وبغير همزة فقيل: هما بمعنى واحد، والمعنى أخره أو أحبسه، وقيل: أرجيه بغير همز بمعنى أطعمه جعله من رجوت أدخل عليه همزة النقل أي أطعمه وأخاه ولا تقتلهما حتى يظهر كذبهما فإنك إن قتلتهما ظن أنهما صدقا. قال ابن عطية: وقرأ ابن عامر أرجئه بكسر الهاء بهمزة قبلها، قال الفارسي: وهذا غلط.
" انتهى " نسبة ابن عطية هذه القراءة إلى ابن عامر ليس بجيد لأن الذي روى ذلك إنما هو ابن ذكوان لا هشام كان ينبغي أن يقيد فيقول: وقرأ ابن عامر في رواية ابن ذكوان، ولم يجر لهارون ذكر في صدر القصة. وقد تبين من غير آية أنهما ذهبا معا وأرسلا إلى فرعون ولما كان موافقا له في دعواه وموازرا له أشاروا بإرجائهما.
{ وأرسل في المدآئن } أي مدائن مصر. وقرأها والحاشرون. قال ابن عباس: هم أصحاب الشرط حاشرين أي حاشرين السحرة وفي الكلام حذف تقديره فبعث فأتوه.
{ وجآء السحرة } واعلموا بما صدر من موسى عليه السلام من إنقلاب العصا وبياض اليد وان هذا من السحر.
{ قالوا إن لنا لأجرا } وقرىء أإن بهمزة الاستفهام وقرىء أن على جهة الإثبات فجاز أن يكون الاستفهام من بعض السحرة والإثبات من بعضهم وفي خطأ السحرة بذلك لفرعون دليل على استطالتهم عليه باحتياجه إليهم وربما يحصل للعالم بالشىء من الترفع على من يحتاج اليه وعلى من لا يعلم مثل علمه ونحن إما تأكيد للضمير وإما فصل وجواب الشرط محذوف.
{ قال نعم وإنكم لمن المقربين } أي نعم ان لكم لأجرا وإنكم لمن المقربين فعطف هذه الجملة على الجملة المحذوفة بعد نعم التي هي نائبة عنها، والمعنى لمن المقربين مني أي لا أقتصر لكم على الجعل والثواب على غلبة موسى بل أزيدكم أن تكونوا المقربين فتجوزون إلى الأجر الكرامة والرفعة والجاه والمنزلة.
{ قالوا يموسى إمآ أن تلقي } الآية قبل هذا محذوف تقديره فحضر موسى بعصاه والذي يظهر أن تخييرهم إياه ليس من باب الأدب كما قال الزمخشري بل ذلك من باب الادلال بما يعلمونه من السحر وإيهام الغلبة والثقة بأنفسهم وعدم الاكتراث والاهتبال بأمر موسى عليه السلام وأجازوا في أن تلقى وفي أن تكون النصب أي اختر أو افعل إما القاءك وإما إلقاءنا والمعنى فيه البداءة والرفع، أي أما إلقاؤك مبدوء به وأما إلقاؤنا فيكون مبتدأ، وأما أمرك الإلقاء أي البداءة به أو أمرنا الإلقاء فيكون خبر مبتدأ محذوف، ومفعول تلقى محذوف تقديره أن تلقي عصاك ومفعول الملقين محذوف تقديره حبالنا وعصينا.
{ قال ألقوا } أمرهم موسى عليه السلام بالتقدم وثوقا بالحق وعلما أن الله تعالى يبطله كما حكى الله تعالى عنه قال موسى: ما جئتم به السحر إن الله سيبطله.
{ فلمآ ألقوا سحروا أعين الناس } أي أروا العيون بالحيل والتخيلات ما لا حقيقة له كما قال تعالى يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى، وفي قوله: سحروا أعين الناس دلالة على أن السحر لا يقلب عينا وإنما هو من باب التخييل.
{ واسترهبوهم } أي ارهبوهم واستفعل عنا بمعنى أفعل كابل واستبل.
والرهبة: الخوف والفزع قال الزمخشري: واسترهبوهم إرهابا شديدا كأنهم استدعوا رهبتهم. " انتهى ". وقال ابن عطية: واسترهبوهم بمعنى وارهبوهم فكأن فعلهم اقتضى واستدعى الرهبة من الناس. " انتهى ". ولا يظهر ما قالا لأن الاستدعاء والطلب لا يلزم منه وقوع المستوى والمطلوب. والظاهر هنا حصول الرهبة فلذلك قلنا: ان استفعل فيه موافق افعل، ووصف السحر بعظيم لقوة ما خيل أو لكثرة آلاته من الحبال والعصي روي أنهم جاؤا بحبال من أدم وأخشاب مجوفة مملوءة زيبقا وأوقدوا في الوادي نارا فحميت النار من تحت والشمس من فوق فتحركت وركب بعضهما بعضا وهذا من باب الشعبذة والدك.
{ وأوحينآ إلى موسى أن ألق عصاك } الظاهر أنه وحي إعلام كما روي أن جبريل عليه السلام أتاه فقال له: إن الحق يأمرك أن تلقي عصاك. وكونه وحي إعلام فيه تثبيت للجاش وتبشير بالنصر. وان يحتمل أن تكون المفسرة بمعنى أي لأنه تقدمها معنى القول وهو، وأوحينا فالمعنى أن ألق عصاك. وأن تكون الناصبة دخلت على فعل الأمر فينسبك منهما مصدر تقديره بالإلقاء وفي الكلام حذف قبل الجملة الفجائية أي فألقاها فإذا هي تلقف وتكون الجملة الفجائية اخبارا بما ترتب على الإلقاء. وقرىء: تلقف بحذف التاء وأصلها تتلقف وبإدغام التاء في التاء في تلقف. وقرىء: تلقف مضارع لقف، وما موصولة أي ما يأفكونه أي يقلبونه عن الحق إلى الباطل ويزورونه أو مصدرية أي تلقف أفكهم تسمية للمفعول بالمصدر.
{ فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون } قال ابن عباس والحسن: ظهر واستبان. وقال أرباب المعاني: الوقوع ظهور الشىء بوجوده نازلا إلى مستقره. قال القاضي: فوقع الحق يفيد قوة الظهور والثبوت بحيث لا يصح فيه البطلان كما لا يصح في الواقع أن يصير إلا واقعا ومع ثبوت الحق بطلت وزالت تلك الأعيان التي أفكوها وهي الحبال والعصي.
{ فغلبوا هنالك } أي غلب جميعهم في مكان اجتماعهم أو وقت اجتماعهم.
{ وانقلبوا } أذلاء.
{ صاغرين } حال.
{ وألقي السحرة ساجدين } لما كان الضمير قبل مشتركا جرد المؤمنون وأفردوا بالذكر.
{ قالوا آمنا برب العالمين } أي ساجدين قائلين فقالوا في موضع الحال من الضمير في ساجدين أو من السحرة، وعلى التقديرين فهم ملتبسون بالسجود لله تعالى شكرا على المعرفة والإيمان وبالقول المنبىء عن التصديق الذي محله القلوب، ولما كان السجود أعظم القرب إذ أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد بادروا به ملتبسين بالقول الذي لا بد منه عند القادر عليه إذا الدخول في الإيمان إنما يدل عليه القول وقالوا رب العالمين وفاقا لقول موسى عليه السلام إني رسول من رب العالمين، ولما كان قد يوهم هذا اللفظ غير الله تعالى لقول فرعون أنا ربكم الأعلى نصوا بالبدل على أن رب العالمين رب موسى وهارون، وأنهم فارقوا فرعون وكفروا بربوبيته، والظاهر أن قائل ذلك جميع السحرة.
[7.123-131]
{ قال فرعون آمنتم به } قرىء: آمنتم على الخبر، وأآمنتم على الاستفهام، والضمير في به عائد على رب العالمين.
و { قبل أن آذن لكم } فيه وهن على أمره لأنه إنما جعل ذنبهم بمفارقة الاذن ولم يجعله نفس الإيمان.
{ إن هذا لمكر مكرتموه } أي إن صنعكم هذا لحيلة احتلتموها أنتم وموسى في مصر قبل أن تخرجوا منها إلى هذه الصحراء وتواطأتم على ذلك لغرض لكم وهو أن تخرجوا منها القبط وتسكنوا بني إسرائيل. قال: هذا تمويها على الناس لئلا يتبعوا السحرة في الإيمان. روي عن ابن مسعود وابن عباس أن موسى عليه السلام اجتمع مع رئيس السحرة شمعون فقال له موسى: أرأيت أن غلبتكم أتؤمنون بي؟ فقال له: نعم، فعلم بذلك فرعون فقال ما قال. " انتهى ". ولما خاف فرعون أن يكون إيمان السحرة حجة قومه ألقى في الحال نوعين من الشبهة أحدهما أن هذا تواطؤ منهم لا ان ما جاء به حق، والثاني أن ذلك طلب منهم للملك.
{ فسوف تعلمون } تهديد ووعيد ومفعول تعلمون محذوف أي ما يحل بكم أيهم في متعلق تعلمون، ثم عين ما يفعله بهم فقال مقسما.
{ لأقطعن أيديكم وأرجلكم } لما ظهرت الحجة عاد إلى عادة ملوك السوء إذا غلبوا من تعذيب من ناوأهم وإن كان محقا ومعنى من خلاف أي يد يمنى ورجل يسرى وهذا التوعد الذي توعده فرعون السحرة ليس في القرآن نص أنه أنفذه وأوقعه.
{ قالوا إنآ إلى ربنا منقلبون } هذا تسليم واتكال على الله تعالى وثقة بما عنده والمعنى إنا نرجع إلى ثواب ربنا يوم الجزاء على ما نلقاه من الشدائد.
{ وما تنقم منآ إلا أن آمنا } الآية، والذي يظهر من تعديته بمن أن المعنى وما تنقم منا أي ما تنال منا كقوله:
فينتقم الله منه
[المائدة: 95]، أي يناله بمكروه ويكون فعل وافتعل فيه بمعنى واحد كقدر. واقتدر وعلى هذا يكون قوله: إلا أن آمنا، مفعولا من أجله استثناء مفرغا أي ما تنال منا وتعذبنا بشىء من الأشياء إلا لأن آمنا بآيات ربنا، وعلى هذا المعنى يدل على تفسير عطاء أي ما لنا عندك ذنب تعذبنا عليه إلا أن آمنا.
{ ربنآ أفرغ علينا صبرا } تقدم الكلام عليه في البقرة.
{ وقال الملأ من قوم فرعون } تضمن قول الملأ إغراء فرعون بموسى وقومه وتحريضه على قتلهم أو تعذيبهم حتى لا يكون لهم خروج عن دين فرعون.
{ ويذرك وآلهتك } عطفا على ليفسدوا أي للإفساد ولتركك وترك آلهتك وكان الترك هو لذلك، وبدأوا أولا بالعلة العامة وهي الإفساد، ثم أتبعوه بالخاصة ليدلوا على أن ذلك الترك من فرعون لموسى وقومه هو أيضا يؤول إلى شىء يختص بفرعون قدحوا بذلك زند تغيظه على موسى وقومه ليكون ذلك أبقى عليهم إذ هم الاشراف، وبترك موسى وقومه بمصر يذهب ملكهم وشرفهم.
ويجوز أن يكون النصب على جواب الاستفهام، والمعنى أنى يكون الجمع بين تركك موسى وقومه للإفساد وبين تركهم إياك وعبادة آلهتك أي أن هذا مما لا يمكن وقوعه.
{ قال سنقتل أبنآءهم ونستحيي نسآءهم وإنا فوقهم قاهرون } وإنما لم يعاجل موسى وقومه بالقتال لأنه كان قد ملىء من موسى عليه السلام رعبا، والمعنى أنه قال: سنعيد عليهم ما كنا فعلنا بهم قبل من قتل أبنائهم ليقل رهطه الذين يقع الإفساد بواسطتهم والفوقية هنا بالمنزلة والتمكن في الدنيا وقاهرون يقتضي تحقيرهم أي قاهرون لهم فهم أقل من أن نهتم بهم فنحن على ما كنا عليه من الغلبة أو أن غلبة موسى عليه السلام لا أثر لها في ملكنا واستيلائنا ولئلا نتوهم العامة أنه المولود الذي تحدث المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده فيثبطهم ذلك عن طاعتنا ويدعوهم إلى اتباعه وأنه منتظر بعد.
{ قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا } لما توعدهم فرعون جزعوا وتضجروا فسكنهم موسى عليه السلام وأمرهم بالاستعانة بالله تعالى وبالصبر وسلاهم ووعدهم بالنصر وذكرهم ما وعد الله به بني إسرائيل من إهلاك القبط وتوريثهم أرضهم وديارهم.
{ إن الأرض لله } أي أرض مصر. وال فيه للعهد وهي الأرض التي كانوا فيها.
{ قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا } أي بابتلائنا بذبح أبنائنا مخافة ما كان يتوقع فرعون من هلاك ملكه على يد المولود الذي يولد وأن مصدرية فخلصة الفعل للاستقبال وكانت إذايتهم الأولى قبل مجيء موسى عليه السلام وإذايتهم الثانية بعد مجيئه فلذلك جاءت ما مصدرية وجاء بعدها الفعل الماضي.
{ قال عسى ربكم } الآية هذا رجاء من نبي الله موسى ومثله من الأنبياء يقوي قلوب اتباعهم فيصبرون إلى وقوعه متعلق الرجاء.
ومعنى: { فينظر كيف تعملون } أي في استخلافكم من الإصلاح والإفساد. وهي جملة تجري مجرى البعث والتحريض على طاعة الله تعالى. وفي الحديث
" أن الدنيا حلوة خضرة وان الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ".
{ ولقد أخذنآ آل فرعون بالسنين } الأخذ التناول باليد ومعناه هنا الابتلاء في المدة التي أقام بينهم موسى عليه السلام يدعوهم فيها إلى الله تعالى ومعنى بالسنين بالقحوط والجدوب. والسنة تطلق على الحول، وتطلق على الجدب ضد الخصب، وقد اشتقوا منها بهذا المعنى فقالوا: أسنت القوم إذا أجربوا. ومنه قول الشاعر:
عمرو الذي هشم الثريد لقومه
ورجال مكة مسنتون عجاف
قال ابن عباس: أما السنون فكانت لباديتهم ومواشيهم، وأما نقص الثمرات فكان في أمصارهم، وهذه سيرة الله في الأمم يبتليها بالنقم ليزدجروا ويتذكروا بذلك ما كانوا فيه من النعم.
{ فإذا جآءتهم الحسنة قالوا لنا هذه } أتى بالشرط بإذا في مجيء الحسنة وهي للمتحقق وجوده الآن إحسان الله تعالى هو المعهود الواسع العام لخلقه بحيث أن إحسانه لخلقه عام حتى في حال الابتلاء وأتى بالشرط بأن في إصابة السيئة وهي للإمكان إبرازا أن إصابة السيئة مما قد يقع وقد لا يقع.
{ يطيروا } يتشاءموا وأصله يتطيروا فأدغم التاء في الطاء.
{ ألا إنما طائرهم عند الله } قال ابن عباس: طائرهم نصيبهم أي ما طار لهم في القدر مما هم لا قوة، وهو مأخوذ من زجر الطير سمي ما عند الله من القدر للإنسان طائر لما كان يعتقده أن كل ما يصيبه إنما هو بحسب ما يراه في الطائر فهي لفظة مستعارة.
[7.132-136]
{ وقالوا مهما تأتنا به من آية } الضمير في وقالوا عائد على آل فرعون لم يزدهم الأخذ بالجدوب ونقص الثمرات إلا طغيانا وتشددا في كفرهم وتكذيبهم ولم يكتفوا بنسبة ما يصيبهم من السيئات إلى أن ذلك بسبب موسى عليه السلام ومن معه حتى واجهوه بهذا القول الدال على أنه لو أتى بما أتى من الآيات فإنهم لا يؤمنون بها وأتوا بمهما التي تقتضي العموم، ثم فسروا بآية على سبيل الاستهزاء في تسميتهم ذلك آية، كما قالوا في قوله:
إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله
[النساء: 157] وتسميتهم لها بآية. أي على زعمك، ولذلك عللوا الإتيان بقولهم: لتسحرنا بها، وبالغوا في انتفاء الإيمان بأن صدروا الجملة بنحن فادخلوا الباء فى بمؤمنين أي إن إيماننا لك لا يكون أبدا ومهما مرتفع بالابتداء أو منتصب بإطمار فعل يفسره فعل الشرط فيكون من باب الاشتغال أي أي شىء تحضر بإتيانه. والضمير في به عائد على مهما وفي بها عائد أيضا على معنى مهما، لأن المراد به أية وآية كما عاد على ما في قوله:
ما ننسخ من آية أو ننسها
[البقرة: 106]. ومهما كلمة بسيطة ليست مركبة من مه اسم الفعل وما ولا أن أصلها ما ما فأبدلت ألفها هاء فقيل: مهما، وقد جاء في الشرط مهما، قال الشاعر:
أماوي مهما يستمع في صديقه
أقاويل هذا الناس ماوى يندم
{ فأرسلنا عليهم الطوفان } الآية قال الأخفش: الطوفان جمع طوفانة، عند البصريين وعند الكوفيين مصدر. قال ابن عباس: الطوفان الماء المفرق. وقال جماعة: هو المطر أرسل عليهم دائما الليل والنهار ثمانية أيام، وقيل ذلك مع ظلمة شديدة لا يرون شمسا ولا قمرا ولا يقدر أحد أن يخرج من داره، وقيل: أمطروا حتى كادوا يهلكون وبيوت القبط وبني إسرائيل مشتبكة فامتلأت بيوت القبط ماء حتى قاموا فيه إلى تراقيهم فمن جلس غرق ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة من الماء على وجه أرضهم وركد فمنعهم من الحرث والبناء والتصرف ودام عليهم سبعة أيام.
{ والجراد } جمع جرادة وهي اسم جنس بينه وبين مفرده تاء التأنيث وابتلوا بالجراد بعد ابتلائهم بالطوفان سبعة أيام فأكلت عامة زرعهم وثمارهم ثم أكلت كل شىء حتى الأبواب وسقوف البيوت والثياب ولم يدخل بيوت بني إسرائيل منها شىء فكشف عنهم بعد سبعة أيام وسلط الله تعالى عليهم القمل. قال ابن عباس: القمل هو الدبا، وهو صغار الجراد قبل أن تنبت له أجنحة ولا يطير روي أن موسى عليه السلام مشى إلى كثيب أهيل فضربه بعصاه فانشر كله قملا بمصر فأكل ما أبقاه الجراد ولحس الأرض، وكان يدخل بين جلد القبطي وقميصه فيمصه ويمتلىء الطعام قملا، وأرسل الله عليهم بعد شهر الضفادع فملأت آنيتهم وأطعماتهم ومضاجعهم ورمت بأنفسها في القدور وهي تغلي، وفي التنانير وهي تفور، وإذا تكلم أحدهم وثبت إلى فيه ثم بعد ذلك أرسل الله تعالى عليهم الدم حتى صار ماؤهم دما، حتى أن الإسرائيلي ليضع الماء في فيء القبطي فيصير في فيه دما، وعطش فرعون حتى أشرف على الهلاك فكان يمص الأشجار الرطبة فإذا مضغها صار ماؤها الطيب ملحا أجاجا.
ومعنى تفصيل الآيات تبيينها وإزالة أشكالها وحكمة التفضيل بالزمان أنه يمتحن فيه أحوالهم أيفون بما عهدوا أم ينكثون. وانتصب آيات مفصلات على الحال والذي دلت عليه الآية أنه أرسل عليهم ما ذكر فيها. وأما كيفية الإرسال ومكث ما أرسل عليهم من الأزمان والهيئآت فمرجعه إلى النقل عن الاخيار الاسرائيليات، إذ لم يثبت من ذلك في الحديث النبوي شىء ومع إرسال حسن الآيات استكبروا عن الإيمان وعن قبول أمر الله تعالى.
{ وكانوا قوما مجرمين } إخبار منه تعالى بإجترامهم على الله تعالى وعلى عباده.
{ ولما وقع عليهم الرجز } الظاهر أن الرجز هو ما كان أرسل عليهم من الآيات التي تقدمت قبل. ومعنى وقع عليهم، أي نزل عليهم وثبت وفي قولهم.
{ ادع لنا ربك } وفي إضافة الرب إلى موسى عليه السلام عدم إقرار بأنه ربهم حيث لم يقولوا ادع لنا ربنا.
ومعنى: { بما عهد عندك } بما اختصك به ونبأك أو بما وصاك به أن تدعوا به فيجيبك كما أجابك في الآيات، والظاهر تعلق بما عهد بادع لنا ربك، ومتعلق الدعاء محذوف تقديره ادع لنا ربك بما عهد عندك في كشف هذا الرجز.
و { لئن كشفت } جواب لقسم محذوف في موضع الحال من قالوا، أي قالوا ذلك مقسمين لئن كشفت.
وفي قولهم: { لنؤمنن لك } دلالة على أنه طلب منهم الإيمان كما أنه طلب منهم إرسال بني إسرائيل وقدموا الإيمان لأنه المقصود الأعظم الناشىء منه الطواعية، وفي إسناد الكشف إلى موسى عليه السلام حيرة عن إسناده إلى الله تعالى لعدم إقرارهم بذلك.
{ فلما كشفنا عنهم الرجز } في الكلام حذف دل عليه المعنى وهو فدعا موسى فكشف عنهم الرجز وأسند تعالى الكشف إليه لأنه هو الكاشف حقيقة فلما كان من قولهم أسندوه إلى موسى عليه السلام وهو إسناد مجازي ولما كان إخبارا من الله تعالى أسنده تعالى إليه لأنه إسناد حقيقي.
و { إلى أجل } متعلق بكشفنا ولا يمكن حمله على التعلق به لأن ما دخلت عليه لما ترتب جوابه على ابتداء وقوعه. والغاية بقوله: إلى أجل، ينافي التعليق على ابتداء الوقوع فلا بد من تعقل الابتداء والاستمرار حتى تحقق الغاية.
و { هم بالغوه } جملة في موضع الصفة لأجل وهي أفخم من الوصف بالمفرد لتكرر الضمير فليس في حسن التركيب كالمفرد، وإذا للمفاجأة تدل على أنه لم يكن بعد بلوغ الأجل وبين النكث زمان يتخللهما بل بنفس ما بلغوا الأجل نكثوا ما أقسموا عليه من الإيمان والإرسال.
{ فانتقمنا منهم } أي أحللنا بهم النقمة وهي ضد النعمة فإن كان الانتقام هو الإغراق فتكون الفاء تفسيرية وذلك على رأي من أثبت هذا المعنى للفاء وإلا كان المعنى فأردنا الانتقام منهم. والباء في بأنهم سببية. والآيات هي المعجزات التي ظهرت على يد موسى عليه السلام. والظاهر عود الضمير في عنها إلى الآيات، أي غفلوا عما تضمنته الآيات من الهدى والنجاة وما فكروا فيها وتلك الغفلة هي سبب التكذيب.
[7.137-141]
{ وأورثنا القوم } الآية، لما قال موسى عليه السلام:
عسى ربكم أن يهلك عدوكم
[الأعراف: 129] كان كما ترجى عليه السلام فأغرق أعداءهم في اليم واستخلف بني إسرائيل في الأرض.
و { الذين كانوا يستضعفون } هم بنو إسرائيل كان فرعون يستعبدهم ويستخدمهم وفي الكلام حذف مضاف تقديره وأورثنا ذرية القوم لأن القوم المستضعفين لم يعودوا إلى ديار مصر بأعيانهم إذ كانوا جاوزوا البحر وأقاموا بالأرض المقدسة وإنما ورث مصر ذريتهم ومنهم سليمان بن داود.
و { مشارق } منصوب على أنه مفعول ثان لأورثنا. وجعلت مشارق ومغارب مبالغة في كثرة بركتها.
{ وتمت كلمة ربك الحسنى } أي مضت واستمرت من قولهم تم على الأمر إذا مضى عليه.
{ بما صبروا } الباء سببية وما مصدرية أي بصبرهم.
{ ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه } أي خربنا قصورهم وأبنيتهم والتدمير الإهلاك وإخراب الأبنية.
{ وما كانوا يعرشون } أي يرفعونه من الأبنية المشيدة كصرح هامان وغيره.
{ وجاوزنا ببني إسرآئيل البحر } لما بين أنواع نعمه على بني إسرائيل بإهلاك عدوهم اتبع بالنعمة العظمى من إراءتهم هذه الآية العظيمة وقطعهم البحر مع السلامة والبحر بحر القلزم. ومعنى جاوزنا قطعنا بهم البحر. يقال: جاوز الوادي، إذا قطعه. والباء للتعدية، يقال: جاوز البحر إذا قطعه وجاوز بغيره البحر عبرية، وكأنه قال: وخبرنا ببني إسرائيل أي أجزناهم البحر وفاعل بمعنى فعل المجرد يقال جاوز وجاز بمعنى واحد.
{ فأتوا } أي مروا.
{ على قوم } هم من بني لحم وجذام.
{ يعكفون } أي يقيمون.
{ على أصنام } أي على عبادة أصنام.
{ لهم } والأصنام قيل: هي البقر حقيقة، وقيل: تماثيل من حجر وعيدان على صور البقر.
{ قالوا يموسى اجعل لنآ إلها } الظاهر أن طلب مثل هذا كفر وارتداد وشقاق وعناد خرجوا في ذلك على عادتهم في تعنتهم على أنبيائهم وطلبهم ما لا ينبغي. وقد تقدم من كلامهم
لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة
[البقرة: 55] وغير ذلك مما هو كفر، وربما كان القول من بعضهم فنسب إلى جميعهم.
{ قال إنكم قوم تجهلون } تعجب موسى عليه السلام من قولهم على أثر ما رأوا من الآيات العظيمة والمعجزات الباهرة ووصفهم بالجهل المطلق وأكده بأن لأنه لا جهل أعظم من هذه المقالة ولا أشنع وأتى بلفظ تجهلون ولم يقل جهلتم إشعارا بأن ذلك منهم كالطبع والغريزة لا ينتقلون عنه في ماض ولا مستقبل.
{ إن هؤلاء متبر ما هم فيه } الإشارة بهؤلاء إلى العاكفين على عبادة تلك الأصنام ومعنى قبر مهلك مدمر مكسر وأصله الكسر. قال الزمخشري: وفي إيقاع هؤلاء إسما لأن، وتقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبر إلها واسم لعبدة الأصنام بأنهم هم المعرضون للتبار وأنه لا يعدوهم البتة وأنه لهم ضربة لازم ليحذرهم عاقبة ما طلبوا ويبغض لهم ما أحبوا.
" انتهى ". لا يتعين ما قاله من أنه قدم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبر لأن الأحسن في إعراب مثل هذا أن يكون خبر ان مبتر وما بعده مرفوع على أنه مفعول لم يسم فاعله وكذلك ما كانوا هو فاعل بقوله: وباطل، فيكون إذ ذاك قد أخبر عن اسم ان بمفرد لا جملة وهو نظير أن زيدا مضروب غلامه فالأحسن في الإعراب أن يكون غلامه مرفوعا على أنه مفعول ما لم يسم فاعل ومضروب خبر ان، والوجه الآخر وهو أن يكون مبتدأ ومضروب خبره جائز وهو مرجوح.
{ قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين } ما أحسن ما خاطبهم موسى عليه السلام بدأهم أولا بنسبتهم إلى الجهل ثم ثانيا أخبرهم بأن عباد الأصنام ليسوا على شىء بل مآل أمرهم إلى الهلاك وبطلان العمل وثالثا أنكر وتعجب أن يقع هو عليه السلام في أن يبغي لهم غير الله إلها، أي أغير المستحق للعبادة والألوهية أطلب لكم معبودا وهو الذي شرفكم واختصكم بالنعم التي لم يعطها من سلف من الأمم لا غيره فكيف أبغي لكم إلها غيره. ومعنى على العالمين، أي على عالمي زمانهم أو بكثرة الأنبياء فيهم. وانتصب غير مفعولا بأبغيكم أي أبغي لكم غير الله، وإلها تمييز عن غير حال أو على الحال، وإلها المفعول والتقدير أبغي لكم إلها غير الله فكان غير صفة، فلما تقدم انتصب حالا. وقال ابن عطية: وغير منصوبة بفعل مضمر هذا هو الظاهر، ويحتمل أن ينتصب على الحال. " انتهى ". ولا يظهر نصبه بفعل مضمر لأن أبغي مفرغ له أو لقوله إلها فإن تخيل انه منصوب بأبغي مضمرة يفسرها هذا الظاهر فلا يصح، لأن الجملة المفسرة لا رابط فيها لا من ضمير ولا من ملابس يربطها بغير فلو كان التركيب أغير الله ابغيمكوه لصح المعنى ويحتمل وهو فضلكم أن يكون حالا وأن يكون مستأنفا.
{ وإذ أنجيناكم } الآية، الخطاب لمن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تقريعا لهم بما فعل أوائلهم وبما جاؤوا به وتقدم تفسير نظير هذه الآية في سورة البقرة فأغنى عن إعادته.
[7.142-143]
{ وواعدنا موسى ثلاثين ليلة } روي أن موسى عليه السلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر ان أهلك الله عدوهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل موسى ربه تعالى الكتاب فأمره بصوم ثلاثين يوما وهو شهر ذي القعدة. وانتصب ثلاثين على أنه مفعول ثان على حذف مضاف فقدره أبو البقاء إتيان ثلاثين أو تمام ثلاثين. وقال ابن عطية: وثلاثين نصب على تقدير أجلناه أو مناجاة ثلاثين وليست منتصبة على الظرف لأن المواعدة لم تقع في الثلاثين، والضمير في وأتممناها عائد على المواعدة المفهومة من واعدنا. وقال الحوفي: الهاء والألف نصب بأتممناها وهما راجعتان إلى ثلاثين. " انتهى ". ولا يظهر لأن الثلاثين لم تكن ناقصة فتممت بعشر وحذف مميز عشر، أي بعشر ليال لدلالة ما قبله عليه وفي مصحف أبي وتممناها حشدوا والميقات ما وقت له من الوقت وضربه له وجاء بلفظ ربه ولم يأت على واعدنا فكان يكون التركيب فتم ميقاتنا لأن لفظ ربه دال على أنه مصلحة وناظر في أمره ومالكه والمتصرف فيه. والفرق بين الميقات والوقت أن الميقات ما قدر فيه عمل من الأعمال، والوقت وقت الشىء. وانتصب أربعين على الحال، قاله الزمخشري وابن عطية.
وقدر الزمخشري الحال فيه فقال: أي تم بالغا هذا العدد، فعلى هذا لا يكون الحال أربعين بل الحال هذا المحذوف فينا في قوله: وأربعين ليلة نصب على الحال. وقال ابن عطية أيضا: ويصح أن يكون أربعين ظرفا من حيث هي عدد أزمنة، وقيل: أربعين مفعول به بتم لأن معناه بلغ والذي يظهر أنه تمييز منقول من الفاعل وأصله ختم أربعون ميقات ربه أي كملت. ثم أسند التمام لميقات وانتصب أربعون على التمييز.
{ وقال موسى لأخيه هارون } الآية قرىء. شاذا هارون بالضم على النداء أي يا هارون أمره حين أراد المضي للمناجاة والمغيب فيها أن يكون خليفته في قومه وأن يصلح في نفسه أو ما يجب أن يصلح من أمر قومه ونهاه أن يتبع سبيل من أفسده. وفي النهي دليل على وجود المفسدين، ولذلك نهاه عن اتباع سبيلهم وأمره إياه بالإصلاح ونهيه عن اتباع سبيل المفسدين هو على سبيل التأكيد لا لتوهم أنه يقع منه خلاف الإصلاح، واتباع تلك السبيل لأن منصب النبوة منزه عن ذلك. ومعنى أخلفني استبد بالأمر وذلك في حياته إذ راح إلى مناجاة ربه، وليس المعنى أنك تكون خليفتي بعد موتي ألا ترى أن هارون مات قبل موسى.
{ ولما جآء موسى لميقاتنا } الآية أي للوقت الذي ضربه له أي لتمام الأربعين كما تقول: أتيته لعشر خلون من الشهر.
ومعنى اللام الاختصاص. والجمهور على أنه وحده خص بالتكليم إذ جاء للميقات. قال القاضي: سمع هو والسبعون كلام الله تعالى. قال ابن عطية: خلق له إدراكا سمع به الكلام القائم بالذات القديم الذي هو صفة ذات. وقال ابن عباس وابن جبير: أدنى الله تعالى موسى عليه السلام حتى سمع صريف الأقلام في اللوح. وقال الزمخشري:
{ وكلمه ربه } من غير واسطة كما يكلم الملك. وتكليمه تعالى أن يخلق الكلام منطوقا به في بعض الاجرام كما خلقه مخطوطا في اللوح وروي أن موسى عليه السلام كان يسمع الكلام من كل جهة. وعن ابن عباس كلمه أربعين يوما وأربعين ليلة وكتب له الألواح. وقيل: إنما كلمه في أول الأربعين. " انتهى ". وقال وهب: كلمه في ألف مقام وعلى أثر المقام يرى نور على وجهه ثلاثة أيام ولم يقرب من كلمة الله تعالى. " انتهى ". وقد أوردوا هنا الخلاف الذي في كلام الله تعالى وهو مذكور ودلائل المختلفين في كتب أصول الدين وكلمه ربه معطوف على جاء. وقيل: حال وعدل عن قوله وكلمناه إلى قوله: وكلمه ربه، للمعنى الذي عدل إلى قوله: ختم ميقات ربه.
{ قال رب أرني أنظر إليك } أرني هي بصرية والمفعول الثاني محذوف تقديره أرنيك أو أرني إياك. قال السدي وأبو بكر الهذلي: بما كلمه وخصه بهذه المرتبة طمحت همته إلى رتبة الرؤية وتشوق إلى ذلك فسأل ربه أن يريه نفسه. قال ابن عطية: ورؤية الله تعالى عند الأشعرية وأهل السنة جائزة عقلا لأنه من حيث هو موجود تصح رؤيته. وقررت الشريعة رؤية الله تعالى في الآخرة ومنعت من ذلك في الدنيا بظواهر الشرع فموسى عليه السلام لم يسأل محالا وإنما سأل جائزا.
وقوله: { لن تراني ولكن انظر إلى الجبل } ليس بجواب من سأل محالا. وقد قال تعالى لنوح عليه السلام:
فلا تسئلن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين
[هود: 46]. فلو سأل موسى محالا فكان في الجواب زجر ما وتبين وللزمخشري كلام كثير في الرؤية ذكرنا ذلك في البحر، ولكن أنظر إلى الجبل الآية تعليق الرؤية على تقرير الاستقرار مؤذن بعدمها إذ لم يستقر، ونبه بذلك على أن الجبل مع شدته وصلابته إذا لم يستقر فالآدمي مع ضعف بنيته أولى بأن لا يستقر وهذا تسكين لقلب موسى عليه السلام وتخفيف عنه من ثقل أعباء المنع والتجلي الظهور والدك مصدر دككت الشىء فتته وسحقته مصدر في معنى المفعول والدك والدق بمعنى واحد. وقال ابن عزيز: دكا مستويا مع الأرض. والخرور السقوط أفاق ثاب إليه حسه وعقله.
{ فلما تجلى ربه للجبل جعله دكا } ترتب على التجلي أمران: أحدهما، تفتت الجبل وتفرق أجزائه، والثاني، خرور موسى عليه السلام مغشيا عليه. والتجلي بمعنى الظهور الجسماني مستحيل على الله تعالى.
{ قال سبحانك } نزه الله تعالى عن سمات النقص والحدوث.
[7.144-147]
{ قال يموسى إني اصطفيتك } لما طلب موسى عليه السلام الرؤية ومنعها عدد تعالى وجود نعمه العظيمة عليه وأمره أن يشتغل بشكرها وهذه تسلية منه تعالى له.
و { على الناس } لفظ عام ومعناه الخصوص أي على أهل زمانك، وقدم { برسالاتي } على و { بكلامي } لأن الرسالة أسبق في الزمان، أو لأنه انتقل من شريف إلى أشرف وأمره تعالى بأن يأخذ ما آتاه من النبوة لأن في الأمر بالأخذ مزيد تأكيد وحصول أجر بالامتثال، والمعنى خذ ما آتيتك باجتهاد في تبليغه وجد في النفع به.
{ وكن من الشاكرين } على ما آتيناك وفي ذلك إشارة إلى القنع والرضى بما أعطاه الله تعالى والشكر عليه.
{ وكتبنا له في الألواح } أي أمرنا له بالكتابة، فأضاف الكتابة إلى نفسه تعالى لما كان آمرا بالكتابة، والضمير في له عائد على موسى والألواح جمع قلة والألف واللام فيها للعهد إذ عني بها ألواح موسى عليه السلام. قيل: والضمير نابت عنه الألف واللام أي في ألواحه.
{ من كل شيء } محتاج إليه في شريعتهم.
{ موعظة } للازدجار والاعتبار.
{ وتفصيلا لكل شيء } من التكاليف الحلال والحرام والأمر والنهي والقصص والعقائد والاخبار بالمغيبات.
{ فخذها بقوة } الظاهر أن الضمير في خذها عائد على الألواح. ومعنى بقوة قال ابن عباس: بجد واجتهاد فعل أولي العزم. وقال أيضا: أمر أن يأخذ بأشد مما أمر به قومه.
وقوله: { بأحسنها } ظاهره أنه أفعل التفضيل وفيها الحسن والأحسن كالقصاص والعفو والانتصار والصبر.
{ سأوريكم } الإراءة هنا من رؤية العين، ولذلك تعدت إلى اثنين.
و { دار الفاسقين } هي مصر وثم حال محذوفة تقديره مدمرة. ألا ترى إلى قوله:
ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه
[الأعراف: 137]. قال الزمخشري: كيف أقفرت منهم ودمروا لفسقهم لتعتبروا فلا تفسقوا مثل فسقهم فينكل بكم مثل نكالهم. " انتهى ". وقرأ الحسن سأوريكم بواو ساكنة بعد الهمزة على ما يقتضيه رسم المصحف ووجهت همزة القراءة بوجهين: أحدهما، ما ذكره أبو الفتح وهو أنه أشبع الضمة ومطها فنشأ عنها الواو. وقال ويحسن احتمال الواو، وقال: ويحسن احتمال الواو في هذا الموضع أنه موضع وعيد وإغلاظ فمكن الصوت فيه. " انتهى ". فيكون كقوله : أدنو فانظور، أي فانظر، وهذا التوجيه ضعيف لأن الاشباع بابه ضرورة الشعر. والثاني، ما ذكره الزمخشري قال: وقرأ الحسن سأوريكم وهي لغة فاشية بالحجاز. يقال: أورني كذا وأوريته فوجهه أن يكون من أوريته الزند كان المعنى بينه لي وأنره لأستبينه. " انتهى ". وهي أيضا في لغة أهل الأندلس كأنهم تلقفوها من لغة الحجاز وبقيت في لسانهم إلى الآن وينبغي أن ينظر في تحقيق هذه اللغة أهي في لغة الحجاز أم لا.
وقرأ ابن عباس وقسامة بن زهير سأورتكم. قال الزمخشري: وهي قراءة حسنة يصححها قوله تعالى:
وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون
[الأعراف: 137].
{ سأصرف عن آياتي } لما ذكر سأوريكم دار الفاسقين ذكر ما يفعل بهم من صرفه إياهم عن آياته لفسقهم وخروجهم عن طورهم إلى وصف ليس لهم. ثم ذكر تعالى من أحوالهم ما استحقوا به اسم الفسق.
{ وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها } صرفهم هذا الوصف الذميم وهو التكبر عن الإيمان حتى لو عرضت عليهم كل آية لم يروها آية فيؤمنوا بها وهذا حتم منه تعالى على الطائفة التي قدر أن لا يؤمنوا.
{ وإن يروا سبيل الرشد } الآية أراهم الله تعالى السبيلين فرأوهما فآثروا الغي على الرشد، كقوله تعالى:
فاستحبوا العمى على الهدى
[فصلت: 17].
{ ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا } أي ذلك الصرف عن الآيات هو بسبب تكذيبهم بها وغفلتهم عن النظر فيها والتفكر في دلالتها، والمعنى أنهم استمر تكذيبهم وصار لهم ذلك ديدنا حتى صارت تلك الآيات لا تخطر لهم ببال فحصلت الغفلة عنها والنسيان لها حتى كانوا لا يذكرونها ولا شيئا منها. والظاهر أن الصرف سببه التكذيب والغفلة من جميعهم، ويحتمل أن الصرف سببه التكذيب.
ويكون قوله: { وكانوا عنها غافلين } إستئناف أخبار منه تعالى عنهم أي من شأنهم أنهم كانوا غافلين عن الآيات وتدبرها فأورثتهم الغفلة التكذيب بها. والظاهر أن ذلك مبتدأ وخبره بأنهم أي ذلك الصرف كائن بأنهم كذبوا. وجوزوا أن يكون منصوبا فقدره ابن عطية فعلنا ذلك، وقدره الزمخشري صرفهم الله تعالى ذلك الصرف بعينه.
[7.148-151]
{ واتخذ قوم موسى } إن كان الاتخاذ بمعنى اتخاذه إلها معبودا فصح نسبته إلى القوم وذكر أنهم كلهم عبدوه غير هارون ولذلك قال: رب اغفر لي ولأخي. فقيل: إنما عبده قوم منهم لا جميعهم، لقوله:
ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق
[الأعراف: 159]، وإن كان بمعنى العمل كقوله تعالى:
كمثل العنكبوت اتخذت بيتا
[العنكبوت: 41]، أي عملت وصنعت. فالمتخذ إنما هو السامري واسمه موسى بن ظفر من قرية تسمى سامرة ونسب ذلك إلى قوم موسى مجازا كما قالوا بنو تميم قتلوا فلانا وإنما قتله واحد منهم ولكونهم راضين بذلك.
ومعنى: { من بعده } أي من بعد مضيه للمناجاة.
و { من حليهم } متعلق باتخذو بها يتعلق بمن بعده وإن كانا حرفي جر بلفظ واحد وجاز ذلك لاختلاف مدلوليهما لأن من الأولى لابتداء الغاية، والثانية للتبعيض. وقرىء: من حليهم مفردا ومن حليهم جمعا وأصله حلوى على وزن فعول فاجتمعت واو وياء وأدغمت فيها ثم كسر ما قبلها لنصح الياء ثم أتبعت حركة الماء لحركة اللام فقيل: حلى، كما قالوا: عصى. والعجل ولد البقرة القريب الولادة.
ومعنى: { جسدا } جثة جمادا ليس مصورا بالخط في حائط ولا رقما في ثوب وكان ذلك بسبب ما كان تقدم من أنهم مروا بقوم يعبدون البقر فقالوا تلك المقالة الشنيعة.
{ له خوار } ظاهره أنه قامت به الحياة ولذلك كان له خوار. وقيل: ولما صنعه السامري أجوف تحيل لتصويته بأن جعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص وجعله في مهب الرياح فتدخل في تلك الأنابيب فيظهر له صوت يشبه الخوار فإذا خار سجدوا وإذا سكت رفعوا.
{ ألم يروا أنه لا يكلمهم } إن كان اتخذ بمعنى عمل وصنع فلا بد من تقدير محذوف يترتب عليه هذا الإنكار وهو فعبدوه وجعلوه إلها لهم وإن كان المحذوف إلها أي اتخذوا عجلا جسدا له خوار إلها فلا يحتاج إلى حذف جملة، وهذا استفهام إنكار حيث عبدوا جمادا أو حيوانا عاجزا عليه آثار الصنعة لا يمكن أن يتكلم ولا يهدي. وقد ركز في العقول أن من كان بهذه المثابة استحال أن يكون إلها وهذا نوع من أنواع البلاغة يسمى الاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي. والظاهر أن يروا بمعنى يعلموا وسلب تعالى عنه هذين الوصفين دون باقي أوصاف الإلهية لأن انتفاء التكليم يستلزم انتفاء العلم وانتفاء الهداية إلى سبيل يستلزم انتفاء القدرة وانتفاء هذين الوصفين وهما العلم والقدرة يستلزمان انتفاء باقي الأوصاف فلذلك خص هذان الوصفان بانتفائهما.
{ اتخذوه وكانوا ظالمين } أي أقدموا على ما أقدموا عليه من هذا الأمر الشنيع وكانوا واضعين الشىء في غير موضعه أي من شأنهم الظلم فليسوا مبتكرين وضع الشىء في غير موضعه.
{ ولما سقط في أيديهم } قال الزمخشري: لما اشتد ندمهم وحسرتهم على عبادة العجل، لأن من شأن من اشتد ندمه وحسرته أن يعض يده غما فتصير يده مسقوطا فيها لأن فاه قد وقع فيها وسقط مسند إلى، في أيديهم وهو من باب الكناية. " انتهى ". وأصل السقوط الوقوع من علو.
{ قالوا لئن لم يرحمنا ربنا } إنقطاع إلى الله تعالى واعتراف بعظيم ما أقدموا عليه، ولما كان هذا الذنب وهو اتخاذ غير الله إلها أعظم الذنوب بدأوا بالرحمة التي وسعت كل شىء ومن نتائجها غفران الذنب.
{ ولما رجع موسى إلى قومه } الآية أخبره تعالى قبل رجوعه أنهم قد فتنوا بالعجل فلذلك رجع وهو غاضب. ويدل على هذا القول قوله تعالى:
فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري
[طه: 85]. وغضبان صيغة مبالغة، والغضب غليان في القلب بسبب حصول ما يؤلم.
و { أسفا } حزينا. والفعل من أسف يأسف.
{ قال بئسما خلفتموني } تقدم الكلام على بئسما في أوائل البقرة.
ومعنى: { من بعدي } أي من بعد انفصالي عنكم للمناجاة ذمهم على عبادة غير الله تعالى.
و { أعجلتم } استفهام إنكار. يقال: عجل عن الأمر، إذا تركه غير تام، وأعجله عنه غيره، والمعنى أعجلتم أمر ربكم وهو انتظار موسى عليه السلام حافظين لعهده وما وصاكم به.
و { ألقى الألواح } أي ألواح التوراة وكان حاملا لها فوضعها بالأرض غضبا على ما فعله قومه من عبادة العجل وحمية لدين الله تعالى. والظاهر أنه أخذ برأسه أي أمسك رأسه جاره إليه. والظاهر أن سبب هذا الأخذ هو غضبه على أخيه وكيف عبدوا العجل وهو قد استخلفه فيهم وأمره بالإصلاح وأن لا يتبع سبيل من أفسد وكيف لم يكفهم عن ذلك.
{ قال ابن أم } ناداه نداء استعطاف وترفق وكان شقيقه وهي عادة العرب تتلطف وتتحنن بذكر الأم كما قال:
يا ابن أمي ويا شقيق نفسي
أنت خلفتني لدهر شديد
وقرىء: بكسر الميم اجتزاء بالكسرة عن الياء إذ أصله يا ابن أمي. وقرىء: يا ابن أم بفتح الميم اجتزاء بالفتحة عن الألف إذ أصله يا ابن أما والألف منقلبة عن ياء المتكلم كما قال:
يا ابنة عما لا تلوحي واهجعي
يريد ابنة عمي.
ومعنى: { استضعفوني } وجدوني ضعيفا ولما أبدى له ما كان منهم من الاستشعاف له ومقاربة قتلهم إياه سأله ترك ما يسرهم بفعله، فقال:
{ فلا تشمت بي الأعدآء } أي لا تسرهم بما تفعل بي فأكون ملوما منهم ومنك. قال الشاعر:
والموت دون شماتة الأعداء
{ قال رب اغفر لي ولأخي } لما اعتذر إليه أخوه استغفر لنفسه وله. قالوا: واستغفاره لنفسه بسبب فعلته مع أخيه وعجلته في إلقاء الألواح، واستغفاره لأخيه من فعلته في الصبر لبني إسرائيل.
[7.152-155]
{ إن الذين اتخذوا العجل } الآية الظاهر أنه من كلام الله تعالى إخبارا عما ينال عباد العجل ومخاطبة لموسى عليه السلام بما ينالهم. ويدل عليه قوله آخر الآية: { وكذلك نجزي المفترين }.
{ والذين عملوا السيئات } أي من الكفر والمعاصي وغيره.
{ ثم تابوا } أي رجعوا إلى الله.
{ من بعدها } أي من بعد عمل السيئات.
{ وآمنوا } داموا على إيمانهم وأخلصوا فيه. والذين مبتدأ، وخبره أن ربك، والعائد على المبتدأ محذوف تقديره لغفور لهم رحيم بهم.
{ ولما سكت عن موسى الغضب } الآية سكوت غضبه كان والله أعلم بسبب اعتذار أخيه وكونه لم يقصر في نهي بني إسرائيل عن عبادة العجل ووعد الله إياه بالانتقام منهم وسكوت الغضب استعارة شبه خمود الغضب بانقطاع كلام المتكلم وهو سكونه جعل الغضب كأنه إنسان يناجي موسى عليه السلام ويهيجه لما فعل قومه من اتخاذهم العجل، ولذلك ألقى الألواح ثم انه سكت عنه وهذا من بديع الاستعارة جعل سكون الغضب سكوتا. وقرأ معاوية بن قرة: ولما سكن، بالنون عوض التاء.
{ أخذ الألواح } هو جواب لما وكان إلقاؤها غضبا على قومه فلما سكت الغضب أخذها.
{ وفي نسختها } أي فيما نقل وحول منها. واللام في لربهم مقوية لوصول الفعل الذي هو يرهبون إلى المفعول المتقدم، كقوله تعالى:
إن كنتم للرءيا تعبرون
[يوسف: 43].
{ واختار موسى قومه سبعين رجلا } اختار افتعل من الخير وهو التخير والانتقاء واختار من الأفعال التي تعدت إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بواسطة حرف الجر ثم بحذف حرف الجر ويتعدى إليه الفعل فتقول اخترت زيدا من الرجال، واخترت زيدا الرجال. قال الشاعر:
اخترتك الناس إذ رئت خلائقهم
واعتل من كان يرجى عند السول
{ لميقاتنا } قال وهب بن منبه: قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام ان طائفة تزعم أن الله لا يكلمك فخدمنا من يذهب معك يسمعوا كلامه فيؤمنوا فأوحى الله تعالى إليه أن يختار سبعين من خيارهم ثم ارتق بهم الجبل أنت وهارون واستخلف يوشع ففعل فلما سمعوا كلامه سألوا موسى عليه السلام أن يريهم الله جهرة فأخذتهم الرجفة. وفي الكلام حذف تقديره فرجف بهم الجبل وصعقوا.
{ قال رب لو شئت أهلكتهم } مفعول شئت تقديره لو شئت أهلاكنا وجوابه أهلكتهم ولم يأت الجواب باللام.
{ وإياي } ضمير المتكلم معطوف على الضمير المنصوب في أهلكتهم.
{ أتهلكنا بما فعل السفهآء منآ } الآية، الظاهر أنه استفهام استعلام أيقع إهلاك المختارين وهم خير بني إسرائيل بما فعل غيرهم إذ من الجائز في العقل ذلك، ألا ترى قوله تعالى:
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة
[الأنفال: 25]. وقوله عليه السلام:
" وقد قيل أنهلك وفينا الصالحون، قال: نعم إذا كثر الخبث "
وكما ورد أن قوما يخسف بهم وفيهم الصالحون فقيل يبعثون على نياتهم أو كلا ما هذا معناه بما فعل السفهاء منا، وهم عباد العجل.
{ إن هي إلا فتنتك } إن نافية بمعنى ما وهي ضمير يعود على ما يفهم من سياق الكلام أي ان الفتنة إلا فتنتك أي راجعة إليك إذ أنت موجد الخير والشر وأنت موقع ضلال من فتنة وهداية من شئت وهذا هو الاعتقاد الصحيح.
{ تضل بها من تشآء وتهدي من تشآء } ومفعول تشاء محذوف تقديره من تشاء إضلاله ومن تشأ هدايته.
{ أنت ولينا } أي القائم بأمرنا.
{ فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين } سأل الغفران والرحمة له ولهم لما كان قد اندرج قومه في قوله: أنت ولينا، وفي سؤال المغفرة والرحمة له ولهم. وكان قومه أصحاب ذنوب أكد استعطاف ربه تعالى في غفران تلك الذنوب فأكد ذلك ونبه بقوله: وأنت خير الغافرين، ولما كان هو وأخوه عليهما السلام من المعصومين من الذنوب فحين سأل المغفرة له ولأخيه وسأل الرحمة لم يؤكد المغفرة بل قال: وأنت أرحم الراحمين، فنبه على أنه تعالى أرحم الراحمين. ألا ترى إلى قوله تعالى:
ورحمتي وسعت كل شيء
[الأعراف: 156]، وكان تعالى خير الغافرين لأن غيره يتجاوز عن الذنب طلبا للثناء أو الثواب أو دفعا للصفة الخسيسة عن القلب وهي صفة الحقد. والبارىء تعالى منزه عن أن يكون غفرانه لشىء من ذلك.
[7.156-158]
{ واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة } أي ما يحسن من نعمة وطاعة وغير ذلك وحسنة الآخرة هي الجنة لا حسنة دونها.
{ إنا هدنآ إليك } تعليل لطلب الغفران والرحمة. وقرأ الجمهور هدنا بضم الهاء من هاد يهود أي تبنا إليك، قاله ابن عباس: وقرأ زيد بن علي وأبو وجزة هدنا بكسر الهاء من هاد يهيد، إذا حرك أي حركنا أنفسنا وجذبناها لطاعتك. قال الشاعر:
قد علمت سلمى وجاراتها
أنى من الله لها هائد
أي مائل.
{ قال عذابي أصيب به من أشآء } الظاهر أنه استئناف اخبار عن عذابه ورحمته. ومفعول من أشاء محذوف تقديره أشاء إصابته به. وقرأ زيد بن علي والحسن وطاووس وعمرو بن فائد من أساء من الإساءة وقرأ بها سفيان بن عيينة مرة واستحسنها وذكر أن الشافعي رحمه الله صحف من أشاء بقوله: من أساء، ثم وجدت قراءة كما ذكرنا.
{ فسأكتبها } أي أقضيها وأقررها. والضمير عائد على الرحمة لأنها أقرب مذكور. وفهم المفسرون من قوله: الذين يتقون إلى آخر الأوصاف أن المتصفين بذلك هم أمة محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ الذين يتبعون الرسول } الآية هذا من بقية خطابه تعالى لموسى عليه السلام وفيه تبشير له ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم وذكر لصفاته وإعلام له أيضا أنه ينزل كتابا يسمى الإنجيل ومعنى الاتباع الاقتداء به فيما جاء به اعتقادا وقولا وفعلا. وجمع هنا بين الرسالة والنبوة لأن الرسالة في بني آدم أعظم شرفا من النبوة أو لأنها بالنسبة إلى الآدمي والملك أعم فبدأ به. والأمي الذي هو على صفة أمة العرب إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب. فأكثر العرب لا يكتب ولا يقرأ، وكونه عليه السلام أميا من جملة المعجز. ومعنى يجدونه أي يجدون وصفه ونعته. قال ابن عباس: يأمرهم بالمعروف، أي بخلع الأنداد وبمكارم والأخلاق وصلة الرحم.
{ ويحل لهم الطيبات } أي المستلذات ويبعد تفسيره هنا بالحلال.
{ ويحرم عليهم الخبآئث } وهي ما كانت العرب تستخبثه كالحية والعقرب والحشرات والدم والميتة ولحم الخنزير وما جاء في الشرع النهي عن أكله كذي مخلب من الطير وذي ناب من السباع وما أمر بقتله كالحدأة والغراب والفأرة والعقرب وغير ذلك.
{ ويضع عنهم إصرهم } تقدم تفسير الإصر في آخر البقرة.
{ والأغلال التي كانت عليهم } هذا مثل لما كلفوا من الأمور الصعبة كقطع موضع النجاسة من الجلد والثوب وإحراق الغنائم والقصاص حتما من القاتل عمدا كان أو خطأ وترك الاشتغال يوم السبت وتحريم العروق في اللحم.
{ فالذين آمنوا به وعزروه } أي أثنوا عليه ومدحوه. وقرىء وعزروه بالتخفيف. وقرىء: بزايين أي وعززوه. والنور القرآن، وهو على حذف مضاف أي أنزل مع نبوته لأن استنباءه كان مصحوبا بالقرآن مشفوعا به.
{ قل يأيها الناس } الآية لما ذكر تعالى لموسى عليه السلام صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأخبر أن من أدركه وآمن به أفلح أمر تعالى نبيه بإشهار دعوته ورسالته إلى الناس كافة والدعاء إلى الإيمان بالله وبرسوله وكلماته واتباعه ودعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة للإنس والجن وتقتضيه الأحاديث النبوية والذي في موضع نصب على المدح أو رفع. وأجاز الزمخشري أن يكون مجرورا صفة لله تعالى وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله: إليكم جميعا. وقال أبو البقاء: ويبعد أن يكون صفة لله تعالى أو بدلا منه لما فيه من الفصل بينهما بإليكم وبالحال، وإليكم متعلق برسول وجميعا حال من ضمير إليكم. وقال الزمخشري: لا إله إلا هو، بدل من الصلة التي هي له ملك السماوات والأرض وكذلك يحيي ويميت، وفي لا إله إلا هو بيان للجملة لأن من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقة. وفي يحيي ويميت بيان لاختصاصه بالألوهية لأنه لا يقدر على الإحياء والإماتة غيره. " انتهى ".
وإبدال الجمل من الجمل غير المشتركة في عامل لا نعرفه. وكان الزمخشري لاحظ أن كلا من الجملتين يصح أن يكون صلة. والظاهر أن تكون هذه جملا مستقلة من حيث الإعراب وان كان متعلقا بعضها ببعض من حيث المعنى.
{ فآمنوا بالله ورسوله } الآية لما ذكر أن رسول الله أمرهم بالإيمان بالله وبه وعدل عن ضمير المتكلم إلى الظاهر وهو التفات لما في ذلك من البلاغة فإنه هو النبي السابق ذكره في قوله: الذين يتبعون الرسول النبي الأمي وانه هو المأمور باتباعه الموجود بالأوصاف السابقة. والظاهر أن كلماته هي الكتب الإلهية التي أنزلت على من تقدمه وعليه، ولما كان الإيمان بالله تعالى هو الأصل يتفرع منه الإيمان بالرسول والنبي بدأ به ثم اتبعه بالإيمان بالرسول وبالنبي ثم اتبع ذلك بالإشارة إلى المعجز الدال على نبوته وهو كونه أميا وظهر عنه من المعجزات في ذاته ما ظهر من القرآن الجامع لعلوم الأولين والآخرين مع نشأته في بلد عار من أهل العلم لم يقرأ كتابا ولم يخط ولم يصحب عالما ولا غاب عن مكة غيبة تقتضي تعلما.
[7.159-162]
{ ومن قوم موسى } الآية لما أمروا بالإيمان بالله ورسوله وأمروا باتباعه ذكر أن من قوم موسى عليه السلام من وفق للهداية وعدل ولم يجر ولا تكون له هداية إلا باتباع شريعة موسى عليه السلام قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وباتباع شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مبعثه فهذا إخبار عمن كان من قوم موسى بهذه الأوصاف فكان المعنى أنهم كلهم لم يكونوا ضلالا بل كان منهم مهتد كعبد الله بن سلام وأصحابه.
{ وقطعناهم اثنتي عشرة } الآية، اثنتي عشرة حال. وأجاز أبو البقاء ان يكون قطعنا بمعنى صيرنا وأن ينتصب اثنتي عشرة على أنه مفعول ثان لقطعنا، ولم يعد النحويون قطعنا في باب ظننت وجزم به الحوفي فقال: اثنتي عشرة مفعول لقطعناهم أي جعلناهم اثنتي عشرة وتمييز اثنتي عشرة محذوف لفهم المعنى تقديره اثنتي عشرة فرقة وأسباطا بدل من اثنتي عشرة. وتقدم تفسير الاسباط في البقرة.
و { أمما } قال أبو البقاء: نعت لإسباط، أو بدل بعد بدل، ولا يجوز أن يكون إسباطا تمييزا لأنه جمع وتمييز هذا النوع لا يكون إلا مفردا.
{ وأوحينآ إلى موسى إذ استسقاه قومه أن اضرب بعصاك الحجر } تقدم تفسير نظيره في البقرة.
{ فانبجست } أي غرقت وانفجرت سالت. وقال الواحدي: الانجباس الانفجار. يقال: بجس وانبجس بمعنى واحد. وقال الزمخشري: أناس، إسم جمع غير تكسير نحو: رخاء وثناء وتؤام وأخوات لها. ويجوز أن يقال: أن الأصل الكسر والتكسير والضمة بدل من الكسر كما أبدلت في نحو: سكارى وغيارى. " انتهى ". لا يجوز ما قال لأن سيبويه نص في كتابه على أن فعالي جمع تكسير أصل كما أن فعالي كذلك ولم يسمع كسر همزة أناس كما سمع الضم في فعالي.
{ وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية } تقدمت هذه القصة وتفسيرها في البقرة وكان هذه مختصرة من تلك، إذ هناك وإذ قلنا ادخلوا، وهنا وإذ قيل لهم اسكنوا، وهناك رغدا، أو وسقط هنا، وهناك، وسنزيد، وهنا سنزيد، وهناك فأنزلنا على الذين ظلموا، وهنا فأرسلنا عليهم، وبينهما تغاير في بعض الألفاظ لا تناقض فيه بقوله: وإذ قيل لهم، وهناك وإذ قلنا، فهنا حذف الفاعل للعلم به وهو الله تعالى، وهناك ادخلوا، وهنا اسكنوا، والسكنى ضرورة فتعقب الدخول فأمروا هناك بمبدأ الشىء، وهنا بما تسبب عن الدخول، وهناك فكلوا بالفاء، وهنا بالواو، فجاءت الواو على أحد محتملاتها من كون ما بعدها وقع بعدما قبلها. وقيل: الدخول حالة منقضية فحسن ذكر فاء التعقيب بعده. والسكنى حالة مستمرة فحسن الأمر بالأكل معه لا عقبيه فحسنت الواو الجامعة للأمرين في الزمن الواحد وهو أحد محاملها.
وقيل: ثبت رغدا بعد الأمر بالدخول لأنها حالة قدوم فالأكل فيها ألذ وأتم وهم إليه أحوج بخلاف السكنى فإنها حالة استقرار واطمئنان فليس الأكل فيها ألذ ولا هم أحوج إليه. وأما التقديم والتأخير في قوله: وقولوا وادخلوا، فقال الزمخشري: سواء قدموا الحطة على دخول الباب أو أخروها فهم جامعون في الإيجاد بينهما. " انتهى ". وقوله: سواء قدموا وأخروها، تركيب غير عربي وإصلاحه سواء أقدموا أم أخروها، كما قال تعالى:
سوآء علينآ أجزعنآ أم صبرنا
[إبراهيم: 21]. ويمكن أن يقال ناسب تقديم الأمر بدخول الباب سجدا مع تركيب ادخلوا هذه القرية لأنه فعل دال على الخضوع والذلة وحطة قول والفعل أقوى في إظهار الخضوع من القول فناسب أن يذكر مع مبدأ الشىء وهو الدخول ولأن قبله ادخلوا فناسب الأمر بالدخول للقرية الأمر بدخول بابها على هيئة الخضوع، ولأن دخول القرية لا يمكن إلا بدخول بابها فصار باب القرية كأنه بدل من القرية أعيد معه العامل بخلاف الأمر بالسكنى. وأما سنزيد هنا فقال الزمخشري: موعد بشيئين بالغفران والزيادة، وطرح الواو لا يخل بذلك لأنه استئناف مرتب على تقدير قول القائل: وماذا بعد الغفراء. فقيل له: سنزيد المحسنين. وزيادة منهم بيان وأرسلنا وأنزلنا ويظلمون ويفسقون من واد واحد. وقرأ الحسن حطة بالنصب على المصدر أي حط ذنوبنا حطة ويجوز أن ينتصب يقولوا على حذف التقدير، وقولوا قولا حطة أي ذا حطة. فحذف واو صار حطة وصفا للمصدر المحذوف، كما تقول: قلت حسنا قلت حقا أي قولا حسنا وقولا حقا.
[7.163-166]
{ وسئلهم عن القرية } الآية، الضمير في اسألهم عائد على من بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم من اليهود. وذكر أن بعض اليهود المعارضين للرسول قالوا له: لم يكن من بني إسرائيل عصيان ولا معاندة لما أمروا به فنزلت الآية موبخة لهم ومقررة كذبهم ومعلنة بما جرى على إسلافهم من الإهلاك والمسخ وكانت اليهود تكتم هذه القصة فهي مما لا يعلم إلا بكتاب أو وحي من الله تعالى فإذا أغلمهم بها من لم يقرأ كتابهم علم أنه من جهة الوحي. وقوله: عن القرية، فيه حذف أي عن أهل القرية. والقرية هي ايلة. وقيل: طبرية، قاله ابن عباس وجماعة. ومعنى حاضرة البحر أي بغرب البحر مبنية على بشاطئه. ويحتمل أن يريد معنى الحضارة على جهة التعظيم لها أي هي الحاضرة في قرى البحر فالتقدير حاضرة قرى البحر أي تحضر أهل قرى البحر إليها لبيعهم وشرائهم وحاجتهم.
{ إذ يعدون في السبت } أي يجاوزون أمر الله تعالى في العمل يوم السبت وقد تقدم منه تعالى النهي عن العمل فيه والاشتغال بعبيد أو غيره إلا أنه في هذه النازلة كان عصيانهم أي حدث عصيانهم. وقرىء: يعدون من الاعداد وكانوا يعدون آلات الصيد يوم السبت وهم مأمورون بأن لا يشتغلوا فيه بغير عبادة الله تعالى وإذ ظرف والعامل فيه. قال الحوفي: إذ متعلقة بسلهم. " انتهى ". ولا يتصور لأن إذ ظرف لما مضى وسلهم مستقبل ولو كان ظرفا مستقبلا لم يصح المعنى لأن العادين وهم أهل القرية متقدمون فلا يمكن سؤالهم والمسؤول غير أهل القرية العادين. وقال الزمخشري في إذ يعدون بدل من القرية والمراد بالقرية أهلها كأنه قيل: وسلهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في السبت وهو من بدل الاشتمال وهذا لا يجوز لأن إذ من الظروف التي لا تتصرف ولا يدخل عليها حرف جر وجعلها بدلا يجوز دخول عن عليها لأن البدل هو على نية تكرار العامل ولو أدخلت عن عليها لم يخسر وإنما تصرف فيها بأن أضيف إليها بعض الظروف الزمانية، نحو: يوم إذ كان كذا. وأما قول من ذهب إلى أنها يتصرف فيها بأن تكون مفعول باذكر فهو قول من عجز عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفا والعامل في إذ محذوف تقديره وسلهم عن قصة أهل القرية وقت عدوهم.
و { إذ تأتيهم } العامل في إذ يعدون أي إذ عدوا في السبت إذ أتتهم، لأن إذ ظرف لما مضى يصرف المضارع للمضي. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون بدلا بعد بدل. " انتهى ". يعني بدل من القرية بعد بدل إذ يعدون، وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز.
{ شرعا } ظاهره الواحد شارع والعامل في يوم قوله: لا تأتيهم، وفيه دليل على أن ما بعد لا للنفي يعمل فيما قبلها وفيه ثلاثة مذاهب الجواز مطلقا والمنع مطلقا والتفصيل بين أن نكون لا جواب قسم فيمنع أو غير ذلك فيجوز وهو الصحيح.
{ كذلك } أي مثل ذلك البلاء بأمر الحوت.
{ نبلوهم } أي بلوناهم وامتحناهم.
{ وإذا قالت أمة منهم } أي جماعة من أهل القرية من صلحائهم الذين جربوا الوعظ فيهم فلم يروه يجدي. والظاهر أن القائل غير المقول لهم.
{ لم تعظون قوما } فيكونون ثلاث فرق فرقة اعتدوا، وفرقة وعظت ونهت، وفرقة اعتزلت فلم تنه ولم تعتد وهذه الطائفة هي القائلة للواعظة لم تعظون قوما.
وقرىء: { معذرة } بالرفع أي موعظتنا إقامة عذر إلى الله تعالى وقرىء: معذرة بالنصب. وقال أبو البقاء: من نصب فعلى المفعول له أي وعظناهم للمعذرة. وقيل: هو مصدر أي يعتذرون معذرة، وقالها الزمخشري:
{ فلما نسوا ما ذكروا به } الضمير في نسوا للمنهيين أي تركوا ما ذكرهم به الصالحون وجعل الترك نسيانا مبالغة إذ أقوى أحوال الترك أن ينسى المتروك وما موصولة بمعنى الذي والسوء عام في المعاصي وبحسب القصص يختص هنا بصيد الحوت.
و { الذين ظلموا } هم العاصون نبه على العلة في أخذهم وهي الظلم. وقرىء: بيس على وزن فعل وبالهمز، وبئيس على وزن فعيل، وبيئس على وزن فيعل هذه المشهورات. وفي البحر ذكر اثنين وعشرين قراءة.
{ فلما عتوا عن ما نهوا عنه } أي استعصوا والعتو الاستعصاء والتأني في الشىء وباقي الآية تقدم تفسيره في البقرة. والظاهر أن العذاب والمسخ والهلاك إنما وقع بالمعتدين في السبت والأمة القائلة لم تعظون قوما هم من فريق الناهين الناجين وإنما سألوا إخوانهم عن علة وعظهم وهو لا يجدي فيهم شيئا البتة.
[7.167-170]
{ وإذ تأذن ربك } الآية لما ذكر تعالى قبح أفعالهم واستعصائهم أخبر تعالى أنه حكم عليهم بالذل والصغار إلى يوم القيامة تأذن أعلم من الأذن وهو الإعلام وأجرى مجرى القسم فتلقى بما يتلقى به القسم وهو قوله: ليبعثن.
{ إن ربك لسريع العقاب } اخبار يتضمن سرعة إيقاع العذاب بهم.
{ وإنه لغفور رحيم } ترجية لمن آمن منهم ومن غيرهم ووعد لمن تاب منهم وأصلح.
{ وقطعناهم في الأرض أمما } أي فرقا متباينين في أقطار الأرض فقل أرض لا يكون فيها منهم شرذمة وهذا حالهم وهم في كل مكان تحت الصغار والذلة وأمما حال.. وقال الحوفي: مفعول ثان. وتقدم قوله هذا في وقطعناهم اثنتي عشرة والصالحون من آمن منهم أي بعيسى ومحمد عليهما السلام أو من آمن بالمدينة، وذلك إشارة إلى الصلاح أي ومنهم قوم دون أهل الصلاح لأنه لا يعتدل التقسيم الأعلى هذا التقدير من حذف مضاف أو يكون ذلك المعني به أولئك فكأنه قال: ومنهم قوم دون أولئك. وقد ذكر النحويون أن اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع فيكون ذلك بمعنى أولئك على هذه اللغة ويعتدل التقسيم ودون ظرف في موضع الصفة لمبتدأ محذوف خبره في المجرور قبله أي ومنهم قوم دون ذلك. قال ابن عطية: فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون بمعنى غير يراد بها الكفرة. " انتهى ". ان أراد أن دون ترادف غيرا بهذا ليس بصحيح وإن أراد أنه يلزم ممن كان دون شىء أن يكون غيرا فصحيح.
{ وبلوناهم بالحسنات } أي بالصحة والرخاء والسعة.
{ والسيئات } مقابلاتها.
{ لعلهم يرجعون } إلى الطاعة ويتوبون عن المعصية.
{ فخلف من بعدهم خلف } قال ثعلب: الناس كلهم يقولون خلف صدق للصالح وخلف سوء للطالح. ومنه قول الشاعر:
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
وبقيت في خلف كجلد الأجرب
{ ورثوا الكتب } التوراة بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرؤنها ويفتون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحليل والتحريم ولا يعملون بها.
و { عرض هذا الأدنى } هو ما يأخذونه من الرشا والمكاسب الخبيثة. والعرض ما يعرض ولا يثبت. وفي قوله: عرض هذا الأدنى، تخسيس لما يأخذونه وتحقير له.
{ سيغفر لنا } قطع على الله تعالى بغفران معاصيهم أي لا يؤاخذنا الله بذلك ولنا في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله. تقول: غفر لزيد الذنب فتحذف الفاعل والمفعول وتقيم المجرور مقام الفاعل فتقول: لزيد.
{ وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه } الظاهر أن هذا استئناف اخبار عنهم بانهماكهم في المعاصي أي وإن أمكنتهم الرشا والمكاسب الخبيثة لم يتوقفوا عن أخذها ثانية ودائما فهم مصرون على المعاصي.
{ ألم يؤخذ عليهم ميثق الكتب } الآية، هذا توبيخ وتقريع لما تضمنه الكتاب من أخذ الميثاق أنهم لا يكذبون على الله تعالى قال ابن زيد: كان يأتيهم المحق برشوة فيخرجون له كتاب الله فيحكمون له به فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له به.
و { أن لا يقولوا } في موضع رفع على البدل من ميثاق الكتاب.
{ ودرسوا } معطوف على قوله: ألم يؤخذ، وفي ذلك أعظم توبيخ وتقريع وهو أنهم كرروا على ما في الكتاب وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على الله تعالى.
{ والدار الآخرة } أي ولثواب دار الآخرة خير من تلك الرشوة الخبيثة الخسيسة المعقبة خزي الدنيا والآخرة.
{ والذين يمسكون } قرىء: بالتشديد والتخفيف أي يتمسكون بالكتاب أي بما تضمنه من حلال وحرام وعبادة والتمسك بالكتاب يستلزم إقامة الصلاة لكنها أفردت بالذكر تعظيما لشأنها لأنها عماد الدين والصلة بين العبد وربه والذين استئناف اخبار وهو مبتدأ خبره انا لا نضيع إلى آخره والرابط بينهما العموم في المصلحين أو ضمير محذوف تقديره المصلحين منهم.
[7.171-175]
{ وإذ نتقنا الجبل فوقهم } النتق الجذب بقوة. وفسره بعضهم بغايته وهو القلع. وتقول العرب: نتقت الزبدة من فم القرية، والنات الرحم الذي تقلع الولد من الرجل. وقال النابغة في الذبياني:
لم يحرموا حسن العزاء وأمهم
طفحت عليك بناتق مذكار
وفوقهم العامل فيه نتقنا ضمن معنى رفعنا بالنتق الجبل فوقهم كقوله تعالى:
ورفعنا فوقهم الطور
[النساء: 154].
{ كأنه ظلة } في موضع الحال من الجبل والظلة هنا معناها الغمامة.
{ وظنوا } هنا باقية على بابها من ترجيح أحد الجائزين.
{ خذوا مآ ءاتينكم بقوة } تقدم تفسير هذه الجملة في البقرة.
{ وإذ أخذ ربك من بني ءادم } الآية، قال الزمخشري: هذا من باب التمثيل والتخييل ومعنى ذلك أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركبها فيهم وجعلها مميزة بين الضلالة والهدى فكأنه سبحانه أشهدهم على أنفسهم وقررهم. وقال: ألست بربكم، وكأنهم قالوا: بلى أنت ربنا شهدنا على أنفسنا وأقررنا بوحدانيتك. وباب التمثيل واسع في كلام الله تعالى ورسوله وفي كلام العرب ومعلوم أنه لا قول ثم وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى. " انتهى ". ومفعول أخذ ذرياتهم ويحتمل في قراءة الجمع أن يكون مفعول أخذ محذوفا لفهم المعنى وذرياتهم بدل من ضمير ظهورهم كما أن من ظهورهم بدل من قوله: من بني آدم، والمفعول المحذوف هو الميثاق كما قال:
وأخذنا منهم ميثاقا غليظا
[النساء: 154]. وتقدير الكلام في وإذ أخذ ربك، من ظهور ذريات بني آدم ميثاق التوحيد وإفراده بالعبادة واستعار أن يكون الميثاق من الظهر كان الميثاق لصعوبته وللإرتباط به والوقوف عنده شىء ثقيل يحمل على الظهر. الست دخلت همزة الاستفهام على النفي فصار معناها التقرير وهذا النوع من التقرير يجاب بما يجاب به النفي الصريح، فإذا قلت: ألست من بنى فلان؟ أجيب ببلى. ومعناه أنت من بني فلان؟ فكذلك أجيب ببلى، ومعناه أنت ربنا.
{ شهدنآ } الظاهر أن الضمير لله تعالى.
{ عن هذا } الإشارة إلى الميثاق والإقرار بالربوبية.
{ أو تقولوا إنمآ أشرك آباؤنا } وقرىء: أو تقولوا بالتاء والياء، المعنى أن الكفرة لو لم يؤخذ عليهم عهد ولا جاءهم رسول مذكر بما تضمنه العهد من توحيد الله تعالى وعبادته لكانت لهم حجتان أحديهما كنا غافلين والأخرى كنا تبعا لأسلافنا فكيف تعذب لذلك والذنب إنما هو لمن طرق لنا وأضلنا فوقعت الشهادة لتنقطع عنهم الحجج.
{ أفتهلكنا بما فعل المبطلون } هذا من تمام القول الثاني أي كانوا السبب في شركنا لتأسيسهم الشرك وتقدمهم فيه وتركه سنة لنا.
{ وكذلك نفصل الآيات } أي مثل هذا التفصيل الذي فصلنا فيه الآيات السابقة نفصل الآيات اللاحقة.
{ ولعلهم يرجعون } عن شركهم وعبادة غير الله إلى توحيده وعبادته.
{ واتل عليهم نبأ الذي ءاتيناه ءاياتنا } قال الجمهور: هو بلعام وهو رجل كنعاني أوتي بعض كتب الله تعالى والإنسلاخ من الآيات مبالغة في البتري والبعد أي لم يعمل بما اقتضته نعمتنا عليه.
وقرأ الجمهور: { فأتبعه الشيطان } من اتبع رباعيا أي لحقه وصار معه وهي مبالغة في حقه إذ جعل كأنه هو إمام للشيطان يتبعه وكذلك فاتبعه شهاب ثاقب أي عدا ورآه.
[7.176-179]
{ ولو شئنا لرفعناه بها } أي لو أردنا أن نشرفه ونرفع قدره بما آتيناه من الآيات لفعلنا.
{ ولكنه أخلد إلى الأرض } أي ترامى إلى شهوات الدنيا ورغب فيها واتبع ما هو ناشىء عن الهوى وجاء الاستدراك هنا تنبيها على السبب الذي لأجله لم يرفع ولم يشرف كما فعل بغيره ممن أوتي الهدى فآثره واتبعه. وأخلد معناه رمى بنفسه إلى الأرض أي ما فيها من الملاذ والشهوات، قاله ابن عباس. قال الزمخشري: وكان حق الكلام أن يقال: ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض فحططناه ووضعنا منزلته، فوقع قوله: فمثله كمثل الكلب فوضع فحططناه أبلغ حط لأن تمثيله بالكلب في أخس أحواله وأذلها في معنى ذلك. انتهى قوله: وكان حق الكلام إلى آخره سوء أدب على كلام الله تعالى. وأما قوله: فوقع قوله فمثله إلى آخره فليس واقعا موقع ما ذكر ولكن قوله: ولكنه أخلد إلى الأرض وقع موقع فحططناه، إلا أنه تعالى لما ذكر الإحسان إليه أسند ذلك إلى ذاته الشريفة فقال: آتيناه، ولو شئنا لرفعناه بها. ولما ذكر ما هو في حق الشخص إساءة أسنده إليه، فقال: فانسلخ منها. وقال: ولكنه أخلد إلى الأرض وهو تعالى في الحقيقة هو الذي سلخه من الآيات وأخلده إلى الأرض فجاء على حد قوله
فأردت أن أعيبها
[الكهف: 79]، وقوله:
فأراد ربك
[الكهف: 82] في نسبة ما كان حسنا إلى الله ونسبة ما كان بخلافه إلى الشخص.
{ فمثله كمثل الكلب } أي فصفته أن تحمل عليه الحكمة لم يحملها وإن تركته لم يحملها كصفة الكلب إن كان مطرودا لهث وإن كان رابضا لهث، قال ابن عباس: وهذه الجملة الشرطية في موضع الحال أي لاهثا في الحالتين، قاله الزمخشري وأبو البقاء وتفسيرهما لاهثا من حيث المعنى لا أن جملة الشرط هي الحال.
{ ذلك مثل القوم } أي ذلك الوصف وصف.
{ الذين كذبوا بآياتنا } صفتهم كصفة الكلب لاهثا في الحالتين فكما شبه وصف المؤتى الآيات المنسلخ منها بالكلب في أخس حالاته كذلك شبه به المكذبون بالآيات حيث أوتوها وجاءتهم واضحات تقتضي التصديق بها فقابلوها بالتكذيب وانسلخوا منها.
{ سآء } بمعنى بئس وتقدم لنا أن أصلها التعدي، تقول: ساءني الشيء يسوءني. ثم لما استعملت استعمال بئس بنيت على فعل وجرت عليها أحكام بئس ومثلا تمييز للمضمر المستكن في ساء فاعلا وهو مفسر بهذا التمييز وهو من الضمائر التي يفسرها ما بعدها ولا بد أن يكون المخصوص بالذم من جنس التمييز فاحتيج إلى تقدير حذف اما في التمييز أي ساء أصحاب مثل القوم وأما في المخصوص أي ساء مثلا مثل القوم. وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة.
{ من يهد الله فهو المهتدي } الآية، لما تقدم ذكر المهتدين والضالين أخبر تعالى أنه هو المتصرف فيهم بما شاء من هداية وضلال وتقرر من مذهب أهل السنة أنه تعالى هو خالق الهداية والضلال في العدو من شرطية مفعولة بيهد وحمل على لقطها في الجواب، وهو قوله: فهو المهتدي ومن الثانية كذلك وحمل على معناها في الجواب، في قوله: فأولئك فناسب الأفراد هناك لأن المهتدي قليل وناسب الجمع في الثانية لأن الضالين كثير.
{ ولقد ذرأنا لجهنم } الآية، هذا إخبار منه تعالى بأنه خلق لجهنم كثيرا من الصنفين، ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أنه هو الهادي وهو المضل أعقبه بذكر من خلق للخسران والنار وذكر من أوصافهم ما ذكر وفي ضمنه وعيد الكفار. والمعنى لعذاب جهنم واللام للصيرورة على قول من أثبت لها هذا المعنى، ولما كان مآلهم إليها جعل ذلك سببا على جهة المجاز.
{ لهم قلوب لا يفقهون بها } الآية لما كانوا لا يتدبرون شيئا من الآيات ولا ينظرون إليها نظر اعتبار ولا يسمعونها سماع تفكر جعلوا كأنهم نقدوا الفقه بالقلوب والابصار بالعيون والسماع بالآذان وليس المراد نفي هذه الإدراكات عن هذه الحواس وإنما المراد نفي الانتفاع بها فيما طلب منهم من الإيمان.
{ أولئك كالأنعام } في عدم الفقه في العواقب والنظر للاعتبار والسماع للتفكر ولا يهتمون بغير الأكل والشرب.
{ بل هم أضل } بل للاضراب وليسوا بطالا بل هو انتقال من حكم، وهو التشبيه بالأنعام إلى حكم آخر وهو كونهم أضل من الانعام.
{ أولئك هم الغافلون } هذه الجملة بين تعالى بها سبب كونهم أضل من الانعام وهو الغفلة عما أعد الله تعالى لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب.
[7.180-186]
{ ولله الأسمآء الحسنى } الآية قال مقاتل: دعا رجل الله تعالى في صلاته ومرة دعا الرحمن. فقال أبو جهل: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو اثنين فنزلت. ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه ذرأ كثيرا من الإنس والجن للنار ذكر نوعا منهم وهم الذين يلحدون في أسمائه وهم أشد الكفار عتيا أبو جهل وأضرابه. والحسنى هنا تأنيث الأحسن ووصف الجمع المكسر الذي لا يعقل بما وصف به الواحد كقوله تعالى:
ولي فيها مآرب أخرى
[طه: 18]، وهو فصيح ولو جاء على المطابقة للجمع لكان التركيب الحسن على وزن الآخر كقوله تعالى:
فعدة من أيام أخر
[البقرة: 184] لأن جمع ما لا يعقل يخبر عنه ويوصف بجمع المؤنثات وإن كان المفرد مذكرا. قال ابن عطية: والأسماء هنا بمعنى التسميات إجماعا من المتأولين لا يمكن غيره. " انتهى ". ولا تحرير فيما قال لأن التسمية مصدر والمراد هنا الألفاظ التي تطلق على الله تعالى وهي الأوصاف الدالة على تغاير الصفات لا تغاير الموصوف كما تقول: جاء زيد الفقيه الشجاع الكريم، وكون الاسم الذي أمر تعالى أن يدعي به حسنا هو ما قدره الشرع ونص عليه في إطلاقه على الله تعالى. ومعنى فادعوه بها، أي نادوه بها كقوله: يا الله، يا رحمن، يا رحيم، يا مالك، وما أشبه ذلك. يقال: لحد وألحد بمعنى واحد لغتان وهو العدول عن الحق والإدخال فيه ما ليس منه. قال ابن السكيت: ومعنى يلحدون في أسمائه أي يقولون بجهلهم يا أبا المكارم يا أبيض الوجه يا سخي وغير ذلك من الأسماء التي لم يثبت في الشرع إطلاقها على الله تعالى.
و { سيجزون } وعيد شديد.
واندرج على قوله:
{ ما كانوا يعملون } الإلحاد في أسمائه وسائر أفعالهم القبيحة.
{ وممن خلقنآ أمة } الآية لما ذكر تعالى من ذرأه للنار ذكر مقابلهم وفي لفظة وممن دلالة على التبعيض وان المعظم من المخلوقين ليسوا هداة إلى الحق ولا عاد ليمن به.
{ سنستدرجهم } قال أبو عبيدة: الاستدراج، أن تدرج إلى الشىء في خفية قليلا قليلا ولا تهجم عليه وأصله من الدرجة وذلك أن الرامي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة، ومنه درج الكتاب طواه شيئا بعد شىء، ودرج القوم ماتوا بعضهم في أثر بعض.
{ من حيث لا يعلمون } قيل: بالاستدراج أو بالهلاك. وقال الأعشى في الاستدرج:
فلو كنت في جب ثمانين قامة
ورقيت أسباب السماء بسلم
ليستدرجنك القول حتى تهزه
وتعلم أني عنكم غير فهم
{ وأملي لهم } معطوف على سنستدرجهم فهو داخل في الاستقبال وهو خروج من ضمير المتكلم بنون العظمة إلى ضمير تكلم المفرد والمعنى أؤخره حلاوة من الدهر أي مدة فيها طول.
والملاوة بفتح الميم وضمها وكسرها ومنه واهجرني مليا أي طويلا وسمي فعله ذلك بهم كيدا لأنه شبيه بالكيد من حيث أنه في الظاهر إحسان وفي الحقيقة خذلان والمتين من كل شىء القوي. يقال: متن متانة.
{ أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } قال الحسن وقتادة: سبب نزولها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد ليلة على الصفا فجعل يدعو قبائل قريش يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم ويدعوهم إلى الله تعالى، فقال بعض الكفار حين أصبحوا: هذا مجنون بات يصوت إلى الصباح. وكانوا يقولون: شاعر مجنون، فنفى الله عز وجل عنه ما قالوه ثم أخبر أنه محذر من عذاب الله. والآية باعثة لهم على التفكر في أمره عليه السلام وانتفاء الجنة عنه وهذا الاستفهام قيل معناه التوبيخ. وقيل: معناه التحريض على التأمل، والجنة: الجن، والمعنى من مس جنة أو من تخبط جنة، والظاهر أن يتفكروا معلق على الجملة المنفية وهي في موضع نصب بيتفكروا بعد إسقاط حرف الجر لأن التفكر من أفعال القلوب فيجوز تعليقه. والمعنى أو لم يتأملوا أو يتدبروا في إسقاط هذا الوصف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه منتف عنه لا محالة ولا يمكن لم أمعن الفكر أن ينسب ذلك إليه.
{ أولم ينظروا في ملكوت السموت والأرض } الآية، لما خصهم على التفكر في حال الرسول صلى الله عليه وسلم وكان مفرعا على تقرير دلائل التوحيد أعقبه بما يدل على التوحيد وجود الصانع الحكيم والملكوت الملك العظيم. وتقدم شرح ذلك في الانعام ولم يقتصر على ذكر النظر في الملكوت بل نبه على أن كل فرد من الموجودات محل النظر والاعتبار والاستدلال على الصانع ووحدانيته كما قيل: وفي كل شىء له آية تدل على أنه واحد.
{ وأن عسى } الآية أن هي المخففة من الثقيلة واسمها محذوف ضمير الشأن وخبرها عسى وما تعلقت به وقد وقع خبرا لها الجملة غير الخبرية في مثل هذه الآية وفي مثل والخامسة أن غضب الله عليها، فغضب الله عليها جملة دعاء وهي غير خبرية. وأجاز أبو البقاء أن تكون ان هي المخففة من الثقيلة وأن تكون مصدرية يعني أن تكون الموضوعة على حرفين وهي الناصبة للفعل المضارع وليس بشيء لأنهم نصوا على أنها توصل بفعل متصرف مطلقا يعنون ماضيا ومضارعا وأمرا فشرطوا فيه التصرف. وعسى فعل جامد فلا يجوز أن يكون صلة لأن، وعسى هنا تامة وأن يكون فاعل بها نحو قولك: عسى أن يقدم زيد، واسم يكون قال الحوفي: أجلهم وقد اقترب الخبر. وقال الزمخشري وغيره: إسم يكون ضمير الشأن فيكون قد اقترب أجلهم في موضع نصب في موضع خبر يكون وأجلهم فاعل باقترب وما أجازه الحوفي فيه خلاف.
{ فبأي حديث بعده يؤمنون } معنى هذه الجملة وما قبلها توقيفهم وتوبيخهم على أنه لم يقع منهم نظر ولا تدبر في شىء من ملكوت السماوات والأرض ولا في مخلوقات الله تعالى ولا في اقتراب آجالهم، ثم قال: فبأي حديث أو أمر يقع إيمانهم وتصديقهم إذ لم يقع بأمر فيه نجاتهم ودخولهم الجنة. ونحوه قال الشاعر:
فغن أي نفس بعد نفسي أقاتل
والمعنى إذا لم أقاتل عن نفسي فكيف أقاتل عن غيرها.
{ من يضلل الله فلا هادي له } نفي نفيا عاما أن يكون هاد لمن أضله الله تعالى فتضمن اليأس من إيمانهم والمقت لهم.
{ ويذرهم في طغيانهم يعمهون } قرىء ونذرهم بالنون ورفع الراء. وقرىء ويذرهم بالياء ورفع الراء، وهو استئناف اخبار قطع الفعل أو أضمر قبله ونحن فيكون جملة إسمية. وقرىء: ونذرهم بالنون والجزم على أنه مجزوم عطفا على محل فلا هادي له، فإنه في موضع جزم جوابا للشرط. والجملة من يذرهم تقدم تفسيره في أوائل البقرة فأغنى عن إعادته.
[7.187-188]
{ يسألونك عن الساعة } الآية، قال ابن عباس: الضمير لليهود. قل حسل بن أبي قشير وشمويل بن زيد: ان كنت نبيا فأخبرنا بوقت الساعة فإنا نعرفها فإن صدقت آمنا بك، فنزلت. ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر التوحيد والنبوة والقضاء والقدر أتبع ذلك بذكر المعاد، وأيضا فلما تقدم قوله:
وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم
[الأعراف: 185] وكان ذلك باعثا لهم على المبادرة إلى التوبة أتى بالسؤال عن الساعة ليعلم أن وقتها مكتوم عن الخلق فيكون ذلك سببا للمسارعة إلى التوبة والساعة القيامة موت من كان حينئذ حيا وبعث الجميع يقع عليه اسم الساعة واسم القيامة والساعة من الأسماء الغالبة كالنجم للثريا. ومرساها مصدر أي متى إرساؤها أي إثباتها وإقرارها والرسو ثبات الشيء الثقيل ومنه رسا الجبل، وأرسيت السفينة، والمرسا المكان الذي ترسو فيه. وقال الزمخشري: مرساها إرساؤها أو وقت إرسائها أي إثباتها وإقرارها. " انتهى ". وتقديره وقت إرسائها ليس بجيد لأن إبان اسم استفهام عن الوقت فلا يصح أن يكون خبرا عن الوقت إلا بمجاز لأنه يكون التقدير في أي وقت وقت إرسائها وأيان مرساها مبتدأ وخبر. وحكى ابن عطية عن المبرد أن مرساها مرتفع بإضمار فعل ولا حاجة إلى هذا الإضمار. وإيان مرساها جملة استفهامية في موضع البدل من الساعة، والبدل على نية تكرار العامل وذلك العامل معلق عن العمل لأن الجملة فيها استفهام، ولما علق الفعل وهو يتعدى بعن صارت الجملة في موضع نصب على إسقاط حرف الجر فهو بدل في الحقيقة على موضع عن الساعة لأن موضع الخبر نصب.
{ قل إنما علمها عند ربي } أي الله تعالى استأثر بعلمها ولما كان السؤال عن الساعة عموما ثم خصص بالسؤال عن وقتها جاء الجواب عموما عنها بقوله: قل انما علمها عند ربي ثم خصصت من حيث الوقت فقيل: لا يجليها لوقتها إلا هو وعلم الساعة من الخمس التي نص عليها من الغيب أنه لا يعلمها الا هو تعالى، والمعنى لا يكشفها ولا يظهرها لوقتها الذي قدر أن تكون فيه إلا هو.
{ ثقلت في السموت والأرض } قال السدي: معنى ثقلت خفيت في السماوات والأرض فلا يعلم أحد من الملائكة المقربين والأنبياء والمرسلين ما تكون وما خفي أمره ثقل على النفوس. " انتهى ".
{ لا تأتيكم إلا بغتة } أي فجأة على غفلة منكم وعدم شعور بمجيئها.
{ كأنك حفي عنها } متعلق بيسئلونك والحفاوة الاعتناء بالشىء وتتعدى بالباء، فالمعنى حفى بها أي معتن بها وبالسؤال عن حالها.
{ قل لا أملك لنفسي } الآية، قال ابن عباس: قال أهل مكة: ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فتشتري فتربح، وبالأرض التي تجدب فترحل عنها إلى ما هي أخصب.
فنزلت. ووجه مناسبتها لما قبلها ظاهر جدا وهذا منه عليه السلام إظهار للعبودية فانتفاء عما يختص بالربوبية من القدر وعلم الغيب ومبالغة في الاستسلام فلا أملك لنفسي اجتلاب نفع ولا دفع ضر.
{ ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير } أي لكانت حالي على خلاف ما هي عليه من استكثار الخير واستغزار المنافع واجتناب السوء والمضار حتى لا يمسني شيء منها. وظاهر قوله: ولو كنت أعلم الغيب، انتفاء العلم عن الغيب على جهة عموم الغيب. كما روي عنه عليه السلام: لا أعلم ما وراء هذا الجدار إلا أن يعلمنيه ربي. بخلاف ما يذهب إليه هؤلاء الذين يدعون الكشف وانهم بتصفية نفوسهم يحصل لهم اطلاع على المغيبات واخبار بالكوائن التي تحدث وما أكثر ادعاء الناس لهذا الأمر وخصوصا في ديار مصر حتى أنهم لينسبون ذلك إلى رجل متضمخ بالنجاسة يظل دهره لا يصلي ولا يستنجي من نجاسة ويكشف عورته للناس حين يبول وهو عار من العلم والعمل الصالح فلا حول ولا قوة إلا بالله.
[7.189-193]
{ هو الذي خلقكم من نفس واحدة } مناسبتها لما قبلها أنه لما تقدم سؤال الكفار عن الساعة ووقتها وكان فيهم من لا يؤمن بالبعث ذكر ابتداء خلق الإنسان وإنشاءه تنبيها على أن الإعادة ممكنة كما أن الإنشاء ممكن. وتقدم تفسير نظيرها.
{ ليسكن إليها } أي ليطمئن ويميل إليها ولا ينفر عنها، لأن الجنس إلى الجنس أميل وآنس به. وإذا كان منها على حقيقته فالسكون والمحبة أبلغ كما يسكن الإنسان إلى ولده ويحبه محبة نفسه أو أثر لكونه بعضا منه. وأنث في قوله: منها ذهابا، إلى لفظ النفس، ثم ذكر في قوله: ليسكن، حملا على معنى النفس ليبين أن المراد بها الذر آدم أو غيره، وكان الذكر هو الذي يسكن إلى الأنثى ويتغشاها فكان التذكير أحسن طباقا للمعنى.
{ فلما تغشاها } التغشي والغشيان كناية عن الجماع. ومعنى الخفة أنها لم تلق به من الكرب ما يعرض لبعض الحبالى، وحملا مصدر أو أن يكون ما في البطن. والحمل بفتح الحاء ما كان في بطن أو على رأس شجرة، بالكسر ما كان على ظهر أو على رأس غير شجرة.
{ فمرت به } قال الحسن: استمرت به أو فمضت به إلى وقت ميلاده من غير إخراج ولا إزلاق.
{ فلمآ أثقلت } أي دخلت في الثقل، كما تقول: أصبح وأمسى. أو صارت ذا ثقل كما تقول: أثمر الرجل وألبن إذا صار ذا ثمر ولبن.
{ دعوا الله ربهما } أي مالك أمرهما. ومتعلق الدعاء محذوف يدل عليه جملة جواب القسم أي دعوا الله ورغبا إليه في أن يؤتيهما صالحا ثم أقسما على أنهما يكونان من الشاكرين أن آتاهما صالحا. وقال الزمخشري: في الكلام محذوف تقديره جعل أولادهما شركاء فيما آتاهما بدليل: فتعالى الله عما يشركون، فجمع لأن آدم وحواء معصومان عن الشرك فتعين أن المراد أولادهما. وقرأ السلمى عما تشركون بالتاء خطاب للكفار وكذلك الياء. وتمت قصة آدم وحواء عند قوله: فيما آتاهما، ثم استأنف تنزيه الله تعالى وتقدسيه عما وقع من الكفار من الإشراك بالله، ويدل عليه انتقال الكلام من قصة آدم وحواء إلى حال الكفار الآيات الجائية بعد هذا وهو قوله: أيشركون، الآية، وصدر الآية في قوله: هو الذي خلقكم، إذ ضمير الخطاب يشمل المشركين وغيرهم ومنصب آدم عليه السلام منزه عن أن يجعل لله شريكا إذ هو نبي مرسل مكلم. وقرىء: شركا بالإفراد وشركاء بالجمع.
{ أيشركون ما لا يخلق شيئا } أي أيشركون الأصنام وهي لا تقدر على خلق شىء كما يخلق الله تعالى.
{ وهم يخلقون } أي يخلقهم الله تعالى ويوجدهم كما أوجدكم ويحتمل أن يكون وهم عائدا على ما عاد عليه ضمير الفاعل في أيشركون أي وهؤلاء المشركون يخلقون أي كما يجب أن يعتبروا لكونهم مخلوقين فيجعلوا إلههم خالقهم لا من لا يخلق شيئا.
{ وإن تدعوهم إلى الهدى } الظاهر أن الخطاب للكفار انتقل من الغيبة إلى الخطاب على سبيل الإلتفات والتوبيخ على عبادة غير الله تعالى. ويدل على أن الخطاب للكفار قوله: بعد أن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم. وضمير المفعول عائد على ما عادت عليه الضمائر قيل: وهي الأصنام، والمعنى وإن تدعو هذه الأصنام إلى ما هو هدى ورشاد، أو إلى أن يهدوكم كما تطلبون من الله الهدى والخير.
{ لا يتبعوكم } على مرادكم ولا يجيبونكم، أي ليست فيهم هذه القابلية لأنها جماد لا تعقل. وعادل همزة الاستفهام في قوله: أدعوتموهم، بقوله: أم، والجملة الإسمية بعدها من المبتدأ والخبر لأنها في معنى الفعل إذ التقدير أم صمتم وحسن المجيء بالجملة الإسمية كونها فاصلة كالفواصل قبلها. قال ابن عطية: وفي قوله: أدعوتموهم أم أنتم صادقون، عطف الإسم على الفعل إذ التقدير أم صمتم. ومثل هذا قول الشاعر:
سواء عليك النفر أم بت ليلة
بأهل القباب من نمير بن عامر
انتهى. ليس هذا من عطف الإسم على الفعل إنما هو من عطف الجملة الإسمية على الجملة الفعلية، وأما البيت فليس من عطف الإسم على الفعل بل من عطف الجملة الفعلية على الإسم المقدر بالجملة الفعلية إذ أصل التركيب سواء عليك أنفرت أم بت ليلة فأوقع النفر موقع أنفرت. وتقدم الكلام في سواء وعلى ما بعدها في أوائل البقرة.
[7.194-198]
{ إن الذين تدعون من دون الله } الآية، هذه الجملة على سبيل التوكيد لما قبلها في انتفاء كون هذه الأصنام قادرة على شىء من نفع أو ضر أي ان الذين تدعونهم وتسمونهم آلهة من دون الله الذي أوجدها وأوجدكم هم عباد. وسمى الأصنام عبادا وإن كانت جمادات لأنهم كانوا يعتقدون أنها تضر وتنفع. وقال الزمخشري: عباد أمثالكم استهزاء بهم أي قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عباد أمثالكم لا تفاضل بينكم، ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالكم فقال: ألهم أرجل يمشون بها. " انتهى ". وليس كما زعم لأنه تعالى حكم على هؤلاء المدعون من دون الله أنهم عباد أمثال الداعين. فلا يقال: في الخبر من الله تعالى فإن ثبت ذلك لأنه ثابت، ولا يصح أن يقال: ثم أبطل أن يكونوا عبادا أمثالكم، فقال: ألهم أرجل، لأن قوله: ألهم أرجل ليس إبطالا لقوله: عباد أمثالكم، لأن المثلية ثابتة أما في انهم مخلوقون أو في انهم مملوكون مقهورون وإنما ذلك تحقير لشأن الأصنام وإنهم دونكم في انتفاء الآلات التي أعدت للإنتفاع بها مع ثبوت كونهم أمثالكم فيما ذكر ولا يدل إنكار هذه الآلات على انتفاء المثلية فيما ذكر، وأيضا فالابطال لا يتصور بالنسبة إليه تعالى لأنه يدل على كذب أحد الخبرين وذلك مستحيل بالنسبة إلى الله تعالى. قرأ سعيد بن جبير أن خفيفة، وعبادا أمثالكم بنصب الدال واللام. واتفق المفسرون على تخريج هذه القراءة على أن إن هي النافية أعملت عمل ما الحجازية فرفعت الإسم ونصبت الخبر فعبادا أمثالكم خبر منصوب قالوا: والمعنى بهذه القراءة تحقير شأن الأصنام ونفي مماثلتهم للبشر بل هم أقل وأحقر إذ هي جمادات لا تفهم ولا تعقل وأعمال ان اعمال ما الحجازية فيه خلاف، أجاز ذلك الكسائي، وأكثر الكوفيين، ومن البصريين ابن السراج والفارسي وابن جني، ومنع من أعمالها الفراء، وأكثر البصريين، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد. والصحيح أن اعمالها لغة ثبت ذلك في النثر والنظم وقد ذكرنا ذلك مشبعا في شرح التسهيل. وقال النحاس: هذه قراءة لا ينبغي أن يقرأ بها لثلاث جهات إحداها أنها مخالفة للسواد الثانية أن سيبويه يختار الرفع في خبر أن إذا كانت بمعنى ما فيقول ان نريد منطلق لأن عمل ما ضعيف وان بمعناها فتكون أضعف منها، والثالثة أن الكسائي رأى أنها في كلام العرب لا تكون بمعنى ما إلا أن يكون بعدها أيجلب. " انتهى ". وكلام النحاس هذا هو الذي لا يجوز ولا لينبغي لأنها قراءة مروية عن تابعي جليل ولها وجه في العربية، وأما ثلاث الجهات التي ذكرها فلا يقدح شىء منها في هذه القراءة، أما كونها مخالفة للسواد فهو خلاف يسير جدا لا يضر، ولعله كتب المنصوب على لغة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف فلا يكون فيه مخالفة للسواد.
وأما ما حكي عن سيبويه فقد اختلف الفهم عن كلام سيبويه في أن، وأما ما حكاه عن الكسائي فالنقل عن الكسائي أنه حكى أعمالها وليس بعدها إيجاب والذي يظهر لي أن هذا التخريج الذي خرجوه من أن ان للنفي ليس بصحيح لأن قراءة الجمهور تدل على إثبات كون الأصنام عبادا أمثال عابديها وهذا التخريج يدل على نفي ذلك فيؤدي إلى عدم مطابقة أحد الخبرين وهو لا يجوز بالنسبة إلى الله تعالى وقد خرجت هذه القراءة على وجه غير ما ذكروه وهي أن تكون إن هي المخففة من الثقيلة واعملها عمل المشددة، وقد ثبت أن ان المخففة يجوز إعمالها عمل المشددة في غير المضمر بالقراءة المتواترة، وإن كلا لما وينقل سيبويه عن العرب لكنه نصب في هذه القراءة خبرها كما نصبه عمر بن أبي ربيعة في قوله ان حراسنا أسدا. وقد ذهب جماعة من النحاة إلى جواز نصب أخبار ان وأخواتها واستدلوا على ذلك بشواهد ظاهرة الدلالة على صحة مذهبهم وتأولها المخالفون فهذه القراءة الشاذة تتخرج على هذه اللغة أو تؤول على تأويل المخالفين وما ورد من ذلك نحو:
يا ليت أيام الصبا رواجعا
لأهل هذا المذهب وهو أنهم قالوا ان تقديره أقبلت رواجعا فكذلك تؤولت هذه القراءة على إضمار فعل تقديره ان الذين تدعون من دون الله خلقناهم عبادا أمثالكم وتكون القراءتان قد توافقتا على معنى واحد وهو الاخبار أنهم عباد ولا يكون تناف بينهما وتخالف لا يجوز في حق الله تعالى. وقرىء: أيضا أن مخففة، ونصب عبادا على أنه حال من الضمير المحذوف العائد من الصلة على الذين وأمثالكم بالرفع على الخبر، أن أن الذين تدعون من دون الله في حال كونهم عبادا أمثالكم في الخلق أو في الملك فلا يمكن أن يكونوا آلهة.
{ ألهم أرجل يمشون بهآ } الآية، هذا استفهام إنكار وتعجب وتبيين أنهم جماد لا حراك لهم وأنهم فاقدون لهذه الأعضاء ومنافعها التي خلقت لأجلها فأنتم أفضل من هذه الأصنام إذ لكم هذا التصرف، وهذا الاستفهام الذي معناه الإنكار قد يتوجه الإنكار فيه إلى انتفاء هذه الأعضاء وانتفاء منافعها فيتسلط النفي على المجموع كما فسرناه لأن تصويرهم هذه الأعضاء للأصنام ليست أعضاء حقيقية وقد يتوجه النفي إلى الوصف أي وإن كانت لهم هذه الأعضاء النافعة وأم هنا منقطعة فتتقدر ببل والهمزة وهو إضراب على معنى الانتقال لا على معنى الإبطال وإنما هو تقدير على نفي كل واحدة من هذه الجمل وكان ترتيب هذه الجمل هكذا لأنه بدىء بالأهم ثم اتبع بما دونه إلى آخرها.
{ قل ادعوا شركآءكم } الآية لما أنكر تعالى عليهم عبادة الأصنام وحقر شأنها وأظهر كونها جمادا عارية عن شىء من القدرة أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يقول لهم ذلك أي لا مبالاة بكم ولا بشركائكم فاصنعوا ما تشاؤون وهو أمر تعجيز، أي لا يمكن أن يقع منكم دعاء لأصنامكم ولا كيد لي وكانوا قد خوفوه آلهتهم ومعنى ادعوا شركاءكم استعينوا بهم على إيصال الضر إلي.
{ ثم كيدون } أي امكروا بي ولا تؤخرون عما تريدون بي من الضر. وسمى الأصنام شركاءهم من حيث لهم نسبة إليهم بتسميتهم إياهم آلهة وشركاء لله، تعالى الله عن ذلك.
{ إن وليي الله } الآية، لما أحالهم على الاستنجاد بآلهتهم في ضره وأراهم أن الله تعالى هو القادر على كل شىء عقب ذلك بالاسناد إلى الله تعالى والتوكل عليه وأنه تعالى هو ناصره عليهم وبين جهة نصره عليهم بأن أوحى إليه كتابه وأعزه برسالته، ثم انه تعالى يتولى الصالحين من عباده وينصرهم على أعدائهم، ولا يخذلهم. وقرىء ولي الله بياء مشددة.
{ والذين تدعون من دونه } أي من دون الله، وهذه الآية بيان لحال الأصنام وعجزها عن نصرة أنفسها فضلا عن نصرة غيرها.
{ وإن تدعوهم إلى الهدى } الآية تناسق الضمائر يقتضي أن الضمير المنصوب في وإن تدعوهم هو للأصنام ونفي عنهم السماع لأنها جماد لا تحس وأثبت لهم النظر على سبيل المجاز بمعنى أنهم صوروهم ذوي أعين فهم يشبهون من ينظر ومن قلب حدقته للنظر. ومعنى إليك، أي إليك أيها الداعي. وأفرد لأنه اقتطع أي استأنف قوله: وتراهم ينظرون إليك من جملة الشرط واستأنف الاخبار عنهم.
[7.199-206]
{ خذ العفو وأمر بالعرف } الآية هذا خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهم جميع أمته وهي أمر بجميع مكارم الأخلاق وقد أمر بذلك صلى الله عليه وسلم بقوله:
" يسرو ولا تعسروا "
وقال حاتم الطائي:
خذي العفو مني تستديمي مودتي
ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
{ وإما ينزغنك } أي ينخسنك بأن يحملك بوسوسته على ما لا يليق فاطلب العياذ بالله منه وهي اللواذ والاستجارة. قيل: لما نزلت خذ العفو الآية. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كيف والغضب "
فنزلت وأما ينزغنك، وإن شرطية، وما زائدة، ونزغ هو الفاعل، وهو مصدر يراد به اسم الفاعل أي نازغ وهذا التركيب جاء في القرآن كثيرا بزيادة ما وبنون التوكيد كقوله تعالى: واما تخافن، فاما تذهبن، واما نرينك، وختم بهاتين الصفتين لأن الإستعاذة تكون باللسان ولا تجدي إلا باستحضار معناها فالمعنى سميع للأقوال عليم بما في الضمائر.
{ إن الذين اتقوا } الآية قال ابن عطية وقال الكسائي: الطيف اللمم والطائف ما طاف حول الإنسان وكيف هذا، وقد قال الأعشى:
وتصبح عن غب السرى وكأنها
ألم بها من طائف الجن أولت
انتهى. لا تتعجب من تفسير الكسائي الطائف بما طاف حول الإنسان بهذا البيت لأنه يصح فيه معنى ما قاله الكسائي لأنه ان كان تعجبه وإنكاره من حيث خصوص الإنسان فالذي قاله الأعشى تشبيه لأنه قال: كأنها، وإن كان تعجبه من حيث فسر بأنه ما طاف حول الإنسان، فطائف الجن يصح أن يقال: هو طائف حول الإنسان، وشبه هو الناقة في سرعتها ونشاطها وقطعها الفيافي في عجلة بحالتها إذا ألم بها أولق من طائف الجن. وقرىء: طيف مخففا من طيف كما قالوا: ميت في ميت، والنزغ من الشيطان أخف من مس الطائف من الشيطان، لأن النغز أدنى حركة. والمس: الإصابة، والطائف: ما يطوف به ويدور عليه، فهو أبلغ لا محالة فحال المتيقن في ذلك غير حال الرسول. وانظر لحسن هذا البيان حيث كان الكلام للرسول كان الشرط بلفظ أن المحتملة للوقوع ولعدمه وحيث كان الكلام للمتقين كان المجيء بإذا الموضوعة للتحقق أو للترجيح، وعلى هذا فالنزغ يمكن أن يقع ويمكن أن لا يقع والمس واقع لا محالة أو مرجح وقوعه هو إلصاق البشرة بالبشرة وهو هنا استعارة. وفي تلك الجملة أمر هو صلى الله عليه وسلم بالاستعاذة، وهنا جاءت الجملة خبرية في ضمنها الشرط وجاء الخبر تذكروا فدل على تمكن حس الطائف حتى حصل نسيان فتذكروا ما نسوه والمعنى تذكروا ما أمر به تعالى، وما نهى عنه وبنفس التذكر حصل إبصارهم وفاجأهم إبصار الحق والسداد فاتبعوه وطردوا عنهم مس الطائف واتقوا عامة في كل ما يتقى.
{ وإخوانهم يمدونهم } الضمير في وإخوانهم عائد على ما تقدم من الكفار. وإخوانهم مبتدأ، ويمدونهم خبر، والضمير في يمدونهم المنصوب يعود على ما عاد عليه الضمير في وإخوانهم. وقرىء: يمدونهم من أمد ويمدونهم من مدوهما بمعنى واحد.
و { في الغي } متعلق بيمدونهم.
{ ثم لا يقصرون } أي لا يكفون عن إمدادهم في الغواية.
{ وإذا لم تأتهم بآية } الآية، روي أن الوحي كان يتأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم أحيانا فكان الكفار يقولون:
{ لولا اجتبيتها } ومعنى هذه اللفظة في كلام العرب تخيرتها واصطفيتها. قال ابن عباس: هلا اخترعتها واختلقتها من قبلك ومن عند نفسك، ولولا هي للتحضيض بمعنى هلا.
{ قل إنمآ أتبع ما يوحى إلي من ربي } الآية، بين أنه ليس مجيء الآيات إليه إنما هو متبع ما أوحاه الله إليه ولست بمفتعلها ولا مقترحها.
و { هذا بصآئر من ربكم } أي هذا الموحى إلي الذي أنا أتبعه لا أبتدعه وهو القرآن بصائر أي حجج وبينات يبصر بها وتتضح الأشياء الخفيات، وهي جمع بصيرة كقوله تعالى:
على بصيرة أنا ومن اتبعني
[يوسف: 108]، أي على أمر جلي منكشف وأخبر عن المفرد بالجمع لاشتماله على سور وآيات. وقيل: هو على حذف مضاف أي ذو بصائر.
{ وهدى ورحمة لقوم يؤمنون } أي دلالة على الرشد، ورحمة في الدين والدنيا. وخص المؤمنين بأنهم هم الذين يستبصرون وهم الذين ينتفعون بالوحي يتبعون ما أمر به فيه ويجتنبون ما ينهون عنه فيه ويؤمنون بما تضمنه.
{ وإذا قرىء القرآن } الآية، روي أنها نزلت في المشركين كانوا إذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون:
لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه
[فصلت: 26]. فنزلت جوابا لهم. ولما ذكر أن القرآن بصائر وهدى ورحمة أمر باستماعه إذا شرع في قراءته، وبالإنصات وهو السكوت مع الإصغاء إليه، لأن ما اشتمل على هذه الأوصاف فمن البصائر والهدى والرحمة حري بأن يصغي إليه حتى يحضل منه للمنصت هذه النتائج العظيمة وينتفع بها فيستبصر من العمى ويهتدي من الضلالة ويرحم بها. والظاهر استدعاء الاستماع والإنصات إذا أخذ في قراءة القرآن ومتى قرىء.
{ واذكر ربك في نفسك } الآية لما أمرهم تعالى بالاستماع والإنصات إذا شرع في قراءته ارتقى من أمره تعالى إلى أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بذكر ربه في نفسه أي بحيث يراقبه ويذكره في الحالة التي لا يشعر بها أحد وهي الحالة الشريفة العليا ثم أمره أن يذكره دون الجهر من القول أي يذكره بالقول الخفي الذي يشعر بالتذلل والخضوع من غير صياح ولا تصويت كما تناجي الملوك وتستجلب منهم الرغائب، وكما قال عليه السلام للصحابة وقد جهروا بالدعاء:
" إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا اربعوا على أنفسكم ".
{ واذكر ربك } أي مالك أمرك والناظر في مصلحتك. وفي نفسك متعلق باذكر وتضرعا وخيفة مفعولان من أجله أي لتضرع وخيفة أو مصدران منصوبان على الحال أي متضرعا وخائفا.
{ ودون الجهر } معطوف على قوله: في نفسك، أي ذكرا في نفسك وذكرا دون الجهر.
{ بالغدو } إن كان جمعا لغداة فهو مقابل بالجمع وهو بالآصال، وإن كان مصدرا لغداء فيكون على حذف تقديره بأوقات الغدو. والظاهر اقتصار الأمر بالذكر على هذين الوقتين. وقيل: المراد بهما الأوقات، واقتصر عليهما لأنهما ظرفان للأوقات.
{ والآصال } هي العشايا جمع أصل وهي العشية ولما أمره تعالى بالذكر أكد ذلك بالنهي عن أن يكون من الغافلين أي استدم الذكر ولا تغفل طرفة عين ومعلوم أنه عليه السلام تستحيل عليه الغفلة لعصمته فهو نهي له والمراد أمته.
{ إن الذين عند ربك } هم الملائكة عليهم السلام ومعنى العندية الزلفى والقرب منه تعالى بالمكانة لا بالمكان وذلك لتوفرهم على طاعته وابتغاء مرضاته، ولما أمر تعالى بالذكر ورغب في المواظبة عليه ذكر من شأنهم ذلك فأخبر عنهم باخبار ثلاثة: الأول نفي الاستكبار عن عبادته وذلك هو أصل إظهار العبودية، ونفي الاستكبار هو الموجب للطاعات كما أن الاستكبار هو الموجب للعصيان لأن المستكبر يرى لنفسه شقوفا ومزية فيمنعه ذلك من الطاعة. الثاني إثبات التسبيح منهم له تعالى وهو التنزيه والتطهير عن جميع ما لا يليق بذاته المقدسة. والثالث السجود له تعالى ولما كانت العبادة ناشئة عن انتفاء الاستكبار وكانت على قسمين عبادة قلبية وعبادة جسمانية ذكرهما، فالقلبية تنزيه الله تعالى عن السوء والجسمانية السجود وهو الحال التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى. وفي الحديث:
" أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد ".
[8 - سورة الأنفال]
[8.1-4]
{ يسألونك عن الأنفال } الآية هذه السورة مدنية كلها إلا سبع آيات أولها وإذ يمكر بك الذين كفروا، إلى آخر الآيات، قاله ابن عباس ولا خلاف أنها نزلت يوم بدر وأمر غنائمه. وقال ابن زيد: لا نسخ فيها إنما أخبر أن الغنائم لله من حيث هي ملكه ورزقه، وللرسول عليه السلام من حيث هو مبين لحكم الله تعالى والصادع فيها ليقع التسليم فيها من الناس وحكم القسمة نازل في خلال ذلك. والأنفال: جمع نفل. قال ابن عباس وجماعة: هي الغنائم.
{ وأصلحوا ذات بينكم } أمر بإصلاح ذات البين، وهذا يدل على أنه كانت بينهم مباينة ومباعدة وربما خيف أن تفضي بهم إلى فساد ما بينهم من المودة والمصافاة. وتقدم الكلام على ذات في قوله: بذات الصدور، والبين هنا الفراق والتباعد، وذات هنا نعت لمفعول محذوف أي وأصلحوا أحوالا ذات افتراقكم لما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت صفتها إليها كما تقول: اسقني ذا انائك، أي ماء صاحب إنائك، لما لابس الماء الإناء وصف بذا وأضيف إلى الإناء، والمعنى اسقني ما في الإناء من الماء.
{ إن كنتم مؤمنين } أي كاملي الإيمان. قال ابن عطية: وجواب الشرط في قوله المتقدم: وأطيعوا، هذا مذهب سيبويه. ومذهب أبي العباس: أن الجواب محذوف متأخر يدل عليه المتقدم تقديره إن كنتم مؤمنين أطيعوا، ومذهبه في هذا أن لا يتقدم الجواب على الشرط. " انتهى ". والذي قاله مخالف لكلام النحاة فإنهم يقولون إن مذهب سيبويه ان الجواب محذوف وإن مذهب أبي العباس وأبي زيد الأنصاري والكوفيين جواز تقديم جواب الشرط عليه وهذا النقل هو الصحيح.
{ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله } الآية قرىء: وجلت بفتح الجيم وهي لغة ولما كان معنى إن كنتم مؤمنين أي كاملي الإيمان قال: إنما المؤمنون، أي الكاملوا الإيمان، ثم أخبر عنهم بموصول وصل بثلاث مقامات عظيمة وهي مقام الخوف ومقام الزيادة في الإيمان ومقام التوكل، ويحتمل قوله: إذا ذكر الله أن يذكر اسمه فقط ويلفظ به تفزع قلوبهم لذكره استعظاما له وهيبا وإجلالا، ويحتمل أن يكون ذكر الله على حذف مضاف أي ذكرت عظمة الله وقدرته وما خوف به من عصاه.
{ الذين يقيمون الصلاة } الأحسن أن يكون الذين صفة للذين السابقة حتى يدخل في حيز الجزية فيكون ذلك إخبارا عن المؤمنين بثلاث الصلاة القلبية وعنهم بالصفة البدنية والصفة المالية. وجمع أفعال القلوب لأنها أشرف وجمع في أفعال الجوارح بين الصلاة والصدقة لأنها عمود أفعال الجوارح.
والظاهر أن قوله: { ومما رزقناهم ينفقون } عام في الزكاة ونوافل الصدقات وصلات الرحم وغير ذلك من المبار المالية.
{ أولئك هم المؤمنون حقا } حقا نعت لمصدر محذوف تقديره إيمانا حقا. ويجوز أن يكون توكيد المضمون الجملة السابقة فيكون العامل فيه محذوفا تقديره أحقه حقا. وهم في قوله: هم المؤمنون، يجوز أن يكون فصلا بين المبتدأ والخبر وأن يكون مبتدأ خبره المؤمنون، والجملة خبر لأولئك، ويجوز أن يكون بدلا من أولئك.
{ لهم درجات عند ربهم } الآية، لما تقدمت ثلاث صفات قلبية وبدنية ومالية ترتب عليها ثلاثة أشياء فقوبلت الأعمال القلبية بالدرجات والبدنية بالغفران وقوبلت المالية بالرزق الكريم وهذا النوع من المقابلة من بديع علم البديع.
[8.5-10]
{ كمآ أخرجك ربك من بيتك بالحق } الآية، ذكر في البحر في تأويل هذه الآية خمسة عشر قولا لم يتضح شىء منها ومن دفع إلى حوك الكلام وتقلب في إنشاء أفانينه وزوال الفصاحة والبلاغة لم يستحسن شيئا من تلك الأقوال، وان كان بعض قائلها له إمامة في علم النحو ورسوخ قدم لكنه لم يتحنك بلوك الكلام ولم يكن في طبعه صوغه أحسن صوغ ولا التصرف في النظر فيه من حيث الفصاحة وما به يظهر الإعجاز، وقيل تسطير هذه الأقوال في البحر وقفت على جملة منها فلم يلق بخاطري منها شىء فرأيت في النوم أني أمشي في رصيف ومعي رجل أباحثه في قوله: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، فقلت له: ما مر بي شىء مشكل في القرآن مثل هذا، ولعل ثم محذوفا يصح به المعنى وما وقفت فيه لأحد من المفسرين على شىء طائل، ثم قلت له: ظهر لي الساعة تخريجه وإن ذلك المحذوف هو نصرك، واستحسنت أنا وذلك الرجل هذا التخريج ثم انتبهت من النوم وأنا أذكره والتقدير فكأنه قيل: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق، أي بسبب إظهار دين الله تعالى وإعزاز شريعته وقد كرهوا خروجك تهيبا للقتال وخوفا من الموت إذ كان أمر عليه السلام بخروجهم بغتة ولم يكونوا مستعدين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه نصرك الله وأمدك بملائكته. ودل على هذا المحذوف الكلام الذي بعده وهو قوله: إذ تستغيثون ربكم الآيات، ويظهر أن الكاف في هذا التخريج المنامي ليست لمحض التشبيه بل فيها معنى التعليل. وقد نص النحويون أنها قد يحدث فيها التعليل وخرجوا عليه قوله تعالى:
واذكروه كما هدكم
[البقرة: 198]. وأنشدوا:
لا تشتم الناس كما لا تشتم
أي لانتفاء أن يشتمك الناس لا تشتمهم ومن الكلام الشائع في هذا المعنى كما تطيع الله عز وجل يدخلك الجنة أي لإطاعتك الله يدخلك الجنة فكان المعنى لأجل أن خرجت لإعزاز دين الله تعالى وقتل أعدائه نصرك الله وأمدك بالملائكة. والظاهر أن من بيتك هو مقام سكناه بالمدينة لأنها مهاجرة ومختصة به.
والواو في: { وإن فريقا } واو الحال ومفعول.
{ لكارهون } هو الخروج أي لكارهون الخروج معك وكراهتهم ذلك اما لنفرة الطبع وإما لأنهم لم يستعدوا للخروج.
والظاهر أن ضمير الرفع في { يجادلونك } عائد على فريقا من المؤمنين الكارهين وجدالهم قولهم: ما كان خروجنا إلا للعير ولو عرفنا لاستعددنا للقتال والحق هنا نصرة دين الإسلام. ويحتمل أن يكون يجادلونك في موضع الحال من الضمير في لكارهون. ويحتمل أن يكون استئناف اخبار وما في قوله: ما تبين مصدرية أي بعد تبينه وهذا أبلغ في الإنكار لجدالهم بعد وضوح الحق كأنما يساقون إلى الموت شبه حالهم في فرط فزعهم وهم يسار بهم إلى الظفر والغنيمة بمال من يشاق على الصغار إلى الموت وهو مشاهد لأسبابه ناظر إليها لا يشك فيها.
وقيل: كان خوفهم لقلة العدد وانهم كانوا رجالة. وروي أنهم ما كان فيهم إلا فارسان وكانوا ثلثمائة وثلاثة عشر، وكان المشركون في نحو ألف رجل وقصة بدر هذه مستوعبة في كتب السير.
{ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين } هي غير معينة. والطائفتان هما طائفة غير قريش وكانت فيها تجارة عظيمة لهم ومعها أربعون راكبا فيها أبو سفيان وعمرو بن العاص وعمرو بن هشام، وطائفة الذين استنفرهم أبو جهل وكانوا في العدد الذي ذكرناه وغير ذات الشوكة هي الغير لأنها ليست ذات قتال وإنما هي غنيمة باردة. ومعنى إحقاق الحق تبيينه وإعلاؤه. وبكلماته بآياته المنزلة في محاربة ذات الشوكة وبما أمر لملائكة من نزولهم للنصرة وبما قضى من أسرهم وقتلهم وطرحهم في قليب بدر وبما أظهر من خبره صلى الله عليه وسلم وقطع الدابر عبارة عن الاستئصال، والمعنى أنكم مرغبون في الفائدة العاجلة وسلامة الأحوال والله تعالى يريد معالي وإعلاء الحق والفوز في الدارين وشتان ما بين المرادين ولذلك اختار لكم ذات الشوكة وأراكهم عيانا خذلهم ونصركم وأذلهم وأعزكم وحصل لكم ما أربي على فائدة العير وما أدناه وأقله هو خير منها.
{ إذ تستغيثون ربكم } إذ بدل من إذ يعدكم؛ واستغاث طلب الغوث لما علموا أنه لا بد من القتال شرعوا في طلب الغوث من الله تعالى والدعاء بالنصرة. والظاهر أنه خطاب لمن خوطب بقوله: وإذ يعدكم الله وتودون. وان الخطاب في قوله: كما أخرجك. ويجادلونك هو خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك أفرد فالخطابان مختلفان. واستغاث يتعدى بنفسه كما هو في الآية وكما هو في قوله:
فاستغاثه الذي من شيعته
[القصص: 15]. ويتعدى بحرف الجر كما جاء في لفظ سيبويه في باب الاستغاثة، وكقول الشاعر:
حتى استغاثت بما لا رشاء له
من الأباطح في حافاته البرك
والظاهر أن قراءة من قرأ مردفين بسكون الراء وفتح الدال أنه صفة لقوله: بألف أي أردف بعضهم ببعض.
{ وما جعله الله إلا بشرى } الضمير في وما جعله عائد على الامداد المنسبك من أني ممدكم. وتقدم تفسير نظير هذه الآية، والمعنى إلا بشرى لكم فحذف لكم وأثبت في آل عمران لأن القصة فيها مسهبة وهنا موجزة فناسب هنا الحذف وهنا قدم به وأخر هناك على سبيل التفنن في الفصاحة والاتساع في الكلام وهنا جاء أن الله عزيز حكيم رعاية لأواخر الآي وهناك ليست آخر آية لتعلق ليقطع بما قبله فناسب أن يأتي العزيز الحكيم على سبيل الصفة وكلاهما مشعر بالعلية كما تقول: أكرم زيدا العالم، وأكرم زيدا أنه عالم.
[8.11-14]
{ إذ يغشيكم النعاس } إذ بدل ثان من إذ يعدكم عدد تعالى نعمه على المؤمنين في يوم بدر وانتصب امنة على أنه مفعول من أجله لاتحاد الفاعل في قراءة من قرأ يغشيكم والمغشي هو الله تعالى. قال الزمخشري: ان منصوب بالنصر أو بما في عند الله من معنى الفعل أو بما جعله الله أو بإضمار اذكر. " انتهى ". أما كونه منصوبا بالنصر ففيه ضعف من وجوه أحدهما أنه مصدر فيه ال. وفي اعماله خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يجوز إعماله الثاني أنه موصول وقد فصل بينه وبين معموله بالخبر الذي هو إلا من عند الله وذلك لا يجوز لا يقال: ضرب زيد شديد عمرا. الثالث أنه يلزم منه اعمال ما قبل إلا فيما بعدها من غير أن يكون ذلك المعمول مستثنى أو مستثنى منه أو صفة له وإذ ليس واحدا من هذه الثلاثة فلا يجوز ما قام إلا زيد يوم الجمعة، وقد أجاز ذلك الكسائي والأخفش. وأما كونه منصوبا بما في عند الله من معنى الفعل فيضعفه المعنى لأنه لا يصبر استقرار النصر مقيدا بالظرف والنصر من عند الله مطلقا في وقت غشي النعاس وغيره. وأما كونه منصوبا بما جعله الله فقد سبقه إليه الحوفي وهو ضعيف أيضا لطول الفصل ولكونه معمول ما قبل إلا وليس أحد تلك الثلاثة.
ومعنى: { ليطهركم به } أي من الجنابات وكان المؤمنون لحق أكثرهم في سفرهم الجنابات وعدموا الماء وكانت بينهم وبين بدر مسافة طويلة من رمل دهس لين تسوخ فيه الأرجل وكان المشركون قد سبقوهم إلى ماء بدر وكان نزول المطر قبل ذلك.
{ ويذهب عنكم رجز الشيطان } أي عذابه لكم بوسواسه. والرجز: العذاب. والظاهر أن تثبيت الأقدام هو حقيقة لأن المكان الذي وقع فيه اللقاء كان رملا تغوص فيه الأقدام فلبده المطر حتى ثبتت عليه الأقدام. والضمير في به عائد على المطر وانظر إلى فصاحة مجيء هذه التعليلات بدأ أولا منها بالتعليل الظاهر وهو تطهيرهم من الجنابة وهو فعل جسماني أعني اغتسالهم من الجنابة. وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازم التطهير وهو إذهاب رجز الشيطان حيث وسوس إليهم بكونهم يصلون ولم يتغسلوا من الجنابة ثم عطف بلام العلة ما ليس بفعل جسماني وهو فعل محله القلب وهو التشجيع والاطمئنان والصبر على اللقاء وعطف عليه بغير لام العلة ما هو من لازمه وهو كونهم لا يفرون وقت الحرب. فحين ذكر التعليل الظاهر الجسماني والتعليل الباطن القلبي ظهر حرف التعليل. وحين ذكر لازمهما لم يؤكد بلام التعليل، وبدأ أولا بالتطهير لأنه الآكد والأسبق في الفعل والذي يؤدي به أفضل العبادات وتحيى به القلوب.
{ إذ يوحي ربك إلى الملائكة } هذا أيضا من تعديد النعم إذ الإيحاء إلى الملائكة بأنه تعالى معهم أي ينصرهم ويغنيهم. تقدم أن الخطاب السابق للمؤمنين وهنا جاء الخطاب في قوله: إذ يوحي ربك، لرسول الله وحده من ربه أي مالكه والناظر في إصلاحه، والملائكة، هم الذين أمد الله تعالى المؤمنين بهم، وأنى معكم بالنصر والتأييد، ثم أمر الملائكة بتثبيت المؤمنين وأخبر أنه سيلقي الرعب في قلوب الكفار ثم أمره بضرب ما فوق الأعناق وهي الرؤوس وضرب كل بنان وهي الأصابع وهي اسم جنس، الواحد منها بنانة.
{ ذلك بأنهم شآقوا الله ورسوله } الآية الإشارة إلى ما حل بهم من رعب اللقاء في قلوبهم وما أصابهم من الضرب والقتل والكاف لخطاب السامع وذلك مبتدأ وبأنهم خبره والضمير عائد على الكفار. وتقدم الكلام في المشاقة في قوله تعالى:
فإنما هم في شقاق
[البقرة: 137] والمشاقة هنا مفاعلة فكأنه لما شرع شرعا وأمر بأوامر وكذبوهم وصدوا تباعد ما بينهم وانفصل وانشق وعبر المفسرون عن قوله: شاقوا الله أي صاروا في شق غير شقه. والضمير في جملة الجواب العائد على اسم الشرط الذي هو من محذوف تقديره شديد العقاب لكم.
{ ذلكم فذوقوه } الآية جمع بين العذابين عذاب الدنيا وهو المعجل وعذاب الآخرة وهو المؤجل والإشارة بذلكم إلى ما حل بهم من عذاب الدنيا والخطاب للمشاقين ولما كان عذاب الدنيا بالنسبة إلى عذاب الآخرة يسيرا سمي ما أصابهم منه ذوقا، لأن الذوق يعرف به الطعم وهو يسير ليعرف به حال الطعم. ذلكم مبتدأ خبره محذوف تقديره ذلكم العقاب أو خبر مبتدأ محذوف تقديره العقاب ذلكم. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون نصبا على عليكم ذلكم فذوقوه كقولك: زيدا فاضربه. " انتهى ". ولا يجوز هذا التقدير لأن عليكم من أسماء الأفعال وأسماء الأفعال لا تضمر وتشبيهه له بزيد أفأضربه ليس بجيد لأنهم لم يقدروه بعليك زيدا فاضربه، وإنما هو منصوب على الاشتغال.
{ وأن للكافرين } الآية، قال ابن عطية: أما على تقدير وحتم أن فيقدر ابتداء محذوف يكون ان خبره واما على تقدير، واعلموا ان فهي على هذا في موضع نصب. " انتهى ". وقرأ الحسن وزير بن علي وسليمان التيمي وان بكسر الهمزة على استئناف اخبار ونبه على العلة وهي الكفر في كون عذاب النار لهم.
[8.15-23]
{ يآأيها الذين آمنوا } الآية، زحفا نصب على الحال من المفعول أي زاحفين إليكم، أو من الفاعل أي زاحفين إليهم، أو منهما أي متزاحفين. قال الفراء: الزحف الدنو قليلا قليلا، يقال: زحف إليه يزحف زحفا إذا مشى.
{ ومن يولهم يومئذ دبره } عدل عن لفظ الظهور إلى لفظ الإدبار تقبيحا لفعل الفار وتبشيعا لانهزامه وتضمن هذا النهي الأمر بالثبات والمصابرة على القتال ومن يولهم يومئذ دبره الآية لما نهى تعالى عن تولي الإدبار توعد من ولى دبره وقت لقاء العدو وناسب قولهم: ومن يولهم، قوله: فقد باء بغضب من الله، كان المعنى فقد ولى مصحوبا بغضب الله تعالى. قال الشاعر:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا
ولكن على أقدامنا تقطر الدما
والظاهر أن الجملة المحذوفة بعد إذ وعوض منها التنوين هي قوله: إذ لقيتم الكفار، وانتصب متحرفا ومتحيزا على الحال من الضمير المستكن في يولهم العائد على من.
{ إلا متحرفا } التحرف للقتال هو الكر بعد الفر يخيل عدوه أنه منهزم ثم يعطف عليه، وهذا من باب خدع الحرب ومكائدها. إلا متحيزا اسم فاعل من تحيز أصله تحيوز تفيعل من الحوز اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء في الياء فصار تحيز.
{ وبئس المصير } المخصوص بالذم محذوف تقديره بئس المصير هي أي جهنم.
{ فلم تقتلوهم } الآية، لما رجع الصحابة من بدر ذكروا مفاخرهم فيقول القائل: قتلت وأسرت فنزلت. قال الزمخشري: والفاء جواب شرط محذوف تقديره ان افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم ولكن الله قتلهم. " انتهى ". وليست الفاء جواب شرط محذوف كما زعم وإنما هي للربط بين الجمل لأنه لما قال:
فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان
[الأنفال: 12]، كان امتثال ما أمروا به سببا للقتل. فقيل: فلم تقتلوهم، أي لستم مستبدين بالقتل لأن الاقدار عليه والخالق إنما هو الله تعالى ليس للقاتل فيها شىء لكنه أجرى على يده فنفى عنهم إيجاد القتل وأثبته لله تعالى وعطف الجملة المنفية بما على الجملة المنفية بلم لأن لم نفي للماضي وإن كان بصورة المضارع.
{ وما رميت إذ رميت } الآية، قال ابن عباس:
" قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر قبضة من تراب فرماهم بها. وقال: شاهت الوجوه، أي قبحت فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه وفيه ومنخريه منها شىء "
ومجيء لكن هنا في الموضعين أحسن مجيء لكونها بين نفي وإثبات فالمثبت لله تعالى هو المنفي عنهم وهو حقيقة القتل.
{ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا } قال السدي: ينصرهم وينعم عليهم. يقال: أبلاه إذا أنعم عليه وبلاه إذا امتحنه والبلاء يستعمل للخير والشر، والبلاء الحسن قيل: بالنصر والغنيمة، وقيل: بالشهادة.
واللام في ليبلى تتعلق بمحذوف بعد الواو تقديره وفعلنا ذلك، أي قتلهم ورميهم أو مقدر آخر الجملة تقديره بلاء حسنا فعلنا ذلك.
{ إن الله سميع } لكلامكم وما تفخرون به.
{ عليم } بما انطوت عليه الضمائر.
{ ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين } قال الزمخشري: ذلكم إشارة إلى البلاء الحسن ومحله الرفع. وإن الله موهن معطوف على وليبلى يعني أن الغرض إبلاء للمؤمنين وتوهين كيد الكافرين. " انتهى ". وهذا فيه بعد لفصل المعطوف الذي هو وان الله عن ليبلى بجملتين إحداهما وان الله سميع عليم، والأخرى ما قدره في قوله ذلكم. وقال ابن عطية: ذلكم إشارة إلى ما تقدم من قتل الله ورميه إياهم وموضع ذلكم من الإعراب رفع. قال سيبويه: التقدير الأمر ذلكم. وقرىء: موهن من وهن. والتعدية بالتضعيف فيما عينه حرف حلق غير الهمزة قليل نحو: ضعفت ووهنت وبابه ان يعدى بالهمزة نحو أوهنته. وقرىء: موهن إسم فاعل من أوهن. وقرىء: بالتنوين ونصب كيد وبحذفه وجر كيد على الإضافة.
{ إن تستفتحوا فقد جآءكم الفتح } قال الجمهور: هي خطاب لأهل مكة على سبيل التهكم وذلك أنهم حين أرادوا أن ينفروا تعلقوا باستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أقرانا للضيف وأوصلنا للرحم وأفكنا للعاني ان كان محمد على الحق فانصره وإن كنا على حق فانصرنا.
{ يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله } الظاهر أنه نداء وخطاب للمؤمنين الخلص حثهم بالأمر على طاعة الله ورسوله وأمروهم بالأمر رفعا لأقدارهم.
{ ولا تولوا عنه } أي عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
{ وأنتم تسمعون } أي الأمر بالطاعة والنهي عن التولي.
{ إن شر الدواب } الآية، تقدم الكلام على الصم البكم الذين لا يعقلون في البقرة. وقيل: نزلت في طائفة من بني عبد الدار كانوا يقولون نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم لا نسمعه ولا نجيبه فقتلوا جميعا يوم بدر وكانوا أصحاب اللواء.
{ ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم } قال ابن عطية: أخبر تعالى بأن عدم سمعهم وهداهم إنما هو بما علم الله تعالى منهم وسبق من قضائه عليهم فخرج ذلك في عبارة بليغة في ذمهم، بقوله: لو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم، والمراد لأسمعهم إسماع تفهم وهدى. ثم ابتدأ تعالى الخبر عنهم بما هم عليه من حتمه عليهم بالكفر فقال:
{ ولو أسمعهم } أي ولو فهمهم.
{ لتولوا وهم معرضون } بحكم القضاء السابق فيهم ولأعرضوا عما تبين لهم من الهدى. " انتهى ".
[8.24-31]
{ يأيها الذين آمنوا استجيبوا لله } تقدم الكلام في استجاب في قوله:
فليستجيبوا لي
[البقرة: 186]، وأفرد الضمير في دعاكم كما أفرده في: ولا تولوا عنه. والظاهر تعلق لما بقوله: دعاكم، ودعا يتعدى باللام قال: دعوت لما نابني مسورا. وقال آخرون:
وان أدع للجلي أكن من حماتها
{ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } المعنى أنه تعالى هو المتصرف في جميع الأشياء والقادر على الحيلولة بين الإنسان وبين ما يشتهيه قلبه فهو الذي ينبغي أن يستجاب إذا دعي إذ بيده ملكوت كل شىء وزمامه.
{ واتقوا فتنة } الآية، هذا خطاب ظاهره العموم باتقاء الفتنة التي لا تختص بالظالم بل تعم الصالح والطالح. والجملة من قوله: لا تصيبن، خبرية صفة لقوله: فتنة، أي غير مصيبة الظالم خاصة إلا أن دخول نون التوكيد على المنفي بلا مختلف فيه فالجمهور لا يجيزونه ويحملون ما جاء منه على الضرورة أو على الندور، والذي نختاره الجواز وإليه ذهب بعض النحويين، وإذا كان قد جاء لحاقها الفعل منفيا بلا مع الفصل نحو قوله:
فلاذا نعيم يتركن لنعيمه
وإن قال قرظني وخذ رشوة أبي. فلأن تلحقه من غير الفصل أولى نحو لا تصيبن. وزعم الزمخشري أن الجملة صفة وهي نهي، قال: وكذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول كأنه قيل: واتقوا فتنة، مقولا فيها لا تصيبن. وزعم الفراء أن الجملة جواب للأمر نحو قولك: انزل عن الدابة لا تطرحنك أي أن تنزل عنها لا تطرحنك. قال: ومنه لا يحطمنكم أي أن تدخلوا لا يحطمنكم فدخلت النون لما فيها من معنى الجزاء. " انتهى ". وهذا المثال وهو قوله: ادخلوا، ليس نظير واتقوا فتنة، لأنه ينتظم من المثال والآية شرط وجزاء كما قدر ولا ينتظم ذلك هنا ألا ترى أنه لا يصح تقدير أن تتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منك خاصة، لأنه يترتب إذ ذاك على الشرط غير مقتضاه من جهة المعنى. وأخذ الزمخشري قول الفراء وزاده فسادا وخبط فيه فقال: وقوله: لا تصيبن، لا يخلو من أن يكون جوابا للأمر أو نهيا بعد أمر أو صفة لفتنة فإذا كان جوابا فالمعنى أن إصابتكم فتنة لا تصيب الظالمين منكم خاصة ولكنها تعمكم. " انتهى " تقريره لهذا القول، فانظر كيف قدر أن يكون جوابا للأمر الذي هو اتقوا ثم قدر أداة الشرط داخلة على غير مضارع اتقوا فالمعنى ان إصابتكم يعني الفتنة، وانظر كيف قدر الفراء في انزل عن الدابة لا تطرحنك، وفي قوله: ادخلوا، فادخل أداة الشرط على مضارع فعل الأمر وهكذا يقدر ما كان جوابا للأمر وفيه تخريجات أخر ذكرت في البحر. قال الزمخشري: خاصة أصله أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي إصابة خاصة وهي حال من الفاعل المستكن في لا تصيبن ويحتمل أن يكون حالا من الذين ظلموا أي مخصوصين بها بل تعمهم وغيرهم.
قال ابن عطية: ويحتمل أن تكون خاصة حالا من الضمير في الذين ظلموا. " انتهى ". لا أتعقل أنا هذا الوجه.
{ واذكروا إذ أنتم قليل } الآية نزلت عقب بدر فقيل خطاب للمهاجرين خاصة كانوا بمكة قليلي العدد مقهورين فيها يخافون أن يستلبهم المشركون، قاله ابن عباس فآواهم بالمدينة وأيدهم بنصره يوم بدر. والطيبات: الغنائم وما فتح به عليهم .
{ يأيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول } الآية قال ابن عباس: نزلت في أبي لبابة حين استنصحته قريظة لما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسيرهم إلى أذرعات وأريحاء كفعله ببني النضير فأشار أبو لبابة إلى حلقه أي ليس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا الذبح فكانت خيانته في قصة طويلة.
{ وأن الله عنده أجر عظيم } وفي كون الأجر العظيم عنده تعالى إشارة إلى أن لا يفتن المرء بماله وولده فيؤثر محبتهما على ما عند الله تعالى فيجمع المال ويحب الولد حتى يؤثر ذلك كما فعل أبو لبابة لأجل كون ماله وولده كانوا عند بني قريظة.
{ يأيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله } الآية، الفرقان مصدر من فرق بين الشيئين أي حال بينهما. قال ابن عباس وجماعة: فرقانا مخرجا. قال الشاعر:
فكيف أرجي الخلد والموت طالبي
ومالي من كأس المنية فرقان
أي مخرج ومخلص.
{ وإذ يمكر بك الذين كفروا } الآية، لما ذكر المؤمنين نعمه تعالى عليهم ذكرهم صلى الله عليه وسلم نعمه عليه في خاصة نفسه عليه السلام وكانت قريش تشاوروا في دار الندوة بما يفعل به فمن قائل يحبس ويقيد ويتربص به ريب المنون ومن قائل يخرج من مكة يستريحوا منه وتصور لهم إبليس في صورة شيخ نجدي وقيل هذين الرأيين، ومن قائل يجتمع من كل قبيلة رجل ويضربونه ضربة واحدة بأسيافهم فيتفرق دمه في القبائل فلا يقدر بنو هاشم على محاربة قريش كلها فيرضون بأخذ الدية، فصوب إبليس لعنه الله هذا الرأي. فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم بذلك وأمره ألا يبيت في مضجعه وأذن له في الخروج إلى المدينة وأمر عليا أن يبيت في مضجعه ويتشح ببردته وباتوا راصدين فبادروا إلى المضجع فأبصروا عليا فبهتوا وخلف عليا رضي الله عنه ليرد ودائع كانت عنده وخرج إلى المدينة. ومعنى ليثبتوك أي ليثخنوك بالجراح والضرب، من قولهم: ضربوه حتى أثبتوه ولا حراك به ولا براج ورمى الطائر. فأثبته أي أثخنه. وقال الشاعر:
فقلت ويحك ماذا في صحيفتكم
قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا
أي مثخنا.
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا } الآية، قائل ذلك النضر بن الحارث واتبعه قائلون كثيرون وكان من مردة قريش سافر إلى فارس والحيرة وسمع من قصص الرهبان والأناجيل واخبار رستم واسافنديار ورأى اليهود والنصارى يركعون ويسجدون قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم صبرا بالصفراء بالأثيل منها منصرفة من بدر وفي هذا التركيب جواز وقوع المضارع بعد إذا وجوابه الماضي جوابا فضيحا بخلاف أدوات الشرط فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا في الشعر، نحو:
من يكدني بشىء كنت منه
ومعنى قد سمعنا ولا نطيع أو قد سمعنا مثل هذا. وقولهم: لو نشاء أي لو نشاء القول لقلنا مثل هذا الذي تتلوه وذكر على معنى المتلو وهذا القول منهم على سبيل البهت والمصادمة وليس ذلك في استطاعتهم فقد طولبوا بسورة منه فعجزوا وكانوا أحب شىء إليهم الغلبة وخصوصا في باب البيان فكانوا يتمالطون ويتعارضون ويحكم بينهم في ذلك وكانوا أحرص الناس على قهره صلى الله عليه وسلم فكيف يحيلون المعارضة على مشيئتهم ويتعللون بأنهم لو أرادوا لقالوا مثل هذا القول.
{ إن هذآ إلا أساطير الأولين } تقدم شرحه من الانعام.
[8.32-40]
{ وإذ قالوا اللهم } الآية، قائل ذلك النضر بن الحارث، وقيل: أبو جهل، رواه البخاري ومسلم. والإشارة في أن كان هذا إلى القرآن أو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من التوحيد وغيره أو نبوته عليه السلام من بين سائر قريش. وتقدم الكلام على اللهم. وقرأ الجمهور هو الحق بالنصب جعلوا هو فصلا. وقال ابن عطية: ويجوز في العربية رفع الحق على أنه خبر هو والجملة خبر كان. قال الزجاج: ولا أعلم أحدا قرأ بهذا الجائز وقراءة الناس إنما هي بنصب الحق. " انتهى ". وقد قرأ بها الأعمش وزيد بن علي وهي جائزة في العربية. فالجملة خبر كان وهي لغة تميم يرفعون بعد هو التي هي فصل في لغة غيرهم. قال الزمخشري: فإن قلت: ما فائدة قوله من السماء والأمطار لا تكون إلا منها؟ قلت: كأنه أراد أن يقال: فأمطر علينا السجيل وهي الحجارة المسومة للعذاب فوضع حجارة من السماء موضع السجيل، كما يقال: صب عليه مسرودة من حديد يريد درعا. " انتهى ". ومعنى جوابه أن قوله: من السماء، جاء على سبيل التوكيد كما أن قوله: من حديد، معناه التوكيد لأن المسرودة لا تكون إلا من حديد كما أن الأمطار لا تكون إلا من السماء. وقال ابن عطية: وقولهم أي الكفار: من السماء مبالغة وإغراق. " انتهى ". والذي يظهر لي أن حكمة قولهم من السماء هي في مقابلتهم مجيء الأمطار من الجهة التي ذكر عليه السلام أنه يأتيه الوحي من جهتها أي أنك تذكر أنه يأتيك الوحي من السماء فأتنا بعذاب من الجهة التي يأتيك منها الوحي إذ كان يحسن أن يعبر عن إرسال الحجارة عليهم من غير جهة السماء بقولهم: فأمطر علينا حجارة، وقالوا ذلك على سبيل الاستبعاد والاعتقاد أن ما أتى به ليس بحق.
{ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } اللام في ليعذبهم لام الجحود. والنصب في الفعل بإضمار أن بعد اللام، وتقدم الكلام عليها في آل عمران في قوله:
ما كان الله ليذر المؤمنين
[الآية: 179]. وقال ابن بزي: نزلت الجملة الأولى بمكة أثر قوله: بعذاب أليم، والثانية عند خروجه من مكة في طريقه إلى المدينة وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون، والثالثة بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم. قال ابن عباس: لم تعذب أمة قط ونبيها فيها. " انتهى ".
{ وما كان الله معذبهم } الآية أنظر إلى حسن مساق هاتين الجملتين لما كانت كينونته فيهم سببا لانتفاء تعذيبهم أكد خبر كان باللام على رأي الكوفيين أو جعل خبر كان الإرادة المنتفية على رأي البصريين وانتفاء الإرادة للعذاب أبلغ من انتفاء العذاب ولما كان استغفارهم دون تلك الكينونة الشريفة لم يؤكد باللام بل جاء خبر كان قولهم: معذبهم فشتان ما بين استغفارهم وكينونته صلى الله عليه وسلم فيهم.
والظاهر أن هذه الضمائر كلها في الجمل عائدة على الكفار. وقال ابن عباس أيضا ما مقتضاه: أن الضميرين عائدان على الكفار وكانوا يقولون في دعائهم: غفرانك، ويقولون: لبيك لا شريك لك، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار فجعله الله تعالى أمنة من عذاب الدنيا.
{ وما لهم ألا يعذبهم الله } الظاهر أن ما استفهامية أي أي شىء لهم في انتفاء العذاب وهو استفهام معناه التقرير أي كيف لا يعذبون وهم متصفون بهذه الحال المقتضية للعذاب وهي صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام وليسوا بولاة البيت ولا متأهلين لولايته ومن صدهم ما فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وإخراجه مع المؤمنين داخل في الصد، كانوا يقولون: نحن ولاة البيت نصد من نشاء وندخل من نشاء.
{ وما كان صلاتهم عند البيت } الآية، لما نفى عنهم أن يكونوا ولاة البيت ذكر من فعلهم القبيح ما يؤكد ذلك وان من كانت صلاته ما ذكر لا يستأهل أن يكونوا أولياءه، فالمعنى والله أعلم أن الذي يقوم به مقام صلاتهم هو المكاء والقصدية وضعوا مكان الصلاة، والتقرب إلى الله تعالى الصفير والتصفيق، وكانوا يطوفون بالبيت عراة رجالهم ونساؤهم مشبكين بين أصابعهم يصفرون ويصفقون يفعلون ذلك، إذا قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم يخلطون عليه في صلاته وقراءته. ومكاء مصدر مكا يمكو وجاء على فعال ويكثر فعال في الأصوات كالصراخ.
{ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم } الآية نزلت في نفقة المشركين الخارجين إلى بدر كانوا ينحرون يوما عشرا من الإبل ويوما تسعا وقيل غير ذلك.
{ ليميز الله الخبيث من الطيب } هذا إخبار بما يؤول إليه حال الكفار في الآخرة من حشرهم إلى جهنم إذ أخبر بما آل إليه حالهم في الدنيا من حسرتهم وكونهم مغلوبين. ومعنى قوله: والذين كفروا من وافى على الكفر، وأعاد الظاهر لأن من أنفق ماله من الكفار أسلم منهم جماعة ولام ليميز متعلقة بقوله: يحشرون. والخبيث والطيب وصفان يصلحان للآدميين، والخبيث هم الكفار، والطيب هم المؤمنون، وبعضه بدل من الخبيث أي ويجعل بعض الخبيث على بعض فيركمه أي يضمه. وأولئك إشارة إلى الذين. والخبيث اسم جنس لوحظ أولا إفراده في قوله: بعضه، وفي قوله: فيركمه، ولوحظ ثانيا جمعه في قوله: أولئك هم الخاسرون.
{ قل للذين كفروا } الآية لما ذكر ما يحل بهم من حشرهم إلى النار وجعلهم فيها وخسرهم تلطف بهم وانهم إذا انتهوا عن الكفر وآمنوا غفرت لهم ذنوبهم السالفة وليس ثم ما يترتب على الانتهاء عنه غفران الذنوب سوى الكفر فلذلك كان المعنى وأن ينتهوا عن الكفر ويسلموا.
وللام في للذين الظاهر أنها للتبليغ وانه أمر أن يقول لهم هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ الجملة المحكية بالقول وسواء أقاله بهذه العبارة أم غيرها.
{ وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين } العود يقتضي الرجوع إلى شىء سابق ولا يكون الكفر لأنهم لم ينفصلوا عنه، فالمعنى عودهم إلى ما أمكن انفصالهم عنه وهم الإرتداد بعد الإسلام وجواب الشرط. قالوا: فقد مضت سنة الأولين، ولا يصح ذلك على ظاهره بل ذلك دليل على الجواب. والتقدير وان يعودوا انتقمنا منهم وأهلكناهم فقد مضت سنة الأولين في انا انتقمنا منهم وأهلكناهم بتكذيب أنبيائهم وكفرهم.
{ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة } تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في البقرة وهنا زيادة، كله توكيدا للدين.
{ فإن انتهوا } أي عن الكفر. ومعنى بصير بإيمانهم فيجازيهم على ذلك ويثيبهم.
{ وإن تولوا } أي أعرضوا عن الإسلام والمخصوص بالمدح محذوف تقديره ونعم النصير الله تعالى.
[8.41-44]
{ واعلموا أنما غنمتم } الآية، قال الواقدي: كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة.
{ فأن لله خمسه } قال ابن عباس وجماعة: خمسة استفتاح كلام كما يقول الرجل لعبده: أعتقك الله، وأعتقتك على جهة التبرك وتفخيم الأمر والدنيا كلها لله تعالى وقسم الله وقسم الرسول واحد. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم الخمس على خمسة أقسام. والظاهر أن ما موصولة، وغنمتم صلة ما، والعائد محذوف، ومن شىء تفسير لما انبهم في لفظ ما أريد بها العموم فلذلك دخلت الفاء في خبر ان لتضمن العموم معنى الشرط وان لله في موضع رفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي فالحكم ان لله خمسه. وأجاز الفراء أن تكون ما شرطية منصوبة بغنمتم، واسم ان ضمير الشأن محذوف تقديره انه وحذف هذا الضمير مع أن المشددة مخصوص عند سيبويه بالشعر. وتقدم الكلام على ذوي القربى وما بعدها بالبقرة وظاهر العطف يقتضي التشريك فلا يحرم أحد.
{ ومآ أنزلنا } معطوف على بالله ويوم الفرقان يوم بدر بلا خلاف فرق الله فيه بين الحق والباطل. والجمعان: جمع المؤمنين وجمع الكافرين. والمنزل: الآيات والملائكة والنصر. وختم بصفة القدرة لأنه تعالى أدال المؤمنين أي نصرهم على قلتهم على الكافرين على كثرتهم ذلك اليوم.
{ إذ أنتم بالعدوة الدنيا } العدوة شط الوادي وتسمى شفيرا وضفة سميت بذلك لأنها عدت ما في الوادي من ماء أي منعته أن يتجاوزه. قال الشاعر:
عدتني عن زيارتها العوادي
وحالت دونها حرب زبون
ويسمى الفضاء المساير للوادي عدوة للمجاوزة. وقرىء: بالعدوة بكسر العين وبضمها. ومعنى الدنيا: القربى، والقصوى: البعدى. وثبوت الواو في القصوى شاذ في القياس فصيح في الاستعمال. والقياس القصيا بالياء وقد قاله بعض العرب لأن الفعلي من ذوات الواو تقلب ياء كالدنيا من الدنو والعليا من العلو والمدينة من الوادي من موضع الوقعة منه في الشرق وبينهما مرحلتان. وقرىء أسفل بالنصب منصوبا على الظرف وهو في موضع الخبر للمبتدأ قبله وأصله وصف لموصوف محذوف تقديره والركب مكانا أسفل منكم أي في مكان. وقرىء: أسفل بالرفع اتسع في الظرف، فجعل خبرا للمبتدأ قبله وذلك ان العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضا لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي الأرض اللينة التي تغوص فيها الأقدام ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم.
{ ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد } كان الإلتقاء على غير ميعاد. قال مجاهد: أقبل أبو سفيان وأصحابه تجارا من الشام ولم يشعروا بأصحاب محمد ولا بأصحاب بدر ولم يشعر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بكفار قريش ولا كفار قريش بمحمد وأصحابه حتى التقوا على ماء بدر لتستقي ركابهم فاقتتلوا فغلبهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وأسروهم.
{ ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا }. أي ولكن تلاقيتم على غير ميعاد ليقضي الله أمرا من نصر دينه وإعزاز كلمته وكسر الكفار وإذلالهم كان مفعولا أي موجودا متحققا واقعا.
{ ليهلك } بدل من ليقضي فيتعلق بمثل ما تعلق به ليقضي. والظاهر أن المعنى ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم عن بيان من الله تعالى وإعذار بالرسالة ويعيش من يعيش عن بيان منه وإعذار لا حجة لأحد عليه. وقرىء: حيي بياءين على الفك وحى بالإدغام.
{ إذ يريكهم الله } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتظاهرت الروايات أنها رؤيا منام رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها الكفار قليلا فأخبر بها أصحابه فقويت نفوسهم وشجعت على أعدائهم، وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه حين انتبه: أبشروا لقد نظرت إلى مصارع القوم. والمراد بالقلة قلة القدر والبأس والنجدة، وانهم مهزومون مصروعون، ولا يحمل على قلة العدد لأنه صلى الله عليه وسلم رؤياه حق وقد كان علم أنهم ما بين تسع مائة إلى الألف فلا يمكن حمل ذلك على قلة العدد. وانتصب قليلا على أنه مفعول ثالت ليرى. والأول هو ضمير الخطاب، والثاني ضمير الغيبة، وكثيرا مفعول ثالث لأرى. والأول ضمير الخطاب، والثاني ضمير الغيبة أجريت الحلمية مجرى أعلمت فتعدت إلى ثلاثة مفاعيل، وجواز حذف هذا المنصوب يبطل هذا المذهب تقول: رأيت زيدا في النوم، وأرى الله زيدا في النوم، قال الزمخشري: انتصب قليلا على الحال. وما قاله ظاهر لأن أرى منقولة بالهمزة من رأى البصرية فتعدت إلى اثنين الأول كاف الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والثاني ضمير الكفار فقليلا وكثيرا منصوبان على الحال.
{ ولتنازعتم في الأمر } أي تفرقت آراؤكم في أمر القتال فكان يكون ذلك سببا لانهزامكم وعدم إقدامكم على قتال أعدائكم، لأنه لو رآهم كثيرا أخبركم برؤياه ففشلتم، ولما كان عليه السلام محميا من الفشل معصوما من النقائص أسند تعالى الفشل إلى من يمكن ذلك في حقه، فقال تعالى: لفشلتم، وهذا من محاسن القرآن.
{ ولكن الله سلم } من الفشل والتنازع والاختلاف بإراءته له عليه السلام الكفار قليلا فأخبرهم بذلك.
{ وإذ يريكموهم } الآية، هذه الرؤية يقظة لا منام، وقلل الكفار في أعين المؤمنين تحقيرا لهم ولئلا يجبنوا عن لقائهم. وقال ابن مسعود: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. وقلل المؤمنون في أعين الكفار حتى قال قائل منهم: إنما هم أكلة جزور. وذلك قبل الإلتقاء بهم ليجترؤا على المؤمنين فتقع الحرب ويلتحم القتال إذ لو كثروا قبل اللقاء لأحجموا وتحيلوا في الخلاص أو استبعدوا واستنصروا.
[8.45-51]
{ يأيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا } أي فئة كافرة. حذف الوصف لأن المؤمنين ما كانوا يلقون إلا الكفار. واللقاء إسم للقتال غالب وأمرهم تعالى بالثبات وهو مقيد بآية الضعف. وفي البخاري ومسلم
" لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية وإذا لقيتموهم فأثبتوا "
، وأمرهم بذكره تعالى كثيرا في هذا الموطن العظيم من مصابرة العدو والتلاحم بالرماح والسيوف وهي حالة يقع فيها الذهول عن كل شىء فأمروا بذكر الله إذ هو تعالى الذي يفزع إليه عند الشدائد. والأظهر أن يكون فتفشلوا جوابا للنهي فهو منصوب، ولذلك عطف عليه منصوب لأنه يتسبب عن التنازع الفشل وهو الخور والجبن عن لقاء العدو، ويجوز أن يكون فتفشلوا مجزوما عطفا على ولا تنازعوا وذلك على قراءة عيسى بن عمر ويذهب بالياء وسكون الباء.
{ وتذهب ريحكم } قال الزمخشري: والريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها وتسببه بالريح وهبوبها. فقيل: هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. وقول الشاعر:
أتنظران قليلا ريث غفلتهم
أم تعدوان فإن الريح للعادي
" انتهى ". وهو قول أبي عبيدة أن الريح هي الدولة. وقال آخر:
إذا هبت رياحك فاغتنمها
فإن لكل خافقة سكونا
{ ولا تكونوا كالذين خرجوا } الآية نزلت
" في أبي جهل وأصحابه خرجوا لنصرة العير بالقينات والمعازف ووردوا الجحفة، فبعث خفاف الكناني وكان صديقا له بهدايا مع ابنه وقال: إن شئت أمددناك بالرجال وإن شئت بنفسي مع من خف من قومي فقال أبو جهل: إذ كنا نقاتل الله كما يزعم محمد فوالله ما لنا بالله طاقة، وان كنا نقاتل الناس فوالله إن بنا على الناس لقوة، والله لا نرجع عن قتال محمد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمر وتعزف علينا القينات، فإن بدرا مركز من مراكز العرب وسوق من أسواقهم حتى تسمع العرب بمخرجنا فتهابنا آخر الأبد. فوردوا بدرا فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القينات فنهى الله تعالى المؤمنين أن يكونوا مثل هؤلاء بطرين طربين مرائين بأعمالهم صادين عن سبيل الله تعالى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أن قريشا أقبلت بفخرها وخيلائها تجادل وتكذب رسولك اللهم فاحنها الغداة ".
وفي قوله: { والله بما يعملون محيط } وعيد وتهديد لمن بقي من الكفار وانتصب بطرا ورئاء على أنه مفعول من أجله.
{ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } الآية، وهي ما كانوا فيه من الشرك وعبادة الأصنام ومسيرهم إلى بدر وعزمهم على قتاله صلى الله عليه وسلم وهذا التزيين والقول والنكوص من وسوسة الشيطان على سبيل المجاز وهو من باب مجاز التمثيل.
{ نكص على عقبيه } رجع في ضد إقباله، أي رجع إلى وراء.
{ وقال إني بريء منكم } مبالغة في الخذلان والانفصال عنهم، لم يكتف بالفعل حتى أكد ذلك بالقول.
{ إني أرى ما لا ترون } رأي خرق العادة ونزول الملائكة.
{ إني أخاف الله } قال قتادة وابن الكلبي: معذرة كاذبة لأنه لم يخف الله قط. وقال الزجاج: بل خاف مما رأى من الهول خاف أن يكون اليوم الذي أنظر إليه، انتهى.
ويحتمل أن يكون: { والله شديد العقاب } معطوفا على معمول القول، قال ذلك بسطا لعذره عندهم وهو متحقق أن عقاب الله شديد. ويحتمل أن يكون من كلام الله تعالى استأنفه تهديدا لإبليس ومن تابعه من مشركي قريش وغيرهم.
{ إذ يقول المنافقون } الآية، ظاهر العطف التغاير، فقيل: المنافقون هم من الأوس والخزرج لما خرج عليه السلام. قال بعضهم: نخرج معه. وقال بعضهم: لا نخرج.
{ غر هؤلاء } المؤمنين { دينهم } يزعمون أنهم على حق وأنهم لا يغلبون، هذا معنى قول ابن عباس.
{ والذين في قلوبهم مرض } هم قوم أسلموا ومنعتهم أقرباؤهم من الهجرة فأخرجتهم قريش معها كرها فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا، وقالوا: غر هؤلاء دينهم فقتلوا جميعا. ولم يذكر أن منافقا شهد بدرا مع المسلمين إلا معتب بن قشير فإنه ظهر يوم أحد قوله:
لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا
[آل عمران: 154]. والذين في قلوبهم مرض هو من عطف الصفات وهي لموصوف واحد وصفوا بالنفاق وهو إظهار ما لا يخفيه وبالمرض لقوله تعالى: { في قلوبهم مرض } وهم منافق المدينة.
{ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا } الآية، لو التي ليست شرطا في المستقبل تقلب المضارع للمضي، فالمعنى لو رأيت وشاهدت. وحذف جواب لو جائز بليغ حذفه في مثل هذا لأنه يدل على التعظيم أي لو رأيت أمرا عجيبا وشيئا هائلا. والظاهر أن الملائكة فاعل يتوفى، ويدل عليه قراءة من قرأ تتوفى بالتاء. فقيل في هذه القراءة: الفاعل ضمير الله، والملائكة مبتدأ، والجملة حالية كهي في يضربون. قال ابن عطية: ويضعفه سقوط واو الحال فإنها في الأغلب تلزم مثل هذا. " انتهى ". ولا ويضعفه إذ جاء بغير واو في كتاب الله وفي كثير من كلام العرب ولكن يضعفه تفكيك الكلام من حيث صار جملتين وانصباب الرؤية على الملائكة في حال ضربهم وجوه الكفار والملائكة هم الممد بهم يوم بدر، ويضربون حال من الملائكة، وجوههم حال الإقبال. وادبارهم حالة هزيمتهم لأن الضرب في الإدبار أخزى وأشد نكالا.
{ ذوقوا } الآية، هو كلام مستأنف منه تعالى: بقوله: لهم في الآخرة.
[8.52-59]
{ كدأب آل فرعون } تقدم الكلام عليه في آل عمران.
{ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة } الآية، ذلك مبتدأ، وخبره بأن الله لم يك، أي ذلك العذاب والانتقام بسبب كذا. وظاهر النعمة أنه يراد بها ما يكون فيه من سعة الحال والرفاعية والعزة والأمن والخصب وكثرة الأولاد.
{ حتى يغيروا ما بأنفسهم } حتى هنا للغاية. المعنى إلى أن يغيروا وما موصولة بمعنى الذي، وبأنفسهم صلته، والباء ظرفية أي في أنفسهم من تبديل شكر الله تعالى بكفران النعمة.
{ كدأب آل فرعون } الدأب العادة وهذه الجملة تأكيد للجملة السابقة.
{ وكل كانوا ظالمين } حمل على معنى كل فجمع الضمير في كانوا لأجل الفواصل ولم يحمل على لفظه كما حمل في قوله:
قل كل يعمل على شاكلته
[الإسراء: 84]، فأفرد الضمير وكما أفرده في قوله:
فكلا أخذنا بذنبه
[العنكبوت: 40]. قال الزمخشري: وكلهم من غرقى القبط وقتلى قريش كانوا ظالمين أنفسهم بالكفر والمعاصي. " انتهى ". لا يظهر تخصيص الزمخشري كلا لغرقى القبط وقتلى قريش إذ الضمير في كذبوا وفي أهلكناهم لا يختص بهما فالذي يظهر عموم المشبه به وهم آل فرعون والذين من قبلهم.
{ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا } نزلت في بني قريظة منهم كعب بن الأشرف وأصحابه عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يمالؤا عليه فنكثوا بأن أعانوا مشركي مكة بالسلاح وقالوا: نسينا وأخطأنا، ثم عاهدهم فنكثوا ومالؤا معهم يوم الخندق، وانطلق كعب بن الأشرف إلى مكة مخالفهم.
{ فهم لا يؤمنون } إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون فلا يمكن أن يقع منهم إيمان. قال ابن عباس: شر الناس الكفار وشر الكفار منهم المصرون وشر المصرين الناكثون للعهود، فأخبر تعالى أنهم جامعون لأنواع الشر.
{ الذين عاهدت منهم } بدل من الذين كفروا.
{ فإما تثقفنهم } أي فاما تظفر بهم وثم محذوف تقديره فاقتلهم لأن التشريد لا يتسبب عن الظفر فقط بل عن الظفر والقتل والتشريد التطريد والابعاد.
{ من خلفهم } أي من الكفار. وقرأ الأعمش بخلاف عنه فشرذ بالذال المعجمة وكذا في مصحف عبد الله. قالوا: ولم تحفظ هذه المادة في لغة العرب. وقيل: الذال بدل من الدال كما قالوا لحم خراديل وخراذيل.
{ وإما تخافن } الظاهر أن هذا استئناف كلام أخبره تعالى بما يصنع في المستقبل مع من يخاف منه خيانة.
وقوله: { من قوم } يدل على أنهم ليسوا الذين تقدم ذكرهم إذ لو كانوا إياهم لكان التركيب واما تخافن منهم، أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إذا أحس من أهل عهد ما ذكرنا وخاف خيانتهم أن يلقى إليهم عهدهم وهو النبذ ومفعول فانبذ محذوف التقدير فانبذ إليهم عهدهم أي ارمه واطرحه.
وفي قوله: فانبذ، عدم اكتراث به كقوله:
فنبذوه ورآء ظهورهم
[آل عمران: 187]. ومعنى على سواء على طريق مستو قصد، وذلك أن يظهر لهم نبذ العهد ويخبرهم إخبارا مكشوفا بينا انك قطعت ما بينك وبينهم.
{ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا } قال الزهري: نزلت فيمن أفلت من الكفار يوم بدر، فالمعنى لا تظنهم ناجين مفلتين لا يعجزون طالبهم بل لا بد من أخذهم الدنيا. وقرىء: ولا يحسبن بياء الغيبة، والفاعل ضمير يعود على الرسول أو على السامع، والمفعول الأول الذين، والثاني سبقوا. وقال الزمخشري: وليست هذه القراءة التي تفرد بها حمزة بنيرة يشير إلى قراءته ولا يحسبن الذين كفروا بياء الغيبة. " انتهى ". لم ينفرد بها حمزة كما ذكر بل قرأ بها ابن عامر وهو من العرب الذين سبقوا اللحن. وقرأ على علي وعثمان وحفص عن عاصم وأبو جعفر يزيد بن القعقاع وأبو عبد الرحمن وابن محيصن وعيسى والأعمش وكان الزمخشري توهم أن الفاعل الذين فما استنارت له. وقرىء: تحسبن بتاء الخطاب والمفعول الأول الذين كفروا، والثاني سبقوا. وقرىء: انهم بكسر الهمزة. واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة ولا استبعاد فيها لأنها تعليل للنهي أي لا تحسبنهم فائتين لأنهم لا يعجزون، أي لا يقع منك حسبان لقوتهم لأنهم لا يعجزون. وقرىء: انهم بفتح الهمزة وهو تعليل للنهي أي لأنهم لا يعجزون من طلبهم.
[8.60-63]
{ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة } الآية، لما اتفق في قصة بدر أن قصدوا الكفار بلا تكميل عدة ولا آلة وأمره تعالى بالتشديد وبنبذ العهد للناقضين كان ذلك سببا للأخذ في قتاله والتمالي عليه فأمره تعالى والمؤمنين بإعداد ما قدروا عليه من القوة للجهاد والإعداد الإرصاد، وعلق ذلك بالاستطاعة لطفا منه تعالى. والمخاطبون هم المؤمنون، والضمير في لهم عائد على الكفار المتقدمي الذكر وهم المأمور بحربهم في ذلك الوقت. والظاهر العموم في كل ما يتقوى به في حرب العدو والآلات كالرمي وذكور الخيل وقوة القلوب واتفاق الكلمة والحصون المشيدة وعدة الحرب وعددها والازواد والملابس الباهية، ورباط: جمع ربط. قال ابن عطية: رابط جمع ربط ككلب وكلاب، فلا يكثر ربطها إلا وهي كثيرة ويجوز أن يكون الرباط مصدرا من رباط كصاح صياحا، لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس. " انتهى ". قوله: لأن مصادر الثلاثي غير المزيد لا تنقاس ليس بصحيح بل له مصادر منقاسة ذكرها النحويون.
وقوله: { من قوة ومن رباط الخيل } تفسير لما أبهم في قوله: ما استطعتم. وفي صحيح مسلم عن عقبة بن عامر، قال:
" سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول: وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا وان القوة الرمي "
فمعناه والله أعلم أن معظم القوة وأنكاها للعدو الرمي.
{ ترهبون } تخوفون. وقرىء: ترهبون بالتشديد.
{ وآخرين من دونهم } الظاهر أنهم المنافقون لأنه قال: لا تعلمونهم، أي لا تعلمون أعيانهم وأشخاصهم إذ هم يتسترون عنكم أن تعلموهم بالإسلام، فالعلم هنا كالمعرفة تعدى إلى واحد وهو متعلق بالذوات وليس متعلقا بالنسبة.
{ وإن جنحوا للسلم } الآية، الضمير في جنحوا عائد على الذين نبذ إليهم على سواء وهم بنو قريظة والنظير، جنح الرجل إلى الآخر مال إليه، وجنحت الإبل أمالت أعناقها في السير قال ذو الرمة:
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه
بذكراك والعيس المراسيل جنح
أي مائلات وجنح يتعدى بإلى وباللام. والسلم يذكر ويؤنث فقيل: التأنيث لغة. وقيل: على معنى المسالمة. وقيل: حملا على النقيض وهو الحرب.
{ وإن يريدوا أن يخدعوك } أي وان يريدوا أي الجانحون للسلم بأن يظهروا السلم ويبطنوا الخيانة، والغدر مخادعة.
{ فاجنح لها } فما عليك من نياتهم الفاسدة فإن محسبك وكافيك هو الله تعالى ومن كان الله حسبه لا يبالي من نوى سوأ، ثم ذكره بما فعل معه أولا من تأييده بالنصر وبائتلاف المؤمنين على إعانته ونصره على أعدائه فكما لطف بك أو لا يلطف بك آخرا. والمؤمنون هنا الأوس والخزرج. وكان بين الطائفتين من العداوة للحروب التي جرت بينهم ما كان لولا الإسلام لا ينقضي أبدا ولكنه تعالى من عليهم بالإسلام فأبدلهم بالعداوة محبة وبالتباعد قربا.
ومعنى: { لو أنفقت ما في الأرض جميعا } أي على تأليف قلوبهم واجتماعها على محجة بعضها وكونها في الأوس والخزرج تظاهرت به أقوال المفسرين.
[8.64-69]
{ يأيها النبي حسبك الله } الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال والظاهر رفع ومن عطفا على ما قبله أي حسبك الله والمؤمنون. وقال الشعبي وابن زيد: معنى الآية حسبك الله وحسب من اتبعك. قال ابن عطية: فمن هذا التأويل في موضع نصب عطفا على موضع الكاف لأن موضعها نصب على المعنى بيكفيك الذي سدت حسبك مسدها. " انتهى ". وهذا ليس بجيد لأن حسبك ليس مما تكون الكاف فيه في موضع نصب بل هذه إضافة، صحيحة ليست من نصب، وحسبك مبتدأ مضاف إلى الضمير، وليس مصدرا، ولا إسم فاعل، والذي ينبغي أن يحمل عليه كلام الشعبي وابن زيد هو أن يكون، ومن مجرورة على حذف وحسب لدلالة حسبك عليه فيكون كقول الشاعر:
أكل امرىء تحسبين أمرأ
ونار توقد بالنيل نارا
أي وكل نار فلا يكون من العطف على الضمير المجرور. قال ابن عطية: وهذا الوجه من حذف المضاف مكروه بابه ضرورة الشعر " انتهى ". وليس بمكروه ولا ضرورة وقد أجازه سيبويه في الكلام وخرج عليه البيت وغيره من الكلام الفصيح. قال الزمخشري: ومن اتبعك الواو بمعنى مع وما بعده منصوب، تقول: حسبك مبتدأ وزيدا درهم. ولا يجر لأن عطف الظاهر المجرور على المكنى ممتنع، قال:
فحسبك والضحاك سيف مهند
والمعنى، كفاك وكفى اتباعك من المؤمنين الله ناصرا. " انتهى ". وهذا الذي قاله الزمخشري مخالف لكلام سيبويه قال سيبويه: قالوا حسبك وزيدا درهم لما كان فيه معنى كفاك وقبح أن يحملوه على المضمر نووا الفعل كأنه قال: حسبك وبحسب أخاك درهم.
{ يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال } الآية، هاتان الجملتان شرطيتان في ضمنهما الأمر بصبر عشرين لمائتين وبصبر مائة لألف ولذلك دخلها النسخ إذ لو كان خبرا محضا لم يكن فيه نسخ لكن الشرط إذا كان فيه معنى التكليف جاز فيه النسخ وهذا من ذلك، ولذلك نسخ بقوله:
{ الآن خفف الله عنكم } الآية، والتقييد بالصبر في أول كل شرط لفظا هو محذوف من الثانية لدلالة ذكره في الأولى. وتقييد الشرط الثاني بقوله: من الذين كفروا لفظا هو محذوف من الشرط الأول في قوله: يغلبوا مائتين، فانظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيد في الجملة الأولى وحذف نظيره من الثانية، وأثبت قيد في الثانية وحذف من الأولى، ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في أول جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ثم ختمت الآية بقوله تعالى: { والله مع الصابرين } ، مبالغة في شدة المطلوبية ولم يأت في جملتي التخفيف قيد الكفر اكتفاء بما قبل ذلك.
{ ما كان لنبي أن يكون له أسرى } الآية نزلت في أسارى بدر وكان عليه السلام قد استشار أبا بكر وعمر وعليا رضي الله عنهم.
فأشار أبو بكر بالاستحياء وعمر بالقتل، في حديث طويل يوقف عليه في صحيح مسلم. وقرأ أبو الدرداء وأبو حيوة: ما كان للنبي معرفا، والمراد به في التنكير والتعريف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن في التنكير إبهام في كون النفي لم يتوجه عليه معينا، وتقدم مثل هذا التركيب وكيفية هذا النفي في آل عمران في قوله:
وما كان لنبي أن يغل
[الآية: 161]، وهو هنا على حذف مضاف أي ما كان لأصحاب نبي أو لأتباع نبي، فحذف اختصارا ولذلك جاء الجمع في قوله: تريدون عرض الدنيا، ولم يجيء التركيب تريد عرض الدنيا لأنه عليه السلام لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد عرض الدنيا قط وإنما فعله جمهور مباشري الحرب.
{ حتى يثخن في الأرض } الاثخان: المبالغة في القتل والجراحات. يقال: أثخنته الجراحات أثبتته حتى تثقل عليه الحركة، وأثخنه المرض أثقله من الثخانة التي هي الغلظ والكثافة.
{ لمسكم } فيما تعجلتم منها ومن الفداء يوم بدر، قبل أن تؤمروا بذلك، عذاب عظيم.
[8.70-72]
{ يأيها النبي قل لمن في أيديكم } الآية نزلت عقب بدر في أسرى بدرا علموا أن لهم ميلا إلى الإسلام وأنهم يؤملونه ان فدوا ورجعوا إلى قومهم. والظاهر أن الضمير في وان يريدوا خيانتك عائد على الأسرى لأنه أقرب مذكور والخيانة هي كونهم أظهر بعضهم الإسلام ثم رجعوا إلى دينهم.
{ فقد خانوا الله من قبل } بخروجهم مع المشركين.
{ إن الذين آمنوا وهاجروا } الآية قسم المؤمنين إلى المهاجرين والأنصار والذين لم يهاجروا فبدأ بالمهاجرين لأنهم أصل الإسلام وأول من استجاب لله فهاجر قوم إلى المدينة وقوم إلى الحبشة وقوم إلى ابن ذي يزن ثم هاجروا إلى المدينة وكانوا قدوة لغيرهم في الإيمان وسببا لتقوية الدين من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، وثنى بالانصار لأنهم ساووهم في الإيمان وفي الجهاد بالنفس والمال، لكنه عادل الهجرة بالإيواء والنصر، وانفرد المهاجرون بالسبق، وذكر ثالثا من آمن ولم يهاجر ولم ينصر ففاتتهم هاتان الفضيلتان وحرموا الولاية.
{ حتى يهاجروا } ومعنى أولياء بعض في النصرة والتعاون والمؤازرة كما جاء في غير آية: المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض. وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري. قال ابن زيد: واستمر أمرهم كذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بعد لما لم تكن هجرة، فمعنى ما لكم من ولايتهم من شىء نفي الموالاة في التوارث، وكان قوله:
وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض
[الأنفال: 75] ناسخا لذلك.
{ وإن استنصروكم في الدين } والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن تكون الولاية المنفية غير النصرة. " انتهى " ولما نزل ما لكم من ولايتهم من شىء حتى يهاجروا قال الزبير: هل نعينهم على أمران استعانوا بنا فنزل وان استنصروكم، والاستثناء في قوله: إلا على قوم معناه أن من بيننا وبينهم ميثاق لا ننصر المستنصرين الذين لم يهاجروا عليهم بل نتركهم وإياهم.
[8.73-75]
{ والذين كفروا بعضهم أوليآء بعض } الآية، لما ذكر أقسام المؤمنين الثلاثة وأنهم أولياء ينصر بعضهم بعضا ويرث بعضهم بعضا، بين أن فريق الكفار كذلك إذ كانوا قبل بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم يعادي أهل الكتاب منهم قريشا ويتربصون بهم الدوائر فصاروا بعد بعثته عليه السلام يوالي بعضهم بعضا البا واحدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم خوفا على رياستهم وتحزبا على المؤمنين.
{ إلا تفعلوه } الضمير عائد على الاستنصار وهو المصدر المفهوم من قوله:
وإن استنصروكم
[الأنفال: 72] وتكن تامة وفتنة فاعل بها والفتنة إهمال المسلمين المستنصرين بنا حتى يتسلط عليهم عدوهم من الكفار. وقرأ أبو موسى الحجازي عن الكسائي كثير بالثاء المثلثة.
{ والذين ءامنوا وهاجروا وجهدوا } هذه الآية فيها تعظيم المهاجرين والأنصار وهي مختصرة إذ حذف منها بأموالهم وأنفسهم وليست تكرارا لأن السابقة تضمنت ولاية بعضهم بعضا وتقسيم المؤمنين إلى الأقسام الثلاثة وبيان حكمهم في ولايتهم ونصرهم، وهذه تضمنت الثناء والتشريف والاختصاص وما آل إليه حالهم من المغفرة والرزق الكريم. وتقدم تفسير نظير أواخر هذه الآية في أول السورة فأغنى عن إعادته.
{ والذين آمنوا من بعد } يعني الذين لحقوا بالهجرة من سبق إليها فحكم تعالى بأنهم من المؤمنين السابقين في الثواب والأجر وإن كان للسابقين شغوف السبق، وتقدم الإيمان والهجرة والجهاد ومعنى من بعد أي من بعد الهجرة الأولى وذلك بعد الحديبية، قاله ابن عباس.
{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } الآية، قيل: هي في المواريث، واستدل بها أبو حنيفة على توريث ذوي الأرحام، وقيل: ليست في المواريث والله أعلم.
[9 - سورة التوبة]
[9.1-4]
قوله تعالى: { برآءة من الله ورسوله } الآية، هذه السورة مدنية كلها، وقيل: إلا آيتان من آخرها فإنهما نزلتا بمكة، وهكذا قول الجمهور. ويقال: برئت من فلان أبرأ براءة، أي انقطعت بيننا العصمة. ومنه برئت من الدين. وارتفع براءة على الابتداء، والخبر إلى الذين عاهدتم، ومن الله صفة مسوغة لجواز الابتداء بالنكرة أو على إضمار مبتدأ، أي هذه براءة. وقرأ عيسى بن عمر براءة بالنصب، قال ابن عطية: أي الزموا. وفيه معنى الإغراء. وقال الزمخشري: اسمعوا براءة إلى الذين عاهدتم. قال ابن إسحاق وغيره : كانت العرب قد أوثقها رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدا عاما على أن لا يصد أحد عن البيت الحرام ونحو هذا من الموادعات. فنقض ذلك بهذه الآية وأجل لجميعهم أربعة أشهر، فمن كان له مع رسول الله عهد خاص وبقي منه أقل من الأربعة أبلغ به تمامها، ومن كان أمده أكثر أتم له عهده، وإذا كان ممن تحسس منه نقض العهد قصر على أربعة أشهر، ومن لم يكن له عهد خاص فرضت له الأربعة. يسيح في الأرض، أي يذهب فيها سوحا آمنا. وظاهر من المشركين العموم فدخل فيه مشركوا قريش وغيرهم. " فسيحوا " في الأرض أمر إباحة، وفي ضمنه تهديد، وهو التفات من غيبة إلى خطاب، أي قل لهم يسيحوا. ويقال: ساح سياحة وسيوحا وسيحانا، ومنه سيح الماء وهو الجاري المنبسط. قال ابن عباس: أول الأشهر شوال حين نزلت الآية، وانقضاؤها انقضاء المحرم بعد يوم الأذان بخمسين. فكان أجل من له عهد أربعة أشهر من يوم النزول، وأجل سائر المشركين خمسون ليلة من يوم الأذان.
{ غير معجزي الله } أي لا تفوتونه وإن أمهلكم وهو مخزيكم، أي مذلكم في الدنيا بالقتل والأسر والنهب، وفي الآخرة بالعذاب.
{ وأذان من الله ورسوله } قرىء: وإذن بكسر الهمزة وسكون الذال. وقرىء: ان الله بكسر الهمزة وفتحها، فالفتح على تقدير بأن الله، والكسر على إضمار القول على مذهب البصريين أو، لأن الاذان في معنى القول، فكسرت على مذهب الكوفيين. وحكى أبو عمرو عن أهل نجد أنهم يقرؤون من الله بكسر النون على أصل التقاء الساكنين واتباعا لكسرة الميم.
والظاهر أن يوم الحج الأكبر يوم واحد. فقال عمر وجماعة: هو يوم عرفة. وروي مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أبو موسى وجماعة: هو يوم النحر. وقيل: يوم الحج الأكبر أيام الحج كلها، قاله سفيان بن عيينة. والذي تظاهرت به الأحاديث أن عليا رضي الله عنه أذن بتلك الآيات يوم عرفة إثر خطبة أبي بكر رضي الله عنه، ثم رأى أنه لم يعم الناس بالاسماع فتتبعهم بالاذان بها يوم النحر، وفي ذلك اليوم بعث أبو بكر من يعينه بها كأبي هريرة وغيره، وتتبعوا بها أيضا أسواق العرب كذي المجاز وغيره، وبهذا يترجح قول سفيان.
وجملة براءة من الله ورسوله إخبار بثبوت البراءة، وجملة واذان من الله ورسوله اخبار بوجوب الاعلام بما ثبت فافترقنا، وعلقت البراءة بالمعاهدين لأنها مختصة بهم ناكثيهم وغير ناكثيهم، وعلق الاذان بالناس لشموله معاهدا وغيره ناكثا وغيره مسلما وكافرا.
{ ورسوله } معطوف على موضع اسم ان إذ كان قبل دخول ان كان في موضع رفع على الابتداء وفي العطف على هذا الموضع خلاف، ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المستكن في قوله: بريء، تقديره بريء هو ورسوله، والأجود أن يكون مرفوعا على الابتداء وخبره محذوف تقديره ورسوله بريء منهم، وحذف الخبر لدلالة ما قبله عليه.
{ فإن تبتم } أي من الشرك الموجب لتبرىء الله ورسوله منكم.
{ فهو } أي التوب.
{ خير لكم } في الدنيا لعصمة أنفسكم وأولادكم وأموالكم، وفي الآخرة لدخولكم الجنة وخلاصكم من النار.
{ وإن توليتم } أي عن الإسلام.
{ فاعلموا أنكم غير معجزي الله } أي لا تفوتونه عما يحل بكم من نقماته.
{ وبشر الذين كفروا } جعل الإنذار بشارة على سبيل الاستهزاء بهم، والذين كفروا عام يشمل المشركين عبدة الأوثان وغيرهم، وفي هذا وعيد عظيم بما يحل بهم.
{ إلا الذين عاهدتم } الأظهر أن يكون استثناء منقطعا بمعنى لكن، ويبعد أن يكون متصلا وان كان قد قال به قوم لعسر ظهور المستثنى منه قبله الذي هؤلاء بعض منه.
{ فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم } أي إلى انقضاء مدة عهدهم. والظاهر أن قوله: إلى مدتهم، يكون في المدة التي كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أمروا بإتمام العهد إلى تمام المدة. وعن ابن عباس: كان بقي لحي من كنانة تسعة أشهر فأتم إليهم عهدهم. { ولم يظاهروا عليكم أحدا } ، أي لم يعينوا عليكم أحدا كما فعلت قريش ببني بكر حين أعانوهم بالسلاح على خزاعة. وتعدى أتموا بإلى لتضمنه معنى فادوا، أي فأدوه تاما كاملا.
[9.5-7]
{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم } الظاهر أن هذه الأشهر هي التي أبيح للناكثين ان يسيحوا فيها، ووصفت بالحرم لأنها محرم فيها القتال، وتقدم ذكر الخلاف في ابتدائها وانتهائها، وإذا تقدمت النكرة وذكرت بعد ذلك فالوجه ان يؤتى بالضمير نحو: لقيت رجلا فضربته. ويجوز أن يعاد اللفظ معرفا بأل نحو: لقيت رجلا فضربت الرجل. ولفظ حيث وجدتموهم عام في الأماكن من حل وحرم.
{ وخذوهم } عبارة عن الأسر والأخيذ الأسير، ويدل على جواز أسرهم.
{ واحصروهم } قيدوهم وامنعوهم من التصرف في بلاد المسلمين. وقيل: استرقوهم وحاصروهم ان تحصنوا. قال القرطبي في قوله: واقعدوا لهم كل مرصد، دلالة على جواز اغتيالهم قبل الدعوة، لأن المعنى اقعدوا لهم مواضع الغرة، وهذا تنبيه على أن المقصود إيصال الأذى إليهم بكل طريق، اما بطريق القتال، أو بطريق الاغتيال. وقد أجمع المسلمون على جواز السرقة من أموال أهل الحرب، واستلال خيلهم وإتلاف مواشيهم إذا عجزوا عن الخروج بها إلى دار الإسلام إلا أن يصالحوا على مثل ذلك. قال الزمخشري: كل مرصد، كل ممر، ومجتاز ترصدونهم فيه وانتصابه على الظرف كقوله:
لأقعدن لهم صراطك المستقيم
[الأعراف: 16]. " انتهى ". وهذا الذي قاله الزجاج قال: كل مرصد، ظرف كقولك: ذهبت مذهبا.
ورده أبو علي لأن المرصد: المكان الذي يرصد العدو فيه، فهو مكان مخصوص لا يحذف الحرف منه إلا سماعا، كما حكي سيبويه: دخلت البيت، وكما: عسل الطريق الثعلب. " انتهى ".
وأقول: يصح انتصابه على الظرف لأن قوله: واقعدوا لهم، ليس معناه حقيقة القعود بل المعنى ارصدوهم في كل مكان يرصد فيه ولما كان هذا المعنى جاز قياسا أن يحذف منه في، كما قال: وقد قعدوا إيقافها كل مقعد. فمتى كان العامل في الظرف المختص عاملا من لفظه أو من معناه جاز أن يصل إليه بغير واسطة في، فيجوز: جلست مجلس زيد، وقعدت مجلس زيد، تريد في مجلس زيد فكما يتعدى الفعل إلى المصدر من غير لفظه إذا كان بمعناه فكذلك إلى الظرف. وقال الأخفش: معناه على كل مرصد فحذف على واعمل الفعل وحذف على ووصول الفعل إلى مجرورها فينصبه، يخصه أصحابنا بالشعر وأنشدوا قول الشاعر:
تحن فتبدي ما بها من صبابة
وأخفى الذي لولا الأسى لقضاني
أي لقضى علي.
{ فإن تابوا } أي عن الكفر والغدر. والتوبة تتضمن الإيمان وترك ما كانوا فيه من المعاصي.
{ فخلوا سبيلهم } كناية عن الكف عنهم وإجرائهم مجرى المسلمين في تصرفاتهم حيث ما شاؤا ولا يتعرض لهم.
{ وإن أحد من المشركين استجارك } الآية، الظاهر أنها محكمة. وعن ابن جبير قال: جاء رجل إلى علي كرم الله وجهه فقال: ان أراد الرجل منا أن يأتي محمدا بعد انقضاء الأجل ليسمع كلام الله أو يأتيه لحاجة قتل.
قال: لا، لأن الله تعالى قال: { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره } الآية، ولما أمر تعالى بقتل المشركين حيث وجدوا وأخذهم وحصرهم وطلب غدتهم ذكر لهم حالة لا يقتلون فيها ولا يؤخذون وهي إذا جاء واحد منهم مسترشدا طالبا للحجة والدلالة على ما تدعو إليه من الدين، فالمعنى وان أحد من المشركين استجارك، أي طلب منك أن تكون مجيرا له وذلك بعد انسلاخ الأشهر ليسمع كلام الله تعالى، وما تضمنه من التوحيد ويقف على ما بعثت به فكن مجيرا له حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر.
{ ثم أبلغه } داره التي يأمن فيها ان لم يسلم، ثم قاتله إن شئت من غير غدر ولا خيانة.
{ ذلك بأنهم قوم لا يعلمون } أي ذلك الأمر بالإجارة وإبلاغ المأمن بسبب أنهم قوم جهلة لا يعلمون ما الإسلام وما حقيقة ما تدعو إليه، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويتفهموا الحق.
{ كيف يكون للمشركين عهد } الآية، هذا استفهام معناه التعجب والاستنكار والاستبعاد، وفي الآية إضمار أي كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر والنكث. والاستفهام يراد به النفي كثيرا. قال الشاعر:
فهذي سيوف يا هدي بن مالك
كثير ولكن كيف بالسيف ضارب
أي ليس بالسيف ضارب.
ولما كان الاستفهام معناه النفي صلح مجيء الاستثناء وهو متصل. وقيل: منقطع، أي لكن الذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام. وقال ابن عباس: هم قريش. وقال السدي: بنو خزيمة بن الدئل. وقال ابن إسحاق: قبائل بني بكر كانوا دخلوا وقت الحديبية في المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش. كيف في موضع نصب خبرا ليكون. وعهد اسم يكون. والظاهر أن ما مصدرية ظرفية، أي استقيموا لهم مدة استقامتهم، وليست شرطية. وقال أبو البقاء: هي شرطية كقوله تعالى:
ما يفتح الله للناس من رحمة
[فاطر: 2]. " انتهى ". فكان التقدير ما استقاموا لكم من زمان فاستقيموا لهم. وقال الحوفي: ما شرط في موضع رفع بالابتداء، والخبر استقاموا، ولكم متعلق باستقاموا.
{ فاستقيموا لهم } الفاء جواب الشرط. " انتهى ". فكان التقدير فأي وقت استقاموا لكم فيه فاستقيموا لهم. وإنما جوز أن تكون شرطية لوجود الفاء في فاستقيموا لأن المصدرية الزمانية لا تحتاج إلى الفاء.
[9.8-15]
{ كيف وإن يظهروا عليكم } الآية، الظاهر أن الفعل المحذوف الذي بعدها هو من جنس أقرب مذكور لها وحذف للعلم به في كيف السابقة والتقدير فكيف يكون لهم عهد وحالهم هذه. والواو للحال، ومعنى يظهروا يغلبوا. وجواب الشرط لا يرقبوا. وقال الشاعر في حذف الفعل بعد كيف:
وخبرتماني انما الموت بالقرى
وكيف وهاتان هضبة وكثيب
أي فكيف مات وليس في قرية.
الأل: الحلف. والذمة: العهد وقال أبو عبيدة: الأمان. والاباء: مخالفته للقلب لما يجري على اللسان من القول الحسن.
{ اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا } الظاهر عود الضمير على من قبله من المشركين المأمور بقتلهم، ويكون المعنى اشتروا بالقرآن وما تدعو إليه من الإسلام ثمنا قليلا، وهو اتباع الشهوات والأهواء لما تركت دين الله وآثرت الكفر كان ذلك كالشراء والبيع.
{ لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة } هذا تنبيه على الوصف الموجب للعداوة وهو الإيمان. ولما كان قوله: لا يرقبوا فيكم، يتوهم أن ذلك مخصوص بالمخاطبين، نبه على علة ذلك وان سبب المنافاة هو الإيمان.
{ وأولئك } أي الجامعون لتلك الأوصاف الذميمة.
{ هم المعتدون } المتجاوزون الحد في الظلم والشر ونقص العهد.
{ فإن تابوا وأقاموا الصلوة } أي فإن تابوا عن الكفر ونقض العهد والتزموا أحكام الإسلام.
{ فإخونكم } أي فهم إخوانكم والاخوان والاخوة جمع أخ من نسب أو دين.
{ ونفصل الأيت لقوم يعلمون } أي نبينها ونوضحها، وهذه الجملة اعتراض بين الشرطين من قوله: فإن تابوا. وقوله: وإن نكثوا، بعثا وتحريضا على تأمل ما فصل تعالى من الأحكام. وقال: لقوم يعلمون، لأنه لا يتأمل تفصيلها إلا من كان من أهل العلم والفهم.
{ وإن نكثوا أيمانهم } أي وإن نقضوا عهدهم من بعد ما تعاهدوا وتحالفوا على أن لا ينكثوا.
{ وطعنوا } أي عابوه وسلبوه واستنقصوه. والطعن هنا مجاز وأصله الإصابة بالرمح أو العود وشبهه. والظاهر أن هذا الترديد في الشرطين هو في حق الكفار أصلا لا في من أسلم ثم ارتد فيكون قوله:
{ فقاتلوا أئمة الكفر } أي رؤساء الكفار وزعماءه. والمعنى: فقاتلوا الكفار، وخص الأئمة بالذكر لأنهم هم الذين يحرضون الاتباع على البقاء على الكفر.
{ ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم } الا حرف عرض ومعناه الحض على قتالهم ولما أمر تعالى بقتال أهل الكفر اتبع ذلك بالسبب الذي يبعث على مقاتلتهم وهو ثلاثة أشياء جمعوها، وكل واحد منها على انفراده كاف في الحض على مقاتلتهم. ومعنى نكثوا إيمانهم نقض العهد. قال السدي وجماعة: نزلت في كفار مكة نكثوا ايمانهم بعد عهد الحديبية، وأعانوا بني بكر على خزاعة. " انتهى ".
{ وهموا } هو هم قريش.
{ بإخراج الرسول } عليه السلام من مكة حين تشاوروا بدار الندوة فأذن الله تعالى في الهجرة فخرج بنفسه وهم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءهم أولا بالكتاب المنير وتحداهم به فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال بهم البادئون والبادىء أظلم.
{ أتخشونهم } تقرير للخشية منهم وتوبيخ عليها.
{ فالله أحق أن تخشوه } فتقتلوا أعداءه. ولفظ الجلالة مبتدأ وخبره أحق وان تخشوه بدل من الله، أي وخشية الله أحق من خشيتهم فإن تخشوه في موضع رفع، ويجوز أن يكون في موضع نصب أو جر على الخلاف إذا حذف حرف الجر وتقديره بأن تخشوه أي أحق من غيره بأن تخشوه. وجوز أبو البقاء أن يكون أن تخشوه مبتدأ، وأحق خبره قدم عليه. وأجاز ابن عطية أن يكون أحق مبتدأ وخبره ان تخشوه، والجملة خبر عن الأول وحسن الابتداء بالنكرة لأنها أفعل التفضيل.
{ قاتلوهم } لما تقدم الحض على القتال في قوله: الا تقاتلون، أمر به هنا فقال: قاتلوهم.
{ يعذبهم الله } أي بالقتل والنهب وسبي الذرية.
ونص على قوله: { بأيديكم } على أنهم هم الذين يعذبونهم.
{ ويخزهم } يهنهم ويذلهم.
{ وينصركم عليهم } يعينكم على قتلهم.
وجاء التركيب { صدور قوم مؤمنين } ليشمل المخاطبين وكل مؤمن، وإذهاب الغيظ بمآل الكفار من المكروه. وهذه الجملة كالتأكيد للتي قبلها. والضمير المجرور في قلوبهم عائد على قوم. وقرأت فرقة: ويذهب فعلا لازما. غيظ فاعل به. وقرأ زيد بن علي كذلك إلا أنه رفع الباء. وقرىء: ويتوب الله رفعا، وهو استئناف اخبار بأن بعض أهل مكة وغيرهم يتوب عن كفره وكان كذلك أسلم عالم كثيرون وحسن إسلامهم. وقرأ زيد بن علي ويعقوب وجماعة: ويتوب، بنصب الباء جعله داخلا في جواب الأمر من طريق المعنى. قيل: ويمكن أن تكون التوبة داخلة في الجزاء. قال ابن عطية: ويتوجه ذلك عندي إذا ذهب إلى أن التوبة يراد بها هاهنا ان قتل الكافرين والجهاد في سبيل الله هو توبة لكم أيها المؤمنون وكمال لايمانكم فتدخل التوبة على هذا في شرط القتال. " انتهى ". وهذا الذي قدره من كون التوبة تدخل تحت جواب الأمر هو بالنسبة إلى المؤمنين الذين أمروا بقتال الكفار، والذي يظهر ان ذلك بالنسبة إلى الكفار فالمعنى على من يشاء من الكفار وذلك أن قتال الكفار وغلبة المسلمين إياهم قد ينشأ عنها إسلام كثير من الناس وإن لم يكن لهم رغبة في الإسلام ولا داعية قبل القتال ألا ترى إلى قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة كيف كان سببا لإسلامهم لأن الداخل في الإسلام قد يدخل فيه على بصيرة. وقد يدخل على كره واضطرار ثم قد يحسن حاله في الإسلام.
[9.16-22]
{ أم حسبتم أن تتركوا } تقدم تفسير نظير هذه الجملة. والمعنى أنكم لا تتركون على ما أنتم عليه حتى يتبين الخلص منكم، وهم المجاهدون في سبيل الله، والذين لم يتخذوا بطانة من دون الله من غيرهم.
{ ولم يتخذوا } معطوف على جاهدوا داخل في حيز الصلة. ويجوز أن تكون الجملة حالا من ضمير جاهدوا أي جاهدوا غير متخذين وليجة أي خيانة. والوليجة فعيلة من ولج كالدخيلة من دخل وهي البطانة، والمدخل يدخل فيه على سبيل الاستسرار شبه النفاق به.
{ ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله } الآية، روي أنه لما أقبل المهاجرون والأنصار على أسارى بدر يعيرونهم بالشرك، وطفق علي يوبخ العباس. فقال العباس: تظهرون مساوءنا وتكتمون محاسننا. فقال: أو لكم محاسن؟ قال: نعم، ونحن أفضل منكم أجرا انا لنعمر المسجد الحرام ونحجب الكعبة ونسقي الحجيج ونفك العاني، فأنزل الله هذه الآية ردا عليهم.
وانتصب شاهدين على الحال، والعامل فيه يعمروا، وصاحب الحال هو الضمير وشهادتهم على أنفسهم بالكفر هو قولهم في الطواف: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك. أو قولهم إذا سئلوا عن دينهم قالوا: نعبد اللات والعزى.
{ من آمن } أعاد الضمير على لفظ من في قوله: آمن، وما عطف عليه، ثم راعى المعنى في قوله: فعسى أولئك. وعسى من الله تعالى واجبة حيثما وقعت في القرآن، وفي ذلك قطع أطماع المشركين أن يكونوا مهتدين إذ من جمع هذه الخصال الأربعة جعل حاله حال من ترجى له هذه الهداية، فكيف بمن هو عار منها. وقال تعالى: { أن يكونوا من المهتدين } ، أي من الذين سبقت لهم الهداية، ولم يأت التركيب أن يكونوا مهتدين بل جعلوا بعضا من المهتدين، وكونهم منهم أقل في التعظيم من أن يجرد لهم الحكم بالهداية.
{ أجعلتم سقاية الحاج } الآية، في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أسقي الحاج. وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد أن أعمر المسجد الحرام. وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم. فزجرهم عمر رضي الله عنه وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوم الجمعة. ولكني إذا صليت الجمعة دخلت فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اختلفتم فيه. فنزلت هذه الآية.
وسقاية هو على حذف مضاف تقديره ذوي سقاية الحاج فيعادل قوله: كمن آمن، ولما نفى المساواة بينهما أوضح بقوله: والله لا يهدي القوم الظالمين، من الراجح منهما وان الكافرين بالله هم الظالمون، ظلموا أنفسهم بترك الإيمان بالله تعالى وبما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم وظلموا المسجد الحرام إذ جعله الله تعالى متعبدا له فجعلوه متعبدا لأوثانهم.
{ الذين آمنوا وهاجروا } الآية، زادت هذه الآية وضوحا في الترجيح للمؤمنين المتصفين بهذه الأوصاف على المشركين المفتخرين بالسقاية والعمارة فطهروا أنفسهم من دنس الشرك بالإيمان، وطهروا أبدانهم بالهجرة إلى موطن رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك ديارهم التي نشاؤا فيها، ثم بالغوا في الجهاد في سبيل الله تعالى بالمال والنفس المعرضين بالجهاد للتلف فهذه الخصال أعظم درجات البشرية.
[9.23-27]
{ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا } الآية، نهى عن اتخاذ الآباء والإخوان أولياء إذ كانوا قد آثروا الكفر على الإيمان، وحكم بأن من تولاهم كان منهم وأنه ظالم.
{ قل إن كان آباؤكم } الآية، هذه الآية تقتضي الحض على الهجرة، وذكر الأبناء لأنهم أعلق بالنفس، وقدم الآباء لأنهم هم الذين يجب برهم وإكرامهم وحبهم، وثنى بالأبناء لأنهم أعلق بالقلوب، ولما ذكر الأصل والفرع، ذكر الحاشية وهي الاخوان، ثم ذكر الأزواج وهن في المحبة والإيثار كالأبناء، ثم الأبعد بعد الأقرب في القرابة فقال: { وعشيرتكم }. ثم ذكر { وأموال اقترفتموها } أي اكتسبتموها لأن الأموال يعادل حبها حب القرابة بل حبها أشد، وكانت الأموال في ذلك الوقت عزيزة وأكثر الناس كانوا فقراء.
ثم ذكر { وتجارة تخشون كسادها } والتجارة لا تتهيأ إلا بالأموال. وجعل تعالى التجارة سببا لزيادة الأموال ونمائها.
ثم ذكر { ومساكن ترضونهآ } وهي القصور والدور. ومعنى ترضونها تختارون الإقامة بها.
وانتصب أحب على أنه خبر كان، واسمها آباؤكم فما بعده.
وقرأ الحجاج بن يوسف أحب بالرفع فخطأه يحيى بن يعمر من حيث الرواية لأنه لم يرو إلا النصب وإن كان الرفع جائزا من جهة العربية لأنه كان يكون في كان ضمير الأمر والشأن وهو اسمها. وآباؤكم وما عطف عليه مبتدأ. وأحب خبر. والجملة في موضع نصب على أنها خبر كان.
{ أحب إليكم من الله } أي من الإيمان بالله واتباع رسوله عليه السلام.
{ وجهاد في سبيله فتربصوا } أي انتظروا. وهو أمر يتضمن التهديد.
{ حتى يأتي الله بأمره } قال ابن عباس: هو فتح مكة.
{ لقد نصركم الله } الآية، المواطن مقامات الحرب ومواقفها. وهذه المواطن وقعات بدر وقريظة والنضير والحديبية وخيبر وفتح مكة، ووصفت بالكثرة. قال أئمة التاريخ: كانت ثمانين موطنا.
{ ويوم حنين } حنين هو واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز، وصرف مذهوبا به مذهب المكان ولو ذهب به مذهب البقعة لم يصرف، كما قال الشاعر:
نصروا نبيهم وشدوا أزره
بحنين يوم تواكل الأبطال
وإذ بدل من يوم، وأضاف الإعجاب إلى جميعهم وإن كان صادرا من واحد منهم لما رأى الجمع الكثير أعجبه ذلك وقال: لن نغلب اليوم من قلة وهذه الكثرة. قال ابن عباس: كانوا ستة عشر ألفا.
والباء في { بما رحبت } للحال، وما: مصدرية، أي ضاقت بكم الأرض مع كونها رحبة واسعة لشدة الحال عليهم. والرحب: السعة، وبفتح الراء الواسع. يقال: فلان رحب الصدر، وبلد رحب، وأرض رحبة، وقد رحبت رحبا ورحابة.
{ ثم وليتم مدبرين } أي وليتم فارين على إدباركم منهزمين تاركين رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وأسند التولي إلى جميعهم وهو واقع من أكثرهم إذ ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناس من الأبطال على ما يأتي ذكره.
فنقول: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة كان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء فصاروا في اثني عشر ألفا إلى ما انضاف إليهم من الأعراب من سليم وبني كلاب وعبس وذبيان، وسمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن وألفافها، وعليهم مالك بن عوف النضري، وثقيف عليهم عبد يا ليل بن عمرو، وانضاف إليهم اخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفا فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استعماله عتاب بن أسيد على مكة حتى اجتمعوا بحنين، فلما تضاف الناس حمل المشركون على مجابي الوادي وكانوا قد كمنوا بها فانهزم المسلمون. قال قتادة: ويقال ان الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين وبلغ فلهم مكة، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه على بغلة شهباء تسمى دلدل لا يتخلخل، والعباس قد اكتنفه آخذا بلجامها وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر وعلي بن أبي طالب وربيعة بن الحارث والفضل بن العباس وأسامة بن زيد وأيمن بن عبيد وهو أيمن ابن أم أيمن وقتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه وهؤلاء من أهل بيته وثبت معه أبو بكر وعمر فكانوا عشرة رجال رضي الله عنهم. ولهذا قال العباس:
نصرنا رسول الله في الحرب تسعة
وقد فر من قد فر منهم وأقشعوا
وعاشرنا لاقي الحمام بنفسه
بما مسه في الله لا يتوجع
وثبتت أم سليم رضي الله عنها في جملة من ثبت ممسكة بعيرا لأبي طلحة وفي يدها خنجر.
" ونزل صلى الله عليه وسلم عن بغلته إلى الأرض واستنصر الله تعالى وأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها في وجوه الكفار، وقال: شاهت الوجوه "
قال يعلى بن عطاء: فحدثني ابناؤهم عن آبائهم قالوا: لم يبق منا أحد إلا ودخل عينيه من ذلك التراب.
" وقال عليه السلام للعباس وكان صيتا: ناد أصحاب السمرة، فنادى الأنصار: فخذا فخذا، ثم نادي: يا أصحاب الشجرة! يا أصحاب البقرة! فكروا عنقا واحدا وهم يقولون: لبيك لبيك. وانهزم المشركون. فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتال المسلمين فقال: هذا حين حمي الوطيس، وركض رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفهم على بغلته "
وفي صحيح مسلم من حديث البراء
" ان هوازن كانوا رماة فرموهم برشق من نبل كأنها رجل من جراد فانكشفوا فأقبل القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان يقود بغلته فنزل ودعا واستنصر الله تعالى وهو يقول: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، اللهم أنزل نصرك "
قال البراء: كنا والله إذا حمي الوطيس نتقي به صلى الله عليه وسلم وان الشجاع منا الذي يتحاذى به يعني النبي صلى الله عليه وسلم . وفي أول هذا الحديث: أكنتم وليتم يوم حنين يا أبا عمارة فقال: أشهد علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما ولى.
{ ثم أنزل الله سكينته } السكينة: النصر والوقار والثبات بعد الاضطراب والفلق. ويخرج من هذا القول رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لم يزل ثابت الجأش ساكنه.
{ وعلى المؤمنين } ظاهره شمول من فر ومن ثبت. وقيل: هم الأنصار إذ هم الذين كفروا وردوا الهزيمة.
{ وأنزل جنودا لم تروها } هم الملائكة بلا خلاف، ولم تتعرض الآية لعددهم.
{ وعذب الذين كفروا } أي بالقتل الذي استقر فيهم، والأسر لذراريهم ونسائهم، والنهب لأموالهم. وكان السبي أربعة آلاف رأس. وقيل: ستة آلاف. ومن الإبل اثنا عشر ألفا سوى ما لا يعلم من الغنم وقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجعرانة، وفيها قصة عباس بن مرداس وشعره، وكان مالك بن عوف قد أخرج الناس للقتال والذراري ليقاتلوا عنها، فخطأه في ذلك دريد بن الصمة وقال: وهل يرد المنهزم شىء. وفي ذلك قتل دريد القتلة المشهورة قتله ربيعة بن رفيع بن اهبان السلمي. ويقال له: ابن الدغنة.
{ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشآء } الآية، إخبار بأن الله تعالى يتوب على من يشاء ويهدي من يشاء ممن بقي من الكفار للإسلام ووعد بالمغفرة والرحمة كمالك بن عوف النضري رئيس هوازن، ومن أسلم معه من قومه. وروي
" أن ناسا منهم جاءوا فبايعوا على الإسلام وقالوا: يا رسول أنت خير الناس وأبر الناس وقد سبي أهلونا وأولادنا وأخذت أموالنا. وكان سبي يومئذ ستة آلاف نفس، وأخذ من الإبل والغنم ما لا يحصى، فقال عليه السلام: ان خير القول أصدقه، اختاروا اما ذراريكم وإما أموالكم. فقالوا: ما نعدل بالاحساب شيئا "
وتمام الحديث أنهم أخذوا نساءهم وذراريهم إلا امرأة وقع عليها صفوان بن أمية فحبلت منه فلم يردها.
[9.28-33]
{ يأيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس } الآية، لما أمر عليه السلام عليا أن يقرأ على مشركي مكة أول براءة وينبذ إليهم عهدهم وان الله برىء من المشركين ورسوله. قال اناس: يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدة وانقطاع السبل وفقد الحمولات. فنزلت. والظاهر الحكم عليهم بأنهم نجس أي ذو نجس. قال ابن عباس والحسن وعمر بن عبد العزيز والطبري وغيرهم: الشرك هو الذي نجسهم فاعيانهم نجسة كالخمر والكلاب والخنازير. وقال الحسن: من صافح مشركا فليتوضأ. وفي التحرير وبالغ الحسن حتى قال: إن الوضوء يجب من مس يد المشرك، ولم يأخذ أحد بقول الحسن إلا الهادي من الزيدية. وقال قتادة ومعمر بن راشد وغيرهما: وصف المشرك بالنجاسة لأنه جنب إذ غسله من الجنابة ليس بغسل. وعلى هذا القول يجب الغسل على من أسلم من المشركين وهو مذهب مالك. وقال ابن عبد الحكم: لا يجب. ولا شك أنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات، فجعلوا نجسا مبالغة في وصفهم بالنجاسة.
{ فلا يقربوا المسجد الحرام } الآية، الظاهر أن النهي مختص بالمشركين وبالمسجد الحرام وهذا مذهب أبي حنيفة وأباح دخول اليهود والنصارى المسجد الحرام وغيره ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد. وقال الشافعي: هي عامة في الكفار خاصة في المسجد الحرام فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد، وقاس مالك جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد.
{ وإن خفتم عيلة } العيلة: الفقر. وقرىء: عائلة وهو مصدر كالعاقبة أو نعت لمحذوف أي حالا عايلة.
{ فسوف يغنيكم الله من فضله } الآية، أتى في جواب الشرط بسوف وهي أكثر مبالغة في التنفيس من السين والإغناء إنما وقع كثيرا بعد اتساع الإسلام وفتح البلاد حتى يحكى عن الزبير وطلحة أنهما بلغا من اتساع المال ما يتعجب منه، وعلق الإغناء بالمشيئة لأنه يقع في حق بعض دون بعض وفي وقت دون وقت.
{ قاتلوا الذين لا يؤمنون } الآية، نزلت حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بغزو الروم وغزا بعد نزولها تبوك. وقيل: نزلت في قريظة والنضير فصالحهم وكانت أول جزية أصابها المسلمون وأول ذل أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين. نفى الإيمان بالله عنهم لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله إذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به.
{ من الذين أوتوا الكتاب } بيان لقوله: الذين. والظاهر اختصاص أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل والروم نصا واجمع الناس على ذلك وأما المجوس فقال ابن المنذر: لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم.
" انتهى ".
وروي أنه كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت واختلف أصحاب مالك في مجوس العرب، وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى، وتؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبائحهم. وقالت فرقة: لا تؤخذ منهم الجزية ولا تؤكل ذبائحهم. وقيل: تؤخذ منهم الجزية ولا تؤكل ذبائحهم.
والظاهر شمول جميع أهل الكتاب في إعطاء الجزية، ولم يرد نص في مقدار الجزية، وقال الشافعي وغيره: على كل رأس دينار. وقال أبو حنيفة: على الفقير المكتسب اثنا عشر درهما، وعلى المتوسط في الغنى ضعفها، وعلى المكثر ضعف الضعف ثمانية وأربعون درهما. ولا تؤخذ عنده من فقير لا كسب له.
{ عن يد } قال ابن عباس: أي يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها.
{ وهم صاغرون } جملة حالية أي ذليلون حقيرون، وذكروا كيفيات في أخذها منهم وفي صغارهم لم تتعرض الآية لتعيين شيء منها.
{ وقالت اليهود عزير ابن الله } الآية، بين الله سبحانه وتعالى لحاق اليهود والنصارى بأهل الشرك وإن اختلفت طرق الشرك فلا فرق بين من يعبد الصنم وبين من يعبد المسيح وغيره. وقائل ذلك قوم من اليهود وكانوا بالمدينة. قال ابن عباس: قالها أربعة من أحبارهم سلام بن مشكم ونعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف. وقيل: قاله فنحاص. والدليل على أن هذا القول كان فيهم ان الآية تليت عليهم فما أنكروا ولا كذبوا مع تهالكهم على التكذيب وسبب هذا القول ان اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السلام فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم فخرج عزير وهو غلام يسيح في الأرض فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم. فحفظه التوراة فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لم يخرم حرفا. فقالوا: ما جمع الله له التوراة في صدره وهو غلام إلا أنه ابنه. وظاهر قول النصارى المسيح ابن الله بنوة النسل كما قالت العرب في الملائكة. وكما قيل عنهم انهم يقولون ان المسيح إله وابن إله. وقيل: ان بعضهم يعتقدها بنوة حنو ورحمة. وهذا القول لم يظهر إلا بعد النبوة المحمدية وظهور دلائل صدقها وبعد أن خالطوا المسلمين وناظروهم فرجعوا عما كانوا يعتقدونه في عيسى عليه السلام. وقرىء: عزير منونا على أنه اسم عربي مصغر. وقرىء: غير منون على أنه أعجمي منع الصرف للعجمة والعلمية وهو مبتدأ وخبره ابن الله. ومعنى بأفواههم أنه قول لا يعضده برهان فما هو إلا لفظ فارغ يفوهون به كالألفاظ المهملة التي هي كالأجراس والنغم لا تدل على معان. وقرىء: يضاهيون ويضاهون ومعناه يشابهون، وهو على حذف مضاف تقديره يضاهي قولهم قول الذين كفروا، والذين كفروا هم أسلاف المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ قاتلهم الله } دعاء عليهم عام لأنواع الشر.
{ أنى يؤفكون } أي كيف يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل، على سبيل التعجب.
{ اتخذوا أحبارهم } الآية، تعدت اتخذ إلى مفعولين، والضمير عائد على اليهود والنصارى. والأحبار: علماء اليهود، واحده حبر. والرهبان: عباد النصارى الذين زهدوا في الدنيا، وانقطعوا عن الخلق في الصوامع. أخبر عن المجموع وعاد إلى ما يناسبه أي اتخذ اليهود أحبارهم والنصارى رهبانهم.
{ والمسيح ابن مريم } عطف على رهبانهم.
{ ومآ أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا } الظاهر أن الضمير عائد على من عاد عليه في اتخذوا، أي أمروا في التوراة والإنجيل وعلى ألسنة أنبيائهم. وفي قوله: عما يشركون، دلالة على إطلاق اسم الشرك على اليهود والنصارى.
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفوههم } مثلهم ومثل حالهم في طلبهم ان يبطلوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بالتكذيب بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبث في الآفاق. ونور الله تعالى: هداه الصادر عن القرآن والشرع المنبث، فمن حيث سماه نورا سمي محاولة إفساده إطفاء. وكنى بالأفواه عن قلة حيلتهم وضعفها أخبر أنهم يحاولون أمرا جسيما بشىء ضعيف فكان الإطفاء بنفخ الأفواه.
{ ويأبى الله } أجرت العرب أبى بمعنى الفعل المنفي كأنه قال: لا يريد الله فلذلك دخلت إلا في الإيجاب بعدما معناه النفي.
و { أن يتم } في موضع نصب. ونظيره قول الشاعر:
أبى الله إلا عدله ووفاءه
فلا النكر معروف ولا العرف ضائع
{ هو الذي أرسل رسوله بالهدى } الآية، الظاهر أن الضمير في ليظهره عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه المحدث عنه. والدين هنا جنس، أي ليعليه على أهل الأديان كلهم فهو على حذف مضاف، فهو صلى الله عليه وسلم غلبت أمته اليهود، وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام إلى ناجية الروم والعرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم مما يلي الترك والهند وكذلك سائر الأديان.
[9.34-36]
{ يأيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار } الآية، لما ذكر تعالى أنهم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ذكر ما عليه كثير منهم تنقيصا من شأنهم وتحقيرا، وان مثل هؤلاء لا ينبغي تعظيمهم فضلا عن اتخاذهم أربابا لما اشتملوا عليه من أكل المال بالباطل، وصدهم عن سبيل الله، واندرجوا في عموم الذين يكنزون الذهب والفضة، فجمعوا بين الخصلتين الذميمتين أكل المال بالباطل وكنز المال. وأكلهم المال بالباطل هو أخذهم من أموال اتباعهم ضرائب باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم به أن النفقة فيه من الشرع والتقرب إلى الله تعالى، وصدهم عن سبيل الله هو دين الإسلام، واتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم. والذين مبتدأ اسم موصول ضمن معنى اسم الشرط فلذلك دخلت الفاء في خبره في قوله: { فبشرهم }. والضمير في لا ينفقونها عائد على المكنوزات الدال عليها الذهب والفضة.
{ يوم يحمى عليها } الآية، يوم منصوب بقوله: اليم. والضمير في عليها عائد على المكنوزات يوقد عليها في نار جهنم إذ يجوز أن يخلق الله تلك المكنوزات فيحمى عليها.
{ فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم } وخصصت هذه المواضع بالكي لأنه في الجبهة أشنع وفي الجنب والظهر أوجع، ولأنها مجوفة فتصل إلى أجوافهم النار بخلاف اليد والرجل.
{ هذا ما كنزتم } هو على إضمار قول تقديره فيقال لهم: هذا إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: فتكوى، أي هذا الكي جزاء ما كنزتم.
{ إن عدة الشهور } الآية، كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وأعمال سلاحها فكانت إذا توالت عليهم الأربعة الحرم صعب عليهم وأملقوا وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم فنسأ الشهور للعرب ثم خلفه على ذلك ابنه عباد ثم ابنه قلع، ثم ابنه أمية، ثم ابنه عوف، ثم ابنه جنادة بن عوف وعليه قام الإسلام، وكانت العرب إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا: أنسئنا شهرا، أي أخر عنا حرمة الشهر المحرم فاجعلها في صفر فيحل المحرم فيغيرون فيه ويعيشون ثم يلتزمون حرمة صفر ليوافقوا عدة الأشهر الأربعة الحرم ويسمون ذلك صفر المحرم، ويسمون ربيعا الأول صفر، أو ربيعا الآخر ربيعا الأول، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون نسيئهم في المحرم ويسمون الموضوع لهم فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم. وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهرا أولها المحرم المحلل، ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، ثم استقبال السنة كما ذكرنا. قال مجاهد: ثم كانوا يحجون من كل عام شهرين ولاء، وبعد ذلك يبدلون فيحجون عامين ولاء، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في ذي القعدة حقيقة وهم يسمونه ذا الحجة، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة فلذلك قوله:
" ان الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادي وشعبان "
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنواعا من قبائح أهل الشرك وأهل الكتاب، ذكر أيضا نوعا منه وهو تغيير العرب احكام الله تعالى لأنه حكم في وقت بحكم خاص، فإذا غيروا ذلك الوقت فقد غيروا حكم الله تعالى والشهور جمع كثرة. وأعاد الضمير عليها كإعادته على الواحدة المؤنثة فقال: منها، أي من تلك الشهور، ولما كانت الأربعة الحرم للقلة عاد الضمير عليها بالنون في قوله: فيهن. تقول العرب: الجذوع انكسرت لأنه جمع كثرة. والأجذاع انكسرن، لأنه جمع قلة. وانتصب كافة على الحال من الفاعل أو المفعول، ومعناه جميعا. ولا يثنى ولا يجمع ولا تدخله أل ولا يتصرف فيها بغير الحال وتقدم بسط الكلام فيها عند قوله تعالى:
ادخلوا في السلم كآفة
[البقرة: 208] فأغنى عن إعادته والمعية بالنصر والتأييد، وفي ضمنه الأمر بالتقوى والحث عليها.
[9.37-40]
{ إنما النسيء زيادة في الكفر } الآية، قرىء النسىء مهموزا على وزن فعيل. وقرىء: النسىء بتشديد الياء من غير همز. وتقدم الكلام عليها في قوله:
أو ننسها
[الآية: 106]، في البقرة زيادة في الكفر جاءت مع كفرهم بالله تعالى لأن الكافر إذا أحدث معصية ازداد كفرا. والضمير في به عائد على النسىء، واللام في ليواطئوا متعلقة بقوله: ويحرمونه، وذلك على طريق الأعمال. ومعنى ليواطئوا، أي ليحفظوا في كل عام أربعة أشهر في العدد فأزالوا الفضيلة التي خص الله بها الأشهر الحرم وحفظوا العدة وحدها بمثابة أن يفطر رمضان ويصوم شهرا من السنة بغير مرض أو سفر.
{ يأيها الذين آمنوا ما لكم } الآية، لما أمر تعالى رسوله بغزوة تبوك وكان زمان جدب وحر شديد وقد طابت الثمار عظم ذلك على الناس وأحبوا المقام، نزلت عتابا على من تخلف عن هذه الغزوة وكانت سنة تسع من الهجرة بعد الفتح بعام غزا فيها الروم في عشرين ألفا من راجل وراكب وتخلف عنه قبائل من الناس ورجال من المؤمنين كثير ومنافقون وخص الثلاثة بالعتاب الشديد بحسب مكانهم من الصحبة إذ هم من أهل بدر وممن يقتدى بهم، وكان تخلفهم عن غير علة حسبما يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. ولما شرح معايب الكفار رغب في مقاتلتهم. وما لكم استفهام معناه الإنكار والتقريع. وبنى قيل للمفعول والقائل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أغلاظا ومخاشنة لهم وصونا لذكره إذ أخلد إلى الهوينا والدعة من أخلد وخالف أمره عليه السلام، ومعنى اثاقلتم إلى الأرض ملتم إلى شهوات الدنيا حين أخرجت الأرض ثمارها وكرهتم مشاق السفر. وقيل: ملتم إلى الإقامة بأرضكم، ولما ضمن معنى الميل والإخلاد عدى بإلى. وفي قوله: أرضيتم، نوع من الإنكار والتعجب، أي أرضيتم بالنعيم العاجل في الدنيا الزائل بدل النعيم الباقي، ومن تظافرت أقوال المفسرين على أنها بمعنى بدل أي بدل الآخرة كقوله تعالى:
لجعلنا منكم ملائكة
[الزخرف: 60]، أي بدلا منكم. ومنه قول الشاعر:
فليت لنا من ماء زمزم شربة
مبردة باتت على طهيان
أي بدلا من ماء زمزم. والطهيان عود ينصب في ناحية الدار للهواء تعلق فيه أوعية الماء حتى يبرد، وأصحابنا لا يثبتون أن من تكون للبدل ويتعلق في الآخرة بمحذوف تقديره فما متاع الحياة الدنيا محسوبا في نعيم الآخرة.
{ إلا تنفروا يعذبكم } الآية، هذا وعيد للمتثاقلين عظيم حيث أوعدهم بعذاب أليم مطلق يتناول عذاب الدارين وأنه يهلكهم ويستبدل قوما آخرين خيرا منهم وأطوع وأنه غني عنهم في نصرة دينه لا يقدح تثاقلهم فيها شيئا.
{ إلا تنصروه فقد نصره الله } في: الا تنصروه انتفاء النصر بأي طريق كان من نفر أو غيره.
وجواب الشرط محذوف تقديره فسينصره الله، ويدل عليه فقد نصره الله أي ينصره في المستقبل كما نصره في الماضي. ومعنى إخراج الذين كفروا إياه فعلهم به ما يؤدي إلى الخروج، والإشارة إلى خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ونسب الإخراج إليهم مجازا كما نسب في قوله:
التي أخرجتك
[محمد: 13]، وقصة خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر مذكورة في السير. وانتصب ثاني اثنين على الحال أي أحد اثنين وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وروي أنه لما أمر بالخروج قال لجبريل عليه السلام: من يخرج معي؟ قال: أبو بكر. وقال الليث: ما صحب الأنبياء عليهم السلام مثل أبي بكر.
وقال سفيان بن عيينة: خرج أبو بكر رضي الله عنه بهذه الآية من المعاتبة التي في قوله: ألا تنصروه.
وقال ابن عطية: بل خرج بها كل من شاهد غزوة تبوك، وإنما المعاتبة لمن تخلف فقط. وهذه الآية منوهة بقدر أبي بكر وتقدمه وسابقته في الإسلام، وفي هذه الآية ترغيبهم في الجهاد ونصر دين الله إذ بين فيها أن الله ينصره كما نصره إذ كان في الغار، وليس معه أحد فيه سوى أبي بكر رضي الله عنه. والغار: نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمنى مكة على مسيرة ساعة ، مكث صلى الله عليه وسلم فيه ثلاثا.
{ إذ هما في الغار } بدل، وإذ يقول بدل ثان. وقال العلماء: من أنكر صحبة أبي بكر فقد كفر لإنكاره كلام الله تعالى وليس ذلك لسائر الصحابة.
" وكان سبب حزن أبي بكر خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهاه رسول الله تسكينا لقلبه وأخبره بقوله: { إن الله معنا } يعني بالمعونة والنصر. وقال أبو بكر: يا رسول الله إن قتلت فأنا رجل واحد، وإن قتلت هلكت الأمة وذهب دين الله. فقال صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما "
وقال أبو بكر رضي الله عنه: من البسيط .
قال النبي ولم يجزع يوقرني
ونحن في سدف من ظلمة الغار
لا تخشى شيئا فإن الله ثالثنا
وقد تكفل لي منه بإظهار
وإنما كيد من تخشى بوادره
كيد الشياطين قد كادت لكفار
والله مهلكهم طرا بما صنعوا
جاعل المنتهى منهم إلى النار
{ فأنزل الله سكينته عليه } الآية، قال ابن عباس: السكينة الرحمة والوقار. والضمير في عليه عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هو المحدث عنه. وقال ابن عطية: والسكينة عندي إنما هي ما ينزله الله تعالى على أنبيائه من الحياطة لهم والخصائص التي لا تصلح إلا لهم كقوله:
فيه سكينة من ربكم
[البقرة: 248]، ويحتمل أن يكون قوله: فأنزل الله سكينته.. إلى آخره، يراد به ما صنعه الله تعالى لنبيه إلى وقت تبوك من الظهور والفتوح لا أن يكون هذا يختص بقضية الغار. وكلمة الذين كفروا هي الشرك وهي مقهورة، وكلمة الله هي التوحيد، وفي فصل بين المبتدأ والخبر، أو مبتدأ، والعليا خبره، والجملة خبر لقوله: وكلمة الله.
[9.41-45]
{ انفروا خفافا وثقالا } لما توعد الله تعالى من لا ينفر مع رسوله عليه السلام وضرب له من الأمثال ما ضرب، اتبعه بهذا الأمر الجزم، والمعنى انفروا على الوصف الذي يخف عليكم فيه الجهاد، أو على الوصف الذي يثقل. والخفة والثقل هنا مستعار لمن يمكنه السفر بسهولة ومن يمكنه بصعوبة، وأما من لا يمكنه كالأعمى ونحوه فخارج عن هذا.
{ لو كان عرضا قريبا } أي لو كان ما دعوا إليه غنما قريبا سهل المنال وسفرا قاصدا وسطا مقاربا. وهذه الآية في قصة تبوك حين استنفر المؤمنين فنفروا واعتذر منهم لا محالة فريق لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة.
{ لاتبعوك } لبادروا إليه لا لوجه الله ولا لظهور كلمته.
{ ولكن بعدت عليهم الشقة } أي المسافة الطويلة في غزو الروم. والشقة: السفر البعيد. وربما قالوه بالكسر في الشين.
{ وسيحلفون } أي المنافقون. وهذا إخبار بغيب. قال الزمخشري في قوله: وسيحلفون بالله، ما نصه: بالله متعلق بسيحلفون أو هو من كلامهم، والقول مراد في الوجهين أي سيحلفون متخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله.
{ لو استطعنا لخرجنا معكم } أو وسيحلفون بالله يقولون: لو استطعنا. وقوله: لخرجنا، سد مسد جواب القسم ولو جميعا والاخبار بما سوف يكون بعد القول من حلفهم واعتذارهم. وقد كان من جملة المعجزات. ومعنى الاستطاعة: استطاعة العدة أو استطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا. " انتهى ". وما ذهب إليه من أن قوله: لخرجنا، سد مسد جواب القسم، ولو جميعا ليس بجيد بل للنحويين في هذا مذهبان: أحداهما: أن لخرجنا هو جواب القسم، وجواب لو محذوف على قاعدة اجتماع القسم. والشرط إذا تقدم القسم على الشرط وهو اختيار ابن عصفور، والآخر: ان لخرجنا هو جواب لو، وجواب القسم هو لو وجوابها وهذا هو اختيار ابن مالك، اما ان لخرجنا يسد مسدهما فلا أعلم أحدا ذهب إلى ذلك.
{ يهلكون أنفسهم } بالحلف الكاذب أي يوقعونها في الهلاك به. والظاهر أنها جملة استئناف إخبار منه سبحانه وتعالى. وقال الزمخشري: يهلكون أنفسهم، إما أن يكون بدلا من سيحلفون، أو حالا بمعنى مهلكين، والمعنى أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب وما يحلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالا من قوله: لخرجنا، أي لخرجنا معكم وان أهلكنا أنفسنا وألقيناها إلى التهلكة بما نحملها من السير في تلك الشقة. وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم، ألا ترى أنه لو قيل: سيحلفون بالله لو استطاعوا لخرجوا، لكان سديدا. يقال: حلف بالله ليفعلن ولأفعلن، فالغيبة على حكم الاخبار والتكلم على الحكاية. " انتهى ".
اما كون يهلكون بدلا من سيحلفون فبعيد، لأن الاهلال ليس مرادفا للحلف ولا هو نوع من الحلف، ولا يجوز أن يبدل فعل من فعل إلا أن يكون مرادفا له أو نوعا منه، واما كونه حالا من قوله: لخرجنا، فالذي يظهر أن ذلك لا يجوز لأن قوله: لخرجنا فيه ضمير التكلم فالذي يجري عليه إنما يكون بضمير المتكلم، فلو كان حالا من ضمير لخرجنا لكان التركيب نهلك أنفسنا أي مهلكي أنفسنا.
واما قياسه ذلك على حلف بالله ليفعلن ولأفعلن فليس بصحيح لأنه إذا أجراه على ضمير الغيبة لا يخرج منه إلى ضمير المتكلم، لو قلت: حلف زيد ليفعلن وانا قائم، على أن يكون وأنا قائم حالا من ضمير ليفعلن لم يجز وكذا عكسه نحو: حلف زيد لأفعلن يقوم، تريد قائما لم يجز. واما قوله: وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم فمغالطة ليس مخبرا عنهم بقوله: لو استطعنا لخرجنا معكم، بل هو حاك لفظ قولهم. ثم قال: ألا ترى انه لو قيل: لو استطاعوا لخرجوا لكان سديدا.. إلى آخر كلام صحيح، لكنه تعالى لم يقل ذلك إخبارا عنهم بل حكاية. والحال من جملة كلامهم المحكي فلا يجوز أن يخالف بين ذي الحال وحاله لاشتراكهما في العامل. لو قلت: قال زيد: خرجت يضرب خالدا، تريد أضرب خالدا، لم يجز. ولو قلت: قالت هند، خرج زيد أضرب خالدا، تريد خرج زيد ضاربا خالدا، لم يجز.
{ عفا الله عنك لم أذنت لهم } الآية، اللام في لم: لام التعليل، وما: استفهامية، حذف منها الألف، واللام الثانية: للتبليغ، وهما متعلقان باذنت، وجاز ذلك لاختلاف معنييهما، وحتى: غاية للاستفهام. وقوله: الذين صدقوا في استئذانك، وانك لو لم تأذن لهم خرجوا معك.
{ وتعلم الكاذبين } يريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهم كذبة، وقد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لو تأذن.
{ لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله } ما قبل هذه الآية وما بعدها ورد في قصة تبوك. والظاهر أن متعلق الاستئذان هو أن يجاهدوا، أي ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، وكان الخلص من المهاجرين والأنصار لا يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم أبدا، ويقولون: لنجاهدن معه بأموالنا وأنفسنا.
{ إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله } الآية، هم المنافقون وكانوا تسعة وثلاثين رجلا، ومعنى وارتابت قلوبهم: شكت. ويترددون: ويتحيرون لا يتجه لهم هدى فتارة يخطر لهم صحة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتارة يخطر لهم خلاف ذلك.
[9.46-49]
{ ولو أرادوا الخروج } الآية، قال ابن عباس: عدة من الماء والزاد والراحلة، لأن سفرهم بعيد وفي زمان حر شديد. وفي تركهم العدة دليل على أنهم أرادوا التخلف.
{ ولكن كره الله انبعاثهم } الآية، قال الزمخشري: فإن قلت: كيف موقع حرف الاستدراك؟ قلت: لما كان قوله: ولو أرادوا الخروج، معطيا معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو، قيل: ولكن كره الله انبعاثهم، كأنه قيل: ما خرجوا ولكنهم تثبطوا عن الخروج لكراهة انبعاثهم، كما تقول: ما أحسن إلي زيد ولكن أساء إلي. " انتهى ".
وليست الآية نظيرة هذه المثال لأن المثال واقع فيه لكن بين ضدين، والآية لكن واقع فيها بين متفقين من جهة المعنى. والانبعاث: الانطلاق والنهوض. قال ابن عباس: فثبطهم كسلهم وفتر نياتهم.
{ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا } الآية، لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع وضرب عبد الله بن أبي عسكره أسفل منها ولم يكن باقل العسكرين، فلما سار تخلف عنه عبد الله فيمن تخلف فنزلت.
والخبال قال ابن عباس: الفساد ومراعاة إخماد الكلمة. وتقدم شرح الخبال في آل عمران. وهذا الاستثناء متصل وهو مفرغ إذ المفعول الثاني لزاد لم يذكر. وقد كان في هذه الغزوة منافقون كثير ولهم لا شك خبال، فلو خرج هؤلاء لتألبوا فزاد الخبال.
{ ولأوضعوا } الإيضاع: الاسراع قال الشاعر:
أرانا موضعين لأمر غيب
ونسحر بالطعام والشراب
ومفعول أوضعوا محذوف تقديره ولا وضعوا ركائبهم بينكم، لأن الراكب أسرع من الماشي. والخلال: جمع خلل وهو الفرجة بين الشيئين، وجلسنا خلال البيوت وخلال الدور أي بينها. ويبغون حال، أي باغين. والفتنة هي الكفر.
{ وفيكم سماعون لهم } قال الزمخشري: أي نمامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم، أو فيكم قوم يسمعون للمنافقين ويطيعونهم. " انتهى ". فاللام في القول الأول: للتعليل، وفي الثاني: التقوية التعدية، كقوله تعالى:
فعال لما يريد
[هود: 107]. والقول الأول قاله سفيان بن عيينة والحسن ومجاهد وابن زيد قالوا: معناه جواسيس يستمعون الاخبار وينقلونها إليهم. ورجحة الطبري.
والقول الثاني قول الجمهور قالوا: معناه وفيكم مطيعون سماعون.
{ لقد ابتغوا الفتنة من قبل } الآية، تقدم ذكر السبب في نزول هذه الآية والتي قبلها من قصة رجوع عبد الله بن أبي بأصحابه في هذه الغزاة حقر شأنهم في هذه الآية، وأخبر أنهم قد يماسعوا على الإسلام فأبطل الله سعيهم. قال ابن عباس : بغوالك الغوائل. وقال ابن جريج: وقف اثنا عشر رجلا من المنافقين على الثنية ليلة العقبة كي يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى من قبل، أي من قبل هذه الغزوة، وذلك ما كان من حالهم وقت هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجوعهم عنه في أحد وغيرها، وتقليب الأمور هو تدبيرها ظهر البطن والنظر في نواحيها وأقسامها والسعي بكل حيلة.
{ حتى جآء الحق } أي القرآن وشريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولفظة جاء مشعرة بأنه كان قد ذهب.
{ وظهر أمر الله } وصفه بالظهور لأنه كان كالمستور، أي غلب وعلا دين الله تعالى.
{ وهم كارهون } أي لمجيء الحق وظهور دين الله.
{ ومنهم من يقول ائذن لي } الآية،
" نزلت في الجد بن قيس ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر بالغزو إلى بلاد الروم حرض الناس فقال للجد بن قيس المنافق: هل لك العام في جلاد بني الأصفر. وقال له وللناس: اغزوا تغنموا بنات الأصفر. فقال الجد: إئذن لي في التخلف ولا تفتني بذكر بنات الأصفر فقد علم قومي أني لا أتمالك عن النساء إذا رأيتهن "
ومعنى ولا تفتني بالنساء هذا قول ابن عباس، والفتنة التي سقطوا فيها هي فتنة التخلف وظهور كفرهم ونفاقهم. ولفظة سقطوا تنبىء عن تمكن وقوعهم فيها.
[9.50-59]
{ إن تصبك حسنة تسؤهم } قال ابن عباس: الحسنة يوم بدر، والمصيبة يوم أحد. وينبغي أن يحمل قوله على التمثيل، واللفظ عام في كل محبوب ومكروه. وسياق الجمل يقتضي أن يكون ذلك في الغزو، ولذلك قالوا: الحسنة: الظفر والغنيمة، والمصيبة: الخيبة والهزيمة، مثل ما جرى في غزوة أحد، ومعنى أمرنا الذي نحن متسمون به من الحذر والتيقظ والعمل بالجزم في التخلف عن الغزو من قبل ما وقع من المصيبة.
{ قل هل تربصون بنآ } الآية، أي ما تنتظرون بنا إلا إحدى العاقبتين كل واحدة منهما هي الحسنى من العواقب اما النصرة واما الشهادة، فالنصرة مآلها إلى الغلبة والاستيلاء، والشهادة مآلها إلى الجنة.
{ قل أنفقوا طوعا أو كرها } قرىء: بضم الكاف ويعني في سبيل الله ووجوه البر، وهو أمر معناه التهديد والتوبيخ، انفقوا قال ابن عطية: أنفقوا أمر في ضمنه جزاء وهذا مستمر في كل أمر معه جزاء، والتقدير ان تنفقوا لن يتقبل منكم، وأما إذا عري الأمر من الجواب فليس يصحبه تضمن الشرط. " انتهى ".
ويقدح في هذا التخريج أن الأمر إذا كان فيه معنى الشرط كان الجواب كجواب الشرط فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب، فلن يتقبل بالفاء لأن لن لا تقع جوابا للشرط إلا بالفاء فكذلك ما ضمن معناه. وانتصب طوعا أو كرها على الحال، والطوع أن يكون من غير إلزام الله ورسوله. والكره إلزام ذلك، وسمي الإلزام إكراها لأنهم منافقون فصار الإلزام شاقا عليهم كالإكراه. وعلل انتفاء التقبل بالفسق، والمراد به هنا الكفر، ويدل عليه قوله في الآية بعدها.
{ وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله } الآية، وذكر السبب الذي هو بمفرده مانع من قبول نفقاتهم وهو الكفر، واتبعه بما هو ناشىء عن الكفر ومستلزم له وهو دليل عليه وذلك إتيان الصلاة وهم كسالى، وإيتاء النفقة وهم كارهون، والكسل في الصلاة، وترك النشاط إليها، وأخذها بالإقبال من ثمرات الكفر فإيقاعها عندهم لا يرجون به ثوابا ولا يخافون بالتفريط فيها عقابا، وكذلك الإنفاق للأموال لا يخرجون ذلك إلا وهم لا يرجون به ثوابا.
{ فلا تعجبك أمولهم ولا أولدهم } لما قطع رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة بين أن الأشياء التي يظنونها من باب منافع الدنيا جعلها تعالى أسبابا لتعذيبهم بها في الدنيا، أي فلا تعجبك أيها السامع بمعنى لا تستحسن ولا تفتتن بما أوتوا من زينة الدنيا، وفي هذا تحقير لشأن المنافقين. والضمير في " بها " عائد على الأموال. واللام في " ليعذبهم " لام كي. ومفعول يريد محذوف تقديره يريد كسبهم الأموال والأولاد لأجل تعذيبهم.
{ ويحلفون بالله إنهم لمنكم } أي لمن جملة المسلمين.
واكذبهم بقوله: { وما هم منكم }.
ومعنى يفرقون: يخافون القتل، وما يفعل بالمشركين، فيتظاهرون بالإسلام تقية وهم يبطنون النفاق.
{ لو يجدون ملجئا } لما ذكر تعالى فرق المنافقين من المؤمنين أخبر بما هم عليه معهم مما يوجبه الفرق وهو أنهم لو أمكنهم الهرب منهم لهربوا ولكن صحبتهم لهم صحبة اضطرار لا اختيار، والملجأ: الحرز. والمغارات جمع مغارة وهي الغار تجمع على غير أن يبنى من غار يغور إذا دخل بدأ أولا بالأعم وهو الملجأ إذ يطلق على كل ما يلجأ إليه الإنسان، ثم ثنى بالمغارات وهي الغيران في الجبال، ثم أتى ثالثا بالمداخل وهو النفق باطن الأرض.
و { لولوا إليه } أي إلى واحد من الثلاث.
{ وهم يجمحون } أي يسرعون إسراعا لا يردهم شىء.
{ ومنهم من يلمزك } اللامز هو حرقوص بن زهير التميمي وهو ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين فقال: اعدل يا رسول الله. الحديث. وقيل: غيره.
والمعنى من يعيبك في قسم الصدقات. والضمير في { ومنهم } للمنافقين. والكاف لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا الترديد بين الشرطين يدل على دناءة طباعهم ونجاسة أخلاقهم وان لمزهم الرسول عليه السلام إنما هو لشرههم في تحصيل الدنيا ومحبة المال، وان رضاهم وسخطهم إنما متعلقة العطاء.
والظاهر حصول مطلق الاعطاء أو نفيه، وما أحسن مجيء جواب هذين الشرطين لأن الأول لا يلزم أن يقارنه ولا أن يتعقبه بل قد يجوز أن يتأخر نحو: ان اسلمت دخلت الجنة، فإنما يقتضي مطلق الترتيب، وأما جواب الشرط الثاني فجاء بإذا الفجائية وانه إذا لم يعطوا فاجأ سخطهم. ولم يمكن تأخره لما جلبوا عليه من محبة الدنيا والشره في تحصيلها.
ومفعول رضوا محذوف، أي رضوا ما أعطوه، وليس المعنى رضوا عن الرسول لأنهم منافقون، ولأن رضاهم وسخطهم لم يكن لأجل الدين بل لأجل الدنيا. وجاءت إذا الفجائية رابطة لجواب الجزاء بجملة الشرط ولا نحفظه جاءت إذا جوابا للشرط إلا وحرف الشرط ان، وكذلك في قوله:
إذا هم يقنطون
[الروم: 36]، وسائر أدوات الشرط كانت أسماء كمن وما ومهما. أو ظرف زمان كمتى وأيان، أو مكان كحيثما، لا نعلمه جاء جواب شىء منها بإذا الفجائية على كثرة مطالعتي لدواوين العرب.
{ ولو أنهم رضوا } الآية، هذا وصف لحال المستقيمين في دينهم، أي رضوا قسمة الله ورسوله وقالوا: كفانا فضل الله ورسوله. وعلقوا آمالهم بما سيؤتيه الله إياهم. وكانت رغبتهم إلى الله تعالى لا إلى غيره. وجواب لو محذوف تقديره لكان خيرا لهم في دينهم ودنياهم.
[9.60-61]
{ إنما الصدقات للفقرآء } الآية، لما ذكر تعالى من يعيب الرسول في قسم الصدقات بأنه يعطي من يشاء ويحرم من يشاء، أو يخص أقاربه أو يأخذ لنفسه ما بقي، وكانوا يسألون فوق ما يستحقون، بين تعالى مصرف الصدقات فإنه عليه السلام إنما قسم على ما فرضه الله تعالى. ولفظة { إنما } إن كانت وضعت للحصر فالحصر مستفاد من لفظها، وان لم توضع للحصر فالحصر مستفاد من الأوصاف، إذ مناط الحكم بالوصف يقتضي التعليل به، والتعليل بالشىء يقتضي الاقتصار عليه. والظاهر أن مصرف الصدقات هؤلاء الأصناف. والظاهر أن العطف مشعر بالتغاير فتكون الفقراء غير المساكين. والظاهر بقاء هذا الحكم للأصناف الثمانية دائما إذ لم يرد نص في نسخ شىء منها. وتقدم الكلام على الفقراء والمساكين وفي الرقاب وابن السبيل في البقرة.
{ والعاملين عليها } العامل هو الذي يستنيبه الإمام في السعي في جمع الصدقات وكل من تصرف لا يستغني عنه فيها فهو من العاملين، ويسمى جابي الصدقات والساعي.
{ والمؤلفة قلوبهم } هم أشراف من العرب مسلمون لم يتمكن الإيمان من قلوبهم أعطاهم صلى الله عليه وسلم ليتمكن الإيمان من قلوبهم. فمن المؤلفة أبو سفيان بن حرب وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وحويطب بن عبد العزى وصفوان بن أمية ومالك بن عوف النضري والعلاء بن حارثة الثقفي، فهؤلاء أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة بعير لكل واحد، ومخرمة بن نوفل بن الزهري وعمير بن وهب الجمحي وهشام بن عمرو العائذي أعطاهم دون المائة، ومن المؤلفة سعيد بن يربوع والعباس بن مرداس والأقرع بن حابس وزيد الخيل وعلقمة بن علاثة وأبو سفيان الحارث بن عبد المطلب وحكيم بن حزام وعكرمة بن أبي جهل وسعيد بن عمرو وعيينة بن حصن، وحسن إسلام المؤلفة حاشى عيينة فإنه لم يزل مغموصا عليه.
{ والغارمين } قال ابن عباس: الغارم من عليه دين. وزاد مجاهد وقتادة: في غير معصية ولا إسراف. والجمهور على أنه يقضى منها دين الميت إذ هو غارم. وقال أبو حنيفة وأبو المواز من المالكية: لا يقضى منها. وقال أبو حنيفة: ولا يقضى منها كفارة ونحوها من حقوق الله تعالى. وإنما الغارم من عليه دين يحبس فيه. وقيل: يدخل في الغارمين من تحمل حمالات في إصلاح وبر، وان كان غنيا إذ كان ذلك يجحف بماله، وهو قول الشافعي وأصحابه وأحمد.
{ وفي سبيل الله } هو المجاهد يعطي منها إذا كان فقيرا. والجمهور على أنه يعطى منها وإن كان غنيا ما ينفق في غزوته. وقال الشافعي وأحمد وعيسى بن دينار وجماعة: لا يعطى الغني إلا ان احتاج في غزوته وغاب عنه وفره.
وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطي إلا إن كان فقيرا أو منقطعا به فإذا أعطى ملك وإن لم يصرفه في غزوته. وقال ابن عبد الحكم: ويجعل من الصدقة في الكراع والسلاح وما يحتاج اليه من الات الحرب وكف العدو عن الحوزة لأنه كله في سبيل الله ومنفعته. والجمهور على أنه يجوز الصرف منها إلى الحجاج والمعتمرين وان كانوا أغنياء.
وانتصب فريضة لأنه في معنى المصدر المؤكد لأن قوله تعالى: { إنما الصدقات للفقرآء } ، معناه فرض الله الصدقات فريضة لهم فهي مصدر. وقرىء: فريضة بالرفع على تلك الفريضة.
{ والله عليم حكيم } لأن ما صدر عنه هو عن علم منه بخلقه وحكمة منه في القسمة، أي عليم بمقادير المصالح، حكيم لا يشرع إلا ما هو الأصلح.
{ ومنهم الذين يؤذون النبي } كان حزام بن خالد وعبيد بن هلال والجلاس بن سويد في آخرين يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه فيوقع بنا. فقال الجلاس: بل نقول ما شئنا فإن محمدا أذن سامعة ثم نأتيه فيصدقنا. فنزلت. وقيل غير ذلك. يقال: رجل أذن إذا كان يسمع فقال كل أحد يستوي فيه الواحد والجمع، قاله الجوهري. وقال الشاعر:
وقد صرت أذنا للوشاة سميعة
ينالون من عرضي ولو شئت ما نالوا
وارتفع أذن على إضمار مبتدأ، أي قل هو إذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين، تعدية يؤمن أولا بالباء، وثانيا باللام قصد التصديق بالله الذي هو نقيض الكفر، فعدي بالباء وقصد الاستماع للمؤمنين وان يسلم لهم ما يقولون، فعدي باللام. وقرىء: ورحمة بالرفع عطفا على إذن، وبالجر عطفا على خير.
{ ورحمة للذين آمنوا منكم } وخص المؤمنين وإن كان رحمة للعالمين لأن ما حصل لهم من الإيمان بسبب رسول الله لم يحصل لغيرهم. وخصوا هنا بالذكر وإن كانوا قد دخلوا في العالمين لحصول مزيتهم، وأبرز اسم الرسول ولم يأت مضمرا على نسق يؤمن بلفظ الرسول تعظيما لشأنه وجمعا له في الآية بين الرتبتين العظيمتين من النبوة والرسالة، وإضافته إليه زيادة في تشريفه وحتم على من أذاه بالعذاب الأليم وحق لهم ذلك، والذين يؤذون عام يندرج فيه هؤلاء الذين آذوا هذا الإيذاء الخاص وغيرهم.
[9.62-66]
{ يحلفون بالله لكم } الظاهر ان الضمير في يحلفون عائد على الذين يقولون هو إذن أنكروه وحلفوا أنهم ما قالوه. واللام في " ليرضوكم " لام كي. قال ابن عطية: مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى لدلالة الثانية عليها والتقدير عنده والله أحق أن يرضوه ورسوله أحق أن يرضوه. ومذهب المبرد ان في الكلام تقديما وتأخيرا وتقديره والله أحق أن يرضوه ورسوله. " انتهى ".
فقوله مذهب سيبويه أنهما جملتان حذفت الأولى إن كان الضمير في أنهما جملتان عائدا على كل واحدة من الجملتين، فكيف يقول: حذفت الأولى، ولم تحذف الأولى إنما حذف خبرها وإن كان الضمير عائدا على الخبر وهو أحق أن يرضوه، فلا تكون جملة إلا باعتقاد كون أن يرضوه مبتدأ وأحق المتقدم خبره لكن لا يتعين هذا القول، إذ يجوز أن يكون الخبر مفردا بأن يكون التقدير أحق بأن يرضوه، وعلى التقدير الأول يكون التقدير والله إرضاؤه أحق. وقدره الزمخشري: والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك. " انتهى ". وفي تقديره تفكيك للكلام حيث جعل أحق أن يرضوه خبرا عن قوله: والله، فنوى به التقديم وأضمر خبرا لقوله: ورسوله، وقدره كذلك. والذي نقول: انه لما كانت طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة لله تعالى كما قال:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء: 80]، صارا لذلك متلازمين كالشىء الواحد فأخبر عنهما إخبار الواحد فأفرد الضمير، كما قال الشاعر:
بها العينان تنهل
ولم يقل: تنهلان. وقالت العرب: رب يوم وليلة مر بي. يريد مرا بي، فأفرد الضمير لتلازمهما.
{ ألم يعلموا أنه من يحادد الله } أي لم يعلم المنافقون، وهو استفهام معناه التوبيخ والإنكار. وقرىء: بالتاء وهو التفات. خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب، واسم ان هو ضمير الأمر والشأن، وخبر ان هو جملة الشرط والجزاء، فمن مبتدأ ويحادد مجزوم به. قال ابن عباس: المحادة هنا المخالفة، ويحادد خبر لمن، والفاء داخلة في جواب الشرط وينسبك من أن وما بعدها مصدر خبر لمبتدأ محذوف تقديره فجزاؤه كينونة النار له. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون فإن له معطوفا على أنه على أن جواب من محذوف تقديره ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله يهلك فإن له نار جهنم. " انتهى ".
فيكون فإن له نار جهنم في موضع نصب. وهذا الذي قدره لا يصح لأنهم نصوا على أنه إذا حذف الجواب لدلالة الكلام عليه كان فعل الشرط ماضيا في اللفظ أو مضارعا مجزوما بلم، فمن كلامهم: أنت ظالم إن فعلت، ولا يجوز أن تفعل. وهنا حذف جواب الشرط، وفعل الشرط ليس ماضي اللفظ ولا مضارعا مقرونا بلم وذلك ان جاء في كلامهم فمخصوص بالضرورة، وأيضا فتجد الكلام تاما دون تقدير هذا الجواب.
{ يحذر المنافقون } الآية، قال ابن كيسان: وقف جماعة منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة مظلمة عند مرجعه من تبوك ليفتكوا به فأخبره جبريل عليه السلام. فنزلت.
وقيل: في غزوة تبوك أيرجو هذا الرجل أن تفتح له قصور الشام وحصونها هيهات هيهات. فأنزل الله تعالى: { قل استهزءوا }. والظاهر أن يحذر خبر ويدل عليه:
{ إن الله مخرج ما تحذرون } فقيل: هو واقع منهم حقيقة لما شاهدوا الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما يكتمونه وقع الحذر والخوف في قلوبهم.
{ ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب } أي ولئن سألتهم عما قالوا من القبيح في حقك وحق أصحابك من قول بعضهم: أنظروا إلى هذا الرجل، يريد أن تفتح له قصور الشام. وقول بعضهم: كأنكم بهم غدا في الجبال أسرى لبني الأصفر. وقول بعضهم: ما رأيت كهؤلاء أرغب بطونا ولا أكثر كذبا ولا أجبن عند اللقاء. فأطلع الله نبيه على ذلك فعنفهم، فقالوا: يا نبي الله ما كنا في شىء من أمرك ولا أمر أصحابك إنما كنا في شىء مما يخوض فيه الركب كنا في غير جد. فنزلت.
{ قل أبالله } الآية، تقرير على استهزائهم وضمنه الوعيد ولم يعبأ باعتذارهم لأنهم كانوا كاذبين فيه فجعلوا كأنهم معترفون باستهزائهم وبأنه موجود منهم حتى وبخوا بأخطائهم موضع الاستهزاء حيث جعل المستهزأ به على حرف التقرير وذلك إنما يستقيم بعد وقوع الاستهزاء وثبوته وهو حسن، وتقديم وبالله وهو معمول خبر كان عليها يدل على جواز تقديمه عليها. وعن ابن عمر قال:
" رأيت قائل هذه المقالة يعني إنما كنا نخوض ونلعب، واسمه وديعة بن ثابت متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يماشيها والحجارة تنكته وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن ".
{ لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم } نهوا عن الاعتذارات لأنها اعتذارات كاذبة فهي لا تنفع. قد كفرتم: أظهرتم الكفر. بعد إيمانكم، أي بعد إظهار إيمانكم، لأنهم كانوا يسرون الكفر فأظهروه باستهزائهم وجاء التقسيم بالعفو عن طائفة والتعذيب لطائفة، وكان المنافقون صنفين: صنف أمر بجهادهم، جاهد الكفار والمنافقين وهم رؤساؤهم المعلنون بالأراجيف فعذبوا بإخراجهم من المسجد وانكشاف معظم أحوالهم، وصنف ضعفة مظهرون الإيمان وان أبطنوا الكفر لم يؤذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعفى عنهم، وهذا العذاب والعفو في الدنيا . وقيل: العفو عمن علم الله أنهم سيخلصون من النفاق ويخلصون الإيمان. والمعذبون من مات منهم على نفاقه.
وقرىء: ان تعف مبنيا للمفعول التقدير ان تعف هذه الذنوب.
[9.67-72]
{ المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } الآية، بين سبحانه وتعالى أن ذكورهم وإناثهم ليسوا من المؤمنين، كما قال تعالى:
ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم
[التوبة: 56]، بل بعضهم من بعض في الحكم والمنزلة والنفاق، فهم على دين واحد، وليس المعنى على التبعيض حقيقة لأن ذلك معلوم، ووصفهم بخلاف ما عليه المؤمنون من أنهم:
{ يأمرون بالمنكر } وهو الكفر وعبادة غير الله والمعاصي.
{ وينهون عن المعروف } وهو الإيمان والطاعات. وقبض الأيدي عبارة عن عدم الإنفاق في سبيل الله. والنسيان هنا الترك، تركوا طاعة الله وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ فنسيهم } أي تركهم من الخير، وأما من الشر فلم ينسهم منه.
{ وعد الله المنافقين } الآية، والكفار هنا المعلنون بالكفر، وخالدين فيها حال مقدرة لأن الخلود لم يقارن الوعد.
و { حسبهم } كافيهم، وذلك مبالغة في عظم عذابهم إذ عذابهم شىء لا يزاد عليه، ولعنهم أهانهم مع التعذيب، ولما ذكر تشبيههم بمن قبلهم وذكر ما كانوا فيه من شدة القوة وكثرة الأولاد والأموال واستمتاعهم بما قدر لهم من الانصباء، شبه استمتاع المنافقين باستمتاع الذين من قبلهم وأبرزهم بالإسم الظاهر فقال: كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم، ولم يكن التركيب كما استمتعوا بخلاقهم ليدل بذلك على التحقير، لأنه كما يدل بإعادة الظاهر مكان المضمر على التفخيم والتعظيم كذلك يدل بإعادته على التحقير والتصغير لشأن المذكور كقوله تعالى:
يأبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصيا
[مريم: 44]. وكقوله: { إن المنافقين هم الفاسقون }. ولم يأت التركيب أنه كان ولا انهم هم.
{ وخضتم } أي دخلتم في اللهو والباطل، وهو مستعار من الخوض في الماء. ولا يستعمل إلا في الباطل لأن التصرف في الحق إنما هو على ترتيب ونظام، وأمور الباطل إنما هي خوض. ومنه قوله عليه السلام:
" رب متخوض في مال الله له النار يوم القيامة ".
{ كالذي خاضوا } أي كالخوض الذي خاضوا، قاله الفراء. وقيل: كالفوج الذي خاضوا. وقيل: النون محذوفة، أي كالذين خاضوا أي كخوض الذين خاضوا. وقيل: الذي مع ما بعدها ينسبك مصدرا أي كخوضهم. والظاهر أن أولئك إشارة إلى الذين وصفهم بالشدة وكثرة الأموال والأولاد، والمعنى وأنتم كذلك تحبط أعمالكم.
{ ألم يأتهم نبأ الذين من قبلهم } لما شبه المنافقين بالكفار المتقدمين في الرغبة في الدنيا وتكذيب الأنبياء. وكان لفظ: الذين من قبلهم، فيه إبهام نص على طوائف بأعيانها ستة لأنه كان عندهم شىء من أنبائهم وكانت بلادهم قريبة من بلاد العرب، وكانوا أكثر الأمم عددا وأنبياؤهم أعظم الأنبياء، نوح أول الرسل وإبراهيم الأقرب للعرب، وما بينهما من الأمم مقاربون لهم في الشدة وكثرة المال والولد، وقوم نوح أهلكوا بالغرق، وعاد بالريح، وثمود بالصيحة، وقوم إبراهيم بسلب النعمة عنهم، حتى سلطت البعوضة على نمرود ملكهم، وأصحاب مدين بعذاب يوم الظلمة، والمؤتفكات بجعل أعالي أرضها أسافل وإمطار الحجارة عليهم.
{ والمؤمنون والمؤمنات } لما ذكر تعالى المنافقين والمنافقات وما هم عليه من الأوصاف القبيحة والأعمال الفاسدة، ذكر المؤمنين والمؤمنات وقال في أولئك بعضهم من بعض، وفي هؤلاء بعضهم أولياء بعض، إذ لا ولاية بين المنافقين ولا شفاعة لهم، ولا يدعو بعضهم لبعض، فكان المراد هنا الولاية لله خاصة.
{ وعد الله المؤمنين والمؤمنات } الآية، لما أعقب المنافقين بذكر ما أوعدهم به من نار جهنم أعقب المؤمنين بذكر ما وعدهم به من نعيم الجنات ولما كان قوله: أولئك سيرحمهم الله وعدا جماليا فصله هنا تنبيها على أن تلك الرحمة هي هذه الأشياء.
[9.73-79]
{ يأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين } لما ذكر وعيد غير المؤمنين وكانت السورة قد نزلت في المنافقين بدأ بهم في ذلك بقولهم:
وعد الله المنافقين والمنافقات
[التوبة: 68] الآية، ولما ذكر أمر الجهاد وكان الكفار غير المنافقين أشد شكيمة وأقوى أسبابا في القتال وأنكاء بتصديهم للقتال قال: جاهد الكفار والمنافقين فبدأ بهم. قال ابن عباس: جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان.
{ يحلفون بالله ما قالوا } الضمير عائد على المنافقين. وقيل: هو حلف الجلاس ، وتقدمت قصته مع عامر بن قيس.
{ وهموا بما لم ينالوا } قال مجاهد:
" نزلت في خمسة عشر رجلا هموا بقتله صلى الله عليه وسلم وتوافقوا على أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنم العقبة فأخذ عمار بن ياسر بخطام راحلته يقودها وحذيفة خلفها يسوقها فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع اخفاف الإبل وقعقعة السلاح فالتفت فإذا قوم متلثمون فقال: إليكم يا أعداء الله فهربوا "
وكان منهم عبد الله بن أبي وعبد الله بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق والجلاس بن سويد وأبو عامر بن نعمان وأبو الأحوص.
{ فإن يتوبوا يك خيرا لهم } هذا إحسان منه تعالى ورفق بهم حيث فتح لهم باب التوبة بعد ارتكاب تلك الجرائم العظيمة، وكان الجلاس بعد حلفه وإنكاره أنه ما قال الذي نقل عنه قد تاب واعترف وصدق الناقل عنه وحسنت توبته، ولم يرد أن أحدا قبلت توبته منهم غير الجلاس. وقيل: وفي هذا دليل على قبول توبة الزنديق المسر للكفر المظهر للإيمان، وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا تقبل فإن جاء تائبا من قبل نفسه قبل أن يعثر عليه قبلت توبته بلا خلاف يك خيرا لهم. اسم " يك " ضمير يعود على المصدر المفهوم في قوله: يتوبوا، تقديره هو أي الثواب خيرا لهم.
{ ومنهم من عاهد الله } الآية، قال الضحاك: هم نبتل بن الحارث والجد بن قيس ومعتب بن متشير وثعلبة بن خاطب، وفيهم نزلت الآية. والظاهر أن الضمير في فأعقبهم هو عائد على الله تعالى عاقبهم على الذنب بما هو أشد منه. والظاهر عود الضمير في يلقونه على الله تعالى. وقيل: جزاء أفعالهم.
{ ألم يعلموا } هذا استفهام تضمن التوبيخ والتقريع. وقرأ على وأبو عبد الرحمن والحسن تعلموا بالتاء وهو خطاب للمؤمنين على سبيل التقرير وأنه تعالى فاضح المنافقين ومعلم المؤمنين أحوالهم التي يكتمونها شيئا فشيئا.
{ سرهم ونجواهم } هذا التقسيم عبارة عن إحاطة علمه تعالى بهم. والظاهر أن الآية في جميع المنافقين من عاهد وأخلف وغيره.
{ الذين يلمزون المطوعين } الآية،
" نزلت فيمن عاب المتصدقين وكان رسول الله حث على الصدقة فتصدق عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف وامسك مثلها، فبارك له الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أعطى وفيما أمسك وتصدق عمر بنصف ماله، وعاصم بن عدي بمائة وسق، وعثمان بن عفان بصدقة عظيمة، وأبو عقيل الاراش بصاع تمر، وترك لعياله صاعا وكان آجر نفسه لسقي نخل بهما، ورجل بناقة عظيمة، قال: هي وذو بطنها صدقة يا رسول الله وألقى إلى رسول الله خطامها فقال المنافقون: ما تصدق هؤلاء إلا ريآء وسمعة، وما تصدق أبو عقيل إلا ليذكر مع الأكابر أو ليذكر بنفسه فيغطي من الصدقات والله غني عن صاعه. وقال بعضهم: تصدق بالناقة وهي خير منه. وكان الرجل أقصر الناس قامة وأشدهم سوادا فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: بل هو خير منك، ومنها يقوله ثلاثا ".
{ والذين لا يجدون إلا جهدهم } هم مندرجون في المطوعين ذكروا تشريفا لهم حيث ما فاتتهم الصدقة بل تصدقوا بالشىء وإن كانوا أشد الناس إليه حاجة، وأتعبهم في تحصيل ما تصدقوا به كأبي عقيل وأبي خيثمة. وكان قد لمز في التصدق بالقليل ونظرائها الذين يلمزون: مبتدأ. وفي الصدقات: متعلق بيلمزون. والذين لا يجدون: معطوف على المطوعين، كأنه قيل: يلمزون الأغنياء وغيرهم.
{ فيسخرون } معطوف على يلمزون وسخر منهم. وما بعده خبر عن الذين يلمزون.
[9.80-83]
{ استغفر لهم أو لا تستغفر لهم } الآية، سأل عبد الله بن أبي رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان رجلا صالحا أن يستغفر لأبيه في مرضه ففعل. فنزلت. فقال عليه السلام:
" قد رخص لي فأزيد على السبعين "
فنزلت سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم وعلى هذا فالضمائر عائدة على جميع المنافقين، والخطاب بالأمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والظاهر أن المراد بهذا الكلام التخيير، وهو الذي روي عنه صلى الله عليه وسلم وقد قال له عمر:
" كيف تستغفر لعدو الله وقد نهاك الله عن الاستغفار لهم؟ فقال عليه السلام: ما نهاني ولكنه خيرني "
فكأنه قال له: إن شئت فاستغفر وإن شئت فلا تستغفر، ثم أعلمه أنه لا يغفر لهم وإن استغفر سبعين مرة.
{ فرح المخلفون } الآية، لما ذكر تعالى ما ظهر من النفاق والهزء من الذين خرجوا معه إلى غزوة تبوك من المنافقين، ذكر حال المنافقين الذي لم يخرجوا معه وتخلفوا عن الجهاد، واعتذروا بأعذار وعلل كاذبة حتى أذن لهم، فكشف الله تعالى لرسوله عن أحوالهم وأعلمه بسوء فعالهم، فأنزل عليه فرح المخلفون أي عن غزوة تبوك، وكان عليه السلام قد خلفهم بالمدينة لما اعتذروا فأذن لهم. وهذه الآية تقتضي التوبيخ والوعيد. ولفظة المخلفون تقتضي الذم والتحقير، ولذلك جاء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف وهي أمكن من لفظ المتخلفين، إذ هم مفعول بهم ذلك ولم يفرح إلا منافق فخرج من ذلك الثلاثة وأصحاب العذر. ولفظ المقعد يكون للزمان والمكان والمصدر وهو هنا للمصدر، أي بقعودهم. وهو عبارة عن الأمة بالمدينة. وانتصب خلاف على الظرف أي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال فلان أقام خلاف الحي أي بعدهم إذا ظعنوا ولم يظعن معهم. ومنه قول الشاعر:
وقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
تأهب لأخرى مثلها وكأن قد
{ فإن رجعك الله إلى طآئفة منهم } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى فإن رجعك الله من سفرك هذا وهو غزوة تبوك.
{ فاستأذنوك } عطف على محذوف تقديره فاردت الخروج بعد الرجوع فأستأذنوك. وجواب الشرط قوله: فقل، وأمر الله تعالى نبيه أن يقول لهم لن تخرجوا معي هي عقوبة لهم وإظهار لدناءة منزلتهم وسوء حالهم. وأكد نفي الخروج في المستقبل بقوله:
{ أبدا } وهو ظرف مستقبل وانتقل بالنفي من الشاق عليهم وهو الخروج إلى الغزاة إلى الأشق وهو قتال العدو لأنه أعظم الجهاد وثمرة الخروج وموضع بارقة السيوف التي تحتها الجنة. ثم علل انتفاء الخروج والقتال بكونهم رضوا بالقعود أول مرة، ورضاهم ناشىء عن نفاقهم وكفرهم وخداعهم وعصيانهم أمر الله تعالى في قوله:
انفروا خفافا وثقالا
[التوبة: 41]. وقالوا هم لا تنفروا في الحر، فعلل بالمسبب وهو الرضا الناشىء عن السبب وهو النفاق وأول مرة هو الخرجة إلى غزوة تبوك ومرة مصدر، كأنه قيل: أول خرجة دعيتم إليها، لأنها لم تكن أول خرجة خرجها الرسول عليه السلام للغزاة فلا بد من تقييدها، إذ الأولية تقتضي السبق. وقيل: التقدير أول خرجة خرجها الرسول لغزو الروم بنفسه. وقيل: أول مرة قبل الاستئذان.
[9.84-87]
{ ولا تصل على أحد منهم مات أبدا } الآية، النهي عن الصلاة على المنافقين إذا ماتوا عقوبة ثانية لهم وخزي متأبد، وكان عليه السلام فيما روي يصلي على المنافقين إذا ماتوا ويقوم على قبورهم بسبب ما يظهرونه من الإسلام فإنهم كانوا يتلفظون بكلمتي الشهادة ويصلون ويصومون، فبنى الأمر على ما ظهر من أقوالهم وأفعالهم ووكل سرائرهم إلى الله تعالى. ولم يزل على ذلك حتى وقعت واقعة عبد الله بن أبي. وروي أنس أنه لما تقدم ليصلي عليه جاءه جبريل عليه السلام فجذبه بثوبه وتلا عليه ولا تصل على أحد منهم الآية فانصرف ولم يصل عليه. ومات: صفة لأحد تقدم الوصف بالمجرور، ثم بالجملة وهو ماض بمعنى المستقبل، لأن الموت غير موجود لا محالة نهاه تعالى عن الصلاة عليه والقيم على قبره وهو الوقوف على قبره حتى يفرغ من دفنه.
{ ولا تعجبك } الآية، تقدم الكلام على نظيرها وأعيد ذلك لأن تجدد النزول له شأن في تقرير ما نزل له.
{ وإذآ أنزلت سورة } الآية، يحتمل أن أن تكون تفسيرية بمعنى أي. ويحتمل أن تكون مصدرية، أي بالإيمان. والظاهر أن الخطاب للمنافقين أي آمنوا بقلوبكم كما آمنتم بألسنتكم.
و { استأذنك } جواب إذا.
و { أولوا الطول } الكبراء والرؤساء والطول. قال ابن عباس: الغنى. والمعنى استأذنك أولو الطول منهم في القعود. وفي استأذنك التفات، إذ هو خروج من لفظ الغيبة في قوله: ورسوله، إلى ضمير الخطاب.
{ وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين } أي ألزمنا. وأهل العذر وفي ترك لحراسة المدينة.
وفي قوله: { رضوا بأن يكونوا مع الخوالف } تهجين لهم ومبالغة في الذم. والخوالف: الفساد.
والظاهر أن قوله: { وطبع } خبر من الله تعالى بما فعل بهم، فلأجل الطبع لا يفقهون ولا يتدبرون ولا يتفهمون ما في الجهاد من الفوز والشهادة والسعادة، وما في التخلف من الشقاء والضلال.
[9.88-96]
{ لكن الرسول } الآية، لكن وضعها أن تقع بين متنافيين ولما تضمن قول المنافقين ذرنا استئذانهم في القعود كان ذلك تصريحا بانتفاء الجهاد، وكأنه قيل: رضوا بكذا ولم يجاهدوا لكن الرسول جاهد والمعنى أن تخلف هؤلاء المنافقون فقد توجه إلى الجهاد من هو خير منهم وأخلص نية. والخيرات: جمع خيرة، وهو المستحسن من كل شىء فيتناول محاسن الدنيا والآخرة لعموم اللفظ. وكثر استعماله في النساء ومنه قوله تعالى:
فيهن خيرات حسان
[الرحمن: 70].
{ وجآء المعذرون } الآية، وقرىء بالتشديد والتخفيف. والظاهر أن هؤلاء الجائين كانوا مؤمنين، كما قال ابن عباس، لأن التقسيم يقتضي ذلك ألا ترى إلى قوله: { وقعد الذين كذبوا الله ورسوله سيصيب الذين كفروا } الآية، فلو كان الجميع كفارا لم يكن لوصف الذين قعدوا بالكذب اختصاص، وكان يكون سيصيبهم عذاب أليم. والمعذورون: هم أسد وغطفان. وقيل غير ذلك.
{ ليس على الضعفآء } الآية، لما ذكر تعالى حال من تخلف عن الجهاد مع القدرة عليه ذكر حال من له عذر في تركه. والضعفاء: جمع ضعيف وهو الهرم، ومن خلق في أصل البنية شديد النحافة والضؤولة بحيث لا يمكنه الجهاد. والمريض: من عرض له المرض، أو كان زمنا ويدخل فيه العمي والعرج.
و { الذين لا يجدون ما ينفقون } هم الفقراء. قيل: هم مزينة وجهينة وبنو عذرة. ونفى الحرج عنهم في التخلف عن الغزو، ونفي الحرج لا يتضمن المنع من الخروج إلى الغزو فلو خرج أحد هؤلاء ليعين المجاهدين بما يقدر عليه من حفظ متاعهم أو تكثير سوادهم ولا يكون كلا عليهم كان له في ذلك ثواب جزيل
" فقد كان عمرو بن الجموح أعرج وهو من أتقياء الأنصار وهو في أول الجيش، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ان الله عذرك. فقال: والله لأحقرن بعرجتي هذه في الجنة "
وكان ابن أم مكتوم أعمى فخر إلى أحد وطلب أن يعطى اللواء فأخذه فأصيبت يده التي فيها اللواء فأمسكه باليد الأخرى فضربت فأمسكه بصدره وقرأ: وما محمد إلا رسول، الآية. وشرط سبحانه وتعالى في انتفاء الحرج النصح لله ورسوله وهي أن تكون نياتهم وأقوالهم سرا وجهرا خالصة لله تعالى من الغش ساعية في إيصال الخيرات للمؤمنين داعية لهم بالنصر والتمكين. ففي سنن أبي داود:
" لقد تركتم بعدكم قوما ما سرتم سيرا ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم واديا إلا وهم معكم فيه. قالوا: يا رسول الله وكيف يكونون معنا وهم بالمدينة؟ قال: حبسهم العذر "
وقرأ أبو حيوة: إذا نصحوا الله ورسوله، بنصب الجلالة والمعطوف.
{ ما على المحسنين من سبيل } أي من لائمة تناط بهم أو عقوبة.
ولفظ المحسنين عام في كل من أحسن.
{ لتحملهم } أي على ظهر يركب ويحمل عليه آيات المجاهد. وإذا: تقتضي جوابا. والأولى أن يكون ما يقرب منها وهو. قلت: ويكون قوله: قولوا، جوابا لسؤال مقدر كأنه قيل: فما حالهم إذا أجابهم الرسول؟ قيل: تولوا وأعينهم تفيض من الدمع. قال الزمخشري:
فإن قلت: هل يجوز أن يكون قوله قلت: لا أجد استئنافا مثله يعني مثل رضوا بأن يكونوا مع الخوالف، كأنه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولوا. فقيل: ما لهم تولوا باكين؟ قلت: لا أجد ما أحملكم عليه، إلا أنه وسط بين الشرط والجزاء كالاعتراض. قلت: نعم ويحسن. " انتهى ". ولا يجوز ولا يحسن في كلام العرب فكيف في كلام الله تعالى وهو فهم أعجمي. وتقدم الكلام على نحو:
وأعينهم تفيض من الدمع
[الآية: 83] في المائدة. وقال الزمخشري: هنا وأعينهم تفيض من الدمع كقولك: تفيض دمعا، وهو أبلغ من يفيض دمعها، لأن العين جعلت كأن كلها دمع فائض. ومن: للبيان، كقولك: أفديك من رجل. ومحل الجار والمجرور النصب على التمييز. " انتهى ". ولا يجوز ذلك لأن التمييز الذي أصله فاعل لا يجوز جره بمن، وأيضا فإنه معرفة ولا يجوز إلا على رأي الكوفيين الذين يجيزون مجيء التمييز معرفة، وانتصب حزنا على المفعول له، والعامل فيه تفيض. وقال أبو البقاء: أو مصدر في موضع الحال.
و { ألا يجدوا } مفعول له أيضا، والناصب له حزنا. وقال أيضا: ويجوز أن يتعلق بتفيض. ولا يجوز ذلك على إعرابه حزنا مفعولا له، والعامل فيه تفيض لأن العامل لا يقتضي اثنين من المفعول له إلا بالعطف أو البدل. وقوله: ألا يجدوا ما ينفعون فيه، دلالة على أنهم مندرجون تحت قوله: ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج. وتقدم نفيان: نفي الجرح عمن ذكر.
والثاني: نفي السبيل، بمعنى اللائمة، والعتب على المحسنين. فيكون قوله: ولا على الذين، معطوف على المحسنين عطف الخاص على العام ويحسن هذا قوله:
{ إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنيآء } الآية، أثبت في حق المنافقين ما نفاه في حق المحسنين فدل لأجل المقابلة بأن هؤلاء مسيئون، وأي إساءة أعظم من النفاق، والتخلف عن الجهاد، والرغبة بأنفسهم عن رسول الله.
{ رضوا } تقدم الكلام عليه.
{ يعتذرون إليكم } الآية، لن نؤمن لكم، علة للنهي عن الاعتذار لأن غرض المعتذر أن يصدق فيما يعتذر به فإذا علم أنه مكذب في اعتذاره كف عنه.
{ قد نبأنا الله من أخباركم } علة لانتفاء التصديق لأنه تعالى إذا أخبر الرسول والمؤمنين بما انطوت عليه سرائرهم من الشر والفساد لم يكن تصديقهم في معاذريهم.
{ سيحلفون بالله لكم } الآية، لما ذكر أنه يصدر منهم الاعتذار أخبر أنهم سيؤكدون ذلك الاعتذار الكاذب بالحلف، وان سبب الحلف هو طلبهم أن تعرضوا عنهم فلا تلوموهم ولا توبخوهم.
فأعرضوا عنهم، أي فأجيبوهم إلى طلبتهم وعلل الاعراض عنهم بأنهم رجس، أي مستقذرون بما انطووا عليه من النفاق فتجب مباعدتهم واجتنابهم، كما قال:
رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه
[المائدة: 90].
{ يحلفون لكم لترضوا عنهم } الآية، قال مقاتل: نزلت في عبد الله بن أبي حلف بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها، وحلف ابن أبي سرح ليكونن معه على عدوه وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه فنزلت. وهنا حذف المحلوف به. وفي قوله: سيحلفون بالله، أثبت كقوله تعالى:
إذ أقسموا ليصرمنها
[القلم: 17]. وقوله: واقسموا بالله ، فلا فرق بين إثباته وحذفه في انعقاد ذلك يمينا. وغرضهم في الحلف رضي الرسول عليه السلام والمؤمنين عنهم لنفعهم في دنياهم لا أن مقصدهم وجه الله والبر، إذ هي إيمان كاذبة وأعذار مختلقة لا حقيقة لها. وفي الآية قبلها لما ذكر حلفهم لأجل الإعراض جاء الأمر بالإعراض نصا لأن الإعراض من الأمور التي تظهر للناس، وها ذكر الحلف لأجل الرضا فأبرز النهي عن الرضا في صورة شرطية لأن الرضى من الأمور القلبية التي تخفى. وخرج مخرج المتردد فيه وجعل جوابه انتفاء رضى الله عنهم فصار رضى المؤمنين عنهم أبعد شىء في الوقوع، لأنه معلوم منهم لأنهم لا يرضون عمن لا يرضى الله عنهم. ونص على الوصف الموجب لانتفاء الرضى وهو الفسق. وجاء اللفظ عاما فيحتمل أن يراد به الخصوص كأنه قيل: فإن الله لا يرضى عنهم، ويحتمل بقاؤه على العموم فيندرجون فيه ويكونون أولى بالدخول إذ العام إذا نزل على سبب مخصوص لا يمكن إخراج ذلك السبب من العموم بتخصيص ولا غيره.
[9.97-100]
{ الأعراب أشد كفرا ونفاقا } الآية، نزلت في أعراب من أسد وتميم وغطفان، { وأجدر } أحق ألا يعلموا، أي بأن لا يعلموا. والحدود هنا الفرائض.
{ ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرما } الآية، نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم وكانوا يتخذون ما يؤخذ منهم من الصدقات مغرما والمغرم الغرم والخسر.
{ ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر } الآية. نزلت في بني مقرن من مزينة، قاله مجاهد. ولما ذكر تعالى من يتخذ ما ينفق مغرما ذكر مقابله وهو من يتخذ ما ينفق مغنما. وذكر هنا الأصل الذي يترتب عليه إنفاق المال في القربات وهو الإيمان بالله واليوم الآخر إذ جزاء ما ينفق إنما يظهر ثوابه الدائم في الآخرة. وفي قصة أولئك اكتفى بذكر نتيجة الكفر وعدم الإيمان وهو اتخاذه ما ينفق مغرما، وتربصه بالمؤمنين الدوائر والأجود تعميم القربات من جهاد وصدقة. والمعنى يتخذه سبب وصل عند الله وأدعية الرسول وكان يدعو للمتصدقين بالخير والبركة ويستغفر لهم كقوله صلى الله عليه وسلم :
" اللهم صل على آل أبي أوفى "
وقال تعالى:
وصل عليهم
[التوبة: 103]. والظاهر عطف وصلوات على قربات. والسابقون: مبتدأ، ورضي الله عنهم: الخبر.
[9.101-106]
{ وممن حولكم من الأعراب } الآية، ذكر فيها أن منافقين حولكم من الاعراب وفي المدينة لا تعلمونهم، أي لا تعلمون أعيانهم أو لا تعلمونهم منافقين. ومعنى حولكم: حول بلدتكم وهي المدينة. والذين كانوا حول المدينة جهينة وأسلم وأشجع وغفار ومزينة وعصية ولحيان وغيرهم ممن جاور المدينة.
{ ومن أهل المدينة } معطوف على ممن حولكم فاشتركا في النفاق. ويكون مردوا اخبارا عن الصنفين. ويجوز أن يكون ومن أهل المدينة استئناف خير لمبتدأ محذوف تقديره قوم مردوا. ويجوز حذف هذا المبتدأ الموصوف بالفعل كقولهم: مناظعن ومنا أقام يريدون منا جمع ظعن، ومنا جمع أقام، ويكون الموصوف بالتمرد منافق المدينة قال الزمخشري: كقوله: أنا ابن جلا. " انتهى ". ان كان شبهه في مطلق حذف الموصوف فحسن وإن كان شبهه في خصوصيته فليس بحسن، لأن حذف الموصوف مع من وإقامة صفته مقامة وهي في تقدير الاسم ولا سيما في التفصيل منقاس كقولهم: منا ظعن ومنا أقام، وأما: أنا ابن جلا فضرورة شعر كقوله:
يرمي بكفي كان من أرمي البشر
أي بكفي رجل. وكذلك أنا ابن جلا تقديره أنا ابن رجل جلا، أي كشف الأمرو وبينها.
وفي قوله: { نحن نعلمهم } تهديد. وترتيب عليه الوعيد بقوله:
{ سنعذبهم مرتين } والظاهر إرادة التثنية، ويحتمل أن يكون لا يراد بها شفع الواحد بل يكون المعنى على التكثير كقوله تعالى:
ثم ارجع البصر كرتين
[الملك: 4] أي كرة بعد كرة، كذلك يكون معنى سنعذبهم مرتين أي مرة بعد مرة.
{ وآخرون اعترفوا بذنوبهم } الآية، نزلت في جماعة من الصحابة أوثق ثلاثة منهم أنفسهم بسواري المسجد، فمنهم أبو لبابة رغبوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين. فنزلت.
{ خذ من أموالهم صدقة } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم. والضمير عائد على الذين خلطوا قالوا: يا رسول الله هذه أموالنا التي خلفتنا عنك فتصدق بها وطهرنا. فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا. فنزلت.
{ ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده } الآية، قال الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء كانوا معنا بالأمس لا يكلمون ولا يجالسون فنزلت.
{ وقل اعملوا } الآية، تقدم تفسير نظيرها.
{ وآخرون مرجون } الآية، قال ابن عباس وغيره: نزلت في الثلاثة الذين تخلفوا قبل التوبة عليهم هلال بن أمية الواقفي ومرارة بن الربيع العامري وكعب بن مالك. وقرىء: مرجون بالهمز وبغير الهمز، ومعناه التأخير.
{ لأمر الله } أي لحكمه اما يعذبهم إن أصروا ولم يتوبوا، واما يتوب عليهم إن تابوا.
[9.107-110]
{ والذين اتخذوا مسجدا ضرارا } الآية،
" لما ذكر طرائق ذميمة لأصناف المنافقين أقوالا وأفعالا، ذكر أن منهم من بالغ في الشر حتى ابتنى مجمعا للمنافقين يرتبون ما شاؤا فيه من الشر وسموه مسجدا، ولما بنى بنو عمرو بن عوف مسجد قباء وبعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء وصلى فيه، حسدهم بنو عمهم بنو غنم بن عوف وبنو سالم بن عوف وحرضهم أبو عامر الفاسق على بنائه حين نزل الشام هاربا من وقعة حنين فراسلهم في بنائه وقال: ابنوا لي مسجدا فإني ذاهب إلى قيصر آتي بجند من الروم فأخرج محمدا وأصحابه. فبنوه إلى مسجد قباء وكانوا اثني عشر رجلا من المنافقين جزام بن خالد ومن داره أخرج المسجد، وثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قضير، وحارثة بن عامر، وابناه مجمع وزيد، ونبتل بن الحارث، وعباد بن حنيف، ونجاد بن عثمان، ووديعة بن ثابت، وأبو حنيفة الأزهر، وبحزج بن عمرو، ورجل من بني ضبيعة وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بنينا مسجدا لذي القلة والحاجة والليلة المطيرة والشاتية ونحن نحب أن تصلي لنا فيه وتدعو لنا بالبركة. فقال صلى الله عليه وسلم: إني على جناح سفر وحال شغل، وإذا قدمنا صلينا إن شاء الله فيه. وكان أمامهم مجمع بن حارثة وكان غلاما قارئا للقرآن حسن الصوت وهو ممن حسن إسلامه وولاه عمر إمامة مسجد قباء بعد مراجعة، ثم بعثه إلى الكوفة يعلمهم القرآن. فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك نزل بذي اوان بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار، ونزل عليه القرآن في شأن مسجد الضرار، فدعا مالك بن الدخشم ومعنا وعاصما ابني عدي. وقيل: بعث عمار بن ياسر ووحشيا قاتل حمزة بهدمه وتحريقه، فهدم وحرف بنار في سعف واتخذ كناسة ترمي فيها الجيف والقمامة "
وقرىء: الذي بغير واو. فاحتمل أن يكون بدلا من قوله: وآخرون، مرجون. وان يكون خبر مبتدأ تقديره هم الذين وأن يكون مبتدأ محذوف الخبر تقديره منهم الذين. واتخذوا هنا تعدى لواحد كقوله: اتخذت بيتا أي عملت بيتا. وضرارا مفعول من أجله. وقوله: ان أردنا إلا الحسنى هي جملة القسم المحلوف عليه مصدرة بأن النافية التقدير ما أردنا إلا الحسنى كقوله:
ولئن زالتآ إن أمسكهما
[فاطر: 41]، أي ما أمسكهما من أحد من بعده.
{ لا تقم فيه أبدا } نهاه أن يقوم فيه أبدا لأن بنانة كانوا خادعوا الرسول فهم الرسول بالمشي معهم واستدعى قميصه لينهض. فنزلت: لا تقم فيه أبدا. وعبر بالقيام عن الصلاة فيه. قال ابن عباس وجماعة من الصحابة والتابعين: المؤسس على التقوى مسجد قباء أسسه رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلى فيه أيام مقامه بقباء وهي يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس.
{ يحبون أن يتطهروا } في الحديث قال لهم:
" يا معشر الأنصار رأيت الله أثنى عليكم بالطهور فماذا تفعلون؟ قالوا: يا رسول الله انا رأينا جيراننا من اليهود يتطهرون بالماء يريدون الاستنجاء بالماء ففعلنا ذلك، فلما جاء الإسلام لم ندعه. فقال: فلا تدعوه اذن "
وقرىء: أسس بنيانه مبنيا للفاعل وأسس مبنيا للمفعول فيهما. شفا الشىء: حافته، وألفه مقلبة عن واو لذلك يقال في تثنيته شفوان. والجرف: ما جرفه السيل من الأودية أو الهوة، قاله أبو عبيدة. وقيل: الجرف البئر التي لم تطو وهار أي ساقط. يقال: هار يهور وهار يهير، واسم الفاعل هائر فقيل: حذفت الهمزة فبقي هار. وقيل: قلبت الكلمة من هائر إلى هارىء فحذفت الياء لأجل التنوين وصار الإعراب في الراء ، قالوا: في الرفع: هار، وفي النصب: هارا، وفي الجر: هار.
{ لا يزال بنيانهم } الآية، ويحتمل أن يكون البنيان هنا مصادرا، أي لا يزال ذلك الفعل وهو البنيان. ويحتمل أن يراد به المبني فيكون على حذف مضاف، أي لا يزال بناء المبني.
{ ريبة } أي شكا يريد سبب ريبة.
وقرىء: { تقطع } مبنيا للمفعول وتقطع مبنيا للفاعل وأصله تتقطع وحذفت التاء الثانية فبقي تقطع.
[9.111-114]
{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم } الآية، نزلت في البيعة الثانية وهي بيعة العقبة الكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين وكان أصغرهم سنا عقبة بن عمرو
" وذلك أنهم اجتمعوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عند العقبة، فقالوا: اشترط لك ولربك والمتكلم بذلك عبد الله بن رواحة فاشترط رسول الله حمايته مما يحمون منه أنفسهم. واشترط لربه التزام الشريعة وقتل الأحمر والأسود في الرفع عن الحوزة فقالوا: ما لنا على ذلك. فقال صلى الله عليه وسلم: الجنة. فقالوا: نعم ربح البيع لا نقيل ولا نقائل "
وفي بعض الروايات: ولا نستقبل. فنزلت. والآية عامة في كل من جاهد في سبيل الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة. والظاهر من قوله في التوراة والإنجيل والقرآن أن كل أمة أمرت بالجهاد ووعدت عليه بالجنة، فيكون في التوراة متعلقا بقوله: اشترى. والأمر بالجهاد والقتال موجود في جميع الشرائع.
{ ومن أوفى بعهده من الله } هذا استفهام على جهة التقرير أي لا أحد أوفى ولما أكد الوعد بقوله: حقا أبرزه في صورة العهد الذي هو آكد وأوثق من الوعد إذ الوعد في غير حق الله تعالى جائزا خلافه والعهد لا يجوز إلا الوفاء به إذ هو آكد من الوعد، قال الزمخشري: ومن أوفى بعهده من الله لان اخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام في الخلق مع جوازه عليهم لحاجتهم، فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه قبيح قط. ولا ترى ترغيبا في الجهاد أحسن منه وأبلغ انتهى. وفيه دسيسة الاعتزال واستعمال قط في غير موضعه لأنه أتى به مع قوله: لا يجوز عليه قبيح قط. وقط: ظرف ماض فلا يعمل فيه إلا الماضي.
ثم قال: { فاستبشروا } خاطبهم على سبيل الالتفات لأن في مواجهته تعالى بالخطاب تشريفا لهم وهي حكمة الإلتفات هنا. وليست استفعل هنا للطلب بل هي بمعنى أفعل كاستوقد وأوقد.
و { الذي بايعتم به } وصف على سبيل التوكيد ويحيل على البيع السابق.
ثم قال: { وذلك هو الفوز العظيم } أي الظفر للحصول على الربح التام، والغبطة في البيع لحط الذنب ودخول الجنة.
{ التائبون العابدون } الآية: قال ابن عباس: لما نزلت ان الله اشترى، الآية، قال رجل: يا رسول الله وإن زنا وإن سرق وإن شرب الخمر؟ فنزلت: التائبون.. الآية. وهذه أوصاف الكملة من المؤمنين ذكرها الله ليستبق إلى التحلي بها عباده وليكونوا على أوفى درجات الكمال، التائبون قيل: هو مبتدأ خبره العابدون، وما بعده خبر بعد خبر أي التائبون في الحقيقة الجامعون لهذه الأوصاف. وقيل: خبره الآمرون. وقيل: خبره محذوف بعد تمام الأوصاف وتقديره من أهل الجنة، وترتيب هذه الصفات في غاية من الحسن إذ بدأ أولا بما يخص الإنسان مرتبة على ما ينبغي، ثم بما يتعدى من هذه الأوصاف من الإنسان لغيره وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بما يشمل ما يخصه في نفسه وما يتعدى إلى غيره وهو الحفظ لحدود الله تعالى.
ولما ذكر مجموع هذه الأوصاف أمر رسوله عليه السلام بأن يبشر المؤمنين. وفي الآية قبلها: فاستبشروا، أمرهم بالاستبشار فحصلت لهم المزية التامة بأن الله أمرهم بالاستبشار وأمر رسوله أن يبشرهم.
{ ما كان للنبي والذين آمنوا } الآية
" نزلت في شأن أبي طالب حين احتضر فوعظه، وقال: أي عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله، وكان بالحضرة أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال له: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال أبو طالب: يا محمد لولا اني أخاف أن يعير بها ولدي من بعدى لأقررت بها عينك. ثم قال: أنا على ملة عبد المطلب ومات . فنزلت: { إنك لا تهدي من أحببت } فقال عليه السلام لأستغفرن لك ما لم أنه عنك فكان يتسغفر له حتى نزلت هذه فترك الاستغفار لأبي طالب ".
{ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه } الآية، ولما كان استغفار إبراهيم لأبيه بصدد أن يقتدي به، ولذلك قال جماعة من المؤمنين: سنستغفر لموتانا كما استغفر إبراهيم لأبيه. بين العلة في استغفار إبراهيم لأبيه وذكر أنه حين اتضحت له عداوته لله تبرأ منه إبراهيم. والموعدة التي وعدها إبراهيم إياه هي قوله:
سأستغفر لك ربي
[مريم: 47]. وقوله: لأسغفرن لك. والضمير الفاعل في وعدها عائد على إبراهيم وكان أبوه بقيد الحياة فكان يرجو إيمانه، فلما تبين له من جهة الوحي من الله أنه عدو لله وأنه يموت كافرا، وانقطع رجاؤه منه تبرأ منه، وقطع عنه استغفاره. ويدل على أن الفاعل في وعد ضمير يعود على إبراهيم قراءة الحسن وابن السميقع وأبي نهيك ومعاذ القارىء وحماد الراوية وعدها إياه. وقيل: الفاعل ضمير والد إبراهيم، وإياه ضمير إبراهيم وعده أبوه أنه سيؤمن وكان إبراهيم عليه السلام قد قوي طمعه في إيمانه فحمله ذلك على الاستغفار له حتى نهي عنه.
{ لأواه } الأواه الخاشع المتضرع. وقيل غير ذلك. قال الزمخشري: أواه فعال من أوه، كلأل من اللؤلؤ، وهو الذي يكثر التأوه، ومعناه أنه لفرط ترحمه ورأفته وحلمه كان يتعطف على أبيه الكافر إلى آخره. وتشبيهه أواه من أوه بلأل من اللؤلؤ ليس بجيد، لأن مادة أوه موجودة في صورة أواه، ومادة لؤلؤ مفقودة في لأل لاختلاف التركيب، إذ لأل ثلاثي ولؤلؤ رباعي وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية.
[9.115-118]
{ وما كان الله ليضل قوما } الآية، مات قوم كان عملهم على الأمر الأول كاستقبال بيت المقدس وشرب الخمر فسأل قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مجيء النسخ ونزول الفرائض عن ذلك. فنزلت، أي ما كان الله ليديم إضلال قوم أرشدهم إلى الهدى حتى يبين لهم ما يتقونه أي يتجنبونه فلا يجدي ذلك فيهم فحينئذ يدوم إضلالهم.
{ لقد تاب الله على النبي } الآية، قال ابن عطية: التوبة من الله تعالى رجوعه لعبده من حالة إلى حالة أرفع منها، وقد تكون في الأكثر رجوعا عن حالة المعصية إلى حالة الطاعة، وقد تكون رجوعا من حالة طاعة إلى أكمل منها، وهذه توبته في هذه الآية على النبي لأنه رجع به من حالة قبل تحصيل الغزوة وتحمل مشقاتها إلى حالة بعد ذلك أكمل منها. وأما توبته على المهاجرين والأنصار فحالها معرضة لأن تكون من نقصان إلى طاعة وجد في الغزو ونصرة في الدين. وأما توبته على الفريق فرجوع من حالة محطوطة إلى حالة غفران ورضى.
{ اتبعوه } أي اتبعوا أمره.
{ في ساعة العسرة } وهي الضيق والشدة والعدم. وهذا هو جيش العسرة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" من جهز جيش العسرة فله الجنة فجهزه عثمان بن عفان بألف جمل وألف دينار. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلب الدنانير بيده وقال: وما على عثمان ما عمل بعد هذا "
وجاء أنصاري بسبعمائة وسق من تمر. وقال مجاهد وغيره: بلغت العسرة بهم إلى أن كان العشرة منهم يعتقبون على بعير واحد من قلة الظهر، وإلى أن قسموا التمرة بين الرجلين، وكان النفر يأخذون التمرة الواحدة فيمصها أحدهم ويشرب عليها الماء ثم يفعل بها كلهم ذلك. وقال عمر بن الخطاب: أصابهم في بعضها عطش شديد حتى جعلوا ينحرون الإبل ويشربون ما في كروشها من الماء، ويعصرون الفرث حتى استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه يدعو فما رجعهما حتى انسكبت سحابة فشربوا وادخروا ثم ارتحلوا، فإذا السحابة لم تخرج من العسكر وفي هذه الغزاة هموا من المجاعة بنحر الإبل فأمر صلى الله عليه وسلم بجمع فضل ازوادهم حتى اجتمع منه على النطع شىء يسير فدعا فيه بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم ملؤها حتى لم يبق وعاء وأكل القوم كلهم حتى شبعوا وفضلت فضلة وكان الجيش ثلاثين ألفا وزيادة، وهي آخر مغازيه صلى الله عليه وسلم وفيها خلف عليا رضي الله عنه بالمدينة، فقال المنافقون: خلفه بغضا له. فأخبره بقولهم فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى.
ووصل عليه السلام إلى أوائل بلاد العدو وبث السرايا فصالحه أهل أرزح وأيلة وغيرهما على الجزية وانصرف.
قال ابن عباس: { تزيغ } تعدل عن الحق في المتابعة. وكاد تدل على القرب لا على التلبس بالزيغ. وقرىء: يزيغ بالياء فتعين أن يكون في كاد ضمير الشأن وارتفاع قلوب بيزيغ لامتناع أن يكون قلوب اسم كاد. ويزيغ في موضع الخبر لأن النية به التأخير، ولا يجوز من بعد ما كاد قلوب يزيغ بالياء. وقرىء: بالتاء، فاحتمل أن يكون في كاد ضمير الشأن كقراءة الياء، واحتمل أن يكون قلوب اسم كاد ويزيغ الخبر وسط بينهما كل فعل ذلك بكان. وفي هذين الإعرابين كلام ذكر في البحر.
{ فريق منهم } قال الحسن: همت فرقة بالانصراف لما لقوا من الملاقة. وقيل: زيغها كان بظنون لها ساءت في معنى عزم الرسول عليه السلام على تلك الغزوة لما رأته من شدة العسرة وقلة الوفر وبعد الشقة وقوة العدو المقصود.
{ وعلى الثلاثة الذين خلفوا } الآية معطوف على قوله والأنصار. ومعنى يخلفوا أي عن غزوة تبوك.
{ حتى إذا ضاقت عليهم الأرض } تقدم تفسيره.
{ وضاقت عليهم أنفسهم } استعارة لأن الهم والغم ملأها بحيث لا يسعها أنس ولا سرور وجرحت من فرط الوحشة والغم.
{ وظنوا } أي علموا. وقال قوم: الظن هنا على بابه من ترجيح أحد الحائزين لأنه وقف أمرهم على الوحي ولم يكونوا قاطعين بأنه ينزل في شأنهم قرآن. أو كانوا قاطعين لكنهم يجوزون تطويل المدة في بقائهم في الشدة، فالظن عاد إلى تجويز تلك المدة القصيرة. وجاءت هذه الجملة في كيف إذا في غاية الحسن والترتيب فذكر أولا ضيق الأرض عليهم وهو كناية عن استيحاشهم وثانيا:
{ وضاقت عليهم أنفسهم } هي كناية عن تواتر الهم والغم على قلوبهم حتى لم يكن فيها شيء من الانشراح والاتساع، فذكر أولا ضيق المحل، ثم ثانيا ضيق الحال فيه، لأنه قد يضيق المحل وتكون النفس منشرحة، ثم ثالثا لما يئسوا من الخلق عذقوا أمورهم بالله وانقطعوا إليه وعلموا أنه لا يخلص من الشدة ولا يفرجها إلا هو تعالى.
{ ثم تاب عليهم ليتوبوا } ثم رجع عليهم بالقبول والرحمة كرة أخرى ليستقيموا على توبتهم وينيبوا أو ليتوبوا أيضا فيما يستقبل لمن فرطت منهم خطيئة علما منهم أن الله تواب على من تاب ولو عاد في اليوم مائة مرة.
[9.119-122]
{ يأيها الذين آمنوا اتقوا الله } الآية، هو خطاب للمؤمنين أمروا بكونهم مع أهل الصدق بعد ذكر قصة الثلاثة الذين نفعهم صدقهم وازاحهم عن رتبة النفاق. واعترضت هذه الجملة تنبيها على رتبة الصدق وكفى بها أنها ثانية لرتبة النبوة في قوله:
فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين
[النساء: 69] إلى آخره.
{ ما كان لأهل المدينة } الآية، نزلت فيمن تخلف من أهل المدينة عن غزوة تبوك، وفيمن تخلف ممن حولهم من الأعراب من مزينة وجهينة وأشجع وأسلم وغفار. ومناسبتها لما قبلها أنه لما أمر المؤمنين بتقوى الله وأمر بكينونتهم مع الصادقين وأفضل الصادقين رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم المهاجرون والأنصار اقتضى ذلك موافقة الرسول صلى الله عليه وسلم صحبته أنى توجه من الغزوات والمشاهد.
{ ولا يرغبوا بأنفسهم } الآية، قال الزمخشري: أن يصحبوه على البأساء والضراء ويكابدوا معه الأهوال برغبة ونشاط واغتباط وأن يلقوا بأنفسهم في الشدائد ما تلقاه نفسه الكريمة صلى الله عليه وسلم، علما بها أنها أعز نفس عند الله وأكرمها عليه، فإذا تعرضت مع كرامتها وعزتها للخوض في الشدائد والهول، وجب على سائر الأنفس أن تتهافت فيما تعرضت له ولا يكترث بها أصحابها ولا يقيموا لها وزنا.
{ لا يصيبهم ظمأ } الظمأ: العطش. ولما كان العطش أشق الأشياء المؤذية للمسافرين بكثرة الحركة وإزعاج النفس وخصوصا في شدة الحر كغزوة تبوك بدىء به أولا، وثني بالنصب وهو التعب لأنه الكلال الذي يلحق المسافر والإعياء الناشىء عن العطش والسير، وأتى ثالثا بالجوع لأنه حالة يمكن الصبر عليها الأوقات العديدة بخلاف العطش، والنصب المفضيين إلى الخلود والانقطاع عن السفر، فكان الاخبار بما يعرض للمسافر أولا فثانيا فثالثا. وموطئا: مفعل من وطىء فاحتمل أن يكون مكانا، واحتمل أن يكون مصدرا، والفاعل في يغيظ عائد على المصدر إما على موطىء إن كان مصدرا، وإما على ما يفهم من موطىء إن كان مكانا أي يغيظ وطئهم إياه الكفار. والنيل: مصدر فاحتمل أن يبقى على موضعه، واحتمل أن يراد به المنيل. واطلق نيلا ليعم القليل والكثير مما يسؤهم قتلا وأسرا وغنيمة وهزيمة، وبدىء في هاتين الجملتين بالاسبق أيضا وهو الوطء ثم ثني بالنيل من العدو، وجاء للعموم في الكفار بالألف واللام وفي من عدو لكونه في سياق النفي. وبدىء أولا بما يخص المسافر في الجهاد في نفسه، ثم ثانيا بما يترتب على تحمل تلك المشاق من غيظ الكفار والنيل من العدو.
{ ولا ينفقون نفقة صغيرة } قتل ابن عباس: كالثمرة ونحوها والكبيرة ما فوقها. وقدم صغيرة على سبيل الاهتمام كقوله:
لا يغادر صغيرة ولا كبيرة
[الكهف: 49]، { ولا أصغر من ذلك ولا أكبر } [يونس: 61، سبأ: 3]، وإذا كتب أجرا لصغيرة فأحرى أجر الكبيرة.
ومفعول كتب فضمير يعود على المصدر المفهوم من ينفقون ويقطعون، كأنه قيل: كتب لهم هو أي الانفاق والقطع، وتأخرت هاتان الجملتان وقدمت تلك الجملة السابقة لأنها أشق على النفس وأنكى للعدم، وهاتان أهون لأنهما في الأموال وقطع الأرض إلى العدو وسواء حصل غيظ للكفار والنيل من العدو أم لا يحصلا، فهذا أعم وتلك أخص. وكان تعليل تلك آكد إذ جاء بالجملة الإسمية المؤكدة بأن، وذكر فيه الأجر. ولفظ المحسنين تنبيها على أنهم حازوا رتبة الإحسان التي هي أعلى رتب المؤمنين وفي هاتين الجملتين أتى بلام العلة وهي متعلقة بكتب والتقدير أحسن جزاء الذي كانوا يعملون لأن عملهم له جزاء حسن وله جزاء أحسن وهنا الجزاء أحسن جزاء.
{ وما كان المؤمنون لينفروا كآفة } الآية، لما سمعوا قوله: ما كان لأهل المدينة إلى آخره أهمهم ذلك فنفروا إلى المدينة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلت.
{ ولينذروا قومهم } أي ليجعلوا غرضهم في النفقة إنذار قومهم وإرشادهم إلى الخير والنصيحة لهم.
{ لعلهم يحذرون } إرادة أن يحذروا الله فيعملوا عملا صالحا.
[9.123-129]
{ يأيها الذين آمنوا قاتلوا الذين } الآية، لما حض الله تعالى على النفقة في الدين وحض على رحلة طائفة من المؤمنين فيه أمر تعالى المؤمنين كافة بقتال من يليهم من الكفار فجمع بين الجهادين جهاد الحجة وجهاد السيف. وقال بعض الشعراء:
من لا يعد له القرآن كان له
من الجهاد وبيض البتر تعديل
{ وليجدوا فيكم غلظة } الغلظة تجمع الجرأة والصبر على القتال وشدة العداوة. والغلظة حقيقة في الأجسام فاستعيرت هنا للشدة في الحرب. وفي قوله: واعلموا تبشير لهم بالنصر.
{ وإذا مآ أنزلت سورة } الآية، قال ابن عباس: نزلت هذه والثانية في المنافقين كانوا إذا نزلت سورة فيها عيب المنافقين خطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض بهم في خطبته فينظر بعضهم إلى بعض يريدون الهرب، ويقولون: هل يراكم من أحد إن قمتم فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد.
{ أيكم زادته هذه إيمانا } يحتمل أن يكون خطاب بعض المنافقين لبعض على سبيل الإنكار والاستهزاء بالمؤمنين. ويحتمل أن يقولوا ذلك لقراباتهم المؤمنين فيستقيمون إليهم ويطمعون في ردهم إلى النفاق. ومعنى قولهم: هذه، هو على سبيل التحقير للسورة والاستخفاف بها كما تقول: أي غريب في هذا، واني ذليل في هذا.
{ أولا يرون } قرىء: بياء الغيبة يعني به الكفار، وبتاء الخطاب يعني به المؤمنين، والرؤية إما بصرية أو علمية. ومعنى الآية: أفلا يزدجر هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد واحد ويعلمون أن ذلك من عند الله فيتوبون ويذكرون وعد الله ووعيده.
{ وإذا مآ أنزلت سورة نظر } الآية، ذكر أولا ما يحدث منهم من القول على سبيل الاستهزاء، ثم ذكر ثانيا ما يصدر من الفعل على سبيل الاستهزاء وهو الإيماء والتغامز بالعيون إنكارا للوحي. وسخرية قائلين: هل يراكم من المسلمين لننصرف فإنا لا نقدر على استماعه، ونظر بصرية وهي معلقة. وهل يراكم من أحد في موضع نصب بها.
{ ثم انصرفوا } أي عن الإيمان والفكر في السورة التي نزلت.
{ صرف الله قلوبهم } الظاهر أنه خبر لما كان الكلام في معرض ذكر الذنب بدأ بالفعل المنسوب إليهم وهو قوله: ثم انصرفوا. ثم ذكر تعالى فعله بهم على سبيل المجازاة لهم في فعلهم، كقوله تعالى:
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم
[الصف: 5].
{ لقد جآءكم رسول } الآية لما ابتدأ السورة سبحانه ببراءة الله ورسوله من المشركين وقص فيها احوال المنافقين شيئا فشيئا خاطب العرب على سبيل تعداد النعم والمن عليهم بكونهم جاءهم رسول من جنسهم عربيا قرشيا يبلغهم عن الله متصف بالاوصاف الجميلة من كونه يعز عليه مشقتهم في سوء العاقبة من الوقوع في العذاب ويحرص على هداهم ويرأف بهم ويرحمهم صلى الله عليه وسلم.
[10 - سورة يونس]
[10.1-2]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * الر تلك آيات الكتاب الحكيم } هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات فيها نزلت بالمدينة وهي: فإن كنت في شك إلى آخرهن، قاله ابن عباس. وسبب نزولها أن أهل مكة قالوا: لم يجد الله رسولا إلا يتيم أبي طالب. فنزلت. ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أنزل:
وإذا مآ أنزلت سورة
[التوبة: 124، 127]، وذكر تكذيب المنافقين، ثم قال:
لقد جآءكم رسول
[التوبة: 128]، وهو محمد صلى الله عليه وسلم اتبع ذلك بذكر الكتاب الذي أنزل والنبي الذي أرسل وان ديدن الظالمين واحد منافقيهم ومشركيهم في التكذيب بالكتب الإلهية وبمن جاء بها، ولما كان ذكر القرآن مقدما على ذكر الرسول في آخر السورة جاء في أول هذه السورة كذلك، فتقدم ذكر الكتاب على ذكر الرسول. والظاهر أن تلك باقية على موضوعها من استعمالها لبعد المشار إليه. وقال مجاهد وقتادة: أشار بتلك إلى الكتب المتقدمة من التوراة والإنجيل والزبور، فتكون الآيات القصص التي وصفت في تلك الكتب. وقال الزجاج: إشارة إلى آيات القرآن التي جرى ذكرها.
والهمزة في: { أكان للناس } للاستفهام على سبيل الإنكار لوقوع العجب من الإيحاء إلى بشر منهم بالإنذار والتبشير أي لا عجب في ذلك فهي عادة الله في الأمم السالفة أوحى إلى رسلهم الكتب بالتبشير والإنذار على أيدي من اصطفاه منهم. واسم كان انا أوحينا. وعجبا: الخبر، وللناس قيل: هو في موضع الحال من عجبا لأنه لو تأخر لكان صفة، فلما تقدم كان حالا. وقيل: يتعلق بقوله: عجبا وليس مصدرا بل هو بمعنى معجب. والمصدر إذا كان بمعنى المفعول جاز تقدم معموله عليه كاسم المفعول. وقيل: هو تبيين أي أعني للناس. وقيل: يتعلق بكان وإن كانت ناقصة وهذا لا يتم إلا إذا قدرت دالة على الحدث فإنها ان تمحضت للدلالة على الزمان لم يصح تعلق بها. وقرأ عبد الله عجب فقيل: عجب اسم كان، وإن أوحينا هو الخبر، فيكون نظير قوله:
يكون مزاجها عسل وماء
وهذا محمول على الشذوذ، وهذا تخريج الزمخشري وابن عطية وقيل: كان تامة، وعجب فاعل بها، والمعنى أحدث للناس عجب لأن أوحينا وهذا التوجيه حسن.
و { أن أنذر } إن تفسيرية أو مصدرية مخففة من الثقيلة، وأصله انه أنذر الناس على معنى ان الشأن قولنا أنذر الناس، قالهما الزمخشري ويجوز أن تكون ان المصدرية الثنائية الوضع المخففة من الثقيلة لأنها توصل بالماضي والمضارع والأمر، فوصلت هنا بالأمر وينسبك منها معه مصدر تقديره بإنذار الناس، وهذا الوجه أولى من التفسيرية لأن الكوفيين لا يثبتون لأن أن تكون تفسيرية، ومن المصدرية المخففة من الثقيلة المقدر حذف اسمها وإضمار خبرها وهو القول، فيجتمع فيها حذف الاسم والخبر ولأن التأصيل خير من دعوى الحذف بالتخفيف.
و { قدم صدق } قال ابن عباس وغيره: هي الأعمال الصالحة من العبادات.
{ عند ربهم } سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة، ولما كان السعي والسبق بالقدم سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدما كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد.
{ إن هذا } هذا إشارة إلى الإيحاء بالإنذار والتبشير.
{ لساحر مبين } لشىء يعلل به وهو شىء لا حقيقة له، كما قال:
ونسحر بالطعام وبالشراب
أي نعلل بهما.
[10.3-8]
{ إن ربكم الله } الآية، تقدم تفسيرها في الأعراف.
{ ذلكم الله ربكم } أي المتصف بالإيجاد والتدبير والكبرياء، وهو ربكم الناظر في مصالحكم فهو المستحق للعبادة إذ لا يصلح للعبادة إلا هو تعالى فلا تشركوا به بعض خلقه.
{ أفلا تذكرون } حض على التدبير والتفكر في الدلائل الدالة على ربوبيته وإمحاض العبادة له تعالى.
{ إليه مرجعكم } الآية، ذكر ما يقتضي التذكر وهو كون مرجع الجميع إليه، وأكد هذا الاخبار بأنه وعد الله الذي لا شك في صدقه، ثم استأنف الاخبار، وفيه معنى التعليل بابتداء الخلق. وإعادته وان مقتضى الحكمة بذلك هو جزاء المكلفين على أعمالهم وانتصب وعد الله حقا على أنهما مصدر أن مؤكد أن لمضمون الجملة والتقدير وعد الله وعدا فلما حذف الناصب أضاف المصدر إلى الفاعل وذلك كقوله تعالى:
صبغة الله
[البقرة: 138]. والتقدير في حقا حق ذلك حقا. وقيل: انتصب حقا بوعد على تقدير في أي وعد الله في حق. وقال علي بن سليمان: التقرير وقت حق وأنشد:
أحقا عباد الله ان لست والجا
ولا خارجا إلا على رتيب
{ هو الذي جعل الشمس ضيآء } الآية، لما ذكر تعالى الدلائل على ربوبيته من إيجاد هذا العالم العلوي والسفلي ذكر ما أودع في العالم العلوي من هذه الجوهرين النيرين المشرقين، فجعل الشمس ضياء أي ذات ضياء أو مضيئة أو نفس الضياء مبالغة، وجعل يحتمل أن تكون بمعنى صير فيكون ضياء مفعولا ثانيا، ويحتمل أن تكون بمعنى خلق فتكون حالا.
{ والقمر نورا } أي ذا نور أو منورا أو نفس النور مبالغة، إذ هما مصدران ولما كانت الشمس أعظم جرما خصت بالضياء لأنه هو الذي له سطوع ولمعان، وهو أعظم من النور. والظاهر عود الضمير على القمر أي مسيره منازل أو قدره ذا منازل. وعاد الضمير عليه وحده لأنه هو المراعي في معرفة عدد السنين والحساب عند العرب. والمنازل: هي البروج. وكانت العرب تنسب إليها الانواء وهي ثمانية وعشرون منزلة: الشرطين، والبطين، والثريا، والدبران، والهقعة، والهنعة، والذراع، والنثرة، والطرف، والجبهة، والزبرة، والصرفة، والعواء، والسماك، والغفر، والزبانان، والاكليل، والقلب، والشولة، والنعائم، والبلدة، وسعد الذابح، وسعد بلع، وسعد السعود، وسعد الأخبية، والفرع المقدم، والفرع المؤخر، والرشا وهو الحوت. واللام متعلقة بقوله: وقدره منازل.
{ إن في اختلاف اليل والنهار } اختلافهما تعاقبهما وكون أحدهما يخلف الآخر.
{ وما خلق الله في السموت } من الاجرام النيرة التي فيها، والملائكة المقيمن بها، وغير ذلك مما يعلمه الله تعالى والأرض في الجوامد والمعادن والنبات والحيوان، وخص المتقين لأنهم الذين يخافون العواقب فيحملهم الخوف على تدبرهم ونظرهم.
{ إن الذين لا يرجون لقآءنا } الظاهر أن الرجاء هو التأميل والطمع أي لا يؤملون لقاء ثوابنا وعقابنا، أو معنى لا يخافون.
والظاهر أن قوله: والذين هم هو قسم من الكفار غير قسم الأول وذلك لتكرير الموصول فيدل على المغايرة ويكون معطوفا على اسم ان ويكون أولئك إشارة إلى صنفي الكفار ذي الدنيا المتوسع فيها الناظر في الآيات، فلم يؤثر عنده رجاء لقاء الله بل رضي بالحياة الدنيا لتكذيبه بالعبث والجزاء، والعادم التوسع الغافل عن آيات الله الدالة على الهداية. ويحتمل أن يكون من عطف الصفات فيكون الذين هم عن آياتنا غافلون هم الذين لا يرجون لقاء الله. والظاهر ان واطمأنوا بها عطف على الصلة. ويحتمل أن تكون واو الحال أي وقد اطمأنوا بها.
والآيات قيل: آيات القرآن أو العلامات الدالة على الوحدانية والقدرة.
[10.9-14]
{ إن الذين آمنوا } الآية، أي يزيدهم في هداهم بسبب إيمانهم السابق، ويثيبهم إلى طريق الجنة بسبب إيمانهم السابق، والظاهر أن يكون تجري مستأنفا فيكون قد أخبر عنهم بخبرين عظيمين أحدهما هداية الله لهم وذلك في الدنيا والآخرة، ويجريان الأنهار وذلك في الآخرة كما تضمنت الآية في الكفار شيئين أحدهما اتصافهم بانتفاء رجاء لقاء الله وما عطف عليه. والثاني مقرهم ومأواهم فصار تقسيما للفريقين في المعنى لما هداهم ونعمهم بالجنة نزهوا الله تعالى وقدسوه بقولهم: سبحانك اللهم. واللهم تقدم الكلام عليه.
{ تحيتهم } أي تحية بعضهم لبعض أو تحية الملائكة لهم كما قال:
والملائكة يدخلون عليهم من كل باب
[الرعد: 23] وإن هي المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن لازم الحذف، والجملة بعدها خبر ان وأن وصلتها خبر قوله: وآخر دعواهم. وزعم صاحب النظم أن أن هنا زائدة؛ والحمد لله خبر وآخر دعواهم وهو مخالف لنصوص النحويين.
{ ولو يعجل الله للناس } الآية، قال مجاهد: نزلت في دعاء الرجل على نفسه وماله أو ولده ونحو هذا، فأخبر تعالى أنه لو فعل مع الناس في إجابته إلى المكروه مثل ما يريدون فعله معهم في إجابته إلى الخير لأهلكهم وانتصب استعجالهم على أنه مصدر تشبيهي تقديره استعجالا مثل استعجالهم. وقال الزمخشري: أصله ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير إشعارا بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم كأن استعجالهم بالخير تعجيل لهم انتهى مدلول عجل غير مدلول استعجل، لأن عجل يدل على الوقوع، واستعجل يدل على طلب التعجيل وذلك واقع من الله تعالى، وهذا مضاف إليهم فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري، فيحتمل وجهين أن يكون التقدير تعجيلا مثل استعجالهم بالخير فشبه التعجيل بالاستعجال لأن طلبتهم للخير ووقوع تعجيله مقدم عندهم على كل شىء، والثاني أن يكون ثم محذوف يدل عليه المصدر تقديره ولو يعجل الله للناس الشر إذا استعجلوا به استعجالهم بالخير لأنهم كانوا يستعجلونه بالشر ووقوعه على سبيل التهكم كما كانوا يستعجلونه بالخير. وقرىء: لقضي مبنيا للمفعول أجلهم بالرفع، ولقضي مبنيا للفاعل وفيه ضمير يعود على الله تعالى وأجله نصب على المفعول، والفاء في فنذر جواب ما أخبر به عنهم على طريق الاستئناف تقديره فنحن نذر، قاله الحوفي. وقال أبو البقاء: فنذر معطوف على فعل محذوف تقديره ولكن نمهلهم فنذر.
{ وإذا مس الإنسان الضر } الآية. مناسبتها لما قبلها أنه لما استدعوا حلول الشر بهم وأنه تعالى لا يفعل ذلك بطلبهم بل يترك من لا يرجو لقاءه يعمه في طغيانه بين شدة افتقار الناس إليه واضطرارهم إلى استمطار إحسانه مسيئهم ومحسنهم. والظاهر أنه لا يراد بالإنسان هنا شخص معين وأنه لا يراد به الكافر بل المراد الإنسان من حيث هو سواء كان كافرا أم عاصيا بغير الكفر ولجنبه حال، أي مضطجعا.
ولذلك عطف عليه الحالان وذو الحال الضمير في دعانا والعامل فيه دعانا أي دعانا متلبسا بأحد هذه الأحوال واحتملت هذه الأحوال الثلاثة أن تكون لشخص واحد واحتملت أن تكون لأشخاص إذ الإنسان جنس. والمعنى أن الذي أصابه الضر لا يزال داعيا ملتجئا راغبا إلى الله تعالى في جميع حالاته كلها وابتدأ بالحالة الشاقة وهي اضطجاعه وعجزه عن النهوض وهي أعظم في الدعاء وآكد، ثم بما يليها وهي حالة القعود وهي حالة العجز عن القيام ثم بما يليها وهي حالة القيام وهي حالة العجز عن المشي فتراه يضطرب ولا ينهض للمشي كحالة الشيخ الهرم. والجملة من قوله: كأن لم يدعنا إلى ضر مسه في موضع الحال، أي إلى كشف ضر مسه. والكاف في { كذلك } في موضع نصب، أي مثل ذلك. والإشارة بذلك إلى تزيين الإعراض عن الابتهال إلى الله تعالى عند كشف الضر وعدم شكره وذكره على ذلك.
{ ولقد أهلكنا } الآية، هذا إخبار لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطاب لهم بإهلاك من سلف قبلهم من الأمم بسبب ظلمهم وهو الكفر على سبيل الردع لهم والتذكير بحال من سبق من الكفار والوعيد لهم وضرب الأمثال فكما فعل بهؤلاء يفعل بكم ولفظة لما مشعرة بالعلية وهي حرف تعليق في الماضي، وجاءتهم ظاهرة أنه معطوف على ظلموا أي لما حصل هذان الأمران مجيء الرسل بالبينات وظلمهم أهكلوا. والظاهر أن الضمير في أو ما كانوا، عائد على القرون وأنه معطوف على قوله ظلموا، والكاف في { كذلك } في موضع نصب أي مثل ذلك الجزاء وهو الإهلاك نجزي القوم المجرمين، فهذا وعيد شديد لمن أجرم يدخل فيه أهل مكة وغيرهم.
والخطاب في: { جعلناكم } لمن بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى استخلفناكم في الأرض بعد القرون المهلكة.
{ لننظر كيف تعملون } خيرا أم شرا فنعاملكم على حسب عملكم. ومعنى لننظر ليتبين في الوجود ما علمناه أزلا فالنظر مجاز عن هذا.
[10.15-20]
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا } الآية، قال ابن عباس وابن الكلبي: نزلت في المستهزئين بالقرآن من أهل مكة، قالوا: يا محمد أئت بقرآن غير هذا فيه ما نسألك والتبديل يكون في الذات بأن تجعل ذات بدل ذات أخرى، ويكون في الصفة وهو أن يزال بعض نظمه بأن يجعل مكان آية العذاب أية الرحمة ولما كان الإتيان بقرآن غير هذا غير مقدور للإنسان لم يحتج إلى نفيه ونفي ما هو مقدور للإنسان وإن كان مستحيلا ذلك في حقه صلى الله عليه وسلم فقيل له: قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي.
{ قل لو شآء الله ما تلوته } الآية، هذه مبالغة في التبرئة مما لو طلبوا منه، أي أن تلاوته عليهم هذا القرآن إنما هو لمشيئة الله تعالى وإحداثه أمر عجيبا خارجا عن العادات وهو أن يخرج رجل أمي لم يتعلم ولم يسمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره ولا نشأ في بلدة فيها علماء فيقرأ عليكم كتابا فصيحا يبهر كلام كل فصيح ويعلو كل منثور ومنظور مشحونا بعلوم من الأصول والفروع، واخبار ما كان وما يكون ناطقا بالغيوب التي لا يعلمها إلا الله تعالى. وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله ولا يخفى عليكم شىء من أسراره، ولا سمعتم منه حرفا من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به. ومفعول شاء محذوف، أي قل لو شاء الله أن لا أتلوه. وجاء جواب لو على الفصيح من عدم إثبات اللام لكونه منفيا بما. ويقال: دريت به وأدريت زيدا به. والمعنى ولا أعلمكم به على لساني، ونبه على أن ذلك وحي من الله بإقامته فيهم عمرا وهو أربعون سنة من قبل ظهور القرآن على لساني يافعا وكهلا، لم تجربوني في كذب ولا تعاطيت شيئا من هذا ولا عانيت اشتغالا فكيف أتهم باختلاقه. والظاهر عود الضمير في من قبله على القرآن.
{ فمن أظلم } تقدم الكلام عليه.
{ ويعبدون من دون الله } الضمير عائد على كفار قريش الذين تقدمت محاوراتهم.
و { ما لا يضرهم ولا ينفعهم } هو الاصنام جماد لا تقدر على نفع ولا ضر. قيل: ان عبدوها لم تنفعهم وإن تركوها لم تضرهم، ومن حق المعبود أن يكون مثيبا على الطاعة معاقبا على المعصية، وكان أهل الطائف يعبدون اللات وأهل مكة يعبدون العزى ومناة واساف ونائلة وهبل. وفي قوله : من دون الله، دلالة على أنهم يعبدون الأصنام ولا يعبدون الله. قال ابن عباس: يعنون في الآخرة، أي النفع والضر.
{ أتنبئون } استفهام على سبيل التهكم بما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام واعلام بأن الذين أنبئوا به باطل غير منطو تحت الصحة فكأنهم يخبرونه بشىء لا يتعلق به علمه.
{ وما كان الناس إلا أمة واحدة } تقدم الكلام عليها في البقرة. و " الكلمة " هنا هو القضاء والتقدير لبني آدم بالآجال المؤقتة.
{ ويقولون لولا أنزل } الآية هذه من اقتراحهم وكانوا لا يعتقدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة من الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات. وجعلوا نزولها كلا نزول فكأنه لم ينزل عليه شىء قط، حتى قالوا: لولا أنزل عليه آية من ربه واحدة، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وانهماكهم في الغي به.
{ فقل إنما الغيب لله } أي هو سبحانه المختص بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد به، يعني أن الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو.
{ فانتظروا } نزول ما اقترحتموه.
{ إني معكم من المنتظرين } بما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحدكم الآيات وجحدكم من جاء بها.
[10.21-25]
{ وإذآ أذقنا الناس } الآية، سبب نزولها أنه لما دعا على أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجدب قحطوا سبع سنين فأتاه أبو سفيان فقال: ادع لنا بالخصب فإن أخصبنا صدقناك فسأل الله تعالى لهم فسقوا ولم يؤمنوا. والرحمة هنا الغيث بعد القحط والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، وما أشبه ذلك. ومعنى مستهم خالطتهم وفي هذه الجملة دليل على سرعة تقلب آدم من حالة الخير إلى حالة الشر، وذلك بلفظ أذقنا، كأنه قيل: أول ذوقه الرحمة قبل أن يداوم استعظامها مكر، وبلفظ من المشعرة بابتداء الغاية أي ينسى المكر أثر كشف الضر لا يمهل ذلك وبلفظ إذا الفجائية الواقعة جوابا لإذا الشرطية أي في وقت إذاقة الرحمة فاجأوا بالمكر ولما كانت هذه الجملة كما قلنا تتضمن سرعة المكر منهم قيل:
{ قل الله أسرع مكرا } فجاءت أفعل التفضيل. ومعنى وصف المكر بالاسراعية أنه تعالى قبل أن تدبروا مكائدكم قضى بعقابكم وهو موقعة بكم واستدرجكم بإمهاله.
{ الذي يسيركم في البر والبحر } مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أن الناس إذا أصابهم الضر لجأوا إلى الله تعالى وإذا أذاقهم الرحمة عادوا إلى عادتهم من إهمال جانب الله تعالى والمكر في آياته، وكان المذكور في الآيتين أمرا كليا أوضح ذلك الأمر الكلي بمثال جلي كاشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي، ينقطع فيه رجاء الإنسان عن كل متعلق به إلا الله تعالى فيخلص له الدعاء وحده في كشف هذه النازلة التي لا يكشفها إلا هو تعالى. وقرىء: ينشركم من النشر والبث ويسيركم من التسيير.
{ وجرين } النون عائدة على الفلك ويراد به الجمع إذ الفلك يكون مفردا كقوله:
في الفلك المشحون
[الشعراء: 119، يس: 41]، ويكون جمعا كهذا ولهذا عاد الضمير عليه جمعا. والباء في " بهم " للتعدية وفي " بريح " للسبب. وفي قوله: بهم، التفات إذ هو خروج من خطاب في قوله: كنتم، إلى غيبة في قوله: بهم وفرحوا وما بعد ذلك من ضمير الغيبة. قال الزمخشري: فائدة الإلتفات في قوله: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم المبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها وتستدعي منهم الإنكار والتقبيح. " انتهى ". والذي يظهر والله أعلم أن حكمة الإلتفات هنا هي أن قوله: هو الذي يسيركم في البر والبحر، خطاب فيه امتنان وإظهار نعمه للمخاطبين والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار. والخطاب شامل فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع، فلما ذكرت حاله آل الأمر في آخرها إلى أن المتلبس بها هو باغ في الأرض بغير الحق عدل عن الخطاب إلى الغيبة حتى لا يكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالة التي آخرها البغي.
وقوله: { جآءتها } جواب إذا.
و { عاصف } صفة لريح على معنى النسب، أي ذات عصف إذ لو كانت جارية على الفعل لكانت بالتاء كقوله تعالى:
ولسليمان الريح عاصفة
[الأنبياء: 81]. والمعنى من كل مكان من أمكنة الموج والظن هنا على بابه الأصلي من ترجيح أحد الجائزين.
ومعنى: { أحيط بهم } أي للهلاك كما يحيط العدو بمن يريد إهلاكه، وهي كناية عن استيلاء أسباب الهلاك.
{ دعوا الله } جواب لسؤال مقدر، كأنه قيل: فما كان حالهم في تلك الشدة؟ قيل: دعوا الله.
{ لئن أنجيتنا } اللام موطئة لقسم محذوف في موضع الحال تقديره مقسمين.
{ من هذه } أي من هذه الشدة.
{ فلمآ أنجاهم إذا هم يبغون } الآية، وجواب لما إذا الفجائية وما بعدها ومجيء إذا وما بعدها جوابا لها، دليل على أنها حرف يترتب ما بعدها من الجواب على ما قبلها من الفعل الذي بعد لما وانها تفيد الترتيب والتعليق في المعنى، وانها كما قال سيبويه: حرف. ومذهب غيره: انها ظرف. وقد أوضحنا ذلك فيما كتبناه في علم النحو. والجواب بإذا الفجائية دليل على أنه لم يتأخر بغيهم عن إنجائهم بل بنفس ما وقع الانجاد وقع البغي. قال ابن عباس: يبغون بالدعاء إلى عبادة غير الله والعمل بالمعاصي والفساد.
والخطاب " بيا أيها الناس " قال الجمهور: لأهل مكة والذي يظهر أنه خطاب لأولئك الذين أنجاهم الله بغوا، ويحتمل كما قالوا العموم، فيندرج أولئك فيهم وهذا ذم للبغي في أوجز لفظ، ومعنى على أنفسكم وبال البغي ولا يجني ثمرته إلا أنتم. وقرىء: متاع بالنصب على الظرف، أي وقت متاع الحياة الدنيا. وقرىء: متاع بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره هو متاع، وأجاز النحاس وتبعه الزمخشري أن يكون على أنفسكم متعلقا بقوله: بغيكم كما تعلق في قوله: فبغي عليهم ويكون الخبر متاع إذا رفعته.
ومعنى: { على أنفسكم } أي على أمثالكم، والذين جنسكم جنسهم يعني بغي بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا.
{ إنما مثل الحياة الدنيا } الآية مناسبتها لما قبلها أنه لما قال: يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم، ضرب مثلا عجيبا غريبا للحياة الدنيا بذكر من سعى فيها على سرعة زوالها وانقضائها وأنها بحال ما تغر وتسر تضمحل ويؤول أمرها إلى الفناء. والمثل هنا يحتمل أن يراد به الصفة، وأن يراد به القول السائر المشبه به حال الثاني بالأول ومن السماء اما أن يراد به من السحاب واما أن يراد من جهة السماء. والظاهر أن النبات اختلط بالماء ومعنى الاختلاط تشبثه به وتلفقه إياه وقبوله له لأنه يجري له مجرى الغذاء، فتكون الباء للمصاحبة وكل مختلطين يصح في كل منهما أن يقال: اختلط بصاحبه.
ولما كان النبات ينقسم إلى مأكول وغيره بين أن المراد أحد القسمين بمن فقال:
{ مما يأكل الناس } كالحبوب والثمار والبقول والأنعام كالحشيش وسائر ما يرعى، ومما يأكل حال النبات. والعامل فيه محذوف تقديره كائنا مما يأكل. وما موصولة صلته يأكل. والضمير محذوف تقديره يأكله الناس. وحتى: غاية، فيحتاج أن يكون الفعل الذي قبلها متطاولا حتى تصح الغاية، فأما أن يقدر قبلها محذوف، أي فما زال ينمو حتى إذا او يتجوز في فاختلط، ويكون معناه فدام اختلاط النبات بالماء حتى إذا..
وقوله: { أخذت الأرض زخرفها وازينت } جملة بديعة اللفظ جعلت الأرض آخذة زخرفها متزينة، وذلك على جهة التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة في كل لون فاكتست وتزينت بأنواع الحلي فاستعير الأخذ وهو التناول باليد لاشتمال نبات الأرض على بهجة ونضارة وألوان مختلفة. واستعير لتلك البهجة والنضارة والألوان المختلفة لفظ الزخرف وهو الذهب لما كان من الأشياء البهجة المنظر السارة للنفوس. وازينت أي بنباتها وما أودع فيها من الحبوب والثمار والأزهار.
{ أنهم قادرون عليهآ } أي على التمكن من تحصيلها ومنفعتها ورفع غلتها وذلك لحسن نموها وسلامتها من العاهات. فالضمير في أهلها عائد على الأرض، وهو على حذف مضاف، أي على ما أودعها من الغلات وما ينتفع به.
وجواب إذا قوله: { أتاهآ أمرنا } كالريح والصر والسموم، وغير ذلك من الآفات كالفأر والجراد. وقيل: اتاها أمرنا بإهلاكها.
وابهم في قوله: { ليلا أو نهارا } وقد علم تعالى متى يأتيها أمره. أو تكون أو للتنويع، لأن بعض الأرض يأتيها أمره ليلا وبعضها نهارا، ولا يخرج كائن عن وقوعه. والحصيد فعيل بمعنى مفعول أي المحصود وعبر بحصيد عن التألف استعارة، جعل ما هلك من الزرع بالآفة قبل أوانه حصيد العلاقة بينهما من الطرح على الأرض.
{ كأن لم تغن بالأمس } مبالغة في التلف والهلاك حتى كأنها لم توجد قبل ولم تقم بالأرض للحبة خضرة نضرة تسر أهلها.
{ كذلك نفصل الآيات } أي مثل هذا التفصيل الذي فصلناه في الماضي نفصل في المستقبل.
{ والله يدعوا إلى دار السلام } لما ذكر تعالى مثل الحياة الدنيا وما تؤول إليه من الفناء والاضمحلال وما تضمنته من الآفات والعاهات، ذكر أنه داع إلى دار السلامة والصحة والأمن وهي الجنة، وأهلها سالمون من كل مكروه. ولما كان الدعاء عاما لم يتقيد بالمشيئة، ولما كانت الهداية خاصة تقيدت بالمشيئة فقال:
{ ويهدي من يشآء } هدايته.
[10.26-30]
{ للذين أحسنوا الحسنى وزيادة } أي أحسنوا في كل ما تعبدوا به، أي أتوا بالمأمور كما ينبغي واجتنبوا المنهي عنه والحسنى هي الجنة. وزيادة هي النظر إلى الله تعالى في الجنة، ولا يلحقها خزي. والخزي يتغير به الوجه ويسود فكنى بالوجه عن الجملة لكونه أشرفها، ولظهور أثر السرور والحزن فيه.
{ والذين كسبوا السيئات } والذين مبتدأ.
و { جزآء } مبتدأ ثان، وخبره:
{ بمثلها } وقيل: الباء زائدة. والضمير العائد على المبتدأ محذوف تقديره جزاء سيئة منهم بمثلها. وقيل: خبر والذين قوله:
{ ما لهم من الله من عاصم } والجملتان قبله اعتراض بين المبتدأ وخبره.
{ كأنما أغشيت وجوههم } هذه مبالغة في سواد الوجوه وقد جاء مصرحا به في قوله:
وتسود وجوه
[آل عمران: 106]. وأغشيت: كسيت، ومنه الغشاء. وكون وجوههم مسودة هو حقيقة لا مجاز فتكون ألوانهم مسودة. وقرىء: قطعا بسكون الطاء، ومظلما صفة له: وقرىء: بفتح الطاء فيكون مظلما حالا من الليل. وقال الزمخشري: فإن قلت: إذا جعلت مظلما حالا من الليل، فما العامل فيه؟ قلت: لا يخلو اما أن يكون اغشيت من قبل أن من الليل صفة لقوله: قطعا فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة، وأما أن يكون معنى الفعل في من الليل. " انتهى ". أما الوجه الأول فهو بعيد لأن الأصل أن يكون العامل في الحال هو العامل في ذي الحال، والعامل هو مستقر الواصل إليه بمن وأغشيت عامل في قوله: قطعا، الموصوف بقوله: من الليل، فاختلفا. فلذلك كان الوجه الأخير أولى أي قطعا مستقرة أو كائنة من الليل في حال إظلامه. قال ابن عطية: وإذا كان نعتا يعني مظلما نعتا لقطعا فكان حقه أن يكون قبل الجملة، ولكن قد يجيء بعد هذا وتقدير الجملة قطعا استقر من الليل مظلما على نحو قوله:
وهذا كتب أنزلنه مبارك
[الأنعام: 92، 155]. " انتهى ". لا يتعين تقدير العامل في المجرور بالفعل فتكون جملة بل الظاهر أن يقدر باسم الفاعل فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير قطعا كائنا من الليل مظلما.
{ ويوم نحشرهم } الآية، الضمير في نحشرهم عائد على من تقدم من الفريقين وانتصب يوم على فعل محذوف، أي ذكرهم أو خوفهم. ونحوه وجميعا: حال. والشركاء: هم من عبد من دون الله كائنا من كان. ومكانكم: عده النحويون في أسماء الأفعال وقدر باثبتوا كما قال:
وقولي كلما جشأت وجاشت
مكانك تحمدي أو تستريحي
أي اثبتي. ولكونها بمعنى اثبتي جزم تحمدي وتحملت ضميرا فأكد. وعطف عليه في قوله: أنتم وشركاؤكم. قال الزمخشري: وأنتم أكد به الضمير في مكانكم لسده مسد قوله: الزموا وشركاؤكم عطف عليه. " انتهى ". يعني عطفا على الضمير المستكن، وتقديره الزموا.
وان مكانكم قام مقامه فتحمل الضمير الذي في الزموا ليس بجيد، إذ لو كان كذلك لكان مكانكم الذي هو اسم فعل يتعدى كما يتعدى الزموا، ألا ترى أن اسم الفعل إذا كان الفعل لازما كان اسم الفعل لازما وإذا كان متعديا مثال ذلك بنا عليك زيدا، لما ناب مناب الزم تعدى، وإليك لما ناب مناب تنح لم يتعد، ولكون مكانك لا يتعدى قدره النحويون اثبتوا، واثبتوا لا يتعدى. قال ابن عطية: أنتم رفع بالابتداء، والخبر مخزيون أو مهانون ونحوه، فيكون مكانكم قد تم، ثم أخبر أنهم كذا، وهذا ضعيف لفك الكلام. الظاهر اتصال بعض أجزائه ببعض ولتقدير إضمار لا ضرورة تدعو إليه. ولقوله: فزيلنا بينهم إذ يدل على أنهم ثبتوا هم وشركاؤهم في مكان واحد حتى وقع التزييل بينهم وهو التفريق، ولقراءة من قرأ أنتم وشركاءكم بالنصب على أنه مفعول معه، والعامل فيه اسم الفعل. ولو كان أنتم مبتدأ وقد حذف خبره، لما جاز أن يأتي بعده مفعول معه، تقول: كل رجل وضيعته، بالرفع ولا يجوز فيه النصب. قال ابن عطية: ويجوز أن يكون أنتم تأكيدا للضمير الذي في الفعل المقدر الذي هو قفوا أو نحوه، وهذا ليس بجيد إذ لو كان تأكيدا لذلك الضمير المتصل بالفعل لجاز تقديمه على الظرف إذ الظرف لم يتحمل ضميرا على هذا القول، فيلزم تأخيره عنه وهو غير جائز لا تقول: أنت مكانك، ولا يحفظ من كلامهم. والأصح أنه لا يجوز حذف المؤكد في التأكيد المعنوي، فكذلك هذا لأن التأكيد ينافي الحذف، وليس من كلامهم: أنت زيدا لمن رأيته قد شهر سيفا، وأنت تريد أضرب أنت زيدا، إنما كلام العرب زيدا، تريد اضرب زيدا فزيلنا يقال: زلت الشىء عن مكانه أزيله، معين الكلمة ياء. وزعم ابن قتيبة وتبعه أبو البقاء ان قوله: زيلنا من مادة زال يزول فتكون عين الكلمة واو، وزيلنا وزنه عندهما فيعل اجتمعت ياء وواو، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء. والصحيح أنه من ذوات الياء وان وزنه فعل ولذلك قالوا في مصدره تزييلا على وزن تفعيل، وقالوا في الاشتقاق منه زايلنا بالياء. ونفي الشركاء عبادة المشركين هو رد لقولهم: إياكم كنا نعبد. وإياكم: مفعول بتعبدون، وحسن تقديمه كون تعبدون فصلا ولما تنازعوا استشهد الشركاء بالله تعالى، وانتصب شهيدا على التمييز لقبوله صحة من، وان هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بين ان النافية وبين ان التي للإثبات. وتقدم الكلام على مثل ذلك في قوله:
وإن كانت لكبيرة
[البقرة: 143].
{ هنالك تبلوا كل نفس مآ أسلفت } هنالك ظرف مكان، أي في ذلك الموقف والمقام المقتضي للحيرة والدهش. تبلوا، أي تختبر ما أسلفت من العمل فتعرف كيف هو أقبيح أم حسن، أنافع أم ضار، مقبول أو مردود. وقرىء: تبلو. وقرىء: تتلو.
{ وردوا إلى الله } أي إلى جزائه.
{ وضل عنهم } أي ذهب وبطل.
{ ما كانوا يفترون } من الكذب.
[10.31-36]
{ قل من يرزقكم } الآية، لما بين فضائح عبدة الأوثان، أتبعها بذكر الدلائل على فساد مذهبهم بما يوبخهم ويحجهم بما لا يمكن إلا الاعتراف به من حال رزقهم وحواسهم، وإظهار القدرة الباهرة في الموت والحياة، فبدأ بما فيه قوام حياتهم وهو الرزق الذي لا بد منه فمن السماء بالمطر ومن الأرض بالنبات. فمن لابتداء الغاية هيء الرزق بالعالم العلوي والعالم السفلي معا لم يقتصر على جهة واحدة توسعة منه وإحسانا، ثم ذكر ملكه لهاتين الحاستين الشريفتين السمع والبصر الذي هو سبب مدارك الأشياء، والبصر الذي يرى ملكوت السماوات والأرض. ومعنى ملكهما أنه متصرف فيهما كما يشاء من إبقاء وحفظ وذهاب.
{ ومن يخرج الحي من الميت } تقدم تفسيره.
{ ومن يدبر الأمر } شامل لما تقدم من الأشياء الأربعة المذكورة ولغيرها، والأمور التي يدبرها تعالى لا نهاية لها، فلذلك جاء بالأمر الكلي بعد تفصيل بعض الأمور واعترافهم بأن الرازق والمالك والمخرج والمدبر هو الله تعالى أمر لا يمكنهم إنكاره ولا المباهتة فيه.
{ فذلكم } إشارة إلى من اختص بهذه الأوصاف السابقة.
{ فماذا } استفهام معناه النفي، ولذلك دخلت إلا وصحبه التقرير والتوبيخ، كأنه قيل: ما بعد الحق إلا الضلال. وماذا: مبتدأ ركبت ذا مع ما فصار مجموعهما استفهام. كأنه قيل: أي شىء والخبر بعد الحق.
{ فأنى تصرفون } أي كيف يقع صرفكم بعد وضوح الحق وقيام حججه عن عبادة من يستحق العبادة، وكيف يشركون معه غيره وهو لا يشاركه في شىء من تلك الأوصاف.
{ كذلك حقت } الكاف: للتشبيه في موضع نصب. الإشارة بذلك إلى المصدر المفهوم من تصرفون، أي مثل صرفهم عن الحق بعد الإقرار به في قوله: فسيقولون الله. حق العذاب عليهم، أي جازاهم مثل أفعالهم.
{ قل هل من شركآئكم من يبدأ الخلق } لما استفهم عن أشياء من صفات الله واعترفوا بها، ثم أنكر عليهم صرفهم عن الحق وعبادة الله تعالى، استفهم عن شىء هو سبب العبادة وهو إبداء الخلق وهم يسلمون ذلك لقوله:
ولئن سألتهم من خلق السموت والأرض ليقولن الله
[لقمان: 25، الزمر: 38] ليقولن الله، ثم إعادة الخلق وهم منكرون ذلك، لكنه عطف على ما يسلمونه ليعلم أنهما سواء بالنسبة إلى قدرة الله تعالى وأن ذلك لوضوحه وقيام برهانه قرن بما يسلمونه إذ لا يدفعه إلا مكابر إذ هو من الواضحات التي لا يختلف في إمكانها العقلاء. وجاء الشرع بوجوبه فوجب اعتقاده، ولما كانوا لمكابرتهم لا يقرون بذلك أمر تعالى نبيه عليه السلام أن يجيب فقال:
{ قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده } وأبرز الجواب في جملة مبتدأة مصرح بجزأيها فعاد الخبر فيها مطابقا لخبر اسم الاستفهام، وذلك تأكيد وتثبت ولما كان الاستفهام قبل هذا لا مندوحة لهم عن الاعتراف به، جاءت الجملة محذوفا منها أحد جزأيها في قوله: فسيقولون الله ولم يحتج إلى التأكيد بتصريح جزأيها.
ومعنى تؤفكون: تصرفون وتقلبون عن اتباع الحق.
{ قل هل من شركآئكم } الآية، لما بين تعالى عجز أصنامهم عن الإبداء والإعادة اللذين هما من أقوى أسباب القدرة وأعظم دلائل الألوهية، بين عجزهم عن هذا النوع من صفات الإله وهو الهداية للحق وإلى منهاج الصواب، وقد أعقب الخلق بالهداية في القرآن في مواضع فقال تعالى حكاية عن الكليم قال:
ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى
[طه: 50]، فاستدل بالخلق والهداية على وجود الصانع وهما حالان للجسد والروح. وقرىء: لا يهدي مخففا مضارع هدى ويهدي بفتح الهاء وتشديد الدال، وأصله يهتدي نقلت حركة التاء إلى الهاء وأدغمت التاء في الدال. وقرىء: يهدي بكسر الهاء وتشديد الدال. وقرىء: بكسر الياء اتباعا. بحركة الهاء وتشديد الدال يهدي.
{ فما لكم } استفهام ومعناه التعجيب والإنكار أي: أي شىء لكم في اتخاذ هؤلاء الشركاء إذا كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم.
{ كيف تحكمون } استفهام آخر، أي كيف تحكمون بالباطل وتجعلون لله أندادا وشركاء، وهاتان جملتان: أنكر في الأولى وتعجب من اتباعهم من لا يهدي ولا يهتدي، وأنكر في الثانية حكمهم بالباطل وتسوية الأصنام برب العالمين.
{ وما يتبع أكثرهم إلا ظنا } الظاهر أن أكثرهم على بابه لأن منهم من تبصر في الأصنام فرفضها كما قال بعضهم:
أرب يبول الثعلبان برأسه
لقد هان من بالت عليه الثعالب
والمعنى ما يتبع أكثرهم في اعتقادهم في الله وفي صفاته إلا ظنا ليسوا متبصرين ولا مستندين فيه إلى برهان إنما ذلك شىء تلقوه من آبائهم. والظن في معرفة الله لا يغني من الحق شيئا، أي من إدراك الحق ومعرفته على ما هو عليه، لأنه تجويز لا قطع.
[10.37-41]
{ وما كان هذا القرآن أن } الآية، لما تقدم قولهم ائت بقرآن غير هذا أو بدله، وكان من قولهم انه افتراه قال تعالى: { وما كان هذا القرآن أن يفترى } ، أي ما صح ولا استقام أن يكون هذا القرآن المعجز مفترى. والإشارة بهذا فيها تفخيم المشار إليه وتعظيمه، وكونه جامعا للأوصاف التي يستحيل لوجودها فيه أن يكون مفترى. والظاهر أن ان يفترى هو خبر كان، أي افتراء أي ذا افتراء أو مفترى، ووقعت لكن هنا أحسن موقع إذ كانت بين نقيضين وهما الكذب والتصديق المتضمن الصدق، والذي بين يديه الكتب الإلهية المقدمة. وانتصب تصديق على أنه خبر كان مضمرة وهو على حذف مضاف، أي ذا تصديق.
{ أم يقولون افتراه } ام: منقطة تتقدر ببل، والهمزة تقديره بل أيقولون افتراه، والاستفهام على سبيل الإنكار. وتقدم الكلام على نظير هذه الآية في البقرة.
{ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه } أي بل كذبوا بها القرآن العظيم المنبىء بالغيوب الذي لم تتقدم لهم به معرفة، ولا أحاطوا بمعرفة غيوبه وحسن نظمه، ولا جاءهم تفسير ذلك وبيانه. والكاف في موضع نصب، أي مثل ذلك التكذيب.
{ فانظر كيف كان } كيف: في موضع نصب خبر لكان، وأنظر معلقة، والجملة الاستفهامية مع ما بعدها في موضع نصب. قال ابن عطية: ولكيف تصرفات تحل محل المصدر الذي هو كيفية ويحتمل هذا الموضع أن يكون منها ومن تصرفاتها كقولهم: كن كيف شئت. " انتهى ". ليس كيف تحل محل المصدر ولا لفظ كيفية هو مصدر إنما ذلك نسبة إلى كيف وقوله: ويحتمل أن يكون هذا الموضع منها ومن تصرفاتها كن كيف شئت لا يحتمل أن يكون منها لأنه لم يثبت لها هذا المعنى الذي ذكر من كون كيف بمعنى كيفية وادعاء مصدر كيفية وأما: كن كيف شئت لها هذا المعنى الذي فكيف ليست بمعنى كيفية وإنما هي شرطية، وهو المعنى الثاني الذي لها، وجوابها محذوف التقدير كيف شئت، فكن كما تقول: قم متى شئت، فمتى: اسم شرط ظرف لا يعمل فيه قم، والجواب محذوف تقديره متى شئت فقم.
{ ومنهم من يؤمن به } الآية، الظاهر أنه اخبار بأن من كفار قريش من سيؤمن به وهو من سبقت له السعادة، ومنهم من لا يؤمن به فيوافي على الكفر.
{ وإن كذبوك } أي وإن تمادوا على تكذيبك فتبرأ منهم قد أعذرت وبلغت كقوله:
فإن عصوك فقل إني بريء
[الشعراء: 216].
ومعنى: { لي عملي } أي لي جزاء عملي ولكم جزاء عملكم. ومعنى عملي أي الصالح المشتمل على الإيمان والطاعة.
{ ولكم عملكم } المشتمل على الشرك والعصيان. والظاهر أنها آية منابذة لهم وموادعة وفي ضمنها الوعيد.
[10.42-49]
{ ومنهم من يستمعون إليك } الآية، قال ابن عباس: نزلت الآيتان في النضر بن الحارث وغيره من المستهزئين، وهذه الآية فيها تقسيم من لا يؤمن من الكفار إلى قسمين بعد تقسيم المكذبين إلى من يؤمن ومن لا يؤمن. والضمير في يستمعون عائد على من، والعود على المعنى دون العود على اللفظ في الكثرة وهو كقوله تعالى:
ومن الشياطين من يغوصون له
[الأنبياء: 82]. والمعنى من يستمعون إليك إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع.
ثم نفى جدوى ذلك الاستماع بقوله:
{ أفأنت تسمع الصم } أي هم وان استمعوا إليك صم عن إدراك ما تلقيه إليهم ليس لهم وعي ولا قول ولا قبول، ولا سيما وقد انضاف إلى الصمم انتفاء العقل فحر بمن عدم السمع والعقل إلا أن يكون له إدراك لشىء البتة، بخلاف أن لو كان الأصم عاقلا فإنه بعقله يهتدي إلى أشياء.
وأعاد في قوله: { ومنهم من ينظر إليك } الضمير مفردا مذكرا على لفظ من وهو الأكثر في لسان العرب. قال ابن عطية: جاء ينظر على لفظ من وإذا جاء الفعل على لفظها فجائز أن يعطف عليه آخر، المعنى: وإذا جاء أولا على معناها فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ، لأن الكلام يلبس حينئذ. " انتهى ". ليس كما قال بل يجوز أن يراعي المعنى أولا فيعيد الضمير على حسب ما يريد من المعنى من تأنيث وتثنية وجمع، ثم يراعى اللفظ فيعيد الضمير مفردا مذكرا، وفي ذلك تفصيل ذكر في علم النحو. والمعنى وأنهم عمي فلا تقدر على هدايتهم، لأن السبب الذي يهتدي به إلى رؤية الدلائل قد فقدوه هذا وهم مع فقد البصر قد فقدوا البصيرة، إذ من كان أعمى فإنه يهديه نور بصيرته إلى أشياء بالحدس، وهذا قد جمع بين فقدان البصر والبصيرة وهذه مبالغة عظيمة في عدم قبول ما يلقى إلى هؤلاء إذ جمعوا بين الصمم وانتفاء العقل، وبين العمى وفقد البصيرة. وفي قوله: أفأنت تسلية له صلى الله عليه وسلم وألا يكترث بعدم قبولهم فإن الهداية إنما هي لله تعالى. ولما ذكر هؤلاء الأشقياء ذكر أنه تعالى لا يظلمهم شيئا إذ قد أزاح عللهم ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحذيرهم من عقابه ولكنهم ظلموا أنفسهم بالتكذيب والكفر. واحتمل هذا النفي للظلم أن يكون في الدنيا أي لا يظلمهم شيئا من مصالحهم، واحتمل أن يكون في الآخرة وان ما يلحقهم من العقاب هو عدل منه لأنهم هم الذين تسببوا فيه باكتساب ذنوبهم، كما قدر تعالى عليهم لا يسأل عما يفعل.
{ ويوم يحشرهم } الآية، كان لم يلبثوا جملة تشبيهية في موضع نصب من الضمير المنصوب في نحشرهم التقدير مشبهين بمن لم يلبث إلا ساعة ويتعارفون حال ثانية، ويجوز أن يكون استئناف اخبار.
وأجاز ابن عطية في كان لم يلبثوا صفة لمصدر محذوف تقديره حشرا كان لم يلبثوا، وان تكون الجملة التشبيهية في موضع صفة لقوله: يوم . " انتهى ". أما قوله: انه نعت لمصدر محذوف، فيحتاج إلى رابط فقدره كان لم يلبثوا قبله، ومثل هذا الربط لا يجوز حذفه وأما قوله: ان الجملة في موضع الصفة ليوم نحشرهم فلا يجوز لأن الجملة التشبيهية هي نكرة ويوم نحشرهم معرفة، إذ التقدير ويوم حشرهم ولا توصف المعرفة بالنكرة.
{ وما كانوا مهتدين } أخبر عنهم بخبرين أحدهما خسرانهم معللا بالتكذيب بلقاء الله، والثاني إخباره تعالى بانتفاء هدايتهم.
{ وإما نرينك } اما هي ان الشرطية زيد عليها ما قال ابن عطية، ولأجلها جاز دخول النون الثقيلة ولو كانت ان وحدها لم يجز. " انتهى ". يعني أن دخول النون للتأكيد إنما يكون مع زيادة ما بعد ان وهذا الذي ذكره مخالف لظاهر كلام سيبويه فإن سيبويه أجاز أن تقول ان تقومن أقم بغير زيادة ما بعد ان. ومعنى هذه الآية الوعيد بالرجوع إلى الله تعالى، أي أريناك عقوبتهم أو لم نركها فهم على كل حال راجعون إلينا إلى الحساب والعذاب. قال الزمخشري: فإلينا مرجعهم جواب نتوفينك، وجواب نرينك محذوف كأنه قيل: واما نرينك بعض الذي نعدهم فذاك أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريك في الآخرة.
جعل الزمخشري الكلام شرطين لهما جوابان ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف لأن قوله: فإلينا مرجعهم صالح أن يكون جوابا للشرط والمعطوف عليه، وأيضا فقول الزمخشري فذاك هو اسم مفرد لا ينعقد منه جواب شرط فكان ينبغي أن يأتي بجملة يتضح بها جواب الشرط، إذ لا يفهم من قوله: فذاك الخبر الذي حذف المتحصل به فائدة الإسناد، ثم مع ذلك الله شهيد من أول تكليفهم على جميع أعمالهم، فثم هنا لترتيب الاخبار لا لترتيب القصص في أنفسها.
{ ولكل أمة رسول } الآية، لما بين حال الرسول صلى الله عليه وسلم في قومه بين حال الأنبياء عليهم السلام مع أقوامهم تسلية له عليه السلام وتطمينا لقلبه.
{ ويقولون متى } الآية، الضمير في " ويقولون " عائد على مشركي قريش ومن تابعهم من منكري الحشر استعجلوا بما وعدوا به من العذاب على سبيل الاستبعاد أو على سبيل الاستخفاف، ولذلك قالوا ان كنتم صادقين فيما وعدتم به فلا يقع شىء منه.
{ قل لا أملك لنفسي } الآية، لما التمسوا تعجيل العذاب أو تعجيل الساعة أمره تعالى أن يقول لهم ليس ذلك إلي بل إلى الله تعالى، وإذا كنت لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا فكيف أملكه لغيري وكيف أطلع على ما لم يطلعني عليه الله.
{ لكل أمة أجل } انفرد تعالى بعلمه. وتقدم الكلام على كل أمة أجل في الاعراف.
[10.50-56]
{ قل أرأيتم إن أتاكم } الآية، تقدم الكلام عليها في الانعام، وقررنا هناك أن العرب تضمن أرأيت معنى أخبرني وأنها تتعدى إذ ذاك إلى مفعولين، وان المفعول الثاني اكثر ما يكون جملة استفهام ينعقد منها مع ما قبلها مبتدأ وخبر. تقول العرب: أرأيت زيدا ما صنع، المعنى أخبرني عن زيد ما صنع. وقبل دخول أرأيت كان الكلام زيد ما صنع وإذا تقرر هذا فأرأيتم هنا المفعول الأول لها محذوف والمسألة من باب الاعمال تنازع أرأيت وإن أتاكم على قوله: عذابه، فاعمل الثاني إذ هو المختار على مذهب البصريين، وهو الذي ورد به السماع أكثر من اعمال الأول فلما أعمل الثاني حذف من الأول ولم يضمر لأن إضماره مختص بالشعر أو قليل في الكلام على اختلاف النحويين في ذلك والمعنى قل لهم يا محمد أخبروني عن عذاب الله إن أتاكم أي شىء تستعجلون منه فليس شىء من العذاب يستعجله عاقل إذ العذاب كله مر المذاق موجب لنفار الطبع منه، فتكون جملة الاستفهام جاءت على سبيل التلطف بهم والتنبيه لهم ان العذاب لا ينبغي أن يستعجل. ويجوز أن تكون الجملة جاءت على سبيل التعجب والتهويل للعذاب، أي أي شىء شديد تستعجلون منه أي ما أشد وأهول ما تستعجلون من العذاب. وتقدم الكلام في قوله: بياتا، في الاعراف مدلولا وإعرابا وانتصابه وما بعده على الظرف، والمعنى إن أتاكم عذابه وأنتم ساهون غافلون اما بنوم واما باشتغال بالمعاش والكسب وهو نظير قوله: بغتة، لأن العذاب إذا فاجأ من غير شعور به كان أشد وأصعب بخلاف أن يكون قد استعد له وتهيىء لحلوله ويجوز في ماذا أن تكون ما مبتدأ وذا خبره، وهو بمعنى الذي. ويستعجل صلته وحذف الضمير العائد على الموصول التقرير، أي شيء الذي يستعجله من العذاب المجرمون. ويجوز في ماذا أن يكون كله مفعولا كانه قيل: أي شىء يستعجله من العذاب المجرمون. قال الزمخشري: فإن قلت: يتعلق الاستفهام؟ وأين جواب الشرط؟ قلت: تعلق بأرأيتم، لأن المعنى أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون، وجواب الشرط محذوف وهو يندموا على الاستعجال ويعرفوا الخطأ فيه. " انتهى ". وما قدره الزمخشري غير سائغ لأنه لا يقدر الجواب إلا مما تقدمه لفظا أو تقديرا تقول: أنت ظالم إن فعلت التقدير إن فعلت فأنت ظالم، وكذلك وانا إن شاء الله لمهتدون التقدير إن شاء الله نهتد، فالذي يسوغ ان يقدر إن أتاكم عذابه فأخبروني ماذا يستعجل. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ماذا يستعجل جوابا للشرط كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني، ثم تتعلق الجملة بأرأيتم وان يكون اثم إذا ما وقع آمنتم به من بعد جواب الشرط وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضا، والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان.
" انتهى ".
اما تجويزه أن يكون ماذا جوابا للشرط فلا يصح لأن جواب الشرط إذا كان استفهاما فلا بد فيه من الفاء، تقول: ان زارنا زيد فأي رجل هو وإن زارنا فلان فأي يدله بذلك، ولا يجوز حذفها إلا إن كان في ضرورة. والمثال الذي ذكره وهو ان أتيتك ماذا تطعمني هو من قبله لا من كلام العرب. وأما قوله: تتعلق الجملة بأرأيتم إن عني بالجملة ماذا يستعجل فلا يصح ذلك لأنه قد جعلها جوابا للشرط وإن عني بالجملة جملة الشرط فقد فسر هو أرأيتم بمعنى أخبروني. وأخبرني يطلب متعلقا مفعولا ولا تقع جملة الشرط موقع مفعول أخبرني، وأما تجويزه ان يكون إثم إذا ما وقع آمنتم به جواب الشرط وماذا يستعجل منه المجرمون اعتراضا، فلا يصح أيضا لما ذكرناه من أن جملة الاستفهام لا تقع جوابا للشرط إلا ومعها فاء الجواب، وأيضا فثم هنا وهي حرف عطف تعطف الجملة التي بعدها على ما قبلها فالجملة الاستفهامية معطوفة وإذا كانت معطوفة لم يصح أن تقع جواب شرط، وأيضا أفأرأيتم بمعنى أخبرني يحتاج إلى مفعول ولا تقع جملة الشرط موقعه. والظاهر عود الضمير في منه على العذاب وبه يحصل الربط بجملة الاستفهام بمفعول أرأيتم المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل. وقيل: يعود على الله تعالى، والمجرمون هم المخاطبون في قوله: أرأيتم إن أتاكم. ونبه على الوصف الموجب لترك الاستعجال وهو الإجرام لأن من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه ويهلك نزعا من مجيئه وإن أبطأ فكيف يستعجله. وثم: حرف عطف وتقدمت همزة الاستفهام عليها كما تقدمت على الواو. والفاء في أفلم يسيروا وفي أو لم يسيروا وتقدم الكلام على ذلك. قال الطبري في قوله: اثم بضم الثاء أن معناه أهنالك. قال: وليست ثم هذه التي تأتي بمعنى العطف. " انتهى ". وما قاله من أن ثم ليست للعطف دعوى، وأما قوله: ان المعنى أهنالك فالذي ينبغي أن يكون ذلك تفسير معنى لا ان ثم المضمومة الثاء معناها معنى هنالك، وفاعل وقع ضمير يعود على العذاب، وقرىء الآن على الاستفهام بالمد. وقرىء: بهمزة الاستفهام بغير مد وهو اضمار القول، أي قيل لهم إذ آمنوا بعد وقوع العذاب: الآن آمنتم به. فالناصب لقوله: الآن هو آمنتم وهو محذوف.
{ وقد كنتم } جملة حالية لأن استعجالهم بالعذاب تكذيب لوقوعه.
{ ثم قيل للذين ظلموا } أي يقول لهم خزنة جهنم هذا الكلام. والظلم: ظلم الكفر. ثم قيل: هذا من عطف الجمل وهو استئناف أخبار عما يقال لهم يوم القيامة.
{ ويستنبئونك } أي يستخبرونك، وأصلها ان تتعدى الى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر تقول: استنبأت زيدا عن عمر وأي طلبت منه أن يخبرني عن عمرو، فاستفعل هنا للطلب والمفعول الأول كاف للخطاب والمفعول الثاني الجملة من قوله: أحق، هو على سبيل التعليق.
وحق يجوز أن يكون خبرا مقدما وهو مبتدأ ويجوز أن يكون مبتدأ وهو الخبر.
قال ابن عطية: وقيل هي بمعنى يستعلمونك قال فهي على هذا تحتاج إلى مفاعيل ثلاثة أحدها الكاف والابتداء والخبر سدا مسد المفعولين. " انتهى ". ليس كما ذكر لأن استعلم لا يحفظ كونها متعدية إلى مفاعيل ثلاثة لا يحفظ استعلمت زيدا عمرا قائما، فيكون جملة الاستفهام سدت مسد المفعولين، ولا يلزم من كونها بمعنى يستعلمونك أن تتعدى إلى ثلاثة لأن استعلم لا يتعدى إلى ثلاثة كما ذكرنا، والضمير في هو عائد على العذاب.
{ قل إي وربي } أمره تعالى أن يقول لهم مجيبا إي وربي وإي هي من حروف الجواب بمعنى نعم، ولا تستعمل إلا مع القسم.
{ إنه لحق } قال الزمخشري: وسمعتم يقولون في التصديق، إي ويصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده. " انتهى ".
لا حجة فيما سمعه الزمخشري من ذلك لعدم الحجة في كلامه لفساد كلام العرب إذ ذاك وقبله بأزمان كثيرة.
{ بمعجزين } أي فائتين.
{ ولو أن لكل نفس ظلمت } الآية، ذكرت بعض أحوال الظالمين في الآخرة، وظلمت صفة لنفس. والظلم هنا الشرك والكفر. وافتدي يأتي مطاوعا لفدى فلا يتعدى، تقول: فديته فافتدي وبمعنى فدى فيتعدى. وهنا يحتمل الوجهين وما في الأرض، أي ما كان لها في الدنيا من الخزائن والأموال والمنافع وأسروا من الأضداد، فأتي بمعنى أظهروا وبمعنى أخفوا.
{ ألا إن لله } الآية قيل: تعلق هذه الآية بما قبلها من جهة انه فرض ان النفس الظالمة لو كان لها ما في الأرض لا فتدت به وهي لا شىء لها البتة، لأن جميع الأشياء إنما هي بأسرها ملك الله تعالى.
[10.57-61]
{ يأيها الناس قد جآءتكم } الآية، الخطاب بيا أيها الناس عام، ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدي إليها وهو القرآن، والمتصف بهذه الأوصاف الشريفة هو القرآن.
{ قل بفضل الله وبرحمته } فضل الله الإسلام والرحمة: القرآن، قاله ابن عباس. وقيل غير ذلك. والظاهر أن قوله: قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا جملتان وحذف ما يتعلق به الباء، والتقدير قل بفضل الله وبرحمته ليفرحوا ثم عطفت الجملة الثانية على الأولى على سبيل التوكيد. قال الزمخشري: والتكرير للتأكيد وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف إحدى الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة بمعنى الشرط كأنه قيل: ان فرحوا لشىء فليخصوهما بالفرح فإنه لا مفروح به أحق منهما. ويجوز أن يراد بفضل الله ورحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا، ويجوز أن يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته، فبذلك أي فبمجيئهما فليفرحوا. " انتهى ". أما إضمار فليعتنوا فلا دليل عليه واما تعليقه بقوله: قد جاءتكم، فينبغي ان يقدر ذلك محذوفا بعد قل ولا يكون متعلقا بجاءتكم الأولى للفصل بينهما بقل.
{ قل أرأيتم } الآية، مناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر تعالى قل: { يأيها الناس قد جآءتكم موعظة }. وكان المراد بذلك كتاب الله المشتمل على التحليل والتحريم بين فساد شرائعهم وأحكامهم من الحلال والحرام من غير مستند في ذلك إلى الوحي. وأرأيتم هنا بمعنى أخبروني، وتقدم انها تتعدى لمفعولين فالأول هنا ما من قوله: ما أنزل، وهي موصولة وصلتها انزل، والضمير محذوف تقديره انزله ومن رزق تبيين لما انبهم من لفظ ما، وفجعلتم معطوف على انزل، والمفعول الثاني محذوف تقديره آلله اذن لكم وهي جملة استفهام دل على حذفها قوله: بعد أمر الله تعالى له، قيل آلله أذن لكم. وأم الظاهر أنها متصلة والمعنى أخبروني الله أذن لكم في التحليل والتحريم فانتم تفعلون ذلك بإذنه أم تكذبون على الله في نسبة ذلك إليه، فنبه بتوقيفهم على أحد القسمين وهم لا يمكنهم ادعاء إذن الله في ذلك فثبت افتراؤهم.
{ وما ظن الذين يفترون } الآية، ما: استفهامية مبتدأة خبرها ظن، والمعنى أي شىء ظن المفترين يوم القيامة أبهم الأمر على سبيل التهديد والإيعاد يوم يكون الجزاء بالإحسان والإساءة. ويوم: منصوب بظن ومفعول الظن، قيل: تقديره ما ظنهم ان الله فاعل بهم أينجيهم أم يعذبهم.
{ وما تكون في شأن } الآية، مناسبتها لما قبلها أنه تعالى ذكر جملة من أحوال الكفار ومذاهبهم والرد عليهم ومحاولة الرسول لهم، ذكر فضله تعالى على الناس وان أثرهم لا يشكره على فضله، وذكر اطلاعه تعالى على أحوالهم وحال الرسول معهم في مجاهدته لهم وتلاوة القرآن عليهم وأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم واستطرد من ذلك إلى ذكر أولياء الله ليظهر التفاوت بين الفريقين فريق الشيطان وفريق الرحمن.
والخطاب في قوله: وما تكون في شأن، وما تتلوا للرسول وهو عام لجميع شؤونه صلى الله عليه وسلم.
{ وما تتلوا } مندرج تحت عموم شأن واندرج من حيث المعنى في الخطاب كل ذي شأن، وما: في الجملتين نافية، والضمير في " منه " عائد على شأن.
و { من قرآن } تفسير للضمير من العموم لأن القرآن هو أعظم شؤونه صلى الله عليه وسلم.
والخطاب في قوله: { ولا تعملون } عام.
وكذا: { إلا كنا عليكم شهودا } وولي إلا هنا الفعل غير مصحوب بقد لأنه قد تقدم إلا فعل، والجملة بعد إلا حال وشهودا رقباء نحصي عليكم، وإذ: معمولة لقوله شهودا. ولما كانت الأفعال السابقة المراد بها الحالة الدائمة وينسحب على الأفعال الماضية كان الظرف ماضيا وكان المعنى وما كنت في شأن وما تلوت من قرآن ولا عملتم من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ أفضتم فيه وإذ تخلص المضارع لمعنى الماضي. ثم واجهه تعالى بالخطاب وحده في قوله:
{ وما يعزب عن ربك } تشريفا له وتعظيما ولما ذكر شهادته تعالى على أعمال الخلق ناسب تقديم الأرض التي هي محل المخاطبين على السماء بخلاف ما في سورة سبأ، وان كان الأكثر تقديمها على الأرض. وقرىء: يعزب بكسر الزاي وكذا في سبأ. والمثقال اسم لا صفة، ومعناه هنا وزن ذرة. والذر: صغار النمل، ولما كانت الذرة أصغر الحيوان المتناسل المشهور النوع عندنا جعلها الله مثلا لأقل الأشياء وأحقرها إذ هي أحقر ما يشاهد.
ثم قال: { ولا أصغر من ذلك } أي من مثقال ذرة ولما ذكر أنه لا يعزب عن علمه أدق الأشياء التي نشاهده ناسب تقديم ولا أصغر من ذلك ثم أتى بقوله: ولا أكبر، على سبيل إحاطة علمه بجميع الأشياء. ومعلوم أن من علم أدق الأشياء وأخفاها كان علمه متعلقا بأكبر الأشياء وأظهرها. وقرىء: ولا أصغر من ذلك ولا أكبر بفتح الراء فيهما أو وجه على أنه عطف على موضع ذرة، أو على مثقال على اللفظ. وقرىء: برفع الراء فيهما. ووجه على أنه عطف على موضع مثقال لأن من زائدة فهو مرفوع بيعزب. وقال الزمخشري: تابعا لاختيار الزجاج والوجه النصب على نفي الجنس والرفع على الابتداء يكون كلاما مبتدأ، وفي العطف على محل مثقال ذرة أو لفظة فتحا في موضع الجر اشكال لأن قوله: لا يعزب عنه شىء إلا في كتاب مشكل. " انتهى ".
وإنما أشكل عنده لأن التقدير يصير إلا في كتاب فيعزب وهذا كلام لا يصح. وخرجه أبو البقاء على أنه استثناء منقطع تقديره لكن هو في كتاب مبين، ويزول بهذا التقدير الاشكال.
[10.62-70]
{ ألا إن أوليآء الله لا خوف عليهم } الآية، أولياء الله هم الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة. وعن سعيد بن جبير
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: سئل عن أولياء الله فقال: هم الذين يذكرون الله برؤيتهم "
، يعني السمت والهيئة. وهذه الآية يدل ظاهرها على أن من آمن واتقى فهو داخل في أولياء الله هذا هو الذي تقتضيه الشريعة في الولي، وإنما نبهنا هذا التنبيه حذرا من مذهب الصوفية وبعض الملحدين في الولي وبشراهم في الحياة الدنيا تظاهرت الروايات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها الرؤيا الصالحة يراها المؤمن، أو ترى له، وبشراهم في الآخرة تلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحف بإيمانهم، وما يقرؤون منها وغير ذلك من البشارات.
{ لا تبديل لكلمات الله } أي لا تغيير لأقواله ولا خلف في مواعيده كقوله تعالى:
ما يبدل القول لدي
[ق: 29].
{ ولا يحزنك قولهم } اما أن يكون قولهم أريد به بعض افراده وهو التكذيب والتهديد وما يتشاورون به في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون من إطلاق العام وإرادة الخاص، وإما أن يكون مما حذفت منه الصفحة المخصصة، ان قولهم الدال على تكذيبك ومعاندتك.
ثم استأنف بقوله: { إن العزة لله جميعا } أي لا عزة لهم ولا منفعة فهم لا يقدرون لك على شىء ولا يؤذونك، ان الغلبة والقهر لله تعالى وهو القادر على الانتقام منهم فلا يعازه شىء ولا يغالبه.
{ ألا إن لله من في السموت ومن في الأرض } الآية المناسبة ظاهرة في هذه الآية لما ذكر أن العزة له تعالى وهو القهر والغلبة، ذكر ما يناسب القهر وهو كون المخلوقات له تعالى. ومن الأصل فيها ان تكون للعقلاء وهي هنا شاملة لهم ولغيرهم على حكم التغليب وحيث جيء بما كان تغليبا للكثرة إذ أكثر المخلوقات لا يعقل. والظاهر أن ما: نافية. وشركاء: مفعول يتبع، ومفعول يدعون محذوف لفهم المعنى تقديره آلهة أو شركاء، أي أن الذين جعلوهم آلهة وأشركوهم مع الله في الربوبية ليسوا شركاء حقيقة إذ الشركة في الألوهية مستحيلة وإن كانوا قد أطلقوا عليهم اسم الشركاء، وجوزوا أن تكون ما استفهامية في موضع نصب بيتبع وشركاء منصوب بيدعون، أي وأي شىء يتبع على تحقير المتبع، كأنه قيل: من يدعو شريكا لله لا يتبع شيئا، ومعنى يخرصون أي يحزرون ويقدرون.
{ هو الذي جعل لكم اليل } هذا تنبيه منه تعالى على عظم قدرته وشمول نعمته لعباده فهو المستحق بأن يفرد بالعبادة.
{ لتسكنوا فيه } أي مما تقاسون من الحركة والتردد في طلب المعاش وغيره بالنهار، وأضاف الابصار إلى النهار مجازا لأن الابصار يقع فيه كما قال:
وتمت وما ليل المطى بنائم، أي يبصرون فيه مطالب معايشهم وقال: قطرب، يقال: أظلم الليل صار ذا ظلمة، وأضاء النهار وأبصر أي صار ذا ضياء وبصر.
" انتهى ". وذكر علة خلق الليل وهي لتسكنوا فيه وحذفها من النهار، وذكر وصف النهار وحذفه من الليل، وكل من المحذوف يدل على مقابلة والتقدير جعل الليل مظلما لتسكنوا فيه، والنهار مبصرا لتتحركوا فيه في مكاسبكم وما تحتاجون إليه بالحركة. ومعنى يسمعون سماع معتبر.
{ قالوا اتخذ الله ولدا } الآية، الضمير في قالوا عائد على من نسب إلى الله تعالى الولد ممن قال الملائكة بنات الله وغير ذلك، وسبحانه تنزيهه عن اتخاذ الولد وتعجيب ممن يقول ذلك.
{ هو الغني } علة لنفي الولد لأن اتخاذ الولد إنما يكون للحاجة إليه، والله تعالى غير محتاج إلى شىء فالولد منتف عنه وكل ما في السماوات والأرض ملكه تعالى فهو غني عن اتخاذ الولد. وان: نافية، والسلطان الحجة أي ما عندكم من حجة بهذا القول.
[10.71-74]
{ واتل عليهم نبأ نوح } لما ذكر الدلائل على وحدانيته وذكر ما جرى بين الرسول عليه السلام وبين الكفار، ذكر قصصا من قصص الأنبياء وما جرى لهم مع قومهم من الخلاف، وذلك تسلية له عليه السلام وليتأسى بمن قبله من الأنبياء عليهم السلام. والضمير في عليهم عائد على أهل مكة الذين تقدم ذكرهم وكبر معناه عظم مقامي أي طول مقامي فيكم أو قيامي للوعظ. قال ابن عطية: ولم يقرأ هنا بضم الميم. " انتهى ". وليس كما قال بل قرأ بضم الميم أبو مجلز وأبو رجاء وأبو الجوزاء. والمقام: الإقامة بالمكان. والمقام: مكان القيام. وجواب الشرط.
{ فعلى الله توكلت } فلا أبالي منكم. وقرىء: فاجمعوا من أجمع الرجل الشىء عزم عليه ونواه. قال الشاعر:
أجمعوا أمرهم بليل فلما
أصبحوا أصبحت لهم ضوضاء
وقرىء: فأجمعوا أمر من جمع وشركاؤكم معطوف على أمركم، وهو على حذف مضاف تقديره وأمر شركائكم. ومعنى اقضوا إلى أنفذوا قضاءكم نحوي، ومفعول اقضوا محذوف، أي اقضوا إلى ذلك الأمر وامضوا ما في أنفسكم واقطعوا ما بيني وبينكم.
{ ولا تنظرون } أي لا تؤخرون، والنظرة: التأخير.
{ فإن توليتم } أي فإن دام توليكم عما جئت به إليكم من توحيد الله ورفض آلهتكم فلست أبالي بكم إذ ما دعوتكم إليه وذكرتكم به ووعظتكم لم أسألكم عليه أجرا، إنما يثيبني عليه الله تعالى.
{ فكذبوه } أي فنموا على تكذيبه، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان. وفي الفلك متعلق بالاستقرار الذي تعلق به معه، أو بنجيناه وجعلناهم جمع ضمير المفعول على معنى من.
و { خلائف } يخلفون الفارقين المهلكين ثم أمر بالنظر في عاقبة المنذرين بالعذاب، وإلى ما صار إليه حالهم، وفي هذا الاخبار توعد الكفار بمحمد صلى الله عليه وسلم وضرب مثال لهم في أنهم بحال هؤلاء من التكذيب فسيكون حالكم كحالهم في التعذيب.
{ ثم بعثنا من بعده رسلا } أي من بعد نوح.
{ إلى قومهم } يعني هودا وصالحا ولوطا وإبراهيم وشعيبا. والبينات: المعجزات والبراهين الواضحة المثبتة لما جاؤا به. وجاء النفي مصحوبا بلام الجحود، ليدل على أن إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع. قال ابن عطية: ويحتمل اللفظ عندي معنى آخر وهو أن تكون ما مصدرية. والمعنى فكذبوا رسلهم فكان عقابهم من الله تعالى ان لم يكونوا ليؤمنوا بتكذيبهم من قبل، أي من قبل سببه ومن جرائه، ويؤيد هذا التأويل قوله كذلك نطبع. " انتهى ". الظاهر ان ما موصولة ولذلك عاد الضمير عليها في قوله: بما كذبوا به ولو كانت مصدرية بقي الضمير غير عائد على مذكور فيحتاج أن يتكلف ما يعود عليه الضمير. والضمير في كذبوا عائد على ما عاد عليه ضمير كانوا، وهم قوم الرسل، والمعنى أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية وتكذيب للحق فتساوت حالاتهم قبل البعثة وبعدها كان لم يبعث إليهم أحد، ومن قبل متعلق بكذبوا أي من قبل بعثة الرسل.
[10.75-82]
{ ثم بعثنا من بعدهم موسى } الآية لا يخص قوله: وملائه بالاشراف بل هي عامة لقوم فرعون شريفهم ومشروفهم.
{ فاستكبروا } تعاظموا عن قبولها. والحق: هو العصا واليد.
{ أتقولون للحق } استفهام إنكار ومعمول القول محذوف تقديره هذا سحر ثم أنكر عليهم أيضا باستفهام ثان وهو قوله: أسحر هذا، أي أسحر هذا الذي جئت به من معجز العصا واليد، ثم أخبر عليه السلام بقوله:
{ ولا يفلح الساحرون * قالوا أجئتنا } خطاب لموسى وحده لأنه هو الذي ظهرت على يديه المعجزات وهي العصا واليد.
{ لتلفتنا } لتصرفنا وتلوينا.
{ عما وجدنا عليه آباءنا } من عبادة غير الله واتخاذ آلهة دونه والكبرياء مصدر، ولما ادعوا أن ما جاء به موسى عليه السلام هو سحر أخذوا في معارضته بأنواع من السحر ليظهر لسائر الناس أن ما جاء به موسى هو من باب السحر. والمخاطب بقوله: ائتوني، خدمة فرعون والمتصرفون بين يديه. وقرىء: بكل سحار على المبالغة. وقرىء: بكل ساحر على الافراد. وفي قوله: ألقوا ما أنتم ملقون، استطالة عليهم وعدم مبالاة بهم وفي إبهام ما أنتم ملقون تخسيس له وتقليل وإعلام أنه لا شىء يلتفت إليه. وقرىء: السحر بغير أداة استفهام فما مبتدأة موصولة بمعنى الذي وصلتها جئتم به، وخبر المبتدأ السحر بالاستفهام، فما استفهامية مبتدأة تقديره أي شىء، وجئتم به الخبر، والسحر بدل من ما. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، ويكون استفهاما ثانيا تقديره أهو السحر. قال ابن عطية: والتعريف هنا في السحر ارتب لأنه قد تقدم منكرا في قوله: إن هذا لسحر، فجاء هنا بلام العهد كما يقال: إن أول الرسالة سلام عليك، وفي آخرها السلام عليك. " انتهى ". أخذ هذا من الفراء قال الفراء: وإنما قال السحر بالألف واللام لأن النكرة إذا أعيدت أعيدت بالألف واللام، ولو قال له من رجل لم يقع له في وهمه أنه يسأله عن الرجل الذي ذكره له. " انتهى ". وما ذكراه هنا في السحر ليس هو من باب تقدم النكرة ثم أخبر عنها بعد ذلك، لأن شرط هذا أن يكون المعرف بالألف واللام هو النكرة المتقدم ولا يكون غيره كما قال تعالى:
كمآ أرسلنآ إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول
[المزمل: 15-16]. وتقول: زارني رجل فأكرمت الرجل ولما كان إياها جاز أن تأتي بالضمير بدله فتقول: فأكرمته. والسحر هنا ليس هو السحر الذي في قولهم: ان هذا السحر، أي ان الذي أخبر ذا عنه بأنه سحر هو ما ظهر على يدي موسى من معجزة العصا، والسحر الذي في قول موسى إنما هو سحرهم الذي جاؤوا به فقد اختلف المدلولان إذ قالوا هم عن معجزة موسى، وقال موسى عما جاؤا به، ولذلك لا يجوز أن يؤتى هنا بالضمير بدل السحر فيكون عائدا على قولهم لسحر وسيبطله بمحقه بحيث يذهب ويظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة.
[10.83-89]
{ فمآ آمن لموسى } الآية، الظاهر في الفاء من حيث أن مدلولها التعقيب ان هذا الإيمان الصادر من الذرية لم يتأخر عن قصة الإلقاء. والظاهر أن الضمير في " قومه " عائد على موسى وأنه لا يعود على فرعون، لأن موسى عليه السلام هو المحدث عنه في هذه الآية وهو أقرب مذكور، ولأنه لو كان عائدا على فرعون لم يظهر لفظ فرعون وكان التركيب على خوف منه ومن ملامهم أن يفتنهم، وهذا الإيمان من الذرية كان أول مبعثه إذ قد آمن به بنو إسرائيل قومه كلهم كان أولا دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون واجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف من فرعون.
{ ربنا لا تجعلنا فتنة } الظاهر أنهم سألوا الله أن لا يفتنوا عن دينهم وأن يخلصوا من الكفار فقدموا ما كان عندهم أهم وهو سلامة دينهم لهم، وأخروا سلامة أنفسهم إذ الاهتمام بمصالح الدين آكد من الاهتمام بمصالح الابدان.
{ وأوحينآ إلى موسى } الآية، أن يجوز أن تكون تفسيرية بمعنى " أي " ، وأن تكون مصدرية.
{ وتبوءا } فعل أمر، أي اتخذا مباءة وهو المكان الذي يرجع الإنسان إليه. والظاهر اتخاذ البيوت بمصر، وهي مصر المعروفة وهي من البحر إلى أسوان والاسكندرية منها.
{ واجعلوا بيوتكم قبلة } أي قبل القبلة، ثم سبق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، ثم خص موسى عليه السلام بالتبشير الذي هو الغرض تعظيما له وللمبشر به.
{ وقال موسى ربنآ إنك آتيت فرعون وملأه زينة } الآية، الزينة: عبارة عما يتزين به ويتحسن من الملبوس والمركوب والأثاث والمال، ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق. وفي تكرار " ربنا " توعد للدعاء والاستعانة.
واللام في " ليضلوا " الظاهر أنها لام كي على معنى آتيتهم ما آتيتهم على سبيل الاستدراج فكان الإيتاء لكي يضلوا. ويحتمل أن تكون لام الصيرورة والعاقبة، كقوله:
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا
[القصص: 8]. وكما قال الشاعر:
وللمنايا تربى كل مرضعة
وللخراب يجد الناس عمرانا
{ ربنا اطمس على أموالهم } قال ابن عباس: صارت دراهمهم حجارة منقوشة صحاحا واثلاثا وإنصافا، ولم يبق لهم معدن إلا طمس الله عليه، فلم ينتفع به أحد بعد.
{ واشدد على قلوبهم } قال ابن عباس: طبع عليها وامنعها من الإيمان.
{ فلا يؤمنوا } منصوب على أنه جواب اشدد. والأمر وجوابه ينعقد منهما شرط وجزاء. وتقدير ذلك هنا ان تشدد لا يؤمنوا.
{ قال قد أجيبت دعوتكما } الآية، قال محمد بن كعب: كان موسى عليه السلام يدعو وهارون يؤمن فنسبت الدعوة إليهما. ويمكن أن يكونا دعوا معا ثم أمرا بالاستقامة.
والمعنى الديمومة عليها وعلى ما أمرتما به من الدعوة إلى الله وإلزام حجته. والذين لا يعلمون فرعون وقومه، قاله ابن عباس.
[10.90-97]
{ وجاوزنا ببني إسرائيل البحر } تقدم الكلام على الباء من قوله: ببني إسرائيل، وكم كان الذين جاوزوا مع موسى عليه السلام في الاعراف.
{ فأتبعهم فرعون } واتباع فرعون هو في مجاوزة البحر. روي أن فرعون لما انتهى إلى البحر ووجده قد انفرق ومضى فيه بنو إسرائيل قال لقومه: إنما انفرق بأمري. وكان فرعون على فرس ذكر فبعث الله إليه جبريل على فرس انثى وتدنوا فدخل بها البحر وولج فرس فرعون وراءه وجنب الجيوش خلفه، فلما رأى ان الانفراق قد ثبت واستمر له وبعث الله ميكائيل عليه السلام يسوق الناس حتى حصل جميعهم في البحر فانطبق عليهم. ولما لحقه من الدهش ما لحقه كرر المعنى بثلاث عبارات: اما على سبيل التلعثم، إذ ذاك مقام تحار فيه القلوب. أو حرصا على القبول، ولم يقبل الله تعالى منه إذ فاته وقت القبول، وهو حالة الاختيار وبقاء التكليف والتوبة بعد المعاينة لا تنفع، ألا ترى إلى قوله تعالى:
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنت الله التي قد خلت في عباده
[غافر: 85].
وتقدم الخلاف في قوله تعالى:
الآن وقد كنتم به تستعجلون
[يونس: 51]. في هذه السورة. والمعنى أتؤمن الساعة في حال الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك. قيل: قال ذلك حين ألجمه الغرق.
{ فاليوم ننجيك ببدنك } أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع.
وببدنك: بدرعك، وكان من لؤلؤ منظوم لا مثال له، قاله ابن عباس. والبدن: بدن الإنسان. والبدن: الدرع القصيرة قال:
ترى الأبدان فيها مسبغات
على الابطال والكلب الحصينا
يعني: الدروع. وقيل: نلقيك ببدنك عريانا ليس عليك ثياب ولا سلاح، وذلك أبلغ في إهانته.
{ ولقد بوأنا بني إسرائيل } الظاهر ان بني إسرائيل هم الذين كانوا آمنوا بموسى عليه السلام ونجوا من الغرق.
وسياق الآيات ليشهد لهم. وانتصب مبوأ صدق على أنه مفعول ثان لبوأنا، كقوله:
لنبوئنهم من الجنة غرفا
[العنكبوت: 58]. أو على المصدر. ومعنى صدق، أي فضل وكرامة، ولما ذكر أنه بوأهم مبوأ صدق ذكر امتنانه عليهم بما رزقهم من الطيبات وهي المآكل المستلذات، أو الحلال.
{ فما اختلفوا } أي كانوا على ملة واحدة. وطريقة موسى عليه السلام في أول حاله.
{ حتى جآءهم العلم } أي علم التوراة فاختلفوا، وهذا ذم لهم، أي أن سبب الاتفاق هو الظلم فصار عندهم سبب الاختلاف فتشعبوا شعبا بعدما قرأوا التوراة.
{ فإن كنت في شك } الظاهر أن ان شرطية تقتضي تعليق شىء على شىء ولا تستلزم تحتم وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكون ذلك في المستحيل عقلا، كقوله تعالى:
قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين
[الزخرف: 81]. ويستحيل أن يكون له ولد. فكذلك هذا يستحيل أن يكون عليه السلام في شك. وهذه الآية من ذلك. وقيل: ان نافية. وقيل: الخطاب لغير الرسول عليه السلام. وقيل: معنى في شك: في ضيق. ولا يراد به حقيقة الشك وهو تساوي الجائزين.
وروي عنه عليه السلام أنه قال: لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق.
فتكون منصوب بإضمار ان بعد الفاء وهو جواب النهي قبله.
{ إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون } لما ذكر تعالى عبادا قضى عليهم بالشقاوة فلا يتغير، والكلمة التي حقت عليهم هي اللعنة والغضب.
{ حتى يروا العذاب الأليم } هو في الوقت الذي لا ينفعهم فيه إيمانهم.
[10.98-103]
{ فلولا كانت قرية آمنت } الآية، لولا هنا هي التحضيضية التي صحبها التوبيخ، وكثيرا ما جاءت في القرآن للتحضيض فهي بمعنى هلا.
والتحضيض: ان يريد الإنسان فعل الشىء الذي يحض عليه وإذا كانت للتوبيخ، فلا يريد المتكلم الحض على ذلك الشىء، وهنا وبخهم على ترك الإيمان النافع.
والمعنى: فهلا آمن أهل القرية وهم على مهل لم يلتبس العذاب بهم، فيكون الإيمان نافعا لهم في هذه الحال.
و { إلا قوم يونس } استثناء منقطع إذ لم يندرج قوم يونس في قوله: قرية، وإلى الانقطاع فيه ذهب سيبويه والفراء والأخفش. وقيل: هو استثناء متصل لأن التحضيض إنما يكون على شىء لم يقع فيضمن معنى النفي. وصار المعنى لم تكن قرية يعني أهلها آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس. وهم أهل نينوى من بلاد الموصل كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم يونس عليه السلام فأقاموا على تكذيبه سبع سنين وتوعدهم بالعذاب بعد ثلاثة أيام، وقيل: بعد أربعين يوما.
{ إلى حين } أي إلى وقت انقضاء آجالهم.
{ ولو شآء ربك لآمن من في الأرض } قيل: انزلت في أبي طالب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أسف لموته على ملة عبد المطلب وكان حريصا على إيمانه، وكان أحرص الناس على هداية من في الأرض.
{ أفأنت تكره الناس } تقديم الاسم في الاستفهام على الفعل يدل على إمكان حصول الفعل لكن من غير ذلك الاسم، فلله ان يكره الناس على الإيمان لو شاء، وليس ذلك لغيره.
وقرىء: { ونجعل } بنون المتكلم. ويجعل بياء الغيبة.
{ قل انظروا ماذا في السموت والأرض } إذ السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاته وفي العالم العلوي في حركات الافلاك ومقاديرها وأوضاعها. والكواكب وما يختص بذلك من المنافع والفوائد، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان، وخصوصا حال الإنسان.
وكثيرا ما ذكر الله في كتابه الحض على التفكر في مخلوقاته تعالى وقال: ماذا في السماوات والأرض، تنبيها على القاعدة الكلية. والعاقل يتنبه لتفاصيلها وأقسامها، ثم لما أمر الله تعالى بالنظر أخبر أنه من لا يؤمن لا تغنيه الآيات.
والنذر: جمع نذير، أما مصدر فمعناه الإنذارات، وأما بمعنى منذر، فمعناه المنذرون والرسل.
وما: الظاهر أنها للنفي ويجوز أن تكون استفهاما، أي وأي شىء تغني الآيات وهي الدلائل وهو استفهام على جهة التقرير. قال ابن عطية : ويحتمل أن تكون ما في قوله: وما تغني مفعوله لقوله: انظروا، معطوفة على قوله: ماذا، أي تأملوا قدر غنى الآيات والنذر عن الكفار إذا قبلوا ذلك كفعل قوم يونس فإنه يرفع العذاب في الدنيا والآخرة، وينجي من المهلكات فالآية على هذا تحريض على الإيمان.
ويجوز اللفظ على هذا التأويل إنما هو قوله: لا يؤمنون. " انتهى ". هذا احتمال فيه ضعف. وفي قوله: مفعولة معطوفة على ماذا تجوز، يعني أن الجملة الاستفهامية التي هي ماذا في السماوات في موضع المفعول، لا ان ماذا وحده منصوب بانظروا، فتكون " ماذا " موصولة. و " انظروا " بصرية، لما تقدم.
وفي الآية توبيخ لحاضري رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين.
{ ثم ننجي رسلنا } لما تقدم قوله: فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم وكان ذلك مشعرا بما حل بالأمم الماضية المكذبة ومصرحا بهلاكهم في غير ما آية، أخبر تعالى عن حكاية حالهم الماضية فقال: ثم ننجي رسلنا، والمعنى ان الذين خلوا أهلكناهم لما كذبوا الرسل، ثم نجينا الرسل والمؤمنين. والظاهر أن كذلك في موضع نصب تقديره مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل ومؤمنيهم ننجي من آمن بك يا محمد، ويكون " حقا " على تقدير حق ذلك حقا.
[10.104-109]
{ قل يأيها الناس } الآية، خطاب لأهل مكة يقول: إن كنتم لا تعرفون ما أنا عليه فأنا أبينه لكم فبدأ أولا بالانتفاء من عبادة ما يعبدون من الأصنام تسفيها لآرائهم، وأثبت ثانيا من الذي نعبده وهو الله الذي يتوفاكم.
وفي ذكر هذا الوصف الوسط الدال على التوفي دلالة على البدء وهو الخلق وعلى الإعادة، فكأنه أشار إلى أنه يعبد الله الذي خلقكم ويتوفاكم ويعيدكم، وكثيرا ما صرح بهذه الأطوار الثلاثة. وكان التصريح بهذا الوصف لما فيه من التذكير بالموت، وإرهاب النفوس به، وصيرورتهم إلى الله تعالى بعده، فهو الجدير بأن يخاف ويتقى ويعبد لا الحجارة التي تعبدونها.
{ وأمرت أن أكون من المؤمنين } لما ذكر أنه يعبد الله وكانت العبادة أغلب ما عليها عمل الجوارح، أخبر أنه أمر بأن يكون من المصدقين بالله الموحدين له المفرد له بالعبادة فانتقل من عمل الجوارح إلى نور المعرفة، وطابق الباطن الظاهر.
{ وأن أقم } يحتمل أن تكون معمولة لقوله: وأمرت، مراعي فيها المعنى لأن معنى قوله: ان أكون، كن من المؤمنين، فتكون ان مصدرية صلتها الأمر. والوجه هنا المنحى والمقصد أي استقم للدين ولا تحد عنه.
وحنيفا حال من الضمير في أقم أو من المفعول.
{ فإن فعلت } كني بالفعل عن الدعاء مجازا، أي فإن دعوت ما لا ينفعك ولا يضرك. وجواب الشرط فإنك، وخبرها وتوسطت إذن بين اسم ان والخبر، ورتبتها بعد الخبر، لكن روعي في ذلك الفاصلة.
{ وإن يمسسك الله بضر } الآية، أتي في الضر بلفظ المس. وفي الخير بلفظ الإرادة. وطابق بين الضر والخير مطابقة معنوية لا لفظية، لأن مقابل الضر النفع، ومقابل الخير الشر، فجاءت لفظة الضر ألطف وأخص من لفظة الشر. وجاءت لفظة الخير أتم من لفظة النفع. ولفظة المس أوجز من لفظة الإرادة. وأنص على الإصابة وأنسب لقوله: { فلا كاشف له إلا هو }. ولفظ الإرادة أدل على الحصول في وقت الخطاب وفي غيره وأنسب للفظ الخير وإن كان المس والإرادة معناهما الإصابة. وجاء جواب وإن يمسسك بنفي عام وإيجاب. وجاء جواب { وإن يردك } بنفي عام لأن ما أراده لا يرده راد لا هو ولا غيره.
{ قل يأيها الناس } الآية، الحق: القرآن والرسول ودين الإسلام. والمعنى: فإنما ثواب هدايته حاصل له ووبال ضلاله عليه والهداية والضلال واقعان بإرادة الله تعالى.
روي أنه
" لما نزلت: واصبر، جمع صلى الله عليه وسلم الأنصار قال: إنكم ستجدون بعدي اثرة فاصبروا حتى تلقوني ".
[11 - سورة هود]
[11.1-5]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير } قال ابن عباس: هذه السورة مكية كلها. وعنه أيضا: انها مكية إلا قوله:
فلعلك تارك
[هود: 12]، الآية.
وكتاب خبر مبتدأ محذوف يدل عليه ظهوره بعد هذه الحروف المقطعة كقوله:
الم ذلك الكتاب
[البقرة: 1-2].
وأحكت صفة له. ومعنى الاحكام: نظمه نظما رصيفا لا نقص فيه ولا خلل. والهمزة في " أحكمت " للنقل وأصله حكم فهو حكيم، ثم أدخلت عليه همزة النقل فصار يتعدى لواحد ثم فصلت كما تفصل القلائد بالدلائل من دلائل التوحيد والاحكام والمواعظ والبعث بعد الموت والقصص.
أو جعلت فصولا سورة سورة وآية آية، أو فرقت في التنزيل ولم تنزل جملة واحدة أو فصل بها ما يحتاج إليه العباد، أي بين. ولخص من لدن، تقدم الكلام عليه في آل عمران حكيم بمعنى محكم وهي صفة راجعة لقوله: أحكمت خبير عالم بخفايا الأشياء راجع لقوله: ثم فصلت، وكان العطف بثم لتراخي أوامر التفصيل ونواهيه عن المنزل بالاحكام. ومن لدن يتعلق بأحد الفعلين من باب الاعمال، ومن حيث المعنى تتعلق بهما.
و { ألا تعبدوا } يحتمل أن يكون حرف ان تفسير، لأن في تفصيل الآيات معنى القول وهذا أظهر. ويجوز أن تكون ان الناصبة للمضارع ولا نفي، وعلامة النصب حذف النون. ويجوز أن تكون أن مصدرية وصلت بفعل النهي وعلامة الجزم فيه حذف النون.
والظاهر عود الضمير في منه إلى الله تعالى أي انني لكم نذير من جهته وبشير فيكون في موضع الصفة فيعلق بمحذوف، أي كائن من جهته، أو يعلق بنذير، أي أنذركم من عذابه إن كفرتم وأبشركم بثوابه ان آمنتم.
{ وأن استغفروا } هذا أمر بالاستغفار يرجح أن يكون ان لا تعبدوا نهيا نهي، ثم أمر كقوله:
وقوفا بها على مطيهم
يقولون لا تهلك أسى وتجمل
والاستغفار: طلب المغفرة وهي الستر، والتوبة: الانسلاخ من المعاصي والندم على ما سلف منها والعزم على عدم العود إليها. وتقدم أمران بينهما تراخ وترتب عليهما جوابا بينهما تراخ ترتب على الاستغفار التمتيع المتاع الحسن في الدنيا. وترتب على التوبة إيتاء الفضل في الآخرة وناسب كل جواب لما وقع جوابا له لأن الاستغفار من الذنب أول حال الراجع إلى الله تعالى فناسب ان يرتب عليه حال الدنيا. والتوبة هي المنجية من النار والتي تدخل الجنة، فناسب أن يرتب عليها حال الآخرة. والضمير في " فضله " يحتمل أن يعود على الله، أي يعطي في الآخرة كل من كان له فضل في عمل الخير وزيادة ما تفضل به عليه تعالى وزيادة.
ويحتمل أن يعود على كل، أي جزاء ذلك الفضل الذي عمله في الدنيا لا يبخس منه شيئا.
والظاهر ان تولوا مضارع حذف منه التاء أي وإن تتولوا. وقيل: هو ماض للغائبين. والتقدير فقل لهم: إني أخاف عليكم. ووصف يوم بكبير، وهو يوم القيامة لما يقع فيه من الأهوال.
{ إلى الله } أي إلى جزائه.
{ مرجعكم } أي يوم القيامة.
{ ألا إنهم يثنون صدورهم } الآية، قال ابن عباس: نزلت في الأخنس بن شريق كان يجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحلف أنه ليحبه ويضمر خلاف ما يظهر. وقيل غير ذلك.
{ ليستخفوا } أي من الله، فلا يطلع رسوله والمؤمنين على أزورارهم. والضمير في منه عائد على الله تعالى، والذي يظهر من أسباب النزول أنه عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. كما قيل ان هذه الآية نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تطامنوا وثنوا صدورهم كالمتستر وردوا إليه ظهورهم وغشوا وجوههم بثيابهم تباعدا منه وكراهة للقائه، وهم يظنون ان ذلك يخفى عليه أو عن الله تعالى. فنزلت الآية. فعلى هذا يكون " ليستخفوا " متعلقا بقوله: يثنون صدورهم. ومعنى يستغشون ثيابهم: يجعلونها أغشية. ومنه قول الخنساء:
أرعى النجوم وما كلفت رعيتها
وتارة أتغشى فضل أطماري
وانتصب حين بقوله: يعلم. وقال الزمخشري: يريدون الاستخفاء حين يستغشون ثيابهم.
وقال أبو البقاء: إلا حين العامل في الظرف محذوف أي إلا حين يستغشون ثيابهم يستخفون. وتقدير الزمخشري وأبي البقاء إضمار لا يحتاج إليه.
[11.6-12]
{ وما من دآبة في الأرض } الآية. الدابة هنا عام في حيوان يحتاج إلى رزق. وعلى الله ظاهر في الوجوب، وإنما هو تفضل. ولكنه لما ضمن تعالى أن يتفضل عليهم أبرزه في حيز الوجوب. قال ابن عباس: مستقرها: حيث تأوي إليه من الأرض. ومستودعها: الموضع الذي تموت فيه فتدفن.
ومن دابة في موضع مبتدأ. ومن زائدة لاستغراق الجنس. ورزقها مبتدأ. وعلى الله خبره ، والجملة خبر المبتدأ، والتقدير وما من دابة إلا رزقها كائن على الله تعالى.
{ وهو الذي خلق السموت } الآية، لما ذكر تعالى ما يدل على كونه عالما ذكر ما يدل على كونه قادرا.
وتقدم تفسير الجملة الأولى في سورة يونس. والظاهر أن قوله: وكان عرشه على الماء، تقديره قبل خلق السماوات والأرض، وفي هذا دليل على أن الماء والعرش كانا مخلوقين قبل. والظاهر تعلق ليبلوكم بخلق، أي خلقهن بحكمة بالغة وهي ان يجعلها مساكن لعباده وينعم عليهم فيها بفنون النعم ويكلفهم فعل الطاعات واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبه.
ومعنى ليبلوكم، أي ليختبركم وأيكم أحسن مبتدأ وخبر في موضع نصب بقوله: ليبلوكم، وهو معلق، لأن الاختبار فيه معنى التمييز والعلم. وذكر الزمخشري: ان استمع تعلق، ومثله بقوله: استمع أيهم مبتدأ أحسن صوتا. " انتهى ".
ولا أعلم أحدا ذكر ان استمع تعلق، وإنما ذكروا من غير أفعال القلوب سل وانظر. وفي جواز تعليق رأي البصرية خلاف ولذلك علق عن جملة الاستفهام. والظاهر الإشارة بهذا إلى القول، أي أن قولكم إنكم مبعوثون إلا سحر، أي بطلان هذا القول كبطلان السحر.
والظاهر أن العذاب هو العذاب الموعود به. والأمة هنا المدة من الزمان.
{ ما يحبسه } استفهام قالوه على سبيل التكذيب والاستهزاء. والظاهر أن يوم منصوب بقوله: مصروفا، فهو معمول لخبر ليس وقد استدل به على جواز تقديم خبر ليس عليها، قالوا: لأن تقدم المعمول يؤذن بتقدم العامل، ونسب هذا المذهب لسيبويه، وعليه أكثر البصريين، وذهب الكوفيون والمبرد إلى أنه لا يجوز ذلك وقالوا: لا يدل جواز تقدم المعمول على جواز تقدم العامل، وأيضا فإن الظرف والمجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما، ويقعان حيث لا يقع العامل فيهما نحو: ان اليوم زيدا مسافر. وقد تتبعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقدم خير ليس عليها ولا بمعموله إلا ما دل عليه ظاهر هذه الآية. وقول الشاعر:
فيأبى فما يزداد إلا لجاجة
وكنت أبيا في الخنا لست أقدم
وتقدم تفسير جملة : وحاق بهم.
{ ولئن أذقنا الإنسان } الآية، الظاهر أن الإنسان هنا جنس، والمعنى أن هذا الخلق في سجايا الناس ثم استثنى منهم الذين ردتهم الشرائع والإيمان إلى الصبر والعمل الصالح ولذلك جاء الاستثناء منه في قوله: إلا الذين صبروا متصلا.
{ فلعلك تارك } الآية، كانوا يقترحون عليه الآيات تعنتا لا استرشادا لأنهم لو كانوا مسترشدين لكانت آية واحدة مما جاء به كافية في إرشادهم. وضائق: اسم فاعل، من ضاق وعبر بضائق دون ضيق للمناسبة في اللفظ مع تارك، وان كان ضيق أكثر استعملا لأنه وصف لازم وضائق وصف عارض، ولأن اسم الفاعل من الثلاثي إذا لم يأت على وزن فاعل نحو فرح وثقيل. وأريد الحدوث به بني على فاعل كثقل فهو ثاقل وفرح فهو فارح، ولذلك جاء اسم الفاعل من ضاق على فاعل لحدوثه إذ ليس وصفا لازما فيجيء على ضيق.
{ إنمآ أنت نذير } أي ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه وما عليك ردوا أو تهاونوا أو اقترحوا.
{ والله على كل شيء وكيل } يحفظ ما يقولون وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل فتوكل عليه وكل أمرك إليه.
[11.13-22]
{ أم يقولون افتراه } الآية، الظاهر أن أم منقطعة فتقدر ببل، والهمزة أي بل أيقولون افتراه، والضمير في افتراه عائد على قوله: يوحى إليك وهو القرآن.
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لا تتعلق أطماعهم بأن يترك بعض ما أوحي إليه إلا لدعواهم أنه ليس من عند الله وأنه هو الذي افتراه وإنما تحداهم أولا بعشر سور مفتريات قبل تحديهم بسورة إذ كانت هذه السورة مكية، والبقرة مدنية، وسورة يونس أيضا مكية، ومقتضى التحدي بعشر سور أن يكون قبل طلب المعارضة بسورة فلما نسبوه إلى الافتراء طلب منهم أن يأتوا بعشر سور مثله مفتريات إرخاء لعنانهم وكأنه يقول: هبوا اني اختلقته ولم يوح إلي فأتوا أنتم بكلام مثله مختلق من عند أنفسكم فأنتم عرب فصحاء مثلي لا تعجزون عن مثل ما أقدر عليه من الكلام. وإنما عنى بقوله: مثله من حسن النظم والبيان وإن كان مفترى. وشأن من يريد تعجيز شخص أن يطالبه أولا بأن يفعل أمثالا مما يفعل هو ثم إذا تبين له عجزه قال له: إفعل مثالا واحدا.
{ فإلم يستجيبوا لكم } الذي يظهر أن الضمير في فإن لم يستجيبوا عائد على من استطعتم. ومن لكم عائد على الكفار لعود الضمير على أقرب مذكور، ولكون الخطاب يكون لواحد ولترتب الجواب على الشرط ترتبا حقيقيا من الأمر بالعلم. ولا يتجوز بأنه أريد به فدوموا على العلم بأن لا إله إلا هو ولا أن يكون قوله: فهل أنتم مسلمون تحريضا على تحصيل الإسلام لا انه يراد به الإخلاص ولما طولبوا بالمعارضة وأمروا بأن يدعوا من يساعدهم، فلم تمكن المعارضة ولا استجاب أصنامهم وآلهتهم لهم أمروا بأن يعلموا أنه من عند الله وليس مفترى، فيمكن معارضته وأنه تعالى هو المختص بالألوهية لا يشركه في شىء منها آلهتهم وأصنامهم فلا يمكن أن يجيبوا لظهور عجزهم، وانها لا تنفع ولا تضر في شىء من المطالب.
{ من كان يريد الحياة الدنيا } الآية، مناسبتها مما قبلها أنه تعالى لما ذكر أشياء من أحوال الكفار المنافقين في القرآن، ذكر شيئا من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة. وظاهر من العموم في كل من يريد زينة الحياة الدنيا والجزاء مقرون بمشيئة الله تعالى. وجاء فعل الشرط ماضيا في قوله: من كان، وفعل الجزاء مضارعا مجزوما وهو نوف والجزم أفصح من الرفع إذ لو جاء نوفى مرفوعا لكان جائزا كما قال الشاعر:
وان أتاه خليل يوم مسألة
يقول لا غائب مالي ولا حرم
فرفع يقول ولو جزمه لكان أفصح كالآية وأفرد الضمير في كان يريد على لفظ من وجمعه في قوله إليهم مراعاة للمعنى.
والضمير في قوله: ما صنعوا فيها الظاهر أنه عائد على الآخرة والمجرور متعلق بحبط. والمعنى وظهر حبوط ما صنعوا في الآخرة ويجوز أن يتعلق بقوله: صنعوا، فيكون عائدا على الحياة الدنيا كما عاد عليها في فيها قبل وما في ما صنعوا بمعنى الذي أو مصدرية وباطل وما بعده توكيد لقوله: وحبط ما صنعوا. وباطل خبر مقدم إن كان من عطف الجمل وما كانوا هو المبتدأ وان كان خبرا بعد خبر ارتفع ما بباطل على الفاعلية.
{ أفمن كان على بينة من ربه } الآية لما ذكر حال من يريد الحياة الدنيا ذكر حال من يريد وجه الله بأعماله الصالحة. وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة والتقدير كمن يريد الحياة الدنيا، وكثيرا ما حذف في القرآن كقوله تعالى:
أفمن زين له سوء عمله فرآه حسنا
[فاطر: 8]، وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره كان على بينة أي على برهان من الله وبيان أن دين الإسلام حق، وهو دليل العقل.
{ ويتلوه } ويتبع ذلك البرهان.
{ شاهد منه } أي شاهد بصحته وهو القرآن منه أي من الله تعالى أو شاهد من القرآن.
{ ومن قبله } أي ومن قبل القرآن.
{ كتاب موسى } وهو التوراة أي ويتلو ذلك أيضا من قبل القرآن كتاب موسى. والإشارة بأولئك إلى من كان على بينة راعى معنى من فجمع.
{ فالنار موعده } أي مكان وعده الذي يصير إليه وقال حسان:
أوردتموها حياض الموت ضاحية
فالنار موعدها والموت لاقيها
{ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا } تقدم تفسير نظير هذه الجملة والإشهاد جمع شاهد كصاحب وأصحاب أو جمع شهيد كشريف وأشراف. والاشهاد: الملائكة الذي يحفظون عليهم أعمالهم في الدنيا. وفي قوله: هؤلاء، إشارة إلى تحقيرهم وإصغارهم بسوء مرتكبهم. وفي قوله: على ربهم أي على من يحسن إليهم ويملك نواصيهم، وكانوا جديرين بأن لا يكذبوا عليه.
{ من أوليآء } إسم لكان. ومن: زائدة. والضمير في ما كانوا عائد على أولياء ومعنى أنه من لا يستطيع أن يسمع ولا يبصر فكيف يصلح للولاية، ويكون يضاعف لهم العذاب اعتراضا. وقيل: ما مصدرية، أي يضاعف لهم العذاب مدة استطاعتهم وإبصارهم، والمعنى أن العذاب وتضعيفه دائم لهم متماد.
و { خسروا أنفسهم } خسران أنفسهم كونهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى فخسروا في تجارتهم خسرانا لا أعظم منه. وهو على حذف مضاف أي راحة وسعادة أنفسهم.
{ لا جرم } مذهب الخليل وسيبويه أنهما ركبا من لا وجرم وبنيا والمعنى حق وما بعده رفع به على الفاعلية. وقال الكسائي: معناها لا صد ولا منع فيكون اسم لا وهي مبنية على الفتح. وقال قوم: ان جرم مبنية مع لا على الفتح نحو قولك: لا رجل ومعناها لا بد ولا محالة، وهو شبيه بقول الكسائي فيكون ان لهم على إسقاط حرف الجر إذ صار التقدير لا بد من أن لهم النار أي من كينونة النار لهم ولما كان خسران النفس أعظم الخسران حكم عليهم بأنهم هم الزائدون في الخسران على كل خاسر من سواهم.
[11.23-34]
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية، والفريقان هنا الكافر والمؤمن، ولما كان تقدم ذكر الكفار وأعقب بذكر المؤمنين جاء التمثيل هنا مبتدأ بالكافر، فقال: كالأعمى والأصم. ويمكن أن يكون من باب تشبيه اثنين باثنين فقوبل الأعمى بالبصير وهو طباق، وقوبل الأصم بالسميع وهو طباق أيضا.
{ هل يستويان } استفهام معناه النفي أي لا يستويان مثلا أي صفة.
{ ولقد أرسلنا نوحا } الآية.
{ أن لا تعبدوا إلا الله } ظاهر في أنهم كانوا يعبدون الأوثان كما جاء مصرحا به في غير هذه السورة وان بدل من أني لكم في قراءة من فتح ويحتمل أن تكون أن المفسرة واما في قراءة من كسر فيحتمل أن تكون المفسرة والمراعى قبلها اما أرسلنا واما نذير مبين. ويحتمل أن تكون معمولة لا أرسلنا أي بأن لا تعبدوا إلا الله وذكروا في بادىء الرأي أنه منصوب على الظرف.
والظاهر ان العامل فيه اتبعك وان كان الظرف جائيا بعد إلا. والمعنى اتبعك في بادىء رأيهم أراذلنا. وقرىء: بادىء الرأي من بدأ يبدأ. ومعناه أول الرأي. وقرىء: بادي بالياء من بدا يبدو، ومعناه ظاهر الرأي.
{ قال يقوم } لما حكى شبهتهم في إنكار نبوته عليه السلام وهي قولهم: ما نراك إلا بشرا مثلنا، ذكر أن المساواة في البشرية لا تمنع من حصول المفارقة في صفة النبوة والرسالة، ثم ذكر الطريق الدال على إمكانه على جهة التعليق والإمكان، وهو متيقن أنه على بينة من ربه ومن معرفته وتوحيده وما يجب له وما يمتنع، لكنه ابرزه في طريق الشرط والجزاء على سبيل الفرض لهم والاستدراج للإقرار بالحق وقيام الحجة على الخصم. والبينة: البرهان والشاهد بصحة دعواه.
و { رحمة } قال ابن عباس: الرحمة النبوة.
{ فعميت } مبنيا للمفعول مع شد الميم. والظاهر أن الضمير عائد على البينة، وبذلك يحصل الذم لهم من أنه أتى بالمعجزة الجليلة الواضحة وانها على وضوحها واستنارتها خفيت عليهم.
{ أنلزمكموها } تعدى لمفعولين أحدهما ضمير الخطاب. والثاني ضمير الغيبة واتصاله أفصح. ويجوز في الكلام انفصاله فتقول: أنلزمكم إياها.
{ ويقوم لا أسألكم عليه مالا } الآية، تلطف نوح عليه السلام بندائه إياهم بقوله: ويا قوم. ويا قوم استدراجا لهم في قبول كلامه كما تلطف مؤمن آل فرعون بقوله: يا قوم يا قوم. والضمير في عليه عائد على الإنذار. وافراد الله تعالى بالعبادة المفهوم من قوله: اني لكم نذير مبين ان لا تعبدوا إلا الله. وتقدم تفسير الجمل الثلاثة في الانعام.
و { تزدري } تفتعل. والدال بدل من التاء. قال الشاعر:
ترى الرجل النحيف فتزدريه
وفي أنوابه أسد هصور
والعائد على الموصول محذوف، أي تزدريهم، أي تستحقرهم أعينكم.
و { لن يؤتيهم } معمول لقوله: ولا أقول، وللذين معناه لأجل الذين.
{ قد جادلتنا } الظاهر المبالغة في الخصومة والمناظرة.
{ فأتنا بما تعدنآ } إشارة إلى قوله: إني أخاف عليكم عذاب يوم اليم. وبما يجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي. وحذف العائد تقديره بما تعدنا به ويجوز أن تكون مصدرية، أي بوعدك إيانا.
{ قال إنما يأتيكم به الله إن شآء } الآية، أي ليس ذلك إلي، إنما هو لله الذي يعاقبكم على عصيانكم إن شاء فعل. ولما قالوا قد جادلتنا وطلبوا تعجيل العذاب، وكان مجادلته لهم إنما هو على سبيل النصح والإنقاذ من عذاب الله تعالى.
قال: { ولا ينفعكم نصحي } وهذان الشرطان اعتقب الأول منهما قوله: ولا ينفعكم نصحي، وهو دليل على جواب الشرط تقديره إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي. والشرط الثاني اعتقب الأول وجوابه أيضا ما دل عليه قوله: ولا ينفعكم نصحي، تقديره ان كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي وصار الشرط الثاني شرطا في الأول، وصار المتقدم متأخرا، والمتأخر متقدما. وكان التركيب إن أردت أن أنصح لكم ان كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحي وهو من حيث المعنى كالشرط إذا كان بالفاء نحو: إن كان الله يريد أن يغويكم. فإن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي.
[11.35-40]
{ أم يقولون افتراه } الآية، الظاهر أن الضمير في يقولون عائد على قوم نوح، أي بل أيقولون افتراه فيما أخبرهم به من دين الله وعقاب من أعرض عنه. فقال عليه الصلاة والسلام:
" ان افتريته فعلي إجرامي "
، أي إثم إجرامي. والإجرام مصدر أجرم.
{ وأوحي إلى نوح } الآية، { فلا تبتئس } نهاه تعالى عن ابتئاسه وهو حزنه عليهم في استكانة. وابتئس: افتعل من البؤس. ويقال: ابتأس الرجل، إذا أبلغه شىء يكرهه.
قال الشاعر:
وكم من خليل أو حميم رزئته
فلم تبتئس والرزء فيه جليل
{ واصنع } عطف على فلا تبتئس.
{ بأعيننا } بمرأى منا وكلاءة وحفظ.
{ ووحينا } نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع. وعن ابن عباس: لم يعلم كيف صنعه الفلك فأوحى الله تعالى أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.
{ ويصنع الفلك } الآية، هي حكاية حال ماضية. والفلك: السفينة. قال ابن عباس: الخشب من خشب السمسار وهو البقص قطعة من جبل لبنان وسخريتهم منه لكونهم رأوه يبني السفينة ولم يشاهدوا قبلها سفينة بنيت. قالوا: يا نوح ما تصنع؟ قال: أبني بيتا يمشي على الماء. فتعجبوا من قوله وسخروا منه وقالوا: هذا الذي يزعم أنه نبي صار نجارا.
وكلما: ظرف. وما: مصدرية ظرفية تقديره وكل وقت مرور سخروا منه. والناصب لكل سخروا.
{ فسوف تعلمون } تهديد بالغ. والعذاب المخزي: الغرق، والعذاب المقيم: عذاب الآخرة، لأنه دائم عليهم سرمد.
و { من يأتيه } مفعول بتعلمون. ومن موصولة. وتعدي تعلمون إلى واحد استعمالا لها استعمال عرف في التعدية إلى واحد.
قال ابن عطية: وجائز أن تكون التعدية إلى مفعولين واقتصر على واحد. " انتهى ".
ولا يجوز حذف الثاني اقتصارا لأن أصله خبر مبتدأ ولا اختصارا هنا لأنه لا دليل على حذفه. وحتى هنا: غاية لقوله: ويصنع الفلك ويصنع كما قلنا حكاية حال ماضية، أي وكان يصنع الفلك إلى أن جاء الوعد الموعود به. والجملة من قوله: وكلما مر عليه حال كأنه قيل: ويصنعها. والحال أنه كلما مروا وأمرنا واحد الأمور أو مصدر، أي أمرنا بالفوران أو للسحاب بالإرسال والملائكة بالتصرف في ذلك وفار معناه انبعث بقوة والتنور وجه الأرض والعرب تسميه تنورا، قاله ابن عباس. والتنور: مستوقد النار، وزنه فعول عند أبي علي وهو أعجمي وليس بمشتق.
وقال ثعلب: وزنه مفعول من النور. وأصله تنوور، فهمزت الواو ثم خففت وشدد الحرف الذي قبله.
وقرىء: من كل بالتنوين. فيكون زوجين مفعولا بقوله: احمل. وقرىء: بغير تنوين على الإضافة، فيكون اثنين مفعول احمل وأهلك ومن معطوفان على المفعول قبله ولما كان المطر ينزل كأفواه القرب، جعلت الوحوش تطلب وسط الأرض هربا من الماء حتى اجتمعت عند السفينة فأمر الله تعالى أن يجعل فيها من الزوجين اثنين يعني ذكرا وأنثى ليبقى أصل النسل بعد الطوفان. فروي أنه كان يأتيه أنواع الحيوان فيضع يمينه على الذكر ويساره على الأنثى. وكانت السفينة ثلاث طبقات السفلى للوحوش، والوسطى للطعام والشراب، والعليا له ولمن آمن معه.
{ ومآ آمن معه إلا قليل } قال ابن عباس: ثمانون رجلا، وعنه ثمانون إنسانا ثلاثة من بنيه سام وحام ويافث، وثلاثة كنائن له ولما خرجوا من السفينة بنو قرية تدعى اليوم قرية الثمانين بناحية الموصل.
[11.41-47]
{ وقال اركبوا فيها } الآية، الضمير في وقال عائد على نوح عليه السلام، أي وقال نوح حين أمر بالحمل في السفينة لمن آمن معه ومن أمر بحمله اركبوا فيها. والظاهر أنه خطاب لمن يعقل خاصة لأنه لا يليق بمن لا يعقل. وعدي اركبوا بفي لتضمنه معنى صيروا فيها أو ادخلوا فيها، والتقدير اركبوا الماء فيها.
والباء في { بسم الله } في موضع الحال أي متبركين باسم الله. ومجراها ومرساها منصوبان اما على أنهما ظرفا زمان أو مكان لأنهما يجيئان لذلك، أو ظرفا زمان على جهة الحذف كما حذف من جئتك مقدم الحاج.
ويجوز أن يكون مجراها ومرساها مرفوعين على الابتداء. وبسم الله الخبر.
{ وهي تجري بهم } إخبار من الله تعالى بما جرى للسفينة. وبهم حال، أي ملتبسة بهم. والمعنى تجري وهم فيها.
{ في موج كالجبال } أي في موج الطوفان شبه كل موجة منه بجبل في تراكمها وارتفاعها. وقوله: في موج، يدل على أن الموج كان ظرفا لهم، وهم مظروفون فيه وكانت السفينة تسبح بهم في الماء كالسمكة.
{ ونادى نوح ابنه } الآية، الواو لا ترتب وهذا النداء كان قبل جري السفينة في قوله: وهي تجري بهم، وفي إضافته إليه هنا. وفي قوله: ان ابني من أهلي، وندائه دليل على أنه ابنه لصلبه، قاله ابن عباس: والضمير في كان عائد على ابنه.
وأدغم بعض القراء الباء في الميم في اركب معنا، لاشتراكهما في أنهما من حروف الشفة، ولذلك أبدلت في قول بعضهم باسمك، يريدون ما اسمك، ونداؤه بالتصغير خطاب تحنن ورأفة. والمعنى اركب معنا في السفينة فتنجو.
{ ولا تكن مع الكافرين } فتهلك. وظن ابن نوح أن ذلك المطر والتفجر على العادة ولذلك:
{ قال سآوي إلى جبل يعصمني من المآء } أي من وصول الماء إلي فلا أغرق. وهذا يدل على تماديه في الكفر وعدم وثوقه بأبيه فيما أخبر. وقيل: والجبل الذي عناه طور زيتا فلم يمنعه. والظاهر إبقاء عاصم على حقيقته وانه نفي كل عاصم من أمر الله في ذلك الوقت وان من رحم يقع فيه من على المعصوم.
والضمير الفاعل يعود على الله تعالى. وضمير الموصول محذوف ويكون الاستثناء منقطعا، أي لكن من رحمه الله معصوم.
{ وحال بينهما الموج } أي بينه وبين نوح عليه السلام. قيل: كانا يتراجعان الكلام فما استتمت المراجعة حتى جاءت موجة عظيمة وكان راكبا على فرس قد بطر وأعجب بنفسه فالتقمته وفرسه. وحيل بينه وبين نوح فغرق.
{ وقيل يأرض ابلعي مآءك } الآية، في هذه الآية أحد وعشرون نوعا من البديع المناسبة في قوله: اقلعي وابلعي والمطابقة بذكر الأرض والسماء. والمجاز في قوله: يا سماء والمراد مطر السماء.
والاستعارة في قوله: اقلعي. والإشارة في قوله: وغيض الماء فإنها إشارة إلى معان كثيرة، والتمثيل في قوله: وقضي الأمر عبر بإهلاك الهالكين ونجاة الناجين بلفظة فيها بعد عن لفظة الموضوع له، والارداف في قوله: واستوت على الجودي، فقوله: استوت، كلام تام وعلى الجودي مردف قصدا للمبالغة في التمكن بهذا المكان. والتعليل في قوله: وغيض الماء، فإن ذلك علة الاستواء وصحة التقسيم باستيعاب اقسام الماء في حالة نقصه إذ ليس إلا احتباس ماء السماء واحتقان ماء الأرض، وغيض الماء حاصل على ظهرها، والاحتراس في قوله: وبعدا للقوم الظالمين وهو أيضا ذم لهم ودعاء عليهم والإيضاح بقوله: الظالمين بين أنهم هم القوم الذين سبق ذكرهم في قوله:
وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه
[هود: 38]. فالألف واللام في القوم للعهد لو سقط لفظة القوم هنا لحصل لبس في المعنى والمساواة فلفظها مساو لمعناها وحسن النسق لعطف قضايا بعضها على بعض، والإيجاز لذكر القصة باللفظ القصير مستوعبا للمعاني الجمة والتسهيم، لأن أول الآية يا أرض ابلعي، فاقتضى آخرها ويا سماء اقلعي.
والتهذيب لأن مفردات الألفاظ موصوفة بكمال الحسن كل لفظة سهلة مخارج الحروف عليها رونق الفصاحة وحسن البيان والتمكين لأن الفاصلة مستقرة في قرارها.
والتجنيس في قوله: اقلعي وابلعي. والمقابلة في قوله: يا أرض ابلعي ويا سماء اقلعي. والذم في قوله: بعدا للقوم الظالمين. والوصف قصة القصة ووصفها بأحسن وصف بحيث استعمل نعوت ألفاظها وصفات معانيها، فما أعظم إعجازها من آية عدة ألفاظها تسع عشرة لفظة فيها أحد وعشرون نوعا من البديع. والجودي اسم جبل. وهذا النداء والخطاب بالأمر هو استعارة مجازية، وعلى هذا جمهور الحذاق، وقيل: إن الله تعالى أحدث فيهما إدراكا وفهما لمعاني الخطاب. وروي ان إعرابيا سمع هذه الآية فقال هذا كلام القادرين.
ومعنى: { ونادى نوح ربه } الآية، أراد أن يناديه ولذلك أدخل الفاء إذ لو أراد حقيقة النداء والاخبار عن وقوعه منه لم تدخل الفاء في فقال وإلا لسقطت، والواو في هذه الجملة لا ترتب أيضا وذلك أن هذه القصة كانت أولى ما ركب نوح السفينة. ومعنى من أهلي أي الذي أمرت أن أحملهم في السفينة بقوله تعالى:
احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك
[هود: 40] ولم يظن أنه داخل فيمن استثناه الله تعالى بقوله:
إلا من سبق عليه القول
[هود: 40] لظنه أنه مؤمن. وعموم قوله: ومن آمن، يشمل المؤمن من أهله ومن غيرهم.
وحسن الخطاب بقوله: وان وعدك الحق. ومعنى ليس من أهلك على قول من قال انه ابنه لصلبه، أي الناجين، أو الذين عمهم الوعد ومن زعم أنه ربيبه فهو ليس من أهله حقيقة إذ لا نسبة بينه وبينه بولادة فعلى هذا نفى ما قدر أنه داخل في قوله: وأهلك ثم علل انتفاء كونه ليس من أهله.
ب { إنه عمل غير صالح } والضمير في أنه عائد على ابن نوح. وقرىء: عمل غير صالح منونا غير رفعا صفة له فاحتمل قوله: انه أن يكون على حذف مضاف تقديره أي ان عمله عمل غير صالح أو يكون الحذف في عمل تقديره انه ذو عمل غير صالح، أو جعله نفس العمل مبالغة في ذمه.
وقرىء: وعمل فعلا ماضيا وغير منصوب به.
ومعنى قوله: { فلا تسئلن ما ليس لك به علم } أي إذ وعدتك فاعلم يقينا أنه لا خلف في الوعد فإذا رأيت ولدك لم يحمل فكان عليك أن تقف وتعلم أن ذلك لحق واجب عند الله تعالى.
وعلى هذا القدر وقع عتابه ولذلك جاء بترفق وتلطف في قوله:
{ إني أعظك أن تكون من الجاهلين } وان أسألك في المستقبل ما لا علم لي بصحته تأديبا واتعاظا بموعظتك.
[11.48-52]
{ قيل ينوح اهبط بسلام } الآية، القائل هو الله تعالى لقوله: { منا }. وسنمتعهم أمر عند نزوله بالهبوط من السفينة أو من الجبل مع أصحابه للانتشار في الأرض.
والباء للحال أي مصحوبا بسلامة وأمن.
{ وبركات } وهي الخيرات النامية في كل الجهات. والظاهر أن من لابتداء الغاية أي ناشئة من الذين معك وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدهر. ويجوز أن يكون وأمم مبتدأ محذوف الصفة وهي المسوغة لجواز الابتداء بالنكرة. والتقدير وأمم منهم، أي ممن معك، أي ناشئة معك.
ويجوز أن يكون مبتدأ ولا تقدر صفة والخبر سنمتعهم في التقديرين ومسوغ الابتداء كون المكان مكان تفصيل، ويدل على ان الممتعين تقع منهم معاصي فلذلك قال: ثم يمسهم منا عذاب أليم.
{ تلك من أنبآء الغيب } تلك: الإشارة إلى قصة نوح. وتلك: إشارة للبعيد لأن بين هذه القصة والرسول عليه السلام مددا لا تحصى. ومن أنباء الغيب من: للتبعيض، وهو الذي تقادم عهده ولم يبق علمه إلا عند الله تعالى.
و { نوحيهآ إليك } لتكون لك هداية وأسوة فيما لقيه غيرك من الأنبياء ولم يكن علمها عندك ولا عند قومك، وأعلمناهم بها لتكون لهم مثالا وتحذيرا ان يجيئهم ويصيبهم إذا كذبوك ما أصاب أولئك وللحظ هذا المعنى ظهرت فصاحة. قوله: فاصبر، أي فاصبر على أذاهم مجتهدا في التبليغ عن الله تعالى فالعاقبة لك كما كانت لنوح عليه السلام في هذه القصة.
ومعنى ما كنت تعلمها أي مفصلة كما سردناها عليك وعلم الطوفان كان معلوما عند العالم على سبيل الإجمال. والجملة من قوله: ما كنت تعلمها في موضع الحال من مفعول نوحيها أو من مجرور إليك.
{ وإلى عاد أخاهم هودا } الآية، وإلى عاد معطوف على قوله: أرسلنا نوحا، عطفت الواو المجرور على المجرور والمنصوب على المنصوب.
{ إن أنتم إلا مفترون } قال الحسن: في جعلهم الإلهية لغير الله تعالى.
[11.53-60]
{ قالوا يهود ما جئتنا ببينة } أي بحجة واضحة تدل على صدقك وقد كذبوا في ذلك وبهتوه. وعن في عن قولك حال من الضمير في تاركي آلهتنا، كأنه قيل: صادرين عن قولك.
{ إن نقول إلا اعتراك } نسبوا ما صدر منه من دعائهم إلى الله تعالى وإفراده بالألوهية إلى الخبل والجنون وإن ذلك مما اعتراه به بعض آلهتهم لكونه سبها وحرض على تركها، ودعا إلى ترك عبادتها.
واعتراك جملة محكية بنقول فهي في موضع المفعول، ودلت على بله حيث اعتقدوا في حجارة انها تضر وتنتصر وتنتقم.
{ ما من دآبة } الآية، وصف قدرة الله وعظم ملكه من كون كل دابة في قبضته وملكه وتحت قهره وسلطانه فأنتم من جملة أولئك المقهورين.
وقوله: { آخذ بناصيتهآ } تمثيل إذ كان القادر المالك يقود المقدور عليه بناصيته كما يقاد الأسير والفرس بناصيته حتى صار الأخذ بالناصية عرفا في القدرة على الحيوان. وكانت العرب تجر ناصية الأسير الممنون عليه علامة أنه قد قدر عليه وقبض ناصيته.
والظاهر أن الضمير في قوله: تولوا عائد على قوم هود. وخطابه لهم من تمام الجمل المقولة قبل، وتولوا صلة تتولوا حذفت التاء الثانية فصار تولوا.
وجواب الشرط هو قوله: { فقد أبلغتكم } ويصح أن يكون جوابا لأن في إبلاغه إليهم رسالته تضمن ما يحل بهم من العذاب المستأصل فكأنه قيل: فإن تتولوا استؤصلتم بالعذاب. ويدل على ذلك الجملة الخبرية وهي قوله: { ويستخلف ربي قوما غيركم }.
{ ولما جآء أمرنا نجينا هودا } الآية، قيل: كانوا أربعة آلاف. وقيل: ثلاثة آلاف.
والظاهر تعلق { برحمة منا } بقوله: نجينا أي نجيناهم بمجرد رحمة من الله لحقتهم لا بأعمالهم الصالحة.
وقال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟ قلت: ذكر أولا أنه حين أهلك عدوهم نجاهم، ثم قال: ونجيناهم من عذاب غليظ، على معنى وكانت التنجية من عذاب غليظ. قال: وذلك ان الله تعالى بعث عليهم السموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم وتقطعهم عضوا عضوا.
{ وتلك عاد } إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قيل: سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا. ثم استأنف الاخبار عنهم فقال: جحدوا بها، أي بآيات ربهم أي أنكروها. وأضاف الآيات إلى ربهم تنبيها على أنه مالكهم ومربيهم فأنكروا آياته، والواجب إقرارهم بها وأصل جحد أن يتعدى بنفسه لكنه أجري مجرى كفر فعدي بالباء كما عدي كفر بنفسه.
{ وعصوا رسله } قيل: عصوا هودا والرسل الذين كانوا من قبله وقيل: ينزل تكذيب الرسل الواحد منزلة تكذيب الرسل لأنهم كلهم مجمعون على الإيمان بالله والإقرار وبربوبيته لقوله:
لا نفرق بين أحد من رسله
[البقرة: 285].
{ واتبعوا } أي سقاطهم أمر رؤسائهم وكبرائهم. والمعنى أنهم أطاعوهم فيما أمروهم به.
{ وأتبعوا } عام في المتبعين والمتبوعين. وانتصب بعدا على أنه مصدر بمعنى الدعاء كأنه قيل: أبعدهم الله بعدا, ومعناه الدعاء بالهلاك وقوم هود بدل من عاد. وإنما خصهم بالذكر لأن ثم عادا أخرى وهم المشار إليهم بقوله تعالى:
وأنه أهلك عادا الأولى
[النجم: 50] وهم عاد آدم.
[11.61-65]
{ وإلى ثمود أخاهم صالحا } الآية.
{ هو أنشأكم } اخترعكم.
{ من الأرض } أي باختراع آدم عليه السلام أصلهم فكان إنشاء الأصل إنشاء للفرع.
{ واستعمركم } جعلكم عمارا. وقيل: استعمركم من العمر، أي استبقاكم فيها.
{ إن ربي قريب } أي داني الرحمة.
{ مجيب } لمن دعاه.
{ قد كنت فينا مرجوا } قال كعب: كانوا يرجونه للمملكة بعد ملكهم لأنه كان ذا حسب وثروة.
وعن ابن عباس: كان فاضلا خيرا نقدمك على جميعنا. والإشارة بهذا إلى الأمر بعبادة الله تعالى وإفراده بها.
{ ما يعبد آباؤنا } حكاية حال ماضية. وفي اننا لغتان لقريش. قال الفراء: من قال اننا اخرج الحرف على أصله لأنه كناية المتكلمين فاجتمعت ثلاث نونات. ومن قال: انا استثقل اجتماعها فأسقط الثالثة وأبقى الأولتين.
والذي اختاره ان نا ضمير المتكلمين لا تكون المحذوفة، لأن في حذفها حذف بعض اسم وهي منه حرف ساكن. وإنما المحذوفة النون الثانية من أن، فحذفت لاجتماع الأمثال وبقي من الحرف الهمزة والنون الساكنة بعد هذا أولى من حذف ما بقي منه حرف. وأيضا فقد عهد حذف هذه النون مع غير ضمير المتكلمين ولم يعهد حذف نون نا فكان حذفها من أن أولى. ومريب اسم فاعل من متعد، أرابه: أوقعه في الريبة، وهي قلق النفس وانتفاء الطمأنينة. أو: من لازم اراب الرجل إذا كان ذا ريبة. فأسند ذلك إلى الشك إسنادا مجازيا، ووجود هذا الشك كوجود التصميم على الكفر.
{ قال يقوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي } الآية، تقدم الكلام على أرأيتم في قصة نوح عليه السلام.
{ غير تخسير } غير أن أخسركم، أي أنسبكم إلى الخسران وأقول انكم خاسرون ففعل هذا للنسبة كفسقته وفجرته، أي نسبته إلى الفسق والفجور.
قال الزمخشري: فإن قلت: فبم يتعلق لكم؟ قلت: بآية حالا منها متقدمة لأنها لو تأخرت لكانت صفة لها، فلما تقدمت انتصبت على الحال. " انتهى ".
هذا متناقض لأنه من حيث تعلق لكم بآية كان لكم معمولا لآية وإذا كان معمولا لها امتنع أن يكون حالا منها لأن الحال يتعلق بمحذوف فيتناقض هذا الكلام لأنه من حيث كونه معمولا لها كانت هي العاملة ومن حيث كونه حالا منها كان العامل غيرها.
ومعنى { تمتعوا } استمتعوا بالعيش.
{ في داركم } في بلدكم. وتسمى البلاد: الديار.
{ ذلك } أي الوعد بالعذاب.
{ غير مكذوب } أي صدق حق. والأصل غير مكذوب فيه فاتسع فيه بحذفه حرف الجر وأجري الضمير مجرى المفعول به.
[11.66-73]
{ فلما جآء أمرنا نجينا صالحا } الكلام في جاء أمرنا كالكلام السابق في قصة هود. ومن تتعلق بمحذوف، أي ونجيناهم من خزي أي وكانت التنجية من خزي يومئذ. وقرىء: ومن خزي بالتنوين ونصب يومئذ على الظرف معمولا لخزي، وقرىء: بالاضافة وفتح الميم والتنوين في إذ تنوين عوض من الجملة المحذوفة المتقدمة الذكر أي ومن فضيحة يومئذ جاء الأمر وحل بهم.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يريد بيومئذ يوم القيامة كما فسر العذاب الغليظ بعذاب الآخرة " انتهى ". وهذا ليس بجيد لأن التنوين في إذ تنوين عوض ولم تتقدم إلا قوله: فلما جاء أمرنا، ولم يتقدم جملة فيها ذكر يوم القيامة ولا ما يكون فيها فيكون هذا التنوين عوضا من الجملة التي تكون يوم القيامة. وناسب مجيء الأمر وصفه تعالى بالقوي العزيز فإنهما من صفات الغلبة والقهر والانتقام. والجملة التي بعد هذا تقدم الكلام عليها في الاعراف.
{ ولقد جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى } الآيات أدرج شيئا من اخبار إبراهيم عليه السلام بين قصة صالح ولوط لأن له مدخلا في قصة لوط وكان إبراهيم ابن خالة لوط والرسل هنا الملائكة بشرت إبراهيم عليه السلام بثلاث بشائر بالولد والخلة وبانجاء لوط ومن آمن معه. قيل: كانوا اثني عشر ملكا، قاله ابن عباس. وانتصب سلاما على إضمار الفعل أي سلمنا عليك سلاما، فسلاما قطعة معمولا للفعل المضمر المحكي بقالوا، وسلام خبر مبتدأ محذوف أي أمري وأمركم سلام أو مبتدأ محذوف الخبر أي عليكم سلام، والجملة محكية وان كان حذف منها أحد جزءيها.
{ فما لبث } من: نافية. ولبث: معناه تأخر وأبطأ وان جاء فاعل بلبث التقدير فما تأخر مجيئه ان جاء، ويجوز أن يكون في لبث ضمير إبراهيم فهو فاعل وإن جاء على إسقاط الحرف فقدر بأن وبعن وبفي وهذا من أدب الضيافة، وهو تعجيل القرى وكان مال إبراهيم البقر فقدم أحسن ما فيه وهو العجل.
ومعنى: { حنيذ } أي مشوي.
{ لا تصل إليه } أي إلى أكله.
{ نكرهم } أي أنكرهم قال الشاعر:
وأنكرتني وما كان الذي نكرت
من الحوادث إلا الشيب والصلعا
{ وأوجس منهم خيفة } قال الحسن: حدث به نفسه. والظاهر أنه لم يعرف أنهم ملائكة لمجيئهم في صورة البشر وكان مشغوفا باكرام الضيف فلذلك جاؤا في صورهم وإنما عرف أنهم ملائكة بقولهم: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط وامرأته قائمة، وهي سارة بن هاران بن تاخور وهي ابنة عمه. قائمة أي لخدمة الأضياف وكان نساؤهم لا يحتجبن كعادة العرب ونازلة البوادي والصحراء ولم يكن التبرج مكروها عندهم وكانت عجوزا وخدمة الضيفان مما يعد من مكارم الأخلاق.
{ فضحكت } قال مجاهد حاضت.
وقال الجمهور: هو الضحك المعروف. فقيل: هو مجاز معبر به عن طلاقة الوجه وسروره بنجاة أخيها وهلاك قومه.
{ فبشرناها } هذا موافق لقوله تعالى: { ولقد جآءت رسلنآ إبراهيم بالبشرى } والمعنى فبشرناها على لسان رسلنا بشرتها الملائكة بإسحاق وبأن إسحاق سيلد يعقوب.
{ يويلتى } الألف في يا ويلتا بدل من ياء الإضافة، ويا ويلتا كلمة تخف على أفواه النساء إذا طرأ عليهن ما يتعجبن منه واستفهمت بقولها: أألد، استفهام إنكار وتعجب.
{ وأنا عجوز } وما بعده جملتا حال.
وانتصب: { شيخا } ، على الحال. والإشاره بهذا أي بعلي تعجب من حدوث ولد بين شيخين هرمين واستغربت ذلك من حيث العادة لا إنكارا لقدرة الله تعالى.
{ قالوا } أي الملائكة.
{ أتعجبين } استفهام انكار لعجبها.
[11.74-80]
{ فلما ذهب عن إبراهيم الروع } أي الخيفة التي كان أوجبها في نفسه حين نكر أضيافة والمعنى اطمأن قلبه بعلمه أنهم ملائكة، والبشرى تبشيره بالولد أو بأن المراد بمجيئهم غيره. وجواب لما محذوف تقديره اجترأ على الخطاب، ودل على ذلك الجملة المستأنفة وهي يجادلنا.
{ يإبرهيم أعرض عن هذآ } أي قالت الملائكة. والإشارة بهذا إلى الجدال والمحاورة في شىء مفروغ منه والأمر ما قضاه وحكم به من عذابه الواقع بهم لا محالة.
{ ولما جآءت رسلنا لوطا سيء بهم } الآية، خرجت الملائكة من قرية إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى قرية لوط عليه السلام وبينهما ثمانية أميال، وقيل: أربعة فراسخ فأتوها عشاء وقيل: نصف النهار، وجدوا لوطا عليه السلام في حدث له. وقيل: وجدوا ابنته تسقي ماء في نهر سدوم وهي أكبر حواضر قوم لوط فسألوها الدلالة على من يضيفهم ورأت هيئتهم فخافت عليهم من قوم لوط، وقالت لهم: مكانكم، وذهبت إلى أبيها فأخبرته فخرج إليهم فقالوا: إنا نريد أن تضيفنا الليلة، فقال لهم: أو ما سمعتم بعمل هؤلاء القوم؟ فقالوا: وما عملهم؟ فقال: أشهد بالله أنهم شر قوم في الأرض وقد كان الله تعالى قال للملائكة: لا تعذبوهم حتى يشهد عليهم لوط أربع شهادات. فلما قال هذه قال جبريل عليه الصلاة والسلام: هذه واحدة وتردد القول منهم حتى كرر لوط الشهادة أربع مرات ثم دخل لوط المدينة فحينئذ سىء بهم أي لحقه سوء بسببهم وضاق ذرعه بهم.
{ وقال هذا يوم عصيب } أي شديد لما كان يتخوفه من تعدي قومه على أضيافه.
{ وجآءه قومه يهرعون إليه } لما جاء لوط بضيفه لم يعلم بذلك أحد إلا أهل بيته فخرجت امرأته حتى أتت مجالس قومها فقالت: ان لوطا أضاف الليلة قوما ما رؤي مثلهم جمالا وكذا وكذا فحينئذ جاؤا يهرعون أي يسرعون كأنما يدفعون دفعا فعل الطامع الخائف فوت ما يطلبه.
{ ومن قبل كانوا يعملون السيئات } أي كان ذلك دينهم وعادتهم أصروا على ذلك ومردوا عليه فليس ذلك بأول إنشاء هذه المعصية جاؤا يهرعون إليه لا يكفهم حياء لضراوتهم عنها. والتقدير في ومن قبل، أي من قبل مجيئهم إلى هؤلاء الأضياف وطلبهم إياهم.
{ هؤلاء بناتي } الأحسن أن تكون الإضافة مجازية، أي بنات قومي أي البنات.
{ أطهر لكم } إذ النبي ينزل منزلة الأب لقومه. وقرىء: أطهر على الحال. فقيل: هؤلاء مبتدأ وخبر وهن مبتدأ ولكم خبره. قيل: والعامل المضمر. وقيل: لكم بما فيه من معنى الاستقرار. وقيل: هؤلاء بناتي مبتدأ وخبر وهن فصل وأطهر حال، ورد بأن الفصل لا يقع إلا بين جزيء الجملة ولا يقع بين الحال وذي الحال وقد أجاز ذلك بعضهم وادعى السماع فيه من العرب لكنه قليل.
{ قال لو أن لي بكم قوة } قال ذلك على سبيل التفجع. وجواب لو محذوف تقديره لفعلت بكم وصنعت. والظاهر أن لو عطف جملة فعلية على جملة فعلية.
[11.81-87]
{ قالوا يلوط إنا رسل ربك } الآية، روي أن لوطا عليه الصلاة والسلام غلبوه وهموا بكسر الباب وهو يمسكه قال له الرسل: تنح عن الباب فتنحى فانفتح الباب فضربهم جبريل عليه السلام بجناحه فطمس أعينهم فعموا وانصرفوا على أعقابهم يقولون النجاة النجاة فعند لوط قوم سحرة وتوعدوا لوطا فحينئذ قالوا له: إنا رسل ربك، الآية.
والجملة من قوله: { لن يصلوا إليك } موضحة للذي قبلها لأنهم إذا كانوا رسل الله لم يصلوا إليه ولم يقدروا على ضرره ثم أمروه بأن يسري بأهله. وقرىء: فأسر بالوصل وبالهمز.
{ بقطع من الليل } قال ابن عباس: بطائفة من الليل.
وقرىء: { إلا امرأتك } بالنصب وهو استثناء من فاسر بأهلك، وبالرفع بدل من قوله: أحد. قال الزخشري: وفي إخراجها مع أهله روايتان روي أنه أخرجها معهم وأمر أن لا يلتفت منهم أحد إلا هي فلما سمعت هدة العذاب التفتت وقالت: واقوماه فأدركها حجر فقتلها، وروي انه أمر بأن يخلفها مع قومها وان هواها إليهم ولم يسر بها. واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين. " انتهى ". وهذا وهم فاحش إذ بني القراءتين على اختلاف الروايتين من أنه سري بها أو أنه لم يسر بها وهذا تكاذب في الاخبار يستحيل أن تكون القراءتان وهما من كلام الله تعالى يترتبان على التكاذب.
والضمير: { إنه } ، ضمير الشأن.
و { مصيبها } مبتدأ.
و { مآ أصابهم } الخبر.
{ إن موعدهم الصبح } أي موعد هلاكهم الصبح. وجعل ميقاتا لهلاكهم لأن النفوس فيه أودع والراحة فيه أجمع. ويروى أن لوطا عليه السلام خرج بابنتيه ليس معه غيرهما عند طلوع الفجر وطوى الله له الأرض في وقته حتى نجا ووصل إلى إبراهيم عليه السلام.
والضمير في: { عاليها } عائد على مدائن قوم لوط جعل جبريل عليه السلام جناحه في أسفلها ثم رفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها عليهم واتبعوا الحجارة من فوقهم وهي المؤتفكات سبع مدائن. وقيل: خمس، عدها المفسرون وفي ضبطها اشكال.
{ وأمطرنا عليها } أي على أهلها. وروي أن الحجارة أصابت منهم من كان خارج مدنهم حتى قتلهم أجمعين وان رجلا كان في الحرم فبقي الحجر معلقا في الهواء حتى خرج من الحرم فقتله الحجر.
{ وإلى مدين أخاهم شعيبا } الآية، كان قوم شعيب عبدة أوثان فدعاهم إلى عبادة الله تعالى وحده وبالكفر استوجبوا العذاب ولم يعذب الله أمة عذاب استئصال إلا بالكفر وان انضافت إلى ذلك معصية كانت تابعة. قال ابن عباس: بخير أي في رخص الأسعار يوم محيط أي مهلك من قوله: وأحيط بثمره، وأصله من إحاطة العدو وهو العذاب الذي حل بهم في آخر. ووصف اليوم بالإحاطة أبلغ من وصف العذاب به، لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه.
{ قالوا يشعيب أصلوتك } الآية، لما أمرهم شعيب عليه السلام بعبادة الله تعالى وترك عبادة أوثانهم وبإيفاء الكيل والميزان ردوا عليه على سبيل الاستهزاء والهزؤ بقولهم: أصلاتك وكان كثير الصلاة وكان إذا صلى تغامزوا وتضاحكوا.
{ أن نترك ما يعبد ءاباؤنآ } مقابلة لقوله: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره.
{ أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء } مقابل لقوله: ولا تنقصوا المكيال والميزان وكون الصلاة آمرة هو على وجه المجاز كما كانت ناهية في قوله:
إن الصلاة تنهى عن الفحشآء والمنكر
[العنكبوت: 45]. أو يقال: انها تأمر بالجميل والمعروف، أي تدعو إليه وتبعث عليهم. إلا أنهم ساقوا الكلام مساق الطنز وجعلوا الصلاة آمرة على سبيل التهكم بصلاته. والمعنى تأمرك بتكليفنا أن نترك فحذف المضاف لأن الإنسان لا يؤمر بفعل غيره. والظاهر أنه أريد بالصلاة الصلاة المعهودة في تلك الشريعة.
{ إنك لأنت الحليم الرشيد } ظاهره أنه إخبار منهم على سبيل الاستهزاء والتهكم.
[11.88-99]
{ قال يقوم أرأيتم } هذه مراجعة لطيفة واستنزال حسن واستدعاء برفق ولذلك قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" ذلك خطيب الأنبياء "
وهذا النوع يسمى استدراج المخاطب عند أرباب علم البيان وهو نوع لطيف غريب المعنى والمغزى يتوصل به إلى بلوغ الغرض.
قال الزمخشري: فإن قلت: أين جواب أرأيتم وما لم يثبت كما ثبت في قصة نوح وصالح؟.
قلت: جوابه محذوف وإنما لم يثبت لأن إثباته في القصتين دل على مكانه. ومعنى الكلام ينادي عليه، والمعنى أخبروني إن كنت على حجة واضحة ويقين من ربي وكنت نبيا على الحقيقة أنصح لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان والكف عن المعاصي والأنبياء لا يبعثون إلا كذلك " انتهى ".
وتسمية هذا جوابا لا رأيتم ليس بالمصطلح بل هذه الجملة التي قدرها هي في موضع المفعول الثاني لأرأيتم لأن أرأيتم إذا ضمنت معنى أخبرني تعدت لمفعولين، والغالب في الثاني أن يكون جملة استفهامية ينعقد منها ومن المفعول الأول في الأصل جملة ابتدائية كقول العرب: أرأيتم زيدا ما صنع.
قال ابن عطية: وجواب الشرط الذي في قوله:
{ إن كنت على بينة } محذوف تقديره أضل كما ضللتم، أو أترك تبليغ الرسالة، ونحو هذا مما يليق بهذه المحاجة. " انتهى ". وليس قوله: أضل جوابا للشرط لأنه إن كان مثبتا فلا يمكن أن يكون جوابا لأنه لا يترتب على الشرط وإن كان استفهاما حذف منه الهمزة فهو في موضع المفعول الثاني لأرأيتم، وجواب الشرط محذوف يدل عليه الجملة السابقة مع متعلقها.
قال الزمخشري: ما استطعت يجوز فيه وجوه أحدها: أن يكون بدلا من الإصلاح أي المقدار الذي استطعته، أو على حذف مضاف تقديره إلا الإصلاح إصلاح ما استطعت فهذان وجهان في البدل، والثالث: أن تكون مفعولا كقوله:
ضعيف النكاية أعداءه
أي ما أريد إلا أن أصلح ما استطعت إصلاحه من فاسدكم. " انتهى ".
هذا الثالث ضعيف لأن المصدر المعرف بأل لا يجوز أعماله في المفعول به عند الكوفيين، واما البصريون فاعماله عندهم فيه قليل.
ومعنى: { لا يجرمنكم } يسكبنكم.
{ شقاقي } أي خلاقي وعدواتي وشقاقي فاعل. يجرمنكم وان يصيبكم مفعول ثان ليجرمنكم ومثل مرفوع به.
{ وما قوم لوط منكم ببعيد } أما في الزمان لقرب عهد هلاكهم من عهدكم إذ هم أقرب الهالكين.
{ قالوا يشعيب } كانوا لا يلقون إليه أذهانهم رغبة عنه وكراهة له أو قالوا ذلك على وجه الاستهانة به.
{ ولولا رهطك } احترموه لرهطه إذ كانوا كفارا مثلهم وكان في عزة ومنعة منهم.
{ لرجمناك } ظاهره القتل وبالحجارة وهي شر القتلات.
{ ومآ أنت علينا بعزيز } أي بذي منعة علينا.
والظاهر في قوله: واتخذتموه ان الضمير عائد على الله تعالى أي ونسيتموه وجعلتموه كالشىء المنبوذ وراء الظهر لا يعبأ به والظهرى بكسر الظاء منسوب إلى الظهر من تغييرات النسب ونظيره قولهم في النسب إلى أمس أمسى بكسر الهمزة.
{ ويقوم اعملوا } تقدم تفسير نظيره. قال الزمخشري: فإن قلت: قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته، ثم اتبعه ذكر عاقبة العاملين منه ومنهم فكان القياس أن يقول: من يأتيه عذاب يخزيه، ومن هو صادق حتى ينصرف من يأتيه عذاب يخزيه إلى الجاحدين ومن هو صادق إلى النبي المبعوث إليهم. قلت: القياس ما ذكرت ولكنهم لما كانوا يعودونه كاذبا قال: ومن هو كاذب يعني في زعمكم ودعواكم تجهيلا لهم. " انتهى ".
وفي ألفاظ هذا الرجل سوء أدب والذي قاله ليس بقياس لأن التهديد الذي وقع ليس بالنسبة إليه ولا هو داخل في التهديد المراد بقوله: سوف تعلمون إذ لم يأت التركيب اعملوا على مكانتكم واعمل على مكانتي ولا سوف تعلمون واعلم وإنما التهديد مختص بهم واستسلف الزمخشري قوله: قد ذكر عملهم على مكانتهم وعمله على مكانته فبني على ذلك سؤالا فاسدا لأن المترتب على ما ليس مذكورا لا يصح البتة وجميع الآية والتي قبلها إنما هي بالنسبة إليهم على سبيل التهديد ونظيره في سورة تنزيل فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم. فهذا جاء بالنسبة للمخاطبين في قوله: قل يا قوم اعملوا على مكانتكم، كما جاء هنا.
{ من يأتيه } من يجوز أن تكون موصولة مفعولة بقوله: تعلمون، أي تعلمون الشقي الذي يأتيه عذاب يخزيه والذي هو كاذب. ويجوز أن تكون استفهامية في موضع رفع على الابتداء. وتعلمون معلق كأنه قيل أينا يأتيه عذاب يخزيه وأينا هو كاذب.
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } الآية: المعجزات التسع وهي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، ونقص من الأموال والأنفس، والثمرات، ومنهم من أبدل النقص بإظلال الجبل. وقيل: الآيات التوراة، وهذا ليس بسديد لأنه قال: إلى فرعون وملائه، والتوراة إنما أنزلت بعد هلاك فرعون وملائه. والسلطان المبين: هو الحجة الواضحة.
{ يقدم قومه يوم القيامة } يقال: قدم زيد القوم يقدم قدما وقدوما يقدمهم والمعنى يقدم قومه المغرقين وعدل إلى النار كما كان قدوة في الضلال متبعا كذلك يتقدمهم إلى النار وهم يتبعونه وعدل عن فيوردهم إلى فأوردهم لتحقق وقوعه لا محالة، فكأنه قد وقع ولما في ذلك من الإرهاب والتخويف والهمزة فأوردهم للتعدية ورد يتعدى إلى واحد فلما أدخل الهمزة تعدى إلى اثنين فتضمن واردا ومورودا. ويطلق الورد على الوارد فالورد لا يكون المورود فاحتيج إلى حذف ليطابق فاعل بئس المخصوص بالذم فالتقدير وبئس مكان الورد المورود. ويعني به النار، فالورد فاعل ببئس والمخصوص بالذم المورود وهي النار.
قال ابن عطية: والمورود صفة للورد، أي بئس مكان الورد المورود النار، ويكون المخصوص محذوفا لفهم المعنى كما حذف في قوله:
وبئس المهاد
[آل عمران: 12، 197]. " انتهى ".
هذا التخريج يبنى على جواز وصف فاعل نعم وبئس وفيه خلاف ذهب ابن السراج والفارسي إلى أن ذلك لا يجوز.
وقال الزمخشري: بئس الرفد المرفود رفدهم أي بئس العون المعان، وذلك أن اللعنة في الدنيا رفد للعذاب ومدد له وقد رفدت باللعنة في الآخرة. وقيل: بئس العطاء المعطي. " انتهى ".
ويظهر من كلامه أن المرفود صفة للرفد وأن المخصوص بالذم محذوف تقديره رفدهم وما ذكره من تفسيره، أي بئس العون المعان هو قول أبي عبيدة، وسمي العذاب رفدا على نحو قوله:
تحية بينهم ضرب وجيع
وقال الكلبي: الرفد الرفادة أي بئس ما يرفدون به بعد الغرق النار.
[11.100-108]
{ ذلك من أنبآء القرى } الآية، الإشارة بذلك إلى ما تقدم من ذكر الأنبياء وقومهم وما حل بهم من العقوبات أي ذلك النبأ بعض أنباء القرى. والضمير في منها عائد على القرى. قال ابن عباس: قائم عامر وحصيد داثر. قال الزمخشري: فإن قلت: ما محل هذه الجملة؟ قلت: هي مستأنفة لا محل لها. " انتهى ".
وقال أبو البقاء: منها قائم مبتدأ وخبر في موضع الحال من الهاء في نقطة. وحصيد مبتدأ خبره محذوف أي ومنها حصيد. " انتهى ".
وما ذكره أبو البقاء يجوز أي نقصه عليك وحال القرى ذلك فالحال أبلغ في التخويف وضرب المثل للحاضرين أي نقص عليك نقص أنباء القرى وهي على هذه الحال يشاهدون فعل الله تعالى بها.
{ فما أغنت عنهم } ما نافية أو استفهامية بمعنى أي شىء.
{ التي يدعون } وغير تتبيب أي غير تخسير.
{ وكذلك أخذ ربك } الآية، أي ومثل ذلك الأخذ أخذ الله الأمم السابقة أخذ ربك. والقرى عام في القرى الظالمة، والظلم: يشمل ظلم الكفر وغيره. ذلك إشارة إلى يوم القيامة الدال عليه قوله عذاب الآخرة، والناس مفعول لم يسم فاعله رافعه مجموع. وأجاز ابن عطية أن يكون الناس مبتدأ ومجموع خبر مقدم وهو بعيد لإفراد الضمير في مجموع وقياسه على إعرابه مجموعون ومجموع له الناس عبارة عن الحشر. " ومشهود " عام يشهده الأولون والآخرون من الإنس والجن والملائكة والحيوان.
{ وما نؤخره } أي ذلك اليوم. وقيل: يعود على الجزاء.
{ إلا لأجل معدود } أي القضاء السابق قد نفذ بأجل محدود لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه. والظاهر أن الفاعل بيأتي ضمير يعود على ما عاد عليه الضمير في نؤخره، وهو قوله: ذلك يوم، والناصب له لا تكلم والمعنى لا تكلم نفس يوم يأتي ذلك اليوم إلا بإذنه تعالى وذلك من عظم المهابة والهول في ذلك اليوم.
{ فأما الذين شقوا ففي النار } الآية، الزفير: أول نهيق الحمار، والشهيق: آخره. وانتصاب خالدين على أنها حال مقدرة. وما: مصدرية ظرفية، أي مدة دوام السماوات والأرض، والمراد بهذا التوقيت التأكيد كقول العرب: ما أقام ثبير وما لاح كوكب وضعت العرب ذلك للتأبيد من غير نظر لفناء ثبير أو الكوكب أو لعدم فنائهما.
[11.109-115]
{ فلا تك في مرية } الآية، لما ذكر تعالى قصص عبدة الأوثان من الأمم السالفة واتبع ذلك بذكر أحوال الأشقياء والسعداء شرح لرسول الله صلى الله عليه وسلم أحوال الكفار من قومه وأنهم متبعوا اياتهم. كحال من تقدم من الأمم السالفة في اتباع آبائهم في الضلال. وهؤلاء إشارة إلى مشركي العرب باتفاق وان ديدنهم كديدن الأمم الماضية. في التقليد والعمى عن النظر في الدلائل والحجج. وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعدة بالانتقام منهم إذ حالهم في ذلك حال الأمم السالفة والأمم السالفة قد قصصنا عليك ما جرى لهم من سوء العاقبة والتشبيه في قوله: كما يعيد، معناه أن حالهم في الشرك مثل حال آبائهم من غير تفاوت وقد بلغك ما نزل باسلافهم فسينزل بهم مثله وما يعبدون استئناف جرى مجرى التعليل للنهي عن المرية مما كان يحتمل أن تكون مصدرية وبمعنى الذي والنصيب هنا.
قال ابن عباس: ما قدر لهم من خير وشر. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف نصب غير منقوص حالا عن النصيب الموفي؟ قلت: يجوز أن يوفي وهو ناقص، ويوفي وهو كامل، ألا تراك تقول: وفيته شطر حقه وثلث حقه وحقه كاملا وناقصا. " انتهى ".
وهذه مغلطة إذ قال: وفيته شطر حقه فالتوفية وقعت في الشطر وكذا ثلث حقه، فالمعنى أعطيته الشطر أو الثلث كاملا لم أنقصه عنه شيئا، وأما قوله: وحقه كاملا وناقصا أما كاملا فصحيح وهي حال مؤكدة لأن التوفية تقتضي الاكمال، واما وناقصا فلا يقال: المنافاة التوفية. والخطاب في فلا تك متوجه إلى من داخله الشك لا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، والمعنى والله أعلم قل يا محمد لمن شك لا تك في مرية مما يعبد هؤلاء فإن الله لم يأمرهم بذلك وإنما اتبعوا في ذلك آبائهم تقليدا لهم وإعراضا عن حجج العقول.
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } الآية، والكتاب: التوراة، فاختلفوا فيه فقبله بعض وأنكره بعض. والظاهر عود الضمير في فيه على الكتاب لقربه. ويجوز أن يعود على موسى عليه السلام ويلزم من الاختلاف في أحدهما الاختلاف في الآخر.
{ وإن كلا لما ليوفينهم } الآية، الظاهر عموم كل وشموله للمؤمن والكافر. وقرىء: وإن كلا بالتشديد وكلا اسمها. وقرىء: وان بالتخفيف وكلا اسمها وأعمالها مخففة ثابت في لسان العرب، ففي كتاب سيبويه ان زيد المنطلق بتخفيف ان. وقرىء: لما بتخفيف الميم فاللام هي الداخلة في خبر ان المخففة والمشددة، وما زائدة واللام في ليوفينهم جواب قسم محذوف، وذلك القسم في موضع خبر ان وليوفينهم جواب القسم المحذوف فالتقدير وان كلا لأقسم ليوفينهم. وقرىء: لما بالتشديد وهي لما الجازمة حذف الفعل المجزوم لدلالة المعنى عليه وتقديره وان كلا لما ينقص من جزاء عمله، ويدل على قوله تعالى: { ليوفينهم ربك أعمالهم } لما اخبر بانتفاء نقص جزاء أعمالهم أكده بالقسم قالت العرب: قاربت المدينة ولما يريدون ولما أدخلها لدلالة المعنى عليه.
{ فاستقم كمآ أمرت } الآية، أمر بالاستقامة وهو عليها وهو أمر بالدوام والثبوت، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين تابوا من الكفر ولسائر الأمة بالمعنى، وأمرت مخاطبة تعظيم واستفعل هنا للطلب أي اطلب الإقامة على الدين كما تقول: استغفر، أي اطلب الغفران. ومن تاب معك معطوف على الضمير المستكن في فاستقم وأغنى الفاصل عن التوكيد.
{ ولا تطغوا } قال ابن عباس: في القرآن فتحلوا وتحرموا ما لم آمركم به.
{ ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } قال ابن عباس: ومعنى الركون الميل.
{ فتمسكم } جواب للنهي منصوب بإضمار ان بعد الفاء كقوله تعالى :
لا تفتروا على الله كذبا فيسحتكم بعذاب
[طه: 61]. " انتهى ".
{ وأقم الصلاة طرفي النهار } الآية، سبب نزولها ما في صحيح مسلم من حديث الرجل الذي عالج امرأة أجنبية منه فأصاب منها ما سوى إتيانها فنزلت وانظر إلى الأمر والنهي في هذه الآيات حيث جاء الخطاب في الأمر فاستقم كما أمرت وأقم الصلاة موحدا في الظاهر وان كان المأمور به من حيث المعنى عاما. وجاء الخطاب في النهي ولا تطغوا ولا تركنوا موجها إلى غير الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطبا به أمته فحيث كان الأمر بأفعال الخير توجه الخطاب إليه وحيث كان النهي عن المحظورات عدل عن الخطاب عنه إلى غيره من أمته وهذا من جليل الفصاحة ولا خلاف أن المأمور بإقامتها هي الصلاة المكتوبة وإقامتها دوامها. وانتصب طرفي النهار على الظرف وطرف الشىء يقتضي أن يكون من الشىء فالذي يظهر أنهما الصبح والعصر لأنهما طرفا النهار، والزلف مثل المغرب والعشاء. والظاهر أن الإشارة بقوله: ذلك، إلى أقرب مذكور وهو قوله: أقم الصلاة، أي إقامتها في هذه الأوقات ذكرى، أي سبب عظة. وتذكرة للذاكرين، أي المتعظين.
[11.116-123]
{ فلولا كان من القرون } الآية، لولا هنا للتحضيض صحبها معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد. والقرون: قوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره. والبقية هنا يراد بها الخير والنظر إلا قليلا استثناء منقطع أي لكن قليل من أنجينا منهم نهوا عن الفساد وهم قليل بالإضافة إلى جماعاتهم. والظاهر أن الذين ظلموا هم تاركوا النهي عن الفساد. وما أترفوا فيه، أي نعموا فيه من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش النهي ورفضوا ما فيه صلاح دينهم.
{ وكانوا مجرمين } أي ذوي جرائم غير ذلك. قال الزمخشري: إن كان معناه واتبعوا الشهوات كان معطوفا على مضمر لأن المعنى إلا قليلا ممن أنجينا منهم نهوا عن الفساد في الأرض واتبع الذين ظلموا شهواتهم فهو عطف على نهوا وإن كان معناه واتبعوا جزاء الإتراف، فالواو للحال كأنه قيل: أنجينا القليل وقد اتبع الذين ظلموا جزاءهم وكانوا مجرمين لأن تابع الشهوات مغمور بالآثام. " انتهى ".
جعل ما في قوله: ما أترفوا فيه، مصدرية ولهذا قدره اتبعوا، والظاهر أنها بمعنى الذي لعود الضمير في فيه عليها. وأجاز أيضا أن يكون معطوفا على اتبعوا، أي اتبعوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك. وأجاز أيضا أن يكون اعتراضا وحكما عليهم بأنهم قوم مجرمون. " انتهى ".
ولا يسمى هذا اعتراضا في اصطلاح النحويين لأنه آخر آية فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر.
{ وما كان ربك ليهلك القرى } الآية، تقدم تفسير شبه هذه الآية في الانعام إلا أن هنا ليهلك وهي آكد في النفي لأنه على مذهب الكوفيين زيدت اللام في خبر كان على سبيل التوكيد وعلى مذهب البصريين توجه النفي إلى الخبر المحذوف المتعلق به اللام تقديره مريدا الإهلاك للقرى. قال ابن عطية: المعنى وما كان ربك ليهلك القرى بظلم منه. تعالى الله عن ذلك { وأهلها مصلحون } بالإيمان به. وقال الزمخشري: وأهلها مصلحون تنزيها لذاته عن الظلم وإيذانا بأن إهلاك المصلحين من الظلم. " انتهى ".
وهو مصادم للحديث:
" أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث "
وللآية:
واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خآصة
[الأنفال: 25].
{ ولو شآء ربك لجعل الناس أمة واحدة } قال الزمخشري: يعني لاضطرهم إلى أن يكون أهل ملة واحدة، وهذا كلام يتضمن نفي الاضطرار وأنه لم يقهرهم على الاتفاق على دين الحق ولكنه مكنهم من الاختيار الذي هو أساس التكليف فاختار بعضهم الحق وبعضهم الباطل فاختلفوا.
{ ولا يزالون مختلفين * إلا من رحم ربك } إلا أناسا هداهم الله ولطف بهم فاتفقوا على دين الحق غير مختلفين فيه.
" انتهى ".
وهو على طريقة الاعتزال. وقال ابن عباس وقتادة: أمة واحدة مؤمنة حتى لا يقع منهم كفر لكنه تعالى لم يشأ ذلك.
{ إلا من رحم ربك } استثناء متصل من قوله: ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، فلا يقع منهم اختلاف.
والإشارة بقوله: { ولذلك خلقهم } إلى المصدر المفهوم من قوله: مختلفين، كما قال الشاعر:
إذا أنهى السفيه جرى إليه
فعاد الضمير على المصدر المفهوم من اسم الفاعل، كأنه قال: وللاختلاف خلقهم ويكون على حذف مضاف، أي ولثمرة الاختلاف من الشقاء والسعادة خلقهم.
وقال الزمخشري: ولذلك إشارة إلى ما دل عليه الكلام أولا من التمكين والاختيار الذي عنه الاختلاف خلقهم ليثيب مختار الحق بحسن اختياره ويعاقب مختار الباطل بسوء اختياره. " انتهى ". وهذا على طريقة الاعتزال.
{ وتمت كلمة ربك } أي نفذ قضاؤه وحق أمره. واللام في { لأملأن } هي التي يتلقى بها القسم إذ الجملة قبلها ضمنت معنى القسم كقوله تعالى:
وإذ أخذ الله ميثاق النبيين
[آل عمران: 81]، ثم قال: لتؤمنن به، والجنة والجن بمعنى واحد. قال ابن عطية: والهاء فيه للمبالغة وان كان الخبر يقع على الواحد فالجنة جمعه. " انتهى ".
فيكون مما يكون فيه الواحد بغير هاء وجمعه بالهاء كقول بعض العرب: كم للواحد، وكمأة للجمع.
{ وكلا نقص عليك من أنباء الرسل } مفعول به والعامل فيه نقص، والتنوين عوض عن المحذوف والتقدير وكل نبأ نقص عليك. ومن نبأ الرسل في موضع الصفة لقوله: ولاك، إذ هي مضافة في التقدير إلى نكرة. وما: زائدة كما هي في قوله:
قليلا ما تذكرون
[الأعراف: 3].
{ ما نثبت به فؤادك } قال ابن عباس: ما نسكن به فؤادك وتثبيت الفؤاد هو بما جرى للأنبياء عليهم السلام، ولاتباعهم المؤمنين، وما لقوا من تكذيبهم من الأذى، ففي هذا كله أسوة بهم إذ المشاركة في الأمور الصعبة تهون ما يلقى الإنسان من الأذى، ثم الاعلام بما جرى على مكذبيهم من العقوبات المستأصلة بأنواع العذاب من الغرق والريح والرجفة وخسف وغير ذلك فيه طمأنينة النفس وتأنيس. والإشارة بقوله: { في هذه } ، إلى أبناء الرسل التي قصها الله تعالى عليه أي النبأ الصدق الحق الذي هو مطابق لما جرى ليس فيه تغيير ولا تحريف كما ينقل شيئا من ذلك المؤرخون.
{ وموعظة } أي اتعاظ وازدجار لسامعه.
{ وذكرى } لمن آمن إذ الموعظة والذكرى لا ينتفع بهما إلا المؤمن لقوله تعالى:
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين
[الذاريات: 55].
{ وقل للذين لا يؤمنون } الآية، اعملوا صيغة أمر ومعناه التهديد والوعيد. والخطاب لأهل مكة وغيرها.
{ على مكانتكم } أي جهتكم وحالتكم التي أنتم عليها.
{ وانتظروا } بنا الدوائر.
{ إنا منتظرون } أن ينزل بكم نحو ما اقتص الله من النقم النازلة بأشباهكم.
{ ولله غيب السموت والأرض } الآية، أضاف تعالى علم الغيب بما في السماوات والأرض له توسعا لا يخفى عليه شىء في أعمالكم، ولاحظ لمخلوق في علم الغيب، فالجملة الأولى: دلت على أن علمه محيط بجميع الكائنات كليها وجزئيها حاضرها وغائبها، لأنه إذا أحاط علمه بما غاب فهو بما حضر محيط إذ علمه تعالى لا يتفاوت. والجملة الثانية: دلت على القدرة النافذة والمشيئة.
والجملة الثالثة: دلت على الأمر بإفراد من هذه صفاته بالعبادة الجسدية والقلبية، والعبادة أولى الرتب الذي يتحلى بها العبد.
والجملة الرابعة: دلت على الأمر بالتوكل وهي أخيرة الرتب لأنه بنور العبادة أبصر أن جميع الكائنات معذوقة بالله تعالى، وأنه هو المتصرف وحده في جميعها لا يشركه في شىء منها أحد من خلقه، فوكل نفسه إليه تعالى ورفض سائر ما يتوهم أنه سبب في شىء منها.
والجملة الخامسة: تضمنت التنبيه على المجازاة فلا يضيع طاعة مطيع ولا يهمل حال متمرد، لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
[12 - سورة يوسف]
[12.1-5]
{ الر تلك آيات الكتاب المبين * إنآ أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون } هذه السورة مكية كلها وقال ابن عباس وقتادة الا ثلاث آيات من اولها وسبب نزولها ان كفار مكة امرتهم اليهود ان يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي احل بني اسرائيل بمصر ووجه من سنتها لما قبلها. وارتباطها ان في اخر السورة التي قبلها وكلا نقص عليك الآية، وكان في تلك الأنباء المقصوصة فيها ما لاقى الأنبياء عليهم السلام من قومهم فاتبع ذلك بقصة يوسف وما لاقاه عليه السلام من إخوته، وما آلت إليه حاله من حسن العاقبة، ليحصل لرسول الله صلى الله عليه وسلم التسلية الجامعة لما يلاقيه من أذى البعيد والقريب. وجاءت هذه القصة مطولة مستوفاة فلذلك لم يتكرر في القرآن إلا ما أخبر به مؤمن آل فرعون في سورة غافر. والإشارة بتلك آيات إلى { الر } وسائر حروف المعجم التي تركبت منها آيات القرآن. والظاهر أن المراد بالكتاب المبين اما المبين في نفسه الظاهر أمره في إعجاز العرب وتبكيتهم، واما المبين الحلال والحرام والحدود والأحكام وما يحتاج إليه من أمر الدين، قاله ابن عباس. والضمير في { أنزلناه } عائد على الكتاب الذي فيه قصة يوسف عليه السلام. وانتصب قرآنا على البدل من الضمير. وعربيا صفة له وهو منسوب إلى العرب. والعرب جمع عربي كروم ورومي، لعلكم تعقلون ما تضمن من المعاني واحتوى عليه من البلاغة والإعجاز فتؤمنون. ولعل ترج فيه معنى التعليل لقوله: { أنزلنا }.
{ نحن نقص عليك أحسن القصص } الآية، القصص مصدر قص والمراد بكونه أحسن أنه اقتص على أبدع طريقة وأحسن أسلوب، ألا ترى أن هذا الحديث مقتص في كتب الأولين وفي كتب التواريخ، ولا ترى اقتصاصه في كتاب منها مقارنا لاقتصاصه في القرآن، وانتصب أحسن على المصدر لإضافته إلى المصدر.
{ بمآ أوحينآ } الباء: للسبب. وما مصدرية. { إليك هذا القرآن } تنازعه عاملان أحدهما نقص، والثاني أوحينا. واعمل الثاني جريا على الأفصح في باب التنازع. والضمير في قبله يعود على الإيماء. ومعنى من الغافلين لم يكن لك شعور بهذه القصة ولا سبق لك علم فيها. والعامل في إذ قال يا بني كما تقول: إذ قام زيد قام عمرو، وتبقى إذ على وضعها الأصلي من كونها ظرفا لما مضى.
وللزمخشري وابن عطية أقوال في العامل في إذ ردت في البحر لضعفها. ويوسف اسم عبراني وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة وتقدمت فيه لغات.
وقرىء: { يا أبت } بفتح التاء, وجمهور القراء على كسرها وهي عوض من ياء الإضافة فلا يجتمعان، لا يقال: يا أبتي.
{ إني رأيت } معمول للقول فهو في موضع نصب ورأيت هي حامية لدلالة متعلقها على أنه منام.
والظاهر أنه رأى في منامه كواكب والشمس والقمر. ومن حديث جابر بن عبد الله
" أن يهوديا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد أخبرني عن أسماء الكواكب التي رآها يوسف فسكت عنه ونزل جبريل عليه السلام فأخبره بأسمائها فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودي، فقال: هل أنت مؤمن إن أخبرتك بذلك؟ قال: نعم. فقال: جريان والطارق والذيال وذو الكتفين وقابس ووثاب وعمودان والفليق والمصبح والضروح وذو الفرع والضياء والنور. فقال اليهودي: أي والله إنها لأسماؤها "
قال الزمخشري: فإن قلت: لم أخر الشمس والقمر؟ قلت: أخرهما لعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص بيانا لفضلهما واستبدادهما بالمزية على غيرهما من الطوالع كما أخبر جبريل وميكائيل عن الملائكة، ثم عطفهما عليهما لذلك. ويجوز أن تكون الواو بمعنى مع أي أرأيت الكواكب مع الشمس والقمر. " انتهى ".
الذي يظهر أن التأخير إنما هو من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى، ولم يقع الترقي في الشمس والقمر جريا على ما استقر في القرآن من أنه إذا اجتمعا قدمت عليه ولامتناع أن يجتمع الشمس والقمر في أحد عشر كوكبا لأنهم أخوته فليس المكنى عنه بالشمس والقمر داخلا فيهم. والظاهر أن رأيتم كرر على سبيل التوكيد للطول بالمفاعيل. وجاء الضمير ضمير من يعقل لأنه صدر منهم السجود لأنه من صفات من يعقل. " ولي " متعلق بساجدين، وساجدين منصوب على الحال، ولما خاطب يوسف عليه السلام أباه بقوله: يا أبت، وفيه إظهار الطواعية والبر والتنبيه على محل الشفقة بطبع الأبوة خاطبه أبوه: يا بني تصغير التحبيب والتقريب والشفقة.
{ فيكيدوا لك كيدا } منصوب بإضمار ان على جواب النهي. وعدي فيكيدوا باللام. وهو متعد بنفسه فاحتمل أن يكون من باب التضمين ضمن فيكيدوا معنى ما يتعدى باللام، فكأنه قال: فيحتالوا لك بالكيد. والتضمين أبلغ لدلالته على معنى الفعلين وللمبالغة أكد بالمصدر ونبه يعقوب عليه السلام على سبب الكيد وهو ما يزينه الشيطان للإنسان ويسوله له، وذلك للعداوة التي بينهما فهو يجتهد دائما أن يوقعه في المعاصي ويدخله فيها ويخصه عليها وكان يعقوب دلته رؤيا يوسف عليه السلام على أن الله تعالى يبلغه مبلغا من الحكمة ويصطفيه للنبوة وينعم عليه بشرف الدارين كما فعل بآبائه فخاف عليه من حسد إخوته، فنهاه عن أن يقص رؤياه لهم. وفي خطاب يعقوب ليوسف بنهيه عن أن يقص على أخوته مخالفة كيدهم دلالة على تحذير المسلم أخاه ممن يخافه عليه، والتنبيه على بعض ما لا يليق ولا يكون ذلك داخلا في باب الغيبة.
[12.6-10]
{ وكذلك يجتبيك } أي مثل ذلك الاجتباء وهو ما أراه من تلك الرؤية التي دلت على جليل قدره وشريف منصبه، ومآله إلى النبوة والرسالة والملك يجتبيك: يختارك ربك للنبوة والملك وما أحسن لفظة ربك هنا لأنه المالك لأمره الناظر في مصلحته. " ويعلمك " كلام مستأنف ليس داخلا في النسبة كأنه قال: وهو يعلمك.
و { تأويل الأحاديث } عبارة عن مآل الرؤيا وعاقبة أمرها وهي اسم جمع للحديث وليس بجمع أحدوثة.
{ ويتم نعمته عليك } وإتمامها بأنه تعالى وصل لهم نعمة الدنيا بأن جعلهم أنبياء وملوكا بنعمة الآخرة، بأن نقلهم إلى أعلى الدرجات في الجنة. وآل يعقوب هم وأولاده ونسلهم، إذ جعل النبوة فيهم، وإتمام النعمة على إبراهيم عليه السلام بالخلة والانجاء من النار وإهلاك عدوه نمروذ، وعلى إسحاق بإخراج يعقوب، والاسباط من صلبه، وسمي الجد وآباء الجد أبوين لأنهما في عمود النسب كما قال:
وإله آبائك
[البقرة: 133] ولهذا يقولون ابن فلان، وإن كان بينهما عدة في عمود النسب.
{ إن ربك عليم } بمن يستحق الاجتباء.
{ حكيم } يضع الأشياء في مواضعها. وهذان الوصفان مناسبان لهذا الوعد الذي وعده يعقوب ويوسف عليهما السلام في قوله: وكذلك يجتبيك ربك.
{ لقد كان في يوسف } الآية، آيات على نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم للذين سألوه من اليهود عنها فأخبرهم بالصحة من غير سماع أحد ولا قراءة كتاب، والذي يظهر أن الآيات الدلالات على صرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى ما أظهره الله في قصة يوسف من البغي عليه، وصدق رؤياه، وصحة تأويله، وضبط نفسه وقهرها، حتى قام بحق الإمامة وحدوث السرور بعد اليأس. والضمير في قوله عائد على أخوه يوسف " وأخوه " بنيامين ولما كانا شقيقين أضافوه ليوسف واللام في ليوسف لام الابتداء وفيها تأكيد وتحقيق لمضمون الجملة أي كثرة حبه لهما ثابت لا شبهة فيه وأحب أفعل تفضيل، وهو مبني من المفعول شذوذا ولذلك عدي بإلى لأنه إذا كان ما تعلق به فاعلا من حيث المعنى عدي إليه بإلى وإذا كان مفعولا عدي إليه بفي تقول: زيد أحب إلى عمرو من خالد، فالضمير في أحب مفعول من حيث المعنى وعمرو هو المحب، وإذا قلت: زيد أحب في عمرو من خالد كان الضمير فاعلا وعمرو هو المحبوب ومن خالد في المثال الأول محبوب، وفي الثاني فاعل، ولم يثن أحب لتعديه بمن وكان بنيامين أصغر من يوسف فكان يعقوب يحبهما بسبب صغرهما وموت أمهما، وحب الصغير والشفقة عليه مركوز في فطرة البشر، وقد نظم الشعراء في محبة الولد الصغير قديما وحديثا، ومن ذلك ما قاله الوزير أبو مروان عبد الملك بن إدريس الجزيري في قصيدة بعث بها إلى أولاده وهو في السجن فيها:
وصغيركم عبد العزيز فإنني
أطوي لفرقته جوى لم يصغر
ذاك المقدم في الفؤاد وإن غدا
كفؤا لكم في المنتمى والعنصر
ان البنان الخمس أكفاء معا
والحلى دون جميعها للخنصر
وإذا الفتى فقد الشباب سما له
حب البنين ولا كحب الأصغر
{ ونحن عصبة } جملة حالية، أي يفضلهما علينا في المحبة وهما لا كفاية فيهما، ونحن جماعة نقوم بمرافقه فنحن أحق بزيادة المحبة منهما. وعن ابن عباس: العصبة ما زاد على العشرة. وعنه أيضا: ما بين العشرة إلى الأربعين. والضلال هنا: هو الهوى، قاله ابن عباس.
والظاهر أن: { اقتلوا يوسف } من جملة قولهم.
والظاهر أن: { أو اطرحوه أرضا } هو من قولهم أن يفعلوا به أحد الأمرين.
وانتصب: { أرضا } على إسقاط حرف الجر، أي في أرض بعيدة من الأرض التي هو فيها قريب من أرض يعقوب. قال الزمخشري: أرضا منكورة مجهولة بعيدة من العمران وهو معنى تنكيرها وإخلائها من الناس ولإبهامها من هذا الوجه نصبت نصب الظروف المبهمة.
قال ابن عطية: وذلك خطأ، يعني كونها منصوبة على الظرف قال: لأن الظرف ينبغي أن يكون مبهما وهذه ليست كذلك بل هي أرض مقيدة بأنها بعيدة أو قاصية ونحو ذلك فزال بذلك إبهاما. ومعلوم أن يوسف لم يخل من الكون في أرض فتبيين أنهم أرادوا أرضا بعيدة غير التي هو فيها قريب من أبيه. " انتهى ". هذا الرد صحيح لو قلت: جلست دارا بعيدة، أو قعدت مكانا بعيدا، لم يصح إلا بواسطة في، ولا يجوز حذفها إلا في ضرورة شعر، أو مع دخلت على الخلاف في دخلت أهي لازمة أم متعدية. والضمير في بعده عائد على يوسف أو قتله أو طرحه وصلاحهم هو بالتوبة والتنصل من هذا الفعل، والقائل لا تقتلوا يوسف هو يهوذا وكان أحلمهم وأحسنهم فيه رأيا، وهو الذي قال: فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي. وقال لهم: القتل عظيم، وهذا عطف منهم على أخيهم لما أراد الله من إنفاذ قضائه وإبقائه على نفسه وسبب لنجاتهم من الوقوع في هذه الكبيرة وهو إتلاف النفس بالقتل.
قال الهروي: الغيابة في الجب شبه لحف أو طاق في البئر فويق الماء يغيب ما فيه عن العيون. والسيارة جمع سيار وهو الكثير السير في الأرض. ومفعول فاعلين محذوف أي فاعلين ما يحصل به غرضكم من التفريق بينه وبين أبيه.
[12.11-18]
{ قالوا يأبانا } لما تقرر في أذهانهم التفريق بين يوسف وأبيه اعملوا الحيلة على يعقوب وتلطفوا في إخراجه معهم وذكروا نصحهم له وما في إرساله معهم في انشراح صدره بالارتعاء واللعب، إذ هو مما يشرح الصبيان وذكروا حفظهم له مما يسوؤه. وفي قوله: مالك لا تأمنا على يوسف دليل على أنهم تقدم منهم سؤال في أن يخرج معهم، وذكروا سبب الأمن وهو النصح، أي لم لم تأمنا عليه وحالتنا هذه. والنصح دليل على الأمانة ولهذا قرنا في قوله:
ناصح أمين
[الأعراف: 68]، وكان قد أحسن منهم قبل ما أوجب ألا يأمنهم عليه. ولا تأمنا جملة حالية وهذا الاستفهام صحبه معنى التعجب. وقرىء: لا تأمنا باختلاس الحركة والإدغام. في لفظة أرسله دليل على أنه كان يمسكه ويصحبه دائما. وانتصب غدا على الظرف وهو ظرف مستقبل يطلق على اليوم الذي يلي يومك، وعلى الزمن المستقبل من غير تقييد باليوم الذي يلي يومك، وأصله غدو فحذفت لامه وقد جاء تاما.
وقرىء: { يرتع ويلعب } بالياء وقرىء: بالنون. واللعب هنا هو الاستباق والانتضال يتدربون بذلك لقتال العدو وسموه لعبا لأنه بصورة اللعب ولم يكن ذلك للهو بدليل قولهم: إنا ذهبنا نستبق ولو كان لعب لهو ما أقرهم عليه يعقوب. ومن كسر العين من يرتع فهو يفتعل، قال مجاهد: هي المراعاة أي يراعي بعضنا بعضا ويحرسه، ثم اعتذر لهم يعقوب عليه السلام بشيئين أحدهما عاجل في الحال وهو ما يلحقه من الحزن لمفارقته وكان لا يصبر عنه، والثاني خوفه عليه من الذئب إن أغفلوا عنه برعيهم ولعبهم، وعدل أخوة يوسف عن أحد الشيئين وهو حزنه على ذهابهم به لقصر مدة الحزن وإيهامهم أنهم يرجعون به إليه. وعدلوا إلى قضية الذئب وهو السبب الأقوى في منعه أن يذهبوا به فحلفوا له لئن كان ما خافه من خطفة الذئب أخاهم من بينهم وحالهم أنهم عشرة رجال بمثلهم تعصب الأمور وتكفي الخطوب أنهم إذا لخاسرون أي هالكون ضعفا وخورا وعجزا.
{ فلما ذهبوا به } بين هذه الجملة والجمل التي قبلها محذوف يدل عليه المعنى تقديره فأجابهم إلى ما سألوه وأرسل معهم يوسف، فلما ذهبوا به وأجمعوا: أي عزموا واتفقوا على إلقائه في الجب. وان يجعلوه مفعول أجمعوا، يقال: أجمع الأمر وأزمعه، بمعنى العزم عليه، واحتمل أن يكون الجعل هنا بمعنى الإلقاء وبمعنى التصيير، وجواب لما هو قولهم قالوا: يا أبانا انا ذهبا نستبق، أي لما كان كيت وكيت قالوا: والظاهر أن الضمير في أوحينا إليه عائد على يوسف وهو وحي إلهام. قال ابن عباس: هو وحي منام، ويدل على أن الضمير عائد على يوسف قوله لهم:
قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون
[يوسف: 89]. وتقدم ان جواب لما هو قولهم قالوا، ونختار أن يكون الجواب محذوفا لدلالة المعنى عليه تقديره سروا بذلك أي بذهابهم به وإجماعهم على ما يريدون أن يفعلوا به، ويكون قوله: وأوحينا إليه ليس داخلا تحت جواب لما، بل هو استئناف إخبار بإيحاء الله إلى يوسف عليه السلام، وانتصب عشاء على الظرف، ويبكون حال أي باكين قيل: وإنما جاؤا عشاء ليكونوا أقدر على الاعتذار في الظلمة، ولذلك قيل: لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء بالعينين ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار، وفي الكلام حذف تقديره وجاؤا آباهم دون يوسف عشاء يبكون فقال: أين يوسف؟ فقالوا: إنا ذهبنا نستبق.
{ ومآ أنت بمؤمن لنا } أي بمصدق الآن.
{ ولو كنا صادقين } فما أنت بمؤمن لنا على كل حالة ولو في حالة الصدق. روي أنهم أخذوا جديا أو سخلة فذبحوه ولطخوا قميص يوسف بدمه، وقالوا ليعقوب: هذا قميص يوسف فأخذه ولطخ به وجهه وبكى ثم تأمله فلم ير خرقا ولا ارتاب فاستدل بذلك على خلاف ما زعموا، وقال لهم: متى كان الذئب حليما يأكل يوسف ولا يخرق قميصه، قيل: كان في قميص يوسف عليه السلام ثلاث آيات كان دليلا ليعقوب على أن يوسف لم يأكله الذئب وألقاه على وجهه فأرتد بصيرا ودليلا على براءة يوسف حين قد من دبر. قال الزمخشري: وسبقه إليه الحوفي فإن قلت: على قميصه ما محله؟ قلت: محله النصب على الظرف، كأنه قيل: وجاؤا فوق قميصه بدم، كما يقول: جاء على جماله باحمال. فإن قلت: هل يجوز أن يكون حالا متقدمة؟ قلت: لا لأن حال المجرور لا يتقدم عليه. " انتهى ".
ولا يساعد المعنى على نصبه على الظرف بمعنى فوق لأن العامل فيه إذ ذاك جاؤا وليس الفوق ظرفا لهم بل يستحيل أن يكون ظرفا لهم. وقال أبو البقاء: على قميصه في موضع نصب حالا من الدم، لأن التقدير جاؤا بدم كذب على قميصه. " انتهى ".
وتقديم الحال على المجرور بالحرف غير الزائد في جوازه خلاف ومن أجاز استدل على ذلك بأنه موجود في لسان العرب. وأنشد على ذلك شواهد هي مذكورة في علم النحو، والمعنى يرشد إلى ما قاله أبو البقاء قال: بل سولت هنا، محذوف تقديره لم يأكله الذئب بل سولت. وقال قتادة: معنى سولت زينت.
{ فصبر جميل } أي فأمري صبر جميل أو فصبر جميل أمثل.
{ والله المستعان } أي المطلوب منه العون على احتماله ما تصفون من هلاك يوسف فالصبر على الرزية.
[12.19-23]
{ وجاءت سيارة } قيل: كانوا من مدين قاصدين إلى مصر.
{ فأرسلوا واردهم } وهو مالك بن دعر الخزاعي الذي يرد لهم الماء.
{ فأدلى دلوه } أي أرسلها ليستقي الماء.
{ قال يبشرى } أي أرسلها ليستقي الماء.
{ قال يبشرى } في الكلام حذف تقديره فتعلق يوسف بحبل الدلو فلما بصر به المولى قال: يا بشراي، وتعلقه بالحبل يدل على صغره إذ لو كان ابن ثمانية عشر أو سبعة عشر لم يحمله الحبل غالبا ولفظة غلام نرجح ذلك إذ يطلق عليه ما بين الحولين إلى البلوغ حقيقة، وقد يطلق على الرجل الكامل. وقوله: يا بشراي، هو على سبيل السرور والفرح بيوسف عليه السلام إذ رأى أحسن ما خلق وأضاف البشرى إلى نفسه. وقرىء: يا بشراي بياء الإضافة، ويا بشرى قيل: ذهب به الوارد إلى أصحابه فبشرهم به.
{ وأسروه } أي أخفوه وكتموا أمره من وجدانهم له في الجب. وقالوا: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر وقال ابن عباس: الضمير في وأسروه وشروه لأخوة يوسف عليه السلام وأنهم قالوا للرفقة: هذا غلام قد أبق لنا فاشتروه منا وسكت يوسف مخافة أن يقتلوه.
وانتصب: { بضاعة } على الحال، أي متجرا لهم ومكسبا.
{ والله عليم بما يعملون } أي لم يخف عليهم اسرارهم، أو هو وعيد لهم حيث استبعضوا ما ليس لهم.
{ وشروه بثمن بخس } الآية، وشروه أي باعوه. والظاهر أن الضمير في شروه عائد على السيارة، أي وباعوا يوسف. ومن قال ان الضمير في وأسروه عائد على اخوة يوسف جعله هنا عائدا عليهم أي وباعوا أخاهم يوسف بثمن بخس، وبخس مصدر وصف به بمعنى مبخوس، أي زيف ناقص العيار ودراهم بدل من ثمن فلم يبيعوه بدنانير " ومعدودة " إشارة إلى القلة وكانت عادتهم أنهم لا يزنون إلا ما بلغ أوقية وهي أربعون درهما لأن الكثرة يعسر فيها العدد بخلاف القليلة. قال ابن عباس: أربعون درهما.
{ وكانوا فيه } الضمير عائد على يوسف وفيه الأجود ان يكون متعلقا بالزاهدين وإن كان في صلة الألف واللام، لأن الظرف والمجرور يتسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما بخلاف المفعول به. وتقدم الخلاف في ذلك في قوله:
إني لكما لمن الناصحين
[الأعراف: 21].
{ وقال الذي اشتراه } لم تتعرض الآية لاسم من اشتراه، وذكر المفسرون فيه اختلافا كثيرا. و " مثواه " مكان إقامته وهو كناية عن الإحسان إليه في مأكل ومشرب وملبس، ولام لامرأته تتعلق بيقال فهي للتبليغ، نحو قلت لك: لا باشتراه.
{ عسى أن ينفعنآ } لعله إذا تدرب وراض الأمور وعرف مجاريها نستعين به على بعض ما نحن بصدده فينفعنا بكفايته أو نتبناه ونقيمه مقام الولد. وقيل: كان عقيما لا يولد له فتفرس فيه الرشد فقال ذلك.
{ وكذلك } أي مثل ذلك التمكين من قلب العزيز حتى عطف عليه وأمر امرأته بإكرام مثواه.
{ مكنا ليوسف في الأرض } أي أرض مصر يتصرف فيها بأمره ونهيه، أي حكمناه فيها ولام لنعلمه متعلقة بمحذوف اما قبله، أي ونمكنه واما بعده أي ولنعلمه.
{ من تأويل الأحاديث } كان ذلك الإيحاء والتمكين. والأحاديث: الرؤيا. والضمير في على أمره عائد على يوسف، أي يدبره ولا يكله إلى غيره. والأشد عند سيبويه جمع واحده شدة، وأشد كنعمة وأنعم، وقال الكسائي: شد وأشد نحو صل وأصل والأشد بلوغ الحلم والحكم: الحكمة، والعلم: النبوة. وقيل: الحكم بين الناس. والعلم: الفقه في الدين، وهذا أشبه لمجيء قصة المراودة.
{ وكذلك } أي مثل ذلك الجزاء لمن صبر ورضي بالمقادير.
{ نجزي المحسنين } وفيه تنبيه على أن يوسف كان محسنا في عنفوان شبابه، وآتاه الله الحكم والعلم على جزاء إحسانه.
{ وراودته التي هو في بيتها } الآية، المراودة: المطالبة برفق، من راد يرود إذا ذهب. وجاء وهي مفاعلة من واحد نحو داويت المريض وكني به عن طلب النكاح والمخادعة لأجله كان المعنى، وخادعته عن نفسه ولذلك عداه بعن. وقال تعالى: التي هو في بيتها ولم يصرح باسمها ولا بامرأة العزيز سترا على الحرم والعرب تضيف البيوت إلى النساء، فتقول ربة البيت وصاحبة البيت. قال الشاعر:
يا ربة البيت قومي غير صاغرة
{ وغلقت الأبواب } هو تضعيف تكثير بالنسبة إلى وقوع الفعل بكل باب، قيل: وكانت ستة أبواب.
{ هيت } اسم فعل بمعنى أسرع. ولك للتبيين أي لك أقول أمرته بأن يسرع إليها. وزعم الكسائي والفراء انها لغة حورانية وقعت لأهل الحجاز فتكلموا بها ومعناها تعال.
وانتصب: { معاذ الله } على المصدر، أي عياذا بالله من فعل السوء. والضمير في أنه يعود على الله تعالى أي أن الله ربي أحسن مثواي أي نجاني من الجب وأقامني أحسن مقام.
{ إنه لا يفلح الظالمون } أي المجازون الإحسان بالسوء وما أحسن هذا التنصل من الوقوع في السوء استعاذ أولا بالله الذي بيده العصمة وملكوت كل شىء، ثم نبه على أن إحسان الله إليه لا يناسب أي يجازي بالسوء، ثم نفي الفلاح عن الظالمين وهو الظفر والفوز بالبغية فلا يناسب أن أكون ظالما أضع الشىء غير موضعه.
[12.24-29]
{ ولقد همت به وهم بها } الذي نقوله ان يوسف عليه الصلاة والسلام لم يقع منه هم بها البتة بل هو منفي لوجود رؤية البرهان، كما تقول: قارنت لولا أن عصمك الله.
قال ابن عطية: قول من قال ان الكلام قد تم في قوله: ولقد همت به وان جواب لولا في قوله: وهم بها، وان المعنى لولا ان رأى البرهان لهم بها فلم يهم يوسف عليه السلام يرده لسان العرب وأقوال السلف. " انتهى ". أما قوله: يرده لسان العرب فليس كما ذكر وقد استدل من ذهب إلى جواز ذلك بوجوده في لسان العرب.
قال تعالى:
إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين
[القصص: 10] فقوله: ان كادت لتبدي به اما أن يتخرج على أنه الجواب على ما ذهب إليه القائل، واما أن يتخرج على ما ذهبنا إليه من أنه دليل الجواب، والتقدير لولا أن ربطنا على قلبها لكادت تبدي به. وأما أقوال السلف فنعتقد أنه لا يصح عن أحد منهم شيء من ذلك، لأنها أقوال متكاذبة يناقض بعضها بعضا مع كونها قادحة في بعض المسلمين فضلا عن المقطوع لهم بالعصمة. والذي رووا عن السلف لا يساعد عليهم كلام العرب، لأنهم قدروا جواب لولا محذوفا. ولا يدل عليه دليل لأنهم لم يقدروا والهم بها ولا يدل كلام العرب إلا أن يكون المحذوف من معنى ما قبل الشرط لأن ما قبل الشرط دليل عليه، ولا يحذف الشىء لغير دليل والبرهان الذي رآه هو ما آتاه الله من العلم الدال على تحريم ما حرمه الله تعالى، ولا يمكن الهم به فضلا عن الوقوع به.
{ كذلك لنصرف } التقدير مثل تلك الرؤية، أو مثل ذلك الرأي براهيننا لنصرف عنه فتجعل الإشارة إلى الرؤية أو الرأي والناصب للكاف مما دل عليه قوله: لولا أن رأى برهان ربه، ولنصرف متعلق بذلك الفعل الناصب للكاف.
{ واستبقا الباب وقدت قميصه } الآية، أي واستبق يوسف وامرأة العزيز إلى الباب هذا للخروج والهروب منها وهذه لمنعه ومراودته. وأصل استبق أن يتعدى بإلى فحذف اتساعا. " وقدت قميصه " ، أي قطعته، والقد: القطع والشق وأكثر استعماله فيما كان طولا.
{ من دبر } أي من وراء. { وألفيا } أي وجدا وصادفا زوجها والمرأة تقول لبعلها سيدي، ولم يضف إليهما، لأن زوجها ليس سيدا ليوسف على الحقيقة.
{ ما جزآء } ما: نافية. وبدأت بالسجن إبقاء على محبوبها ثم ترقت إلى العذاب الأليم، قيل: وهو الضرب بالسوط، وقولها ما جزاء، أي أن الذنب ثابت متقرر في حقه وأتت بلفظة سوء، أي مما يسوؤها وليس نصا في معصية كبرى، إذ يحتمل خطابه لها بما يسوؤها أو ضربه إياها.
وقولها إلا أن يسجن أو عذاب أليم يدل على عظم موقع السجن من ذوي الأقدار حيث قرنته بالعذاب الأليم ولما أغرت بيوسف عليه السلام وأظهرت تهمته احتاج إلى إزالة التهمة عن نفسه.
فقال: { هي راودتني عن نفسي } ولم يستو أولا إلى القول سترا عليها فلما خاف على نفسه وعلى عرضه الطاهر قال: هي راودتني، وأتى بضمير الغيبة إذ كان غلب عليه الحياء أن يشير إليها ويعنيها بالإشارة فيقول: هذه راودتني أو تلك روادتني لأن في المواجهة بالقبيح ما ليس في الغيبة، ولما تعارض قولاهما عند العزيز وكان رجلا فيه إناءة ونصفة طلب الشاهد من كل منهما فشهد شاهد من أهلها فقيل: كان ابن خالتها طفلا في المهد أنطقه الله ليكون أدل على الحجة، وجواب الشرط فصدقت وفكذبت وهو على إضمار قد، أي فقد صدقت وفقد كذبت.
{ فلما رأى } أي زوجها.
{ قميصه قد من دبر قال إنه } أي ان قولك ما جزاء إلى آخره أو ان هذا الأمر وهو طمعها في يوسف.
والخطاب في: { كيدكن } لها ولجواريها أو لها وللنساء، ووصف كيد النساء بالعظم وان كان قد يوجد في الرجال لأنهن ألطف كيدا مما جبلن عليه وبما تفرغن له واكتسب بعضهن من بعض وهنا أنفذ حيلة. وقال تعالى:
ومن شر النفاثات في العقد
[الفلق: 4]. وأما اللواتي في القصور فمعهن من ذلك ما لا يوجد لغيرهن لكونهن أكثر تفرغا في غيرهن وأكثر تأنسا بأمثالهن.
{ يوسف أعرض عن هذا } أي هذا الأمر واكتمه ولا تتحدث به. وفي ندائه باسمه تقريب له وتلطيف، ثم أقبل عليها فقال:
{ واستغفري } ثم ذكر سبب الاستغفار، وهو قوله:
{ لذنبك } ، ثم أكد ذلك بقوله:
{ إنك كنت من الخاطئين } ولم يقل من الخاطئات لأن الخاطئين أعم لأنه ينطلق على الذكور والإناث بالتغليب خطىء إذ أذنب متعمدا. وقال الزمخشري: وما كان العزيز إلا حليما، وروي أنه كان قليل الغيرة. " انتهى ".
وتربة إقليم مصر اقتضت هذا وأين هذا مما جرى لبعض ملوكنا أنه كان مع ندمائه المختصين به في مجلس انس وجارية تغنيهم من وراء ستر فاستعاد بعض خلصائه بيتين من الجارية كانت قد غنت بهما فما لبث أن جاء برأس الجارية مقطوعا في طشت وقال له الملك استعد البيتين من هذا الرأس فسقط في يد ذلك المستعيد ومرض مدة حياة ذلك الملك.
[12.30-36]
{ وقال نسوة في المدينة } الآية، لم تلحق تاء التأنيث لأنه جمع تكسير المؤنث ويجوز فيه الوجهان، ونسوة كما ذكرنا جمع قلة وكن على ما نقل خمسا امرأة خبازة وامرأة ساقية وامرأة بوابة وامرأة سجانة وامرأة صاحب دوابة في المدينة هي مصر، ومعني في المدينة أنهم أشاعوا هذا الأمر من حب امرأة العزيز ليوسف وصرحوا بإضافتها إلى العزيز مبالغة في التشنيع لأن النفوس أميل لسماع أخبار ذوي الأخطار، وما يجري لهم وعبرن بتراود وهو المضارع الدال على أنه صار ذلك سجية لها تخادعه دائما عن نفسه، كما تقول: زيد يعطي ويمنع. ولم يقلن: راودت فتاها، ثم نبهن على علة ديمومة المراودة وهي كونها قد شغفها حبا أي بلغ حبه شغاف قلبها الشغاف حجاب القلب وقيل سويداؤه. وقال امرؤ القيس:
أتقتلني اني شغفت فؤادها
كما شغف المهنوءة الرجل الطالي
وانتصب حبا على التمييز المنقول من الفاعل. والفتى: الغلام وعرفه في المملوك في الحديث لا يقل أحدكم عبدي وأمتي ليقل: فتاي وفتاتي. وقد قيل غير المملوك وأصل الفتى في اللغة الشاب ولكنه لما كان جل الخدمة شبانا استعير لهم اسم الفتى، ثم نقمن ذلك عليها فقلت: { إنا لنراها في ضلال مبين } أي بين واضح للناس.
{ فلما سمعت بمكرهن } روي أن تلك المقالة الصادرة عن النسوة إنما قصدن بها المكر بأمرأة العزيز ومكرهن هو اغتيابهن إياها وسوء مقالتهن فيها انها عشقت يوسف وسمي الاغتياب مكرا لأنه في خفية وحال غيبة كما يخفي الماكر مكره.
{ أرسلت إليهن } الضمير عائد على تلك النسوة القائلة ما قلن عنها.
{ وأعتدت } أي عدت.
{ لهن متكئا } أي يسرت وهيأت لهن ما يتكئن عليه من النمارق والمخاد والوسائد وغير ذلك.
{ وآتت كل واحدة منهن سكينا } ومعلوم أن مثل هذا المجلس لا بد فيه من طعام وشراب فيكون في جملة الطعام ما يقطع بالسكاكين فقيل كان لحما وكانوا لا ينهشون اللحم إنما كانوا يأكلونه حزا بالسكاكين.
{ وقالت اخرج عليهن } هذا الخطاب ليوسف عليه السلام وخروجه يدل على طواعيتها فيما لا يعصي الله فيه وفي الكلام حذف تقديره فخرج عليهن ومعنى أكبرنه أعظمنه ودهشن برؤية ذلك الجمال الفائق الرائع قيل كان فضل يوسف على الناس في الحسن كفضل القمر ليلة البدر على نجوم السماء.
{ وقطعن أيديهن } أي جرحنها كما تقول كنت أقطع اللحم فقطعت يدي والتضعيف للتكثير فالجرح كأنه وقع مرارا في اليد الواحدة وصاحبتها لا تشعر لما ذهلت بما راعها من جمال يوسف فكأنها غابت عن حسها والظاهر أن الأيدي هي الجوارح المسماة بهذا الاسم ولما فعلن هذه الفعل الصعب من جرح أيديهن وغلب عليهن ما رأين من يوسف وحسنه.
{ وقلن حاش لله } أي حاشا يوسف أن يقارف ما رمته به ومعنى لله لطاعة الله أو لمكانته من الله أو لترفيع الله أن يرمى بما رمته به أو يذعن إلى مثله لأن تلك أفعال البشر وهو ليس منهم إنما ملك فعلى هذا تكون اللام في لله للتعليل أي جانب يوسف المعصية لأجل طاعة الله.
قال الزمخشري: حاشا كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء تقول: أساء القوم حاشا زيد.
قال حاشا أبي ثوبان ان به
ضنا عن الملحاة والشتم
وهي حرف من حروف الجر فوضعت موضع التنزيه والبراءة فمعنى حاشا الله أي براءة الله وتنزيه الله انتهى ما ذكره من أنها تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء غير معروف عند النحويين لا فرق بين قولك قام القوم إلا زيد أو قام القوم حاشا زيد ولما مثل بقوله: أساء القوم حاشا زيد ومنهم هو من التمثيل براءة زيد من الإساءة جعل ذلك مستفادا منها في كل موضع وأما ما أنشده:
حاشا أبي ثوبان
البيت فهكذا أنشده أيضا أبي عطية وأكثر النحاة وهو بيت ركبوا فيه صدر بيت على عجز بيت آخر وهما من بيتين وهما:
حاشا أبي ثوبان أن أبا
ثوبان ليس ببكمه قدم
عمرو بن عبد الله ان به
ضنا عن الملحاة والشتم
{ ما هذا بشرا } ولما كان غريب الجمال فائق الحسن عما عليه حسن صور الإنسان نفين عنه البشرية وأثبتن له الملكية لما كان مركوزا في الطباع حسن الملك وان كان لا يرى وقد نطق بذلك شعراء العرب والمحدثون قال بعض العرب:
فلست لأنسى ولكن لملاك تنزل من جو السماء يصوب
وقال بعض المحدثين:
قوم إذا قوبلوا كانوا ملائكة
حسنا وإن قوتلوا كانوا عفاريتا
وانتصاب بشرا على لغة الحجاز وكذا جاء ما هن أمهاتهم فما منكم من أحد عنه حاجزين ولغة تميم الرفع قال ابن عطية: ولم يقرأ به وقال الزمخشري: ومن قرأ على سليقته من بني تميم قرأ بشر بالرفع وهي قراءة ابن مسعود " انتهى ".
{ قالت فذلكن الذي لمتنني فيه } ذا اسم إشارة واللام لبعد المشار وكن خطاب لتلك النسوة والمعنى أن هذا الذي صدر منكن من الاكبار وتقطيع الأيدي ونفي البشرية عنه وإثبات الملكية له هو الذي لمتنني فيه أي في محبته ثم جعلت تتوعده مقسمة على ذلك وهو يسمع قولها.
{ ولئن لم يفعل مآ آمره } وما موصولة والضمير في ما آمره عائد على يوسف والعائد على الموصول محذوف تقديره ما آمره به أي من الموافقة فيما أريد واللام في لئن مؤذنة بقسم محذوف وجوابه.
{ ليسجنن } وجاءت النون المشددة لأنها آكد من المخففة ثم عطف عليه.
{ وليكونا } بالنون الخفيفة لأن الصغار أخف من السجن فقالت له النسوة أطع وافعل ما أمرتك به فقال:
{ رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } فاسند الفعل إليهن كلهن لما نصحن له وزين له مطاوعتها ونهينه عن إلقاء نفسه في السجن والصغار الذل فالتجأ إلى الله والتقدير دخول السجن أحب إلي وقرأ يعقوب وجماعة السجن بفتح السين وهو مصدر سجن أي حبسهم إياي في السجن أحب إلي وأحب هنا ليست على بابها من التفضيل لأنه لم يحبب ما يدعونه إليه قط وإنما هذان شران فآثر أحد الشرين على الآخر وإن كان في أحدهما مشقة وفي الآخر لذة لكن لما ترتب على تلك اللذة من معصية الله تعالى وسوء العاقبة لم يخطر له ببال ولما في الآخر من احتمال المشقة والصبر على النوائب وانتظار الفرج داعيا له في تخليصه آثره ثم ناط العصمة بالله واستسلم له كعادة الأنبياء والصالحين وأنه تعالى لا يصرف السوء إلا هو فقال.
{ وإلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن } أي أمل إلى ما دعونني إليه وجعل الشرط قوله: إليهن.
{ وأكن من الجاهلين } أي من الذين لا يعملون بما يعلمون لأن من لا جدوى لعلمه فهو ومن لا يعلم سواء. وذكر استجابة الله له ولم يتقدم لفظ دعاء لأن قوله: والا تصرف عني فيه معنى طلب الصرف والدعاء وكأنه قال: رب اصرف عني كيدهن.
{ فصرف عنه كيدهن } أي حال بينه وبين المعصية.
{ إنه هو السميع } لدعاء الملتجىء إليه.
{ العليم } بأحواله وما انطوت عليه نياته.
{ ثم بدا لهم من بعد } أي ظهر والفاعل لبدا ضمير ويفسره ما يدل عليه المعنى أي بدا لهم هو أي رأى وبدا كما قال الشاعر:
بدا لك من تلك القلوص بداء
هكذا قاله النحاة والمفسرون إلا من أجاز أن يكون الجملة فاعلة فإنه زعم أن قوله ليسجننه في موضع الفاعل لبدا أي سجنه حتى حين والرد على هذا المذهب مذكور في النحو والذي أذهب إليه الفاعل ضمير يعود على السجن المفهوم من قوله ليسجنن أو من قوله السجن على قراءة الجمهور أو السجن على قراءة من قرأ بفتح السين والضمير في لهم للعزيز وأهله والآيات هي الشواهد الدالة على براءة يوسف وليسجننه جواب قسم محذوف والقسم وجوابه معمول لقول محذوف تقديره قائلين حتى حين والمعنى إلى زمان والحين يدل على مطلق الوقت ومن عين له هناز زمانا فإنما كان ذلك باعتبار مدة سجن يوسف لا أنه موضوع في اللغة لذلك وكأنها اقترحت زمانا حتى تبصر ما يكون منه وفي سجنهم ليوسف دليل على مكيدة النساء واستنزال المرأة لزوجها ومطاوعته لها وعشقه لها وجعله زمام أمره بيدها هذا مع ظهور خيانتها وبراءة يوسف عليه السلام وروي أنه لما امتنع يوسف من المعصية ويئست منه امرأة العزيز قالت لزوجها ان هذا الغلام العبراني قد فضحني في الناس وهو يعتذر إليهم ويصف الأمر بحسب اختياره وأنا محبوسة محجوبة فاما أذنت لي فخرجت إلى الناس فاعتذرت وكذبته وإلا حبسته كما أنا محبوسة فحينئذ بدا لهم سجنه قال ابن عباس: فأمر به فحمل على حمار وضرب أمامه بالطبل ونودي عليه في أسواق مصر ان يوسف العبراني أراد سيدته فهذا جزاؤه أن يسجن قال أبو صالح ما ذكر ابن عباس هذا الحديث إلا بكى.
{ ودخل معه السجن فتيان } الآية في الكلام حذف تقديره فسجنوه فدخل معه فتيان روي أنهما كانا للملك الأعظم الوليد بن الريان أحدهما خبازه والآخر ساقيه واتهمهما الملك بأن الخابز منهما أراد سمه ووافقه على ذلك الساقي فسجنهما ومع تدل على الصحبة واستحداثها فدل على أنهم سجنوا الثلاثة في ساعة واحدة ولما دخل يوسف السجن استمال الناس بحسن حديثه وفضله ونبله كان يسلي حزينهم ويعود مريضهم ويسأل لفقيرهم ويهديهم إلى الخير فأحبه الفتيان ولزماه وأحبه صاحب السجن والقيم عليه وقال له كن في أي البيوت شئت وكان يوسف صلى الله عليه وسلم قال لأهل السجن إني أعبر الرؤيا وأجيد ورأى الحلمية جرت مجرى أفعال القلوب في جواز كون فاعلها ومفعولها ضميرين متحدي المعنى فأراني فيه ضمير الفاعل المستكن وقد تعدى الفعل إلى الضمير المتصل وهو رافع الضمير المتصل وكلاهما المدلول واحد ولا يجوز أن يقول اضربني ولا أكرمني واعصر في موضع المفعول الثاني وخمرا ليس المعصور إنما عصر ما يؤول ماؤه إلى الخمر فعبر عنه بما يكون مآله إلى الخمرية نبئنا يدل على أنه كان نبأهم على أنه كان يحسن تعبير الرؤيا.
[12.37-42]
{ قال لا يأتيكما طعام } الآية، لما استعبراه ووصفاه بالإحسان افترض ذلك فوصف يوسف نفسه بما هو فوق علم العلماء وهو الاخبار بالغيب وأنه ينبئهما بما يجعل لهما من الطعام قبل أن يأتيهما ويصفه لهما وقيل كان ذلك في اليقظة وقيل كان في النوم فقالا له: ومن أين لك ما تدعيه من العلم وأنت لست بكاهن ولا منجم فقال لهما:
{ ذلكما مما علمني ربي } وجعل ذلك تخليصا إلى أن يذكر لهما التوحيد ويعرض عليهما الإيمان ويزينه لهما ويقبح لهما الشرك بالله تعالى وروي أنه نبىء في السجن والظاهر أن قوله :
{ إني تركت } استئناف إخبار بما هو عليه إذ كانا قد أحباه وكلفا به وبحسن أخلاقه ليعلمهما ما هو عليه من مخالفة قومهما فيتبعاه وفي الحديث:
" لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر النعم "
وعبر بتركت مع أنه لم ينشأ بتلك الملة قط إجراء للترك مجرى التجنب من أول حاله واستجلابا لهما لأن يترك تلك الملة التي كانا فيها والذين لا يؤمنون هم أهل مصر ونبه على أصلين عظيمين الإيمان بالله والإيمان بدار الجزاء وكرر لفظه هم على سبيل التوكيد وحسن ذلك الفصل قال الزمخشري: وتكريرهم للدلالة على أنهم خصوصا كافرون بالآخرة وان غيرهم مؤمنون بها ولتوكيد كفرهم بالجزاء تنبيها على ما هم عليه من الظلم والكبائر التي يرتكبها إلا كافر بدار الجزاء " انتهى ".
ليست عندنا هم تدل على الخصوص وباقي ألفاظه ألفاظ المعتزلة.
{ واتبعت ملة آبآئي } لما ذكر أنه رفض ملة أولئك ذكر اتباعه ملة آبائه ليريهما أنه من بيت النبوة بعد أن عرفهما أنه نبي بما ذكره من اخباره بالغيوب لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه واتباع قوله:
{ ما كان لنآ } ما صح وما استقام لنا معشر الأنبياء.
{ أن نشرك بالله من شيء } عموم في الملك والجني والأنسي فكيف بالصنم الذي لا يسمع ولا يبصر فشىء يراد به المشرك ويجوز أن يراد به المصدر أي شىء من الإشراك فيعم الإشراك ويلزم عموم متعلقاته ومن زائدة لأنها في حيز النفي إذا المعنى ما نشرك بالله شيئا والإشارة بذلك إلى شرعهم وملتهم.
{ يصاحبي السجن ءأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } لما ذكر ما هو عليه من الدين الحنيفي تلطف في حسن الاستدلال على فساد ما عليه قوم الفئتين من عبادة الأصنام فناداهما باسم الصحبة في المكان الشاق الذي تخلص فيه المودة وتمحض فيه النصيحة واحتمل قوله: يا صاحبي السجن ان يكون من باب الاضافة إلى الظرف والمعنى يا صاحبي السجن واحتمل أن يكون من باب إضافته إلى شبه المفعول كأنه قيل يا ساكني السجن كقوله تعالى:
أصحاب النار وأصحاب الجنة
[الحشر: 20] ثم أورد الدليل على بطلان ملة قومهما بقوله: أأرباب فأبرز ذلك في صورة الاستفهام حتى لا تنفر طباعهما من المفاجأة بالدليل من غير استفهام وهكذا الوجه في محاجة الجاهل أن يؤخذ بدرجة يسيرة من الاحتجاج يقبلها فإذا قبلها لزمته عنها درجة أخرى فوقها ثم كذلك حتى يصل إلى الإذعان بالحق وقابل نفرق آبائهم بالوحدانية وجاء بصفة القهار تنبيها على أنه تعالى له هذا الوصف الذي معناه الغلبة والقدرة التامة وإعلاما بعرف أصنامهم عن هذا الوصف الذي لا ينبغي أن يعبد إلا المتصف به وهم عالمون بأن تلك الأصنام جماد والمعنى أعبادة أرباب متكاثرة في العدد خير أم عبادة واحد قهار وهو الله تعالى فمن ضرورة العاقل يرى خيرية عبادة الله تعالى ثم استطرد بعد هذا الاستفهام إلى الاخبار عن حقيقة ما تعبدون والخطاب بقوله:
{ ما تعبدون } لهما ولقومهما من أهل مصر ومعنى:
{ إلا أسمآء } الا ألفاظا أحدثتموها.
{ أنتم وآبآؤكم } فهي فارغة لا مسميات تحتها وتقدم تفسير مثل هذه الجملة في الاعراف.
{ إن الحكم إلا لله } أي ليس لكم ولا لأصنامكم حكم ما الحكم في العبادة والدين إلا لله ثم بين ما حكم به فقال:
{ أمر ألا تعبدوا إلا إياه } ومعنى القيم الثابت الذي دلت عليه البراهين.
{ لا يعلمون } لجهالاتهم وغلبة الكفر عليهم.
{ يصاحبي السجن أمآ أحدكما فيسقي ربه خمرا } الآية لما ألقى إليهما ما كان أهم وهو أمر الدين رجاء في إيمانهم ناداهما ثانيا لتجتمع أنفسهما لسماع الجواب فروي أنهما قالا: ما رأينا شيئا وإنما تحالمنا لنجربك فأخبرهما يوسف صلى الله عليه وسلم عن غيب علمه من قبل الله أن الأمر قد مضى ووافق القدرة وسواء كان ذلك منكما حلما أم تحالما وأفرد الأمر وان كان أمر هذا غير أمر هذا لأن المقصود إنما هو عاقبة أمرهما الذي أدخلا به السجن وهو اتهام الملك إياهما بسمه فرأيا ما رأيا أو تحالما بذلك.
{ وقال } أي يوسف.
{ للذي ظن } أي أيقن هو أي يوسف.
{ أنه ناج } هو الساقي والذي يظهر أن يوسف صلى الله عليه وسلم إنما قال لساقي الملك.
{ اذكرني عند ربك } ليتوصل إلى هدايته وإيمانه بالله كما توصل إلى إيضاح الحق للساقي ورفيقه والضمير في فأنساه عائد على الساقي ومعنى ذكر ربه أي ذكر يوسف لربه والإضافة تكون بأدنى ملابسة وإنساء الشيطان له بما يوسوس إليه من اشتغاله حتى يذهل عما قال له يوسف لما أراد الله بيوسف من إجزال أجره بطول مقامه في السجن.
و { بضع سنين } مجمل فقيل سبع وقيل اثنا عشر والظاهر أن قوله: فلبث في السجن اخبار عن مدة مقامه في السجن منذ سجن إلى أن خرج.
[12.43-64]
{ وقال الملك إني أرى سبع بقرات } الآية، لما دنا فرج يوسف صلى الله عليه وسلم رأى ملك مصر الريان بن الوليد رؤيا عجيبة هالته فرأى سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعا أخر يابسات قد استحصدت وأدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها فلم يجد في قومه من يحسن عبارتها أرى يعني في منامه ودل على ذلك أفتوني في رؤياي وأرى حكاية حال فلذلك جاء بالمضارع دون رأيت وجاء لفظ بقرات وسنبلات مجموعا جمع سلامة في المؤنث لأنه موضوع في القلة فناسب لفظ سبع وللرؤيا مفعول تعبرون قوي تعدى الفعل باللام لتأخره فتقول زيدا ضربت ولزيد ضربت فلو تأخر المفعول عن الفعل لم يجىء باللام إلا قليلا كقول الشاعر:
فلما ان توافقنا قليلا
انحنا للكلا كل ما ارتمينا
يريد انحنا الكلاكل وأضغاث خبر مبتدأ محذوف تقديره هي أي تلك الرؤيا أضغاث أحلام والأضغاث جمع ضغث أي تخاليط أحلام وهو ما يكون من حديث النفس أو وسوسة الشيطان أو مزاج الإنسان وأصله أخلاط النبات استعير للأحلام وجمعوا الأحلام وإن كانت رؤياه واحدة اما باعتبار متعلقاتها إذ هي أشياء ونفوا عن أنفسهم العلم بتأويل الأحلام أي لسنا من أهل تعبير الرؤيا.
{ وقال الذي نجا منهما } أي تذكر ما سبق له مع يوسف.
{ بعد أمة } أي مدة طويلة والجملة من قوله: واذكر حالية وأصله إذتكر أبدلت التاء دالا وأدغمت الدال فيها فصار ادكر.
{ أنا أنبئكم بتأويله } أي أخبركم عمن عنده علمه.
{ فأرسلون } أي ابعثوني وفي الكلام حذف تقديره فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقص عليه رؤيا الملك قال: تزرعون إلى آخره تضمن هذا الكلام من يوسف عليه السلام ثلاثة أنواع من القول أحدهما تعبير بالمعنى لا باللفظ الثاني عرض رأي وأمر به وهو قوله: فذروه في سنبله والثالث الاعلام بالغيب في أمر العام الثاني والظاهر أن قوله: تزرعون سبع سنين دأبا خبر أخبر أنهم تتوالى لهم هذه السنون السبع لا ينقطع فيها زرعهم للري الذي يوجد.
{ فذروه في سنبله } إشارة برأي نافع بحسب طعام مصر وحنطتها التي لا تبقى عامين بوجه إلا بحيلة إبقائها في السنبل فإذا بقيت منها انحفظت والمعنى اتركوا الزرع في السنبل إلا ما لا غنى عنه للأكل فيجمع الطعام ويتركب ويؤكل الاقدم فالاقدم فإذا جاءت السنون الجدبة تقوت الأقدم فالأقدم من ذلك المدخر وحذف المميز في قوله: سبع شداد أي سبع سنين شداد لدلالة قوله: سبع سنين عليه وأسند الأكل إليهن في قوله: يأكلن على سبيل المجاز من حيث أنه يؤكل فيها كما قال تعالى:
والنهار مبصرا
[يونس: 67] ومعنى تحصنون تحرزون وتخبئون مأخوذ من الحصن وهو الحرز والملجأ وقرىء: دأبا بفتح الهمزة وسكونها وما شرطية وجوابه فذروه قال ابن عباس.
{ يغاث } من الغيث وقيل من الغوث وهو من الفرج ففي الأول يبنى من ثلاثي وفي الثاني من رباعي تقول: غاثنا الله من الغيث وأغاثنا من الغوث وقرىء: تعصرون بالتاء على الخطاب وقرىء: بالياء على الغيبة والجمهور على أنه من عصر النبات كالعنب والقصب والزيتون والسمسم والفجل وجميع ما يعصر ومصر بلد عصير لأشياء كثيرة وفي الكلام حذف تقديره فأتى المستفتي يوسف إلى الملك وأخبره بفتيا يوسف صلى الله عليه وسلم فقال الملك ائتوني به فلما جاء الرسول يوسف قال له ارجع إلى ربك وهو الملك فسأله ما بال النسوة ليعلم الملك براءة يوسف صلى الله عليه وسلم مما نسب إليه فأحضر الملك النسوة وقال الملك: ما خطبكن ومن كرم يوسف صلى الله عليه وسلم أنه سكت عن زوج العزيز ما صنعت به وسببت فيه من السجن والعذاب واقتصر على ذكر مقطعات الأيدي.
{ إن ربي } أي الله تعالى.
{ بكيدهن عليم } أراد كيدهن عظيم لا يعلمه إلا الله لبعد غوره واستشهد بعلم الله تعالى على أنهن كدنه وأنه بريء مما قذف به فالضمير في بكيدهن عائد على النسوة المذكورات لا للجنس لأنها حالة توقيف على ذنب وجاء النسوة بالألف واللام للعهد في قوله: وقال النسوة كما قال تعالى:
أرسلنآ إلى فرعون رسولا * فعصى فرعون الرسول
{ المزمل: 1516].
{ قال ما خطبكن } في الكلام حذف تقديره فرجع إليه الرسول فأخبره بما قال يوسف فجمع الملك النسوة وامرأة العزيز وقال لهن ما خطبكن وهذا استدعاء منه أن يعلمنه بالقصة ونزه جانب يوسف بقوله:
{ إذ راودتن يوسف عن نفسه } ومراودتهن له قولهن له أطع مولاتك فأجاب النسوة بجواب جيد تظهر منه براءة أنفسهن جملة وتنزيه يوسف بقولهن:
{ ما علمنا عليه من سوء } فلما سمعت امرأة العزيز مقالتهن في براءة يوسف أقرت بأعظم ما أقررن به إذ كانت هي من أقوى سبب فيما جرى من المراودة ومن سجن يوسف.
{ قالت امرأت العزيز الآن حصحص الحق } وقرىء: حصحص مبنيا للمفعول واتبعت ولني خزائن أرضك.
{ أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين }.
{ ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } الآية، الظاهر أن هذا من كلام امرأة العزيز وهو داخل تحت قوله: قالت والمعنى ذلك الإقرار والاعتراف بالحق ليعلم يوسف أني لم أخنه في غيبته وأكذب عليه وأرمه بذنب هو بريء منه ثم اعتذرت عما وقعت فيه مما يقع فيه البشر من الشهوات بقولها:
{ ومآ أبرىء نفسي } والنفوس مائلة إلى الشهوات أمارة بالسوء ومن ذهب إلى أن قوله ذلك ليعلم إلى آخره من كلام يوسف يحتاج إلى تكلف ربط بينه وبين ما قبله ولا دليل يدل على أنه من كلام يوسف إذ لم يكن يوسف حاضرا وقت سؤال الملك النسوة وإقرار امرأة العزيز بما أقرت به.
{ وقال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي } الآية، روي أن الرسول جاءه فقال: أجب الملك فخرج من السجن ودعا لأهله فلما دخل على الملك قال اللهم إني أسألك بخيرك من خيره وأعوذ بعزتك وقدرتك من شره ثم سلم عليه ودعا له بالعبرانية فقال: ما هذا اللسان؟ قال لسان آبائي وكان الملك يتكلم بسبعين لسانا فكلمه بها فأجابه يوسف عليه السلام بجميعها فتعجب منه ومعنى استخلصه اجعله خالصا لنفسي وخاصا لي وفي الكلام حذف تقديره فأتوه به والظاهر أن الفاعل بكلمة ضمير يوسف أي فلما كلم يوسف الملك ورأى الملك حسن منطقة بما صدق به الخير.
{ قال إنك اليوم لدينا مكين } أي ذو مكانة ومنزلة.
{ أمين } مؤتمن على كل شىء ولما وصفه الملك بالتمكن عنده والأمانة طلب من الأعمال ما يناسب هذين الوصفين.
{ قال اجعلني على خزآئن الأرض } أي ولني خزائن أرضك.
{ إني حفيظ } أحفظ ما تستحفظه.
{ عليم } بوجوه التصرف وصف نفسه بالأمانة والكفاءة وهما مقصود الملوك ممن يولونه إذ هما يعمان وجوه التثقيف والحياطة ولا خلل معهما لعامل وجاء حفيظ بضمة المبالغة وهي مقصودة ولمناسبة قوله عليم وكان الملك لا يصدر عن رأي يوسف ولا يعترض عليه في كل ما رأى وكان في حكم التابع.
{ وكذلك } أي مثل ذلك التمكين في نفس الملك.
{ مكنا ليوسف في الأرض } مصر.
{ يتبوأ منها حيث يشآء } أي يتخذ منها مباءة ومنزلا كل مكان أراد فاستولى على جميعها ودخلت تحت سلطانه روي أن الملك توجه بتاجه وختمه ورداه بسيفه وجعل له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت فجلس على السرير ودانت له الملوك وفوض الملك إليه أمره وعزل العزيز قطفير ثم مات بعد فزوجه الملك امرأته زليخا فلما دخل عليها قال: أليس هذا خيرا مما طلبت فوجدها عذراء لأن العزيز كان لا يطأها فولدت له ولدين أفراثيم ومنشا وأقام العدل بمصر وأحبه الرجال والنساء وأسلم على يده الملك وكثير من الناس وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى حتى لم يبقى معه شىء ثم بالحلي والجواهر ثم بالدواب ثم بالضياع والعقار ثم برقابهم ثم استرقهم جميعا فقالو: والله ما رأينا كاليوم ملكا أجل ولا أعظم منه فقال للملك: كيف رأيت صنع الله في وفيما خولني فما ترى؟ قال: الرأي رأيك، قال: فإني أشهد الله وأشهدك أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم وكان لا يبيع من أحد من الممتارين أكثر من حمل بعير تقسيطا بين الناس وأصاب أرض كنعان وبلاد الشام نحو ما أصاب مصر فأرسل يعقوب بنيه ليمتاروا واحتبس بنيامين.
{ نصيب برحمتنا } أي بنعمتنا من الملك والغنى غيرهما ولا نضيع في الدنيا أجر من أحسن ثم ذكر أن أجر الآخرة خير لأنه الدائم الذي لا يفنى وفي الآية إشارة إلى أن حال يوسف في الآخرة خير من حالته العظيمة في الدنيا.
{ وجآء إخوة يوسف } الآية، أي جاؤا من القريات من أرض فلسطين بغور الشام إلى مصر ليمتاروا منها فتوصلوا إلى يوسف للميرة فعرفهم لأنه فارقهم وهم رجال ورأى زيهم قريبا من زيه إذ ذاك ولأن همته كانت معمورة بهم وبمعرفتهم وكان يتأمل ويتفطن وإنكارهم إياه كان لطول العهد ومفارقته إياهم في سن الحداثة ولاعتقادهم أنه قد هلك ولذهابه عن قلة أفكارهم فيه ولبعد ماله التي بلغها من الملك والسلطان عن حالته التي فارقوه عليها طريحا في البئر مشريا بدراهم معدودة حتى لو تحيل لهم أنه هو لكذبوا أنفسهم ولأن الملك مما يبدل الزي ويلبس صاحبه من التهيب والاستعظام ما ينكر منه المعروف.
{ ولما جهزهم بجهازهم } وكان الجهاز الذي لهم هو الطعام الذي امتاروه وفي الكلام حذف تقديره وقد كان استوضح منهم أنه لهم أخ قعد عند أبيه روي أنه لما عرفهم أراد أن يخبروه بجميع أمرهم فباحثهم بأن قال لهم ترجمانه أظنكم جواسيس فاحتاجوا إلى التعريف بأنفسهم فقالوا نحن أبناء رجل صديق وكنا اثني عشرة ذهب منا واحد في البرية وبقي أصغرنا عند أبينا ونحن جئنا للميرة وسقنا بعير الباقي منا وكانوا عشرة بعيرا فقال لهم يوسف ولم تخلف أحدكم قالوا لمحبة أبينا فيه قال: فأتوني بهذا الأخ حتى أعلم حقيقة قولكم وأرى لم أحبه أبوكم أكثر منكم إن كنتم صادقين ثم ذكر ما يحرضهم به على الإتيان بأخيهم بقوله:
{ ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين } أي المضيفين يعني في قطره وفي زمانه يؤنسهم بذلك ويستميلهم ثم توعدهم إن لم يأتوا إليه بحرمانهم من الميرة في المستقبل واحتمل قوله:
{ ولا تقربون } ان يكون نهيا وان يكون نفيا مستقلا ومعناه النهي وحذفت النون وهو مرفوع كما حذفت في قوله:
فبم تبشرون
[الحجر: 54]، وان يكون نفيا داخلا في الجزاء معطوفا على محل فلا كيل لكم عندي فيكون مجزوما، والمعنى: انهم لا يقربون له بلدا ولا طاعة وظاهر كل ما فعله يوسف عليه السلام معهم أنه بوحي من الله وإلا فإنه كان مقتضى البر أن يبادر إلى أبيه ويستدعيه لكن الله أراد تكميل أجر يعقوب ومحنته وليفسر الرؤيا الأولى.
{ قالوا سنراود عنه أباه } أي سنخادعه ونستميله في رفق إلى أن يتركه يأتي معنا إليك أكدوا ذلك الوعد بأنهم فاعلوا ذلك لا محالة لا نفرط فيه ولا نتوانى وقرىء:
{ لفتيانه } ولفتيته فالكثرة على مراعاة المأمورين والقلة على مراعاة المتناولين فهم الخدمة الكائلون أمرهم بجعل المال الذي اشتروا به الطعام في رحالهم مبالغة في استمالتهم.
{ لعلهم يعرفونهآ } أي يعرفون حق ردها وحق التكريم بإعطاء البدلين فيرغبون فيها.
{ إذا انقلبوا إلى أهلهم } وفرغوا ظروفهم ولعلهم يعرفونها تعليق بالجعل.
و { لعلهم يرجعون } تعليق بترجي معرفة البضاعة للرجوع إلى يوسف قيل وكانت بضاعتهم النعال والأدم.
{ فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يأبانا منع منا الكيل } الآية، أي رجعوا من مصر ممتارين بادروا بما كان أهم الأشياء عندهم من التوطئة لإرسال أخيهم معهم وذلك قبل فتح متاعهم وعلمهم إحسان العزيز إليهم من رد بضاعتهم وأخبروا بما جرى لهم مع العزيز الذي على إهراء مصر وانه استدعى منهم العزيز أي يأتوا بأخيهم حتى يتبين له صدقهم أنهم ليسوا جواسيس وقولهم: منع منا الكيل إشارة إلى قول يوسف قال: فإذا لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي ويكون منع يراد به في المستأنف وإلا فقد كيل لهم وجاؤا بالميرة لكن لما أنذروا بمنع الكيل قالوا: منع وقيل أشاروا إلى بعير بنيامين الذي منع من الميرة وهذا أولى بحمل منع على الماضي حقيقة ولقولهم فأرسل معنا أخانا نكتل ويقويه قراءة يكتل بالياء أي يكتل أخونا فإنما منع كيل بعبره لغيبته.
{ قال هل آمنكم عليه } هذا تقرير وتوقيف وتألم من فراقه بنيامين ولم يصرح بمنعه من حمله لما رأى في ذلك من المصلحة وشبه هذا الائتمان في ابنه هذا بائتمانه إياهم في حق يوسف قلتم فيه وإنا له لحافظون كما قلتم في هذا فأخاف أن تكيدوا له كما كدتم لذلك لكن يعقوب لم يخف عليه كما خاف على يوسف واستسلم لله فقال:
{ فالله خير حافظا } وقرىء: حافظا اسم فاعل وانتصب حفظا وحافظا على التمييز والمنسوب له الخير هو حفظ الله والحافظ الذي من جهة الله وجاز الزمخشري أن يكون حافظا حالا وليس بجيد لأن فيه تقييد خير بهذه الحالة.
{ وهو أرحم الراحمين } اعتراف بأن الله تعالى هو ذو الرحمة الواسعة فارجو منه حفظه ولا يجمع على مصيبته ومصيبة أخيه.
[12.65-75]
{ ولما فتحوا متاعهم } الآية، ما نبغي استفهامية أي شىء نبغي ونطلب من الكرامة هذه أموالنا ردت إلينا وكانوا قالوا لأبيهم قدمنا على خير رجل أنزلنا وأكرمنا كرامة لو كان رجلا من آل يعقوب وما أكرمنا كرامته والجملة من قوله: هذه بضاعتنا ردت إلينا، موضحة لقولهم: ما نبغي والجمل بعدها معطوفة عليها على تقدير فنستظهر بها أو نستعين بها.
{ ونمير أهلنا } في رجوعنا إلى الملك.
{ ونحفظ أخانا } فلا يصيبه شىء مما تخافه وكرر حفظ الأخ مبالغة في الحض على إرساله.
{ ونزداد } باستصحاب أخينا وسق بعير على أوساق بعيرنا لأنه إنما كان حمل لهم عشرة أبعرة ولم يحمل الحادي عشر لغيبة صاحبه والإشارة بذلك الظاهر اما إلى كيل بعير أي يسير بمعنى يجيبنا إليه الملك ولا يضايقنا فيه قال الزمخشري: أي ذلك مكيل قليل لا يكفينا يعني ما يكال لهم فازدادوا إليه ما يكال لأخيهم ويجوز أن يكون من كلام يعقوب أي حمل بعير واحد شىء يسير لا يخاطر لمثله بالولد كقوله: ذلك ليعلم " انتهى ". يعني ظاهر الكلام أنه من كلامهم وهو من كلام يعقوب كما أن قوله: ذلك ليعلم ظاهره أنه من كلام امرأة العزيز وهو من كلام يوسف وهذا كله تحميل للفظ القرآن ما يبعد تحميله وفيه مخالفة الظاهر لغير دليل ولما كان يعقوب غير مختار لإرسال ابنه وألحوا عليه في ذلك علق إرساله بأخذ الموثق عليهم وهو الحلف بالله إذ به تؤكد العهود وتشدد.
{ لتأتنني به } جواب للحلف لأن معنى بحتى تؤتون موثقا حتى تحلفوا إلى لتأتنني به وقوله:
{ إلا أن يحاط بكم } لفظ عام لجميع وجوه الغلبة والمعنى تعمكم الغلبة عن جميع الجهات حتى لا تكون لكم حياة ولا وجه مخلص وهذا الاستثناء من المفعول من أجله مراعى في قوله: لتأتنني وان كان مثبتا بمعنى النفي لأن المعنى لا تمتنعون من الإتيان به لشىء من الأشياء إلا أن يحاط بكم ومثاله من المثبت في اللفظ ومعناه النفي قولهم: أنشدك الله إلا فعلت أي ما أنشدك إلا الفعل وفي الكلام حذف تقديره فأجابوه إلى ما طلب.
{ فلمآ آتوه موثقهم قال } يعقوب.
{ الله على ما نقول } من طلب الموثق وإعطائه.
{ وكيل } رقيب مطلع ونهيه إياهم أن يدخلوا من باب واحد وهو خشية العين وكانوا أحد عشر كرجل واحد أهل جمال وبسطة قاله ابن عباس: والعين حق وفي الحديث
" أن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر "
وفي التعوذ من كل عين لامة ويظهر أن خوفه عليهم من العين في هذه الكرة بحسب أن محبوبه فيهم وهو بنيامين الذي كان يتسلى به عن شقيقه يوسف ولم يكن فيهم في الكرة الأولى فأهمل أمرهم ولم يحتفل بهم لسوء صنيعهم في يوسف.
{ إن الحكم إلا لله } أي هو الذي يحكم وحده وينفذ ما يريد فعليه وحده توكلت ومن حيث أمرهم أبوهم أي من أبواب متفرقة روي أنهم لما ودعوا أباهم قال لهم: بلغوا ملك مصر سلامي وقولوا له: ان أبانا يصلي عليك ويدعو لك ويشكر صنيعك معنا وفي كتاب أبي منصور الهمداني أنه خاطبه بكتاب قرىء على يوسف صلى الله عليه وسلم فبكى وجواب لما قوله:
{ ما كان يغني عنهم من الله من شيء } وفيه حجة لمن زعم أن لما حرف وجوب لوجوب لا ظرف زمان بمعنى حين إذ لو كان ظرف زمان جاز أن يكون معمولا لما بعدما النافية لا يجوز حين قام زيد ما قام عمرو ويجوز لما قام زيد ما قام عمرو فدل ذلك على أن لما حرف يترتب جوابه على ما بعده.
{ وإنه لذو علم } يعني لقوله: ان الحكم إلا لله وما بعده وعلمه بأن القدر لا يرفعه الحذر وهذا ثناء من الله تعالى على يعقوب عليه السلام.
{ ولما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه } روي أنهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به فقال: أحسنتم وأصبتم وستجدون ذلك عندي فأنزلهم وأكرمهم ثم أضافهم وأجلس كل اثنين منهم على مائدة فبقي بنيامين وحده فبكى وقال لو كان أخي يوسف حيا لأجلسني معه فقال يوسف عليه السلام بقي أخوكم وحيدا فأجلسه معه على مائدته وجعل يؤاكلهم وقال: أنتم عشرة فلينزل كل اثنين منكم بيتا وهذا إلا ثاني معه فيكون معي وبات يوسف يضمه إليه ويشم رائحته حتى أصبح وسأله عن ولده فقال لي عشرة بنين اشتققت أسماءهم من اسم أخ لي هلك فقال: أتحب أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك قال: من يجد أخا مثلك ولكن لم يلدك يعقوب ولا راحيل فبكى يوسف عليه السلام وقام إليه وعانقه، وقال: أنا أخوك يوسف.
{ فلا تبتئس } فلا تحزن.
{ بما كانوا يعملون } بنا فيما مضى فإن الله قد أحسن إلينا وجمعنا على خير فلا تعلمهم بما أعلمتك وعن ابن عباس تعرف إليه أنه أخوه وهو الظاهر قال ابن عطية: ويحتمل أن يشير بقوله: { بما كانوا يعملون } ، إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السقاية ونحو ذلك " انتهى ".
ولا يحتمل ذلك لأنه لو كان التركيب بما يعملون بغير كانوا لأمكن على ما بعده لأن الكلام إنما هو مع أخوة يوسف وأما ذكر فتيانه فبعيد جدا لأنه لم يتقدم لهم ذكر إلا في قوله: قال لفتيانه وقد حال بينهما قصص واتسق الكلام مع الأخوة اتساقا لا ينبغي أن يعدل عن أن الضمير عائد إليهم وإن ذلك إشارة إلى ما كان يلقي منهم قديما من الأذى إذ قد أمن من ذلك باجتماعه بأخيه يوسف والظاهر أن الذي جعل السقاية في رحل أخيه هو يوسف ويظهر من حيث كونه ملكا أنه لم يباشر ذلك بنفسه بل أمر غيره من فتيانه أو غيرهم أن يجعلها وقال ابن عمر وابن عباس وجماعة السقاية إناء يشرب به الملك وبه كان يكال الطعام للناس.
{ ثم أذن مؤذن } أي نادى مناد اذن أعلم وأذن أكثر الاعلام ومنه المؤذن لكثرة ذلك منه وثم تقتضي مهلة بين جعل السقاية والتأذين فروي أنه لما فصلت العير بأوقارها وخرجوا من مصر أدركوا وقيل لهم: ذلك والظاهر أن العير الإبل وقال مجاهد: كانت دوابهم حميرا ومناداة العير والمراد أصحابها كقوله: يا خيل الله اركبي ولذلك جاء الخطاب.
{ إنكم لسارقون } فروعي المحذوف ولم يراع العير كما روعي في اركبي وفي قوله:
والعير التي أقبلنا فيها ويجوز أن يطلق العير على القافلة أو الرفقة فلا يكون من مجاز الحذف.
{ قالوا } أي إخوة يوسف.
{ وأقبلوا } جملة حالية أي وقد أقبلوا.
{ عليهم } أي على طالبي السقاية أو على المؤذن إن كان أريد به جمع كأنه جعل مؤذنين ينادون وساءهم أن يرموا بهذه المثلبة العظيمة وقالوا:
{ ماذا تفقدون } ليقع التفتيش فتظهر براءتهم واحتمل أن تكون ماذا استفهاما في موضع نصب بتفقدون واحتمل أن يكون ما وحدها استفهاما مبتدأ وذا موصولة بمعنى الذي خبر عن ما وتفقدون صلة لذا والعائد محذوف أي تفقدونه.
و { صواع الملك } هو المكيال وهو السقاية سماه أولا بإحدى جهتيه وآخرا بالثانية.
{ ولمن جآء به } أي لمن دل على سارقه وفضحه وهذا جعل.
{ وأنا به زعيم } من كلام المؤذن أي وأنا بحمل البعير كفيل أودية إلى من جاء به وأراد به وسق بعير من طعام جعلا لمن حصله.
{ قالوا تالله } اقسموا بالتاء من حروف القسم لأنها يكون فيها التعجب غالبا كأنهم عجبوا من رميهم بهذا الأمر العظيم وروي أنهم ردوا البضاعة التي وجدوها في الرمال وتحرجوا من أخذ الطعام بلا ثمن وكانوا قد اشتهروا بمصر بصلاح وعفة وكانوا يجعلون الأكمة في أفواه ابلهم لئلا تنال زرع الناس فأقسموا على إثبات شىء قد علموه منهم وهو أنكم قد علمتم أن مجيئنا لم يكن لفساد ثم استأنفوا الاخبار عن نفي السرقة عنهم وأن ذلك لم يوجد منهم قط.
قال ابن عطية: والتاء في تالله بدل مما وكما أبدلت في تراث وفي التوراة والتخمة ولا تدخل التاء في القسم إلا في الله من بين أسمائه تعالى وغير ذلك لا تقول تا الرحمن وتا الرحيم " انتهى ".
أما قوله والتاء في تالله بدل من واو فهو قول أكثر النحويين وقال السهيلي: انها أصل بنفسها وليست بدلا من واو وأما قوله: وفي التوراة فعلى مذهب البصريين إذ زعموا أن الأصل ووراه من ورى الزند ومن النحويين من زعم أن التاء زائدة وذلك مذكور في النحو وأما قوله: فلا تدخل إلى آخره فقد حكي عن العرب دخولها على الرب وعلى الرحمن وعلى حياتك قالوا: ترب الكعبة وتالرحمن وتحياتك والظاهر اتحاد الضمائر في قوله:
{ قالوا جزآؤه من وجد في رحله } إذ التقدير إذ ذاك قالوا: جزاء الصاع أي سرقته من وجد الصاع في رحله وقولهم: جزاؤه من وجد في رحله كلام من لم يشك أنهم برآء مما رموا به ولاعتقادهم البراءة علقوا الحكم على وجدان الصاع لا على سرقته وجزاؤه مبتدأ ومن مبتدأ فإن كانت شرطية فوجد في رحله الخبر وجواب الشرط فهو جزاؤه وإن كانت موصولة فوجد في رحله صلتها وفهو جزاؤه في موضع خبرها، قال ابن عطية: والضمير في قالوا جزاؤه للسارق وهذا لا يصح لخلو الجملة الواقعة خبر جزاؤه من رابط وقال الزمخشري: المعنى قالوا: جزاء سرقته ويكون جزاؤه مبتدأ والجملة الشرطية كما هي خبره على إقامة الظاهر فيها مقام المضمر والأصل جزاؤه من وضع في رحله فهو هو فوضع الجزاء موضع هو كما تقول لصاحبك من أخو زيد فتقول أخوه من يقعد إلى جنبه فهو هو يرجع الضمير الأول إلى من والثاني إلى الأخ ثم تقول فهو أخوه مقيما للمظهر مقام المضمر ووضع الظاهر موضع المضمر للربط إنما هو فصيح في مواضع التفخيم والتهويل وغير فصيح فيما سوى ذلك نحو زيد قام زيد وينزه القرآن عنه وقال الزمخشري أيضا: جزاؤه خبر مبتدأ محذوف أي المسؤول عنه جزاؤه ثم افتوا بقولهم من وجد في رحله فهو جزاؤه كما تقول من يستفتي في جزاء صيد الحرم جزاء صيد الحرم ثم تقول ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم وهو متكلف إذ تصير الجملة من قوله المسؤول عنه جزاؤه وعلى هذا التقدير ليس فيه كبير فائدة إذ قد علم من قوله فما جزاؤه ان الشىء المسؤول عنه جزاء سرقته فأي فائدة في نطقهم بذلك وكذلك القول في المثال الذي مثل به من قول المستفتي ومعنى فهو جزاؤه أي فاستعباده إذ كانت عادتهم استعباد السارق.
{ كذلك } أي مثل ذلك الجزاء وهو الاسترقاق.
{ نجزي الظالمين } أي بالسرقة وهو ديننا وسنتنا في أهل السرقة.
[12.76-95]
{ فبدأ بأوعيتهم قبل وعآء أخيه } قيل: قال لهم من وكل بهم لا بد من وكل بهم لا بد من تفتيش أوعيتكم فانطلق بهم إلى يوسف عليه السلام فبدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء بنيامين لنفي التهمة وتمكين الحيلة واتقاء ظهورها حتى بلغ وعاءه فقال: ما أظن هذا أخذ شيئا فقالوا: والله لا تتركه حتى تنظر في رحله فإنه أطيب لنفسك وأنفسنا فاستخرجها منه.
{ كذلك كدنا ليوسف } يعني علمناه إياه وأوحينا به إليه وقولهم.
{ إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل } لا يدل على الجزم بأنه سرق بل أخرجوا ذلك مخرج الشرط أي إن كان وقع منه سرقة فهو تأسى بمن سرق قبله فقد سرق أخ له من قبل والتعليق على الشرط على أن السرقة في حق بنيامين وأخيه ليست مجزوما بها كأنهم قالوا: إن كان هذا النهي رمى به بنيامين حقا فالذي رمى به يوسف من قبل حق لكنه قوي الظن عندهم في حق يوسف بما ظهر لهم أنه جرى من بنيامين ولذلك قالوا ان ابنك سرق وقيل حققوا السرقة في جانب بنيامين وأخيه بحسب ظاهر الأمر فكأنهم قالوا: إن كان قد سرق فغير بدع من ابني راحيل لأن أخاه يوسف قد كان قد سرق فعلى هذا القول يكون قولهم: انحاء على يوسف وبنيامين وقولهم: هذا هو بحسب الظاهر والأخبار بأمر جرى لتزول المعرة عنهم وتختص بالشقيقين وتنكير أخ في قولهم: فقد سرق أخ له من قبل لأن الحاضرين لا علم لهم به وقالوا له: لأنه كان شقيقه والجمهور على أن السرقة التي نسبت إلى يوسف صلى الله عليه وسلم هي أن عمته ربته وشب عندها وأراد يعقوب أخذه فأشفقت من فراقه فأخذت منطقة إسحاق وكانت متوارثة عندهم فنطقته بها من تحت ثيابه ثم صاحت وقالت: فقدت المنطقة ففتشت فوجدت عند يوسف فاسترقته حسبما كان عندهم في شرعهم وبقي عندها حتى ماتت فصار عند أبيه والضمير في فأسرها يفسره سياق الكلام أي الحزازة التي حدثت في نفسه من قولهم: والظاهر من قوله:
{ أنتم شر مكانا } خطابهم بهذا القول في الوجه فكأنه أسر كراهية مقالتهم ثم وبخهم بقوله: أنتم شر مكانا، وفيه إشارة إلى تكذيبهم ومعنى:
{ أعلم بما تصفون } يعني هو أعلم بما تصفون منكم لأنه عالم بحقائق الأمور وكيف كانت سرقة أخيه التي أحلتم سرقته عليه.
{ قالوا يأيها العزيز } الآية استعطفوا يوسف إذ كان قد أخذ عليهم الميثاق ومعنى كبيرا في السن أو القدر وكانوا قد اعلموا يوسف بأنه كان له ابن هلك وهذا شقيقه ليستأنس به وخاطبوه بالعزيز إذ كان في تلك الخطة بعزل قطفير وموته على ما سبق ومعنى مكانه أي بدله على جهة الاسترهان والاستبعاد وقوله: من المحسنين بما شاهدوه من إحسانه لهم ولغيرهم، أو من المحسنين إلينا في هذه اليد ان أسديتها إلينا.
و { قال معاذ الله } تقدم الكلام عليه في معاذ الله إنه ربي.
{ فلما استيأسوا منه خلصوا نجيا } استفعل هنا بمعنى المجرد يئس واستيأس بمعنى واحد نحو سخر واستسخر وعجب واستعجب ومعنى خلصوا نجيا انفردوا من غيرهم يناجي بعضهم بعضا والنجي فعيل بمعنى فاعل كالخليط والعشير وبمعنى المصدر الذي هو التناجي كما قيل النجوى بمعنى التناجي وهو لفظ يوصف به من له نجوى واحدا كان أو جماعة مؤنثا أو مذكرا.
{ قال كبيرهم } في السن وهو روبيل ذكرهم الميثاق في قول يعقوب: لتأتنني به إلا أن يحاط بكم وما زائدة أي ومن قبل هذا فرطتم في يوسف ومن قبل متعلق بفرطتم وقد جوزوا في إعرابه وجوها أحدها أن تكون ما مصدرية أي ومن قبل تفريطكم قال الزمخشري: على أن محل المصدر الرفع على الابتداء وخبره الظرف وهو من قبل ومعناه ووقع من قبل تفريطكم في يوسف، وقال ابن عطية: ولا يجوز أن يكون قوله: من قبل متعلقا بما فرطتم وإنما يكون ما على هذا مصدرية التقدير من قبل تفريطكم في يوسف واقع ومستقر وبهذا المقدر يتعلق قوله: من قبل، " انتهى ".
وهذا قول الزمخشري راجع إلى معنى واحد وهو أن ما فرطتم يقدر بمصدر مرفوع بالابتداء ومن قبل في موضع الخبر وذهلا عن قاعدة عربية وحق لهما أن يذهلا وهو أن هذه الظروف التي هي غايات إذ أبنيت لا تقع أخبارا للمبتدأ جرت أو لم تجر.
تقول يوم السبت مبارك والسفر بعده لا يجوز والسفر بعد وعمرو جاء وزيد خلفه ولا يجوز أن يقال وزيد خلف على ما ذكراه يكون تفريطكم مبتدأ ومن قبل خبر وهو مبني وذلك لا يجوز وهو مقرر في علم العربية ولهذا ذهب أبو علي إلى أن المصدر مرفوع بالابتداء وفي يوسف هو الخبر أي كائن أو مستقر في يوسف والظاهر أن في يوسف معمول لقوله: فرطتم لا انه في موضع خبر وأجاز الزمخشري وابن عطية أن تكون ما مصدرية والمصدر المسبوك في موضع نصب والتقدير الم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا ومن قبل تفريطكم في يوسف وقدره الزمخشري وتفريطكم من قبل في يوسف وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيد لأن فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو على حرف واحد وبين المعطوف فصار نظير ضربت زيدا وبسيف عمرا وقد زعم أبو علي الفارسي أنه لا يجوز ذلك إلا في ضرورة الشعر واما تقدير الزمخشري وتفريطكم من قبل في يوسف فلا يجوز لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل الحرف مصدري والفعل عليه وهو لا يجوز وأجاز ذلك أيضا أن تكون موصولة بمعنى الذي قال الزمخشري: ومحله الرفع أو النصب على الوجهين " انتهى ".
يعني بالرفع أن يرتفع على الابتداء ومن قبل الخبر وقد ذكرنا أن ذلك لا يجوز ومعنى النصب أن يكون عطفا على المصدر المنسبك من قوله: ان أباكم قد أخذ عليكم وفيه الفصل بين حرف العطف الذي هو الواو وبين المعطوف فأحسن هذه الوجه ما بدأنا به من كون ما زائدة وبرح التامة تكون بمعنى ذهب وبمعنى ظهر ومنه برح الخفاء أي ظهر وذهب لا ينتصب الظرف المكاني المختص بها إنما يصل إليه بوساطة في فاحتيج إلى اعتقاد تضمين برح معنى فارق وعني بالأرض أرض مصر التي فيها الواقعة ثم غيا ذلك بغايتين إحداهما خاصة وهي قوله: حتى يأذن لي أبي في الإنصراف إليه والثانية عامة وهي قوله: أو يحكم الله لي لأن أذن أبيه له وهو من حكم الله تعالى في مفارقة أرض مصر وكأنه لما علق الأمر بالغاية الخاصة رجع إلى نفسه فأتى بغاية عامة تفويضا لحكم الله ورجوعا إلى من له الحكم حقيقة وقعوده التضييق على نفسه كأنه سجنها في القطر الذي أداه إلى سخط أبيه وفي الكلام حذف تقديره فرجعوا إلى أبيهم وأخبروه بالقصة وقول من قال: ارجعوا ثم استشهدوا بأهل القرية التي كانوا فيها وهي مصر قاله ابن عباس: وبل للإضراب فيقتضي كلاما محذوفا قبلها حتى يصح الاضراب فيها وتقديره ليس الأمر حقيقة كما أخبر ثم بل سولت وتقدم شرح سولت وإعراب فصبر جميل ثم ترجى من الله تعالى أن يأتيه بهم وهم يوسف وبنيامين وكبيرهم على الخلاف الذي فيه وترجى يعقوب للرؤيا التي رآها يوسف وكان ينتظرها ولحسن ظنه بالله في كل حال ولما أخبر به عن ملك مصر أنه يدعو له برؤية ابنه ووصفه الله تعالى بهاتين الصفتين لائق بما يؤخره تعالى من لقاء بنيه وتسليم لحكم الله فيما جرى عليه والضمير في بهم عائد على يوسف وأخيه وعلى كبيرهم الذي امتنع أن يسير معهم إلى أبيهم وباقي الأخوة كانوا عند يعقوب صلى الله عليه وسلم.
{ وتولى عنهم وقال يأسفى على يوسف } الآية، وتولى عنهم أي أعرض عنهم كراهة لما جاؤا به وأنه ساء ظنه بهم ولم يصدق قولهم: وجعل يتفجع ويتأسف ونادى يعقوب الأسف على سبيل المجاز على معنى هذا زمانك فاحضر والظاهر أنه مضاف إلى ياء المتكلم قلبت الياء ألفا كما قالوا في يا غلامي يا غلاما وذكر يعقوب ما دهاه من أمر بنيامين والقائل فلن أبرح الأرض فقد ابنه يوسف فتأسف عليه وحده ولم يتأسف عليهما لأنه هو الذي لا يعلم أحي هو أم ميت بخلاف أخويه ولأنه كان أصل الرزايا عنده أو ترتبت عليه وكان أحب أولاده إليه وكان دائما يذكره ولا ينساه وابيضاض عينيه من توالي العبرة عليهما فينقلب سواد العين إلى بياض كدر والظاهر أنه كان عمي لقوله تعالى:
فارتد بصيرا
[يوسف: 96]. وقال:
وما يستوي الأعمى والبصير
[فاطر: 19] فقابل البصير بالأعمى وعلل الابيضاض بالحزن وإنما هو من البكاء وهو ثمرة الحزن فعلل بالأصل الذي نشأ منه البكاء وهو الحزن والكظيم اما للمبالغة وهو الظاهر اللائق بحال يعقوب أي شديد الكظم كما قال:
والكاظمين الغيظ
[آل عمران: 134]، ولم يشك يعقوب إلى أحد وإنما كان يكتمه في نفسه ويمسك همه في صدره فكان يكظمه أي يرده إلى قلبه ولا يرسله بالشكوى والغضب والضجر واما أن يكون فعيلا بمعنى مفعول وهو لا ينقاس وقاله قوم كما قال تعالى:
إذ نادى وهو مكظوم
[القلم: 48] وجواب القسم تفتؤ حذفت منه لا وحذفها جائز والمعنى لا تزال واسمها ضمير الخطاب وتذكر خبر تفتؤ وحتى للغاية بمعنى إلى أن فكأنهم قالوا له ذلك على جهة تفنيد الرأي أي لا تزال تذكر يوسف إلى حال القرب من الهلاك أو إلى أن تهلك فقال هو:
{ إنمآ أشكو بثي وحزني إلى الله } أي لا أشكو إلى أحد منكم ولا غيركم. قال أبو عبيدة وغيره: البث أشد الحزن سمي بذلك لأنه من صعوبته لا يطيق حمله فيبثه أي ينشره.
{ وأعلم من الله ما لا تعلمون } أي أعلم من صفة الله ورحمته وحسن ظني به أنه يأتي بالفرج من حيث لا أحتسب.
{ اذهبوا } أمر بالذهاب إلى أرض مصر التي جاؤا منها وتركوا بها اخويهم بنيامين والمقيم بها وأمرهم بالتحسس وهو الاستقصاء والطلب بالحواس ويستعمل في الخير والشر وقرىء: بالجيم والمعنى فتجسسوا شيئا من أمر يوسف وأخيه وإنما خصهما لأن الذي أقام وقال: فلن أبرح الأرض إنما أقام مختارا وروح الله رحمته وفرجه وتنفيسه.
{ فلما دخلوا عليه قالوا يأيها العزيز } الآية في الكلام حذف تقديره فذهبوا من الشام إلى مصر فلما دخلوا عليه والضمير في عليه عائد على يوسف وكان آكد ما حدثوه فيه شكوى ما أصابهم من الجهد قبل ما وصاهم به من تحسيس نبأ يوسف وأخيه والضر الهزال من الشدة والجوع والبضاعة كانت زيوفا قاله ابن عباس. ثم التمسوا منه إيفاء الكيل وقد استدل بهذا على أن الكيل على البائع ولا دليل فيه.
{ وتصدق علينآ } أي بالمسامحة والإغماض عن رداءة البضاعة أو زدنا على حقنا فسموا ما هو فضل وزيادة لا تلزمه صدقة.
{ قال هل علمتم ما فعلتم } الآية، نسبهم اما إلى جهل المعصية واما إلى جهل الشباب وقلة الحنكة وقيل أتاهم من جهة الدين وكان عليه السلام حليما موفقا فكلمهم مستفهما عن معرفة وجه القبح الذي يجب أن يراعيه التائب فقال: هل علمتم أي قبح ما فعلتم بيوسف وأخيه إذ أنتم جاهلون لا تعلمون قبحه فلذلك أقدمتم عليه يعني هل علمتم قبحه فتبتم إلى الله منه لأن علم القبيح يدعو إلى الاستقباح والاستقباح يجر التوبة فكان كلامه شفقة عليهم ونصحا لهم في الدين وإيثار حق نفسه في ذلك المقام الذي يتنفس فيه المكروب وينفث المصدور ويشتفي المغيظ المحنق ويدرك ثأره الموتور.
{ قالوا أءنك لأنت يوسف قال أنا يوسف } الآية، لما خاطبهم بقوله: هل علمتم، أدركوا أنه لا يستفهم ملك لم ينشأ عندهم ولا تتبع أحوالهم وليس منهم فيما يظهر إلا وعنده علم منهم بحالهم فيقال انه كان يكلمهم من وراء حجاب فرفعه ووضع التاج وتبسم وكان يضيء ما حوله من نور تبسمه ورأوا لمعة بياض كالشامة في فرقة حين وضع التاج وكان مثلها لأبيه وجده وسارة فتوسموا أنه يوسف واستفهموه استفهام استخبار وقيل: استفهام تقرير لأنهم كانوا عرفوه بتلك العلامات التي سبق ذكرها ولما استفهموه أجابهم فقال: أنا يوسف كاشفا لهم أمره وزادهم في الجواب قوله: وهذا أخي لأنه سبق قوله: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه وكان في ذكر أخيه بيان لما سألوا عنه وإن كان معلوما عندهم وتوطئة لما ذكر بعد من قوله:
{ قد من الله علينآ } أي بالاجتماع بعد الفرقة والأنس بعد الوحشة ثم ذكر أن سبب من الله تعالى هو بالتقوى والصبر والأحسن أن لا يخص التقوى بحالة وإلا الصبر وقرأ قنبل ويتقي فقيل هو مجزوم بحذف الياء التي هي لام الكلمة وقيل جزمه بحذف الحركة على لغة من يقول لم يرم زيد وقد حكوا ذلك لغة وقيل هو مرفوع ومن موصولة بمعنى الذي وعطف عليه مجزوم وهو يصبر وذلك على التوهم كأنه توهم أن من شرطية ويتقي مجزوم والمحسنين عام يندرج فيه من تقدم أو وضع موضع الضمير لاشتماله على المتقين والصابرين فكأنه قيل لا يضيع أجرك وآثرك الله فضلك بالملك أو بالصبر والعلم قالهما ابن عباس.
{ لا تثريب عليكم } الآية، التثريب التأنيب والعتب وعبر بعضهم عنه بالتعبير ومنه إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها ولا يثرب عليها أي لا يعيرها وأصله من الثرب وهو الشحم الذي هو غاشية الكرش ومعناه إزالة الثرب كما أن التجليد والتقريع إزالة لجلد فضرب مثلا للتقريع الذي يمزق العرض ويذهب بهاء الوجه وتثريب اسم لا وعليكم الخبر واليوم منصوب بالعامل في الخبر أي لا تثريب مستقر عليكم اليوم قال الزمخشري: فإن قلت بم تعلق اليوم قلت بالتثريب أو المقدر عليكم من معنى الاستقرار أو بيغفر والمعنى لا أثربكم اليوم وهو اليوم الذي هو مظنة التثريب فما ظنكم بغيره من الأيام ثم ابتدأ فقال:
{ يغفر الله لكم } فدعا لهم بمغفرة ما فرط منهم يقال: غفر الله لك ويغفر الله لك على لفظ الماضي والمضارع جميعا ومنه قول المشمت: يغفر الله لكم ويصلح بالكم أو اليوم يغفر الله لكم بشارة بعاجل الغفران لما تجدد يومئذ من توبتهم وندمهم على خطيئتهم " انتهى ".
أما قوله: ان اليوم متعلق بالتثريب فهذا لا يجوز لأن التثريب مصدر وقد فصل بينه وبين معموله بقوله: عليكم وعليكم اما أن يكون خبرا أو صفة لتثريب ولا يجوز الفصل بينهما لأن معمول المصدر من تمامه وأيضا لو كان اليوم متعلقا بتثريب لم يجز بناؤه وكان يكون من قبيل المشبه بالمضاف وهو الذي يسمى الممطول ويسمى المطول وكان يكون معربا منونا واما تقديره الثاني فتقدير حسن ولذلك وقف على قوله اليوم أكثر القراء وابتدؤا بيغفر الله لكم على جهة الدعاء وهو تأويل ابن إسحاق والطبري. واما تقديره الثالث وهو أن يكون اليوم متعلقا بيغفر فقول وقد وقف بعض القراء على عليكم وابتدأ اليوم يغفر الله لكم ولما دعا لهم بالمغفرة أخبر عن الله تعالى بالصفة التي هي سبب الغفران وهو أنه تعالى أرحم الراحمين فهو يرجو منه قبول دعائه لهم بالمغفرة والباء في بقميص الظاهر أنها للحال أي مصحوبين أو ملتبسين به والظاهر أنه قميص من ملبوس يوسف عليه السلام بمنزلة قميص كل أحد، قال ابن عطية: وهكذا نبين الغرابة في أن وجد يعقوب ريحه من بعد ولو كان من قمص الجنة كما قيل ما كان في ذلك غرابة ولوجده كل أحد وقوله: فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا، يدل على أنه علم أنه عمي من الحزن اما باعلامهم واما بوحي من الله تعالى، وقوله: يأت بصيرا يظهر أنه بوحي من الله تعالى وأهلوه الذين أمر أن يؤتى بهم سبعون وقيل غير ذلك وفي واحد من هذا العدد حلوا بمصر ونموا حتى خرج من ذريتهم مع موسى ستمائة ألف مع قرب المدة عجب عظيم ومعنى يأت يأتيني وانتصب بصيرا على الحال ثم أمرهم بأمرين أحدهما الذهاب بقميصه إذ كان أسر إليه ارتداد بصر أبيه بإلقاء قميصه على وجهه.
والأمر الثاني إتيانهم بأهلهم جميعا لتكمل مسرته بذلك.
{ ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف } الآية، يقال فصل من البلد يفصل فصولا انفصل منه وجاوز حيطانه وهو لازم وفصل الشىء فصلا فرق وهو متعد ومعنى فصلت العير انفصلت من عريش مصر قاصدة مكان يعقوب عليه السلام وكان قريبا. من بيت المقدس وهو الصحيح لأن آثارهم وقبورهم هناك إلى الآن وقرأ ابن عباس ولما انفصلت قال ابن عباس: وجد ريحه من مسيرة ثمانية أيام هاجت ريح فحملت عرقه وقيل غير ذلك ومعنى لأجد لأشم فهو وجود حاسة الشم وقال الشاعر:
واني لأستشفي بكل غمامة
يهب بها من نحو أرضك ريح
ومعنى: { تفندون } قال ابن عباس تسفهون وتجهلون وقال منذر بن سعيد البلوطي: يقال شيخ مفند أي: قد فسد رأيه ولا يقال عجوز مفندة لأن المرأة لم يكن لها قط رأي أصيل فيدخله التفنيد ولولا هنا حرف امتناع لوجود وأن تفندون في موضع المبتدأ تقديره لولا تفنيدكم وجوبها محذوف قال الزمخشري: المعنى لولا تفنيدكم إياي لصدقتموني " انتهى ".
وقد يقال تقديره لولا أن تفندون لأخبرتكم بكونه حيا لم يمت لأن وجدان ريحه دال على حياته والمخاطب بقوله: تفندون الظاهر أنه من تناسق الضمائر أنه عائد على من كان بقي عنده من أولاده غيره الذين راحوا يمتارون إذ كان أولاده جماعة وقيل المخاطب ولد ولده ومن كان بحضرته من قرابته والضلال هنا لا يراد به ضد الهدى والرشاد قال ابن عباس: المعنى إنك لفي خطاك وكان حزن يعقوب قد تجدد بقصة بنيامين.
[12.96-106]
{ فلمآ أن جآء البشير } ان زائدة للتأكيد وزيادتها بعد لما قياس مطرد قال ابن عباس: البشير كان يهوذا لأنه كان جاء بقميص الدم والضمير المستكن في ألقاه عائد على البشير وقوله:
{ إني أعلم من الله ما لا تعلمون } من حياة يوسف وإن الله تعالى يجمع بيننا ولما رجع إليه بصره وقرت عينيه بالمسير إلى ابنه يوسف وقررهم على قوله:
{ ألم أقل لكم } طلبوا منه أن يستغفر لهم الله لذنوبهم واعترفوا بالخطأ السابق منهم وسوف أستغفر لكم عدة لهم بالاستغفار بسوف وهي ابلغ في التنفيس من السين فعن ابن مسعود أنه أخر الاستغفار لهم إلى السحر وعن ابن عباس إلى ليلة الجمعة وعنه إلى سحرها ولما وعدهم بالاستغفار رجاهم بحصول الغفران بقوله: انه هو الغفور الرحيم وفي الكلام حذف تقديره فامتثلوا ما أمرهم به يوسف من الذهاب والإتيان بأهلهم.
{ فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه } الآية، ذكروا أن يوسف جهز إلى أبيه جهاز أو مائتي راحلة ليتجهز إليه بمن معه وخرج يوسف عليه السلام قيل والملك في أربعة آلاف من الجند والعظماء وأهل مصر بأجمعهم فتلقوا يعقوب صلى الله عليه وسلم وهو يمشي يتوكأ على يهوذا فنظر إلى الخيل والناس فقال يا يهوذا أهذا فرعون مصر، قال: لا، ولكن هذا ولدك فلما لقيه يعقوب قال: السلام عليك يا مذهب الأحزان آوى إليه إبويه أي ضمهما إليه وعانقهما والظاهر أنهما أبوه وأمه راحيل فقال الحسن وابن إسحاق: كانت أمه بالحياة وظاهر قوله: ادخلوا مصر إنه أمر بإنشاء دخول مصر، قال السدي: قال لهم ذلك وهم في الطريق حين تلقاهم " انتهى ".
فيبقى قوله: فلما دخلوا على يوسف كأنه ضرب لهم مضرب أو بيت حالة التلقي في الطريق فدخلوا عليه فيه ومعنى ادخلوا أي تمكنوا واستقروا فيها والظاهر تعليق الدخول على مشيئة الله تعالى لما أمرهم بالدخول علق ذلك على مشيئة الله لأن جميع الكائنات إنما تكون بمشيئته تعالى وما لم يشأ لم يكن.
{ ورفع أبويه على العرش } والعرش سرير الملك ولما دخل يوسف مصر وجلس في مجلسه على سريره واجتمعوا إليه أكرم أبويه فرفعهما على السرير وخصهما بذلك تكريما لهما دون إخوته والضمير في:
{ وخروا } عائد على أبويه واخوته وظاهر قوله: وخروا له سجدا انه السجود المعهود وان الضمير في له عائد على يوسف لمطابقة الرؤيا في قوله:
إني رأيت أحد عشر كوكبا
[يوسف: 4] الآية، وكان السجود إذ ذاك جائزا من باب التكريم بالمصافحة وتقبيل اليد والقيام مما شهر بين الناس من باب التعظيم والتوقير.
{ وقال يأبت هذا تأويل رؤياي من قبل } أي سجودكم هذا تأويل أي عاقبة رؤياي ان تلك الكواكب والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين ومن متعلق برؤياي والمحذوف في من قبل تقديره من قبل هذه الكوائن والحوادث التي جرت بعد رؤياي ثم ابتدأ يوسف بتعديد نعم الله تعالى عليه فقال:
{ قد جعلها ربي حقا } أي صادقة رأيت ما وقع لي في منام يقظة حقيقة لا باطل فيها ولا لغو وفي المدة التي كانت بين رؤياه وسجودهم خلاف متناقض وأحسن أصله أن يتعدى بإلى قال تعالى:
وأحسن كمآ أحسن الله إليك
[القصص: 77] وقد يتعدى بالباء قال تعالى:
وبالوالدين إحسانا
[البقرة: 83] وقد يكون ضمن أحسن معنى لطف فعداه بالباء وذكر إخراجه من السجن وعدل عن إخراجه من الجب صفحا عن ذكر ما يتعلق بفعل إخوته وتناسيا لما جرى منهم إذ قال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم، وتنبيها على طهارة نفسه براءتها مما نسب إليه من المراودة وعلى ما تنقل إليه من الرياسة في الدنيا بعد خروجه من السجن بخلاف ما تنقل إليه بالخروج من الجب إلى أن بيع العبيد.
{ وجآء بكم من البدو } أي من البادية وكان منزل يعقوب بأطراف الشام بالبادية بادية فلسطين وكان رب إبل وغنم وبادية وقابل يوسف نعمة إخراجه من السجن بمجيئهم من البدو والإشارة بذلك إلى الاجتماع بأبيه وأخوته وزوال حزن أبيه. وفي الحديث: من يرد الله به خيرا ينقله من البادية إلى الحاضرة.
{ من بعد أن نزغ الشيطان } أي أفسد وتقدم الكلام على نزغ وأشد النزوغ إلى الشيطان لأنه هو الموسوس كما قال تعالى:
فأزلهما الشيطان عنها
[البقرة: 36]. وذكر هذا القدر من أمر أخوته لأن النعمة إذا جاءت أثر بلاء وشدة كانت أحسن موقعا.
{ إن ربي لطيف } أي لطيف التدبير.
{ لما يشآء } من الأمور رفيق ومن في قوله من الملك وفي من تأويل للتبعيض لأنه لم يؤته إلا بعض ملك الدنيا ولا علم إلا بعض التأويل وانتصب فاطر على الصفة أو على النداء.
{ أنت وليي } تتولاني بالنعمة في الدارين وتوصل الملك الفاني بالملك الباقي وذكر كثير من المفسرين أنه لما عدد نعم الله عليه تشوف إلى لقاء ربه ولحاقه بصالحي سلفه ورأى أن الدنيا كلها فانية فتمنى الموت والذي يظهر أنه ليس في الآية تمنى الموت وإنما عدد نعمه تعالى عليه ثم دعا أن يتم عليه النعم في باقي أمره أي توفني إذا حان أجلي على الإسلام وأجعل لحاقي بالصالحين وإنما تمنى الوفاة على الإسلام لا الموت والصالحين أهل الجنة وقيل غير ذلك وعلماء التاريخ يزعمون أن يوسف عليه السلام عاش مائة عام وسبعة أعوام وله من الولد أفراثيم ومنشأ ورحمة زوجة أيوب قال الزهري: وولد لافراثيم نون ولنون يوشع وهو فتى موسى وولد لمنشأ موسى وهو قبل موسى بن عمران ويزعم أهل التوراة أنه صاحب الخضر وكان ابن عباس ينكر ذلك وثبت في الحديث الصحيح أن صاحب الخضر موسى بن عمران وتوارثت الفراعنة ملك مصر ولم تزل بنو إسرائيل تحت أيديهم على بقايا دين يوسف عليه السلام وأبيه إلى أن بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم.
{ ذلك من أنبآء الغيب نوحيه إليك } قال ابن الأنباري: سألت قريش واليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة يوسف فنزلت مشروحة شرحا شافيا وأمل صلى الله عليه وسلم أن يكون سببا لإسلامهم فخالفوا تأميله فعزاه الله بقوله: وما أكثر الناس الآيات والإشارة بذلك إلى ما قصه الله تعالى من قصة يوسف وإخوته.
{ وما كنت لديهم } أي عند بني يعقوب حين أجمعوا أمرهم على أن يجعلوه في الجب ولا حين ألقوه فيه ولا حين التقطته السيارة ولا حين بيع.
{ وهم يمكرون } أي يبغون الغوائل اليوسف ويتشاورون فيما يفعلون به أو يمكرون بيعقوب حين أتوا بالقميص ملطخا بالدم وفي هذا تصريح لقريش بصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا النوع في علم البيان يسمى بالاحتجاج النظري وبعضهم يسميه المذهب الكلامي وهو أن يلزم الخصم ما هو لازم لهذا الاحتجاج وتقدم نظير ذلك في آل عمران وفي هود وهذا تهكم بقريش وبمن كذبه لأنه لا يخفى على أحد أنه لم يكن من جملة هذا الحديث وأشباهه ولا لقي فيه أحدا يعلمه بشىء من ذلك ولم يسمع منه ولم يكن من علم قومه فإذا أخبر به وقصه هذا القصص الذي أعجز حملته ورواته لم تقع شبهه من أنه ليس منه وأنه من جهة الوحي فإذا أنكروه تهكم بهم وقيل لهم قد علمتم أنه لم يكن مشاهدا لمن مضى من القرون الخالية ونحوه
وما كنت بجانب الغربي إذ قضينآ إلى موسى الأمر
[القصص: 44] فقوله: وما كنت هناك على جهة التهكم بهم لأنه قد علم كل أحد أن محمدا صلى الله عليه وسلم ما كان معهم وأجمعوا أمرهم أي عزموا على إلقاء يوسف في الجب وهم يمكرون جملة حالية والمكر أن يدبر على الإنسان تدبيرا يضره ويؤذيه والناس الظاهر العموم لقوله تعالى:
ولكن أكثر الناس لا يؤمنون
[هود: 17] وعن ابن عباس أنهم أهل مكة.
{ ولو حرصت } ولو بالغت في طلب إيمانهم لا يؤمنون لفرط عنادهم وتصميمهم على الكفر وجواب لو محذوف أي ولو حرصت لم يؤمنوا إنما يؤمن من يشاء الله إيمانه والضمير في عليه عائد على ما يحدثهم به ويذكرهم أن ينيلوك منفعة وجدوى كما يعطي حملة الأحاديث والأخبار إن هو إلا عظة وذكر من الله تعالى للعالمين عامة وحث على طلب النجاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أخبر تعالى أنهم لفرط كفرهم يمرون على الآيات التي تكون سببا للإيمان فيعرضون عنها ولا تفيد عندهم شيئا ولا تؤثر فيهم وان تلك الآيات هي في العالم العلوي وفي العالم السفلي ومعنى يمرون عليها أي يمشون عليها والمراد ما يرون من آثار الأمم الهالكة وغير ذلك من العبر.
{ وهم مشركون } جملة حالية أي إيمانهم ملتبس بالشرك قال ابن عباس: هم أهل الكتاب أشركوا بالله من حيث كفروا بنبيه صلى الله عليه وسلم.
[12.107-111]
{ أفأمنوا } استفهام إنكار في معنى التوبيخ والتهديد.
{ غاشية } نقمة تغشاهم أي تغطيهم كقوله تعالى:
يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم
[العنكبوت: 55] وقال الضحاك يعني الصواعق والقوارع " انتهى " وإتيان الغاشية يعني من الدنيا وذلك لمقابلته بقوله:
{ أو تأتيهم الساعة } أي يوم القيامة.
{ بغتة } فجأة في الزمان ومن حيث لا يتوقع.
{ وهم لا يشعرون } تأكيد لقوله بغتة، قال الكرماني: لا يشعرون بإتيانها، أي وهم غير مستعدين لها قال ابن عباس: تأخذهم الصيحة وهم على أسواقهم ومواصفهم.
{ قل هذه سبيلي أدعو } الآية لما تقدم من قول يوسف صلى الله عليه وسلم توفني مسلما وكان قوله وما أكثر الناس لو حرصت بمؤمنين دالا على أنه حارص على إيمانهم مجتهد في ذلك داع إليه مثابر عليه وذكر وما تسألهم عليه من أجر إشارة إلى ما فهم من ذلك وهو شريعة الإسلام والإيمان وتوحيد الله تعالى فقال: قل يا محمد هذه الطريقة والدعوة طريقتي التي سلكتها وأنا عليها ثم فسر تلك السبيل، فقال: ادعوا إلى الله تعالى يعني لا إلى غيره من ملك أو إنسان أو كوكب أو صنم إنما دعاتي إلى الله وحده قال الجمهور: سبيلي ديني ومفعول أدعوا هو محذوف تقديره أدعو الناس والظاهر تعلق على بصيرة بأدعوا وأنا توكيد للضمير المستكن في أدعو ومن معطوف على ذلك الضمير والمعنى أدعو أنا إليها أو يدعو إليها من اتبعني ويجوز أن يكون على بصيرة خبرا مقدما وأنا مبتدأ ومن معطوف عليه ويجوز أن يكون على بصيرة حالا من ضمير أدعو فيتعلق بمحذوف ويكون انا فاعلا بالجار والمجرور النائب على ذلك المحذوف.
{ ومن اتبعني } معطوف على أنا وأجاز أبو البقاء أن يكون ومن اتبعني مبتدأ خبره محذوف تقديره كذلك أي داع إلى الله على بصيرة ومعنى بصيرة حجة واضحة وبرهان متيقن من قوله:
قد جآءكم بصآئر من ربكم
[الأنعام: 104].
{ وسبحان الله } داخل تحت قوله: قل أي قل وتنزيه الله من الشركاء أي براءة الله من أن يكون له شريك ولما أمر بأن يخبر عن نفسه صلى الله عليه وسلم أنه يدعو وهو ومن اتبعه إلى الله وأمر أن يخبر أنه تنزه الله تعالى عن الشركاء أمر أيضا أن يخبر أنه في خاصة نفسه منتف عن الشرك وأنه ليس ممن أشرك وهو نفي عام في الأزمان لم يكن منه ولا في وقت من الأوقات.
{ إلا رجالا } حصر في المرسل دعاة إلى الله فلا يكون ملكا قال ابن عباس: رجالا يعني لا نساء فلا رسول إمرأة والقرى المدن.
{ أفلم يسيروا } الضمير في أفلم يسيروا عائد على من أنكر إرسال الرسل من البشر ومن عاند الرسول وأنكر رسالته وكفر أي هلا يسيرون في الأرض فيعلمون بالتواتر اخبار الرسل السابقة ويرون مصارع الأمم المكذبة فيعتبرون بذلك.
{ ولدار الآخرة خير } هذه حض على العمل لدار الآخرة والاستعداد لها واتقاء المهلكات ومن هذه الاضافة تخريجان أحدهما أنها من إضافة الموصوف إلى صفته وأصله وللدار الآخرة خير وهو تخريج كوفي والثاني أن يكون من حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه وأصله ولدار المدة الأخيرة أو النشأة الأخيرة خير وهو تخريج بصري وحتى غاية لما قبلها وليس في اللفظ ما يكون له غاية فاحتيج إلى تقدير فقدره الزمخشري وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فتراخى نصرهم حتى إذا استيئسوا عن النصر، وقال ابن عطية: ويتضمن قوله: أفلم يسيروا، إلى من قبلهم أن الرسل الذين بعثهم الله من أهل القرى دعوهم فلم يؤمنوا بهم حتى نزلت بهم الثلاث فصاروا من حيز من يعتبر بعاقبته فلهذا المضمر حسن أن يدخل حتى في قوله: حتى إذا استيأس الرسل، " انتهى ". ولم يتلخص لنا من كلامه شىء يكون ما بعد حتى غاية له لأنه علق الغاية بما ادعى أنه فهم ذلك من قوله: أفلم يسيروا الآية، وقال أبو الفرج بن الجوزي: المعنى متعلق بالآية الأولى فتقديره وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا فدعوا قومهم فكذبوهم وصبروا وطال دعاؤهم وتكذيب قومهم حتى إذا استيأس الرسل وهو نوع من كلام الزمخشري، وقال القرطبي في تفسيره: المعنى وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتى إذا استيأس الرسل وقرىء: كذبوا بالتشديد مبنيا للمفعول والضمير في وظنوا أو في أنهم عائد على الرسل والظن بمعنى اليقين والمعنى وأيقنت الرسل أنهم قد كذبهم قومهم وقرىء: كذبوا بالتخفيف في الذال مبنيا للمفعول أيضا والضمائر في ظنوا وفي أنهم عائدة على المرسل إليهم والمعنى وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبهم من جاءهم بالوحي، وقرىء: فنحن بنونين مضارع أنجى، وقرىء: فنجى بنون واحدة وشد الجيم وفتح الباء مبنيا للمفعول وقرأت فرقة فننجي بنونين مضارع أنجى وفتح الباء قال ابن عطية: رواها هبيرة عن حفص عن عاصم وهي غلط من هبيرة انتهى وليست غلطا ولها وجه في العربية وهو أن الشرط والجزاء يجوز أن يأتي بعدهما المضارع منصوبا بإضمار أن بعد الفاء كقراءة من قرأ
وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر
[البقرة: 284] بإضمار أن بعد الفاء ولا فرق في ذلك بين أن تكون أداة الشرط جازمة أو غير جازمة ومفعول نشاء محذوف تقديره ننجيه.
{ ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين } والبأس هنا الهلاك وهذه الجملة فيها وعيد وتهديد لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ لقد كان في قصصهم } الآية، الضمير في قصصهم عائد على الرسل والمرسل إليهم واندرجت فيه قصة يوسف وغيره وقرأ في قصصهم بكسر القاف أحمد بن جبير الأنطاكي عن الكسائي والقصي عن عبد الوارث عن أبي عمرو جمع قصة والعبرة الدلالة التي يعبر بها إلى العلم والعبرة الاتعاظ والظاهر أن اسم كان مضمر يعود على القصص أي ما كان القصص حديثا مختلقا بل هو حديث صدق ناطق بالحق جاء به من لم يقرأ الكتب ولا تتلمذ لأحد ولا خالط العلماء وانتصب تصديق على أنه خبر كان المحذوفة تقديره ولكن كان أي الحديث المشتمل على قصص الأنبياء تصديق الذي بين يديه أي بين يدي الحديث ومعنى بين يديه أي الكتب المنزلة الإلهية وتفصيل كل شىء مما يحتاج إليه في الشريعة وقرأ حمدان بن أعين وعيسى الكوفي تصديق وتفصيل وهدى ورحمة برفع الأربعة أي ولكن هو تصديق والجمهور بنصب الأربعة وقال ذو الرمة:
وما كان لي من تراث ورثته
ولا دية كانت ولا كسب مأثم
ولكن عطاء الله من كل رحلة
إلى كل محجوب السرادق خضرم
برفع إعطاء على إضمار هو ونصبه على إضمار كان وهدى ورحمة أي سبب هداية في الدنيا وسبب حصول الرحمة في الآخرة وحض المؤمنون بذلك لأنهم هم الذين ينتفعون بذلك كما قال تعالى:
هدى للمتقين
[البقرة: 2] وتقدم أول السورة قوله تعالى:
إنآ أنزلناه قرآنا عربيا
[يوسف: 2] وقوله:
نحن نقص عليك أحسن القصص
[يوسف: 3] وفي آخرها ما كان حديثا يفترى فلذلك احتمل أن يعود الضمير على القرآن وأن يعود على القصص والله تعالى أعلم.
[13 - سورة الرعد]
[13.1-7]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق } الآية، هذه السورة مكية في قول: وقيل مدنية واستثنى في كل قول آيات ذكرت في البحر وتقدم الكلام في الحروف المقطعة في أوائل السور في أول البقرة فليطالع هناك قال الزمخشري: تلك إشارة إلى الآيات السورة المراد بالكتاب السورة أي تلك آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها وقيل تلك إشارة إلى جميع كتب الله المنزلة ويكون المعنى تلك الآيات التي قصصت عليك خبرها هي آيات الكتاب الذي أنزلته قبل هذا الكتاب الذي أنزلته إليك والظاهر أن قوله والذي مبتدأ والحق خبره ومن ربك متعلق بأنزل وأكثر الناس عام في كفار مكة وغيرهم ولما ذكر انتفاء الإيمان من أكثر الناس ذكر عقيبه ما يدل على صحة التوحيد والمعاد وما يجد بهم إلى إلإيمان مما يفكر فيه العاقل ويشاهده من عظيم القدرة وبديع الصنع والجلالة مبتدأ والذي هو الخبر والضمير في ترونها عائد على السماوات أي تشاهدون السماوات خالية عن عمد واحتمل هذا الوجه أن يكون ترونها كلاما مستأنفا واحتمل أن يكون جملة حالية أي رفعها مرئية لكم بغير عمد وهي حال مقدرة لأنه حين رفعها لم نكن مخلوقين وقيل ضمير النصب في يرونها عائد على عمد أي بغير عمد مرئية فترونها صفة للعمد وتقدم تفسير ثم استوى على العرش في الاعراف.
{ كل يجري } قال ابن عباس: منازل الشمس والقمر وهي الحدود الذي لا تتعداها قدر لكل منهما سيرا خاصا إلى جهة خاصة بمقدار خاص من السرعة والبطء. " انتهى ".
والأجل مسمى هو يوم القيامة فعند مجيئه ينقطع ذلك الجريان والتسيير كما قال تعالى:
إذا الشمس كورت
[التكوير: 1] وقال:
وجمع الشمس والقمر
[القيامة: 9] ومعنى تدبير الأمر إنفاذه وإبرامه وعبر بالتدبير تقريبا للإفهام إذ التدبير إنما هو النظر في إدبار الأمور وعواقبها وذلك من صفات البشر والأمر أمر ملكوت وربوبيته وهو عام في جميع الأمور من إيجاد وإعدام وإحياء وإماتة وإنزال وحي وبعث رسل وتكليف وغير ذلك.
وتفصيل الآيات جعلها فصولا مبينة مميزا بعضها عن بعض والآيات هنا دلالاته وعلاماته في سماواته على وحدانيته وهاتان الجملتان استئناف اخبار عن الله تعالى والخطاب في لعلكم للكفرة وتوقنون بالجزاء وبأن هذا المدبر والمفصل لا بد لكم من الرجوع إليه.
{ وهو الذي مد الأرض } الآية، لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية وقوله: مد الأرض يقتضي أنها بسيطة لا كروية وهذا هو ظاهر الشريعة، قال أبو عبد الله الرازي: ثبت بالدليل أن الأرض كرة ولا ينافي ذلك قوله: مد الأرض وذلك أن الأرض جسم عظيم والكرة إذا كانت في غاية الكبر كانت كل قطعة منها تشاهد كالسطح والتفاوت بينه وبين السطح لا يحصل إلا في علم الله تعالى ألا ترى أنه قال:
والجبال أوتادا
[النبأ: 7] مع أن العالم والناس عليها يستقرون فكذلك هنا وأيضا ليستدل به على وجود الصانع وكونها مجتمعة تحت البيت على ما قيل أمر غير مشاهد ولا محسوس فلا يمكن الاستدلال فتأويل مد الأرض أنه جعلها مختصة بمقدار معين وكونها تقبل الزيادة والنقص أمر جائز ممكن في نفسه والاختصاص بذلك المقدار المعني لا بد أن يكون بتخصيص مخصص وتقدير مقدر وبهذا يحصل الاستدلال على وجود الصانع " انتهى " ملخصا والرواسي الثوابت والمعنى جبالا رواسي وأيضا فقد غلب على الجبال وصفها بالرواسي وصارت الصفة تغني عن الموصوف فجمع جمع الاسم كحائط وحوائط وكاهل وكانت الأرض مضطربة فثقلها الله بالجبال في أحيازها فزال اضطرابها والاستدلال بوجود الجبال على وجود الصانع القادر الحكيم قيل من جهة أن طبيعة الأرض واحدة فحصول الجبل في بعض جوانبها دون بعض لا بد أن يكون بتخليق قادر حكيم ومن جهة ما يحصل منها في المعادن الجوهرية والرخامية وغيرهما كالنفظ والكبريت يكون الجبل واحدا في الطبع وتأثير الشمس واحد دليل على أن ذلك بتقدير قادر قاهر متعال عن مشابهة الممكنات ومن جهة تولد الأنهار منها قيل وذلك لأن الجبل جسم صلب وتتصاعد أبخرة قعر الأرض إليه وتحتبس هناك فلا يزال يتكامل فيه فيحصل بسببه مياه كثيرة فلقوتها تشق الأرض وتخرج وتسيل على وجه الأرض ولهذا في أكثر الأمر إذا ذكر الله الجبال ذكر الأنهار كهذه الآية وقوله تعالى:
وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم مآء فراتا
[المرسلات: 27]
وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا
[النحل: 15] قال المفسرون: الأنهار المياه الجارية في الأرض وتقدم الكلام في الأنهار في أوائل البقرة.
{ ومن كل الثمرات } متعلق بجعل ولما ذكر الأنهار الجارية في الأرض وذكر ما ينشأ عنها وهو الثمرات والزوج هنا الصنف الواحد الذي هو نقيض الاثنين يعني أنه حين مد الأرض جعل ذلك ثم تكثرت وتنوعت.
{ وفي الأرض قطع متجاورات } الآية، قطع جمع قطعة وهي الجزء متجاورات متلاصقة متدانية قريب بعضها من بعض قال ابن عباس: أرض طيبة وأرض سبخة تنبت هذه وهذه إلى جنبها لا تنبت وقرىء: وزرع ونخيل صنوان برفع الأربعة عطفا على جنات وبالجر عطفا على من أعناب الصنو الفرع بجمعه وآخر أصل واحد وأصله المثل ومنه قيل للعم صنو وجمعه في لغة الحجاز صنوان بكسر الصاد كقنو وقنوان وبضمها في لغة بني تميم وقيس كذئب وذؤبان ويقال: صنوان بفتح الصاد وهو اسم جمع لا جمع تكسير لأنه ليس من أبنيته.
{ يسقى بمآء واحد } ماء مطر أو ماء بحر أو ماء نهر أو ماء عين أو ماء نبع لا يسيل على وجه الأرض التفضيل في الأكل وان كانت متفاضلة في غيره لأنه غالب وجوه الانتفاعات من الثمرات ألا يرى إلى تفاوتها في الأشكال والألوان والروائح والمنافع وما يجري مجرى ذلك قيل: نبه تعالى في هذه الآية على قدرته وحكمته وأنه المدير للأشياء كلها وذلك أن الشجر تخرج أغصانها وثمراتها في وقت معلوم لا يتأخر عنه ولا يتقدم ثم يتصعد الماء في ذلك الوقت علوا علوا وليس من طبعه إلا التسفل ثم يتفرق ذلك الماء في الورق والأغصان والثمر كل بقسطه وبقدر ما فيه صلاحه ثم تختلف طعوم الثمار والماء واحد والشجر جنس واحد وكل ذلك دليل على مدبر دبره وأحكمه لا يشبه المخلوقات.
{ إن في ذلك } قال ابن عباس: في اختلاف الألوان والروائح والطعوم.
{ لآيات } لحججا ودلالات.
{ لقوم يعقلون } يعلمون الأدلة فيستدلون بها على وحدانية الصانع القادر ولما كان الاستدلال في هذه الآية بأشياء في غاية الوضوح من مشاهدة تجاور القطع والجنات وسقيها وتفصيلها جاء ختمها بقوله: لقوم يعقلون، بخلاف الآية التي قبلها فإن الاستدلال بها يحتاج إلى تأمل وتدبر نظر جاء ختمها بقوله: لقوم يتفكرون.
{ وإن تعجب فعجب قولهم } الآية، لما أقام الدليل على عظيم قدرته بما أودعه من الغرائب في ملكوته التي لا يقدر عليها سواه عجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إنكار المشركين وحدانيته وتوهينهم قدرته لضعف عقولهم فنزل وإن تعجب قال ابن عباس: وان تعجب من تكذيبهم إياك بعدما كانوا حكموا عليك انك من الصادقين فهذا أعجب.
وقال الزمخشري: وان تعجب يا محمد في قولهم من إنكار البعث فقولهم: عجيب حقيق بأن يتعجب منه لأن من قدر على إنشاء ما عدد عليك من الفطر العظيمة ولم يعن بخلقهن كانت الإعادة أهون شىء عليه وأيسره فكان إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب " انتهى ".
وليس مدلول اللفظ ما ذكر لأنه جعل متعلق عجبه صلى الله عليه وسلم هو قولهم في إنكار البعث فاتحد الشرط والجزاء إذ صار التقدير وإن تعجب من قولهم في إنكار البعث فأعجب من قولهم في إنكار البعث وإنما مدلول اللفظ ان يقع منك عجب فليكن من قولهم أئذا متنا الآية. وكان المعنى الذي ينبغي أن يتعجب منه هو إنكار البعث لأنه تعالى المخترع للأشياء ومن كان قادرا على إبرازها من العدم الصرف كان قادرا على الإعادة كما قال تعالى:
وهو الذي يبدؤا الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه
[الروم: 27] أي هين عليه وقوله: فعجب خبر مقدم واجب التقديم واختلف القراء في الاستفهامين إذ اجتمعا في أحد عشر موضعا منها هذا الموضع والظاهر أن أئذا معمول لقولهم محكي به وقال الزمخشري: أئذا متنا إلى آخر قولهم: يجوز أن يكون في محل الرفع بدلا من قولهم " انتهى ".
وهذا إعراب متكلف وعدول عن الظاهر وإذا متمحضة للظرف وليس فيها معنى الشرط فالعامل فيها محذوف يفسره ما يدل عليه الجملة الثانية وتقديره انبعث أو نحشر.
{ أولئك } إشارة إلى قائلي تلك المقالة وهي تقدير مصمم على إنكار البعث فلذلك حكم عليهم بالكفر إذ عجزوا قدرته عن إعادة ما أنشأ واخترع ابتداء ولما حكم عليهم بالكفر في الدنيا ذكر ما يؤولون إليه في الآخرة على سبيل الوعيد وأبرز ذلك في جملة مستقلة مشار إليهم والظاهر أن الأغلال تكون في أعناقهم حقيقة في الآخرة كما قال تعالى:
إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون
[غافر: 71] ولما كانوا متوعدين بالعذاب ان أصروا على الكفر وكانوا مكذبين بما أنذروا به من العذاب سألوا واستعجلوا في الطلب أن يأتيهم العذاب وذلك على سبيل الاستهزاء كما قالوا فأمطر علينا حجارة وقالوا: أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا؟ قال ابن عباس: السيئة العذاب والحسنة العافية.
{ وقد خلت من قبلهم المثلات } أي يستعجلونك بالسيئة مع علمهم بما حل بغيرهم من مكذبي الرسل في الأمم السالفة وهذا يدل على سخف عقولهم إذ يستعجلون العذاب والحالة هذه فلو أنه لم يسبق تعذيب أمثالهم لكانوا ربما يكون لهم عذر ولكنهم لا يعتبرون فيستهزئون. قال ابن عباس: المثلات العقوبات المستأصلات كمثلة قطع الأنف والاذن ونحوهما.
{ وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم } ترجية للغفران على ظلمهم في موضع الحال والمعنى أنه يغفر لهم مع ظلمهم باكتساب الذنوب أي الظالمين أنفسهم.
قال ابن عباس: ليس في القرآن آية أرجى من هذه.
و { لشديد العقاب } تخويف وإرهاب بعد ترجية. وقال سعيد بن المسيب لما فنزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم:
" لولا عفو الله ومغفرته لما هنأ لأحد عيش ولولا عقابه لاتكل كل أحد ".
وفي حديث آخر:
" ان العبد لو علم قدر عفو الله لما أمسك عن ذنب ولو علم قدر عقوبته لقمع نفسه في عبادة الله ".
{ ويقول الذين كفروا لولا أنزل عليه آية من ربه } الآية، عن ابن عباس
" لما نزلت وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال: أنا المنذر وأومأ بيده إلى منكب علي رضي الله عنه. وقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي من بعدي ".
[13.8-16]
{ الله يعلم ما تحمل كل أنثى } الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما تقدم إنكارهم البعث لتفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها نبه على إحاطة علمه تعالى وان من كان عالما بجميع المعلومات هو قادر على إعادة ما أنشأ أولا. الله يعلم كلام مستأنف مبتدأ وخبر وما موصولة والعائد عليها محذوف تقديره تحمله وهو هنا من حمل البطن لا من حمل الظهر.
{ وما تغيض } قال ابن عباس: تنقص من الخلقة وتزداد تتم ظاهر عموم قوله:
{ وكل شيء عنده بمقدار } أي بحد لا يتجاوزه ولا يقصر عنه والمراد من العندية العلم أي هو عالم بكمية كل شىء وكيفيته على وجه المفصل المبين فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات ولما ذكر تعالى أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو وكانت أشياء جزئية من خفايا علمه ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء فعلمه تعالى متعلق بما يشاهده العالم تعلقه بما يغيب عنهم والكبير العظيم الشأن الذي كل شىء دونه المتعال المستعلي على كل شىء بقدرته الذي كبر عن صفات المحدثين وتعالى عنها ولما ذكر تعالى أنه عالم الغيب والشهادة على العموم ذكر تعالى تعلق علمه بشىء خاص من أحوال المكلفين فقال:
{ سوآء منكم } الآية، والمعنى سواء في علمه المسر بالقول والجاهز به لا يخفى عليه شىء من أقواله وسواء تقدم الكلام فيه وفي معانيه وهو هنا بمعنى مستو وأعربوا سواء خبرا مقدما ومن أسر والمعطوف عليه مبتدأ مؤخرا ويجوز أن يكون سواء مبتدأ لأنه موصوف بقوله: منكم المعطوف عليه الخبر. قال ابن عباس: مستخف مستتر، وسارب ظاهر وسارب معطوف على مستخف ومن موصول يراد به التثنية وحمل على المعنى في تقسيم خبر المبتدأ الذي هو وعلى لفظ من في أفراد هو والمعنى سواء اللذان هما مستخف بالليل وسارب بالنهار وانظر إلى حسن هذه المقابلات في قوله تعالى: تغيص وتزداد والغيب والشهادة وأسر وجهر ومستخف وسارب والليل والنهار.
{ له معقبات } الضمير في له عائد على الله تعالى أي لله معقبات ملائكة من بين يدي العبد ومن خلفه والمعقبات على هذه الملائكة الحفظة على العباد أعمالهم والحفظة لهم أيضا قاله الحسن. وروي حديث عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الزمخشري: والأصل معتقبات فأدغمت التاء في القاف كقوله: وجاء المعذرون ويجوز معقبات بكسر العين ولم يقرأ به " انتهى ". وهذا وهم فاحش لا تدغم التاء في القاف ولا القاف في التاء لا من كلمتين ولا من كلمة وقد نص التصريفيون على أن القاف والكاف كل منهما يدغم في الآخر ولا يدغمان في غيرهما ولا يدغم غيرهما فيهما واما تشبيهه بقوله: وجاء المعذرون فلا يتعين أن يكون أصله المعتذرون.
وأما قوله: ويجوز معقبات بكسر العين فهذا لا يجوز لأنه بناء على أن أصله معتقبات فأدغمت التاء في القاف وقد ذكرنا أن ذلك وهم فاحش. ولما ذكر تعالى إحاطة علمه بخفايا الأشياء وجلاياها وان الملائكة تعتقب على المكلفين لحفظ ما يصدر منهم كان الصادر منهم خيرا أو شرا ذكر تعالى أن ما خولهم فيه من النعم وأسبغ عليهم من الإحسان لا يزيله عنهم إلى الانتقام منهم إلا بكفر تلك النعمة وإهمال أمره بالطاعة واستبدالها بالمعصية فكان في ذكر ذلك تنبيه على لزوم الطاعة وتحذير لوبال المعصية والظاهر أنه لا يقع تغيير النعم بقوم حتى يقع تغيير فهم بالمعاصي والسوء يجمع كل ما يسوء من مرض وفقر وعذاب وغير ذلك من البلاء ومن وال أي من ملجأ.
{ هو الذي يريكم البرق خوفا وطمعا وينشىء السحاب الثقال } لما خوف تعالى العباد بقوله: { وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له } اتبعه بما يشتمل على أمور دالة على قدرة الله وحكمته تشبه النعم من وجه النعم من وجه وتقدم الكلام في البرق والرعد والصواعق والسحاب في البقرة.
قال ابن عباس: خوفا من الصواعق وطمعا في الغيث. وقال أبو عبد الله الرازي: اعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون ان هذه الآثار العلوية إنما تنم بقوى روحانية فلكية وللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره وكذا القول في الرياح وفي سائر الآثار العلوية وهذا عين ما قلناه ان الرعد اسم لملك من الملائكة يسبح الله تعالى فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة وهو عين ما ذكره المحققون من الحكماء فكيف بالعاقل الإنكار " انتهى ". وهذا الرجل غرضه جريان ما تنتحله الفلاسفة على مناهج الشريعة ولن يكون ذلك أبدا وقد تقدم أقوال المفسرين في الرعد في البقرة ولم يجمعوا على أن الرعد اسم لملك وعلى تقدير أن يكون ذلك الملك يدبر لا السحاب ولا غيره إذ لا يستفاد مثل هذا إلا من النبي المشهود له بالعصمة لا من الفلاسفة الضلال والظاهر عود الضمير في قوله في خيفته على الله تعالى كما عاد عليه في قوله: بحمده ومعنى من خيفته من هيبته وإجلاله ومن مفعول بيصيب وهو من باب الاعمال أعمل فيه الثاني إذ يرسل بطلب من وفيصيب ولو أعمل الأول لكان التركيب في غير القرآن ويرسل الصواعق فيصيبه بها على من يشاء لكن جاء على الكثير في لسان العرب المختار عند البصريين وهو إعمال الثاني ومفعول يشاء محذوف تقديره من يشاء إصابته والضمير في وهم عائد على الكفار المكذبين الرسول عليه السلام المنكرين الآيات يجادلون في قدرة الله تعالى على البعث وإعادة الخلق بقولهم: من يحيي العظام وهي رميم وفي وحدانيته باتخاذ الشركاء والأنداد ونسبة التوالد إليه بقولهم: الملائكة بنات الله والمحال بكسر الميم العداوة يعني لمن جادل في الله قاله ابن عباس: والضمير في له عائد على الله ودعوة الحق قال ابن عباس: دعوة الحق لا إله إلا هو وما كان من الشريعة في معناها.
قال الزمخشري: له دعوة الحق فيه وجهان أحدهما أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل كما يضاف الكلمة إليه في قوله كلمة الحق للدلالة على أن الدعوة ملابسة للحق مختصة به فإنها بمعزل من الباطل والمعنى أن الله تعالى يدعي فيستجيب الدعوة ويعطي الداعي سؤاله إن كان مصلحة وكانت دعوة ملابسة للحق لكونه حقيقيا بأن يوجه إليه الدعاء لما في دعوته من الجدوى والنفع بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه والثاني: أن تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وجل على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب وعن الحسن الحق هو الله وكل دعاء إليه دعوة الحق " انتهى ".
هذا الوجه الثاني الذي ذكره الزمخشري لا يظهر والظاهر أن هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله تعالى:
ولدار الآخرة خير
[يوسف: 109]. والتقدير لله الدعوة المحق بخلاف غيره فإن دعوته باطلة والمعنى أن الله تعالى الدعوة له هي الدعوة الحق ولما ذكر تعالى جدال الكفار لله تعالى وكان جدالهم في إثبات آلهة معه ذكر تعالى أن له الدعوة الحق أي من يدعو له فدعوته هي الحق بخلاف أصنامهم التي جادلوا في الله لأجلها فإن دعاءها باطل لا يتحصل منه شىء فقال: والذين تدعون والضمير في تدعون عائد على الكفار والعائد على الذين محذوف أي تدعونهم من دونه أي الله.
{ إلا كباسط كفيه } شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم من أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه فبسطهما ناشرا أصابعه فلم تبق كفاه منه شيئا ولم يبلغ مراده من شربه وهذا مبالغة عظيمة في الخيبة لدعائهم آلهتهم.
{ وما دعآء الكافرين } آلهتهم.
{ إلا في ضلال } أي حيرة واضمحلال لأنه لا يجدي شيئا ولا يفيد فقد ضل ذلك الدعاء عنهم كما ضل المدعون قال تعالى:
أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا عنا
[الأعراف: 37].
{ ولله يسجد من في السماوات والأرض } الآية، إن كان السجود بمعنى الخضوع والانقياد فمن على عمومها ينقاد كلهم لما أراده تعالى بهم شاؤا أو أبوا وينقاد له تعالى ضلالهم حيث على مشيئته من الامتداد والتقلص والفيء والزوال وان كان السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة وهو وضع الجبهة بالمكان الذي يكون فيه الواضع فيكون عاما مخصوصا إذ يخرج منه من لا يسجد ويكون قد عبر بالطوع عن سجود الملائكة المؤمنين وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلى الإسلام والذي يظهر أن مساق هذه الآية إنما هو أن العالم كله مقهور لله تعالى خاضع لما أراد منه مقصور على مشيئته لا يكون منه إلا ما قدر تعالى، فالذين يعبدونهم كائنا ما كانوا داخلون تحت القهر ويدل على هذا المعنى تشريك الضلال في السجود والظلال ليست أشخاصا يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة ولكنها داخلة تحت مشيئته يصرفها على ما أراد إذ هي من العالم والعالم جواهره وأعراضه داخلة تحت إرادته كما قال تعالى:
أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء
[النحل: 48] الآية، قال الفراء: الظل مصدر يعني في الأصل ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم وطوله بسبب انحطاط الشمس وقصره بسبب ارتفاعها فهو لله في طوله وقصره وميله من جانب إلى جانب وخص هذان الوقتان بالذكر لأن الظلال إنما تعظم وتكبر فيهما وتقدم شرح الغدو والآصال في آخر الاعراف.
{ قل من رب السموت والأرض } أي قل يا محمد للكفار من رب السماوات والأرض استفهام تقرير واستنطاق فإنهم يقولون الله فإذا قالوها قل الله أي هو كما قلتم وروي أنه لما قال هذا للمشركين عطفوا عليه فقالوا: أجب أنت فأمره الله فقال: قل الله واستفهم بقوله: قل أما اتخذتم على سبيل التوبيخ والإنكار أي بعد أن علمتم أنه تعالى هو رب السماوات والأرض تتخذون من دونه أولياء وتتركونه فجعلتم ما كان يجب أن يكون سببا للتوحيد من علمكم وقراركم سببا للإشراك ثم وصف تلك الأولياء بصفة العجز وهي كونها لا تملك لأنفسها نفعا ولا ضرا ومن بهذه المثابة فكيف يملك لكم نفعا أو ضرا ثم مثل ذلك حالة الكافر والمؤمن ثم حالة الكفر والإيمان وأبرز ذلك في صورة الاستفهام الذي يبادر المخاطب إلى الجواب فيه من غير فكر ولا روية بقوله:
{ هل يستوي الأعمى والبصير } ثم انتقل إلى الاستفهام عن الوصفين القائمين بالكافر وهو الظلمات وبالمؤمن وهو النور وتقدم الكلام في جمع الظلمات وافراد النور في البقرة وأم في قوله: أم هل منقطعة تتقدر ببل والهمزة على المختار والتقدير بل أهل يستوي وهل وان نابت عن همزة الاستفهام في كثير من المواضع فقد جامعتها في قول الشاعر:
أهل رأونا بواد القفر ذي الأكم
ومثال قوله تعالى: { أم هل } في الجمع أم وهل قول علقمة:
أم هل كثير بكى لم تقض عبرته
ثم انتقل من خطابهم إلى الاخبار عنهم غائبا إعراضا عنهم وتنبيها على توبيخهم في جعلهم شركاء وتعجبا منهم وإنكارا عليهم وتضمن هذا الاستفهام التهكم بهم لأنه معلوم بالضرورة ان هذه الأصنام وما اتخذوا من دون الله أولياء وجعلوهم شركاء لا يقدر على خلق ذرة ولا إيجاد شىء البتة والمعنى أن هؤلاء الشركاء هم خالقون شيئا حتى يستحقوا العبادة وجعلهم شركاء لله تعالى؟ أي جعلوا لله شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق الله فيتشابه ذلك عليهم فيعبدونهم ومعلوم أنهم لا يخلقون شيئا وهم يخلقون فكيف يشركون في العبادة أفمن يخلق كمن لا يخلق ثم أمره تعالى قال: { قل الله خالق كل شيء } أي موجد الأشياء كلها معبوداتهم وغيرهم وهم أيضا مقرون بذلك ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله واحتمل أن يكون قوله: وهو الواحد القهار داخلا تحت الأمر بقل فيكون قد أمر أن يخبر بأنه تعالى الواحد المنفرد بالألوهية القهار الذي جميع الأشياء تحت قدرته وقهره واحتمل أن يكون استئناف اخبار منه تعالى بهذين الوصفين الوحدانية والقهر فهو تعالى لا يغالب وما سواه مقهور مربوب له تعالى.
[13.17-26]
{ أنزل من السمآء مآء } الآية، هذا مثل ضربه الله للقرآن والقلوب والحق والباطل فالماء مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب وبقاء الشرع والدين والأودية مثل القلوب ومعنى بقدرها على وسعة القلوب وضيقها فمنها ما انتفع به فحفظه ووعاه فتدبر فيه فظهرت ثمرته وأدرك تأويله ومعناه ومنها دون ذلك بطبقة ومنها دونه بطبقات والزبد مثل الشكوك والشبه وإنكار الكافرين أنه كلام الله تعالى ودفعهم إياه والماء الصافي المنتفع به مثل الحق وفي الحديث الصحيح ما يؤيد هذا التأويل وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
" مثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضا وكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أجادب فأمسكت الماء فانتفع الناس به وسقوا ورعوا وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل ما جئت به من العلم والهدى ومثل من لم يقبل هدي الله الذي أرسلت به والماء المطر ونكر أودية لأن المطر إنما ينزل على طريق المناوبة فيسيل بعض الأودية دون بعض "
وأودية جمع قلة كقولهم: نادو أندية والزبد قال الرماني: وضر الغليان وخبثه قال الشاعر:
فما الفرات إذا هب الرياح له
ترمي غوار به العبرين بالزبد
ومعنى بقدرها أي على قدر صغرها وكبرها أو بما قدر لها من السماء بسبب نفع الممطور عليهم لا ضررهم ألا ترى إلى قوله تعالى: { وأما ما ينفع الناس } فالمطر مثل للحق فهو نافع خال من الضرر وعرف السيل لأنه عني به ما فهم من الفعل والذي يتضمنه الفعل من المصدر هو نكرة فإذا عاد عليه الظاهر كان معرفة كما كان لو صرح به نكرة ولذلك يضمر إذا عاد على ما دل عليه الفعل من المصدر نحو من كذب كان شرا له أي كان الكذب ولو جاء هنا مضمرا لكان جائزا عائدا على المصدر المفهوم من فسالت واحتمل بمعنى حمل جاء فيه افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر ورابيا منتفخا عاليا على وجه السيل ومنه الربوة.
{ ومما يوقدون } أي ومن الأشياء التي توقدون عليها وهي الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص والقصدير ونحوها مما يوقد عليه وله زبد وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله والحلية ما يعمل للنساء مما يتزين به من الذهب والفضة والمتاع ما يتخذ من الحديد والنحاس وما أشبههما من الآلات التي هي قوام العيش كالأواني والمساحي وآلات الحرث وقطاعات الأشجار والسكك وغير ذلك وزبد مرفوع بالابتداء وخبره في قوله: ومما يوقدون، ومن الظاهر أنها للتبعيض لأن ذلك الزبد هو بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن ومن أيضا تكون لابتداء الغاية أي ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء والمماثلة في كونها يتولدان من الأوساخ والأكدار والحق والباطل على حذف مضاف إي مثل الحق والباطل شبه الحق بما يخلص من جرم هذه المعادن من الأقذار والخبث ودوام الانتفاع بها وشبه الباطل بالزبد المجتمع من الخبث والأقذار ولا بقاء له ولا قيمة وفصل ما سبق ذكره مما ينتفع به ومن الزبد فبدأ بالزبد إذ هو المتأخر في قوله : زبدا رابيا وفي قوله: زبد مثله ولكون الباطل كناية عنه وهو متأخر وهي طريقة فصيحة يبدأ في التقسيم بما ذكر آخرا كقوله تعالى:
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم
[آل عمران: 106].
والبداءة بالسابق فصحة مثل قوله تعالى:
فمنهم شقي وسعيد * فأما الذين شقوا
[هود: 105-106] وكأنه والله أعلم يبدأ في التفصيل بما هو أهم في الذكر وانتصب جفاء على الحال أي مضمحلا متلاشيا لا منفعة فيه ولا بقاء له والجفاء اسم لما يجفاه السيل أي يرمي به يقال جفأت القدر بزبدها وجفأ السيل بزبده وأجفأ وأجفل.
وقال ابن الأنباري: جفاء متفرقا من جفأت الريح الغيم إذا قطعته وجفأت الرجل صرعته ويقال: جفأ الوادي وأجفأ إذ أنشف والزبد يراد به ما سبق مما احتمله السيل وما خرج من خبث المعادن وأفرد الزبد ولم يثن وان تقدم زبد ان لاشتراكهما في مطلق الزبدية فهما واحد باعتبار القدر المشترك.
{ وأما ما ينفع الناس } أي من الماء الخالص من الغثاء ومن الجوهر المعدني الخالص من الخبث.
{ فيمكث في الأرض } لانتفاع الناس به والكاف في موضع نصب أي مثل ذلك الضرب كمثل الحق والباطل يضرب الله الأمثال والظاهر أنه لما ضرب هذا المثل للحق والباطل انتقل إلى ما لأهل الحق من الثواب وأهل الباطل من العقاب فقال:
{ للذين استجابوا لربهم الحسنى } أي للذين دعاهم الله على لسان رسوله فأجابوه إلى ما دعاهم إليه من اتباع دينه الحالة الحسنى وذلك هو النصر في الدنيا وما اختصوا به من نعمه تعالى ودخول الجنة في الآخرة فالحسنى مبتدأ وخبره في قوله: للذين، قال الزمخشري: للذين استجابوا متعلق بيضرب، أي كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا والكافرين الذين لم يستجيبوا أي هما مثلا الفريقين فالحسنى صفة لمصدر استجابوا أي استجابوا الاستجابة.
وقوله: { لو أن لهم } كلام. مبتدأ ذكر ما أعد لغير المستجيبين انتهى. التفسير الأول أولى لأنه فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين والله تعالى قد ضرب امثالا كثيرة في هذين وفي غيرهما ولأنه فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف قول الزمخشري، فلما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ذكر ما للمستجيبين من الثواب ولأن تقديره الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة ومقابلها ليس نفي الاستجابة مطلقا إنما مقابلها نفي الاستجابة بالحسنى والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقا ولأنه على قوله يكون قوله: لو ان لهم ما في الأرض كلاما مفلتا مما قبله أو كالمفلت إذ يصير المعنى كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين لو أن لهم ما في الأرض فلو كان التركيب بحرف رابط لو بما قبلها زال التفلت وأيضا فيوهم الاشتراك في الضمير وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوما لهم والذين لم يستجيبوا مبتدأ خبره ما بعده وغاير بين جملتي الابتداء لما يدل عليه تقديم الجار والمجرور من الاعتناء والاهتمام لو أن لهم ما في الأرض جميعا وسوء الحساب.
قال ابن عباس: ان لا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيآتهم وتقدم تفسير مثل ومأواهم جهنم.
{ أفمن يعلم أنمآ أنزل إليك من ربك الحق } الآية، قال ابن عباس: نزلت في حمزة وأبي جهل ولما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر وذكر ما للمؤمن من الثواب وما للكافر من العقاب ذكر استبعاد من يجعلهما سواء وأنكر ذلك فقال: أفمن يعلم إنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى أي ليسا مشتبهين لأن العالم بالشىء بصير به والجاهل به كالأعمى والمراد عمى البصيرة ولذلك قابله بالعلم والهمزة للاستفهام المراد به إنكار أن تقع شبهة بعد ما ضرب من المثل في ان حال من علم إنما أنزل إليك من ربك الحق فاستجاب بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب كبعد ما بين الزبد والماء والخبث والابريز ثم ذكر أنه لا يتذكر بالموعظة وضرب الأمثال الا أصحاب العقول والفاء للعطف وقدمت همزة الاستفهام لأن له صدر الكلام والتقدير فأمن يعلم والذين بدل من الواو أو صفة له أو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين والظاهر إضافة العهد إلى الفاعل أي بما عهد الله والظاهر أن قوله: ولا ينقضون الميثاق، جملة توكيدية لقوله: يوفون بعهد الله لأن العهد هو الميثاق ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقضه.
و { مآ أمر الله به أن يوصل } ظاهره العموم في كل ما أمر به في كتابه وعلى لسان رسوله.
{ ويخشون ربهم } أي وعيده كله.
{ ويخافون سوء الحساب } أي استقصاءه فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا وصبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال وميثاق التكليف وجاءت الصلة هنا بلفظ الماض وفي الموصولين قبل بلفظ المضارع في قوله: الذين يوفون والذين يصلون وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة ويظهر أيضا أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والإلتباس دائما وهذه الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين وما عطف عليهما لأن حصول تلك الصلات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها ولذلك لم تأت صلة في القرآن بالصبر إلا بصيغة الماضي إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها.
{ ويدرءون } يدفعون أي يدفعون الشر بالخير.
و { عقبى الدار } عاقبة الدنيا وهي الجنة لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا ومرجع أهلها.
و { جنات عدن } بدل من عقبى الدار ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرة لدار الدنيا أي العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم ويحتمل أن تكون جنات خبر مبتدأ محذوف تقديره هي جنات والظاهر أن ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول.
{ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب } أي بالتحف والهداية من الله تكرمه لهم وارتفع سلام على الابتداء وعليكم الخبر والجملة محكية بقول محذوف تقديره يقولون: سلام عليكم والمخصوص بالمدح محذوف أي فنعم عقبى الدار الجنة أو فنعم عقبى الدار الصبر وبما صبرتم متعلق بذلك المحذوف الذي هو يقولون: سلام عليكم بسبب صبركم أي تحية الملائكة لهم ودخولهم عليهم من كل باب بالتحف والهداية هو بسبب صبرهم.
{ والذين ينقضون عهد الله } الآية، لما ذكر تعالى حال السعداء وما ترتب لهم من الأمور السنية الشريفة ذكر حال الأشقياء وما ترتب لهم من الأمور المخزية وتقدم تفسير الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه من أوائل البقرة وترتب هناك للسعداء التصريح بعقبى الدار وهي الجنة وإكرام الملائكة لهم بالسلام وذلك غاية القرب والتأنيس وهنا ترتب للأشقياء الابعاد من رحمة الله وسوء الدار أي الدار السوء وهي النار أو سوء عاقبة الدار وتكون دار الدنيا ولما كان كثير من الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر والكفر والإيمان لا تعلق لهما بالرزق قد يقدر على المؤمن ليعظم أجره ويبسط للكافر إملاء لازدياد آثامه ويقدر مقابل يبسط وهو التضييق والضمير في وفرحوا عائد على الذين ينقضون هو استئناف اخبار عن جهلهم بما أوتوا من بسطه الدنيا عليهم وفرحهم هو فرح بطر لا فرح سرور بفضل الله وانعامه عليهم ومتاع معناه ذاهب مضمحل يستمتع به قليلا ثم يفنى كما قال الشاعر:
أنت نعم المتاع لو كنت تبقى
غير أن لا بقاء للإنسان
[13.27-36]
{ ويقول الذين كفروا } الآية، لما نزلت هذه الآية في مشركي مكة طلبوا مثل آيات الأنبياء والملتمس ذلك هو عبد الله بن أبي أمية وأصحابه رد تعالى على مقترحي الآيات من كفار قريش ان الأمر بيد الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ومفعول يشاء محذوف تقديره من يشاء إضلاله وإليه متعلق بيهدي أي إلى طاعته.
و { الذين آمنوا } بدل من اناب واطمئنان القلوب سكونها بعد الاضطراب من خشيته وذكر تعالى ذكر مغفرته ورحمته.
{ الذين } بدل من الذين أو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم الذين أو مبتدأ خبره ما بعده.
و { طوبى } فعلى من الطيب قلبت ياؤه والضمة ما قبلها كما قلبت في موسى وطوبى مبتدأ خبره لهم.
{ وحسن مآب } معطوف عليه وطوبى تأنيث إلا طيب وكان القياس أن يكون بالألف واللام وقد جاء نظيرها بغير ألف ولام كقولهم:
في سعي دنيا طال ما قد مدت
وقول الآخر:
وان دعوت إلى جلي ومكرمة
يوما إليك كرام الناس فادعينا
وتأنيث الأفعل مما عينه ياء أن يأتي على فعلى فتارة تبدل ياؤه واوا قالوا: الحوراء وتارة يقرونها ياء، قالوا: الحيرى فطوبى جاءت على أحد الوجهين.
{ كذلك أرسلناك في أمة } الآية، الكاف للتشبيه وذلك إشارة لإرسال من تقدم من الرسل أي مثل إرسالهم أرسلناك ويدل على ذلك قوله فدخلت من قبلها أم أي رسل أمم ولتتلوا متعلق بأرسلناك وهم يكفرون بالرحمن جملة حالية أي أرسلناك في أمة رحمة لها مني وهم يكفرون بي أي وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن بالبليغ الرحمة والظاهر أن الضمير في قوله: وهم عائد على أمة المرسل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم أعاد على المعنى إذ لو أعاد على اللفظ لكان التركيب وهي تكفر والمعنى أرسلناك إليهم وهم يدينون دين الكفر فهدى الله تعالى بك من أراد هدايته والمعنى الاخبار بأن الأمم السالفة المرسل إليهم الرسل والأمة التي أرسلت إليها جميعهم جاءتهم الرسل وهم يدينون دين الكفر فيكون في ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أمته مثل الأمم السالفة ونبه على الوصف الموجب لإرسال الرسول صلى الله عليه وسلم وهو الرحمة الموجبة لشكر الله على إنعامه عليهم ببعثة الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به.
{ ولو أن قرآنا سيرت به الجبال } الآية، قال ابن عباس وغيره أن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم سير جبلي مكة فقد ضيقا علينا واجعل لنا أرضا قطعا غراسه وأحيي لنا آباءنا وأجدادنا وفلانا وفلانا فنزلت معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله ولما ذكر تعالى علة إرساله وهي تلاوته ما أوحاه إليه ذكر تعظيم هذه الموحى وأنه لو كان قرآنا تسير به الجبال عن مقارها أو تقطع به الأرض حتى تتزايل قطعا قطعا أو تكلم به الموتى فتسمع وتجيب لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير ونهاية في الإنذار والتخويف كما قال تعالى:
لو أنزلنا هذا القرآن على جبل
[الحشر: 21]. الآية.
فجواب لو محذوف وهو ما قدرناه ويجوز أن يكون جواب لو ما آمنوا.
{ بل لله الأمر جميعا } بل هنا الانتقال أي أن الإيمان والكفر بيد الله يخلقهما فيمن يشاء واليأس القنوط من الشىء وهو هنا في قول الأكثرين بمعنى العلم كأنه قيل أفلم يعلم الذين آمنوا قال القاسم بن معن هي لغة هوازن.
وقال ابن الكلبي هي لغة حي من النخع وأنشد:
والسحيم بن وثيل الرياحي
أقول لهم بالشعب إذ يسرونني
ألم تيأسوا أنى ابن فارس زهدم
وان لو يشأ قبله قسم محذوف تقديره وأقسم ان لو يشاء الله وقد صرح بالقسم قبل أن ولو في قول الشاعر:
وأقسم ان لو التقينا وأنتم
لكان لنا يوم من الشر مظلم
وان زائدة في هذا التركيب نص على ذلك سيبويه ومفعول يشاء محذوف تقديره الهداية وجواب لو لهدى الناس.
{ ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا } من كفرهم وسوء أعمالهم.
{ قارعة } داهية تقرعهم بما يحل الله تعالى بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في نفوسهم وأولادهم أو تحل القارعة قريبا منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شرارها ويتعدى إليهم شرورها.
{ حتى يأتي وعد الله } وهو موتهم أو القيامة.
{ ولقد استهزئ برسل من قبلك } تقدم الكلام عليه.
{ فكيف كان عقاب } استفهام معناه التعجب مما حل بهم والتقرير وفي ضمنه وعيد معاصري الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار.
{ أفمن هو قآئم على كل نفس } الآية، من موصولة صلة ما بعدها وهي مبتدأ والخبر محذوف تقديره كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع كما حذف من قوله:
أفمن شرح الله صدره للإسلام
[الزمر: 22]، تقديره كالقاسي قلبه الذي هو في ظلمة ودل عليه قوله: وجعلوا لله شركاء كما دل على كالقاسي قوله:
فويل للقاسية قلوبهم
[الزمر: 22]، ويحسن حذف هذا الخبر كون المبتدأ يكون مقابله الخبر المحذوف وقد جاء مثبتا كثيرا كقوله تعالى:
أفمن يخلق كمن لا يخلق
[النحل: 17]
أفمن يعلم
[الرعد: 19] ثم قال:
كمن هو أعمى
[الرعد: 19] والظاهر أن قوله: وجعلوا لله شركاء، استئناف اخبار عن سوء صنيعهم وكونهم أشركوا مع الله ما لا يصلح للألوهية نعى عليهم هذا الفعل القبيح هذا والباري تعالى محيط بأحوال النفوس جليها وخفيها ونبه على بعض حالاتها وهو الكسب ليتفكر الإنسان فيما يكسب من خير وشر وما يترتب على الكسب من الجزاء وعبر بقائم عن الإحاطة والمراقبة التي لا يغفل عنها ثم أمره تعالى أن يقول لهم سموهم أي اذكروهم بأسمائهم والمعنى أنهم ليسوا ممن يذكر ولا يسمى إنما يذكر ويسمى من ينفع ويضر وأم في قوله: أم تنبئونه منقطعة تتقدر ببل والهمزة تقديره بل أتنبئونه والضمير في أتنبئونه عائد على الله تعالى وما في بما موصولة والعائد محذوف تقديره يعلمه والضمير في يعلم عائد على الله والمعنى اتنبئون الله لشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة وذكر نفي العلم في الأرض إذ الأرض هي مقر تلك الأصنام فإذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه فانتفاؤه في السماوات أحرى وعلى هذا التأويل يكون الفاعل بيعلم ضمير يعود على ما وعلى الأول ذكرنا أنه عائد على الله تعالى والمعنى على هذا استفهام التوبيخ على أنهم عندهم لا يكون علمه في السماوات ولا في الأرض بل علمه تعالى محيط بجميع الأشياء والظاهر في أم من قوله أم بظاهر أنها منقطعة أيضا أي بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة أي أنكم تنطقون بتلك الأسماء وتسمونها آلهة ولا حقيقة لها إذ أنتم تعلمون أنها لا تتصف بشىء من أوصاف الإله لقوله تعالى:
ما تعبدون من دونه إلا أسمآء
[يوسف: 40] والظاهر أن قوله: أم بظاهر معطوف على قوله: بما لا يعلم والعذاب في الدنيا هو ما يصيبهم بسبب كفرهم من القتل والأسر والنهب والذلة والحروب والبلايا في أجسامهم وغير ذلك مما يمتحن به الكفار وكان عذاب الآخرة أشق على النفوس لأنه إحراق بالنار دائما كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ومن واق من ساتر يحفظهم عن العذاب ويحميهم ولما ذكر ما أعد للكفار في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين فقال:
{ مثل الجنة } أي صفتها التي هي في غرابة المثل وارتفع مثل على الابتداء في مذهب سيبويه والخبر محذوف أي فيما قصصنا عليكم مثل الجنة.
{ تجري من تحتها الأنهار } تفسير لذلك المثل وتقول مثلت الشىء إذا وصفته وقربته للفهم وليس هنا ضرب مثل فهو كقوله:
وله المثل الأعلى
[الروم: 27]، أي الصفة العليا والأكل ما يؤكل فيها ومعنى دوامه أنه لا ينقطع أبدا كما قال:
لا مقطوعة ولا ممنوعة
[الواقعة: 33] تلك أي تلك الجنة عاقبة الذين اتقوا الشرك.
{ والذين آتيناهم الكتاب } نزلت في مؤمني أهل الكتاب من أسلم من اليهود كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن أسلم من النصارى وهم ثمانون رجلا أربعون بنجران واثنان وثلاثون بأرض الحبشة.
{ ومن الأحزاب } يعني ومن أحزابهم وهم كفرتهم الذين تحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعداوة نحو كعب بن الأشرف وأصحابه والسيد والعاقب اسقفي نجران وأشياعها.
{ من ينكر بعضه } لأنهم كانوا لا ينكرون الأقاصيص وبعض الأحكام والمعاني مما هو ثابت في كتبهم غير محرف وكانوا ينكرون ما هو نعت الإسلام ونعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما حرفوه وبدلوه.
{ إليه أدعو } أي إلى شرعه ودينه وإليه مرجعي عند البعث يوم القيامة أو إليه مرجعي في جميع الأحوال في الدنيا والآخرة.
[13.37-43]
{ وكذلك } أي مثل إنزالنا الكتاب على الأنبياء قبلك لأن قوله: { والذين آتيناهم الكتاب } ، يتضمن إنزاله تعالى الكتاب وهذا الذي أنزلناه هو بلسان العرب كما أن الكتب السابقة بلسان من نزلت عليه واراد بالحكم أنه مفصل بين الحق والباطل ومحكم وانتصب { حكما } على الحال من الضمير النصب في أنزلناه والضمير عائد على القرآن والحكم ما تضمنه القرآن من المعاني ولما كانت العبارة عنه بلسان العرب نسبه إليها.
{ ولئن اتبعت } الخطاب لغير الرسول صلى الله عليه وسلم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من اتباع أهوائهم.
{ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك } الآية، قال الكلبي عيرت اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما نرى لهذا الرجل همة إلا النساء والنكاح ولو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء فنزلت هذه الآية.
قيل وكانوا يقترحون عليه الآيات وينكرون النسخ فرد الله عليهم بأن الرسل قبله كانوا مثله ذوي أزواج وذرية وما كان لهم أن يأتوا بآيات برأيهم ولا يأتون بما يقترح عليهم والشرائع مصالح تختلف باختلاف الأحوال والأوقات فلكل وقت حكم يحكم فيه على العباد أي يفرض عليهم ما يريده تعالى وقوله: لكل أجل كتاب لفظ عام في الأشياء التي لها آجال لأنه ليس منها شىء إلا وله أجل في بداءته وفي خاتمته وذلك الأجل مكتوب ومحصور والظاهر أن المحور عبارة عما نسخ من الشرائع والاحكام والإثبات عبارة عن دوامها وتقررها وبقائها أي يمحو ما يشاء محوه ويثبت ما يشاء إثباته.
{ وعنده أم الكتاب } هو ديوان الأمور المحدثة التي سبق في القضاء أن تبدل تمحي وتثبت.
و { وإن ما نرينك } تقدم الكلام عليه في يونس واما هنا فقال الحوفي وغيره: فإنما عليك جواب الشرط والذي تقدم شرطان لأن المعطوف على الشرط شرط اما كونه جوابا للشرط فليس بظاهر لأنه يترتب عليه إذ يصير المعنى لا ما نرينك يعني ما نعدم من العذاب فإنما عليك البلاغ وأما كونه جوابه للشرط الثاني وهو أو نتوفينك فكذلك لأنه يصير التقدير ان ما نتوفينك فإنما عليك البلاغ، ولا يترتب وجوب التبليغ عليه على وفاته صلى الله عليه وسلم لأن التكليف ينقطع بعد الوفاة فيحتاج إلى تأويل وهو أن يتقدر لكل شرط منهما ما يناسب أن يكون جزاء مترتبا عليه وذلك أن يكون التقدير والله أعلم واما نرينك بعض الذين نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك ودليل على صدقك إذ أخبرت بما يحل بهم ولم يعين زمان حلوله بهم واحتمل أن يقع ذلك في حياتك واحتمل أن يقع بهم بعد وفاتك أو نتوفينك أو أن نتوفينك قبل حلوله بهم فلا لوم عليك ولا عتب إذ قد حل بهم بعض ما وعد الله به على لسانك من عذابهم فإنما عليك البلاغ لا حلول العذاب بهم إذ ذاك راجع إلينا وعلينا جزاؤهم في تكذيبهم إياك وكفرهم بما جئت به .
{ أولم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها } الضمير في يروا عائد على الذين وعدوا وفي ذلك اتعاظ لمن اتعظ بنهوا على أن ينظروا نقص الأرض من أطرافها ونأتي يعني بالأمر والقدرة كقوله تعالى:
فأتى الله بنيانهم
[النحل: 26] والأرض أرض الكفار المذكورين ومعنى ننقصها من أطرافها نفتحها للمسلمين من جوانبها كان المسلمون يغزون من حوالي أرض الكفار مما يلي المدينة ويغلبون على جوانب أرض مكة والأطراف الجوانب.
{ لا معقب لحكمه } المعقب الذي يكر على الشىء فيبطله وحقيقته الذي يعقبه أي بالرد والابطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب لأنه يقتضي عزيمة بالاقتضاء والطلب والمعنى أنه حكم للإسلام بالغلبة والإقبال وعلى الكفر بالإدبار والانتكاس والجملة من قوله: لا معقب لحكمه في موضع الحال أي نافذا حكمه.
{ وهو سريع الحساب } تقدم الكلام عليه ثم أخبر تعالى أن الأمم السالفة كان يصدر منهم المكر بأنبيائهم كما فعلت قريش وان ذلك عادة المكذبين للرسل مكر بإبراهيم نمروذ وبموسى فرعون وبعيسى اليهود وجعل تعالى مكرهم كلا مكر إذ أضاف المكر كله له تعالى ومعنى مكره تعالى عقوبته إياهم سماها مكرا إذ كانت ناشئة عن المكر وذلك على سبيل المقابلة كقوله تعالى:
الله يستهزىء بهم
[البقرة: 15] ثم فسر قوله: { فلله المكر }. بقوله: { يعلم ما تكسب كل نفس } والمعنى يجازي كل نفس بما كسبت ثم هدد الكفار بقوله: وسيعلم الكافر لمن عقبى الدار إذ يأتيه العذاب من حيث هو في غفلة عنه فحينئذ يعلم لمن هي العاقبة المحمودة ولما قال الكفار ليست مرسلا أي إنما أنت مدع ما ليس لك أمره تعالى ان يكتفي بشهادة الله بينهم إذ قد ظهر على يديه من الأدلة على رسالته ما في بعضها كفاية لمن وفق ثم أردف شهادة الله بشهادة من عنده علم الكتاب وقرأ ورش ومن عنده بمن الجارة ذكره الأهوازي في الموجز والكتاب هنا القرآن والمعنى أن من عرف ما ألف فيه من المعاني الصحيحة والنظم المعجز الفائت لقدر البشر يشهد بذلك.
[14 - سورة ابراهيم]
[14.1-19]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * الر كتاب أنزلناه إليك } الآية، هذه السورة مكية كلها في قول الجمهور وعن ابن عباس وقتادة هي مكية إلا من قوله:
ألم تر إلى الذين بدلوا
[إبراهيم: 28] إلى النار. وارتباط هذه السورة بالتي قبلها واضح جدا لأنه ذكر فيها ولو ان قرآنا ثم قال: وكذلك أنزلناه حكما عربيا، ومن عنده علم الكتاب فناسب هذا قوله: { الر كتاب أنزلناه إليك }. وأيضا فإنهم لما قالوا على سبيل الاقتراح لولا أنزل عليه آية من ربه وقيل له:
إن الله يضل من يشآء ويهدي إليه من أناب
[الرعد: 27] أنزل: { الر كتاب أنزلناه إليك } كأنه قيل: أو لم يكفهم من الآيات كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات هي الضلال إلى النور وهو الهدى. كتاب خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا كتاب أنزلناه جملة في موضع الصفة لتخرج متعلق بأنزلناه وهي لام العلة من الظلمات متعلق بتخرج إلى النور متعلق بتخرج أيضا.
{ إلى صراط العزيز الحميد } بدل من قوله: إلى النور وأعيد معه حرف الجر وهو إلى كما تقول: مررت بزيد بأخيك وقرىء: الله بالجر على البدل أو عطف بيان وقرىء: بالرفع على أنه مبتدأ أو خبر مبتدأ أي هو الله. وويل مبتدأ خبره للكافرين ومن عذاب في موضع الصفة لويل ولا يضر الفصل بالخبر بين الصفة والموصوف ولا يجوز أن يكون متعلقا بويل لأنه مصدر ولا يجوز الفصل بين المصدر وما يتعلق به الخبر ويظهر من كلام الزمخشري أنه ليس في موضع الصفة قال: فإن قلت ما وجه اتصال قوله: من عذاب شديد، بالويل قلت: لأن المعنى أنهم يولون من عذاب شديد ويضجون منه ويقولون: يا ويلاه لقوله تعالى:
دعوا هنالك ثبورا
[الفرقان: 13]. " انتهى ". فظاهره يدل على تقدير عامل يتعلق به من عذاب شديد ويحتمل هذا العذاب أن يكون واقعا بهم في الدنيا أو واقعا بهم في الآخرة والاستحباب الإيثار والاختيار وهو استفعال من المحبة لأن المؤثر للشىء على غيره كأنه يطلب من نفسه أن يكون أحب إليها وأفضل عندها من الآخر ويجوز أن يكون استفعل بمعنى أفعل كاستجاب وأجاب ولما ضمن معنى الإيثار عدي بعلى وجوزوا في إعراب الذين ان يكون مبتدأ خبره أولئك في ضلال بعيد وان يكون مقطوعا على الذم أما خبره مبتدأ محذوف أي هم الذين واما منصوبا بإضمار فعل تقديره أذم وان يكون صفة للكافرين ونص على هذا الوجه الأخير الحوفي والزمخشري وأبو البقاء وهو لا يجوز لأن فيه الفصل بين الصفة والموصوف بأجنبي منهما وهو قوله: من عذاب شديد سواء أكان من عذاب شديد في موضع الصفة لويل أم متعلقا بفعل محذوف أي يضجون ويولولون من عذاب شديد وتقدم الكلام على ويبغونها عوجا، آل عمران.
وعلى وصف الضلال بالبعد.
{ ومآ أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه } الآية، سبب نزولها أن قريشا قالوا: ما بال الكتب كلها أعجمية وهذا عربي فنزلت والظاهر أن قوله: وما أرسلنا من رسول العموم فيندرج فيه الرسول عليه السلام فإن كانت الدعوة عامة للناس كلهم أو اندرج في اتباع ذلك الرسول من ليس من قومه كان من لم تكن لغته لغة ذلك الرسول موقوفا على تعلم تلك اللغة حتى يفهمها أو يرجع في تفسيرها إلى من يعلمها.
و { أن أخرج } يحتمل أن تكون ان مفسرة بمعنى أي وان تكون أن مفسرة بمعنى أي تكون مصدرية وفي قوله: قومك خصوص لرسالته إلى قومه بخلاف قوله: لتخرج الناس. والظاهر أن قومه هم بنو إسرائيل.
{ وذكرهم } معطوف على قوله: اخرج قومك والإشارة بقوله: ان في ذلك إلى التذكير بأيام الله وصبار وشكور صفتا مبالغة وهما مشعرتان بأن أيام الله المراد بها بلاؤه ونعماؤه أي صبار على بلائه شكور لنعمائه.
{ وإذ قال موسى لقومه } الآية، لما تقدم أمره تعالى لموسى عليه السلام بالتذكير بأيام الله ذكرهم بما أنعم عليهم من نجاتهم من آل فرعون وفي ضمنها تعداد شىء مما جرى عليهم من نقمات الله وتقدم إعراب إذ في نحو هذا التركيب في قوله تعالى:
واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعدآء
[آل عمران: 103] وتقدم تفسير نظير هذه الآية إلى أن هنا ويذبحون بالواو وفي البقرة بغير واو وفي الأعراف يقتلون، فحيث لم يؤت بالواو جعل الفعل تفسيرا لقوله: يسومونكم، وحيث أتى بها دل المغايرة وان سوء العذاب كان بالتذبيح وبغيره، وحيث جاء يقتلون جاء باللفظ المطلق المحتمل للتذبيح ولغيره من أنواع القتل. وتقدم شرح تأذن وتلقيه بالقسم في قوله في الأعراف:
وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم
[الآية: 167]، واحتمل إذ أن يكون معطوفا على إذ أنجاكم لأن هذا الاعلام بالمزيد على الشكر من نعمه تعالى والظاهر أن متعلق الشكر هو الانعام أي لئن شكرتم انعامي لأزيدنكم ولئن كفرتم أي نعمتي فلم تشكروها رتب العذاب الشديد على كفر نعمه تعالى ولم يبين محل الزيادة فاحتمل أن يكون في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما وجاء التركيب على ما عهد في القرآن من أنه إذا ذكر الخير أسند إليه تعالى وإذا ذكر العذاب بعده عدل عن نسبته إليه فقال: لأزيدنكم، ونسب الزيادة إليه تعالى وقال: إن عذابي لشديد، ولم يأت التركيب لأعذبنكم وصرح في لأزيدنكم بالمفعول وهنا لم يذكر وان كان المعنى عليه أي ان عذابي لكم شديد وجواب ان تكفروا محذوف لدلالة المعنى عليه التقدير فإنما ضرر كفركم لاحق بكم والله تعالى متصف بالغنى المطلق والحمد سواء كفروا أم شكروا وفي خطابه لهم تحقير لشأنهم وتعظيم لله تعالى وكذلك في ذكر هاتين الصفتين.
{ ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم } الآية، الظاهر أن هذا خطاب موسى عليه السلام لقومه وقيل ابتداء خطاب من الله لهذه الأمة وخبر قوم نوح وعاد وثمود قد قصه الله في كتابه وتقدم في الاعراف وهود الهمزة في ألم للتقرير والتوبيخ والظاهر أن والذين في موضع خفض عطفا على ما قبله أما على قوم نوح وعاد وثمود.
قال الزمخشري: والجملة من قوله: لا يعلمهم إلا الله اعتراض والمعنى أنهم في الكثرة بحيث لا يعلم عددهم إلا الله. " انتهى ".
وليست الجملة اعتراض لأن جملة الاعتراض تكون بين جزءين يطلب أحدهما الآخر.
وقال أبو البقاء تكون هذه الجملة حالا من الضمير في من بعدهم فإن عني من الضمير المجرور في من بعدهم فلا يجوز لأنه حال مما جر بالإضافة وليس له محل إعراب من رفع أو نصب وان عني من الضمير المستقر في الجار والمجرور النائب عن العامل أمكن.
وقال أبو البقاء أيضا: ويجوز أن يكون مستأنفا وكذلك جاءتهم.
وأجاز الزمخشري وتبعه أبو البقاء أن يكون والذين مبتدأ وخبره لا يعلمهم إلا الله.
وقال الزمخشري: والجملة من المبتدأ والخبر وقعت اعتراض. " انتهى ".
وليست باعتراض لأنها لم تقع بين جزءين يطلب أحدهما الآخر والضمير في جاءتهم عائد على الذين من قبلكم والجملة تفسيرية للنبأ والظاهر أن الأيدي هي الجوارح وأن الضميرين في أيديهم وفي أفواههم عائدان على الذين جاءتهم الرسل. وقالوا: وإنا كفرنا بادروا أولا إلى الكفر وإلى التكذيب المحض ثم أخبروا أنهم في شك وهو التردد كأنهم نظروا بعض نظر اقتضى ان انتقلوا من التكذيب المحض إلى التردد أو هما قولان من طائفتين طائفة بادرت بالتكذيب والكفر وطائفة شكت والشك في مثل ما جاءت به الرسل عليهم السلام كفر. ومريب صفة توكيدية ودخلت همزة الاستفهام الذي معناه الإنكار على الظرف على الجار الذي هو خبر على المبتدأ لأن الكلام ليس في الشك إنما هو في المشكوك فيه وأنه لا يحتمل الشك لظهور الأدلة وشهادتها عليه وقدر مضاف فقيل أفي إلاهيته أو في وحدانيته ثم نبههم على الوصف الذي يقتضي أن لا يقع فيه شك البتة وهو كونه منشىء العالم وموجده فقال:
{ فاطر السموت والأرض } وفاطر صفة لله ولا يجوز الفصل بين الموصوف وصفته بمثل هذا المبتدأ فيجوز أن تكون في الدار زيد الحسنة وان كان أصل التركيب في الدار الحسنة زيد ولما ذكر تعالى أنه موجد العالم ونبه على الوصف الذي لا يناسب أن يكون معه في شك ذكره ما هو عليه من اللطف بهم والإحسان إليهم فقال:
{ يدعوكم ليغفر لكم } أي يدعوكم إلى الإيمان كما قال: إذ تدعون إلى الإيمان أو يدعوكم لأجل المغفرة نحو دعوته لينصرني وتقدم الكلام في طرف من هذا في الاعراف في قوله:
ولكل أمة أجل
[الأعراف: 34]، وقيل هنا:
{ ويؤخركم إلى أجل مسمى } قبل الموت ولا يعاجلكم بالعذاب ومعنى مسمى أي قد سماه وبين مقداره.
{ إن أنتم } أي ما أنتم.
{ إلا بشر مثلنا } لافضل بيننا وبينكم ولا فضل لكم علينا فلم تخصون بالنبوة دوننا والظاهر أن طلبهم السلطان المبين وقد أتتهم الرسل بالبينات إنما هو على سبيل التعنت والاقتراح وإلا فما أتوا به من الدلائل والآيات كان لمن استبصر ولكنهم قلدوا آباءهم فيما كانوا عليه من الضلال ألا ترى انهم لما ذكروا أنهم مماثلوهم قالوا:
{ تريدون أن تصدونا } عما كان يعبد آباؤنا أي ليس مقصودكم إلا أن نكون لكم تبعا ونترك ما نشأنا عليه من دين آبائنا.
{ قالت لهم رسلهم إن نحن } الآية، سلموا لهم في أنهم مماثلوهم في البشرية وحدها وأما ما سوى ذلك من الأوصاف التي اختصوا بها فلم يكونوا مثلهم ولم يذكروا ما هم عليه من الوصف الذي تميزوا به تواضعا منهم ونسبة ذلك إلى الله تعالى لم يصرحوا بمن الله عليهم وحدهم ولكن أبرزوا ذلك في عموم من يشاء من عباده والمعنى عين بالنبوة على من يشاء تنبئته ومعنى بإذن الله بتسويغه وإرادته أي الآية التي اقترحوها ليس لنا الاتيان بها ولا هي في استطاعتنا ولذلك كان التركيب وما كان لنا وإنما ذلك أمر متعلق بالمشيئة وفليتوكل أمر منهم للمؤمنين بالتوكل وقصدوا به أنفسهم قصدا أوليا وأمروها به كأنهم قالوا: ومن حقنا أن نتوكل على الله في الصبر على معاندتكم ومعاداتكم وما يجري علينا منكم الا ترى إلى قولهم وما لنا إلا نتوكل على الله ومعناه وأي عذر لنا في أن لا نتوكل على الله وقد هدانا فعل بنا ما يوجب توكلنا عليه وهو التوفيق لهداية كل واحد منا سبيله الذي يجب سلوكه في الدين والأمر الأول وهو قوله: فليتوكل المؤمنون لاستحداث التوكل.
والثاني للثبات على ما استحدثوا من توكلهم.
{ ولنصبرن } جواب قسم ويدل على ما سبق ما يجب في الصبر وهو الأذى وما مصدرية وجوزوا أن يكون بمعنى الذي والضمير محذوف أي ما آذيتموناه وكان أصله به فهل حذف به أو الباء فوصل الفعل إلى الضمير قولان.
{ لنخرجنكم } أقسموا على أنه لا بد من إخراجهم أو عودهم في ملتهم كأنهم قالوا: ليكونن أحد هذين ولما أقسموا هم على إخراج الرسل أو العودة في ملتهم أقسم تعالى على إهلاكهم وأي إخراج أعظم من الإهلاك بحيث لا يكون لهم عودة إليها أبدا وعلى إسكان الرسل ومن آمن بهم وذرياتهم أرض أولئك المقسمين على إخراج الرسل والإشارة بذلك إلى توريث الأرض الأنبياء ومن آمن بهم بعد إهلاك الظالمين كقوله تعالى:
والعاقبة للمتقين
[الأعراف: 128]. ومقام يحتمل المصدر أي قيامي عليه بالحفظ لأعماله ومراقبتي إياه كقوله تعالى:
أفمن هو قآئم على كل نفس بما كسبت
[الرعد: 33]. والظاهر أن الضمير في واستفتحوا عائد على الأنبياء أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله تعالى:
إن تستفتحوا فقد جآءكم الفتح
[الأنفال: 19]. ويجوز أن يكون من الفتاحة وهي الحكومة أي استحكموا الله طلبوا منه القضاء بينهم واستنصار الرسل في القرآن كثير.
{ وخاب } معطوف على محذوف تقديره فنصروا وظفروا وخاب كل جبار عنيد وهم قوم الرسل وتقدم شرح جبار والعنيد المعاند كالخليط بمعنى المخالط.
{ من ورآئه } ذكر ما يؤول إليه حال الجبار العنيد في الآخرة ووراء من الأضداد ينطلق على خلف وعلى أمام كأنه قيل من أمامه وبين يديه جهنم.
{ ويسقى } معطوف على محذوف تقديره يدخلها ويسقى والظاهر إرادة حقيقة الماء وصديد. قال مجاهد وغيره: وهو ما يسيل من أجساد أهل النار.
وقال الزمخشري: صديق عطف بيان لما قال ويسقى من ماء فأبهمه ابهاما ثم بينه بقوله صديد. " انتهى ". والبصريون لا يجيزون عطف البيان في النكرات وأجازه الكوفيون وتبعهم الفارسي فأعرب زيتونة عطف بيان لشجرة مباركة فعلى رأي البصريين لا يجوز أن يكون قوله: صديد عطف بيان وتجرع تفعل والظاهر أنها للتكلف نحو تحلم أي يأخذه شيئا فشيئا والظاهر هنا انتفاء مقاربة اساغته وإذا انتفت الإساغة فيكون كقوله:
لم يكد يراها
[النور : 40]. أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها والحديث جاء بأنه يشربه فإن صح الحديث كان المعنى ولا يكاد يسيغه قبل أن يشربه ثم شربه كما جاء فذبحوها وما كادوا يفعلون أي وما كادوا يفعلون قبل الذبح.
{ ويأتيه الموت } أي أسبابه. والظاهر أن قوله: من كل مكان معناه من الجهات الست وذلك تفظيع لما يصيبه من الآلام.
{ وما هو بميت } لتطاول شدائد الموت وامتداد سكراته.
و { ومن ورآئه } الخلاف في من ورائه هنا كالحلاف في من ورائه جهنم.
{ مثل الذين كفروا بربهم } الآية, ارتفاع مثل على الابتداء وخبره محذوف تقديره عند سيبويه فيما يتلى عليكم أو يقص.
قال ابن عطية: وقيل هو مبتدأ وأعمالهم ابتداء ثان وكرماد خبر الثاني والجملة خبر الأول وهذا عندي أرجح الأقوال وكأنك قلت المتحصل مثالا في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة وهي أعمالهم في فسادها وقت الحاجة وتلاشيها كالرماد الذي تذروه الرياح وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى له أثر ولا يجتمع منه شىء انتهى هذا القول الذي رجحه ابن عطية قاله الحوفي: وهو لا يجوز لأن الجملة الواقعة خبرا عن المبتدأ الأول الذي هو مثل عارية من رابط يعود على المثل وليست نفس المبتدأ في المعنى فلا تحتاج إلى رابط والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة وأعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال كأنه قيل كيف مثلهم فقيل أعمالهم كرماد كما تقول صفة زيد عرضه مصون وماله مبذول ووصف اليوم بقوله: عاصف وان كان من صفة الريح على سبيل التجوز كما قالوا يوم ماطر وليل نائم.
{ لا يقدرون } يوم القيامة.
{ مما كسبوا } من أعمالهم.
{ على شيء } أي لا يرون له أثرا من ثواب كما لا يرون له أثرا من ثواب كما لا يقدر من الرماد المطير بالرياح على شىء.
{ ذلك } إشارة إلى كونهم بهذه الحال وعلى مثل هذا الغرر والبعيد الذي يعمق فيه صاحبه وأبعد عن طريق النجاة أو البعيد عن الحق والثواب وفي البقرة لا يقدرون على شىء مما كسبوا على شىء من التفنن في الفصاحة والتغاير في التقديم والتأخير والمعنى واحد.
{ ألم تر أن الله خلق السموت والأرض بالحق } الظاهر أن قوله: يذهبكم خطاب عام للناس وعن ابن عباس خطاب للكفار.
{ ويأت بخلق جديد } الظاهر أن يكون المعنى ان يشأ يذهبكم أيها ويأت بناس آخرين من جنسكم آدميين.
[14.21-26]
{ وبرزوا } أي ظهروا من قبورهم إلى جزاء الله وحسابه والذين استكبروا هم رؤساؤهم وقادتهم استتبعوا الضعفاء واستغووهم واستكبروا تكبروا وأظهروا تعظيم أنفسهم أو استكبروا عن اتباع الرسل وعبادة الله تعالى وتبعا يحتمل أن يكون اسم جمع لتابع كخادم وخدم وغائب وغيب ويحتمل أن يكون مصدرا كقوم عدل ورضا وهل أنتم مغنون عنا استفهام معناه توبيخهم إياهم وتقريعهم وقد علموا أنهم لن يغنوا شيئا والمعنى انا تبعناكم فيما كنتم فيه من الضلال كما أمرتمونا وما أغنيتم عنا شيئا ولذلك جاء جوابهم لو هدانا الله لهديناكم أجابوا بذلك على سبيل الاعتذار والخجل ورد الهداية إلى الله تعالى وهو كلام حق في نفسه. قال الزمخشري: من الأولى للتبيين والثانية للتبعيض كأنه قيل هل أنتم مغنون عنا بعض الشىء الذي هو عذاب الله ويجوز أن يكون للتبعيض معا أي هل أنتم مغنون عنا بعض شىء هو بعض عذاب الله أي بعض بعض عذاب الله. " انتهى " هذا التوجيهان اللذان وجههما الزمخشري في المكانين يقتضي أولهما التقديم في قوله من شىء على قوله من عذاب الله لأنه جعل من شىء هو المبين بقوله: من عذاب الله ومن التبيينية يتقدم عليها ما نبينه ولا يتأخر والتوجيه الثاني وهو بعض شىء هو بعض العذاب يقتضي أن يكون بدلا فيكون بدل عام من خاص لأن من شىء أعم من قوله من عذاب الله وان عنى بشىء شيئا من العذاب فيؤول المعنى إلى ما قدر وهو بعض عذاب الله وهذا لا يقال لأن بعضية الشىء مطلقة فلا يكون لها بعض والظاهر أن قوله: سواء علينا أجزعنا أم صبرنا إلى آخره داخل تحت قول المستكبرين جاءت جملا بلا واو عطف كأن كل جملة أنشئت مستقلة غير معطوفة وان كانت مرتبطا بعضها ببعض من جهة المعنى لأن سؤالهم هل أنتم مغنون عنا إنما كان لجزعهم مما هم فيه فقالوا لهم في ذلك سووا بينهم في ذلك لاجتماعهم في عقاب الضلالة التي كانوا مجتمعين فيها يقولون ما هذا الجزع والتوبيخ ولا فائدة في الجزع كما لا فائدة في الصبر أو لما قالوا: لو هدانا الله اتبعوا ذلك بالاقناط من النجاة فقالوا ما لنا من محيص أي منجى ومهرب جزعنا أم صبرنا وتقدم الكلام في مثل هذه التسوية في البقرة والظاهر أن هذه المحاورة بين الضعفاء والرؤساء هي في موضع العرض وقت البروز بين يدي الله تعالى.
{ وقال الشيطان لما قضي الأمر } مناسبة هذه لما قبلها أنه لما ذكر محاورة الاتباع لرؤسائهم الكفرة ذكر محاورة الشيطان واتباعه من الانس وذلك لاشتراك الرؤساء والشيطان في التلبس بالاضلال والشيطان هنا إبليس وهو رأس الشياطين ومعنى قضي الأمر تعين قوم للجنة وقوم للنار وذلك كله في الموقف ووعد الحق يحتمل أن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي الوعد الحق وان يكون الحق صفة الله أي وعده وأن يكون الحق الشىء الثابت وهو البعث والجزاء على الاعمال أي يوفى لكم بما وعدكم.
{ ووعدتكم } خلاف ذلك.
{ فأخلفتكم } وإلا ان دعوتكم الظاهر أنه استثناء منقطع لأن دعاءه إياهم إلى الضلالة ووسوسته ليس من جنس السلطان وهو الحجة البينة.
{ مآ أنا بمصرخكم } أي مغيثكم.
{ ومآ أنتم بمصرخي } أي بمغيثي وقرأ الجمهور بمصرخي بفتح الياء وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة بكسر الياء وقد طعن ناس في هذه القراءة وما ذهبوا إليه لا يلتفت إليه لأن هذه قراءة متواترة نقلها السلف واقتفى آثارهم فيها الخلف وقد نقل جماعة من أهل العربية انها لغة لكنه قل استعمالها ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع وأنشدوا للأغلب العجلي:
قال لها هل لك يا تافي
قالت له ما أنت بالمرضي
وما في بما أشركتموني مصدرية ومن قبل متعلق بأشركتموني أي كفرت اليوم بإشراككم أياي من قبل هذا اليوم أي في الدنيا.
{ إن الظالمين لهم عذاب أليم } الظاهر أنه من تمام كلام إبليس حكى الله عنه ما سيقوله في ذلك الوقت ليكون تنبيها للسامعين على النظر في عاقبتهم والاستعداد لما بد منه وان يتصور في أنفسهم ذلك المقام الذي يقول فيه الشيطان ما يقول فيخافوا ويعملوا ما يخلصهم منه وينجيهم.
{ وأدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات } الآية، لما جمع الفريقين في قوله وبرزوا لله جميعا وذكر شيئا من أحوال الكفار ذكر ما آل إليه أمر المؤمنين من إدخالهم الجنة قال الزمخشري: فإن قلت فبم يتعلق يعني بإذن ربهم في القراءة الأخرى وقولك فأدخلهم أنا بإذن ربهم كلام غير ملتئم.
قلت الوجه في هذه القراءة أن يتعلق قوله: بإذن ربهم بما بعده أي تحيتهم فيها سلام بإذن ربهم يعني أن الملائكة يحيونهم بإذن ربهم انتهى ظاهر كلامه أن بإذن ربهم معمول لقوله تحيتهم ولذلك قال يعني ان الملائكة يحيونهم بإذن ربهم وهذا لا يجوز لأن تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري والفعل عليه هو غير جائز وتقدم تفسير تحيتهم فيها سلام في أوائل يونس.
{ ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة } تقدم الكلام في ضرب مع المثل في أوائل البقرة فأغني عن إعادته والكلمة الطيبة بالشجرة لا إله إلا الله قاله ابن عباس.
{ أصلها ثابت وفرعها في السمآء } يريد بالفرع أعلاها ورأسها وإن كان المشبه به ذا فروع فيكون من باب الاكتفاء بلفظ الجنس ومعنى في السماء في جهة العلو والصعود لا المظلة ولما شبهت الكلمة الطيبة كانت الكلمة أصلها ثابت في قلوب أهل الإيمان وما يصدر عنها من الأفعال الزكية والأعمال الصالحة هو فرعها يصعد إلى السماء إلى الله تعالى كما قال إليه يصعد الكلم الطيب وما يترتب على ذلك العمل وهو ثواب الله تعالى هو جناها ووصف هذه الشجرة بأوصاف.
الأول: قوله: طيبة كريمة المنبت والأصل في الشجرة لذيذة في المطعم.
الثاني: رسوخ أصلها وذلك يدل على تمكنها وان الرياح لا تقصفها.
الثالث: علو فرعها وذلك يدل على تمكن الشجرة ورسوخ عروقها وعلى بعدها من عفونات الأرض وعلى صفائها من الشوائب.
الرابع: ديمومة وجود ثمرتها وحضورها في كل الأوقات والحين في اللغة قطعة من الزمان والكلمة الخبيثة وهي كلمة الكفر. والظاهر أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة إذا وجدت منها هذه الأوصاف ومعنى اجتثت أي اقتلعت جثتها بنزع الأصول وبقيت في غاية الوهي والضعف فيقلبها أقل ريح فالكافر يرى أن بيده شيئا وهو لا يستقر ولا يغني عنه شيئا.
{ ما لها من قرار } أي استقرار، يقال: قرار الشىء اثبت ثباتا وهذا النوع من المجاز هو من تشبيه المعقول بالمحسوس.
[14.27-38]
{ يثبت الله } بدأ بحال المؤمن وتثبيته في الدنيا كونه لو فتن عن دينه في الدنيا لثبت عليه وما زال كما جرى لأصحاب الأخدود ثم ذكر حال الكافر بقوله:
{ ويضل الله الظالمين } ولما ذكر تعالى ما فعل بكل واحد من القسمين ذكر أنه لا يمكن اعتراض عليه فيما خص به كل واحد منهما إذ ذاك راجع إلى مشيئة الله تعالى فقال:
{ ويفعل الله ما يشآء } لا يسأل عما يفعل.
{ ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا } الآية، الذين بدلوا ظاهره أنه عام في جميع المشركين وسأل ابن عباس عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: هما الأبحران من قريش أخوالي أي بني مخزوم واستؤصلوا ببدر وأعمامك أي بني أمية وبدل يتعدى إلى اثنين أحدهما بالباء أو ما جرى مجراها وقد تحذف الباء وهي هنا محذوفة تقديره بنعمة الله أي بشكر نعمة الله وتقدم الكلام على مثل ذلك في قوله تعالى:
ومن يتبدل الكفر بالإيمان
[البقرة: 108].
{ وأحلوا قومهم دار البوار } أي دار الهلاك وجهنم بدل من قوله دار البوار والمخصوص بالذم محذوف تقديره وبئس القرار هي أي جهنم.
{ وجعلوا لله أندادا } أي زادوا إلى كفر نعمته أن صيروا له أندادا وهي الأصنام التي اتخذوها آلهة من دون الله والظاهر أن اللام لام الصيرورة والمآل لما كانت نتيجة جعل الأنداد آلهة آل إلى الضلال والأمر بالتمتع أمر تهديد ووعيد.
{ قل لعبادي الذين آمنوا } الآية، لما ذكر حال الكفار وكفرهم نعمته وجعلهم أندادا وتهددهم أمر المؤمنين بلزوم الطاعة والتيقظ لأنفسهم والتزام عمودي الإسلام والصلاة والزكاة قبل مجيء يوم القيامة ومعمول قبل محذوف تقديره وأقيموا الصلاة ويقيموا جواب لهذا الأمر المحذوف وعلامة الجزم فيه حذف النون.
قال ابن عطية: ويظهر أن المقول هو الآية التي بعد أي قوله: { الله الذي خلق السموت والأرض } " انتهى ". وهذا الذي ذهب إليه من كون معمول القول هو قوله: " الله الذي خلق " الآية، تفكيك للكلام يخالفه ترتيب التركيب ويكون قوله: " يقيموا الصلاة " كلاما مفلتا من القول ومعموله أو يكون جوابا فصل به بين القول ومعموله ولا يترتب أن يكون جوابا لأن قوله تعالى: { الذي خلق السموت والأرض } لا يستدعي إقامة الصلاة والانفاق إلا بعد تقدير بعيد جدا وتقدم الكلام على قوله تعالى: { لا بيع فيه } في البقرة ولما أطال الكلام في وصف أحوال السعداء والأشقياء ختم وصفه بالدلائل الدالة على وجود الصانع فقال: " الله الذي خلق " الآية، وذكر أنواعا من الدلائل فذكر أولا إبداعه وإنشاءه السماوات والأرض ثم أعقب بباقي الدلائل وأبرزها في جملة مستقلة ليدل وينبه على أن كل جملة منها مستقلة في الدلالة ولم يجعل متعلقاتها معطوفات عطف المفرد على المفرد ولفظ الجلالة الله مرفوع على الابتداء والذي خبره.
قال ابن عطية: ويجوز أن تكون من لبيان الجنس كأنه قال: " فأخرج به رزقا لكم هو الثمرات ". وهذا ليس بجيد لأن من التي لبيان الجنس إنما تأتي بعد المبهم الذي تبينه.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون من الثمرات مفعول أخرج رزقا حالا من المفعول أو نصبا على المصدر من أخرج لأنه في معنى رزق وقيل من زائدة " انتهى ". هذا لا يجوز عند جمهور البصريين لأن ما قبلها واجب وبعدها معرفة ويجوز عند الأخفش وانتصب دائبين على الحال والمعنى يدأبان في سيرهما وإنارتهما وإصلاحهما ما يصلحان من الأرض والأبدان والنبات والضمير المنصوب في سألتموه عائد على ما وهي وموصولة بمعنى الذي والذي يظهر أن النعمة هو المنعم به وأنه هو اسم جنس لا يراد به الواحد بل يراد به الجمع كأنه قيل: " وان تعدوا نعم الله " ومعنى لا تحصوها لا تحصروها ولا تطبقوا عددها والمراد بالإنسان هما الجنس أي توجد فيه هذه الخلال وهي الظلم والكفر يظلم النعمة بإغفال شكرها ويكفرها يجحدها وجاء في النحل " وان تعدوا نعمة الله " وجاءت مختتمة بقوله:
إن الله لغفور رحيم
[النحل: 18] وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
{ وإذ قال إبراهيم } مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر التعجب من الذين بدلوا نعمة الله كفرا وجعلوا لله أندادا وهم قريش ومن تابعهم من العرب الذين اتخذوا من دون الله آلهة وكان من نعمة الله عليهم إسكانه إياهم حرمه أردف ذلك بذكر أصلهم إبراهيم وأنه صلوات الله عليه دعا الله تعالى أن يجعل مكة آمنة ودعا بأن يجنب بنيه عبادة الأصنام.
{ رب إنهن أضللن كثيرا من الناس } كقوم نوح.
{ فمن تبعني } أي على ديني وما أنا عليه.
{ فإنه مني } جعله بعضه لفرط الاختصاص به وملابسته له.
{ ومن عصاني } هذا فيه طباق معنوي لأن التبعية طاعة.
{ فإنك غفور رحيم } معناه لمن عصاه بغير الشرك.
{ ربنآ إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع } الآية، كرر النداء رغبة في الإجابة وإظهارا للتذلل والالتجاء إلى الله وأتى بضمير جماعة المتكلمين لأنه تقدم ذكره وذكر بنيه في قوله: وأجنبي وبني.
و { من ذريتي } هو إسماعيل ومن ولد منه وذلك أن هاجر لما ولدت إسماعيل غارت منها سارة فروي أنه ركب البراق هو وهاجر والطفل فجاء في يوم واحد من الشام إلى بطن مكة فنزل وأنزل ابنه وأمته هنالك وركب منصرفا من يومه ذلك وكان هذا كله بوحي من الله فلما ولى دعا بما في ضمن هذه الآية ومن للتبعيض لأن إسحاق كان بالشام والوادي ما بين الجبلين وليس من شرطه فيه ماء وإنما قال: غير ذي زرع لأنه كان علم أن الله لا يضيع هاجر وابنها في ذلك الوادي وأنه يرزقهما الماء.
{ ليقيموا } متعلق بأسكنت وربنا دعاء معترض والمعنى أنه لا يخلو هذا البيت المعظم من العبادة ومن للتبعيض.
قال الزمخشري: بواد هو وادي مكة غير ذي زرع لا يكون فيه شىء من زرع قط كقوله تعالى:
قرآنا عربيا غير ذي عوج
[الزمر: 28] بمعنى لا يوجد فيه إعوجاج ما فيه إلا استقامة لا غير " انتهى ". استعمل قط وهو ظرف لا يستعمل إلا مع الماضي معمولا لقوله: لا يكون وهو ليس ماضيا وهو مكان ابدا الذي يستعمل فيه مع غير الماضي من المستقبلات.
و { أفئدة } وهو على حذف مضاف تقديره ذوي أفئدة وأصل الهوى أن يكون من علو.
قال الزمخشري: ويجوز أن تكون من للابتداء كقولك:
القلب مني سقيم
يريد قلبي فكأنه قيل أفئدة ناس وإنما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل لتنكير أفئدة لأنها في الآية نكرة لتناول بعض الأفئدة " انتهى ".
لا يظهر كونها لابتداء الغاية لأنه ليس لها فعل يبتدأ به لغاية ينتهي إليها إذ لا يصح ابتداء جعل الأفئدة.
{ ربنآ إنك تعلم ما نخفي وما نعلن } الآية، كرر النداء للتضرع والالتجاء ولا يظهر تفاوت بين إضافة رب الى ياء المتكلم وبين إضافته إلى جمع المتكلم وما نخفي وما نعلن عام فيما يخفونه ويعلنونه ثم أتى بأعم منه وهو قوله تعالى:
{ وما يخفى على الله من شيء } والظاهر أن هذه الجمل التي تكلم بها إبراهيم عليه السلام لم تقع منه في زمن واحد وإنما حكى الله تعالى عنه ما وقع منه في أزمان مختلفة يدل على ذلك أن إسحاق لم يكن موجودا حالة دعائه إذ ترك هاجر والطفل بمكة والظاهر أن حمده الله على هبة ولديه له كان بعد وجود إسحاق.
[14.39-52]
{ على الكبر } يدل على مطلق الكبر ولم يتعين المدة التي وهب له فيها ولداه وروي أنه ولد له إسماعيل وهو ابن تسع وتسعين سنة وولد له إسحاق وهو ابن مائة واثنتي عشرة سنة.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون من إضافة فعيل إلى فاعله ويجعل دعاء الله سميعا على الاسناد المجازي والمراد سماع الله. " انتهى ".
هذا بعيد لاستلزامه أن يكون من باب الصفة المشبهة والصفة متعدية ولا يجوز ذلك إلا عند أبي علي الفارسي حيث لا يكون لبس وأما هنا فاللبس حاصل إذ الظاهر أنه من إضافة المثال للمفعول لا من إضافته للفاعل وإنما أجاز ذلك الفارسي في مثل زيد ظالم العبيد إذا علم أن له عبيدا ظالمين والظاهر أن إبراهيم عليه السلام سأل المغفرة لأبويه القريبين وكانت أمه مؤمنة وكان والده لم ييأس من إيمانه ولم تتبين له عداوة الله.
{ ولا تحسبن الله غافلا } الآية، الخطاب في قوله: " ولا تحسبن " للسامع الذي يمكن فيه حسبان مثل هذه الجملة بصفات الله لا للرسول صلى الله عليه وسلم لأنه مستحيل ذلك في حقه وفي هذه الآية وعيد عظيم للظالمين ومعنى:
{ مهطعين } مسرعين. ومعنى:
{ مقنعي رءوسهم } وجوه الناس يومئذ إلى السماء لا ينظر أحد إلى أحد. ومعنى:
{ وأفئدتهم هوآء } أي اضطراب أفئدتهم وجيشانها في الصدور وانها تجيء تذهب وتبلغ على ما روي حناجرهم فهي في ذلك كالهواء الذي هو أبدا في اضطراب وحصول هذه الصفات الخمس للظالمين قيل عند المحاسبة بدليل ذكرها عقيب قوله تعالى: { يوم يقوم الحساب }.
{ وأنذر الناس يوم يأتيهم العذاب } هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوم منصوب على أنه مفعول ثان لأنذر ولا يصح أن يكون ظرفا لأن ذلك اليوم ليس بزمان الإنذار وهذا اليوم هو يوم القيامة وأنذر الناس الظالمين وبين ذلك قوله:
{ فيقول الذين ظلموا } لأن المؤمنين يبشرون ولا ينذرون.
{ أولم تكونوا } هو على إضمار القول والظاهر أن التقدير فيقال لهم والقائل الملائكة أو الباري تعالى يوبخون بذلك ويذكرون بذلك مقالتهم في إنكار البعث وأقسامهم على ذلك كما قال تعالى:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت
[النحل: 38].
قال الزمخشري: أو لم تكونوا أقسمتم على إرادة القول وفيه وجهان أن يقولوا ذلك بطرا وأشرا ولما استولى عليهم من إعادة الجهل والسفه وأن يقولوا بلسان الحال حيث بنوا شديدا وأملوا بعيدا وما لكم جواب القسم وإنما جاء بلفظ الخطاب لقوله: " أقسمتم " ولو حكى لفظ المقسمين لقال ما لنا من زوال والمعنى أقسمتم أنكم باقون في الدنيا لا تزولون بالموت والفناء وقيل: لا تنتقلون إلى دار أخرى " انتهى ".
جعل الزمخشري أو لم تكونوا محكيا بقولهم: مخالف لما قدمناه وقوله: لا يزولون بالموت والفناء ليس بجيد لأنهم مقرون بالموت والفناء وقيل هو قول مجاهد. ومعنى ما لكم من زوال من الأرض بعد الموت أي: لا نبعث من القبور.
{ وسكنتم } ان كان من السكون فالمعنى أنهم قروا فيها واطمأنوا طيبي النفوس سائرين سيرة من قبلهم في الظلم والفساد لا يحدثوها بما لقي الظالمون قبلهم.
{ وتبين لكم } بالخبر والمشاهدة ما فعلنا بهم من الهلاك والانتقام.
{ وضربنا لكم الأمثال } أي صفات ما فعلوا ما فعل بهم وهي في الغرابة كالأمثال المضروبة لكل ظالم.
{ وقد مكروا مكرهم } الآية، الظاهر أن الضمير في مكروا عائد على المخاطبين في قوله: أو لم تكونوا أقسمتم. أي مكروا بالشرك بالله تعالى وتكذيب الرسل ومعنى مكرهم المكر العظيم الذي استفرغو فيه جهدهم والظاهر أن هذا إخبار من الله تعالى لنبيه بما صدر منهم في الدنيا وأنه ليس مقولا في الآخرة الظاهر إضافة مكر وهو المصدر إلى الفاعل كما هو مضاف في الأول إليه كأنه قيل وعند الله ما مكروا أي مكرهم.
قال الزمخشري: أو يكون مضافا إلى المفعول على معنى وعند الله مكرهم الذين يمكرهم به وهو عذابه الذي يستحقونه يأتيهم من حيث لا يشعرون ولا يحتسبون " انتهى ".
هذا لا يصح إلا إن كان مكر يتعدى بنفسه كما قدر هو يمكرهم به والمحفوظ أن مكر لا يتعدى إلى مفعول به بنفسه.
قال تعالى:
وإذ يمكر بك الذين كفروا
[الأنفال: 30] ولا يحفظ زيد ممكور وإنما يقال ممكور به وقرىء: لتزول بفتح اللام الأولى وضم الثانية ولتزول بكسر الأولى وفتح الثانية والذي يظهر أن زوال الجبال مجاز ضرب مثلا لمكر قريش وعظمة. والجبال لا تزول وهذا من باب الغلو والإيغال والمبالغة في ذم مكرهم.
{ فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله } هذا الوعد هو قوله تعالى:
إنا لننصر رسلنا
[غافر: 51].
{ إن الله عزيز } لا يمتنع عليه شىء ولا يغالب.
{ ذو انتقام } من الكفرة لا يعفو عنهم والتبديل يكون في الذات أي تزول ذات وتجيء أخرى منه بدلناهم جلودا غيرها وبدلناهم بجنتيهم جنتين ويكون في الصفات تقول بدلت الحلقة خاتما فالذات لم تفقد لكنها انتقلت من شكل إلى شكل واختلفوا في التبديل هنا أهو في الذات أم هو في الصفات فقال ابن عباس تمد كما يمد الأديم وتزال عنها جبالها وآكامها وشجرها وجميع ما فيها حتى تصير مستوية لا ترى فيها عوجا ولا أمتا وتبدل السماوات بتكوير شمسها وانتثار كواكبها وانشقاقها وخسوف قمرها.
{ وترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد } مقرنين مشدودين في القرن أي مقرون بعضهم مع بعض في القيود والأغلال والظاهر تعلق في الأصفاد بقوله: مقرنين أي: يقرنون في الأصفاد.
{ سرابيلهم من قطران } السرابيل القمص فيجمع عليهم الأربع لذع القطران وحرقته وإسراع النار في جلودهم واللون الوحش ونتن الريح.
{ ليجزى الله } متعلق بقوله: وبرزوا لله.
{ وترى المجرمين } جملة معترضة بينهما.
و { كل نفس } عام في الطائعة والعاصية.
{ ما كسبت } أي في حياتها من طاعة ومعصية فيثيب الطائعة ويعاقب العاصية.
{ إن الله سريع الحساب } تقدم شرحه والإشارة بهذا إلى ما ذكره تعالى من قوله: { ولا تحسبن الله غافلا }. إلى قوله: { سريع الحساب } ومعنى بلاغ كفاية في الوعظ والتذكير فالإشارة بهذا إلى اعلام الله تعالى بما يجري في الآخرة ولينذروا وما بعده متعلق بمحذوف يدل عليه ما تقدم تقديره فأعلمنا به لينذروا به.
{ وليعلموا أنما هو } الضمير في هو عائد على الله سبحانه وتعالى وهو المتصرف في ذلك اليوم وغيره وهو المتوحد بالألوهية.
{ وليذكر أولوا الألباب } هم أرباب العقول.
[15 - سورة الحجر]
[15.1-25]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين } هذه السورة مكية بلا خلاف مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر في آخر السورة قبلها أشياء من أحوال القيامة من تبديل السماوات والأرض وأحوال الكفار في ذلك اليوم وان ما أتى به على حسب التبليغ والإنذار ابتدأ في هذه السورة بذكر القرآن الذي هو بلاغ للناس وأحوال الكفر وودادتهم.
{ لو كانوا مسلمين } وتلك إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب والقرآن المبين السورة وتنكير القرآن للتفخيم والمعنى تلك آيات الكتاب الكامل في كونه كتابا وأي قرآن مبين كأنه قيل الكتاب الجامع للكامل والغرابة في البيان والظاهر ان ما في ربما مهيئة وذلك انها من حيث هي حرف جر على خلاف فيه لا يليها إلا الأسماء فجيء بما مهيئة لمجيء الفعل بعدها وفي رب لغات وأحكام ذكرت في النحو وعلى كثرة مجيء رب في كلام العرب لم تجيء في القرآن إلا في هذا الموضع وقد اختلفوا تفيد التقليل أم التكثير والذي يظهر ان ذلك يفهم من سياق الكلام لا من وضعها ومثال هذا التركيب القرآني قول الشاعر:
ربما تكره النفوس من الأمر
له فرجة كحل العقل
وما مهيئة لمجيء الفعل بعدها ودعوى أنها نكرة موصوفة بعيد كتأويل من قال: رب شىء توده وحذف الضمير العائد على شىء وأكثر ما يأتي الفعل بعدها ماضيا كقول الشاعر:
ربما أوفيت في علم
ترفض ثوبي شمالات وقد جاء مستقبلا
فقال سليم القشيري:
ومعتصم بالحي من خشية الردى
سيردي وغاز مشفق سيؤوب
فيود مستقبل لا يحتاج إلى تأويله بمعنى ود وكثرة مجيء لو بعدود ينسبك منها مصدر تقديره ان لو كانوا مسلمين أي كونهم مسلمين ومن لم يثبت أو لو حرف مصدري يتأول مفعولا محذوفا لود وجوابا للو فيقدر يود الذين كفروا الإسلام لو كانوا مسلمين لينجوا بذلك.
{ ذرهم يأكلوا } أمر تهديد لهم ووعيد أي ليسوا ممن يرعوي عما هو فيه من الكفر والتكذيب ولا ممن تنفعه النصيحة والتذكير فهم إنما حظهم حظ البهائم من الأكل والتمتع بالحياة الدنيا والأمل في تحصيلها هو الذي يلهيهم ويشغلهم عن الإيمان بالله تعالى وبرسوله وفي قوله: يأكلوا ويتمتعوا إشارة إلى أن التلذذ والتنعم وعدم الاستعداد للموت والتأهب له ليس من أخلاق من يطلب النجاة من عذاب الله تعالى .
{ فسوف يعلمون } تهديد ووعيد أي فسوف يعلمون عاقبة أمرهم وما يؤولون إليه في الدنيا من الذل والقتل والسبي وفي الآخرة من العذاب السرمدي ولما توعدهم بما يحل بهم أردف ذلك بما يشعر بهلاكهم وأنه لا يستبطأ فإن له أجلا لا يتعداه والمعنى من أهل قرية كافرين والظاهر أن المراد بالهلاك هلاك الاستئصال لمكذبي الرسل وهو أبلغ في الزجر ومن قرية مفعول أهلكنا ومن لاستغراق الجنس.
{ ولها كتاب معلوم } جملة حالية ومن زائدة تفيد استغراق الجنس أي: ما تسبق أمة وأنث أجلها على لفظ أمة وجمع وذكر في وما يستأخرون حملا على المعنى وحذف عنه لدلالة الكلام عليه.
قال الزمخشري: الجملة واقعة صفة لقرية والقياس ان لا تتوسط الواو بينهما كما في قوله تعالى:
ومآ أهلكنا من قرية إلا لها منذرون
[الشعراء: 208] وإنما توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف كما يقال في الحال جاءني زيد عليه ثوب وجاءني زيد وعليه ثوب " انتهى ".
ووافقه على ذلك أبو البقاء فقال: الجملة نعت لقرية كقولك: ما لقيت رجلا إلا عالما قال: وقد ذكرنا حال الواو في مثل هذا في البقرة في قوله:
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم
[البقرة: 216]، وهذا الذي قاله الزمخشري وتبعه فيه أبو البقاء لا نعلم أحدا قاله من النحويين، وهو مبني على أن ما بعد لا يجوز أن يكون صفة وقد منعوا ذلك.
قال الأخفش: لا يفصل بين الصفة والموصوف بالاثم، قال: ونحو ما جاءني رجل إلا راكب تقديره إلا رجل راكب وفيه قبح لجعل الصفة كالاسم.
وقال أبو علي الفارسي: تقول ما مررت بأحد إلا قائما فكأنما حال من أحد ولا يجوز إلا قائم لأن إلا لا تعترض بين الصفة والموصوف.
وقال ابن مالك: وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشري من قوله في نحو ما مررت بأحد إلا زيد خير منه ان الجملة بعد إلا صفة لأحد لأنه مذهب لم يعرف لبصري ولا كوفي فلا يلتفت إليه وأبطل ابن مالك قول الزمخشري أن الواو توسطت لتأكيد لصوق الصفة بالمؤمنون .
{ وقالوا يأيها الذي نزل عليه الذكر } الآية، قال مقاتل نزلت في عبد الله بن أمية والنضر بن الحرث ونوفل بن خويلد والوليد بن المغيرة وهذا الوصف بأنه نزل عليه الذكر قالوه على جهة الاستهزاء والاستخفاف لأنهم لا يقرون بتنزيل الذكر عليه وينسبونه إلى الجنون وهذا كقول فرعون ان رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون إذ لو كان مؤمنا برسالة موسى عليه السلام ما أخبر عنه بالجنون ثم اقترحوا عليه أن يأتيهم بالملائكة شاهدين بصدقك وبصحة دعواك وإنذارك كما قال:
لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا
[الفرقان: 7]، أو معاقبين على تكذيبك كما كانت باقي الأمم المكذبة. ولو ما حرف تحضيض بمعنى هلا، وقرىء: ما تنزل بشد التاء أصله تتنزل بشد التاء أصله تتنزل فأدغم التاء في التاء.
{ إلا بالحق } الظاهر أن معناها كما يجب ويحق من الوحي والمنافع التي أرادها الله تعالى لعباده لا على اقتراح كافر ولا باختيار معترض ثم ذكر عادة الله تعالى في الأمم من أنه لم يأتهم بآية اقتراح إلا ومعها العذاب في أثرها إذ لم يؤمنوا فكان الكلام ما ننزل الملائكة إلا بحق لا باقتراحكم وأيضا فلو نزلت لم تنظر وأبعد ذلك بالعذاب أي تؤخروا المعنى وهذا لا يكون إذ كان في علم الله ان منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن.
{ وإنا له لحافظون } أي حافظون له من الشياطين وفي كل وقت تكفل تعالى بحفظه فلا تعتريه زيادة ولا نقصان ولا تحريف ولا تبديل بخلاف غيره من الكتب المتقدمة فإنه تعالى لم يتكفل بحفظها بل قال تعالى: (ان الربانيين والأحبار استحفظوها) ولذلك وقع فيها الاختلاف وحفظه إياه دليل على أنه من عنده تعالى إذ لو كان من قول البشر لتطرق إليه ما تطرق لكلام البشر.
{ ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين } لما ذكر تعالى استهزاء الكفار به ونسبته إلى الجنون واقتراح نزول الملائكة سلاه الله تعالى بأن ما أرسل من قبلك كان ديدين هؤلاء معك وتقدم تفسير الشيع في أواخر الانعام ومفعول أرسلنا محذوف أي أرسلنا من قبلك رسلا.
قال الزمخشري: وما يأتيهم حكاية حال ماضية لأن ما لا تدخل على مضارع إلا وهو في موضع الحال " انتهى ". هذا الذي ذكره هو قول الأكثرين أن ما تخلص المضارع للحال وتعنيه وذهب غيره إلى أن ما يكثر دخولها على المضارع مرادا به الحال وتدخل عليه مرادا به الاستقبال وأنشد شاهدا على ذلك قول أبي ذئيب:
" أودي بني وأودعوني حسرة
عند الرقاد وغيره ما تقلع "
وقال الأعشى يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" له نافلات ما يغب نوالها
وليس عطاء اليوم مانعه غدا "
وقال تعالى:
ما يكون لي أن أبدله من تلقآء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي
[يونس: 15].
{ كذلك نسلكه في قلوب المجرمين } الظاهر عود الضمير على الاستهزاء المفهوم من قوله: يستهزؤن، والباء في به للسبب والمجرمون هنا كفار قريش ومن دعاهم الرسول إلى الإيمان.
و { لا يؤمنون } إذ كان إخبارا مستأنفا فهو من العام المراد به الخصوص فيمن حتم عليه إذ قد آمن عالم ممن كذب الرسول.
{ وقد خلت سنة الأولين } في تكذيبهم رسولهم أو في إهلاكهم حين كذبوا رسلهم واستهزؤوا بهم وهو تهديد لمشركي قريش والضمير في عليهم عائد على المشركين وذلك لفرط تكذيبهم وبعدهم عن الإيمان حتى ينكروا ما هو مشاهد. بالأعين المحسوس مماس بالأجساد بالحركة والانتقال وهذا بحسب المبالغة التامة في إنكار الحق والظاهر الضمير في فظلوا عائد على من عاد عليه في قوله: عليهم أي لو فتح لهم باب من السماء وجعل لهم معراج يصعدون فيه لقالوا هو شىء نتخيله لا حقيقة له وقد سحرنا بذلك وجاء لفظ فظلوا مشعرا بحصول ذلك في النهار ليكونوا مستوضحين لما عاينوا.
{ ولقد جعلنا في السماء بروجا } الآية، لما ذكر تعالى حال منكري النار وكانت مفرعة على التوحيد ذكر دلائله السماوية وبدأ بها ثم اتبعها بالدلائل الأرضية والبروج جمع برج.
قال ابن عيسى الرفاني: البروج اثنا عشر برجا: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. وهي منازل الشمس والقمر والظاهر أن الضمير في وزيناها عائد على البروج لأنها المحدث عنها والأقرب في اللفظ وقيل على السماء وهو قول الجمهور وخص بالناظرين لأنها من المحسوس الذي لا يدرك إلا بنظر العين ويجوز أن يكون نظر القلب لما فيها من الزينة المعنوية وهو ما فيها من حسن الحكم وبدائع الصنع وغرائب القدرة والضمير في وحفظناها عائد على السماء وكذلك قال الجمهور ان الضمير في وزيناها عائد على السماء حتى لا تختلف الضمائر وحفظ السماء وهو بالرجم بالشهب على ما تضمنته الأحاديث الصحاح.
{ والأرض مددناها وألقينا فيها رواسي } الآية، ومعنى مددناها بسطناها ليحصل بها الانتفاع لمن حلها ولما كانت هذه الجملة تقدمها جملة فعلية كان النصب على الاشتغال أرجح من الرفع على الابتداء فلذلك نصب والأرض والرواسي الجبال والظاهر أن الضمير في فيها عائد على الأرض الممدودة وقال ابن عباس وغيره: موزون مقدر بقدر وتقدم تفسير المعايش في أول الأعراف والظاهر أن من لمن يعقل ويراد به العيال والمماليك والخدم الذين يحسبون أنهم يرزقونهم ويخطئون فإن الله هو الرزاق يرزقكم وإياهم ومن مجرور معطوف على الضمير في لكم وحسن العطف الفصل بينهما بقوله: فيها معايش، أو يدخل معهم ما لا يعقل بحكم التغليب كالانعام والدواب وما بتلك المثابة مما رزقه الله تعالى وقد سبق إلى ظنهم أنهم هم الرازقون لهم وتقدم شرح الخزائن وان نافية ومن زائدة والظاهر أن المعنى وما من شىء ينتفع به العباد إلا ونحن قادرون على إيجاده وتكوينه والانعام به فتكون الخزائن وهي ما تحفظ فيه الأشياء مستعارة من المحسوس الذي هو الجسم إلى المعقول.
و { لواقح } جمع لاقح يقال: ريح لاقح جائيات بخير من إنشاء السحاب الماطر كما قيل للتي لا تأتي بخير بل شر ريح عقيم.
و { المستقدمين } قال ابن عباس: الأموات.
و { المستأخرين } الأحياء.
{ وإن ربك } فيه التفات وخروج من ضمير العظمة للواحد إلى الاسم الظاهر تنبيها على أن المتصف بتلك الأفعال السابقة هو ربك المالك لك والناظر في مصلحتك وهو توكيد للفظ الرب.
[15.26-87]
{ ولقد خلقنا الإنسان من صلصال } الآية، لما نبه تعالى على منتهى الخلق وهو الحشر يوم القيامة إلى ما يستقرون فيه نبههم على مبدأ أصلهم آدم صلى الله عليه وسلم وما جرى لعدوه إبليس من المحاورة مع الله تعالى وتقدم شىء من هذه القصة في أوائل البقرة عقب ذكره الأمانة والاحياء والرجوع إليه تعالى، وفي الأعراف بعد ذكر يوم القيامة وذكر الموازين فيه وفي الكهف بعد ذكر الحشر، وكذا في سورة ص بعد ذكر ما أعد من الجنة والنار لخلقه فحيث ذكر منتهى هذا الخلق ذكر مبدأهم وقصته مع إبليس ليحذرهم من كيده ولينظر واما جرى له معه حتى أخرجه من الجنة التي هي مقر السعادة والراحة إلى الأرض التي هي مقر التكليف والتعب فيحترزوا من كيده.
الصلصال، قال أبو عبيدة: الطين، إذا خلط بالرمل وجف والحماطين أسود منتن واحده حماة بتحريك الميم. وقال ابن عباس: المسنون الرطب، ومعناه المصبوب لأنه لا يكون مصبوبا إلا وهو رطب فكني عن المصبوب بوصفه لا أنه موضوع.
والسموم قال ابن عباس: الريح الحارة التي تقتل وعنه نار لا دخان لها ومنها تكون الصواعق ومعنى.
{ سويته } أكملت خلقه والتسوية عبارة عن الإتقان وجعل أجزائه مستوية فيما خلقت له.
{ ونفخت فيه من روحي } أي خلقت الحياة فيه ولا نفخ هناك ولا منفوخ حقيقة وإنما هو تمثيل لتحصيل ما يجيء به فيه وإضافة الروح إليه تعالى على سبيل التشريف نحو بيت الله وناقة الله أو الملك إذ هو المتصرف في الإنشاء للروح والمودعها حيث يشاء.
{ فقعوا له ساجدين } أي اسقطوا على الأرض وحرف الجر محذوف من أن أي مالك في أن لا يكون وأي داع دعا بك إلى أبائك السجود ولا سجد اللام لام الجحود والمعنى لا يناسب حالي السجود له وفي البقرة نبه على العلة المانعة له وهي الاستكبار أي رأى نفسه أكبر من أن يسجد وفي الأعراف صرح بجهة الاستكبار وهي ادعاء الخيرية والأفضلية بادعاء المادة المخلوق منها كل منهما وهنا نبه على مادة آدم وحده وهنا فأخرج منها وفي الأعراف فاهبط منها وتقدم ذكر الخلاف فيما يعود عليه ضمير منها.
و { بمآ أغويتني } ما مصدرية وهنا أقسم بالاغواء وفي مكان آخر قال: فبعزتك فيكون ذلك في محاورتين.
و { لأزينن } جواب القسم.
و { لهم } ضمير يعود على ما يفهم من الكلام وهم ذرية آدم صلى الله عليه وسلم.
{ قال هذا صراط علي } الإشارة بهذا إلى ما تضمنه المخلصين من المصدر أي الإخلاص الذي يكون في عبادي هو صراط مستقيم لا يسلكه أحد فيضل أو يزل لأن من اصطفيته أو أخلص لي العمل لا سبيل لك عليه قيل ولما قسم إبليس ذرية آدم إلى غاو ومخلص قال تعالى: (هذا أمر مصيره إلي) ووصفه بالاستقامة.
أي هو حق وصيرورتهم إلى هذين القسمين ليس لك والعرب تقول: طريقك في هذا الأمر على فلان أي إليه يصير النظر في أمرك وقرأ الجمهور على جارا أو مجرورا ويتعلق بقوله: مستقيم. أي مستقيم على إرادتي وحكمي. وقرأ يعقوب على وزن فعيل وهو صفة لقوله: صراط، والإضافة في قوله: ان عبادي. إضافة تشريف ان المختصين بعبادتي وعلى هذا لا يكون قوله: الا من اتبعك، استثناء متصلا بل يكون منقطعا بمعنى لكن من اتبعه لم يدرج في قوله: ان عبادي. وان كان أريد بعبادي عموم الخلق فيكون إلا من اتبعك استثناء متصلا لاندراجه في عموم العباد ومن في من الغاوين لبيان الجنس أي الذين هم الغاوون ولموعدهم مكان وعد اجتماعهم والضمير للغاوين.
قال ابن عطية: وأجمعين تأكيد وفيه معنى الحال " انتهى ".
هذا جنوح لمذهب من يزعم أن أجمعين يدل على اتحاد الوقت والصحيح أن مدلوله مدلول كلهم والظاهر أن جهنم هي واحدة.
و { لها سبعة أبواب } قيل أعلاها للموحدين والثاني لليهود.
والثالث: للنصارى.
والرابع: للصابئين.
والخامس: للمجوس.
والسادس: للمشركين.
والسابع: للمنافقين.
{ إن المتقين في جنات وعيون } الآية، لما ذكر تعالى ما أعد لأهل الجنة ليظهر تباين ما بين الفريقين.
{ ونزعنا ما في صدورهم } تقدم شرحه في الاعراف وانتصب إخوانا على الحال وهي حال من الضمير المجرور في صدورهم والحال من المضاف نادرة وقد تأول نصبه على غير الحال من الضمير المجرور.
{ على سرر } جمع سرير وعلى سرر ومتقابلين حالان والقعود على السرير دليل على الرفعة والكرامة التامة.
وعن ابن عباس على سرر مكللة بالياقوت والزبرجد والدر.
{ متقبلين } متساويين في التواصل والتوادد.
{ لا يمسهم فيها نصب } أي تعب مما يقاسونه في الدنيا وإذا انتفى المس انتفت الديمومة وأكد انتفاء الإخراج بدخول الباء في بمخرجين ومنها متعلق بمخرجين ولما تقدم ذكر ما في النار وذكر ما في الجنة أكد تعالى تنبيئه الناس وتقرير ذلك وتمكينه في النفوس بقوله:
{ نبىء عبادي } وناسب ذكر الغفران والرحمة اتصال ذلك بقوله: ان المتقين. وتقديما لهذين الوصفين العظيمين اللذين وصف بهما نفسه تعالى وجاء قوله:
{ وأن عذابي } في غاية اللطف إذ لم يقل على وجه المقابلة وأنى المعذب المؤلم كل ذلك ترجيح لجهة العفو والرحمة. وسدت أن مسد مفعولي نبىء ان قلنا انها تعدت إلى ثلاثة وسد واحد ان قلنا انها تعددت إلى اثنين.
{ ونبئهم عن ضيف إبراهيم } الآية، لما ذكر تعالى ما أعد للعاصين من النار. والطائعين من الجنة ذكر العرب بأحوال من يعرفونه ممن عصى وكذب الرسل فحل به عذاب الدنيا قبل عذاب الآخرة ليزدجروا عن كفرهم وليعتبروا بما حل بغيرهم فبدأ بذكر جدهم الأعلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم وما جرى بقوم ابن أخيه لوط عليه السلام ثم بذكر أصحاب الحجر وهم قوم صالح، ثم بأصحاب الأيكة وهم قوم شعيب، وضيف إبراهيم هم الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط وتقدم الكلام عليه في سورة هود ونبئهم عدي نبئهم بحرف الجر وهو عن ولم يذكر لها مفعولا ولا مفعولين وسلاما مقتطع من جملة محكية بقالوا فليس منصوبا به والتقدير سلمت سلاما من السلامة أو سلمنا سلاما من التحية وقيل سلاما نعت لمصدر محذوف تقديره فقالوا قولا سلاما وتصريحه هنا بأنه وجل منهم كان بعد تقريبه إليهم ما أضافهم به وهو العجل الحنيذ وامتناعهم من الأكل وفي هود فأوجس في نفسه خيفة فيمكن أن هذا التصريح كان بعد إيجاس الخيفة ويحتمل أن يكون القول هنا مجازا بأنه ظهرت عليه مخايل الخوف حتى صار كالمصرح به القائل.
{ إنا نبشرك } استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل، بشروه بأمرين.
أحدهما أنه ذكر والثاني وصفه بالعلم على سبيل المبالغة واستنكر إبراهيم صلى الله عليه وسلم ان يولد له مع الكبر وفيم تبشرون تأكيد استبعاد وتعجب وكأنه لم يعلم أنهم ملائكة، رسل الله تعالى إليه فلذلك استفهم واستنكر أن يولد له ولو علم أنهم رسل الله ما تعجب ولا استنكر ولا سيما وقد رأى من آيات الله عيانا كيف أحيا الموتى. وبالحق أي باليقين الذي لا ريب فيه وقولهم: فلا تكن من القانطين نهي والنهي عن الشىء لا يدل على التلبس بالمنهي عنه ولا بمقاربته وقوله:
{ ومن يقنط } رد عليهم وإن المحاورة في البشارة لا تدل على القنوط بل ذلك على سبيل الاستبعاد لبما جرت به العادة وفي ذلك إشارة إلى أن هبة الولد على الكبر من رحمة الله إذ يشد عضد والده ويؤازره حالة كونه ولا يستقل ويرث منه علمه ودينه.
{ قال فما خطبكم } الآية، لما بشروه بالولد وراجعوه في ذلك علم أنهم ملائكة الله ورسله فاستفهم بقوله: فما خطبكم والخطب لا يكاد يقال إلا في الأمر الشديد فإضافة إليهم من حيث أنهم هم حاملوه إلى أولئك القوم المعذبين وذكر إلى قوم مجرمين فأبرزه في صورة النكرة وان كان أريد به معينون يدل على ذلك قولهم في سورة هود:
إنا أرسلنا إلى قوم لوط
[الآية: 70] فعينهم، وإنما نكر هاهنا على سبيل الاستهانة بهم وإن كانوا معينين من جهة المعنى فقوله: إلا آل لوط، استثناء نكرة في الظاهر ولكنهم معينون في المعنى وكثيرا ما تأتي النكرة يراد بها التعين كقول من صحب رجلا عالما معينا فيقول: لقد صحبت رجلا عالما.
{ إلا امرأته } استثناء من الضمير المنصوب في منجوهم قال الزمخشري: فإن قلت فقوله: إلا امرأته، مما استثنى وهل هو استثناء من استثناء * قلت: استثنى من الضمير المجرور في قوله لمنجوهم وليس من الاستثناء من الاستثناء في شىء لأن الاستثناء من الاستثناء إنما يكون فيما اتحد الحكم فيه وان يقال أهلكناهم إلا آل لوط، إلا امرأته، كما اتحد الحكم في قول المطلق ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة، وفي قول المقر لفلان على عشرة دراهم إلا ثلاثة إلا درهم فاما في الآية فقد اختلف الحكمان لأن آل لوط متعلق بأرسلنا أو بمجرمين ولا امرأته قد تعلق بمنجوهم فأنى يكون استثناء من استثناء " انتهى ".
لما استسلف الزمخشري ان إلا امرأته مستثنى من الضمير المجرور لم يجوز أن يكون استثناء من استثناء ومن قال انه استثناء من استثناء فيمكن تصحيح كلامه بأحد وجهين أحدهما: أنه كان الضمير في لمنجوهم عائدا على آل لوط وقد استثنى منه المرأة فصار كأنه مستثنى من آل لوط لأن المضمر هو الظاهر في المعنى والوجه الآخر أن قوله إلا آل لوط لما حكم عليهم بغير الحكم على قوم مجرمين اقتضى ذلك نجاتهم في قوله: إنا لمنجوهم أجمعين تأكيد المعنى الاستثناء إذ المعنى إلا آل لوط فلم يرسل عليهم بالعذاب ونجاتهم مترتبة على عدم الإرسال إليهم بالعذاب فصار نظير قولك قام القوم إلا زيدا فإنه لم يقم أو إلا زيدا لم يقم فهذه الجملة تأكيد لما تضمنه الاستثناء من الحكم على ما بعد إلا بضد الحكم السابق على المستثنى منه فالأمر أنه على هذا التقرير الذي قررناه استثناء من آل لوط لأن الاستثناء مما جيء به للتأسيس أولى من الاستثناء مما جيء للتأكيد وجاء الضمير في أرسلنا وفي أنا وفي قدرنا مسند إلى الملائكة لأنهم هم المأمورون بإهلاكهم ووصف قوم بمنكرون لأنه نكرتهم نفسه ونفرت منهم وخاف أن يطرقوه بشر وبل إضراب عن قول محذوف أي ما جئناك لشىء تخافه بل جئنا بالعذاب لقومك إذ كانوا يمترون فيه أي يشكون في وقوعه فيجادلونك فيه تكذيبا لك بما وعدتهم به عن الله تعالى.
{ واتبع أدبارهم } نهاه أولا عن الإلتفات وأمره باتباع أدبارهم ويكون ذلك أحفظ لهم من أي ينزل ساقة خلفه وحيث تؤمرون.
قال ابن عباس: هي الشام ولما ضمن قضينا معنى أوحينا تعدت تعديها بإلى أي وأوحينا إلى لوط مقضيا مبتوتا والإشارة بذلك إلى ما وعده تعالى من إهلاك قومه وان دابر تفخيم للأمر وتعظيم له وهو في موضع نصب على البدل من ذلك.
و { مصبحين } داخلين في الصباح.
{ وجآء أهل المدينة يستبشرون } الآية استبشارهم فرحهم بالأضياف الذين وردوا على لوط صلى الله عليه وسلم والظاهر ان هذا المجيء ومجاورة لوط مع قومه في حق أضيافه وعرضه بناته عليهم كان ذلك كله قبل إعلامه بهلاك قومه وعلمه بأنهم رسل الله ولذلك سماهم ضيفا وخاف الفضيحة منهم لأجل تعاطيهم ما لا يجوز من الفعل القبيح وقد جاء ذلك مرتبا هكذا في سورة " هود " والواو لا ترتب ولا تخزون من الخزي وهو الإذلال أو من الخازية وهو الاستحياء وفي قولهم:
{ أو لم ننهك } دليل على تقدم نهيهم إياه عن أن يضيف أو يجير أحدا أو يدفع عنه أو يمنع بينهم وبينه فإنهم كانوا يتعرضون لكل أحد وكان هو عليه السلام يقوم بالنهي عن المنكر والحجز بينه وبين من تعرض له فأوعدوه بأنه لم ينته خرجوه وتقدم الكلام في قوله تعالى: { بناتي } ومعنى الإضافة في هود وإن كنتم فاعلين شك قبولهم لقوله كأنه قال: ان فعلتم ما أقول لكم وما أظنكم تفعلون، وقيل: ان كنتم تريدون قضاء الشهوة فيما أحل الله دون ما حرم.
واللام في لعمرك لام الابتداء وعمرك مبتدأ خبره محذوف تقديره لعمرك قسمي وإذا كان في القسم كانت العين مفتوحة ومعناها البقاء وجواب القسم فقيل القسم من الملائكة خطابا للوط صلى الله عليه وسلم وقيل خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وكني عن الضلالة والغفلة بالسكر أي تحيرهم في غفلتهم وضلالتهم منعهم عن إدراك الصواب الذي يشير به والصيحة صيحة الهلاك ومشرقين داخلين في الشروق وهو بزوغ الشمس وقيل أول العذاب كان عند الصبح وامتد إلى شروق الشمس فكان تمام الهلاك عند ذلك والضمير في عاليها سافلها عائد على المدينة المتقدمة الذكر.
{ للمتوسمين } للمتفرسين وعن ابن عباس هم أهل الصلاح والخير.
{ وإنها لبسبيل مقيم } أي ممر ثابت وهي بحيث يراها الناس ويعتبرون بها لم تندرس وهو تنبيه لقريش.
{ إن في ذلك } أي في صنعنا بقوم لوط لعلامة ودليلا لمن آمن بالله تعالى.
{ وإن كان أصحاب الأيكة لظالمين } هم قوم شعيب والأيكة التي أضيفوا إليها كانت شجرة السدوم وقيل غير ذلك كفروا فسلط الله عليهم الحر وأهلكوا بعذاب الظلة ويأتي ذلك مستوفى في سورة الشعراء.
{ وإنهما } الضمير يعود على أصحاب الأيكة ومدين لأنه مرسل إليهما فدل ذكر أحدهما على الآخر فعاد الضمير إليهما.
{ لبإمام مبين } أي بطريق من الحق واضح والإمام الطريق.
{ ولقد كذب أصحاب الحجر } الآية، أصحاب الحجر ثمود قوم صالح صلى الله عليه وسلم والحجر أرض بين الحجاز والشام وتقدمت قصته في الأعراف مستوفاة والمرسلين يعني بتكذيبهم صالحا لأن من كذب واحدا منهم فكأنما كذبهم جميعا وتقدم ذكر قصتهم في الأعراف ويأتي أيضا بعض خبرهم.
{ وما خلقنا السموت والأرض } الآية، أي خلقا ملتبسا بالحق لم يخلق شىء من ذلك عبثا ولا هملا بل ليطيع من أطاع بالتفكر في ذلك الخلق العظيم وليتذكر النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى ولذلك نبه من يتنبه بقوله: وان الساعة لآتية فيجازي من أطاع ومن عصى.
{ ولقد آتيناك سبعا } الآية، والمثاني جمع مثناة والمثناة كل شىء أي يجعل اثنين من قولك ثنيت الشىء ثنيا أي عطفته وضممت إليه آخر وهذا مجمل ولا سبيل إلى تعيينه إلا بديل فنفصل جوز الزجاج أن تكون أم القرآن سميت السبع المثاني لأنها يثنى بها على الله قال ابن عطية: وفي هذا القول من جهة التصريف نظر " انتهى ".
لا نظر في ذلك لأنها جمع مثنى بضم الميم مفعل من أثنى رباعيا أي مقر ثناء على الله أي فيها ثناء على الله.
وقال عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس وغيرهم: السبع هنا آيات الحمد قال ابن عباس: وهي سبع ببسم الله الرحمن الرحيم.
وقال غيره: سبع دون البسملة.
وقال أبو العالية: لقد أنزلت هذه السورة وما نزل من السبع الطوال شىء.
[15.88-99]
{ لا تمدن } ظاهره أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى نهي أمته عن ذلك لأن من أوتي القرآن شغله النظر فيه وامتثال تكاليفه وفهم معانيه عن الاشتغال بزهرة الدنيا ومد العين للشىء إنما هو لاستحسانه وإيثاره.
{ أزواجا } أي أصنافا ونهاه تعالى عن الحزن عليهم ان لم يؤمنوا وكان كثير الشفقة على من بعث إليه وأمره بخفض الجناح لمن آمن وهي كناية عن اللطف والرفق وأصله ان الطائر إذا ضم الفرخ إليه بسط جناحه له ثم قبضه على فرخه والجناحان من ابن آدم جانباه ثم أمره بأن يبلغ أنه النذير الكاشف لكم ما جئت به إليكم من تعذيبكم ان لم تؤمنوا.
{ كمآ أنزلنا على المقتسمين } يحتمل وجهين أحدهما أن يكون متعلقا بقوله تعالى:
ولقد آتيناك
[الحجر: 87] أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على المقتسمين القرآن فنسبوه إلى سحر وكذب وافتراء ومعنى عضين أي فرقا والثاني أن يكون متعلقا بقوله: اني أنا النذير المبين، أي إنذارك مثل إنذار المقسمين قال الزمخشري: فيه وجهان أحدهما: أن يتعلق بقوله: ولقد آتيناك، أي أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين حيث قالوا بعنادهم وعداوتهم بعضه حق موافق للتوراة والإنجيل وبعضه باطل مخالف لهما فاقتسموه إلى حق وباطل وعضوه وقيل كانوا يستهزئون به فيقول بعضهم سورة البقرة لي ويقول آخر سورة آل عمران لي، ويجوز أن يراد بالقرآن ما يقرؤونه من كتبهم وقد اقتسموه بتحريفهم وبأن اليهود أقرت ببعض التوراة وكذبت ببعض والنصارى أقرت ببعض الإنجيل وكذبت ببعض، وهذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن صنيع قومه بالقرآن وتكذيبهم وقولهم: سحر وشعر وأساطير الأولين، بأن غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم. والثاني: أن يتعلق بقوله: وقل: إني أنا النذير المبين، أي وانذر قريشا مثل ما أنزلنا من العذاب على المقتسمين يعني اليهود وهو ما جرى على قريظة والنضير جعل المتوقع بمنزلة الواقع وهو من الإعجاز لأنه إخبار بما سيكون وقد كان ويجوز أن يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوبا بالنذير أي أنذر العضين الذين يجزؤون القرآن إلى شعر وسحر وأساطير مثل ما أنزلنا على المقتسمين وهم الاثنا عشر الذين اقتسموا مداخل مكة أيام الموسم فقعدوا في كل مدخل متفرقين لينفروا الناس عن الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بعضهم: لا تغتروا بالخارج منا فإنه ساحر ويقول الآخر: كذاب، ويقول الآخر: شاعر، فأهلكهم الله يوم بدر وقتلهم بآفات كالوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب وغيرهم، أو مثل ما أنزلنا على الرهط الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا عليه السلام والاقتسام بمعنى التقاسم.
فإن قلت إذا علقت قوله: كما أنزلنا بقوله: ولقد آتيناك. فما معنى توسط لا تمدن إلى آخره، قلت لما كان ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم وعداوتهم اعترض بما هو مدد لمعنى التسلية من النهي عن الإلتفات إلى دنياهم والتأسف على كونهم ومن الأمر بأن يقبل بمجامعه على المؤمنين " انتهى ".
أما الوجه الأول: وهو تعلق كما بآتينا فذكره أبو البقاء على تقدير وهو أن يكون في موضع نصب نعتا لمصدر محذوف تقديره آتيناك سبعا من المثاني إيتاء كما أنزلنا أو إنزالا كما أنزلنا لأن آتيناك بمعنى أنزلنا عليك وأما قوله: ان المقسمين هم أهل الكتاب فهو قول الحسن ومجاهد ورواه الحوفي عن ابن عباس.
وأما قوله: (اقتسموا القرآن) فهو قول ابن عباس فيما رواه عنه سعيد بن جبير، وأما قوله: اقتسموا، فقال بعضهم سورة البقرة إلى آخره. فقال عكرمة: وقال السدي: هم الأسود بن عبد المطلب والأسود بن عبد يغوث والوليد والعاصي والحارث بن قيس ذكروا القرآن فمن قائل النمل لي ومن قائل الذباب لي وآخر العنكبوت لي استهزاء فأهلكهم الله جميعهم وأما قوله: إن القرآن عبارة عما يقرؤونه من كتبهم إلى آخره فقاله مجاهد: وأما قوله: ويجوز ان يكون الذين جعلوا القرآن عضين منصوبا بالنذير أي إنذر العضين فلا يجوز أن يكون منصوبا بالنذير كما ذكر لأنه موصوف بالمبين ولا يجوز أن يعمل إذا وصف قبل ذكر المعمول على مذهب البصريين لا يجوز هذا عليم شجاع علم النحو فتفصل بين عليم وعلم بقولك شجاع وأجاز ذلك الكوفيون وهي مسألة خلافية ذكرت دلائلها في علم النحو، وأما قوله: الذين يجزؤون القرآن إلى شعر وسحر وأساطير، فمروي عن قتادة إلا أنه قال: بدل شعر كهانة، وأما قوله: الذين اقتسموا مداخل مكة فهو قول السائب وفيه ان الوليد بن المغيرة قال: ليقل بعضكم كاهن وبعضكم ساحر وبعضكم غاو وهم حنظلة بن أبي سفيان وعتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن المغيرة وأبو جهل والعاص بن هشام وأبو قيس بن الوليد وقيس بن الفاكه وزهير بن أمية وهلال بن عبد الأسود والسائب بن صيفي والنضر بن الحارث وأبو البحتري بن هشام وزمعة ابن الحجاج وأمية بن خلف وأوس بن المغيرة، تقاسموا على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهلكوا جمعيا وأما قوله انهم الذين تقاسموا على أن يبيتوا صالحا فقول عبد الله بن زيد قال ابن عطية: والكاف في كما متعلقة بفعل محذوف تقديره وقل إني أنا النذير عذابا كالذي أنزلناه على المقتسمين؛ فالكاف اسم في موضع نصب هذا قول المفسرين وهو عندي غير صحيح لأن كما ليس هو مما يقوله محمد صلى الله عليه وسلم بل هو من قول الله فينفصل الكلام وإنما يترتب هذا القول بأن يقدر بأن الله تعالى قال له: أنذر عذابا كما والذي أقول في هذا المعنى وقل: إني أنا النذير المبين كما قال قبلك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك ويحتمل أن يكون المعنى وقل: إني أنا النذير المبين قد أنزلنا في الكتب أنك ستأتي نذيرا أو هذا على أن المقتسمين أهل الكتاب " انتهى ".
أما قوله: وهو عندي غير صحيح إلى آخره فقد استعذر بعضهم عن ذلك فقال: الكاف متعلقة بمحذوف دل عليه المعنى تقديره انا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا، وان كان المنزل الله كما يقول بعض خواص الملك أمرنا بكذا وان كان الملك هو الآمر وأما قوله والذي أقوله في هذا المعنى إلى آخره فكلام مثبج ولعله من الناسخ ولعله أن يكون وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم.
{ عضين } جمع عضة وهو جمع لا ينقاس جمع بالواو رفعا وبالياء نصبا وجرا ولامه أصلها واو أو هاء يقال: عضيت تعضية أي فرقت وكل فرقة عضة يقولون للساحر عاضه وللساحر عاضهة والضمير في لنسألنهم يظهر عوده على المقتسمين وهو وعيد وسؤال تقريع.
{ فاصدع بما تؤمر } الصدع الشق وتصدع القوم تفرقوا وصدعته فانصدع أي شققته فانشق وقال مؤرج أصدع أفصل.
وقال ابن الأعرابي: أفصد وما في بما موصولة بمعنى الذي والعائد عليها محذوف تقديره أمرته أي به وأمر يتعدى إلى اثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر ويجوز حذفه وقد جمع الشاعر بينهما قال:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
فقد تركتك ذا مال وذا نشب
والمفعول الأول في الآية هو ضمير المخاطب المستكن في تؤمر والثاني الهاء المحذوفة العائدة على ما الموصولة.
قال الزمخشري: ويجوز أن تكون ما مصدرية أي بأمرك مصدر من المبنى المفعول " انتهى ". هذا ينبني على مذهب من يجوز أن يكون المصدر يراد به ان والفعل المبني للمفعول والصحيح أن ذلك لا يجوز ثم أخبره تعالى أنه كفاه المستهزئين بمصائب أصابتهم لم يسع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تكلف لها مشقة.
قال عروة وابن جبير هم خمسة:
الوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل، والأسود بن المطلب، وأبو زمعة، والأسود بن عبد يغوث، ومن بني خزاعة الحرب بن الطلاطلة.
{ فسوف يعلمون } وعيد لهم بالمجازاة على استهزائهم وجعلهم إلها مع الله في الآخرة كما جوزوا في الدنيا وكني بالصدر عن القلب لأنه محله وجعل سبب الضيق ما ينطقون به من الاستهزاء والطعن فيما جاء به ثم أمره تعالى بتنزيهه عما نسبوه إليه من اتخاذ الشريك معه مصحوبا بحمده والثناء عليه على ما أسدي إليه من نعمة النبوة والرسالة والتوحيد وغيرها من النعم فهذا في المعتقد والفعل القلبي وأمره بكونه من الساجدين والمراد أنه من المصلين وكني بالسجود عن الصلاة وهي أشرف أفعال الجسد وأقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ثم أمره تعالى بالعبادة التي هي شاملة لجميع أنواع ما يتقرب إليه تعالى وهذه الأوامر معناها دم على كذا لأنه عليه السلام ما زال متلبسا بها أي دم على التسبيح والسجود والعبادة والجمهور على أن المراد باليقين الموت أي ما دمت حيا فلا تخل بالعبادة وقيل ليس باليقين من أسماء الموت وإنما العلم به يقين لا يمتري فيه عاقل نسمي يقينا تجوزا أي يأتيك الأمر اليقين علمه ووقوعه.
[16 - سورة النحل]
[16.1-25]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * أتى أمر الله فلا تستعجلوه } هذه السورة مكية كلها، وقيل إلا ثلاث آيات فإنها مدنية ووجه ارتباطها بما قبلها أنه تعالى لما قال فوربك لنسألنهم أجمعين كان ذلك تنبيها على حشرهم يوم القيامة وسؤالهم عما اجترموه في دار الدنيا فقيل: أتى أمر الله وهو يوم القيامة على قول الجمهور.
وعن ابن عباس المراد بالأمر نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وظهوره على الكفار وأتى قيل باق على معناه من المضي والمعنى أتى أمر الله وعدا فلا تستعجلوه وقوعا.
قال ابن عباس: الروح الوحي ينزل به الملائكة على الأنبياء صلى الله عليهم وسلم ونظيره قوله: يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده وان مصدرية وهي التي من شأنها أن تنصب المضارع وصلت بالأمر كما وصلت في قولهم كتبت إليه بأن قم وهو بدل من الروح أي بإنذاره وقيل: ان تفسيرية بمعنى أي فلا موضع لها من الإعراب قال الزمخشري: وان انذروا بدل من الروح أي ننزلهم بأن أنذروا وتقديره بأنه أنذروا أي بأن الشأن. أقول لكم أنذروا أقول لكم أنذروا انه لا إله إلا الله " انتهى ".
جعلها المخففة من الثقيلة وأضمر اسمها وهو ضمير الشأن وقدر إضمار القول حتى يكون الخبر جملة خبرية وهي أقول ولا حاجة إلى هذا التكليف مع سهولة كونها الشافية التي من شأنها نصب المضارع وقوله: إلا أنا انتقل من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم في قوله إلا أنا وإذا هنا للمفاجأة بعد خلقه من النطفة لم تقع المفاجأة بالمخاصمة إلا بعد أحوال تطور فيها فتلك الأحوال محذوفة وتقع المفاجأة بعدها وخصيم مبين يحتمل وجهين أحدهما أن يراد به الذم وهو مخاصمته لأنبياء الله صلى الله عليهم وأوليائه بالحجج الداحضة وأكثر ما ذكر الإنسان في القرآن في معرض الذم أو مردفا بالذم والوجه الثاني أن يراد به المدح لأنه تعالى قواه على منازعة الخصوم وجعله مبين الحق من الباطل ونقله من تلك الحالة الجمادية وهو كونه نطفة إلى الحالة الشريفة وهي حالة النطق والإنابة ولما ذكر تعالى خلق الإنسان ذكر ما امتن به عليه في قوام معيشته فذكر أولا أكثرها منافع والزم لمن أنزل القرآن بلغتهم وذلك لإنعام وتقدم شرح الانعام في الانعام والذي يظهر أن يكون لكم فيها دفء استئناف لذكر ما ينتفع به من جهتها ولذلك قابله بقوله: ولكم فيها جمال ودفء مبتدأ ولكم خبره ويتعلق فيها بما في لكم من معنى الاستقرار وجوز أبو البقاء أن يكون فيها حالا من دفء إذ لو تأخر كان صفة وجوز أيضا إذ يكون لكم حالا من دفء وفيها الخبر وهذا لا يجوز لأن الحال إذا كان العامل فيها معنى فلا يجوز تقديمها على الجملة بأسرها لا يجوز قائما في الدار زيد فإن تأخرت الحال عن الجملة جازت بلا خلاف والدفء اسم لما يدفأ به أي يسخن وتقول العرب دفىء يومنا فهو دفىء إذا حصلت فيه سخونة تزيل البرد قال الزمخشري: فإن قلت: تقدم الظرف في قوله: ومنها تأكلون مؤذن بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها.
قلت: الأكل منها هو الأصل الذي يعتمدوه الناس في معايشهم وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به وكالجاري مجرى التفكه " انتهى ". وما قاله بناء منه على أن تقديم الظرف أو المفعول دال على الاختصاص وقد رددنا عليه ذلك في قوله:
إياك نعبد
[الفاتحة: 5]. جمال مصدر جمل بضم الميم حين تريحون يقال: أراح الماشية ردها بالعشي من المرعى وسرحها يسرحها سرحا وسروحا أخرجها غدوة إلى مرعى وسرحت هي ويكون متعديا ولازما وأكثر ما يكون ذلك أيام الربيع إذ أسقط الغيث وكثر الكلأ وخرجوا للنجعة وقدم الإراحة على السرح لأن الجمال فيها أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ثم أوت إلى الحظائر بخلاف وقت سرحها وإن كانت في الوقتين تزين الأفنية وتجاوب فيها الرغاء والثغاء فيأنس أهلها ويفرح أربابها وتجلهم في أعين الناظرين إليها وتكسبهم الجاه والحرمة والأثقال الأمتعة واحدها ثقل وقوله: إلى بلد لا يراد به معين أي إلى أي بلد بعيد توجهتم إليه لاغراضكم وبالغيه صفة للبلد إلا بشق الأنفس أي إلا بمشقتها وناسب الامتنان بهذه النعمة من حملها الأثقال الختم بصفة الرأفة والرحمة لأن من رأفتيه تيسير هذه المصالح وتسخير الانعام لكم ولما ذكر تعالى مننه بالانعام ومنافعها الضرورية ذكر الامتنان بمنافع الحيوان التي ليست بضرورية ولما كان الركوب أعظم منافعها اقتصر عليه ولا يدل ذلك على أنه لا يجوز أكل الخيل خلافا لمن استدل بذلك وانتصب وزينة ولم يكن باللام ووصل الفعل إلى الركوب بواسطة الحرف وكلاهما مفعول من أجله لأن التقدير خلقها والركوب من صفات المخلوق لهم وذلك فانتفى شرط النصب وهو اتحاد الفاعل فعدي باللام والزينة من وصف الخالق فاتحد الفاعل فوصل الفعل إليه بنفسه ولما ذكر الحيوان الذي ينتفع به انتفاعا ضروريا وغير ضروري أعقب بذكر الحيوان الذي لا ينتفع به غالبا على سبيل الإجمال إذ تفاصيله خارجة عن الإحصاء والعدو القصد مصدر ويوصف به يقال: سبيل قصد وقاصد إذا كان مستقيما كأنه يقصد الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه والسبيل هنا مفرد اللفظ والجائز العادل عن الهداية والاستقامة كما قال طرفة:
يجور بها الملاح طورا ويهتدي
ولو شاء مفعول شاء محذوف تقديره هدايتكم قال ابن عطية قال الزجاج: يعرض لكم آية تضطركم إلى الاهتداء والإيمان " انتهى ".
وهذا قول سوء لأهل البدع الذين يرون الله تعالى لا يخلق أفعال العباد لم يحصله الزجاج ووقع فيه رحمة الله تعالى من غير قصد " انتهى ".
لم يعرف ابن عطية أن الزجاج المعتزلي فلذلك تأول عليه أنه لم يحصله وأنه وقع فيه من غير قصد.
{ هو الذي أنزل من السماء مآء } الآية مناسبة هذه لما قبلها أنه تعالى لما امتن عليهم بإيجادهم بعد العدم الصرف وإيجاد ما ينتفعون به من الانعام وغيرها من المركوب ذكر ما امتن به عليهم من إنزال الماء الذي هو قوام حياتهم وحياة الحيوان وما يتولد عنه من أقواتهم وأقواتها من الزرع وما عطف عليه فذكر منها الأغلب ثم عمم بقوله: ومن كل الثمرات، ثم اتبع ذلك بخلق الليل الذي هو سكن لهم والنهار الذي هو معاشهم فيه ثم بالنيرين اللذين جعلهما الله تعالى مؤثرين بإرادته في إصلاح ما يحتاجون إليه ثم بما ذرأ في الأرض والظاهر أن لكم في موضع الصفة لما يتعلق بمحذوف ويرتفع شراب به إلى ماء كائنا لكم منه شراب ويجوز أن يتعلق بانزل ويجوز أن يكون استئنافا وشراب مبتدأ لما ذكر الماء أخذ في تقسيمه والشراب هو المشروب والتبعيض في منه شراب ظاهر وأما في منه شجر فجاز لما كان الشجر إنباته على سقيه بالماء جعل الشجر من الماء ومنه تسيمون يقال أسام الماشية وسومها جعلها ترعى وسامت بنفسها فهي سائمة وسوام رعت حيث شاءت وبدأ بالزرع لأن قوت أكثر العالم ثم بالزيتون لما فيه من فائدة الاستصباح بدهنه وهي ضرورية مع منفعة أكله والائتدام به وبدهنه والاطلاء بدهنه ثم بالنخيل لأن ثمرته من أطيب الفواكه وقوت في بعض البلاد ثم بالاعناب لأنها فاكهة محضة ثم قال: ومن كل الثمرات أتى بلفظ من التي للتبعيض لأن كل الثمرات لا يكون إلا في الجنة وإنما أنبت في الأرض بعض من كلها للتذكرة وختم ذلك بقوله تعالى: { يتفكرون } لأن النظر في ذلك يحتاج إلى فضل تأمل واستعمال فكر ألا ترى أن الجنة الواحدة إذا وضعت في الأرض ومر عليها مقدار من الزمان معين لحقها من نداوة الأرض ما تنتفخ به فيشق أعلاها فتصعد منه شجرة إلى الهواء وأسفلها يغوص منه في عمق الأرض شجرة أخرى وهي العروق ثم ينمو الأعلى ويقوى ونخرج الأوراق والأزهار والأكمام والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الطبائع والطعوم والألوان والرواح والأشكال والمنافع وذلك بتقدير قادر مختار وهو الله تعالى وأفرد في قوله: الآية استدلالا بإنبات الماء وهو واحد وإن كثرت أنواع النبات، وقرأ الجمهور: والشمس وما بعده منصوبا وانتصب مسخرات على أنها حال مؤكدة وقرىء: والشمس وما بعده بالرفع على الابتداء والخبر وقرأ: حفص والنجوم مسخرات برفعها على الابتداء والخبر وجمع الآيات عند ذكر العقل لأن الآثار العلوية أظهر دلالة على القدرة الباهرة وأبين شهادة للكبرياء والعظمة ما ذرأ معطوف على الليل والنهار يعني ما خلق فيها من حيوان وشجر وثمر وغير ذلك مختلفا ألوانه من البياض والسواد وغير ذلك وختم هذا بقوله: يذكرون ومعناه الاعتبار والاتعاظ كان علمهم بذلك سابق طرأ عليه النسيان فقيل يذكرون أي يتذكرون وما نسوا من تسخير هذه المكونات في الأرض وأفرد الآية هنا لأن الذي ذكره مفرد في قوله ما ذرأ ووصفه بمفرد وهو قوله مختلفا.
{ وهو الذي سخر البحر } الآية، لما ذكر الاستدلال بما ذرأ في الأرض ذكر ما أمتن به من تسخير البحر ومعنى تسخيره كونه يتمكن الناس من الانتفاع به للركوب في المصالح والغوص في استخراج ما فيه للاصطياد لما فيه والبحر جنس يشمل الملح والعذب وبدأ أولا من منافعه بما هو الأهم وهو الأكل ومنه على حذف مضاف أي لتأكلوا من حيوانه لحما طريا ثم ثنى بما يتزين به وهو الحلية من اللؤلؤ والمرجان ونبه على غاية الحلية وهو اللبس وفيه منافع غير اللبس فاللحم الطري من الملح ولما ذكر تعالى نعمة الأكل منه ونعمة الاستخراج للحلية ذكر نعمة تصرف الفلك فيه مواخر أي شاقة فيه أو ذات صوت لشق الأنفس بحمل الأمتعة والأقوات للتجارة وغيرها وأسند الرؤية إلى المخاطب المفرد فقال : وقرىء: وجعلها جملة معترضة بين التعليلين تعليل الاستخراج وتعليل الابتغاء فلذلك عدل عن جمع المخاطب والظاهر عطف ولتبتغوا على التعليل قبله كما أشرنا إليه والفضل هنا الأرباح بالتجارة والوصول إلى البلاد الشاسعة وفي هذا دليل على جواز ركوب البحر ولعلكم تشكرون على ما منحكم من هذه النعم والسبل الطرق.
قال ابن عطية: قوله: وأنهارا، منصوب بفعل مضمر تقديره وجعل أو خلق أنهارا وإجماعهم على إضمار هذا الفعل دليل على خصوص ألقى ولو كانت ألقى بمعنى خلق لم يحتج إلى هذا الإضمار. " انتهى ".
وأي إجماع في هذا وقد حكى هو على المتأولين أن ألقي بمعنى خلق وجعل.
{ أفمن يخلق كمن لا يخلق } الآية، ذكر تعالى التباين بين من يخلق وهو الباري وبين من لا يخلق وهي الأصنام وجيء بمن في الثاني الاشتمال المعبود غير الله على من يعقل وما لا يعقل أو لاعتقاد الكفار أن لها تأثيرا وأفعالا فعوملت معاملة أولى العلم أو المشاكلة بينه وبين من يخلق.
{ وإن تعدوا نعمة الله } الآية، تقدم الكلام عليه وأخبر تعالى أنه يعلم ما يسرون وضمنه الوعيد لهم والاخبار بعلمه تعالى وفيه التنبيه على نفي هذه الصفة الشريفة عن آلهتهم ولما أظهر تعالى التباين بين الخالق وغيره نص على أن آلهتهم لا تخلق وعلى أنها مخلوقة وأخبر أنهم أموات وأكد ذلك بقوله غير أحياء ثم ثنى عنهم الشعور الذي يكون للبهائم فضلا عن العلم الذي يتصف به العقلاء وعبر بالذين وهو العاقل عومل غيره معاملته لكونها عبدت وأعتقد فيها الألوهية وايان ظرف زمان وعن ابن عباس: ان الله تعالى يبعث الأصنام لها أرواح ومعها شياطينها فيؤمر بكلهم إلى النار وتقدم الكلام في لا جرم في سورة هود ولا يحب المستكبرين عام في الكافرين والمؤمنين.
{ وإذا قيل لهم ماذآ أنزل ربكم } الآية، قيل سبب نزولها أن النضر بن الحرث سافر من مكة إلى الحيرة وكان قد اتخذ كتب التواريخ والأمثال ككليلة ودمنة واخبار اسنفديار ورستم فجاء إلى مكة وكان يقول إنما يحدث محمد بأساطير الأولين وحدثني أجمل من حديثه فنزلت وماذا كلمة استفهام مفعول بأنزل أو ما مبتدأ خبره بمعنى الذي وعائده في أنزل محذوف أي شىء الذي أنزله.
وأجاز الزمخشري أن يكون ماذا مرفوعا بالابتداء قال: يعني أي شىء أنزله ربكم وهذا لا يجوز عند البصريين إلا في ضرورة الشعر والضمير في لهم عائد على كفار قريش وما أنزل ليس مفعولا لقيل على مذهب البصريين لأنه جملة والجملة لا تقع موقع المفعول الذي لم يسم فاعله كما لا تقع موقع الفاعل والمفعول الذي لم يسمع فاعله قيل هو ضمير المصدر المفهوم من قبل تقديره قيل: هو أي القول والجملة بعده تفسير لذلك الضمير لا انها هي المفعول الذي لم يسم فاعله واللام في ليحملوا لام الأمر على معنى الختم عليهم والصغار الموجب لهم وكاملة حال أي لا ينقص منها شىء ومن في من أوزار للتبعيض فالمعنى أنه يحمل من وزر كل من أصل أي بعض وزر من ضل بإضلالهم.
وقال الواحدي: ليست من للتبعيض لأنه يستلزم تخفيف الأوزار عن الاتباع وذلك غير جائز لقوله صلى الله عليه وسلم من غير أن ينقص من أوزارهم شىء لكنها للجنس أي ليحملوا من جنس أوزار الاتباع " انتهى ". ولا تتقدر من التي لبيان الجنس هذا الذي قدره الواحدي وإنما يقدر الأوزار التي هي أوزار الذي يضلونهم فيؤول من حيث المعنى إلى قول الأخفش: وان اختلفا في التقدير.
قال الزمخشري: بغير علم حال من المفعول أي يضلون من لا يعلم أنهم ضلال " انتهى ".
وقال غيره: حال من الفاعل وهو أولى إذ هو المحدث عنه والمسند إليه الإضلال على جهة الفاعلية والمعنى أنهم يقدمون على هذا الاضلال جهلا منهم بما يستحقونه من العذاب الشديد على الإضلال ثم أخبر تعالى عن سوء ما يتحملونه للآخرة وتقدم الكلام على نظير إعراب الإساء ما يزرون.
[16.26-50]
{ فأتى الله } أي أتى أمره وعذابه والبنيان قيل حقيقة قال ابن عباس وغيره: الذين من قبلهم منهم نمرود بن صرحا ليصعد بزعمه إلى السماء وأفرط في علوه وطوله في السماء فرسخين فخر عليهم السقف من فوقهم. قال ابن الأعرابي: العرب تقول خر علينا سقف ووقع علينا حائط إذا كان يملكه وان لم يكن وقع عليه نجاد قوله من فوقهم ليخرج هذا الذي من كلام العرب ممن فوقهم أي عليهم وقع كانوا تحته فهلكوا وأتاهم العذاب.
قال ابن عباس: في قصة النمرود ويخزيهم جميعهم المكاره التي تحل بهم ويقتضي ذلك إدخالهم النار لقوله تعالى:
ربنآ إنك من تدخل النار فقد أخزيته
[آل عمران: 192] أي أهنته كل الإهانة وجمع بين الإهانة بالفعل والإهانة بالقول بالتقريع والتوبيخ في جملة يخزيهم ويقول أين شركائي أضاف تعالى الشركاء إليه والاضافة تكون بأدنى ملابسة والمعنى شركائي في زعمكم أو أضاف على جهة الاستهزاء بهم ومفعولا تزعمون محذوفان التقدير تزعمونهم شركاء الذين تتوفاهم صفة للكافرين فيكون داخلا تحت القول.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون الذين مرتفعا بالابتداء منقطعا مما قبله وخبره في قوله: فالقوا السلم فزيدت الفاء في الخبر وقد يجيء مثل هذا " انتهى ".
هذا لا يجوز إلا على مذهب الأخفش فإنه يجيز زيد فقام أي قام ولا يتوهم ان الفاء هي الداخلة في خبر المبتدأ أداة الشرط فلا يجوز فيما ضمن معناه ظالمي أنفسهم تقدم الكلام عليه في سورة النساء والسلم هنا الاستسلام.
وما كنا نعمل من سوء هو على إضمار القول ويكون ذلك كذبا منهم ولذلك رد عليهم بقوله: جلني أي كنتم تعملون السوء.
{ إن الله عليم بما كنتم تعملون } لما أكذبوهم في دعواهم أخبروا أنه هو العالم بأعمالهم فهو المجازي عليها ثم أمرهم بالدخول واللام في فلبئس لام التوكيد ولا يدخل على الماضي المتصرف ودخلت على الجامد لبعده عن الأفعال وقربه من الأسماء والمخصوص بالذم محذوف تقديره فلبئس مثوى المتكبرين هي، أي جهنم ووصف التكبر دليل على استحقاق صاحبه النار.
{ وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم } الآية، أي أنزل خيرا ودل هذا النصب على أن ماذا أنزل مفعول بأنزله وطابق الجواب السؤال في النصب والظاهر أن قوله: للذين، مندرج تحت القول وهو تفسير للخير الذي أنزل الله في الوحي ان من أحسن في الدنيا بالطاعة فله حسنة في الدنيا ونعيم في الآخرة بدخول الجنة والظاهر أن المخصوص بالمدح هو جنات عدن والكاف في موضع نصب نعتا للمصدر محذوف أي جزاء مثل جزاء الذين أحسنوا نجزي المتقين وطيبين حال من مفعول تتوفاهم والمعنى أنهم صالحوا لأعمال مستعدون للموت والطيب الذي لا خبث فيه، يقولون: سلام عليكم الظاهر أن هذا القول في الآخرة ولذلك جاء بعده أدخلوا الجنة فهو من قول خزنة الجنة بما كنتم تعملون أي بالعمل الصالح.
{ هل ينظرون إلا أن تأتيهم } الآية، ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر طعن الكفار في القرآن بقولهم: أساطير الأولين ثم أتبع ذلك وعيدهم وتهديدهم ثم توعد من وصف القرآن بالخيرية فبين أن أولئك الكفرة لا يرتدعون عن حالهم إلى أن تأتيهم الملائكة بالتهديد ثم توعد من وصف القرآن بالخيرية فبين أن أولئك الكفرة لا يرتدعون عن حالهم إلى أن تأتيهم الملائكة بالتهديد أوامر الله تعالى بعذاب الإستئصال والكاف في موضع نصب أي مثل فعلهم في انتظار الملائكة أوامر الله فعل الكفار الذين تقدموهم.
{ ولكن كانوا أنفسهم يظلمون } بكفرهم وتكذيبهم الذي أوجب لهم العذاب في الدنيا والآخرة وقوله: فأصابهم، معطوف على فعل وما ظلمهم إعتراض وستأتي عقوبات كفرهم.
{ وحاق بهم } أي أحاط بهم جزاء إستهزائهم.
{ وقال الذين أشركوا } تقدم الكلام عليه في آخر سورة الانعام.
{ ولقد بعثنا في كل أمة رسولا } الآية، ذكر الله تعالى بعثه الرسل في الأمم السالفة فلا يستنكر بعثه محمدا صلى الله عليه سلم في هذه الأمة وأن يجوز أن تكون تفسيرية بمعنى أي وأن تكون مصدرية وتقدم مدلول الطاغوت في البقرة.
{ من هدى الله } أي فمنهم من اعتبر فهداه الله، ومنهم من أعرض وكفر ثم أحالهم في معرفة ذلك على المسير في الأرض عاقبة المكذبين لرسلهم بما جاؤوا به عن الله تعالى ثم خاطب نبيه عليه السلام وأعلمه أن من ختم تعالى عليه بالضلالة لا يجدي فيه الحرص على هدايته. وقرىء: يهدي مبنيا للفاعل والظاهر أن في يهدي ضمير يعود على الله ومن مفعول وقرأت فرقة يهدي بضم الياء وكسر الدال وهي ضعيفة " انتهى ".
حكى الفراء أن هدى بمعنى إهتدى لازما وإذ أثبت أن هدى بمعنى إهتدى كما حكاه الفراء لم تكن ضعيفة لأنه أدخل على اللازمة همزة التعدية والمعنى لا يحصل مهتديا من أصله والضمير في لهم عائد على معنى من والضمير في وأقسموا عائد على كفار قريش.
{ جهد أيمانهم } تقدم الكلام عليه في الانعام وانتصب وعدا وحقا على أنهما مصدر أن يؤكد لما دل عليه بلى من تقدير المحذوف الذي هو يبعثه ليبين لهم اللام في ليبين متعلقة بالفعل المقدر بعد بلى أي يبعثهم ليبين لهم كما تقول: الرجل ما ضربت أحدا فتقول بلى زيدا أي ضربت زيدا ويعود الضمير في يبعثهم المقدر وفي لهم على معنى من في قوله: من يموت وهو شامل للمؤمنين والكفار والذين اختلفوا فيه هو الحق وأنهم كانوا كاذبين فيما اعتقدوا من جعل آلهة مع الله تعالى وإنكار النبوات وإنكار البعث وغير ذلك مما أمروا به وبين لهم أنه دين الله فكذبوا به وكذبوا في نسبة أشياء إليه تعالى.
{ إنما قولنا لشيء إذآ أردناه } الآية، لما تقدم إنكارهم البعث وأكدوا ذلك بالحلف بالله الذي أوجدهم ورد عليهم بقوله: بلى وذكر حقيقة وعده بذلك أوضح أنه تعالى متى تعلقت إرادته بوجود شىء أوجده وقد أقروا بأنه تعالى خالق هذا العالم سمائه وأرضه وأن إجاده لذلك لم يتوقف على سبق مادة ولا آلة فكما قدر على الإيجاد إبتداء وجب أن يكون قادرا على الإعادة وتقدم الكلام في قوله: كن في البقرة والظاهر أن اللام في لشىء وفي له هي للتبليغ كقولك قلت لزيد قم.
قال ابن عطية: إذا أردناه تنزل منزلة مراد ولكنه أتى بهذه الألفاظ المستأنفة بحسب أن الموجودات تجيء وتظهر شيئا بعد شىء فكأنه قال: إذا ظهر المراد فيه وعلى هذا الوجه يخرج قوله: فيرى الله عملكم ورسوله وقوله: ليعلم الله الذين آمنوا منكم. ونحو هذا معناه يقع منكم بإرادة الله تعالى في الأزل وعلمه وقوله: أن نقول له كن فيكون تنزل منزل المصدر كأنه قال: قولنا ولكن أن مع الفعل تعطي استئنافا ليس في المصدر في أغلب أمرها وقد يجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن في هذه الآية وكقوله تعالى:
ومن آياته أن تقوم السمآء والأرض بأمره
[الروم: 25] وغير ذلك " إنتهى " قوله.
ولكن أن مع الفعل يعني الفعل المضارع وقوله في أغلب أمرها ليس بجيد بل يدل على المستقبل في جميع أمورها وأما قوله: فقد يجيء إلى آخره فلم يفهم ذلك من دلالة أن وإنما ذلك من نسبة قيام السماء والأرض بأمر الله لأن هذا لا يختص بالمستقبل دون الماضي في حقه تعالى ونظيره أن الله كان على كل شىء قديرا وكان تدل على إقتران الجملة بالزمن الماضي وهو تعالى متصف بهذا الوصف ماضيا وحالا ومستقبلا وتقييد الفعل بالزمن لا يدل على نفيه بغير ذلك الزمن.
{ والذين هاجروا في الله } عام في المهاجرين كائنا ما كانوا فيشمل أولهم وآخرهم.
{ من بعد ما ظلموا } كخباب بن الأرت والمخرجين إلى أرض الحبشة والظاهر انتصاب حسنة على أنه نعت لمصدر محذوف يدل عليه الفعل أي تبوئة حسنة وقيل إنتصاب حسنة على المصدر على غير الصدر لأن معنى لنبونئهم في الدنيا أي لنحسنن إليهم فحسنة بمعنى إحسانا. والضمير في يعلمون عائد على المؤمنين أي لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في إجتهادهم وصبرهم والذين صبروا على تقديرهم الذين أو أعني الذين صبروا على العذاب وعلى مفارقة الوطن لا سيما حرم الله تعالى المحبوب لكل قلب مؤمن فكيف لمن كان مسقط رأسه على بذل الروح في ذات الله تعالى واحتمال الغربة في دار لم ينشأ بها وناس لم يألفهم أجانب في النسب.
{ ومآ أرسلنا من قبلك } الآية، نزلت إلى ما يؤمرون في مشركي مكة أنكروا نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: الله أعظم أن يكون رسوله بشرا فهلا بعث إلينا ملكا وتقدم تفسير هذه الجملة في أواخر سورة يوسف والمعنى يوحى إليهم على ألسنة الملائكة والأجود أن يتعلق قوله بالبينات بمضمر يدل عليه ما قبله كأنه قيل بم أرسلوا قال: أرسلناهم بالبينات والزبر فتكون على كلامين.
قال الزمخشري: يتعلق بما أرسلنا قوله: بالبينات داخلا تحت حكم الاستثناء مع رجالا أي وما أرسلنا إلا رجالا بالبينات كقولك ما ضربت إلا زيدا بالسوط لأن أصله ضربت زيدا بالسوط إنتهى. هذا قاله الحوفي وقال أبو البقاء وفيه ضعف لأن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إذ أتم الكلام على إلا وما يليها إلا أنه قد جاء في الشعر قول الشاعر:
ليتهم عذبوا بالنار جارهم
ولا يعذب إلا الله بالنار
إنتهى وهذا الذي أجازه الحوفي والزمخشري لا يجوز على مذهب جمهور البصريين لأنهم لا يجيزون أن يقع بعد إلا إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابع وما ظن من غير الثلاثة معمولا لما قبل إلا قدر له عامل.
{ وأنزلنا إليك الذكر } هو القرآن وقيل له ذكر لأنه موعظة وتنبيه للغافلين ويحتمل أن يريد لتبين بتفسيرك المجمل وشرحك ما أشكل فيدخل في هذا ما بينته السنة من أمر الشريعة.
{ ولعلهم يتفكرون } أي إرادة أن يصغوا إلى تنبيهاته فينتبهوا ويتأملوا والسيئات نعت لمصدر محذوف أي المكرات السيئات والذين مكروا في قول الأكثرين هم أهل مكة مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم والخسف بلع الأرض المخسوف به وقعودها به إلى أسفل.
وذكر النقاش أنه وقع الخسف في هذه الأمة بهم الأرض كما فعل بقارون وذكر لنا أن إخلاطا من بلاد الروم خسف بها وحين أحس أهلها بذلك فر أكثرهم وأن بعض التجار ممن كان يرد إليها رأى ذلك من بعيد فرجع بتجارته.
{ من حيث لا يشعرون } من الجهة التي لا شعور لهم بمجيء العذاب منها كما فعل بقوم لوط.
{ في تقلبهم } في أسفارهم والأخذ هنا إلا هلاك كقوله تعالى:
فكلا أخذنا بذنبه
[العنكبوت: 40] وعلى تخوف على نقص قاله إبن عباس، وقال ابن بحر: ضد البغتة أي على حدوث حالات يخاف منها كالرياح والزلزال والصواعق ولهذا ختم بقوله تعالى: { فإن ربكم لرؤوف رحيم }. لأن في ذلك مهلة وامتداد وقت فيمكن في التلافي.
{ أولم يروا إلى ما خلق الله من شيء } الآية، بما ذكر تعالى قدرته على تعذيب الماكرين وإهلاكهم بأنواع من الأخذ ذكر تعالى طواعية ما خلق من غيرها وخضوعهم ضد حال الماكرين لينبهم على أنه ينبغي بل يجب عليهم أن يكونوا طائعين منقادين لأمره تعالى.
والإستفهام هنا معناه التوبيخ والجملة من قوله: يتفيأ في موضع الصفة لشىء وما موصولة والعائد محذوف تقديره خلقه ومن شىء تبين لما أنبهم في لفظ ما ويتفيؤ يتفعل من الفيء وهو الرجوع يقال فاء الظل يفيء فيرجع وعاد بعدما نسخه ضياء الشمس وفاء إذا عدي فبالهمزة كقوله تعالى:
مآ أفآء الله على رسوله
[الحشر: 7] أو بالتضعيف نحو فيأ الله الظل فتفيأ أو تفيأ من باب المطاوعة فهو لازم وقد إستعمله أبو تمام متعديا قال:
طلبت ربيع ربيعة الممهي لها
وتفيأت ظلالها ممدودا
ويحتاج ذلك إلى نقله من كلام العرب متعديا وعين الفلك هو المشرق وشماله هو المغرب وخص هذان الإسمان بهذين الجانبين. وقال شيخنا الأستاذ أبو الحسن علي بن محمد بن يوسف الكتامي المعروف بابن الصائغ: أفرد وجمع بالنظر إلى الغايتين لأن الظل الغداة يضمحل حتى لا يبقى منه إلا اليسير فكأنه في جهة واحدة وهو بالعشي على العكس لاستيلائه على جميع الجهات فلحظت الغايتان في الآية هذا من جهة المعنى وفيه من جهة اللفظ المطابقة لأن سجدا جمع فطابقه جمع الشمائل لاتصاله به فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى ولحظهما معا وتلك الغاية في الإعجاز " انتهى ".
والظاهر حمل الظلال على حقيقتها وعلى ذلك وقع كلام أكثر المفسرين وقالوا: إذا طلعت الشمس وأتت متوجهة إلى القبلة كان الظل قدامك فإذا ارتفعت كان على يمينك فإذا كان بعد ذلك كان خلفك فإذا أردت الغروب كان عن يسارك.
قال الزمخشري: سجدا حال من الظلال.
{ وهم داخرون } حال من الضمير في ظلاله وما أجازه الزمخشري من أن وهم داخرون حال من الضمير في ظلاله فعلى مذهب جمهور البصريين لا يجوز وهي مسألة جاءني غلام هند ضاحكة فلا يجوز جاءني ضاحكة غلام هند ولما كان سجود الظلال في غاية الظهور بدىء به ثم إنتقل إلى سجود ما في السماوات والأرض.
قال الزمخشري: فإن قلت فهلا جيء بمن دون ما تغليبا للعقلاء من الدواب على غيرها. قلت لأنه لو جيء بمن لم يكن فيه دليل على التغليب فكان متناولا للعقلاء. فجيء بما هو صالح للعقلاء وغيرهم إرادة العموم " إنتهى " ظاهرة تسليم أن من قد يشمل العقلاء وغيرهم على جهة التغليب وظاهر الجواب تخصيص من العقلاء وأن الصالح للعقلاء وغيرهم ما دون من وهذا ليس بجواب لأنه أورد السؤال على التسليم ثم ذكر الجواب على غير التسليم فصار المعنى أن من يغلب بها والجواب لا يغلب بها وهذا في الحقيقة ليس بجواب ومن دابة يجوز أن يكون بيانا لما في الظرفين ويكون في السماوات خلق يدبون ويجوز أن يكون بيانا لما في الأرض ولهذا قال ابن عباس: يريد كل ما دب على الأرض وعطفوا الملائكة على ما في السماوات وما في الأرض وهم مندرجون في عموم ما تشريفا لهم وتكريما والظاهر أن الضمير في قوله: يخافون، عائد على المنسوب إليهم السجود في ولله يسجد والفوقية المكانية مستحيلة بالنسبة إليه تعالى فإن علقته بيخافون كان على حذف مضاف أي يخافون عذابه كائنا من فوقهم لأن العذاب إنما ينزل من فوق وإن علقته بربهم كان حالا منه أي يخافون ربهم قاهرا غالبا كقوله تعالى:
وهو القاهر فوق عباده
[الأنعام: 18] والجملة من يخافون يجوز أن تكون حالا من الضمير في لا يستكبرون ويفعلون ما يؤمرون واما المؤمنون بحسب الشرع والظاهر واما غيرهم من الحيوان فبالتسخير والقدر الذي يسوقهم إلى ما نفذ من أمر الله.
[16.51-63]
{ وقال الله لا تتخذوا إلهين اثنين } الآية، ولما كان الاسم الموضوع للأفراد والتثنية قد يتجوز فيه فيراد به الجنس نحو نعم الرجل زيد ونعم الرجلان الزيدان.
وقال الشاعر:
فإن النار بالعودين تذكى
وإن الحرب أولها الكلام.
أكد الموضوع لهما بالوصف فقال إلهين اثنين ولما نهى عن اتخاذ الإلهين واستلزم النهي عن اتخاذ آلهة أخبر تعالى أنه إله واحد كما قال تعالى:
وإلهكم إله واحد
[البقرة: 163] بأداة الحصر وبالتأكيد بالوحدة ثم أمرهم بأن يرهبوه والتفت من الغيبة إلى الحضور لأنه أبلغ في الرهبة وانتصب إياي بفعل محذوف مقدر التأخير عنه يدل عليه فارهبون وتقديره وإياي ارهبوا وتقدم نظيره في البقرة.
وقال ابن عطية: وإياي منصوب بفعل مضمر تقديره فارهبوا إياي فارهبون " انتهى ".
هذا ذهول عن القاعدة النحوية أنه إذا كان المفعول ضميرا منفصلا والفعل متعد إلى واحد وهو الضمير وجب تأخير الفعل كقوله تعالى:
إياك نعبد
[الفاتحة: 5]. ولا يجوز أن يتقدم إلا في ضرورة نحو قوله: إليك حتى بلغت إياكا ثم التفت من التكلم إلى ضمير الغيبة فأخبر تعالى أن له ما في السماوات والأرض.
{ وله الدين } أي الطاعة والملك.
{ واصبا } أي دائما يقال وصب الشىء دام قال أبو الأسود الدؤلي:
لا أبتغي الحمد القليل بقاؤه
يوما بذم الدهر أجمع واصبا
قال تعالى: { أفغير الله } استفهام تضمن التوبيخ والتعجب أي بعدما عرفتم وحدانيته وان ما سواه له ومحتاج إليه كيف تتقون وتخافون غيره ولا نفع ولا ضرر يقدر عليه وما موصولة وصلتها بكم والعامل فعل الاستقرار أي وما استقر بكم ومن نعمة تفسير لما والخبر فمن الله على إضمار مبتدأ محذوف تقديره فهي من الله ودخلت الفاء في جملة الخبر لتضمن الموصول معنى اسم الشرط ولما ذكر تعالى أن جميع النعم منه ذكر حالة افتقار العبد إليه وحده حيث لا يدعو ولا يتضرع لسواه وهي حالة الضر والضر عام في جميع ما يتضرر به وإليه متعلق يتجأرون والجؤار رفع الصوت بالدعاء.
قال الأعشى يصف راهبا: يداوم من صلوات المليك طورا سجودا وطورا جؤارا.
وإذا الثانية للفجاءة وفي ذلك دليل على أن إذا الشرطية ليس العامل فيها الجواب لأنه لا يعمل ما بعد إذا الفجائة فيما قبلها ومنكم خطاب للذين خوطبوا بقوله: وما بكم من نعمة إذ بكم خطاب عام وفريق مبتدأ ومنكم في موضع الصفة وخبره يشركون وبربهم متعلق به والفريق هنا هم المشركون المعتقدون حالة الرجاء أن آلهتهم تنفع وتضر وتشقي وتسعد اللام في ليكفروا ان كانت للتعليل كان المعنى أن إشراكهم بالله شبيه كفرهم به أي جحودهم أو كفران نعمته وبما آتيناهم من النعم أو من كشف الضر أو من القرآن المنزل إليهم وإن كانت للضرورة فالمعنى صار أمرهم ليكفروا وهم لم يقصدوا بأفعالهم تلك أن يكفروا وابل آل أمر ذلك الجؤار والرغبة إلى الكفر بما أنعم عليهم أو إلى الكفر الذي هو جحوده والشرك به وان كانت للأمر فمعناه التهديد والوعيد.
{ فسوف تعلمون } مبالغة في التهديد.
{ ويجعلون لما لا يعلمون } الآية، الضمير في يجعلون عائد على الكفار وفي لا يعلمون عائد على ما التي هي الأصنام إذ هي جماد لا علم لها ولا شعور والنصيب هو ما جعلوه لها من الحرث والانعام قبح الله تعالى فعلهم ذلك أن يجعلوا مما رزقهم نصيبا للأصنام ثم أقسم تعالى على أنه يسألهم عن افترائهم واختلافهم في إشراكهم مع الله آلهة وانها أهل للتقرب إليها بجعل النصيب إليها ولما ذكر تعالى أنه يسألهم عن افترائهم ذكر أنهم مع اتخاذهم آلهة نسبوا إلى الله التوالد وهو مستحيل ونسبوا ذلك إليه فيما لم يرتضوه لأنفسهم وتربد وجوههم من نسبته إليهم ويكرهونه أشد الكراهة وكانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله.
{ سبحانه } تنزيه له سبحانه وتعالى عن نسبة الولد إليه.
{ ولهم ما يشتهون } وهم الذكور وهي جملة من مبتدأ وخبر. وأجاز الزمخشري وتبع فيه الفراء والحوفي أن يكون ولهم ما يشتهون معطوفا على قوله لله بنات وذهلوا عن قاعدة في النحو وهي ان الفعل إذا رفع ضميرا وجاء بعده ضمير منصوب لا يجوز أن ينصبه الفعل إلا إذا كان من باب الظن أو فقد وعدم فلو قلت زيد ظنه قائما تريد ظن نفسه جاز ولو قلت زيد ضربه فجعل في ضرب ضمير رفع عائدا على زيد وقد تعدى للضمير المنصوب لم يجر والمجرور يجري مجرى المنصوب فلو قلت زيد غضب عليه لم يجز كما لم يجز زيد ضربه فلذلك امتنع أن يكون قوله لهم متعلقا بيجعلون.
{ وإذا بشر أحدهم } المشهور أن البشارة أول خبر يسر وهنا قد يراد به مطلق الأخبار أو تغير البشرة وهو القدر المشترك بينهما.
{ بالأنثى } أي بولادة الأنثى.
{ ظل وجهه } بمعنى صار وأصل ظل اتصاف اسمها بالخبر الذي يجيء بعدها.
{ مسودا } خبر ظل واسوداد الوجه كناية عن العبوس والغم والتكره والنفرة التي لحقته.
{ وهو كظيم } أي ممتلىء القلب حزنا وغما وكظيم يحتمل أن يكون للمبالغة من كاظم ويحتمل أن يكون بمعنى مفعول كما قال تعالى
وهو مكظوم
[القلم: 48] ويقال: سقاء مكظوم أي مملوء مسدود الفم.
{ يتوارى } يختفي من القوم متعلق به من سوء من للتعليل أي لسوء ما بشر به وقوله: به ذكره حملا على لفظ ما وان كان أريد به الأنثى ولذلك ذكره في قوله:
{ أيمسكه على هون } أي على هوان وأيمسكه قبله حال محذوفة التقدير مفكرا أيمسكه أم يدسه معطوف فكرت أزيد في الدار أم عمرو والظاهر من قوله الاساء ما يحكمون رجوعه إلى قوله ويجعلون لله بنات الآية، أي ساء ما يحكمون في نسبتهم إلى الله ما هو مستكره عندهم نافر عنهن طبعهم لا يحتملون نسبتهن إليهم وما في قوله ما يحكمون مصدرية تقديره ساء حكمهم.
{ مثل السوء } أي صفة السوء من الكفر بالله وإشراكهم معه أصناما ونسبة الولد إليه وإنكارهم البعث.
{ ولله المثل الأعلى } أي الصفة العليا من تنزيهه تعالى عن الولد والصاحبة وجميع ما تنسب الكفرة إليه مما لا يليق به تعالى كالتشبيه والانتقال وظهوره تعالى في صورة وناسب الختم بالعزيز وهو الذي لا يوجد نظيره الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها.
{ ولو يؤاخذ الله الناس } لما حكى تعالى عن الكفار عظيم ما ارتكبوه من الكفر ونسبة التوالد إليه بين تعالى أنه يمهلهم ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهار الفضلة ورحمته ويؤاخذ مصارع آخذ والظاهر أنه بمعنى المجرد الذي هو أخذ والضمير في عليها عائد على غير مذكور ودل على أنه الأرض قوله من دابة لأن الدبيب من الناس لا يكون إلا في الأرض والظاهر عموم من دابة فيهلك الصالح بالطالح فكان يهلك جميع ما يدب على الأرض حتى الجعلان في جحرها.
{ ولكن يؤخرهم } تقدم نظيره في الأعراف وما في ما يكرهون لمن يعقل وأريد بها النوع كقوله تعالى:
فانكحوا ما طاب لكم
[النساء: 3] ومعنى ويجعلون يصفونه بذلك ويحكمون به وان لهم الحسنى بدل من الكذب أو على إسقاط الحرف أي بأن لهم وتقدم الكلام في لا جرم مفرطون قال الفراء: تقول العرب: أفرطت منهم ناسا أي خلفهم ونسيتهم وقيل يخلفون متركون في النار ثم أخبر تعالى بإرسال الرسل إلى أمم من قبل أمتك مقسما على ذلك ومؤكدا بالقسم وبقد التي تقتضي تحقيق الأمر على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كما كان يناله بسبب جهالات قومه ونسبتهم إلى الله ما لا يجوز.
{ فزين لهم الشيطان أعمالهم } من تماديهم على الكفر.
{ فهو وليهم اليوم } حكاية حال ماضية أي لا ناصر لهم في حياتهم إلا هو أو عبر باليوم عن وقت الإرسال ومحاورة الرسل لهم أو حكاية حال آتية وهو يوم القيامة وأل في اليوم للعهد وهو اليوم المشهور فهو وليهم في ذلك اليوم أي قرينهم وبئس القرين والظاهر عود الضمير في وليهم إلى أمم قيل ويجوز أن يرجع الضمير إلى مشركي قريش وأنه زين للكفار قبلهم أعمالهم فهو ولي هؤلاء لأنهم منهم ويجوز أن يكون على حذف المضاف أي فهو وليهم أي ولي أمثالهم اليوم " انتهى ". وهذا فيه بعد لاختلاف الضمائر من غير ضرورة تدعو إلى ذلك ولا إلى حذف المضاف بل الضمير في الظاهر عائد إلى أمم واللام في لتبين لام التعليل والكتاب القرآن والذين اختلفوا فيه من الشرك والتوحيد والجبر والقدر وإثبات المعاد ونفيه وغير ذلك مما يعتقدون من الاحكام كتحريم البحيرة وتحليل الميتة والدم وغير ذلك من الأحكام.
[16.64-73]
{ وهدى ورحمة } في موضع نصب على أنهما مفعول من أجله وانتصبا لاتحاد الفاعل في الفعل وفيهما لأن المنزل هو الله تعالى وهو الهادي والراحم ودخلت اللام في لتبين لاختلاف الفاعل لأن المنزل هو الله تعالى والتبيين مسند للمخاطب وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الزمخشري: معطوفان على محل لتبين " انتهى ".
ليس بصحيح لأن محله ليس نصبا فيعطف منصوب عليه ألا ترى أنه لو نصبه لم يجز لاختلاف الفاعل.
{ والله أنزل من السمآء مآء } الآية، لما ذكر تعالى إنزال الكتاب المبين كان القرآن حياة الأرواح وشفاء لما في الصدور من علل العقائد ولذلك ختم بقوله: يؤمنون أي يصدقون والتصديق محله القلب ذكر إنزال المطر الذي هو حياة الأجسام وسبب لبقائها ثم أشار بإحياء الأرض بعد موتها إلى إحياء القلوب بالقرآن كما قال تعالى:
أو من كان ميتا فأحيينه
[الأنعام: 122] فكما تصير الأرض خضرة بالنبات نضرة بعد همودها كذلك القلب يحيا بالقرآن بعد أن كان ميتا بالجهل ولذلك ختم بقوله: يسمعون، أي هذا التشبيه المشار إليه والمعنى سماع أنصاف وتدبر ولملاحظة هذا المعنى والله أعلم لم يختم بقوله: يبصرون، وان كان إنزال المطر مما يبصر ويشاهد.
{ وإن لكم في الأنعام لعبرة } الآية، لما ذكر تعالى إحياء الأرض بعد موتها ذكر ما ينشأ عن المطر وهو حياة الانعام التي هي مألوف العرب بما تتناوله من النبات الناشىء عن المطر ونبه على العبرة العظيمة وهو خروج اللبن من بين فرث ودم والفرث كثيف ما يبقى من المأكول في الكرش أو الأمعاء وذكر في قوله: مما في بطونه ولا ضعف في ذلك من هذه الجهة لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين وأعاد الضمير مذكرا مراعاة للجنس لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده عليه مذكرا كقولهم هو أحسن الفتيان وأنبله لأنه يصح هو أحسن فتى وإن كان هذا لا ينقاس عند سيبويه إنما يقتصر فيه على ما قالته العرب.
قال الزمخشري: ذكر سيبويه الانعام في باب ما لا ينصرف من الأسماء المفردة على أفعال كقولهم: ثوب أكياش ولذلك رجع الضمير إليه مفردا " انتهى ".
قال سيبويه: وأما أفعال فقد يقع للواحد فقول سبيويه فقد يقع للواحد دليل على أنه ليس ذلك بالوضع وقول الزمخشري أنه ذكره في الأسماء المفردة على أفعال تحريف في اللفظ وفهم عن سيبويه ما لم يرده ويدل على ما قلناه أن سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة نص على أن أفعالا ليس من أبنيتها.
قال سيبويه في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام أفعيل ولا أفعول ولا أفعيل ولا أفعال إلا أن يكسر عليه أسماء للجميع " انتهى ".
فهذا نص منه على أن أفعالا لا يكون في الأبنية المفردة ولما ذكر تعالى ما من به من بعض منافع الحيوان ذكر ما من من بعض منافع النبات.
{ ومن ثمرات } متعلق بتتخذون ومنه بدل من قوله: من ثمرات لأنه جمع يقع مكانه المفرد كأنه قيل ومن ثمر النخيل كما ذكرنا في إفراد الضمير في قوله: مما في بطونه لوقوع لنعم مكان الانعام والسكر في اللغة الخمر.
قال الشاعر:
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم
إذا جرى منهم المراء والسكر
وان لكم في الانعام لعبرة ناسب الختم بقوله: يعقلون لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول كما قال تعالى:
إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب
[الزمر: 21] وانظر إلى الاخبار عن نعمة اللبن ونعمة السكر والرزق الحسن لما كان اللبن لا يحتاج إلى معالجة من الناس أخبر عن نفسه بقوله: نسقيكم ولما كان السكر والرزق الحسن يحتاج إلى معالجة قال: تتخذون، فأخبر عنهم باتخاذهم منه السكر والرزق الحسن ولأمر ما عجزت العرب العرباء عن معارضته ولما ذكر تعالى المنة باللبن المشروب وغيره أتم النعم بذكر العسل ولما كانت المشروبات من اللبن وغيره هو الغالب في الناس أكثر من العسل قدم اللبن وغيره عليه وقدم اللبن على ما بعده لأنه المحتاج إليه كثيرا وهو الدليل على الفطرة ولذلك اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسرى به وعرض عليه اللبن والخمر والعسل وجاء ترتيبها في الجنة لهذه الآية ففي إخراج اللبن من النعم والسكر والرزق الحسن من ثمرات الخيل والأعناب والعسل من النحل دلائل باهرة على الألوهية والقدرة والاختبار والإيحاء هنا الإلهام والإلقاء في روعها وتعليمها على وجه أعلم بكنهه لا سبيل إلى الوقوف عليه والنحل جنس واحد نحلة ويؤنث في لغة الحجاز ولذلك قال: ان اتخذي، وان تفسيرية لأنه تقدم معنى القول وهو أوحى أو مصدرية أي باتخاذ ومن للتبعيض لأنها لا تبني في كل جبر وكل شجرة وكل ما يغرس ولا في كل مكان والظاهر أن البيوت هنا عبارة عن الكوى التي تكون في الجبال وفي متجوف الأشجار وأما مما يعرش ابن آدم فالخلايا التي يصنعها للنحل ابن آدم والكوى التي تكون في الحيطان ولما كان النحل نوعين منها ما مقره في الجبال والغياض ولا يتعهده أحد ومنها ما يكون في بيوت الناس ويتعهده في الخلايا ونحوها يشمل الأمر باتخاذ البيوت نوعين وظاهره العطف بالفاء في فاسلكي انه يعتقب الأكل أي فإذا أكلت فاسلكي سبل ربك أي طرق ربك إلى بيوتك راجعة والسبل إذ ذاك مسالكها في الطيران وربما أجدب مكانها فانتجعت المكان البعيد ثم عادت إلى مكانها الأول وأضاف السبل إلى رب النحل من حيث أنه سبحانه وتعالى هو خالقها ومالكها والناظر في تهيئة مصالحها ومعاشها.
{ ذللا } أي غير متوعرة عليها سبيل تسلكه فعلى هذا ذللا حال من سبل ربك قوله تعالى:
هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا
[الملك: 15] أو حال من الضمير في فاسلكي متذللة.
{ يخرج من بطونها شراب } وهو العسل وسماه شرابا لأنه مما يشرب وقوله: من بطونها لا يدل على تعيين المكان الذي يخرج منه أمن الفم أو من المخرج.
{ مختلف ألوانه } بالخمرة والبياض والسمرة ونكر شفاء إما للتعظيم فيكون المعنى فيه شفاء أي شفاء واما لدلالته على مطلق الشفاء أي فيه بعض شفاء للناس ليس على عمومه لأن بعض الأمراض لا يصلح فيها العسل ولما كان أمر النحل عجيبا في بنائها تل كالبيوت المسدسة وفي أكلها من أنواع الأزهار والأوراق الحامض والمر والضار وفي طواعيتها لأميرها ولمن يملكها في نقلها معه وكان النظر في ذلك يحتاج إلى تأمل وزيادة تدبر ختم بقوله تعالى: { إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون }.
{ والله خلقكم ثم يتوفاكم } نبه تعالى على قدرته التامة في إنشائنا من العدم وإماتتنا وتنقلنا في حال الحياة من حالة الجهل إلى حالة العلم وذلك كله دليل على القدرة التامة والعلم الواسع ولذلك ختم تعالى بقوله: { عليم قدير }. وأرذل العمر آخره الذي تفسد فيه الحواس ويختل النطق والفكر وخص بالرذيلة لأنها حالة لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد واللام في لكي لتعليل الرد إلى أرذل العمر وهي حرف جر وكي هنا ناصبة بنفسها بمعنى أن ينسبك منها مع ما بعدها مصدر فالتقدير لا يبقى علمه شيئا بعد أن كان علمه ولما ذكر تعالى خلقنا ثم أماتتنا وتفاوتنا في الرزق وان رزقنا أفضل من رزق المماليك وهم بشر مثلنا والتفاضل بالرزق يكون بالكثرة والقلة ثم نفى تعالى أن يكون من فضل في الرزق رادا رزقه على مملوكه إذ ذاك الرزق الذي يطعمه مملوكه هو رزق الله والكل مرزوقون لله تعالى بالرزق الذي قدره للمالك والمملوك ولذلك قال تعالى:
{ فهم فيه سوآء } أي الملاك والمملوكون في الرزق سواء ولذلك قال بعض الأدباء:
ولا تقولن لي فضل على أحد
الفضل لله ما للناس أفضال
ثم استفهم عن جحودهم نعمه استفهام إنكار وأتى بالنعمة الشاملة للرزق وغيره من النعم التي لا تحصى أي أن من يفضل عليكم بالنشأة أولا ثم بما فيه قوام حياتكم جدير بأن يشكر نعمه ولا يكفر ولما ذكر تعالى امتنانه بالإيجاد ثم بالرزق المفضل فيه ذكر امتنانه بما يقوم بمصالح الإنسان مما يأنس به ويستنصر به ويخدمه واحتمل من أنفسكم أن يكون المراد من جنسكم ونوعكم واحتمل أن يكون ذلك باعتبار خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم صلى الله عليه وسلم فنسب ذلك إلى بني آدم وكلا الاحتمالين مجاز، والظاهر عطف حفدة على بنين كون الجميع من الأزواج وأنهم غير البنين.
فقال الحسن: الحفدة هم بنو الابن والحفدة والأعوان والخدم ومن يسارع في الطاعة يقال حفد يحفد حفدا وحفودا وحفدانا ومنه إليك نسعى ونحفد أي نسرع في الطاعة وقال الشاعر:
حفد الولائد حولهن وأسلمت
بأكفهن أزمة الاجمال
وقال الأزهري الحفدة أولاد الأولاد ولما ذكر تعالى ما امتن به من جعل الأزواج وما ينتفع به من جهتهن ذكر تعالى منته بالرزق والطيبات عام في النبات والثمار والحبوب والأشربة.
{ ويعبدون } استئناف اخبار عن حالهم في عبادة الأصنام وفي ذلك تبيين لقوله تعالى: { أفبالباطل يؤمنون } نعى عليهم فساد نظرهم في عبادة ما لا يمكن أن يقع منه ما يسع عابده في تحصيله منه وهو الرزق ولا هو في استطاعته ففي أولا أن يكون شىء من الرزق في ملكهم ونفى ثانيا قدرتها على أن تحاول ذلك وما لا يملك عام في جميع من عبد من دون الله من ملك أو آدمي أو غير ذلك وأجازوا في شيئا انتصابه بقوله: رزقا.
قال ابن عطية: والمصدر يعمل مضافا باتفاق لأنه في تقدير الانفصال ولا يعمل إذا دخله الألف واللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعد عن الفعلية وتقدير الانفصال في الاضافة حسن عمله وقد جاء عاملا مع الألف واللام في قوله: ضعيف النكاية اعداءه البيت وقوله:
لحقت فلم أنكل عن الضرب مسمعا
انتهى أما قوله يعمل مضافا باتفاق ان عنى من البصريين فصحيح وان عنى من النحويين فغير صحيح لأن بعض النحويين ذهب إلى أنه وان أضيف لا يعمل وان نصب ما بعده أو رفعة إنما هو على إضمار الفعل المدلول عليه بالمصدر وأما قوله: لأنه في تقدير الانفصال فليس كذلك لأنه لو كان في تقدير الانفصال لكانت الاضافة غير محضة وقد قال بذلك أبو القاسم ابن برهان وأبو الحسين ابن الطراوة ومذهبهما فاسد لنعت هذا المصدر المضاف وتوكيده بالمعرفة.
وأما قوله: ولا يعمل إلى آخره فقد ناقض في قوله آخرا وقد جاء عاملا مع الألف وأما كونه لا يعمل مع الألف واللام فهو مذهب منقول عن الكوفيين ومذهب سيبويه جواز اعماله.
قال سيبويه: وتقول عجبت الضرب زيدا كما تقول عجبت من الضارب زيدا تكون الألف واللام بمنزلة التنوين والظاهر عود الضمير في يستطيعون على ما على معناها لأنه يراد بها آلهتهم بعد ما أعاد على اللفظ في قوله: لا يملك فأفرد وجاز أن يكون داخلا في صلة ما وجاز أن لا يكون داخلا بل اخبار عنهم بانتفاء الاستطاعة أصل لأنهم أموات وأما قول الزمخشري أنه يراد بالجمع بين نفي الملك والاستطاعة التوكيد فليس كما ذكر لأن نفي الملك مغاير لنفي الاستطاعة.
[16.74-87]
{ فلا تضربوا لله الأمثال } قال ابن عباس لا تشبهوه بخلقه.
{ إن الله يعلم } أثبت العلم لنفسه والمعنى أنه يعلم ما تفعلون من عبادة غيره والإشراك به وعبر عن الجزاء بالعلم.
{ وأنتم لا تعلمون } كنه ما أقدمتم عليه ولا وبال عاقبته.
{ ضرب الله مثلا عبدا مملوكا } الآية، مناسبة ضرب هذا المثل أنه لما بين تعالى ضلالهم في إشراكهم بالله وغيره وهو لا يجلب نفعا ولا ضرا لا لنفسه ولا لعابده ضرب لهم مثلا في قصة عبد في ملك غيره عاجز عن التصرف وحر غني متصرف فيما آتاه الله تعالى فإذا كان هذان لا يستويان عندكم مع كونهما من جنس واحد ومشتركين في الانسانية فكيف تشركون بالله تعالى وتسوون به من هو مخلوق له مقهور بقدرته من آدمي وغيره مع تباين الأوصاف وان واجب الوجود لا يمكن أن يشبهه شىء من خلقه ولا يمكن لعاقل أن يشبه به غيره.
{ وضرب الله مثلا رجلين } أي قصة رجلين وهذا مثل ثان ضربه تعالى إلى نفسه ولما يفيض على عباده ويشملهم من آثار رحمته وألطافه والنعمة الدينية والدنيوية والأصنام التي هي أموات لا تضر ولا تنفع وإلا بكم الذي ولو أخرس فلا يفهم ولا يفهم.
{ وهو كل على مولاه } أي ثقيل وعيال على من يلي أمره ويعوله.
{ أينما يوجهه } حيثما يرسله ويصرفه في مطلب حاجة أو كفاية مهم لم ينفع ولم يأت بنجح.
{ هل يستوي هو } ومن هو سليم الحواس نفاع ذو كفاية مع رشد وديانة فهو يأمر الناس بالعدل.
{ وهو } في نفسه.
{ على صراط مستقيم } على سيرة صالحة ودين قويم ذكر تعالى أن له غيب السماوات والأرض وهو ما غاب عن العباد وخفي فيها عنهم عامة والظاهر اتصاله بقوله: { إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون }. أخبر باستئثاره بعلم غيب السماوات والأرض ثم بكمال قدرته على الإتيان بالساعة التي ينكرونها في لمحة البصر أو أقرب والمعنى بهذا الاخبار ان الآلهة التي يعبدونها منتف عنها هذان الوصفان اللذان لاله وهما العلم المحيط بالمغيبات والقدرة البالغة التامة ومن ذكر أن قوله: ومن يأمر بالعدل هو الله ذكر ارتباط هذه الجملة بما قبلها بأن من يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم هو الكامل في العلم والقدرة فبين ذلك بهذه الجملة ولما ذكر تعالى أمر الساعة وأنها كائنة لا محالة وكان في ذلك دلالة على النشأة الآخرة وتقدم وصفها بانتفاء العلم ذكر النشأة الأولى وفي إخراجهم من بطون أمهاتهم غير عالمين شيئا تنبيها على وقوع النشأة الآخرة ثم ذكر امتنانه عليهم بجعل الحواس التي هي سبب لإدراك الأشياء والعلم.
قال الزمخشري: والأفئدة من جموع القلة التي جرت مجرى جموع الكثرة إذا لم يرد في السماع غيرها كما قالوا: شسوع في جمع شسع لا غير فجرت ذلك المجرى " انتهى ".
ودعوى الزمخشري أنه لم يجىء في جمع شسع إلا شسوع لا غير فليس بصحيح بل جاء فيه جمع القلة قالو: شساع ولما ذكره ابن الخطيب هنا ليس بشىء ولما كانت النشأة الأولى وجعل ما يعلمون به لهم من أعظم النعم عليهم قال: لعلكم تشكرون، وتقدم الكلام في أمهات في النساء ولا تعلمون جملة حالية أي غير عالمين ولما ذكر تعالى مدارك العلم الثلاثة السمع والبصر والعقل والأول مدرك المحسوس.
والثاني: مدرك المعقول اكتفى من ذكر مدرك المحسوس بذكر النظر فإنه أغرب لما يشاهد به من عظيم المخلوقات على بعدها التفاوت كمشاهدته للنيرات في الأفلاك وجعل هنا موضع الاعتبار والتعجب الحيوان الطائر فإن طيرانه في الهواء في ثقل جسمه مما يتعجب منه ويعتبر به وتضمنت الآية ذكر مدرك العقل في كونه لا يسقط إذ ليس تحته ما يدعمه ولا فوقه ما يتعلق به فيعلم بالعقل أنه له ممسك قادر على إمساكه وهو الله فانتظم في الآية ذكر مدرك الحس ومدرك العقل ومعنى مسخرات مذللات وبني للمفعول دلالة على أنه له مسخرا وهو الله تعالى والجو مسافة ما بين السماء والأرض لآيات جمع ولم يفرد لما في ذلك من الآيات خفة الطائر التي جعلها الله فيه لأن يرتفع بها وثقله الذي جعله الله تعالى فيه لأن ينزل والفضاء الذي بين السماء والأرض والامساك الذي لله او جمع باعتبار ما في هذه الآية والتي قبلها وقال لقوم يؤمنون فإنهم هم الذين ينتفعون بالاعتبار ولتضمن الآية أن المسخر والممسك لها هو الله تعالى فهو إخبار منه تعالى ما يصدق به إلا المؤمن.
{ والله جعل لكم من بيوتكم } الآية، والسكن فعل بمعنى مفعول كالقبض وأنشد الفراء.
جاء الشتاء ولما اتخذ سكنا
يا ويح نفسي من حفر القراميص
وليس السكن بمصدر كما ذهب إليه ابن عطية والظاهر أنه يندرج في البيوت التي من جلود الأنعام بيوت الشعر وبيوت الصوف والوبر.
{ يوم ظعنكم } يوم ترحلون خف عليكم حملها ونقلها ويوم تنزلون وتقيمون في مكان لم يثقل عليكم ضربها والظاهر أن أثاثا مفعول والتقدير جعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثا.
{ مما خلق ظلالا } لما كانت بلاد العرب الغالب عليها الحر امتن عليهم بذكر ما يكنهم منه كالظلال فيما له ظل والأكنان من الجبال الغيران والكهوف والبيوت المنحوتة منها والسربال ما ليس على البدن من قميص وغيره وثم محذوف تقديره الحر والبرد لأن ما وفي الحر جدير أن يقي البرد.
و { سرابيل تقيكم } كناية عن الدروع والمغفر غير ذلك.
{ فإن تولوا } يحتمل أن يكون ماضيا أي فإن أعرضوا عن الإسلام ويحتمل أن يكون مضارعا أي فإن تتولوا وحذفت الياء ويكون جاريا على الخطاب السابق والماضي على الإلتفات والفاء ما بعدها جواب الشرط صورة والجواب حقيقة محذوف أي فأنت معذور إذ أديت ما وجب عليك فأقيم سبب العذر وهو البلاغ مقام المسبب لدلالته عليه.
{ ويوم نبعث من كل أمة } الآية، لما ذكر إنكارهم لنعمة الله ذكر حال يوم القيامة حيث لا ينفع فيه الإنكار على سبيل الوعيد لهم بذلك اليوم وانتصب يوم بإضمار ذكر على أنه مفعول به ومتعلق الاذن محذوف فقيل في الرجوع الى دار الدنيا أو في الكلام والاعتذار.
{ ولا هم يستعتبون } أي لا يزول عنهم العتب والظاهر أن قوله: شركاؤهم عام في كل من اتخذوه شريكا لله تعالى من صنم وغيره والظاهر أن القول منسوب إليهم حقيقة وقيل منسوب إلى جوارحهم لأنهم لما أنكروا الإشراك بقولهم:
والله ربنا ما كنا مشركين
[الأنعام: 23]، أصمت الله ألسنتهم وأنطق جوارحهم ومعنى ندعو نعبد، قالوا: ذلك رجاء أن يشركوا معهم في العذاب إذ يحصل التأسي بهم والضمير في فألقوا عائد على الذين أشركوا وإليهم عائد على الشركاء.
{ إنكم لكاذبون } خطاب العابدين للمعبودين واجهوا من كانوا يعبدونهم بأنهم كاذبون والسلم الاستسلام والانقياد لحكم الله تعالى بعد الاباء والاستكبار في الدنيا.
{ وضل عنهم } أي بطل عنهم.
{ ما كانوا يفترون } من أن لله تعالى شركاء والذين مبتدأ وزدناهم الخبر صدر فهم شيئان الكفر والصد عن سبيل الله فعوقبوا بعذابين عذاب على الصد فوق العذاب الذي لهم على الكفر وفي كل أمة يبعث فيها منها حذف في السابق من أنفسهم وأثبته هنا وحذف هناك في وأثبته هنا والمعنى في كليهما أنه يبعث أنبياء الأمم فيهم منهم والخطاب في بك لرسول الله صلى الله عليه وسلم والإشارة بهؤلاء إلى أمته ونزلنا استئناف اخبار وليس داخلا مع ما قبله لاختلاف الزمانين لما ذكر ما شرفه الله تعالى به من الشهادة على أمته ذكر ما أنزل عليه مما فيه بيان كل شىء من أمور الدين ليزيح بذلك علتهم فيما كلفوا فلا حجة لهم ولا معذرة والظاهر أن تبيانا مصدر جاء على تفعال وإن كان باب المصادر أن يجيء على تفعال بالفتح كالترداد والتطواف ونظير تبيان في كسر تائه تلقاء ونصبو تبيانا على الحال ويجوز أن يكون مفعولا من أجله.
قال الزمخشري: فإن قلت كيف كان القرآن تبيانا لكل شىء، قلت: المعنى أنه بين كل شىء من أمور الدين حيث كان نصا على بعضها وإحالة على السنة حيث أمر فيه باتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وطاعته وفيه وما ينطق عن الهوى. وحثا على الاجماع في قوله: ويتبع غير سبيل المؤمنين وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباع أصحابه والاقتداء بآثارهم في قوله: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتهم وقد اجتهدوا وقاسوا ووطأوا طرق القياس والاجتهاد فكانت السنة والاجتهاد والاجماع والقياس مستندة إلى تبين الكتاب فمن ثم كان تبيانا لكل شيء " انتهى ".
قوله: وقد رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قوله: اهتديتم لم يقل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث موضوع لا يصح بوجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما في أيدي العامة ترويه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إنما مثل أصحابي كمثل النجوم أو كالنجوم بأيها اقتدوا اهتدوا فهذا كلام لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه عبد الرحيم بن زيد العمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبت والنبي صلى الله عليه وسلم لا يبيح الاختلاف بعده من أصحابه هذا نص كلام البزار قال ابن المعين عبد الرحيم بن زيد كذاب خبيث ليس بشىء وقال البخاري هو متروك ورواه أيضا حمزة الجزري وحمزة هذا ساقط متروك وللمسلمين متعلق ببشرى ومن حيث المعنى متعلق بهدى ورحمة.
[16.90-115]
{ إن الله يأمر بالعدل } الآية، عن ابن عباس في حديث فيه طول منه أن عثمان بن مظعون كان جليس النبي صلى الله عليه وسلم وقتا فقال له عثمان: ما رأيتك تفعل فعلتك الغداة؟ قال: وما رأيتني فعلت قال: شخص بصرك إلى السماء ثم وضعته على يمينك فتحرفت عني إليه وتركتني فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئا يقال لك قال: أو فطنت لذلك أتاني رسول الله آنفا وأنت جالس قال: فماذا قال لك، قال لي: ان الله يأمرك بالعدل والإحسان وذكر الآية، قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي فأحببت محمدا صلى الله عليه وسلم ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء، وصل به ما يقتضي التكاليف فرضا ونفلا وأخلاقا وأدبا والعدل فعل فروض من عقائد وشرائع وسير مع الناس في أداء الأمانات وترك الظلم والانصاف وإعطاء الحق والإحسان فعل كل مندوب إليه وإيتاء ذي القربى هو صلة الرحم وهو مندرج تحت الإحسان لكنه نبه عليه اهتماما به وحضا على الإحسان إليه والفحشاء الزنا والمنكر الشرك والبغي التطاول بالظلم والسعاية فيه وهو داخل في المنكر ونبه عليه اهتماما باجتنابه يعظكم به أي بالأمر والنهي لعلكم تذكرون تنتهون لما أمرتم به ونهيتهم عنه.
{ وأوفوا بعهد الله } عهد الله علم لما عقده الإنسان والتزمه.
{ ولا تنقضوا الأيمان } أي العهود الموثقة بالايمان نهي عن نقضها تهمما بها.
{ بعد توكيدها } أي بعد توثيقها باسم الله تعالى وكفالة الله شهادته ومراقبته والجملة من قوله: وقد جعلتم في موضع الحال.
{ ولا تكونوا } أي في نقض العهد بعد توكيده وتوثيقه بالله تعالى كالمرأة الورهاء تبرم فتل غزلها ثم تنقضه نكثا وهو ما يحل فتله والتشبيه لا يقتضي تعيين المشبه به وعن الكلبي ومقاتل الورهاء هي من قريش خرقاء اسمها ريطة بنت سعد بن تيم تلقب بجفراء اتخذت مغزلا قدر ذراع وصنارة مثل أصبع وفلكة عظيمة على قدرها كانت تغزل هي وجواريها من الغداة إلى الظهر ثم تأمرهن فينقضن ما غزلن والظاهر أن قوله: من بعد قوة أي شدة حدثت من تركيب قوى الغزل والنكث في اللغة الحبل إذا انتقضت قواه والدخل الفساد والدغل جعلوا الإيمان ذريعة إلى الخدع والغدر وذلك أن المخلوق له مطمئن فيمكن للحالف ضره بما يريده قالوا: نزلت في العرب كانوا إذا حالفوا قبيلة فجاء أكثر منها عددا حالفوه وغدروا بالتي كانت أقل.
{ هي أربى } أي أزيد وأكثر والضمير في به عائد على المصدر المنسبك من أن تكون أي بسبب كون أمة هي أربى من أمة.
{ ولو شآء الله لجعلكم أمة واحدة } الآية، هذه المشيئة مشيئة اختيار على مذهب أهل السنة ابتلى الناس بالأمر والنهي ليذهب كل إلى ما يسر له.
{ ولا تتخذوا أيمانكم دخلا بينكم } كرر النهي عن اتخاذ الايمان دخلا تهمما بذلك مبالغة في النهي عنه لعظم موقعه من الدين.
قال ابن عطية: وتردده في معاملات الناس.
وقال الزمخشري: تأكيدا عليهم وإظهار العظم ما يرتكب منه " انتهى ".
وقيل إنما كرر لاختلاف المعنيين لأن الأول نهي عن الدخول في الحلف ونقض العهد بالقلة والكثرة وهنا نهي عن الدخل في الايمان التي يراد بها اقتطاع حقوق فكأنه قال: دخلا بينكم لتتوصلوا بها الى قطع أموال الناس وأقول لم يتكرر النهي عن اتخاذ الايمان دخلا وإنما سبق اخبار بأنهم اتخذوا أيمانهم دخلا معللا بشىء خاص وهو أن تكون أمة هي أربى من أمة وجاء النهي بقوله: ولا تتخذوا، استئناف إنشاء عن اتخاذ الايمان دخلا على العموم فيشمل جميع الصور من الحلف في المبايعة وقطع الحقوق المالية وغير ذلك وانتصب فتزل على جواب النهي وهو استعارة لمن كان مستقيما ووقع في أمر عظيم وسقط لأن القدم إذا زلت تقلب الإنسان من حال خير إلى شر.
{ ولا تشتروا بعهد الله } الآية، هذه آية نهي عن الرشاء وأخذ الأموال على ترك ما يجب على الأخذ فعله أو فعل ما يجب عليه تركه فإن هذا هي التي عهد الله إلى عباده فيها وبين تعالى الفرق بين حال الدنيا وحال الآخرة بأن هذه تنفد وتقتضي عن الانسان وينقضي عنها والتي في الآخرة باقية دائمة ودل قوله تعالى: { وما عند الله باق } على أن نعيم الجنة لا ينقطع أبدا وما موصولة وهي اسم ان وعند الله صلة والموصول وهو خير لكم جملة في موضع خبر ان وما في الجملتين موصول بمعنى الذي وينفد خبر الأولى وباق خبر الثانية. وهو مؤمن جملة حالية والظاهر من قوله: فلنحيينه، إن ذلك في الدنيا ويدل عليه قوله تعالى: { ولنجزينهم أجرهم } يعني في الآخرة.
{ فإذا قرأت القرآن } الآية، لما ذكر تعالى ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شىء وذكر أشياء مما بين في الكتاب، فإن كان الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لفظا فالمراد أمته ونفي تعالى سلطان الشيطان عن المؤمنين والسلطان هنا التسلط والولاية والمعنى أنهم لا يقبلون منه ولا يطيعونه فيما يريد منهم من اتباع خطواته وظاهر الاخبار انتفاء سلطنته عن المؤمنين مطلقا ولما ذكر تعالى إنزال الكتاب تبيانا لكل شىء وأمر بالاستعاذة عند قراءته. ذكر تعالى نتيجة ولاية الشيطان لأوليائه المشركين وما يلقيه إليهم من الأباطيل فألقي إليهم إنكار النسخ لما رأوا تبديل آية مكان آية، وتقدم الكلام في النسخ في البقرة والظاهر أن هذا التبديل رفع آية لفظا ومعنى يجوز أن يكون التبديل لحكم المعنى وإبقاء اللفظ ووجدت الكفار بذلك طعنا في الدين وما علموا أن المصالح تختلف بحسب اختلاف الأشخاص والأوقات وكما وقع نسخ شريعة بشريعة يقع في شريعة واحدة وأخبر تعالى أنه العالم بما ينزل لا أنتم، وما ينزل مما يقره وما يرفعه فمرجع علم ذلك إليه، وروح القدس هنا هو جبريل عليه السلام وأضاف الرب إلى كاف الخطاب تشريفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم باختصاص الاضافة وبالحق حال أي ملتسبا بالحق سواء كان ناسخا أم منسوخا وليثبت معناه أنهم لا يضطربون في شىء منه لكونه نسخا بل النسخ مثبت لهم على إيمانهم ودل اختصاص التعليل بالمسلمين على اتصاف الكفار بضده من لحاق الاضطراب لهم قال الزمخشري: وهدى وبشرى مفعول لهما معطوفان على محل ليثبت " انتهى ".
تقدم الرد عليه وفي نحو هذا وهو قوله:
لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة
[النحل: 64] في هذه السورة ولا يمتنع عطفه على المصدر المنسبك من أن والفعل لأنه مجرور فيكون هدى وبشرى مجرورين كما تقول: جئت لأحسن إلى زيد وإكرام لخالد إذ التقدير لإحسان إلى زيد وجاء إسناد التعليم إلى مبهم لم يعين.
وقال ابن عباس: كان في مكة غلام أعجمي لبعض قريش يقال له: بلعام فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه الإسلام ويرويه عليه فقالت قريش: هذا يعلم محمدا من جهة الأعاجم وقد ذكروا أسماء ناس أخر غير بلعام لا يصح شىء منها قال الزمخشري: فإن قلت الجملة التي هي قوله: لسان الذي يلحدون إليه، أعجمي ما محلها. قلت: لا محل لها لأنها مستأنفة جواب لقولهم: ومثله قوله: الله أعلم حيث يجعل رسالاته بعد قوله: وإذا جاءتهم آية قالوا: لن نؤمن حتى نؤتي مثل ما أوتي رسل الله " انتهى ".
يجوز عندي أن تكون جملة حالية فموضعها نصب وذلك أبلغ في الانكار عليهم أي يقولون ذلك والحال هذه أي علمهم بأعجمية هذا البشر وآياته عربية هذا القرآن كان يمنعهم من تلك المقالة كما تقول تشتم فلانا وهو قد أحسن إليك أي علمك بإحسانه لك كان يقتضي منعك من شتمه وإنما ذهب الزمخشري الى الاستئناف ولم يذهب إلى الحال لأن مذهبه ان مجيء الجملة الحالية الاسمية بغير واوشاذ وهو مذهب مرجوح جدا ومجيء ذلك بغير واو لا يكاد ينحصر كثرة في كلام العرب وهو مذهب تبع فيه الفراء واما الله أعلم فظاهر قوله فيها لأنها جملة خالية من ضمير يعود على ذي الحال لأن ذا الحال هو ضمير وفي هذه الآية ذو الحال ضمير يقولون: والضمير الذي في جملة الحال هو ضمير الحال في يلحدون فالجملة ان عريت عن الواو ففيها ضمير ذي الحال.
{ إن الذين لا يؤمنون بآيات الله } الآية، أخبر تعالى عنهم بأنهم لا يهديهم الله أبدا إذ كانوا جاحدين آيات الله وما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعجزات وخصوصا القرآن فمن بالغ في جحد آيات الله سد الله باب الهداية عنهم وذكر تعالى وعيده بالعذاب الأليم لهم ومعنى لا يهديهم لا يخلق الإيمان في قلوبهم وهذا عام مخصوص فقد اهتدى قوم كفروا بآيات الله.
{ من كفر } من شرطية وجوابه محذوف تقديره فهو مؤاخذ بكفره والاستثناء منقطع تقديره لكن من أكره على الكفر ولفظ به وقلبه مطمئن بالإيمان فلا يؤخذ به.
{ ولكن من شرح } من شرطية جوابه فعليهم غضب. وقال ابن عطية: وقيل فعليهم خبر عن من الأولى والثانية إذا هو واحد بالمعنى لأن الأخبار في قوله: من كفر إنما قصد الصنف الشارح بالكفر صدرا انتهى هذا.
وان كان كما ذكر في هاتان جملتان شرطيتان وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك فلا بد لكل واحدة منهن من جواب على انفراد لا يشتركان فيه فتقدير الحذف أجرى على صناعة الاعراب وعلى كون من في موضع رفع على الابتداء يجوز أن تكون شرطية كما ذكرنا وان تكون موصولة وما بعدها صلتها والخبر محذوف لدلالة ما بعده عليه لما ذكرنا في حذف جواب الشرط إلا أن من الثانية لا يجوز أن تكون شرطا حتى يقدر قبلها مبتدأ لأن من وليت لكن فيتعين إذ ذاك أن تكون من موصولة فإن قدر مبتدأ بعد لكن جاز أن تكون شرطية في موضع خبر ذلك المبتدأ المقدر كقوله:
ولكن متى يسترفد القوم أرفد
أي ولكن أنا فكذلك هنا أي ولكن هم من شرح بالكفر صدرا أي منهم وأجاز الحوفي والزمخشري أن تكون من بدلا من الذين لا يؤمنون ومن الكاذبون ولم يجز الزجاج إلا أن يكون بدلا من الكاذبون لأنه رأى الكلام إلى آخر الاستثناء غير تام فعلقه بما قبله وأجاز الزمخشري أيضا أن يكون بدلا من أولئك فإذا كان بدلا من الذين لا يؤمنون فيكون قوله: وأولئك هم الكاذبون جملة اعتراض بين البدل والمبدل منه والمعنى إنما يفتري الكذب من كفر بالله من بعد إيمانه واستثنى منه المكره فلم يدخل تحت حكم الافتراء وإذا كان بدلا من الكاذبون فالتقدير وأولئك هم من كفر بالله من بعد إيمانه وإذا كان بدلا من أولئك فالتقدير من كفر بالله من بعد إيمانه هم الكاذبون وهذه الأوجه الثلاثة عندي ضعيفة لأن الأول يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه والوجود يقتضي أن من يفتري الكذب هو الذي لا يؤمن وسواء أكان ممن كفر بعد الإيمان أم كان ممن لم يؤمن قط بل من لم يؤمن قط هم الأكثرون المفترون الكذب.
وأما الثاني فيؤول في المعنى إلى ذلك إذ التقدير أولئك أي الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه والذين لا يؤمنون هم المفترون.
وأما الثالث: فكذلك إذ التقدير أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه مخبر عنهم الكاذبون.
قال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب على الذم وهذا بعيد أيضا والذي تقتضيه فصاحة الكلام جعل الجمل كلها مستقلة لا ترتبط بما قبلها من حيث الإعراب بل من حيث المعنى والمناسبة والظاهر أن ذلك إشارة إلى ما استحقوه من الغضب والعذاب أي كائن لهم بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة.
{ ثم إن ربك } فيه دلالة على تباعد حال هؤلاء من حال أولئك وهم عمار وأصحابه رضي الله عنهم.
{ يوم تأتي كل نفس } الآية، يوم ظرف وهو منصوب باذكر على أنه مفعول به والظاهر عموم كل نفس فيجادل المؤمن والكافر وجداله بالكذب والجحد فتشهد عليهم الرسل والجوارح فحيئنذ لا ينطقون.
{ وضرب الله مثلا قرية } أي من قرى الأولين جعلت مثلا لمكة على معنى التحذير لأهلها ولغيرها من القرى إلى يوم القيامة.
قال الزمخشري: يجوز أن يراد قرية مقدرة على هذه الصفة وأن يكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها فضربها الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها " انتهى ".
لا يجوز أن يراد قرية على هذه الصفة بل لا بد من وجودها لقوله:
ولقد جآءهم رسول منهم فكذبوه
[النحل: 113] الآية.
{ كانت آمنة } ابتداء بصفة إلا من لأنه نعيم لخائف والاطمئنان زيادة في الأمن فلا يزعجها خوف.
{ يأتيها رزقها } أقواتها كل حين واسعة من جميع جهاتها لا تتعذر منها جهة وأنعم جمع نعمة كشدة وأشدوا لإذاقة واللباس كناية عن وصول الخوف والجوع إليهم ولما تقدم ذكر إلا من وإيتاء الرزق قابلهما بالجوع الناشىء عن انقطاع الرزق وبالخوف قدم الجوع ليلي المتأخر وهو إتيان الرزق كقوله تعالى:
يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم
[آل عمران: 106] الآية.
والظاهر أن الضمير في ولقد جاءهم، عائد على ما عاد عليه في قوله: { بما كانوا يصنعون }.
ولما تقدم فكرت بأنعم الله جاء هنا واشكروا نعمة الله وفي البقرة جاء:
يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم
[البقرة: 172] لم يذكر من كفر نعمته فقال: واشكروا الله ولما أمرهم بالأكل مما رزقهم عدد عليهم محرماته تعالى ونهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم دون اتباع ما شرع الله تعالى على لسان أنبيائه وكذا جاء في البقرة ذكر ما حرم إثر قوله: { فكلوا مما رزقكم الله } وقوله: { إنما حرم } تقدم تفسير مثله في البقرة.
[16.116-128]
{ ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب } الآية، لما بين ما حرم بالغ في تأكيد ذلك بالنهي عن الزيادة فيما حرم وما مصدرية والكذب مفعول بتصف أي بوصف ألسنتكم الكذب وهذا حلال وهذا حرام تفسير للكذب ويجوز أن تكون ما موصولة بمعنى الذي وتصف صلته والضمير عائد على ما محذوف تقديره تصفه والكذب بدل من هذا الضمير المحذوف ويجوز أن ينتصب الكذب على أنه نعت لمصدر محذوف منصوب بتقولوا أي ولا تقولوا القول الكذب لما تصف واللام للتعليل أي لما تصف.
وقال الزمخشري: يجوز أن يكون الكذب بالجر صفة لما المصدرية كأنه قيل لوصفها الكذب بمعنى الكاذب كقوله تعالى:
بدم كذب
[يوسف: 18] المراد بالوصف وصفها البهائم بالحل والحرمة " انتهى " هذا عندي لا يجوز وذلك أنهم نصوا على أن المصدرية لا ينعت المصدر المنسبك منها ومن الفعل فلا يجوز يعجبني ان قمت السريع تريد قيامك السريع ولا عجبت من أن تخرج السريع أي من خروجك السريع وحكم باقي الحروف المصدرية حكم ان فلا يوجد في كلامهم وصف المصدر المنسبك من أن ولا من ما ولا من كي بخلاف صريح المصدر فإنه يجوز أن ينعت وليس لكل مصدر حكم المنطوق به وإنما يتبع في ذلك ما تكلمت به العرب وارتفع متاع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره عيشهم في الدنيا متاع قليل.
{ وعلى الذين هادوا حرمنا } تقدم ما حرم عليهم في آخر الانعام ويتعلق من قبل بقصصنا وهو الظاهر وقيل بحرمنا والمحذوف الذي في من قبل تقديره من قبل تحريمنا على أهل ملتك والسوء ما يسوء صاحبه من كفر ومعصية وغيره والكلام في الذين آمنوا وما يتعلق به تقدم نظيره.
{ إن إبراهيم كان أمة } الآية، مناسبة هذه الآية للتي قبلها أنه لما أبطل تعالى مذاهب المشركين في هذه السورة والطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحليل ما حرم وتحريم ما أحل وكانوا مفتخرين بجدهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم ذكره في آخر السورة وأوضح منهاجه وما كان عليه من طاعة الله ورفض الأصنام ليكون ذلك حاملا لهم على تركها والاقتداء به. وقال ابن عطية: قال مكي ولا يكون يعني حنيفا حالا من إبراهيم لأنه مضاف إليه وليس كما قال لأن الحال قد يعمل فيها حروف الخفض إذا عملت في ذي الحال كقولك مررت بزيد قائما " انتهى ". اما ما حكي عن مكي وتعليله امتناع ذلك بكونه مضافا إليه فليس على إطلاق هذا التعليل لأنه إذا كان المضاف إليه في محل رفع أو نصب جازت الحال منه نحو يعجبني قيام زيد مسرعا وشرب السويق ملتوتا.
وقال بعض النحاة: ويجوز أيضا ذلك إذا كان المضاف خبرا من المضاف إليه كقوله تعالى:
ونزعنا ما في صدورهم من غل إخونا
[الحجر: 47] أو كالجزاء كقوله تعالى: { ملة إبراهيم حنيفا }.
وأما قول ابن عطية في رده على مكي بقوله: وليس كما قال لأن الحال إلى آخره، فقول بعيد عن قول أهل الصنعة لأن الباء في يزيد ليست هي العاملة في قائما وإنما العامل في الحال مررت والباء وإن عملت الجر في يزيد فإن زيدا في موضع نصب بمررت ولذلك إذا حذفت حرف الجر حيث يجوز حذفه نصب الفعل ذلك الاسم الذي كان مجرور بالحرف وتقدم تفسير القانت والحنيف شاكرا لأنعمه.
روي أنه كان صلى الله عليه وسلم لا يتغدى إلا مع ضيف فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخر غداءه فإذا هو بفوج الملائكة في صورة البشر فدعاهم إلى الطعام فحيلوا له أن بهم جذاما فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم شكرا لله تعالى على أنه عافاني وابتلاكم.
{ وآتيناه في الدنيا حسنة } قال قتادة: حببه الله تعالى إلى كل الخلق فكل أهل الأديان يتولونه اليهود والنصارى والمسلمون وخصوصا كفار قريش فإن فخرهم إنما هو كان به وذلك لإجابة دعوته واجعل لي لسان صدق في الآخرين ولما وصف إبراهيم عليه السلام بتلك الأوصاف الشريفة أمر نبيه عليه السلام أن يتبع ملته وهذا الأمر من جملة الحسنة التي آتها الله إبراهيم في الدنيا وملته أي عقائد الشرائع دون الفروع لقوله تعالى:
لكل جعلنا منكم شرعة
[المائدة: 48]. ومنهاجا. ولما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم وكان الرسول صلى الله عليه وسلم قد اختار يوم الجمعة فدل ذلك على أنه كان في شرع إبراهيم عليه السلام بين أن يوم السبت لم يكن في شرع إبراهيم والسبت مصدر وبه سمي اليوم وتقدم الكلام في هذا اللفظ في الأعراف.
{ ادع إلى سبيل ربك } أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى دين الله وشرعه بتلطف وهو أن يسمع المدعو حكمه وهو الكلام الصواب القريب الواقع في النفس أجمل موقع.
وعن ابن عباس أن الحكمة هي القرآن وعنه أيضا الموعظة الحسنة مواعظ القرآن.
{ وإن عاقبتم } الآية، أطبق أهل التفسير أن هذه الآية مدنية نزلت في شأن التمثيل بحمزة وغيره في يوم أحد والظاهر عود الضمير في لهو إلى المصدر الدال عليه الفعل مقيدا بالاضافة إليهم أي لصبركم وللصابرين أي لكم أيها المخاطبون فوضع الصابرين موضع الضمير ثناء من الله تعالى عليهم بصبرهم على الشدائد أو بصبرهم على المعاقبة ولما خير المخاطبون في المعاقبة والصبر عنها عزم على الرسول صلى الله عليه وسلم في الذي هو خير وهو الصبر فأمر هو وحده بالصبر ومعنى بالله بتوفيقه وتيسيره وإرادته والضمير في عليهم يعود على الكفار وكذلك في يمكرون كما قال تعالى:
فلا تأس على القوم الكافرين
[المائدة: 68]. ومعنى المعية بالنصر والتأييد والإعانة.
[17 - سورة الإسراء]
[17.1-18]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * سبحان الذى أسرى } الآية سبب نزولها ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش الإسراء به وتكذيبهم له فأنزل الله تعالى ذلك تصديقا له وهذه السورة مكية إلا آيات اختلف فيها ذكرت في البحر ومناسبة هذه لما قبلها أنه تعالى لما أمره بالصبر ونهاه عن الحزن عليهم وأن يضيق صدره من مكرهم وكان من مكرهم نسبته إلى التكذيب والسحر والشعر وغير ذلك مما رموه به أعقب تعالى ذلك بشرفه وفضله واحتفائه به وعلو منزلته عنده وتقدم الكلام على سبحان في البقرة، وأسرى بمعنى سرى وانتقل من ضمير الغيبة في قوله بعبده إلى ضمير المتكلم في قوله لنريه والظاهر أن هذا الإسراء كان بشخصه ولذلك كذبت قريش به وشغبت عليه، والمسجد الأقصى بيت المقدس وسمي الأقصى لأنه كان في ذلك الوقت أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة.
و { الذي باركنا حوله } صفة مدح لإزالة اشتراك عارض وبركته بما خص به من الخيرات الدينية كالنبوة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر والدنياوية من كثرة الأشجار والأنهار وطيب الأرض وفي الحديث أنه تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس وفي إضافته تعالى عبده لضميره تشريف عظيم وكثيرا ما أتى الشريف بلفظ العبد كقوله تعالى
نعم العبد
[ص: 30، 44] و
إن عبادي ليس لك عليهم سلطان
[الحجر: 42، الإسراء: 65]
واذكر عبادنآ إبراهيم
[ص: 45]
" ويروى أنه صلى الله عليه وسلم كان نائما في بيت أم هانىء بعد صلاة العشاء فأسرى به ورجع من ليلته وقص القصة على أم هانىء بعد صلاة العشاء وقال مثل لي النبيون فصليت بهم وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانىء بثوبه فقال مالك قالت: أخشى أن يكذبك قومك بأن أخبرتهم قال: وإن كذبوني فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فحدثهم فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا وارتد ناس ممن كان آمن به وسعى رجال الى أبي بكر رضي الله عنه فقال إن كان قال ذلك لقد صدق قالوا أتصدقه على ذلك قال إني لأصدقه على أبعد من ذلك "
فسمي الصديق ومنهم من سافر إليه فاستنعتوه المسجد فجلى له بيت المقدس فطفق ينظره وينعته لهم فقالوا أما النعت فقد أصاب وقالوا أخبرنا عن عيرنا فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق فخرجوا ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم هذه والله الشمس طلعت فقال آخر هذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يؤمنوا وقالوا ما هذا إلا سحر مبين وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة وكان العروج به من بيت المقدس وأخبر قريشا أيضا بما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في السماء من العجائب وأنه لقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى.
{ إنه هو السميع } لأقوال محمد.
{ البصير } بأفعاله وفيه التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب في أنه وآتينا معطوف على الجملة السابقة من تنزيهه سبحانه وبراءته من السوء ولا يلزم من عطف الجمل المشاركة في الخبر أو غيره ولما ذكر تشريف الرسول صلى الله عليه وسلم بالإسراء وإراءته الآيات ذكر تشريف موسى صلى الله عليه وسلم بإيتائه التوراة والكتاب هنا التوراة والظاهر عود الضمير في وجعلناه على الكتاب وأن لا تكون تفسيرية ولا نهي وأن يكون مصدرية تعليلا أي لأن لا تتخذوا واو نفي وانتصب ذرية على النداء أي يا ذرية قرأت فرقة ذرية بالرفع وخرج على أن تكون بدلا من الضمير في تتخذوا على قراءة من قرأ بياء الغيبة * قال ابن عطية ولا يجوز في القراءة بالتاء لأنك لا تبدل من ضمير مخاطب لو قلت ضربتك زيدا على البدل لم يجز انتهى ما ذكره من إطلاق أنك لا تبدل من ضمير مخاطب يحتاج إلى تفصيل وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز للإخلاف وإن كان من بدل شىء من شىء وهما يعني واحدة فإن كانت تفيد التوكيد جاز بلا خلاف نحو مررت بكم صغيركم وكبيركم وإن لم تفد التوكيد فمذهب جمهور البصريين المنع ومذهب الأخفش والكوفيين الجواز وهو الصحيح لو جوز ذلك في كلام العرب * وقد استدللنا على صحة ذلك في شرح التسهيل وذكر من حملنا مع نوح تنبيها على النعمة الي نجاهم الله بها من الغرق والظاهر أن الضمير في أنه عائد على نوح صلى الله عليه وسلم أي كونوا موحدين شاكرين لنعم الله مقتدين بنوح الذي أنتم ذرية من حمل معه.
{ وقضينآ إلى بني إسرائيل } الآية قضى يتعدى بنفسه إلى مفعول كقوله تعالى:
فلما قضى موسى الأجل
[القصص: 29] ولما ضمن هنا معنى الإيحاء أو الإنفاذ تعدى بإلى أي أوحينا أو أنفذنا إلى بني إسرائيل في القضاء المحتوم المبتوت واللام في لتفسدن جواب قسم فإما أن يقدر محذوفا ويكون متعلق القضاء محذوفا تقديره وقضينا إلى بني إسرائيل فسادهم في الأرض وعلوهم ثم أقسم تعالى على وقوع ذلك وأنه كائن لا محالة فحذف متعلق قضينا وأبقى منصوب القسم المحذوف ويجوز أن يكون قضينا أجري مجرى القسم ولتفسدن جوابه كقولهم قضاء الله لأقومن مرتين أولاهما قتل زكريا ونشره في الشجرة بالمنشار والثانية حبس أرميا حين أنذرهم سخط الله.
{ فإذا جآء وعد أولاهما } أي موعود أولاهما والوعد قد سبق بذلك والموعود هو العقاب والضمير في أولاهما عائد على المرتبين.
{ عبادا لنآ } قال ابن عباس غزاهم سنحاريب وجنوده ملك بابل وقيل بخت نصر وروي أنه دخل قبل في جيش من الفرس وهو خامل يسير في مطبخ الملك فاطلع من جور بني إسرائيل على ما لم يعلمه الفرس لأنه كان يداخلهم فلما انصرف الجيش ذكر للملك الأعظم فلما كان بعد مدة جعله الملك رئيس جيش وبعثه فخرب بيت المقدس وقتلهم وجلاهم ثم انصرف فوجد الملك قد مات فملك موضعه واستمر حاله حتى ملك الأرض بعد ذلك والبعث هنا الإرسال والتسلط.
{ أولي بأس شديد } أي قتال وحرب شديد لقوتهم ونجدتهم وكثرة عددهم وعددهم.
{ فجاسوا خلال الديار } أسند الجوس وهو التردد خلال الديار بالفساد إليهم لتخريب المساجد وإحراق التوراة من جملة الجوس المسند إليهم.
{ وكان وعدا مفعولا } أي منجزا ما وقع به الوعد من العقاب.
{ ثم رددنا لكم الكرة عليهم } هذا إخبار من الله لبني إسرائيل في التوراة وجعل رددنا موضع ندد اذ وقت إخبارهم لم يقع الأمر بعد لكنه لما كان وعد الله في غاية الثقة أنه يقع عبر عن مستقبله بالماضي * والكرة الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليهم حين تابوا ورجعوا عن الفساد ملكوا بيت المقدس وقيل الكرة قتل بخت نصر واستنقاذ بني إسرائيل أسراهم وأموالهم ورجوع الملك إليهم وذكر في سبب ذلك أن ملكا غزا أهل بابل وكان بخت نصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة وبقي بقيتهم عنده ببابل في الذل فلما غزاهم ذلك الملك وغلب على بابل تزوج امرأة من بني إسرائيل وطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلى بيت المقدس ففعل وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه وانتصب نفيرا على التمييز فقيل النفير والنافر واحد وأصله من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته وجواب وإن أسأتم قوله فلها على حذف مبتدأ أولها خبره تقديره فالإساءة لها.
{ فإذا جآء وعد الآخرة } أي المرة الآخرة في إفسادكم وعلوكم وجواب إذا الأولى تقديره بعثناهم عليكم وإفسادهم وقرىء:
{ ليسوءوا } بلام كي وياء الغيبة وضمير الجمع والغائب العائد على المبعوثين وقرىء: لنسوء بالنون التي للعظمة وفيها ضمير يعود على الله والظاهر أنه أريد بالوجوه الحقيقية لأن آثار الأعراض النفسانية في القلب تظهر على الوجه ففي الفرح يظهر الاسفار والاشراق وفي الحزن يظهر الكلوح والغبرة ويحتمل أن يعبر عن الجملة بالوجه فإنهم ساؤهم بالقتل والسبي والنهب فحصلت بالإساءة للذوات كلها.
{ وليدخلوا المسجد } أي مسجد بيت المقدس ومعنى:
{ كما دخلوه أول مرة } أي بالسيف والقهر والغلبة والإذلال وهذا يبعد قول من ذهب إلى أن أولى المرتين لم يكن فيها قتل ولا قتال ولا نهب.
{ وليتبروا } أي يهلوا وقال قطرب يهدموا * وقال فما الناس إلا عاملان فعامل * يتبر ما يبنى وآخر رافع والظاهر أن مفعوله يتبروا أي يهلكوا ما غلبوا عليه من الاقطار ويحتمل أن تكون ما ظرفية أي مدة استيلائهم.
{ عسى ربكم أن يرحمكم } بعد المرة الثانية إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي وإن عدتم إلى المعصية مرة ثالثة عدنا إلى العقوبة وقد عادوا فأعاد الله عليهم النقمة بتسليط الأكاسرة وضرب الاتاوة عليهم وعن الحسن عادوا فبعث الله محمدا فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون ثم ذكر ما أعد لهم في الآخرة وهو جعل جهنم له حصيرا والحصير السجن أو المحبس * قال لبيد:
ومقامه غلب الرجال كأنهم
جن لدى باب الحصير قيام
والذي يظهر بأنها حاصرة لهم محيطة بهم من جميع جهاتهم فحصير معناه ذات حصر إذ لو كان للمبالغة لزمته التاء لجريانه على مؤنث كما تقول رحيمة وعليمة ولكنه على معنى النسب كقوله تعالى:
السمآء منفطر به
[المزمل: 18] أي ذات انفطار.
{ إن هذا القرآن يهدي } الآية لما ذكر من اختصه بالإسراء وهو محمد صلى الله عليه وسلم ومن آتاه التوراة وهو موسى صلى الله عليه وسلم وأنه هدى لبني إسرائيل وذكر فيها ما قضى عليهم من التسلط عليهم بذنوبهم كان ذلك رادعا من عقل عن معاصي الله فذكر ما شرف الله به رسوله من القرآن الناسخ لحكم التوراة وكل كتاب إلهي وأنه يهدي للطريقة التي هي أقوم والذي يظهر من حيث المعنى أن أقوم هنا لا يراد بها التفضيل إذ لا مشاركة بين الطريقة التي يرشد إليها القرآن وطريقة غيرها وفضلت هذه عليها وإنما المعنى التي هي قيمة أي مستقيمة وغيرها من الطرق ليست مستقيمة كما قال تعالى:
وذلك دين القيمة
[البينة: 5].
{ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة } عطف على قوله ان لهم أجرا كبيرا بشروا بفوزهم بالجنة وبكينونة العذاب الأليم لأعدائهم الكفار إذ في علم المؤمنين بذلك وتبشيرهم به مسرة لهم فهما بشارتان وفيه وعيد للكفار * قال الزمخشري: فإن قلت كيف ذكر المؤمنين الأبرار والكفرة ولم يذكر الفسقة قلت: كان الناس حينئذ إما مؤمن تقي وإما مشرك وإنما حدث أصحاب المنزلة بين المنزلتين بعد ذلك. " انتهى ". هذه مكابرة بل قد وقع في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم من بعض المؤمنين هنات وسقطات بعضها مذكور في القرآن وبعضها في الحديث الصحيح الثابت.
{ ويدع الإنسان بالشر } قال ابن عباس وغيره: نزلت ذامة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم وأبنائهم في أوقات الغضب والضجر * ومناسبتها لما قبلها أن بعض من لا يؤمن بالآخرة كان يدعو على نفسه بتعجيل ما وعد به من الشر في الآخرة كقول النضر: فأمطر علينا حجارة من السماء الآية وكتب ويدع بغير واو على حسب السمع والإنسان هنا ليس واحدا معينا والمعنى أن في طباع الإنسان إذا ضجر وغضب دعا على نفسه وأهله وماله بالشر أن يصيبه كما يدعو بالخير أن يصيبه ثم ذكر تعالى أن ذلك من عدم تثبته وقلة صبره وكونه خلق كثير التسرع لما يرد على قلبه لا يتأتى ولا يستبصر.
{ وجعلنا اليل والنهار آيتين } الظاهر أن آيتين هو المفعول الأول والليل والنهار ظرفان في موضع المفعول الثاني أي وجعلنا في الليل والنهار آيتين فمحونا آية الليل أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسه مظلما لا يستبان فيه شىء كما لا يستبان ما في اللوح المحفوظ وجعلنا آية النهار مبصرة أي يبصر فيه الأشياء ويستبان ومعنى:
{ لتبتغوا فضلا } أي: من فضله أي: لتتوصلوا إلى استبانة أعمالكم وتصرفكم في معايشكم والحساب للشهور والأيام والساعات ومعرفة ذلك في الشرع إنما هو من جهة آية النهار وكل شىء مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم.
{ فصلناه } بيناه تبيينا غير ملتبس والظاهر أن نصب وكل شىء على الاشتغال.
{ طآئره } أي أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر فقد سبق به القضاء وألزم خطه وعمله ومكسبه في عنقه معبر عن الخط والعمل إذ هما متلازمان بالطائر.
وقرىء: { ونخرج } بنون مضارع أخرج.
{ كتابا } بالنصب وعن أبي جعفر ويخرج بالياء مبنيا للمفعول كتابا أو يخرج الطائر كتابا وعنه أيضا كتاب الرفع على أنه مفعول ما لم يسم فاعله.
و { يلقاه منشورا } صفتان لكتاب ويجوز أن يكون منشورا حالا من مفعول يلقاه.
{ اقرأ كتبك } معمول لقول محذوف أي يقال له اقرأ كتابك وقال قتادة يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا.
و { بنفسك } فاعل كفى والباء زائدة على سبيل الجواز لا اللزوم ويدل عليه أنه إذا حذفت ارتفع ذلك الإسم بكفى كقول الشاعر:
ويخبرني عن غائب المرء هديه
كفى الهدى عما غيب المرء فجرا
و { اليوم } منصوب بكفى وعليك يتعلق بحسيبا ومعنى حسيبا حاكما عليك بعلمه وحسيبا منصوب على التمييز لجواز دخول من عليه والحسيب بمعنى المحاسب ومعناه حافظا عليك عملك ولذلك عدى بعلى.
{ من اهتدى } الآية قيل نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسود وفي الضلال إلى الوليد بن المغيرة وتقدم تفسير ولا تزر في آخر الأنعام.
{ وما كنا معذبين } الآية فيها نتفاء التعذيب ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى:
{ حتى نبعث رسولا } فيكذب ولا يؤمن بما جاء به من عند الله وانتفاء التعذيب أعم من أن يكون في الدنيا بالهلاك وغيره من العذاب أو في الآخرة بالنار فهو يشملهما.
{ وإذآ أردنآ أن نهلك قرية } الآية لما ذكر تعالى أنه لا يعذب أحدا حتى يبعث إليه رسولا بين بعد ذلك علة أهلاكهم وهي مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم والتمادي على الفساد والفسق وأراد هنا حقيقته وأن نهلك يعني في الدنيا وقرىء:
{ أمرنا } بتخفيف الميم من الأمر ومفعول أمر محذوف تقديره أمرنا بالطاعة.
{ مترفيها } ويجوز أن تكون أمرنا بمعنى كثرنا تقول العرب أمر القوم بكسر الميم أي كثروا وأمرهم الله بفتح الميم أي كثرهم فصارت الحركة يصير بها الفعل متعديا تقول العرب شترت عني الرجل بكسر التاء والقول الذي حق عليهم هو وعيد الله الذي قاله رسولهم * والتدمير الاهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء مع هلاك أهلها وقرىء: آمرنا بالمد أي كثرنا عدى أمر بالهمزة بمعنى كثرنا وقرىء: أمرنا بالتشديد أي جعلناهم أمراء أو بمعنى كثرنا وكم في موضع نصب على المفعول بأهلكنا أي كثيرا من القرون أهلكنا ومن القرون بيان لكم وتمييز له كما تميز العدد بالجنس والقرون عاد وثمود وغيرهم ويعني بالإهلاك هنا الإهلاك بالعذاب وفي ذلك تهديد ووعيد لمشركي مكة وقال من بعد نوح ولم يقل من بعد آدم لأن نوحا صلى الله عليه وسلم أول نبي بالغ قومه في تكذيبه وقومه أول من حلت بهم العقوبة العظمى وهو الاستئصال بالطوفان وتقدم القول في عمر القرن ومن الأولى للتبيين والثانية لابتداء الغاية وتعلقا بأهلكنا لاختلاف معنييهما وكفى بربك إنما يجيء في الأغلب في مدح أو ذم وإعراب كفى بربك كإعراب كفى بالله وبذنوب عباده تنبيه على أن الذنوب هي أسباب الهلكة.
و { خبيرا بصيرا } تنبيه على أنه عالم بها ومعاقب عليها ويتعلق بذنوب بخبيرا أو بصيرا.
{ من كان يريد العاجلة } قيل نزلت في المنافقين كانوا يغزون مع المسلمين لا للثواب ومن شرطية وجوابه عجلنا له فيها ما نشاء فقيد المعجل بمشيئة ما نشاء تعجيله ولمن نريد بدل من قوله له بدل بعض من كل لأن الضمير في له عائد على من الشرطية وهي في معنى الجمع ولكن جاءت الضمائر هنا على اللفظ لا على المعنى وجعلنا بمعنى صيرنا والمفعول الأول جهنم والثاني له لأنه ينعقد منهما مبتدأ وخبر ويصلاها حال من الضمير في له أو من جهنم.
{ مذموما } إشارة إلى الإهانة.
{ مدحورا } إشارة إلى البعد والطرد من رحمة الله تعالى وهما حالان من الضمير المستكن في يصلاها.
[17.19-43]
{ ومن أراد الآخرة } أي ثواب الآخرة بأن يؤثرها على الدنيا ويعقد إرادته بها.
{ وسعى } فيما كلف من الأعمال والأقوال.
{ سعيها } أي السعي المعد للنجاة فيها.
{ وهو مؤمن } هو الشرط الأعظم في النجاة فلا ينفع أراده ولا سعي إلا بحصوله وفي الحقيقة هو الناشىء عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب.
{ فأولئك } إشارة إلى من اتصف بهذه الأوصاف وراعى معنى من فلذلك كان بلفظ الجمع والله تعالى يشكرهم على طاعتهم وهو تعالى هو المشكور على ما أعطى وانتصب كلا بنمد والامداد المواصلة بالشىء وهؤلاء وهؤلاء بدلان من كلا بدل تفصيل وقدره الزمخشري كل واحد من الفريقين نمد وأعربوا هؤلاء بدلا من كلا ولا يصح أن يكون بدلا من كلا على تقدير كل واحد لأنه يكون إذ ذاك بدل كل من بعض فينبغي أن يكون التقدير كل الفريقين فيكون بدل كل من كل على جهة التفصيل والظاهر أن هذا الامداد هو في الرزق في الدنيا ويدل على هذا التأويل.
{ وما كان عطآء ربك محظورا } أي رزقه لا يضيق عن مؤمن ولا كافر ومعنى محظورا أي ممنوعا والظاهر أن:
{ انظر } بصرية لأن التفاوت في الدنيا مشاهد.
و { كيف } سؤال عن الهيئة منصوب.
ب { فضلنا } والجملة في موضع نصب على إسقاط حرف الجر وهو إلى ويجوز أن يكون أنظر من نظر القلب فيكون حرف الجر المقدر لفظه في والتفضيل هنا في الدنيا ودرجات منصوبا على التمييز والمفضل عليه محذوف تقديره من درجات الدنيا وتفضيلها والخطاب في:
{ لا تجعل } للسامع المخاطب غير الرسول.
{ فتقعد } قال الفراء وتبعه الزمخشري فتقعد بمعنى فيصير فيكون اسمها ضمير المخاطب وخبرها.
{ مذموما } وحكى الكسائي عن العرب وقعد لا يسأل حاجة إلا قضاها وأصحابنا لا يجعلون قعد بمعنى صار إلا في المثل في قولهم: شحذ شفرته حتى قعدت كأنها حربة أي صارت ومذموما حال عندهم من الضمير المستكن في فتقعد ويؤولونه على معنى فيثبت ويسكن في حال الذم.
{ وقضى ربك } الآية قال ابن عباس: وجماعة قضى بمعنى أمر وأن حرف تفسير * وقال أبو البقاء ويجوز أن يكون في موضع نصب أي ألزم ربك عبادته ولا زائدة انتهى وهذا وهم لدخول إلا على مفعول تعبد ويلزم أن يكون منفيا أو مبهما ولا تعبدوا نهي.
و { إحسانا } مصدر بمعنى الأمر عطف ما معناه أمر على نهي كما عطف في قوله * يقولون لا تهلك أسى وتجمل * وقد اعتنى بالأمر بالإحسان إلى الوالدين حيث قرن بقوله: لا تعبدوا إلا إياه ويتقديمهما اعتناء بهما على قوله إحسانا ومناسبة اقتران بر الوالدين بإفراد الله بالعبادة من حيث أنه تعالى هو الموجود حقيقة والوالدان وساطة في إنشائه وهو تعالى المنعم بإيجاده ورزقه وهما ساعيان في مصالحه * وقال الزمخشري اما هي ان الشرطية زيدت عليها ما توكيدا لها ولذلك دخلت النون المؤكدة في الفعل ولو أفردت لم يصح دخولها لا تقول ان تكرمن زيدا يكرمك ولكن إما تكرمنه انتهى * وهذا الذي ذكره مخالف لمذهب سيبويه لأن مذهبه أنه يجوز أن يجمع بين اما ونون التوكيد وأن تأتي بأن وحدها ونون التوكيد وأن تأتي باما وحدها دون نون التوكيد وقال سيبويه في هذه المسئلة: وإن شئت لم تقحم النون كما أنك إن شئت لم تجىء بما يعني مع النون وعدمها وقرىء:
{ يبلغن } بنون التوكيد وعند متعلق به.
و { أحدهما } فاعل بيبلغن.
{ أو كلاهما } معطوف على أحد وقرىء: يبلغان فالألف للتثنية والنون مشددة بعد ألف الاثنين وأحدهما بدل من الضمير، أو كلاهما فاعل بفعل محذوف تقديره أو يبلغ كلاهما والفاء في فلا جواب الشرط * وقال الزمخشري: * فإن قلت لو قيل اما يبلغان كلاهما كان توكيدا لا بدلا فمالك زغمت أنه بدل * قلت: لأنه معطوف على ما لا يصح أن يكون توكيدا للإثنين فانتظم في حكمه فوجب أن يكون مثله * فإن قلت ما ضرك لو جعلته توكيدا مع كون المعطوف عليه بدلا وعطفت التوكيد على البدل * قلت: لو أريد توكيد التثنية لقيل كلاهما فحسب فلما قيل أحدهما أو كلاهما علم أن التوكيد غير مراد فكان بدلا مثل الأول * قال ابن عطية: وعلى هذه القراءة الثالثة يعني يبلغان يكون قوله: أحدهما بدلا من الضمير في يبلغان وهو بدل مقسم * كقول الشاعر:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
ورجل رمى فيها الزمان فشلت
" انتهى " ويلزم من قوله: أن يكون كلاهما معطوفا على أحدهما وهو بدل والمعطوف على البدل بدل والبدل مشكل لأنه يلزم منه أن يكون المعطوف عليه * بدلا وإذا جعلت أحدهما بدلا من الضمير فلا يكون إلا بدل بعض من كل وإذا عطفت عليه كلاهما فلا جائز أن يكون بدل بعض من كل لأن كلاهما مرادف للضمير من حيث التثنية فلا يكون بدل بعض من كل ولا جائز أن يكون بدل كل من كل لأن المستفاد من الضمير التثنية وهو المستفاد من كلاهما فلم يغد البدل زيادة على المبدل منه * وأما قول ابن عطية وهو بدل مقسم كقول الشاعر:
وكنت كذي رجلين البيت
فليس من بدل التقسيم لأن شرط ذلك العطف بالواو وأيضا فالبدل المقسم لا يصدق المبدل فيه على أحد قسميه وكلاهما يصدق عليه الضمير وهو المبدل منه فليس من البدل المقسم وقد ذكرنا تخريجه على إضمار فعل فتكون كلاهما فاعلا بذلك الفعل.
{ أف } إسم فعل بمعنى أنضجر ولم يأت اسم فعل بمعنى المضارع إلا قليلا نحو أف وأوه بمعنى أتوجع وإذا كان قد نهى أن يستقبلهما بهذه اللفظة الدالة على الضجر والتبرم بهما فالنهي عما هو أشد كالشتم والضرب هو بجهة الأولى وفي أف لغات ذكرت في البحر ولما نهاه تعالى أن يقول لهما ما مدلوله أتضجر منكما ارتقى إلى النهي عما هو من حيث الوضع أشد من أف وهو نهرهما وان كان النهي عن نهرهما يدل عليه النهي عن قول أف لأنه إذا نهى عن الأدنى كان ذلك نهيا عن الأعلى بجهة الأولى والمعنى ولا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك وقل لهما بدل قول أف ونهرهما.
{ قولا كريما } أي جامعا للمحاسن من البر وجودة اللفظ ثم أمره تعالى بالمبالغة في التواضع معهما بقوله:
{ واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } وقال القفال في تقديره وجهان: * أحدهما أن الطائر إذا ضم فرحة إليه للتربية خفض له جناحه فخفض الجناح كناية عن حسن التدبير وكأنه قيل للولد أكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا بك ذلك حال صغرك * الثاني أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه وإذا أراد ترك الطيران والارتفاع خفضه فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه ثم أمره تعالى بأن يدعو الله تعالى لهما بأن يرحمهما رحمته الباقية إذ رحمته عليهما لا فناء لها ثم نبه على العلة الموجبة للإحسان إليهما والبر بهما واسترحام الله تعالى لهما وهي تربيتهما له صغيرا وتلك الحالة مما يزيده إشفاقا لهما ورحمة إذا هي تذكير بحالة إحسانهما إليه وقت أن لا يقدر على الإحسان لنفسه والظاهر أن الكاف في كما للتعليل أي رب ارحمهما لتربيتهما لي وإحسانهما إلي حالة الصغر والافتقار.
{ ربكم أعلم بما في نفوسكم } أخبر تعالى أنه أعلم بما انطوت عليه الضمائر من قصد عبادة الله والبر بالوالدين ثم قال:
{ إن تكونوا صالحين } أي ذوي صلاح ثم فرط منكم تقصير في عبادة أو بر وانبتم إلى الخير.
{ فإنه كان للأوابين غفورا } أي غفور لما فرط من هناتكم والظاهر أن هذا عام في كل من فرطت منه جناية ثم ناب منها.
{ وآت ذا القربى } الآية لما أمر ببر الوالدين أمر بصلة القرابة والظاهر أنه خطاب لما خوطب بقوله: اما يبلغن عندك الكبر والحق هنا ما يتعين له من صلة الرحم وسد الخلة والمواساة عند الحاجة بالمال والمعونة بكل وجه ونهى تعالى عن التبذير وكانت الجاهلية تنحر إبلها وتتياسر عليها وتبذر أموالها في الفخر والسمعة وتذكر ذلك في أشعارها فنهى الله تعالى عن النفقة في غير وجوه البر وما يقرب منه.
{ كانوا إخوان الشياطين } واخوه الشياطين كونهم قرناءهم في الدنيا وفي النار وفي الآخرة وتدل هذه الأخوة على أن التبذير في معصية الله أو كونهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف في الدنيا وذكر كفران الشيطان لربه ليحذر ولا يطاع لأنه لا يدعو إلى خير كما قال تعالى:
إنما يدعوا حزبه ليكونوا من أصحاب السعير
[فاطر: 6].
{ وإما تعرضن عنهم } قيل
" نزلت في ناس في مزينة استحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا أجد ما أحملكم عليه فبكوا وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان بعد نزول هذه الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل قال: يرزقنا الله وإياكم من فضله "
فالرحمة على هذا الرزق المنتظر * قال الزمخشري: ويجوز أن يكون ابتغاء رحمة من ربك علة لجواب الشرط فهو يتعلق به ويتقدم عليه أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا رحمة لهم وتطييبا لقلوبهم ابتغاء رحمة من ربك أي ابتغ رحمة الله التي ترجوها برحمتك عليهم " انتهى " ما أجازه لا يجوز لأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله لا يجوز في قولك أن تقم فاضرب زيدا ان تقم زيدا فاضرب وهذا منصوص عليه فإن حذفت الفاء في مثل ان تقم تضرب خالدا فمذهب سيبويه والكسائي الجواز فتقول ان تقم خالدا تضرب ومذهب الفراء المنع فإن كان معمول الفعل مرفوعا نحو ان تفعل يفعل زيد فلا يجوز تقديم زيد على أن يكون مرفوعا بتفعل هذه وأجاز سيبويه أن يكون مرفوعا بفعل يفسره يفعل كأنك قلت إن تفعل يفعل زيد يفعل ومنع ذلك الكسائي والفراء.
{ فقل لهم قولا ميسورا } أي مداراة باللسان ويسر يكون لازما ومتعديا فميسور من المتعدي تقول يسر ذلك كذا إذا أعددته لك.
{ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } قيل نزلت في إعطائه صلى الله عليه وسلم قميصه ولم يكن له غيره وبقي عريانا وقيل أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة مثل ذلك والعباس بن مرداس خمسين ثم أكملها مائة فنزلت وهذه استعارة استعير فيها المحسوس للمعقول وذلك أن البخل معنى قائم بالإنسان يمنعه من التصرف في ماله فاستعير له الغل الذي هو ضم اليد إلى العنق فامتنع من تصرف يده وإجالتها حيث يريد وذكر اليد لأن الأخذ بها والإعطاء واستعير بسط اليد لإذهاب المال وذلك لأن قبض اليد يحبس ما فيها وبسطها يذهب ما فيها طابق في الاستعارة بين قبض اليد وبسطها من حيث المعنى لأن جعل اليد مغلولة هو قبضها وغلها أبلغ من القبض وقد طابق بينهما أبو تمام * قال في المعتصم تعود بسط الكف حتى لو أنه * ثناها لقبض لم تطعه أنامله والظاهر أنه مراد بالخطاب أمة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وإلا فهو صلى الله عليه وسلم كان لا يدخر شيئا لغد وكذلك من كان واثقا بالله تعالى حق الوثوق كأبي بكر حيث تصدق بجميع ماله وختم ذلك بقوله: خبيرا وهو العلم بخفيات الأمور وبصيرا أي بمصالح عباده حيث يبسط لقوم ويضيق على قوم.
{ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } تقدم تفسير نظيره صدر هذه الآية والفرق بين خشية إملاق ومن إملاق وبين قوله يرزقهم وإياكم ويرزقكم وإياهم تقدم كل ذلك.
{ ولا تقربوا الزنى } الآية تقدم تفسير نظيرها في الانعام.
{ وسآء سبيلا } أي وبئس طريقة لأنها سبيل يؤدي إلى النار قال ابن عطية: وسبيلا نصب على التمييز التقدير وساء سبيله سبيلا انتهى فإذا كان سبيلا نصبا على التمييز فإنما هو تمييز للمضمر المستكن في ساء وهي الضمير الذي يفسره ما بعده والمخصوص بالذم محذوف وإذا كان كذلك فلا يكون تقديره وساء سبيله سبيلا لأنه إذ ذاك لا يكون فاعله ضميرا يراد به الجنس مقيدا بالتمييز ويبقى التقدير أيضا عاريا عن المخصوص بالذم وتقدم تفسير قوله: ولا تقتلوا النفس في أواخر الانعام ولما نهى عن قتل الأولاد نهي عن قتل النفس فانتقل من الخاص إلى العام والظاهر أن هذه كلها منهيات مستقلة ليست مندرجة تحت قوله تعالى: وقضى ربك كاندراج أن لا تعبدوا وانتصب مظلوما على الحال من الضمير المستكن في قتل والمعنى أنه قتل بغير الحق.
{ فقد جعلنا لوليه } وهو الطالب لدمه شرعا.
{ سلطانا } أي تسلطا وقهرا والظاهر النهي عما كانت الجاهلية تفعله من قتل الجماعة بالواحد وقتل غير القاتل والمثلة والمكافأة الذي يقتل لمن قتله والضمير في أنه عائد على الولي لتناسق الضمائر ونصره إياه بأن وجب له القصاص فلا تسترد على ذلك أو نصره بمعونة السلطان وبإظهار المؤمنين على استبقاء الحق.
{ ولا تقربوا مال اليتيم } تقدم تفسير نظيره في الانعام.
{ وأوفوا بالعهد } عام فيما عقده الإنسان بينه وبين ربه أو بينه وبين آدمي في طاعة.
{ إن العهد كان مسؤولا } ظاهره أن العهد هو المسئول من المعاهد أن يفي له ولا يضيعه وقيل هو على حذف مضاف أي ان ذا العهد كان مسئولا ان لم يف به واسم كان مضمر يعود على العهد أو على ذي العهد مسئولا خبر كان وفيه ضمير المفعول أي مسئولا هو أي عدم الإيفاء به * ثم أمره تعالى بإيفاء الكيل والوزن المستقيم وذلك فيما يرجع إلى المعاملة بالأموال وفي قوله وأوفوا الكيل دلالة على أن الكيل هو على البائع لأنه لا يقال ذلك للمشتري والتقييد بقوله: إذا كلتم أي وقت كيلكم على سبيل التأكيد ولا يتأخر الإيفاء بأن يكيل به بنقصان ما تم يوفيه بعد ذلك فلا يتأخر الإيفاء عن وقت الكيل * قال ابن عطية: واللفظة للمبالغة من القسط انتهى لا يجوز أن يكون من القسط لاختلاف المادتين لأن القسط مادته قسط وذلك مادته قسطس إلا أن اعتقد زيادة السين أخيرا كسين قدموس وضغبوس وعرفاس فيمكن لكنه ليس من مواضع زيادة السين المقيسة.
{ ذلك خير } أي الإيفاء والوزن لأن فيه تطييب النفوس بالاتسام بالعدل والإيصال للحق.
{ وأحسن تأويلا } أي عاقبة إذ لا تبقى على الموفى والوازن تبعة لا في الدنيا ولا في الآخرة وهو من المآل وهو المرجع.
{ ولا تقف ما ليس لك به علم } لما أمر تعالى بثلاثة أشياء بالإيفاء بالعهد والإيفاء بالكيل والوزن بالقسطاس أتبع ذلك بثلاثة أمناه ولا تقف ولا تمش ولا تجعل ومعنى ولا تقف لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل نهي أن يقول ما لا يعلم وأن يعمل بما لا يعلم ويدخل فيه النهي عن اتباع التقليد لأنه اتباع لما لا يعلم صحته وقال الكميت:
فلا أرمي البريء بغير ذنب
ولا أقفوا الحواض أن قفيا
في قوله: ان السمع والبصر والفؤاد دليل على أن العلوم مستفادة من الحواس ومن العقول وجاء هذا الترتيب القرآني في البداءة بالسمع ثم يليه البصر ثم يليه الفؤاد وأولئك إشارة إلى هذه الثلاثة وهم اسم إشارة إلى الجمع المذكر والمؤنث العاقل وغيره وتخيل ابن عطية أن أولئك مختص بالعاقل فقال: وعبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لأنها حواس لها إدراك وجعلها في هذه الآية مسؤولة فهي حالة من يعقل وليس ما تخيله صحيحا بل جميع أسماء الإشارة مثل أولئك يشترك فيه المذكر والمؤنث والعاقل وغير العاقل قال الزمخشري: وعنه في موضع الرفع بالفاعلية أي كل واحد منها كان مسئولا عنه فمسئولا مسند إلى الجار والمجرور كالمغضوب في قوله:
غير المغضوب عليهم
[الفاتحة: 7]، يقال للإنسان لم سمعت ما لا يحل لك سماعه ولم نظرت ما لا يحل لك نظره ولم عزمت على ما لا يحل لك العزيمة عليه. " انتهى " وهذا الذي ذهب إليه من أن عنه في موضع الرفع بالفاعلية ومعنى به أنه مفعول لم يسم فاعله لا يجوز لأن الجار والمجرور وما يقام مقام الفاعل من مفعول به ومصدر وظرف بشروطها جار مجرى الفاعل وكما أن الفاعل لا يجوز تقديمه فكذلك ما جرى مجراه وأقيم مقامه فإذا قلت غضب علي زيد فلا يجوز على زيد غضب بخلاف غضبت على زيد فيجوز على زيد غضبت وقد حكى الاتفاق من النحويين على أنه لا يجوز تقديم الجار والمجرور الذي لا يقام مقام الفاعل على الفعل أبو جعفر النحاس ذكر ذلك في المقنع من تأليفه فليس عنه مسئولا كالمغضوب عليه لتقديم الجار والمجرور في عنه مسئولا وتأخير في المغضوب عليهم قول الزمخشري: ولم نظرت ما لا يحل لك أسقط إلى وهو لا يجوز إلا ان جاء في ضرورة شعر لأن نظر يتعدى بإلى وكان التركيب ولم نظرت إلى ما لا يحل لك كما قال النظر إليه فعداه بإلى ومسئولا فيه ضمير يعود على كل من حيث اللفظ وهذا الضمير هو المفعول الذي لم يسم فاعله وعنه في موضع نصب والضمير في عنه عائد على معنى أولئك أي عن كل واحد مما تقدم وانتصب مرحا على الحال أي مارحا كما تقول جاء زيد ركضا أي راكضا أو على حذف مضاف أي ذا مرح والمرح هو السرور والاغتباط بالراحة والفرح وكأنه ضمن معنى الاختيال لأن غلبة السرور والفرح يصحبها التكبر والاختيال ولذلك علل بقوله:
{ إنك لن تخرق الأرض } أي لن تجعل فيه خرقا بدوسك لها وشدة وطئك وانتصب طولا على التمييز أي لن يبلغ طولك الجبال والظاهر أن ذلك إشارة إلى مصدر النهيين السابقين وهما قفو ما ليس لك به علم والمشي في الأرض مرحا وسيئة خبر كان وأنت ثم قال مكروها فذكر وقرىء: سيئته فسيئة اسم كان ومكروها الخبر ذلك إشارة إلى جميع التكاليف من قوله: لا تجعل مع الله إلها آخر إلى قوله: ولا تمش في الأرض مرحا، وهي أربعة وعشرون نوعا من التكاليف بعضها أمر وبعضها نهي بدأها بقوله: لا تجعل، واختتم الآيات بقوله: ولا تجعل، وقال: مما أوحى لأن ذلك بعض مما أوحي إليه إذ أوحى بتكاليف أخر ومما أوحى خبر عن ذلك ومن الحكمة يجوز أن يكون متعلقا بأوحى وأن يكون بدلا مما وأن يكون حالا من الضمير المنصوب المحذوف العائد على ما وكانت هذه التكاليف حكمة لأن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة والعقول تدل على صحتها وهي شرائع في جميع الشرائع لا تقبل النسخ وعن ابن عباس أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى صلى الله عليه وسلم أولها لا تجعل مع الله إلها آخر قال تعالى:
وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء
[الأعراف: 145] وكرر تعالى النهي عن الشرك ففي النهي الأول فتقعد مذموما مخذولا وفي الثاني فتلقى في جهنم ملوما مدحورا والفرق بين مذموم وملوم أن كونه مذموما أن تذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح منكر وكونه ملوما أن يقال له بعد الفعل وذمه لم فعلت كذا وما حملك عليه وما استفدت منه إلا إلحاق الضرر بنفسك فأول الأمر الذم وآخره اللوم والفرق بين مخذولا ومدحورا أن المخذول هو المتروك إعانته ونصره والمفوض إلى نفسه والمدحور المطرود المبعد على سبيل الإهانة له والاستخفاف به فأول الأمر الخذلان وآخره الطرد مهانا وكان وصف الذم والخذلان يكون في الدنيا ووصف اللوم والدحور يكون في الآخرة ولذلك جاء فتلقى في جهنم والخطاب بالنهي في هذه الآيات كلها للسامع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم * وقال الزمخشري: ولقد جعل الله فاتحتها وخاتمتها النهي عن الشرك لأن التوحيد هو رأس كل حكمة وملاكها ومن عدمه لم تنفعه حكمته وعلومه وان بد فيها الحكماء وحل بيافوخه السماء ما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم وهم عن دين الله أضل من النعم.
{ أفأصفاكم ربكم بالبنين } لما نبه تعالى على فساد طريقة من أثبت لله شريكا ونظيرا أتبعه بفساد طريقة من أثبت لله ولدا والاستفهام معناه الإنكار والتوبيخ والخطاب لمن اعتقد أن الملائكة بنات الله ومعنى أفأصفاكم أآثركم وخصكم وهذا كما قال أله البنات ولكم البنون ألكم الذكر وله الأنثى وهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم ومعنى عظيما مبالغا في المنكر والقبح حيث أضفتم إليه الأولاد ثم حيث فضلتم عليه أنفسكم فجعلتم له ما تكرهون ثم نسبة الملائكة الذين هم من شريف ما خلق إلى الأنوثة ومعنى صرفنا نوعنا من جهة إلى جهة ومن مثال إلى مثال والتصريف لغة صرف الشىء بين جهة إلى جهة ثم صار كتابة عن التبيين وقرىء: ليذكر وأصله من التذكر أدغمت التاء في الذال وقرىء: ليذكروا من الذكر ما يزيدهم أي التصريف إلا نفورا أي بعدا وفرارا عن الحق.
{ قل لو كان معه آلهة } ذكر قولهم أنه تعالى معه آلهة ورد عليهم ومعنى:
{ لابتغوا } أي طلبوا متوصلين إلى ذي العرش إلى مغالبته وإفساد ملكه لأنهم شركاؤه على زعمهم كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض والكاف في كما في موضع نصب أي مثلما وقرىء: تقولون بتاء الخطاب ويقولون بياء الغيبة سبحانه أي تنزيهه وتعالى متعلق به على سبيل الأعمال إذ يصح لسبحان أن يتعلق به عن والتعالي في حقه تعالى هو بالمكانة لا بالمكان وعلو مصدر على غير الصدر إذ لو جاء على تعالى لكان المصدر تعاليا لأن تفاعل بمعنى الفعل المجرد وهو على ونسبة التسبيح للسماوات والأرض ومن فيهن من ملك وإنس وجن حمله بعضهم على النطق بالتسبيح حقيقة وان ما لا حياة فيه ولا نمو يحدث الله له نطقا وهذا هو الظاهر من اللفظ ولذلك جاء ولكن لا تفقهون تسبيحهم * قال ابن عطية ثم أعاد على السماوات والأرض ضمير من يعقل لما أسند إليها فعل الفاعل وهو التسبيح " انتهى " ويعني بالضمير في قوله: ومن فيهن وكأنه تخيل أن هن لا يكون إلا لمن يعقل من المؤنثات وليس كما تخيل بل هن يكون ضمير الجمع المؤنث مطلقا.
[17.44-80]
{ وإن من شيء } ان نافية ومن شىء مبتدأ ومن زائدة وخبره يسبح موجب.
{ إنه كان حليما } حيث لا يعاجلكم بالعقوبة على سوء نظركم.
{ غفورا } إن رجعتم ووحدتم الله.
{ وإذا قرأت القرآن } الآية نزلت في أبي سفيان والنضر وأبي جهل وأم جميل امرأة أبي لهب كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قرأ القرآن فحجب الله أبصارهم إذ قرأ فكانوا يمرون به ولا يرونه * ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر تقرير الألوهية ذكر بعده تقرير النبوة وذكر شيئا من أحوال الكفرة وإنكارها وإنكار المعاد والمعنى وإذا شرعت في القراءة وليس المعنى على الفراغ من القراءة. بل المعنى أنك إذا التبست بقراءة القرآن ولا يراد بالقرآن جميعه بل ما ينطلق عليه الاسم فإنك تقول لمن يقرأ شيئا من القرآن قارىء القرآن والظاهر إقرار مستورا على موضوعه من كونه اسم مفعول أي مستورا عن أعين الكفار فلا يرونه أو مستورا به الرسول عن أعينهم.
{ وجعلنا على قلوبهم أكنة } تقدم تفسيره في الانعام.
{ وإذا ذكرت ربك في القرءان وحده } قيل
" دخل ملأ من قريش على أبي طالب يزورونه فدخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ ومر بالتوحيد ثم قال: يا معشر قريش: قولوا لا إله إلا الله تملكون بها العرب وتدين لكم العجم فولوا ونفروا "
فنزلت قال الزمخشري: وحد يحد وحدا وحده نحو وعد يعد وعدا وعده ووحده من باب رجع عوده على بدئه وأفعله جهدك وطاقتك في أنه مصدر ساد مسد الحال أصله يحد وحده بمعنى واحد انتهى ما ذهب إليه من أن وحده مصدر ساد مسد الحال خلاف مذهب سيبويه ووحده عند سيبويه ليس مصدرا بل إسم وضع موضع المصدر الموضوع موضع الحال فوحده عنده موضوع موضع إيحاد وإيحاد موضوع موضع موحد ووحده وقع بعد فاعل ومفعول نحو ضربت زيدا وحده فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل أي موحدا له بالضرب ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالا من المفعول فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير موحدا له بالذكر وعلى مذهب المبرد يكون التقدير موحدا بالذكر والظاهر أن الآية في حال الفارين عنه وقت قراءته القرآن ومرور بتوحيد الله تعالى والمعنى إذا جاءت في قراءته مواضع التوحيد فر الكفار إنكارا له واستبشاعا لرفض آلهتهم وإطراحها.
{ نحن أعلم بما يستمعون به } أي بالاستخفاف الذي يستمعون به والهزء بك وبالقرآن واللغو كان إذا قرأ صلى الله عليه وسلم قام رجلان من بني عبد الله عن يمينه ورجلان منهم عن يساره فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار وبما يتعلق بأعلم وفيه متعلق بيستمعون لما ضمن يستمعون معنى يستهزئون عدي بالباء وإليك متعلق بيستمعون الثانية وإذا الثانية بدل من الأولى ونجوى على إضمارهم نجوى أي ذوو نجوى وإن في إن يتبعون نافية والجملة في موضع مفعول بيقول وروي أن تناجيهم كان عند عتبة دعا أشراف قريش إلى طعام فدخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله فتناجوا يقولون ساحر مجنون والظاهر أن مسحورا من السحر أي خبل عقله السحر والأمثال هي ما تقدم من قولهم في تناجيهم.
{ فلا يستطيعون سبيلا } إي إلى الإيمان.
{ وقالوا أءذا كنا } هذا استفهام تعجب وإنكار واستبعاد لما ضربوا له الأمثال وقالوا عنه انه مسحور ذكروا ما استدلوا به على زعمهم على اتصافه بما نسبوا إليه واستبعدوا أنه بعدما يصير الإنسان رفاتا يحييه الله ويعيده وقد رد عليهم ذلك بأنه تعالى هو الذي فطرهم بعد العدم الصرف على ما يأتي بشرحه في الآية بعد هذا وجواب إذا محذوف تقديره أئذا كنا عظاما ورفاتا نبعث رفت الشىء كسره يرفته بالكسر والرفات الأجزاء المفتتة من كل شىء مكسر وفعال بناء لهذا المعنى كالحطام والفتات والرضاض والرقاق.
{ قل كونوا حجارة } الآية أي كونوا حجارة يابسة أو حديدا مع أن طباعها القساوة والصلابة لكان قادرا على أن يردكم إلى حال الحياة.
{ أو خلقا مما يكبر في صدوركم } عن قبول الحياة ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه فإنه يحييه.
{ فسينغضون إليك رؤوسهم } أي يحركونها على سبيل التكذيب والاستبعاد.
{ ويقولون متى هو } أي متى العود ولم يقولوا ذلك على سبيل التسليم للعود ولكن حيدة وانتقالا لما لا يسأل عنه لأن ما ثبت إمكانه بدليل العقل لا يسأل عن تعيين وقوعه ولكن أجابهم على سؤالهم يقرب وقوعه إلا بتعيين زمانه لأن ذلك مما استأثر تعالى بعلمه واحتمل أن يكون في:
{ عسى } إضمار أي عسى هو أي العدد واحتمل أن يكون مرفوعها أن.
{ يكون } فتكون فيه تامة ووقع في لفظ ابن عطية عسى أن الساعة قريبة " انتهى ". وهذا تركيب لا يجوز لا تقول عسى أن زيدا قائم بخلاف عسى أن يقوم زيد.
و { قريبا } يحتمل أن يكون خبر كان على أنه يكون العود متصفا بالقرب ويحتمل أن يكون ظرفا أي زمانا قريبا وعلى هذا التقدير يكون:
{ يوم يدعوكم } بدلا من قريبا فالظاهر أن الدعاء حقيقة أي يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال تعالى
يوم يناد المناد من مكان قريب
[ق: 41] الآية ومعنى تستجيبون توافقون الداعي فيما دعاكم إليه والظاهر أن الخطاب للكفار إذ الكلام قيل ذلك معهم فالضمير لهم.
و { بحمده } حال منهم أي ملتبسين بالثناء عليه تعالى.
{ إن لبثتم إلا قليلا } أن هنا نافية وتظنون معلقة عن العمل فالجملة بعده في موضع نصب وقلما ذكر النحويون في أدوات التعليق أن النافية ويظهر أن انتصاب قليلا على أنه نعت كزمان محذوف أي الأزمانا قليلا كقوله:
قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم
[الكهف: 19، المؤمنون: 113] ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لبثنا قليلا ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية.
{ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن } الآية إضافة العباد له تعالى تدل على أن المأمورين هم المؤمنون أمروا أن يقول بعضهم لبعض الكلم التي هي أحسن أي يجل بعضهم بعضا ويعظمه ولا يصدر له منه إلا الكلم الطيب والقول الجميل ونبهوا على أنه قد يكون من الشيطان نزغ لهم فيجتنبوه ذكروا بعداوته القديمة لهم والخطاب بقوله:
{ ربكم } للمؤمنين فالرحمة الانجاء من الكفار وأذاهم والتعذيب تسليطهم عليهم.
{ ومآ أرسلناك عليهم وكيلا } أي حافظا وكفيلا ولما خاطبهم بقوله تعالى: { أعلم بكم } تنقل من الخصوص إلى العموم فقال مخاطبا لرسوله صلى الله عليه وسلم.
{ وربك أعلم بمن في السموت والأرض } ليبين أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع من في السماوات والأرض بأحوالهم ومقاديرهم وما يستأهل كل واحد منهم وبمن متعلق بأعلم كما تعلق بكم قبله بأعلم ولما كان الكفار قد استبعدوا تنبىء البشر إذ فيه تفضيل الأنبياء على غيرهم أخبر تعالى بتفضيل بعض الأنبياء على بعض إشارة إلى أنه لا يستبعد تفضيل الأنبياء على غيرهم إذ وقع التفضيل في هذا الجنس المفضل على الناس والله أعلم بما خص كل واحد من المزايا فهو يفضل من شاء منهم على من شاء إذ هو الحكيم فلا يصدر شىء إلا عن حكمته وفيه إشارة إلى أنه لا يستنكر تفضيل محمد صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء وخص داود بالذكر هنا لأنه تعالى ذكر في الزبور أن محمدا خاتم النبيين وأن أمته خير الأمم وقال تعالى:
ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون
[الأنبياء: 105] وهم محمد وأمته وكانت قريش ترجع إلى اليهود كثيرا فيما يخبرون به مما في كتبهم فنبه على أن زبور داود تضمن البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وفي ذلك رد على مكابري اليهود حيث قالوا لا نبي بعد موسى ولا كتاب بعد التوراة ونص تعالى هنا على إيتاء داود الزبور وإن كان قد آتاه مع ذلك الملك إشارة إلى أن التفضيل المحض وهو بالعلم الذي آتاه والكتاب الذي أنزل عليه كما فضل محمدا صلى الله عليه وسلم بما آتاه من العلم والقرآن الذي خصه به وتقدم تفسير وآتينا داود زبورا في آخر النساء.
{ قل ادعوا الذين زعمتم } الآية قيل نزلت في عبدة الشيطان وهم خزاعة أسلمت الشياطين وبقوا يعبدونهم فلا يستطيعون جواب لقوله ادعو وثم محذوف بعد الفاء تقديره فهم لا يستطيعون والمعنى لا يستطيعون أن يكشفوا عنكم الضر من مرض أو فقر أو عذاب ولا أن يحولوه من واحد إلى آخر ويبدلوه وفي قوله: زعمتهم ضمير محذوف عائد على الذين وهو المفعول الأول والثاني محذوف تقديره زعمتموهم آلهة من دون الله والظاهر أن أولئك إشارة إلى المعبودين وهو مبتدأ والذين صفة له ويدعون صلة للذين والواو للعابدين والضمير العائد على الذين محذوف تقديره يدعونهم آلهة ويبتغون خبر أولئك والوسيلة القرب إلى الله.
{ أيهم أقرب } أجاز الحوفي أن يكون بدلا من الواو في يبتغون وتبعه الزمخشري فعلى هذا يكون أيهم موصولا وأقرب خبر مبتدأ التقدير ويبتغي الذين هم أقرب إلى ربهم الوسيلة وأجاز أيضا أن يكون أيهم أقرب مبتدأ وخبرا على الاستفهام ومقدرا قبله الفعل المعلق وهو ينظرون وقال نحوه ابن عطية والجملة في موضع نصب على إسقاط في ان كان من نظر القلب وإلى ان كان من نظر البصر وإضمار الفعل المعلق يحتاج إلى سماع ويرجون رحمته معطوف على يبتغون.
{ محذورا } يحذره كل أحد.
{ وإن من قرية } إن نافية ومن زائدة في المبتدأ تدل على استغراق الجنس والجملة بعد الا خبر المبتدأ وقيل المراد الخصوص والتقدير وان من قرية ظالمة والظاهر أن جميع القرى تهلك قبل يوم القيامة وإهلاكها تخريبها وفناء أهلها تخريبها وفناء أهلها أو معذبوها أي معذبوا أهلها بالقتل وأنواع العذاب.
{ كان ذلك } إشارة إلى الاهلاك والتعذيب في الكتاب أي في سابق القضاء أو اللوح المحفوظ أي مكتوبا أسطارا.
{ وما منعنآ أن نرسل بالآيات } الآية عن ابن عباس أن أهل مكة سألوا أن تجعل لهم الصفا ذهبا وأن تنحى عنهم الجبال فيزرعون اقترحوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأوحى الله تعالى إن شئت أن أفعل ذلك لهم فإن تأخروا عاجلتهم بالعقوبة وإن شئت استأنيت بهم عسى أن أجتبي منهم مؤمنين فقال بل تستأني بهم يا رب فنزلت واستعير المنع للترك أي ما تركنا إرسال الآيات المقترحة إلا لتكذيب الأولين بها وليس تكذيب الأولين علة في منع إرسال الآيات لقريش فالمعنى إلا اتباعهم طريقة تكذيب الأولين بها فتكذيب الأولين فاعل على حذف مضاف فإذا كذبوا بها كما كذب الأولون عاجلتهم بعذاب الاستئصال وقد اقتضت الحكمة أن لا أستأصلهم.
{ وآتينا ثمود الناقة } ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت إليهم فأهلكوا واحدة وهي ناقة صالح لأن آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم وانتصب مبصرة على الحال وهي قراءة الجمهور وقرىء: مبصرة بالرفع على إضمار مبتدأ أي هي مبصرة وأضاف الابصار إليها على سبيل المجاز لما كانت يبصرها الناس والتقدير آية مبصرة وقرىء: مبصرة بفتح الصاد اسم مفعول يبصرها الناس ويشاهدونها.
{ إلا تخويفا } أي إنذارا بعذاب الدنيا والآخرة.
{ وإذ قلنا لك إن ربك } الآية أحاط بالناس فقيل بعلمه فلا يخرج شىء عن علمه وبقدرته فقدرته غالبة كل شىء.
{ وما جعلنا الرءيا التي أريناك } قال الجمهور: هي رؤيا عين ويقظة وهي ما رأى في ليلة الإسراء من العجائب قال الكفار: إن هذا لعجب نخب إلى بيت المقدس شهرين إقبالا وإدبارا ويقول محمد: جاءه من ليلة وانصرف منه فافتتن بهذا التلبيس قوم من ضعفاء المسلمين فارتدوا وشق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية وقيل في الرؤيا غير ذلك مما هو مذكور في البحر * قال ابن عطية: قالت عائشة: الرؤيا رؤيا منام وهذه الآية تقضي بفساده وذلك أن رؤيا المنام لا فتنة فيها وما كان لأحد أن ينكرها انتهى ليس كما قال ابن عطية فإن رؤيا الأنبياء حق ويخبر النبي بوقوع ذلك لا محالة فيصير إخباره بذلك فتنة لمن يريد الله به ذلك وأريناك صلة للتي والعائد محذوف تقديره أريناكها والشجرة الملعونة في القرآن قيل هي أبو جهل وقيل شجرة الزقوم وقال أبو جهل وغيره هذا محمد يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أنها تنبت الشجر والنار تأكل الشجر وما نعرف الزقوم إلا التمر بالزبد ثم أمر أبو جهل جارية له فأحضر تمرا وزبدا وقال لأصحابه ترقموا فافتتن أيضا بهذه المقالة بعض الضعفاء والظاهر أن الشجرة الملعونة في القرآن هي التي تفرع منها ناس في الملة الإسلامية وهم ظالمون قد أحدثوا في الشريعة ما لا يجوز فيها ويدل عليه قوله تعالى:
ألا لعنة الله على الظالمين
[هود: 18] وسئل الإمام أحمد عن شخص هل نلعنه فقال: هل رأيتني ألعن أحدا ثم قال: ما لي لا ألعن من لعنه الله في كتابه وتلا ألا لعنة الله على الظالمين.
{ فما يزيدهم } أي: التخويف إلا طغيانا كبيرا.
{ وإذ قلنا للملائكة } الآية تقدم الكلام في مثل هذه الآية وانتصب طيبا على أنه حال من الضمير المحذوف العائد على من تقديره لمن خلقته في حال طين وهي حال ماضية إذ لم يكن بعد أن صور آدم إنما كان طينا قبل ذلك فهي حال ماضية محكية * وأجاز بعضهم أن يكون منصوبا على إسقاط حرف الجر تقديره من طين كما صرح به في قوله:
وخلقته من طين
[الأعراف: 12، ص: 76] والكاف في أرأيتك للخطاب وتقدم الكلام عليها في سورة الأنعام * وقال الحوفي أرأيتك بمعنى عرفني وأخبرني وهذا منصوب بأرأيتك والمعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي لم كرمته علي وقد خلقتني من نار وخلقته من طين وحذف هذا لما في الكلام من الدليل عليه وقال نحوا منه الزمخشري * وقال ابن عطية والكاف في أرأيتك حرف خطاب ومبالغة في التنبيه لا موضع لها من الإعراب فهي زائدة ومعنى أرأيت أتأملت ونحوه كان المخاطب بها ينبه المخاطب ليستجمع لما ينصه عليه بعد وقال سيبويه: هي بمعنى أخبرني ومثل بقوله: أرأيتك زيدا أيؤمن هو وقاله الزجاج ولم يمثل وقول سيبويه صحيح حيث يكون بعدها استفهام كمثاله وأما في هذه الآية فهي كما قلت وليست التي ذكر سيبويه " انتهى " * وما ذهب إليه الحوفي والزمخشري في أرأيتك هنا هو الصحيح فلذلك قدر الاستفهام وهو لم كرمته علي فقد انعقد من قوله هذا الذي كرمت علي لم كرمته على جملة من مبتدأ وخبر وصار مثل زيد أيؤمن هو دخلت عليه أرأيتك فعملت في الأول والجملة الاستفهامية في موضع الثاني والمستتر في أرأيت بمعنى أخبرني أن يدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر استفهاما فإن صرح به فذاك واضح وإلا قول وقد أشبعنا الكلام في ذلك في سورة الانعام ومعنى:
{ لئن أخرتن } أي أخرت مماتي وأبقيتني حيا واللام مؤذنة بقسم محذوف وقد جرح هو في مكان آخر بالمقسم به فقال فبعزتك وجواب القسم لأحتنكن تقول العرب احتنك الجراد الأرض أكل نباتها ولذلك فسره بعضهم بمعنى لأستأصلن واستثنى القليل لأنه علم أنه يكون في ذرية آدم صلى الله عليه وسلم من لا يتسلط عليه كما قال { إلا عبادك منهم المخلصين } [الحجر: 40، ص: 83] والأمر بالذهاب ليس على حقيقته من نقيض المجيء والمعنى إذهب لشأنك الذي اخترته وعقبه بذكر ما جره سوء فعله من جزائه وجزاء اتباعه جهنم ولما تقدم اسم غائب وهو فمن تبعك وضمير خطاب غلب الخطاب فقال جزاؤكم والموفور المكمل ووفر متعد * كقوله:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه
يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
ولازم تقول وفر المال يفر وفورا وانتصب جزاء على المصدر والعامل فيه جزاؤكم.
{ واستفزز } معناه استخفف وهو معطوف على فاذهب وعطف عليه ما بعده من الأمر وكلها بمعنى التهديد كقوله:
اعملوا ما شئتم
[فصلت: 40] ومن في:
{ من استطعت } موصولة مفعولة باستفزز ومفعول استطعت محذوف تقديره من استطعت أن تستفزه * والصوت هنا الدعاء إلى معصية الله وقرأ الحسن .
{ وأجلب } بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثيا واجلب من أجلب على قراءة الجمهور رباعيا والظاهر أن إبليس له خيل ورجالة من الجن من جنسه قاله قتادة: وقيل من الآدميين أضيفوا إليه لانخراطهم في طاعته وكونهم أعوانه على غيرهم قاله مجاهد * وقال الزمخشري: فإن قلت ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله قلت هو كلام وارد مورد التمثيل مثلت حاله في تسليط على من يغويه بمغوار وقع على قوم فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم ويقلقهم عن مراكزهم واجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم انتهى وقرأ الجمهور ورجلك بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع واحده راجل كركب وراكب وقرأ حفص بكسر الجيم * والمشاركة في الأموال ما أخذ من غير حقه وما وضع في غير حقه المشاركة في الأولاد ما مجسوه وهودوه ونصروه وصبغوه غير صبغة الإسلام وأما وعده فالوعد الكاذب كوعدهم أن لا بعث * وانتصب غرورا وهو مصدر على أنه نعت لمصدر محذوف أي وعدا غرورا والإضافة إليه تعالى في أن عبادي إضافة تشريف والمعنى المختصين بكونهم عبادي لا يضافون إلى غيري ومعنى وكيلا أي حافظا لعباده الذين ليس له عليهم سلطان من إغواء الشيطان.
{ ربكم الذي يزجي لكم الفلك } الآية لما ذكر تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم وأنها تضر وتنفع وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم وتمكينه من وسوسة ذريته وتسويله ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته تعالى فإنه هو النافع الضار المتصرف في خلقه بما يشاء فذكر إحسانه إليهم بحرا وبرا وإزجاء الفلك سوقها من مكان إلى مكان بالريح اللينة والمجاديف وابتغاء الفضل طلب التجارة والحج فيه والغزو والضر في البحر الخوف من الغرق باضطرابه وعصف الريح ومعنى ضل ذهب من أوهامكم من تدعونه إلها فيشفع أو ينفع وجاءت صفة كفور دلالة على المبالغة ثم لم يخاطبهم بذلك بل أسند ذلك إلى الإنسان لطفا بهم وإحالة على الجنس إذا كل واحد لا يكاد يؤدي شكر نعم الله ولما كان الخسف تغييبا في التراب قال جانب وبكم حال أي يخسف جانب البر مصحوبا بكم والحاصب الحجارة ثم لا تجدوا عند حلول أحد هذين بكم من تكلون أموركم إليه وأم في أم أمنتم منقطعة فتتقدر ببل والهمزة أي بل أأمنتم والضمير في فيه عائد على البحر وانتصب تارة على الطرف أي وقتا غير الوقت الأول.
{ فيرسل عليكم قاصفا من الريح } والقاصف الذي يكسر كل ما يلقى ويقال قصف الشجر يقصفه قصفا كسره * وقال أبو تمام:
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت
عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم
{ بما كفرتم } سببية وما مصدرية أي بسبب كفركم السابق منكم والضمير في به عائد على المصدر الدال عليه فيغرقكم إذ هو أقرب مذكور وهو نتيجة الإرسال * والتبيع قال ابن عباس النصير وقال الفراء طالب الثأر.
{ ولقد كرمنا بني ءادم } الآية لما ذكر تعالى ما امتن به عليهم من إزجاء الفلك في البحر ومن تنجيتهم من الغرق تمم ذكر المنة بذكر تكريمهم ورزقهم وتفضيلهم وكرم تعدي بالتضعيف من كرم أي جعلناهم ذوي كرم بمعنى الشرف والمحاسن الجمة وحملناهم في البر والبحر * وقال ابن عباس: في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل وفي البحر على السفن * والطيبات كما تقدم الحلال أو المستلذ * ومعنى على كثير أبهم في قوله على كثير ولم يعين الكثير الذي فضل بني آدم عليه ولما ذكر تعالى أنواعا من كرامات الإنسان في الدنيا ذكر شيئا من أحوال الآخرة فقال:
{ يوم ندعوا كل أناس بإمامهم } والعامل في يوم أذكر على أنه مفعول بإمامهم والظاهر أنه الإمام الذي يأتم به أمته من نبي أو كتاب أو شريعة.
{ فأولئك } جاء جمعا على معنى من إذ قد حمل على اللفظ أولا فأفرد في قوله: أوتي كتابه بيمينه والكتاب ما كتب له فيه من خير أو شر.
{ ولا يظلمون فتيلا } أي لا ينقصون أدنى شىء وتقدم شرح الفتيل في سورة النساء والظاهر أن الإشارة بقوله في هذه إلى الدنيا قاله ابن عباس وغيره أي من كان في هذه الدار أعمى عن النظر في آيات الله وعبره والإيمان بأنبيائه فهو في الآخرة أعمى إما أن يكون على حذف مضاف أي في شأن الآخرة وإما أن يكون فهو يوم القيامة أعمى على معنى أنه خير أن لا يتوجه له صواب ولا يلوح له نجح.
{ وإن كادوا ليفتنونك } الضمير في وإن كادوا عائد على الكفار ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما عدد نعمه على بني آدم تمم ذكر حالهم في الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة ومن عمل أهل الشقاوة أتبع ذلك بما يهم به الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على سيد أهل السعادة المتطوع له بالعصمة ومعنى ليفتنونك ليخدعونك وذلك في ظنهم لا أنهم قاربوا ذلك إذ هو معصوم صلى الله عليه وسلم أن يقاربوا فتنته عما أوحي إليه وتلك المقاربة في زعمهم سببها رجاؤهم أن يفتري على الله غير ما أوحي إليه من تبديل الوعد وعيدا والوعيد وعدا وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزله عليه وان هذه هي المخففة من الثقيلة وليتها الجملة الفعلية وهي كادوا لأنها من أفعال المقاربة وإنما تدخل على مذهب البصريين من الأفعال على النواسخ التي للإثبات على ما تقرر في علم النحو واللام في ليفتنونك هي الفارقة بين أن هذه وان النافية وإذا حرف جواب وجزاء ويقدر قسم هنا يكون لاتخذوك ولا تخذوك في معنى لا يتخذونك.
{ ولولا أن ثبتناك } جواب لولا يقتضي إذا كان مثبتا امتناعه لوجود ما قبله فمقاربة الركون لم يقع منه صلى الله عليه وسلم فضلا عن الركون والمانع من ذلك هو وجود تثبيت الله تعالى له وانتصب شيئا على المصدر وجواب لولا قوله: لقد كدت ومثله قول الشاعر:
لولا الأمير ولولا فضل طاعته
لقد شربت وما أحلى من العسل
وأكثر ما يجيء باللام وحدها وبعدها الفعل الماضي المثبت كقوله: لمسكم.
{ إذا لأذقناك } عذاب الآخرة وعذاب القبر مضاعفين.
{ وإن كادوا ليستفزونك }
" روي أنه لما نزلت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين "
والضمير في وان كادوا ليهود المدينة وناحيتها كحيي ابن أخطب وغيره، وذلك أنهم ذهبوا إلى المكر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ان هذه ليست بأرض الأنبياء وإنما أرض الأنبياء الشام، ولكنك تخاف الروم فإن كنت نبيا فاخرج إليها فإن الله سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء، فنزلت وأخبر تعالى أنه لو خرج لم يبثهم بعد إلا قليلا * وانتصب سنة على المصدر المؤكد أي سن الله ذلك سنة والمعنى أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن يهلكهم بعد إخراجه ويستأصلهم ولا يقيمون بعده إلا قليلا كقوله: في قصة شعيب وقوله:
أخرجوا آل لوط
[النمل: 56] وقوله:
لتكونن من المخرجين
[الشعراء: 167]، وقوله: وإذا لا يلبثون نظير قوله:
فإذا لا يؤتون الناس نقيرا
[النساء: 53].
{ أقم الصلاة لدلوك الشمس } الآية مناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر كيدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانوا يرومون به أمره تعالى أن يقبل على شأنه من عبادة ربه وأن لا يشغل قلبه بهم وكان قد تقدم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان وهي الصلاة وتقدم الكلام في إقامة الصلاة والمواجه بالأمر الرسول صلى الله عليه وسلم قال الواحدي اللام وللسبب لأنها إنما تجب بزوال الشمس فيجب على المصلي إقامتها لأجل دلوك الشمس وقال ابن عطية هذه الآية بإجماع المفسرين إشارة إلى الصلوات الخمس، وقال ابن عباس وغيره: دلوك الشمس زوالها، والإشارة إلى الظهر والعصر وغسق الليل إشارة إلى المغرب والعشاء وقرآن الفجر أريد به صلاة الصبح فالآية على هذا تعم جميع الصلوات كلها وأعاد قرآن الفجر في قوله: إن قرآن الفجر ولم يأت مضمرا فيكون انه على سبيل التعظيم والتنويه بقرآن الفجر ومعنى مشهودا أي تشهده الملائكة حفظة الليل وحفظة النهار كما جاء في الحديث أنهم يتعاقبون ويجتمعون في صلاة الصبح وصلاة العصر ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة للوقت المذكور ولم يدل أمره تعالى إياه على اختصامه بذلك دون أمته ذكر ما اختصه به تعالى وأوجبه عليه من قيام الليل وهو في أمته تطوع فقال: ومن الليل فتهجد به أي بالقرآن نافلة زيادة مخصوصا بها أنت وتهجد هنا تفعل بمعنى الإزالة والترك لقولهم تأثم وتحنث ترك التأثم والتحنث ومنه تحنث بغار حراء أي ترك التحنث وشرح بلازمه وهو التعبد ومن للتبعيض وعسى مدلولها في المحبوبات في الترجي والأجود أن هذه الترجية والأطماع بمعنى الوجوب من الله تعالى وهو متعلق من حيث المعنى بقوله فتهجد وعسى هنا تامة وفاعلها أن يبعثك وربك فاعل بيبعثك * ومقاما الظاهر أنه معمول ليبعثك وهو منصوب على الظرف أي في مقام محمود ولا يجوز أن يكون ربك اسم عسى وأن يبعثك في موضع الخبر لأنه يلزم من ذلك الفصل بين العامل الذي هو أن يبعثك وبين المعمول الذي هو مقاما بأجنبي وهو ربك الذي هو اسم عسى وعن أبي هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال:
" المقام المحمود هو الذي أشفع فيه لأمتي ".
{ وقل رب أدخلني } الآية لما أمره تعالى بإقامة الصلاة وبالتهجد ووعده ببعثه مقاما محمودا وذلك في الآخرة أمره أن يدعوه بما يشمل أموره الدنيوية والأخروية فقال: وقل رب الآية والظاهر أنه عام في جميع أموره ومصادره دنيوية وأخرويه والصدق لفظ يقتضي رفع المذام واستيعاب المدح كما تقول رجل صدق إذ هو مقابل رجل سوء * وسلطانا أي حجة بينة ونصيرا مبالغة في ناصر.
[17.81-99]
{ وقل جآء الحق } الحق القرآن والباطل الشيطان وهذه الآية نزلت بمكة ثم ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستشهد بها يوم فتح مكة وقت طعنه الأصنام وسقوطها لطعنه إياها بالمخصرة حسبما ذكر في السير.
و { زهوقا } صفة مبالغة في اضمحلاله وعدم ثبوته في وقت ما ومن في من القرآن لابتداء الغاية * وقال ابن عطية والزمخشري: من في القرآن لبيان الجنس ووافقهما أبو البقاء وقد ذكرنا أن من التي لبيان الجنس لا تتقدم على المبهم الذي تبينه وإنما تكون متأخرة عنه وشفاؤه كونه مزيلا للريب كاشفا عن غطاء القلب لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله المقررة لدينه فصار لعلات القلوب كالشفاء لعلات الأجسام وخسارا للظالمين وهم الذين يضعون الشىء في غير موضعه هو بإعراضهم عنه وعدم تدبره بخلاف المؤمن فإنه يزداد بالنظر فيه والتدبر في معانيه إيمانا.
{ وإذآ أنعمنا على الإنسان } الآية لما ذكر تعالى توزيع ما أنزل من القرآن شفاء للمؤمن وخسارا للظالم عرض بما أنعم عليه به من شرائع الإسلام ومع ذلك أعرض عنه وبعد بجانبه اشمئزازا له وقرىء نأي من النأي وهو البعد وقرىء: وناء نهض ومعنى يؤسا قنوطا من أن ينعم الله عليه والظاهر أن المراد بالإنسان هنا ليس واحدا بعينه بل المراد به الجنس ونسب تعالى الانعام لذاته والمسيس للشر ويؤس صفة مبالغة من يئس.
{ قل كل يعمل على شاكلته } كل إذا كان غير مضاف فتارة يراعي لفظه فيفرد الضمير العائد عليه كما في قوله تعالى:
كل في فلك يسبحون
[الأنبياء: 33] شاكلته أي على مذهبه الذي يشاكل حاله في الهدى والضلالة من قولهم طريق ذو شواكل وهي الطرق التي تشعبت منه.
{ ويسألونك عن الروح } في الصحيح من حديث ابن مسعود أنه
" قال أني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث بالمدينة وهو متكىء على عسيب فمر بنا ناس من اليهود فقالوا: سلوا عن الروح فقال بعضهم لا تسألوه فسيفتيكم بما تكرهون فأتاه نفر منهم فقالوا يا أبا القاسم ما تقول في الروح فسكت ثم ماج فأمسكت بيدي على جبهته فعرفت أنه نزل عليه الوحي فنزل عليه ويسئلونك عن الروح "
الآية فعلى هذا يكون الضمير في ويسئلونك لليهود ويكون الخطاب لهم في قوله: وما أوتيتم الآية والروح على قول الجمهور هي الروح التي في الحيوان وهم اسم جنس وهذا هو الظاهر ومعنى من أمر ربي أي فعل ربي كونها بأمره وفي ذلك دلالة على حدوثها والأمر بمعنى الفعل وارد قال تعالى:
ومآ أمر فرعون برشيد
[هود: 97] أي فعل فرعون والظاهر أنهم سألوه عن ماهيتها وحقيقتها وقيل عن كيفية مداخلتها الجسد الحيواني وابتعاثها فيه وصورة ملابستها له وكلاهما مشكل لا يعلمه إلا الله * وقد رأيت كتابا يترجم بالنفخ والتسوية لبعض الفقهاء المتصوفة يذكر فيه أن الجواب في قوله: قل الروح من أمر ربي إنما هو للعوام وأما الخواص فهم عنده يعرفون الروح وأجمع علماء الإسلام على أن الروح مخلوقة وذهب كفرة الفلاسفة وكثير ممن ينتمي إلى الإسلام إلى أنها قديمة واختلاف الناس في الروح بلغ إلى سبعين قولا وكذلك اختلفوا هل الروح النفس أم شىء غيرها.
{ ولئن شئنا } اللام مؤذنة بقسم محذوف ولنذهبن جوابه.
{ وكيلا } أي حافظا.
{ إلا رحمة من ربك } استثناء منقطع أي ولكن رحمة من ربك غير مذهوب به وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا.
{ قل لئن اجتمعت الإنس والجن } الآية لما ذكر تعالى إنعامه على نبيه بالنبوة وبإنزال وحيه عليه وباهر قدرته ذكر ما منحه تعالى من الدليل على نبوته الباقي بقاء الدهر وهو القرآن الذي عجز العالم عن الإتيان بمثله وأنه من أكبر النعم عليه والفضل الذي أبقي له ذكرا إلى آخر الدهر وإذا كان فصحاء اللسان الذي قيل وبلغاتهم عجزوا عن الإتيان بسورة واحدة مثله فلأن تكونوا أنتم أعجز عن أن تأتوا بمثل جميعه ولو تعاون الثقلان عليه لا يأتون بمثله ولما كانت الجن تفعل أفعالا مستغربة كما حكى الله عنهم في قصة سليمان عليه السلام أدرجوا مع الإنس في التعجيز ليكون ذلك أبلغ في التعجيز ولا يأتون جواب القسم المحذوف واللام الموطئة في لئن وهي الداخلة على الشرط كقوله تعالى:
لئن أخرجوا
[الحشر: 12] الآية.
{ ولقد صرفنا } تقدم نظيره والظاهر أن المراد بالمثل هو القول الغريب السائر في الآفاق والقرآن مثل من الأمثال التي ضربها الله * قال الزمخشري: ويجوز أن تكون مؤكدة زائدة التقدير ولقد صرفنا كل مثل " انتهى " يعني فيكون مفعول صرفنا كل مثل وهذا التخريج هو على مذهب الكوفيين والأخفش لا على مذهب جمهور البصريين والظاهر أن مفعول صرفنا محذوف تقديره البينات والعبر ومن لابتداء الغاية وروي
" أن صناديد قريش اجتمعوا وسيروا للنبي صلى الله عليه وسلم فلما جاء إليهم جرت بينهم محاوروات في ترك دينهم وطلب منهم أن يوحدوا ويعبدوا الله فأرغبوه بالمال والرئاسة فأبى وقال: لست أطلب ذلك فاقترحوا عليه الآيات ألست التي ذكرها الله هنا "
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما تحداهم بأن يأتوا بمثل القرآن فتبين عجزهم عن ذلك وإعجازه وانضمت إليه معجزات أخر وبينات واضحة فلزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتعللون باقتراح آيات فعل الحائر المبهوت المحجوج فقالوا ما حكاه الله عنهم ومعنى من الأرض أي أرض مكة.
{ ينبوعا } مشتق من النبع ووزنه يفعول كيعفور.
{ فتفجر الأنهار } التي أصلها الينبوع ثم اقترحوا بإيتاء جنة من نخيل وعنب وكان الغالب على بلادهم ذلك.
{ خلالها } أي وسط الجنة وقولهم: كما زعمت إشارة إلى قوله تعالى:
إن نشأ نخسف بهم الأرض أو نسقط عليهم كسفا من السمآء
[سبأ: 9].
{ قبيلا } معاينة والزخرف الزينة ويطلق على الذهب.
{ أو ترقى } أي تصعد في السماء على حذف مضاف إي إلى معارج والظاهر أن السماء هنا هي المظلة وما اكتفوا بالتغيبة بالرقي في السماء حتى غيوا ذلك بأن ينزل عليهم كتابا يقرؤنه ولما تضمن اقتراحهم ما هو مستحيل في حق الله وهو أن يأتي بالله والملائكة قبيلا أمره تعالى بالتسبيح والتنزيه عما لا يليق به ومن أن يقترح عليه ما ذكرتم فقال:
{ قل سبحان ربي هل كنت } أي ما كنت إلا بشرا رسولا من الله إليكم لا مقترحا عليه ما ذكرتم من الآيات.
{ وما منع الناس أن يؤمنوا } الآية الظاهر أن قوله وما منع الناس اخبار من الله تعالى عن السبب الضعيف الذي منعهم من الإيمان إذ ظهر لهم المعجز وهو استبعاد أن يبعث الله رسولا إلى الخلق واحدا منهم ولم يكن ملكا وأن يؤمنوا في موضع نصب وإن قالوا في موضع رفع وإذ ظرف العامل فيه منع والناس كفار قريش القائلون تلك المقالات السابقة والهدى القرآن ومن جاء به وليس المراد مجرد القول بل قولهم الناشىء عن اعتقادهم والهمزة في ابعث للإنكار ورسولا ظاهره أنه نعت * وقوله:
{ قل لو كان } الآية يمشون يتصرفون فيها بالمشي وليس لهم صعود إلى السماء فيسمعون من أهلها ويعلمون ما يجب علمه بل هم مقيمون في الأرض يلزمهم ما يلزم المكلفين من عبادات مخصوصة وأحكام لا يدرك تفصيلها بالعقل.
{ لنزلنا عليهم } من جنسهم من يعلمهم ذلك ويلقيه إليهم ولما دعاهم صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان وتحدى على صدق نبوته بالمعجز الموافق لدعواه أمره تعالى أن يعلمهم بأنه تعالى هو الشهيد بينه وبينهم على تبليغه وما قام به من أعباء الرسالة وعدم قبولهم وكفرهم وما اقترحوا عليه من الآيات على سبيل العناد وأردف ذلك بما فيه تهديد وهو قوله: انه كان بعباده خبيرا بخفيات أسرارهم بصيرا مطلعا على ما يظهر من أفعالهم وأقوالهم.
{ ومن يهد الله } إخبار من الله وليس مندرجا تحت قل لقوله ونحشرهم ومن مفعول يهدي فهو ضمير يعود على معنى من لا على لفظها والمهتدي مطاوع لهدى يقول هداه فاهتدى كما تقول عصمته فاعتصم ومن مفعول بيضلل لهم ضمير يعود على معنى من لا على لفظها والظاهر أن قول عميا وبكما وصما هو حقيقة وذلك عند قيامهم من قبورهم لم يرد الله إليهم أبصارهم وسمعهم ونطقهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله عنهم كما تقدم الكلام عليه في أوائل البقرة.
و { خبت } معناه سكن لهبها.
{ سعيرا } إيقادا ذلك إشارة إلى ذلك العشر والعذاب.
{ وقالوا أءذا كنا } تقدم الكلام عليه في أثناء السورة والرؤية رؤية القلب وهي العلم ومعنى مثلهم من الإنس وعطف قوله: وجعل لهم على قوله: أولم يروا لأنه استفهام تضمن التقرير والمعنى قد علموا بدليل العقل كيت وكيت.
{ وجعل لهم } أي للعالمين ذلك.
{ أجلا لا ريب فيه } وهو الموت.
{ فأبى الظالمون } وهم الواضعون الشىء غير موضعه على سبيل الاعتداء.
{ إلا كفورا } أي جحودا لما أتى به الصادق صلى الله عليه وسلم من توحيد الله وإفراده بالعبادة وبعثهم يوم القيامة إلى الجزاء.
[17.100-111]
{ قل لو أنتم تملكون خزآئن } الآية * مناسبتها أن المشركين قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا وطلبوا اجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكره أقواتهم وتتسع عليهم فبين تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله لبقوا على بخلهم وشحهم قل لو أنتم تملكون فاعل بفعل محذوف يفسره ما بعده تقديره تملكون فحذف تملك وانفصل الضمير الذي هو الواو فصار أنتم * كقوله وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها * فهو فاعل وكان تقديره وإن لم يحمل ففيه ضمير مستكن فلما حذف الفعل وانفصل الضمير فصار هو وخرج ذلك أبو الحسن علي بن فضال المجاشقي على إضمار كان وقال أبو الحسن بن الصائغ حذف كان فانفصل اسمها والتقدير قل لو كنتم وقال البصريون يصرحون بامتناع لو زيد قام لأكرمته على الفصيح ويجيزونه شاذا كقولهم: * لو ذات سوار لطمتني * وهو عندهم على فعل مضمر وجواب لولا مسكتم وخشية مفعول من أجله وقتورا مبالغة في التقتير ولما حكى الله تعالى عن قريش ما حكى من تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول صلى الله عليه وسلم سلاه الله تعالى بما جرى لموسى مع فرعون ومع قومه من قولهم أرنا الله جهرة الآية.
و { تسع آيات } تقدم الكلام عليه في الاعراف والعامل في إذ محذوف تقديره.
{ فسئل } عن حديث أو قصة.
{ بني إسرائيل إذ جآءهم } وقال الزمخشري: اذكر أو يخبرونك انتهى وإذ ظرف لما مضى لا يصح إعمال واحد منهما فيه وقرأ الجمهور لقد علمت بفتح التاء على خطاب موسى لفرعون وتبكيته في قوله عنه انه مسحور أي قد علمت أن ما جئت به ليس من باب السحر ولا إني خدعت في عقلي بل علمت أنه ما أنزلها إلا الله وما أحس ما جاء به من إسناد إنزالها إلى لفظ رب السماوات والأرض إن هو لما سأله فرعون في أو محاورته فقال له: وما رب العالمين؟ قال له: رب السماوات والأرض ينبهه على نقصه وأنه لا تصرف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى استحالة فبكته وأعلمه أنه يعلم آيات الله ومن أنزلها ولكنه مكابر ومعاند كقوله تعالى :
وجحدوا بها
[النمل: 14] الآية وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذا وهو في الوضوح بحيث يعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه وقرىء: لقد علمت بتاء المتكلم وهو ضمير موسى صلى الله عليه وسلم وما أنزل جملة في موضع نصب علق عنها علمت ومعنى بصائر دلالات على وحدانية الله تعالى وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم والإشارة بهؤلاء إلى الآيات التسع وانتصب بصائر على الحال والعامل فيه محذوف تقديره أنزلها بصائر وقابل موسى صلى الله عليه وسلم بظن فرعون وشتان ما بين الظنين ظن فرعون باطل واستفزازه إياهم هو استخفافه لموسى ولقومه بأن يقلعهم من أرض مصر بقتل أو جلاء فماق به مكره وأغرقه الله وقبطه والضمير في بعده عائد على فرعون أي من بعد إعراقه والأرض المأمور بسكناها أرض الشام ووعد الآخرة قيام الساعة وانتصب.
{ لفيفا } على الحال أي منضما بعضكم إلى بعض.
{ وبالحق أنزلناه } الآية هو مردود على قوله: قل لئن اجتمعت الإنس والجن وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها تأخذ في شىء وتستطرد منه إلى شىء آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولا وانتصب.
{ مبشرا ونذيرا } على الحال أي مبشرا لهم بالجنة ومنذرا من النار وانتصب:
{ وقرآنا } على إضمار فعل يفسره فرقناه أي وفرقنا قرآنا فرقناه فهو من باب الاشتغال وحسن النصب ورجحه على الرفع كونه عطف على جملة فعلية وهي قوله: وما أرسلناك ولا بد من تقدير صفة لقوله: وقرآنا حتى يصح كونه كان يجوز فيه الابتداء لأنه نكرة لا مسوغ لها في الظاهر للإبتداء بها والتقدير وقرآنا أي قرآنا عظيما جليلا.
{ على مكث } أي تطاول في المدة شيئا بعد شىء.
{ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا } يتضمن الإعراض عنهم والاحتقار لهم وعدم الاكتراث بهم فإن خيرا منهم العلماء الذين قرؤا الكتاب وعلموا الشرائع آمنوا به وصدقوه وثبت عندهم أنه النبي الموعود به في كتبهم فإذا تلى عليهم خروا سجدا وسبحوا الله تعظيما لوعده ولبشارته ببعثه محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه وهو المراد بالوعد في قوله: إن كان وعد ربنا لمفعولا فالظاهر أن الضمير في قوله: إذا تتلى عليهم عائد على القرآن والخرور السقوط بسرعة وانتصب سجدا على الحال.
{ سبحان ربنآ } نزهوا الله عما نسبه إليه كفار قريش وغيرهم وإن هنا المخففة من الثقيلة واللام هي الفارقة والمعنى إن ما وعد به من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن عليه قد فعله وأنجزه وتكرر الخرور لاختلاف حالتي السجود والبكاء وجاء التعبير عن الحالة الأولى بالاسم وعن الثانية بالفعل لأن الفعل مشعر بالتجدد وذلك أن البكاء ناشىء عن التفكر فهم دائما في فكرة وتذكر فناسب ذكر الفعل إذ هو مشعر بالتجدد ولما كانت حالة السجود ليست تتجدد في كل وقت عبر فيها بالاسم ويزيدهم أي ما تلى عليهم خشوعا أي تواضعا.
{ قل ادعوا الله } الآية قال ابن عباس:
" تهجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة بمكة فجعل يقول في سجوده يا رحمن يا رحيم فقال المشركون: كان محمد يدعو إلها واحدا فهو الآن يدعو إلهين اثنين الله والرحمن ما الرحمن إلا رحمان اليمامة يعنون مسيلمة "
فنزلت والله والرحمن إسمان لذات واحد وأيا شرطية وما زائدة وتدعو فعل الشرط حذفت منه النون وفله جواب الشرط والمعنى أي الاسمين وهو لفظ الله والرحمن فله لكون الاسمين لذات واحد الأسماء الحسنى والصلاة هنا الدعاء قاله ابن عباس ومعلوم أن الجهر والمخافتة معتقبان على الصوت لا غير والصلاة أفعال وأركان وكان صلى الله عليه وسلم يرفع صوته بقراءته فيسب المشركون ويلغون فأمر بأن يخفض من صوته حتى لا يسمع المشركون وأن لا يخافت حتى يسمعه من وراءه من المؤمنين.
{ وابتغ بين ذلك } أي بين الجهر والمخافتة.
{ سبيلا } وسطا وتقدم الكلام على بين ذلك في البقرة ولما ذكر تعالى أنه واحد وإن تعددت أسماؤه أمره تعالى أن يحمده على ما أنعم به عليه مما آتاه من شرف الرسالة والاصطفاء ووصف نفسه أنه لم يتخذ ولدا فيعتقد تكثره بالنوع وكان ذلك ردا على اليهود والنصارى والعرب الذين عبدوا الملائكة واعتقدوا أنهم بنات الله ونفى أولا الولد خصوصا ثم نفى الشريك في ملكه وهو أعم من أن ينسب إليه ولد فيشركه في ملكه أو غيره ولما نفى الولد والشريك نفى الولي وهو الناصر وهو أعم من أن يكون ولدا أو شريكا أو غير ذلك ولما كان اتخاذ الولد قد يكون للانتصار وللاعتزاز به والاحتماء من الذل وقد يكون التفضل والرحمة لمن والى من عباده الصالحين كان النفي لمن ينتصر به من أجل المذلة إذ كان مورد الولاية يحتمل هذين الوجهين فنفى الجهة التي يكون لأجل النقص بخلاف الولد والشريك فإنهما نفيا على الإطلاق.
{ وكبره تكبيرا } التكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال وأكد بالمصدر تحقيقا له وإبلاغا في معناه وابتدئت هذه السورة بتنزيه الله سبحانه واختتمت به وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علمه هذه الآية وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية.
[18 - سورة الكهف]
[18.1-24]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله الذي أنزل } الآية هذه السورة مكية وقيل فيها آيات مدنية وسبب نزولها
" أن قريشا بعثت النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار اليهود بالمدينة فقالوا لهما سلاهم عن محمد وصفا لهم صفته فإنهم أهل الكتاب الأول وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء فخرجا حتى أتيا المدينة فسألاهم فقالت اليهود سلوه عن ثلاث فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل وإن لم يفعل فالرجل متقول فرؤا فيه رأيكم سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنه كان لهم أمر عجيب وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان بناؤه وسلوه عن الروح فأقبل النضر وعقبة إلى مكة فسألاه فقال غدا أخبركم ولم يقل إن شاء الله فاستمسك الوحي عنه خمسة عشر يوما فارجف به كفار قريش وقالوا ان محمد تركه رئيه الذي كان يأتيه من الجن وقال بعضهم: وقد عجز عن أكاذيبه فشق ذلك عليه فلما انقضى ذلك جاءه الوحي بجواب الأسئلة وغيرها "
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه لما قال وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ذكر المؤمنين أنه يزيدهم خشوعا وأنه تعالى أمره بالحمد له وأنه لم يتخذ ولدا وأمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج القيم على كل الكتب المنذر من اتخذ ولدا المبشر المؤمنين بالأجر الحسن ثم استطرد إلى حديث كفار قريش والتفت من الخطاب في قوله: وكبره تكبيرا إلى الغيبة في قوله: على عبده لما في عبده من الإضافة المقتضية تشريفه ولم يجىء التركيب أنزل عليك والكتاب القرآن * قال الزمخشري: ولم يجعل له معطوفة على أنزل فهي داخلة في الصلة ورتب على هذا أن الأحسن في انتصاب قيما أن ينتصب بفعل مضمر ولا يجعل حالا من الكتاب لما يلزم من ذلك وهو الفصل بين الحال وذى الحال ببعض الصلة وقدره جعله قيما وقال ابن عطية قيما نصب على الحال من الكتاب فهو بمعنى التقديم مؤخر في اللفظ أي أنزل الكتاب قيما واعترض بين الحال وذي الحال قوله ولم يجعل له عوجا أما إذا قلنا بأن الجملة المنفية اعتراض فهو جائز ويفصل بجمل الاعتراض بين الحال وصاحبها والصحيح أنهما حالان من الكتاب الأولى جملة والثانية مفردة وكثير من أصحابنا على منع ذلك وفي ذلك أعاريب أخر ذكرت في البحر والعوج في المعاني كالعوج في الأشخاص ونكر عوجا ليعم جميع أنواعه لأنها نكرة في سياق النفي والمعنى أنه في غاية الاستقامة لا تناقض ولا اختلاف في معانيه ولا حواشيه ولا عي في تراكيبه ومبانيه وقيما بمصالح العباد وشرائع دينهم وأصدر معائشهم ومعادهم ولذلك جاء بعده لينذر وليبشر فيجوز أن يتعلقا بقوله قيما ويجوز أن يتعلقا بأنزل والبأس الشديد عذاب الآخرة ويحتمل أن يندرج فيه ما يلحقهم من عذاب الدنيا من لدنه تقدم الكلام في أول هود والأجر الحسن الجنة ولما كنى عن الجنة بقوله أجرا حسنا قال ماكثين فيه، أي مقيمين فجعله ظرفا لإقامتهم ولما كان المكث لا يقتضي التأبيد قال أبدا وهو ظرف دال على زمن متناه وانتصب ماكثين على الحال وذو الحال هو الضمير في لهم والذين نسبوا الولد إلى الله تعالى بعض اليهود في عزير وبعض النصارى في المسيح وبعض العرب في الملائكة والضمير في به الظاهر أنه عائد على الولد الذي ادعوه.
{ ما لهم به من علم } أي ما لهم بقولهم هذا من علم فالجملة في موضع الحال أي قالوا جاهلين من غير فكر ولا روية ولا نظر فيما يجوز ويمتنع * وقرأ الجمهور:
{ كلمة } بالنصب فالظاهر انتصابها على التمييز وفاعل كبرت مضمر يعود على المقالة المفهومة من قوله: قالوا اتخذ الله ولدا وفي ذلك معنى التعجب أي ما أكبرها كلمة والجملة بعدها صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على النطق بها وإخراجها من أفواههم فإن كثيرا مما يشوش به الشيطان في القلوب ويحدث به النفس لا يمكن أن يتفوه به بل يصرف عنه الكفر فكيف بمثل هذا المنكر وسميت كلمة كما يسمون القصيدة كلمة وان نافية أي ما يقولون وكذبا نعت لمصدر محذوف أي قولا كذبا.
{ فلعلك باخع نفسك } لعل للترجي في المحبوب وللإشفاق في المحذور * وباخع قال الفراء بخع يبخع بخعا وبخوعا أهلك من شدة الموجدة وأصله الجهد والظاهر أنها هنا للإشفاق أشفق أن يبخع الرسول نفسه عليهم لكونهم لم يؤمنوا وقوله. على آثارهم استعارة فصيحة من حيث لهم إدبار وتباعد عن الإيمان وإعراض عن الشرع وكأنهم من فرط إدبارهم قد بعدوا في إدبارهم بحزن عليهم ومعنى على آثارهم من بعدهم أي بعد يأسك من إيمانهم أو بعد موتهم على الكفر ويقال: مات فلان على أثر فلان أي بعده والإشارة بهذا الحديث إلى القرآن، قال الله تعالى:
نزل أحسن الحديث كتابا متشابها
[الزمر: 23] وأسفا مفعول من أجله وأصله حزنا وارتباطا قوله:
{ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها } بما قبلها هو على سبيل التسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه تعالى أخبر أنه خلق ما على الأرض من الزينة للابتلاء والاختبار أي الناس أحسن عملا وليسوا على نمط واحد في الاستقامة واتباع الرسل لا بد أن يكون فيهم من هو أحسن عملا ومن هو أسوأ عملا فلا تغتم ولا تحزن على من قضيت عليه بأنه يكون أسوأ عملا ومع كونهم يكفرون بي لا أقطع عنهم مواد هذه النعم التي خلقتها وجعلناها بمعنى خلقنا والظاهر أن ما يراد به العموم فيما لا يعقل وزينة كل شىء بحسبه * وانتصب زينة على الحال أو الفعول من أجله إن كان جعلنا بمعنى خلقنا وأوجدنا وإن كان بمعنى صيرنا فانتصب على أنه مفعول ثان وأيهم يحتمل أن تكون الضمة فيها إعرابا فتكون أيهم مبتدأ وأحسن خبره والجملة في موضع المفعول لنبلوهم ويكون قد علق بيبلوهم إجراء لها مجرى العلم لأن الابتداء والاختبار سبب العلم ويحتمل أن تكون الضمة فيها على مذهب سيبويه لوجود شرط جواز البناء في أي وهو كونها مضافة قد حذف صدر صلتها فأحسن خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أحسن ويكون أيهم موصولا في موضع نصب بدلا من الضمير في ليبلوهم والمفضل عليه محذوف تقديره ممن ليس أحسن عملا.
{ وإنا لجاعلون } أي مصيرون ما عليها مما كان زينة لها أو ما عليها مما هو أعم من الزينة وغيره.
{ صعيدا } ترابا جزرا لا نبات فيه وهذا إشارة إلى التزهيد في الدنيا والرغبة عنها وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما تضمنته أيدي المترفين من زينتها إذ مآل ذلك كله إلى الفناء والمحاق.
{ أم حسبت أن أصحاب الكهف } الآية أم هنا هي المنقطعة فتقدر ببل والهمزة قيل للإضراب عن الكلام الأول والمعنى الانتقال من كلام إلى آخر لا بمعنى الإبطال والهمزة للاستفهام وزعم بعض النحويين أن أم هنا بمعنى الهمزة فقط والظاهر في أم حسبت أنه خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال مجاهد: لم ينهه عن التعجب وإنما أراد كل آياتنا كذلك وأهل الكهف هم الفتية الذين ذكرهم الله بعد ذلك والكهف هو الغار الذي في الجبل يستتر فيه.
{ والرقيم } قيل هو اسم الكلب الذي كان معهم وقيل اسم قصر وقيل هذا الكهف هو في الروم وقيل في الشام * وبالأندلس في جهة غرناطة بقرب قرية تسمى لوشة كهف فيه موتى ومعهم كلب رمة وأكثرهم قد انجرد لحمه وبعضهم متماسك وقد مضت القرون السالفة ولم نجد من علم شأنهم ويزعم ناس أنهم أصحاب الكهف * قال ابن عطية: دخلت إليهم ورأيتهم منذ أربع وخمسمائة وهم بهذه الحالة وعليهم مسجد وقريب منهم بناء رومي يسمى الرقيم كأنه قصر مخلق وبقي بعض جدرانه وهو في فلاة من الأرض خربة وبأعلى غرناطة مما يلي القبلة أثار قديمة يقال لها مدينة دقيوس وجدنا في آثارها غرائب من قبور ونحوها وإنما سهل ذكر هذا مع بعده لأنه عجب يتخلد ذكره ما شاء الله " انتهى " قال والدي فسح الله في مدته وحين كنا بالأندلس كان الناس يزورون هذا الكهف ويذكرون أنهم يغلطون في عددهم إذا عدوهم وإن معهم كلبا ورحل الناس إلى، لوشة لزيارتهم وأما ما ذكر من مدينة دقيوس التي بقبلي غرناطة فقد مررت عليها مرارا لا تحصى وشاهدت فيها حجارة كبارا ويترجح كون أهل الكهف بالأندلس لكثرة دين النصارى بها حتى أنها هي بلاد مملكتهم العظمى ولأن الاخبار بما هو في أقصى مكان عن أرض الحجاز أبعد أن لا يعرفه أحد إلا بوحي من الله تعالى والعامل في إذا قيل اذكر وقيل عجبا ومعنى أوى جعلوه مأوى لهم ومكان اعتصام ثم دعوا الله تعالى أن يؤتيهم رحمة من عنده وهي الرزق ولفظ الفتية يشعر بأنهم كانوا شبانا وكذلك روي أنهم كانوا شبانا من أبناء الأشراف والعظماء مطوقين مسورين بالذهب ذوي ذوائب وهم من الروم اتبعوا دين عيسى وأصحابنا الأندلوسيون تكثر في ألفاظهم تسمية نصارى الأندلس بالروم وقل من ينطق بلفظ النصارى * وقال بعض أدبائهم يخاطب ملك الأندلس الآن ابن الأحمر:
حميت حمى الاسلام في أرض غربة
وقد نشبت للروم فيها المخالب
ومفعول ضربنا محذوف تقديره حجابا من أن يسمعوا وهو كناية عن النوم وانتصب سنين على الظرف والعامل فيه فضربنا وعددا مصدر وصف به والظاهر منه الدلالة على الكثرة لأنه لا يحتاج إلى أن يعد إلا ما كثر لا ما قل * قال الزمخشري: ويحتمل أن يريد القلة لأن الكثير عنده قليل كقوله لم يلبثوا إلا ساعة من نهار انتهى هذا تحريف في التشبيه لأن لفظ الآية كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار فهذا تشبيه لسرعة انقضاء ما عاشوا في الدنيا إذا رأوا العذاب كما قال الشاعر:
كأن الفتى لم يعر يوما إذا اكتسى
ولم يك صعلوكا إذا ما تمولا
{ ثم بعثناهم } أي أيقظناهم من نومهم وليعلم أي ليظهر لهم ما علمناه من أمرهم أي الحزبين قال ابن عباس هم الملوك الذين تداولوا ملك المدينة حزب وأهل الكهف حزب وقيل ذلك * قال الزمخشري: وقرىء: ليعلم وهو معلق منه لأن ارتفاعه بالابتداء بإسناد يعلم إليه وفاعل يعلم مضمون الجملة كما أنه مفعول يعلم " انتهى " لا يجوز ما ذكره على مذهب البصريين لأن الجملة إذ ذاك تكون في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله وهو قائم مقام الفاعل وكما أن تلك الجملة وغيرها من الجمل لا تقوم مقام الفاعل فكذلك لا يقوم ما ناب عنه وللكوفين مذهبان أحدهما أنه يجوز الإسناد إلى الجملة مطلقا والثاني أنه لا يجوز إلا إذا كان الفعل مما يصح تعليقه وأي الحزبين مبتدأ وأحصى خبره، وهو أفعل التفضيل ولما متعلق به وأمدا مفعول أحصى غلط ابن عطية فأورد فيما بني من الرباعي ما أعطاه للحال وآتاه للخير وهي أسود من القار وماؤه أبيض من اللبن وفهو لما سواها أضيع قال: وهذه كلها أفعل من الرباعي.
" انتهى " وأسود وأبيض ليس بناؤهما من الرباعي وفي بناء أفعل التعجب وأفعل التفضيل ثلاثة مذاهب يبنى مطلقا وهو ظاهر كلام سيبويه وقد جاء منه ألفاظ لا يبنى منه مطلقا وما ورد حمل على الشذوذ والتفضيل بين أن يكون الهمزة للنقل فلا يجوز أو لغير النقل كأشكل الأمر وأظلم الليل فيجوز أن يقول ما أشكل هذه المسألة وما أظلم هذا الليل وهذا اختيار ابن عصفور من أصحابنا ودلائل هذه المذاهب مذكورة في كتب النحو قال الزمخشري: فإن قلت فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل قلت ليس بالوجه السديد وذلك أن بناءه من غير الثلاثي المجرد ليس بقياس ونحو أعدى من الجرب وأفلس من ابن المذلق شاذ والقياس على الشاذ في غير القرآن ممتنع فكيف به فيه ولأن أمدا لا يخلوا إما أن ينتصب بأفعل فأفعل لا يعمل وإما أن ينصب بلبثوا فلا يسر عليه المعنى فإن زعمت أني أنصبه بإضمار فعل يدل عليه أحصى كما أضمر في قوله:
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
على يضرب القوانس فقد أبعدت التناول وهو قريب حيث أثبت أن يكون أحصى فعلا ثم رجعت مضطرا إلى تقديره وإضماره " انتهى " أما دعواه الشذوذ فهو مذهب أبي علي وقد ذكرنا أن الظاهر مذهب سيبويه جواز بنائه من أفعل مطلقا وأنه مذهب أبي إسحاق وأن التفضيل اختيار ابن عصفور وقول غيره والهمزة في أحصى ليست للنقل وأما قوله فأفعل لا يعمل ليس بصحيح لأنه يعمل في التمييز وأمدا تمييز وهكذا أعربه من زعم أن أحصى أفعل التفضيل كما نقول زيد أقطع الناس سيفا ولم يعربه مفعولا به وأما قوله وأما أن ينتصب بلبثوا فلا يسد عليه المعنى أي لا يكون سديدا فقد ذهب الطبري إلى أن نصب أمدا بلبثوا قال ابن عطية: وهذا غير متوجه " انتهى " وقد يتجه ذلك أن الأمد هو الغاية ويكون عبارة عن المدة كقوله:
ما ننسخ من آية
[البقرة: 106] ما يفتح الله للناس من رحمة، ولما سقط الحرف وصل إليه الفعل وأما قوله: فإن زعمت إلى آخره، فنقول: لا يحتاج إلى هذا الزعم لأن لقائل ذلك أن يسلك مذهب الكوفيين في أن أفعل التفضيل ينتصب المفعول به فالقوانس عندهم منصوب بأضرب نصب المفعول به وأما تأويله بضرب القوانس فقول البصريين وكذلك ذهب بعض النحويين إلى أن قوله أعلم من يضل من منصوبة بأعلم نصب المفعول به ولو كثر وجود * وأضرب منا بالسيوف القوانسا * لكنا نقيسه ويكون معناه صحيحا لأن أفعل التفضيل مضمن معنى المصدر فيعمل بذلك التضمن ألا ترى أن المعنى يزيد ضربنا بالسيوف على ضرب غيرنا.
{ نحن نقص } بدأ بقصتهم أولا مختصرة ثم ذكرها مفصلة مطولة.
{ نبأهم بالحق } أي على وجه الصدق وجاء بلفظ نحن نقص موازنا لقوله: لنعلم ثم قا ل:
{ آمنوا بربهم } ففيه إضافة الرب وهو السيد والناظر في مصلحة عبيده ولم يأت التركيب آمنوا بنا للاشعار بتلك الرتبة وهي أنهم مربوبون له مملوكون ثم قال: وزدناهم ولم يأت التركيب وزادهم لما في لفظة نا من العظمة والجلالة وزيادته تعالى لهم هدى هو تيسيرهم للعمل الصالح والانقطاع إليه ومباعدة الناس والزهد في الدنيا وهذه زيادة على الإيمان الذي حصل لهم.
{ وربطنا على قلوبهم } أي ثبتناها وقويناها على الصبر على هجرة الوطن والنعيم والفرار بالدين إلى غار في مكان قفر لا أنيس فيه ولا ماء ولا طعام والربط مقابلة الإنحلال ومنه فلان رابط الجأش إذا كانت نفسه لا تتفرق عند الفزع والخوف واللام في لقد لام تأكيد وإذا حرف جواب وجراء أي لقد قلنا ان دعونا من دونه إلها قولا شططا أي ذا شطط وهو التعدي والجور فشططا نعت لمصدر محذوف.
{ هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة } ولما وحدوا الله ورفضوا ما دونه من الآلهة أخذوا في ذم قومهم وسوء فعلهم وأنهم لا حجة لهم في عبادة غير الله ثم عظموا جرم من افترى على الله كذبا والضمير في من دونه عائد على الله ولولا حرف تحضيض بمعنى هلا صحبه الإنكار والسلطان الحجة والبرهان.
{ وإذ اعتزلتموهم } خطاب من بعضهم لبعض والاعتزال يشمل مفارقة أوطان قومهم ومعتقداتهم فهو اعتزال جسماني وقلبي وما معطوف على المفعول في اعتزلتموهم أي واعتزلتم معبوداتهم وإلا الله استثناء متصل إن كان قومهم يعبدون الله مع آلهتهم لاندراج لفظ الجلالة في قوله: وما يعبدون أو منقطع إن كانوا لا يعرفون الله ولا يعبدونه لعدم اندراجهم في معبوداتهم.
{ ينشر لكم } المعنى أنه يبسط عليكم رحمته.
{ ويهيئ لكم } ما ترتفقون به في أمر عيشكم.
{ وترى الشمس إذا طلعت } الآية هنا جمل محذوفة دل عليها ما تقدم والتقدير فأووا إلى الكهف فألقى الله تعالى عليهم النوم واستجاب دعاءهم وأرفقهم في الكهف بأشياء وقرىء: تزاور بإدغام تاء تزاور في الزاء وقرىء: تزور على وزن تحمر وقرىء: تزاور بحذف التاء على وزن تفاعل وبإدغام التاء في الزاي والمعنى تزوغ وتميل وذات اليمين جهة يمين الكهف وحقيقة المسالمة باليمين يعني يمين الداخل إلى الكهف أو يمين الفتية وتقرضهم أي لا تقربهم من معنى القطيعة وهم في فجوة أي متسع من الكهف.
{ ذلك من آيات الله } هذه الصفة مع الشمس يقتضي أنه كان لهم حاجب من جهة الجنوب وحاجب من جهة الدبور وهم في زاوية وقال عبد الله بن مسلم كان باب الكهف ينظر إلى بنات نعش وعلى هذا كان أعلا الكهف مستورا من المطر.
{ وتحسبهم أيقاظا } جمع يقظ بمعنى منتبه من النوم.
{ وهم رقود } جملة حالية وقيل كانت أعينهم مفتحة فيحسبهم الرائي أنهم منتبهون والظاهر أن قوله: ونقلبهم خبر مستأنف وقيل إنما وقع الحسبان من جهة تقلبهم ولا سيما إذا كان من اليمين إلى الشمال ومن الشمال إلى اليمين وذات منصوب على الظرف وأصلها صفة للجهة كأنه قال جهة ذات اليمين والظاهر أن قوله: وكلبهم أريد به الحيوان المعروف الذي تبعهم والوصيد باب الكهف * قال الزمخشري: باسط ذراعيه حكاية حال ماضية لأن اسم الفاعل لا يعمل وحجج الفريقين مذكورة في علم النحو والخطاب في لو اطلعت لمن هو في قوله: وترى الشمس وتحسبهم إيقاظا ومغنى لوليت أي أعرضت بوجهك عنهم ولوليتهم كشحك وانتصب فرارا على المصدر اما لفررت محذوفة واما لوليت لأنه بمعنى لفررت واما مفعولا من أجله وانتصاب رعبا على أنه مفعول ثان.
{ وكذلك بعثناهم ليتسآءلوا } الآية الكاف للتشبيه والإشارة بذلك قيل للمصدر المفهوم من فضربنا على آذانهم أي مثل جعلنا أنا متهم هذه المدة الطويلة جعلنا بعثهم آية واللام في ليتساءلوا للصيرورة والمآل لا للتعليل والقائل في قوله: كم لبثتم قيل كبيرهم وقيل صاحب نفقتهم وكم سؤال عن العدد والمعنى كم يوما أقمتم نائمين والظاهر صدور الشك من المسئولين وقيل أو للتفصيل * قال بعضهم: لبثنا يوما، وقال بعضهم بعض يوم والسائل أحس في خاطره طول نومهم ولذلك سأل قيل ناموا أول النهار واستيقظوا آخر النهار وجوابهم هذا مبني على غلبة الظن والقول بالظن الغالب لا يعد كذبا ولما عرض لهم الشك في الاخبار ردوا علم لبثهم إلى الله تعالى ولما انتبهوا من نومهم أخذهم ما يأخذ من نام طويلا من الحاجة إلى الطعام واتصل فابعثوا بحديث التساؤل كأنهم قالوا: خذوا فيما يهمكم ودعوا علم ذلك إلى الله تعالى والمبعوث قيل هو تمليخا وكانوا قد استصحبوا حين خرجوا دارهم لنفقتهم وكانت حاضرة عندهم فلهذا أشاروا إليها بقولهم: هذه والمدينة هي مدينتهم التي خرجوا منها.
{ وليتلطف } في اختفائه وتخيله مدخلا ومخرجا.
{ ولا يشعرن } أي لا يفعل ما يؤذي من غير قصد منه إلى الشعور منا سمي ذلك إشعارا منه بهم لأنه سبب فيه والجملة في موضع نصب بفلينظر معلق عنها الفعل بأيها استفهام مبتدأ وأزكى خبره ويجوز أن يكون أيها موصولا مبنيا مفعولا بينظر على مذهب سيبويه وأزكى خبر مبتدأ محذوف وطعاما تمييز وأزكى قال يمان بن رياب: أرخص والضمير في أنهم عائد على ما دل عليه المعنى من كفار تلك المدينة والظهور هنا الاطلاع والعلم بمكانهم والظاهر أنه الرجم بالحجارة أو يعيدوكم في ملتهم يدخولكم فيها مكرهين ولا يلزم من العود إلى الشىء التلبس به.
{ ولن تفلحوا } إن دخلتم في دينهم.
{ وكذلك أعثرنا عليهم } الآية قبل هذا الكلام جمل محذوفة التقدير فبعثوا أحدهم ونظر أيها أزكى طعاما وتلطف ولم يشعر بهم أحدا فاطلع الله تعالى أهل المدينة على حالهم وقصة ذهابه إلى المدينة وما جرى له مع أهلها وحمله إلى الملك وادعائهم عليه أنه أصاب كنزا من كنوز الأقدمين وحمل الملك ومن ذهب إليهم مذكور في التفاسير وأعثرنا عليهم وتقدم الكلام في أعثرنا في قوله: فإن عثر ومفعول أعثرنا محذوف تقديره أعثرناهم عليهم والضمير في ليعلموا عائد على مفعول أعثرنا ووعد الله هو البعث لأن حالهم في نومهم وانتباههم بعد المدة المتطاولة كمال من يموت ثم يبعث.
و { لا ريب فيها } أي لا شك ولا ارتياب في قيامها والمجازاة فيها وكان الذين أعثروا على أهل الكهف قد دخلتهم فتنة في أمر الحشر وبعث الأجساد من القبور فشك في ذلك بعض الناس واستبعدوه وقالوا: يحشر الأرواح فشق ذلك على ملكهم وبقي حيران لا يدري كيف يبين أمره لهم حتى لبس المسوح وقعد على الرماد وتضرع إلى الله تعالى في حجة وبيان فأعثر الله على أهل الكهف فلما بعثهم الله وتبين للناس أمرهم سر الملك بذلك ورجع من كان في شك من بعث الأجساد إلى اليقين وإلى هذا وقعت الإشارة بقوله: إذ يتنازعون بينهم أمرهم وإذ معمولة لأعثرنا أو ليعلموا والظاهر أن سيقولون عائد على من تقدم ذكرهم وهم المتنازعون في حديثهم قبل ظهورهم عليهم فأخبر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بما كان من اختلاف قومهم في عددهم وانتصب رجما على أنه مصدر لفعل مضمر أي يرجمون بذلك وثلاثة خبر مبتدأ محذوف والجملة بعده صفة أي هم ثلاثة أشخاص.
{ رابعهم كلبهم } إسم فاعل أضيف إلى الضمير والمعنى أنه ربعهم أي جعلهم أربعة وصيرهم إلى هذا العدد والكلام في قوله: خمسة وسادسهم كالكلام فيما تقدم والواو في وثامنهم للعطف على الجملة السابقة أي يقولون هم سبعة وثامنهم كلبهم ثم أخبر وإخبارا ثانيا أن ثامنهم كلبهم فيهما جملتان * وقال الزمخشري: فإن قلت فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة ولم دخلت عليها دون الأولين قلت هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما يدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في نحو قولك جاءني رجل ومعه آخر ومررت بزيد وفي يده سيف ومنه قوله: جل وعلا
ومآ أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم
[الحجر: 4] وفائدتها توكيد لصوق الصفة بالموصوف والدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر وهي الواو التي أديت بالذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوا عن ثبات علم وطمأنينة نفس ولم يرجعوا بالظن كما غيرهم " انتهى ".
وكون الواو تدخل على الجملة الواقعة صفة دالة على لصوق الصفة بالموصوف وعلى ثبوت اتصاله بها شىء لا يعرفه النحويون بل قرروا أنه لا تعطف الصفة التي ليست بجملة على صفة أخرى إلا إذا اختلفت المعاني حتى يكون العطف دالا على المغايرة فأما إذا لم يختلف فلا يجوز العطف على هذا في الأسماء المقدرة وأما الجمل التي تقع صفة فهي أبعد من أن يجوز ذلك فيها ولما أخبر تعالى عن مقالتهم واضطرابهم في عددهم أمره أن يقول ربي أعلم بعدتهم أي لا يخبر بعددهم إلا من بعلمهم حقيقة وهو الله ما يعلمهم إلا قليل والمثبت في حق الله تعالى الأعلمية وفي حق القليل العالمية فلا تعارض ثم نهاه عن الجدال فيهم أي في عدتهم والمراء وسمي مراجعته لهم مراء على سبيل المقابلة لمماراة أهل الكتاب له في ذلك وقيده بقوله: ظاهرا، أي غير متعمق فيه وهو أن تقص عليهم ما أوحي إليك فحسب من غير تجهيل ولا تعنيف كما قال تعالى:
وجدلهم بالتي هي أحسن
[النحل: 125] ثم نهاه أن يسأل أحدا من أهل الكتاب عن قصتهم لا سؤال متعنت لأنه خلاف ما أمرت به من الجدال بالتي هي أحسن ولا سؤال مسترشد لأنه تعالى قد أرسلك بأن أوحى إليك قصتهم ثم نهاه أن يخبر بأنه يفعل في الزمن المستقبل شيئا إلا ويقرن بمشيئته تعالى وتقدم في سبب النزول كونه لم يقل ذلك مقرونا بالمشيئة وإلا أن يشاء الله استثناء لا يمكن حمله على ظاهره لأنه يكون داخلا تحت القول فيكون من المقول ولا ينهاه الله أن يقول: إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله لأنه كلام صحيح في نفسه لا يمكن أن ينهى عنه فاحتيج في تأويل هذا الظاهر إلى تقدير والظاهر أمره تعالى بذكر الله إذا عرض له النسيان والإشارة بقوله لأقرب من هذا أي الشىء المنسي أي أذكر ربك عند نسيانه بأن تقول عسى أن يهديني ربي إلى شىء آخر بدل هذا المسس أقرب منه رشدا وأدنى خيرا.
[18.25-39]
{ ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة } الظاهر أن هذا إخبار من الله تعالى بمدة لبثهم يناما في الكهف إلى أن أطلع الله عليهم ولما تحرر هذا العدد بإخبار الله تعالى أمر نبيه أن يقول: قل الله أعلم بما لبثوا فخبره هذا هو الحق والصدق الذي لا يدخله ريب لأنه عالم غيب السماوات والأرض والظاهر أن قوله بما لبثوا إشارة إلى المدة السابق ذكرها وحكى النقاش أنها ثلثمائة سنة شمسية ولما كان الخطاب للعرب زيدت التسع إذ حساب العرب هو بالقمر لاتفاق الحسابين والضمير في له عائد على الله تعالى وهل هو في موضع رفع أو نصب وهل أسمع وأبصر أمر أن حقيقة أم أمران لفظا معناهما إنشاء التعجب في ذلك خلاف مقرر في النحو وتقدم الكلام على كيفية نسبة التعجب إلى الله في قوله: فما أصبرهم على النار والضمير في قوله: ما لهم لأهل السماوات والأرض من ولي متول لأمورهم ولا يشرك في قضائه أحدا منهم ولما أنزل عليه ما أنزل من قصة أهل الكهف أمره بأن يقص ويتلو على معاصريه ما أوحى الله تعالى إليه من كتابه في قصة أهل الكهف وفي غيرهم وأن ما أوحاه إليه لا مبدل له ولا مبدل عام ولكلماته عام أيضا والتخصيص اما في لا مبدل أي لا مبدل له سواه ألا ترى إلى قوله وإذا بدلنا آية مكان آية وأما في كلماته أي لكلماته المتضمنة الخبر لأن ما تضمن غير الخبر وقع النسخ في بعضه وفي أمره تعالى أن يتلو ما أوحي إليه وإخباره أنه لا مبدل لكلماته إشارة إلى تبديل المنازعين في أهل الكهف وتحريف اخبارهم والملتحد أي المتلجأ الذي تميل إليه وتعدل له.
{ واصبر نفسك } الآية قال كفار قريش: لو أبعدت هؤلاء عن نفسك لجالسناك وصحبناك يعنون عمارا وصهيبا وسلمان وابن مسعود وبلالا ونحوهم من الفقراء وقالوا ان ريح جبابهم يؤذينا فنزلت واصبر نفسك أي احبسها وثبتها * قال أبو ذؤيب: فصبرت عارفة لذلك حرة * ترسو إذا نفس الجبان تطلع.
{ بالغداة والعشي } إشارة إلى الصلوات الخمس وتقدم الكلام على قوله: بالغداة والعشي قراءة وإعرابا في الانعام.
{ ولا تعد } أي لا تصرف عيناك النظر عنهم إلى أبناء الدنيا وعد متعد تقول عدا فلان طوره وجاء القوم عدا زيدا فلذلك قدرنا المفعول محذوفا ليبقى الفعل على أصله من التعدية * وقال الزمخشري: إنما عدي لتضمين عدا معنى نبا وعلا في قولك بنت عنه عينه وعلت عنه عينه إذا اقتحمته ولم تعلق به فإن قلت أي غرض في هذا التضمين وهلا قيل ولا تعدهم عيناك ولا تعد عيناك عنهم * قلت الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى فذا ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك ولا تقتحمهم عيناك مجاوزين إلى غيرهم ونحوه قوله تعالى:
ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم
[النساء: 2] أي ولا تضموها إليها آكلين لها " انتهى " وما ذكره من التضمين لا ينقاس عند البصريين وإنما يذهب إليه عند الضرورة أما إذا أمكن إجراء اللفظ على مدلوله الوصفي كان أولى * قال الزمخشري: تريد زينة الحياة الدنيا في موضع الحال. " انتهى ".
وصاحب الحال ان قدر عيناك فكان يكون التركيب تريدان وان قدر الكاف مجيء الحال من المجرور بالإضافة مثل هذا فيه اشكال لاختلاف العامل في الحال وذي الحال وقد أجاز ذلك بعضهم إذا كان المضاف خبر أو كالجزء وحسن ذلك هنا أن المقصود نهيه صلى الله عليه وسلم عن الإعراض عنهم والميل إلى غيرهم وإنما جيء وبقوله: عيناك والمقصود هو لأنهما مهما يكون المراعاة للشخص والتلفت إليه والمعنى ولا تعد أنت عنهم النظر إلى غيرهم والظاهر أن المراد بمن اعتقلنا كفار قريش.
{ واتبع هواه } في طلب الشهوات.
{ وكان أمره فرطا } أي ضائعا والحق يجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره هذا الحق ويجوز أن يكون الحق مبتدأ ومن ربكم الخبر والظاهر أن الفاعل يشاء عائد على من * قال ابن عطية الضمير في شاء عائد على الله وكأنه لما كان الإيمان والكفر تابعين لمشيئة الله جاء بصفة الأمر حتى كأنه لحتم وقوعه مأمور به مطلوب منه ولما تقدم الإيمان والكفر أعقب بما أعد لهما فذكر ما أعد للكافرين تلو قوله: فليكفر وأتى بعد ذلك بما أعد للمؤمنين والسرادق حائط من نار محيط.
{ وإن يستغيثوا } يطلبوا الغوث مما حل بهم من النار وشدة إحراقها واشتداد عطشهم.
{ يغاثوا بمآء } هذا على سبيل المقابلة وإلا فليست إغاثة.
{ كالمهل } قال ابن عباس: ماء غليظ مثل دردي الزيت.
و { يشوي الوجوه } في موضع الصفة لما أوفى موضع الحال منه لأنه قد وصف فحسن مجيء الحال منه وإنما اختص الوجوه لكونها عند شربهم يقرب حرما من وجوههم وقيل عبر بالوجوه عن جميع أبدانهم والمعنى أنه ينضج به جميع جلودهم.
{ بئس الشراب } المخصوص بالذم محذوف تقديره بئس الشراب هو أي الماء الذي يغاثون به والضمير في ساءت عائد على النار * والمرتفق قال ابن عباس: المنزل.
{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية: خبر إن قوله أولئك والجملة من قوله: إنا لا نضيع ويكون العائد محذوفا تقديره من أحسن عملا منهم ويجوز أن يكون مبتدأ خبره ما بعده ويكون توضيحا لقوله تعالى: { إنا لا نضيع أجر } ولما ذكر مكان أهل الكفر وهو النار ذكر مكان أهل الإيمان وهي جنات عدن ولما ذكر هناك ما يغاثون به وهو الماء كالمهل ذكر هناك ما خص به أهل الجنة من كون الأنهار تجري من تحتهم ذكر ما أنعم به عليهم من التحلية واللباس واللذين هما زينة ظاهرة وبدأ بالتحلية لأنها أفخر من اللباس ومن الأولى يجوز أن تكون للابتداء والثانية للتبيين وقرأ أبان عن عاصم أسورة جمع سوار وقرأ الجمهور أساور جمع أسورة وهي جمع الجمع * قال الزمخشري: وجمع بين السندس وهو ما رق من الديباج وبين الاستبرق وهو الغليظ منه جمعا بين النوعين وبناء التحلية للمفعول الذي لم يسم فاعله إشعارا بأنهم يكرمون بذلك ولا يتعاطون ذلك بأنفسهم * قال الشاعر:
غرائر في كن وصون ونعمة
تحلين ياقوتا وشذرا مقفرا*
واسند الفعل إليهم لأن الإنسان يتعاطى ذلك بنفسه خصوصا لو كان بادي العورة ووصف الثياب بالخضرة لأنها أحسن الألوان والنفس تنبسط لها أكثر من غيرها وقد روى في ذلك أثر أنها تزيد في ضوء البصر وحض الاتكاء لأنها هيئة المنعمين والملوك على أسرتهم والأرائك جمع أريكة وهي السرير والمخصوص بالمدح محذوف أي نعم الثواب ما وعدوا به والضمير في وحسنت عائد على الجنات ومرتفقا تمييز وهو محول من الفاعل.
{ واضرب لهم } الآية قيل نزلت في أخوين من بني مخزوم الأسود بن عبد الأسود بن عبد يا ليل وكان كافرا وأبي سلمة عبد الله بن الأسود وكان مؤمنا وقيل غير ذلك والضمير في لهم عائد على المتجبرين الطالبين من رسول الله صلى الله عليه وسلم طرد ضعفاء المؤمنين فالرجل الكافر بإزاء المتجبرين المؤمن بإزاء ضعفاء المؤمنين وظهر بضرب المثل الربط بين هذه الآية والتي قبلها إذ كان من أشرك إنما افتخر بماله وأنصاره وهذا قد يزول فيصير الغني فقيرا وإنما المفاخرة بطاعة الله تعالى * واضرب لهم مثلا الآية قصة رجلين وجعلنا تفسير للمثل فلا موضع له من الإعراب وأبهم في قوله: جعلنا لأحدهما وتبين أنه الكافر الشاك في البعث وأبهم تعالى مكان الجنتين إلا يتعلق بتعيينه كبير فائدة وذكر إبراهيم بن القاسم الكاتب في كتابه في عجائب البلاد أن بحيرة تنيس كانت هاتين الجنتين وكانتا لأخوين فباع أحدهما نصيبه من الآخر وأنفقه في طاعة الله حتى عيره الآخر وجرت بينهما هذه المحاروة قال: فغرقهما الله في ليلة وإياهما عني بهذه الآية * قال ابن عطية: وتأمل هذه الهيئة التي ذكرها الله فإن المرء لا يكاد يتخيل أجل منها في مكاسب الناس جنتا عنب أحاط بهما نخل وبينهما فسحة هي مزدرع لجميع الحبوب والماء المعين يسقي جميع ذلك من النهر.
{ وحففناهما } حفه طاف به من جوانبه قال:
يحفه جانبا يتق ويتبعه
مثل الزجاجة لم يكمل من الرمد
وحففته به جعلته مطيفا
{ كلتا الجنتين } أي كل واحدة منهما فلذلك أفرد في قوله آتت أكلها وقد راعى معنى التثنية في قوله: وفجرنا خلالهما أي فثني الضمير وهو ضمير الجنتين * وقال الشاعر:
كلاهما حين جد الجري بينهما
قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي
فثنى في أقلعا وأفرد في رابي.
{ ولم تظلم منه شيئا } أي لم ينقص منه، وقرىء: ثمر وثمر ويظهر من قوله: فقال لصاحبه أنه ليس أخاه.
{ وهو يحاوره } جملة حالية والظاهر أن ذا الحال وهو القائل أي يفتخر عليه بكثرة ماله وعزة نفسه مالا ونفرا تمييزان بعد أفعل التفضيل * وقال الزمخشري: فإن قلت لم أفرد الجنة بعد التثنية قلت معناه ودخل ما هو جنته ما له جنة غيرها يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المتقون فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير ولم يقصد الجنتين ولا واحدة منهما " انتهى " ولا يتصور ما قاله لأن قوله: ودخل جنته، إخبار من الله بدخول ذلك الكافر جنته فلا بد أن قصد في الاخبار أنه دخل إحدى جنتيه إذ لا يمكن أن يدخلهما معا في وقت واحد والمعنى ودخل جنته يرى صاحبه ما هي عليه من البهجة والنضارة والحسن وهو ظالم لنفسه جملة حالية أي وهو كافر بنعمة ربه فقر بما ملكه شاك في نفاذ ما حوله وفي البعث الذي حاوره فيه صاحبه والظاهر أن الإشارة بقوله: هذه إلى الجنة التي دخلها وعنى بالأبد أبد حياته وذلك لطول أمله وتمادي غفلته ولحسن قيامه عليها بما أوتي من المال والخدم فهي باقية مدة حياته على حالها من الحسن والنضارة والحسن يقتضي أن أحوال الدنيا بأسرها غير باقية.
{ أن تبيد هذه } أي تهلك هذه إشارة إلى الجنة التي دخلها.
{ ومآ أظن الساعة قائمة } هذا شك في قيام الساعة وهو كفر ثم أقسم على أنه ان رد إلى ربه على سبيل قياس الأخرى على الدنيا وكما يزعم صاحبه ليجدن في الآخرة خيرا من جنته تطمعا وتمنيا على الله وادعاء لكرامته عليه ومكانته عنده وأنه ما أولاه الجنتين في الدنيا إلا لاستحقاقه وأن معه هذا الاستحقاق أين توجه كقوله:
إن لي عنده للحسنى
[فصلت: 50] ومعنى منقلبا مرجعا وعاقبة أي منقلب الآخرة لبقائها خير من منقلب الدنيا لزوالها وانتصب منقلبا على التمييز.
{ فقال لصاحبه وهو يحاوره } الآية وهو يحاوره حال من الفاعل وهو صاحبه وأكفرت استفهام إنكار وتوبيخ حيث أشرك مع الله غيره ثم نبه على أصل نشأته وإيجاده بعد العدم وأن ذلك دليل على جواز البعث من القبور ثم تحتم ذلك بإخبار الصادقين وهم الرسل عليهم السلام * وقوله خلقك من تراب اما أن يراد خلق أصلك من تراب وهو مآدم صلى الله عليه وسلم وخلق أصله سبب في خلقه فكان خلقه خلقا له وأريد أن ماء الرجل يتولد من أغذية راجعة إلى التراب فنبهه أولا على ما تولد منه ماء أبيه ثم ثانية على النطفة التي هي ماء أبيه وانتصب رجلا على الحال والعامل فيه سواك ولما لم يكن الاستفهام استفهام إعلام وإنما هو استفهام إنكار وتوبيخ فهو في الحقيقة تقرير على كفره وإخبار عنه به لأن معناه قد كفرت بالذي خلقك استدرك هو مخبرا عن حال نفسه فقال:
{ لكنا هو الله ربي } إقرارا بتوحيد الله تعالى وأنه لا يشرك به وقرىء: لكن بتشديد النون بغير ألف في الوصل وبألف في الوقف وأصله ولكن أنا ونقل حركة الهمزة إلى نون لكن وحذف الهمزة فالتقى مثلان فأدغم أحدهما في الآخر وأما في الوقف فإنه اثبت ألف أنا وهو المشهور في الوقف على أنا ومثال إثباتها في الوصل:
أنا سيف العشيرة فاعرفوني
حميدا قد تدربت السنانا
كان الأصل لكن أنا وحصل الادغام وقال الزمخشري ونحوه يعني ونحو إدغام نون لكن في نون أنا بعد حذف قول القائل وترمينني بالطرف أي أنت مذنب وتقلينني ولكن إياك لا أقلي، أي لكن أنا لا أقليك. " انتهى ". لا يتعين ما قاله في البيت لجواز أن يكون التقدير لكنني فحذف اسم لكن وذكروا ان حذفه فصيح إذا دل عليه الكلام وأنشدوا على ذلك قول الشاعر:
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي
ولكن زنجي عظيم المشافر
في رواية من روي زنجي بالرفع أي ولكنك زنجي فانا مبتدأ وهو ضمير الشأن مبتدأ ثان والله مبتدأ ثالث وربي خبره والثالث وخبره خبر عن الثاني والثاني وخبره خبر عن أنا والعائد عليه هو الياء في ربي وصار التركيب نظير هند هو زيد ضربها وفي قوله:
{ ولا أشرك بربي أحدا } تعريض بإشراك صاحبه وأنه مخالفه في ذلك وقد صرح بذلك في صاحبه في قوله:
يليتني لم أشرك بربي أحدا
[الكهف: 42] ولولا تحضيضية بمعنى هلا ففضل بينهما وبين فعل التحضيض بإذ وهو ظرف لما مضى والعامل فيه قلت وما في شاء شرطية منصوبة بشاء والجواب محذوف تقديره أي شىء شاء الله كان ويجوز أن تكون ما موصولة مبتدأة والخبر محذوف تقديره الذي شاء الله كان ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره الأمر الذي شاء ثم نصحه بالتبري من القوة فيما يحاوله ويعانيه وأن يجعل القوة لله ثم أردف تلك النصيحة بترجيه من الله تعالى وتوقعه أن يقلب ما به وما بصاحبه من الفقر والغنى فقال:
{ إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا } أي أني أتوقع من صنع الله وإحسانه أن يمنحني جنة خيرا من جنتك لإيماني به ويزيل عنك نعتمك لكفرك به ويخبر بستانك وقرىء: أقل بالنصب مفعولا ثانيا لترني وهي علمية لا بصرية لوقوع أنا فضلا ويجوز أن يكون توكيدا للضمير المنصوب في ترني ويجوز أن تكون بصرية وأنا توكيد للضمير المنصوب في ترني فيكون أقل حالا وقرىء: أقل بالرفع على أن يكون مبتدأ وأقل خبره والجملة في موضع مفعول ترني الثاني إن كانت علمية وفي موضع الحال إن كانت بصرية ويدل عليه وولدا على أن قول لصاحبه وأعز نفرا عني به الأولاد إن قابل كثرة المال بالقلة وعزة النفر بقلة الأولاد والحسبان قال ابن عطية: العذاب وقيل غير ذلك وهذا الترجي إن كان ذلك أن يؤتيه في الدنيا فهو أنكى للكافر والم إذ يرى حاله من الغني قد انتقلت إلى صاحبه وإن كان ذلك يؤتيه في الآخرة فهو أشرف وأذهب مع الخير والصلاح .
[18.40-52]
{ فتصبح صعيدا } أي أرضا بيضاء لا نبات فيها لا من كرم ولا نخل ولا زرع قد اصطلم جميع ما فيها فبقيت يبابا قفرا يزلق عليها لإملاسها والزلق الذي لا يثبت عليه قدم ذهبت غراسه ونباته وسلب المنافع حتى منفعة المشي فيه فهو وحل لا ينبت ولا يثبت فيه قدم فترجى المؤمن بجنة هذا الكافر آفة علوية من السماء أو آفة سفلية من الأرض وهو غور مائها فيتلف كل ما فيها من الشجر والزرع وغورا مصدر خبر عن اسم أصبح على سبيل المبالغة وأو تصبح معطوف على قوله: ويرسل والضمير في له عائد على الماء أي: لن تقدر على طلب لكونه ليس مقدورا على رد ماء غوره الله تعالى وبلغ الله المؤمن ما ترجاه من هلاك ما بيد صاحبه الكافر وإبادته على خلاف ما ظن في قوله ما أظن أن تبيد هذه أبدا فأخبر الله تعالى أنه أحيط بثمره وهوعبارة عن الإهلاك وأصله الإحاطة.
و { يقلب كفيه } ظاهره أنه يقلب كفيه ظهرا لبطن ندما ولما كان هذا الفعل كناية عن الندم عداه تعدية فعل الندم فقال:
{ على مآ أنفق فيها } كأنه قال: لا أصبح نادما على ذهاب ما أنفق في عمارة تلك الجنة.
{ وهي خاوية على عروشها } تقدم الكلام عليه في أواخر البقرة وتمينه انتفاء الشرك الظاهر أنه صدر منه ذلك في حالة الدنيا على جهة التوبة بعد حلول المصيبة وفي قوله: ترني دليل على إيمانه ولما افتخر بكثرة ماله وعز نفره أخبر تعالى أنه لم يكن له فئة أي جماعة تنصره ولا كان هو منتصرا بنفسه وجمع الضمير في ينصرونه على المعنى كما أفرده على اللفظ في قوله: تقاتل والحقيقة في هنالك أن يكون ظرف مكان للبعد وتقدم في الكلام ما يدل على الدار الآخرة فالظاهر أنه أشير به لدار الآخرة أي في تلك الدار الولاية لله كقوله تعالى:
لمن الملك اليوم
[غافر: 16] والولاية مبتدأ وهنالك الخبر وقرىء: الولاية بكسر الواو وفتحها، وقرىء: الحق بكسر القاف صفة لله، وقرىء: الحق بالرفع صفة للولاية هو خبر مبتدأ وخبر.
و { ثوابا } تمييز ولما كان هنالك إشارة إلى الدار الآخرة ناسبة ذكر الخيرية الثواب فيها.
و { عقبا } بمعنى العاقبة.
{ واضرب لهم مثل الحياة } الآية لما بين تعالى في المثل الأول حال الكافر والمؤمن وما آل إليه ما افتخر به الكافر من الهلاك بين في هذا المثل حال الحياة الدنيا واضمحلالها ومصير ما فيها من النعيم والترفه إلى الهلاك وكما تقدم الكلام على تفسير نظير هذه الحملة يونس والهشيم اليابس قاله الفراء واحده هشيمة وقال الشاعر:
ولكن البلاء إذا اقشعرت
وصوح نبتها رعي الهشيم
ذرى وأذرى لغتان فرق قاله أبو عبيدة.
{ والباقيات الصالحات } قال الجمهور هي الكلمات المأثور فضلها وهي سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
{ وخير أملا } أي رجاء ولما ذكر تعالى ما يؤول إليه حال الدنيا من النفاد أعقب ذلك بأوائل أحوال يوم القيامة فقال:
{ ويوم نسير الجبال } والمعنى أنه ينفك نظام هذا العالم الدنيوي ويؤتى بالعالم الأخروي وانتصب يوم على إضمار اذكر وقرىء: تسير مبنيا للمفعول ونسير بنون العظمة مبنيا للفاعل.
{ وترى الأرض } وقرىء: وترى مبنيا للمفعول.
{ بارزة } حال أي منكشفة ظاهرة لذهاب الجبال والظراب والشجر والعمارة أو على حذف مضاف تقديره وترى الأرض بارزين من بطنها.
{ وحشرناهم } أي أقمناهم من قبورهم وجمعناهم لعرصة القيامة وقال الزمخشري: فإن قلت لم جيء بحشرناهم ماضيا بعد نسير وترى قلت للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير وقبل البروز ليعاينوا بذلك الأهوال والعظائم وكأنه قيل وحشرناهم قبل ذلك " انتهى ". والأولى أن يكون الواو واو الحال لا واو العطف والمعنى وقد حشرناهم أي أوقع التسيير في حالة حشرهم وقيل وحشرناهم وعرضوا ووضع الكتاب مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل لتحقق وقوعه ولم نغادر أي: لم نترك وانتصب صفا على الحال وهو مفرد تنزل منزلة الجمع أي صفوفا وفي الحديث الصحيح
" يجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد صفوفا يسمعهم الداعي وينفذهم البصر "
الحديث صحيح بطوله :
{ لقد جئتمونا } معمول لقول محذوف تقديره وقلنا وكما خلقناكم نعت لمصدر محذوف أي: مجيئنا مثل مجيء خلقكم أي حفاة عراة غرلا كما في الحديث وخالين من المال والولد وان هنا مخففة من الثقيلة وفصل بينهما وبين الفعل بحرف النفي وهو لن كما فصل في قوله
أيحسب الإنسان ألن نجمع
[القيامة: 3] وبل للإضراب بمعنى الانتقال من خبر إلى خبر ليس بمعنى الابطال والمعنى أن لن نجعل لإعادتكم وحشركم موعدا أي: مكان وعد أو زمان وعد لإنجاز ما وعدتم على ألسنة الأنبياء عليهم السلام من البعث والنشور والخطاب من لقد جئتمونا للكفار المنكرين البعث على سبيل تقريعهم وتوبيخهم.
{ ووضع الكتاب } الكتاب اسم جنس أي كتب أعمال الخلق وإشفاقهم خوفهم من كشف أعمالهم السيئة وفضيحتهم وما يترتب على ذلك من العذاب السرمدي.
{ يويلتنا } نادوا هلكتهم التي هلكوا خاصة من بين الهلكات فقالوا: يا ويلتنا والمراد من بحضرتهم كأنهم قالوا يا من بحضرتنا أنظروا هلكتنا وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل ما استفهامية مبتدأ ولهذا في موضع الخبر تقديره أي شىء ولهذا الكتاب ولا يغادر جملة حالية.
{ صغيرة } أي مثل القبلة.
{ ولا كبيرة } مثل الزنا وقدمت الصغيرة اهتماما بها وإذا أحصيت الصغيرة فالكبيرة أخرى.
{ إلا أحصاها } ضبطها وحفظها.
{ ووجدوا ما عملوا حاضرا } في الصحف عتيدا.
{ ولا يظلم ربك أحدا } فيكتب عليه ما لم يعمل أو يزيد في عقابه.
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا } الآية ارتباطها بالتي قبلها هو أنه لما ذكر يوم القيامة والحشر وذكر خوف المجرمين مما سطر في ذلك الكتاب وكان إبليس هو الذي حمل المجرمين على معاصيهم واتخاذ شركاء مع الله ناسب ذكر إبليس والنهي عن اتخاذ ذريته أولياء من دون الله تبعيدا عن المعاصي وعن امتثال ما يوسوس به وتقدم الكلام في استثناء إبليس أهو استثناء متصل أو منقطع وهل هو من الملائكة أم ليس منهم في أوائل البقرة والظاهر أن معنى ففسق فخرج عما أمره به ربه من السجود والهمزة في أتتخذونه للتوبيخ والإنكار والتعجب أي: أبعد ما ظهر منه الفسق والعصيان أتتخذونه وذريته أولياء من دوني مع ثبوت عدوانه لكم تتخذونه وليا وهو لكم عدو جملة حالية وعدو مفرد أريد به الجمع المقابل به الجمع وهو أولياء والمخصوص بالذم محذوف أي بئس للظالمين بدلا من الله إبليس وذريته وقال للظالمين لأنهم اعتاضوا من الحق بالباطل وجعلوا مكان ولايتهم الله ولايتهم إبليس وذريته وهذا نفس الظلم لأنه وضع الشىء في غير موضعه.
{ مآ أشهدتهم } الذي يظهر أن المعنى إخبار من الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم وخطاب منه تعالى في انتفاء كينونته متخذ عضد من المضلين بل هو مذ كان ووجد صلى الله عليه وسلم في غاية التبري منهم والبعد عنهم ليعلم أمته أنه لم يزل محفوظا من أول نشأته لم يعتضد بمضل ولا مال إليه صلى الله عليه وسلم وقرأ علي بن أبي طالب متخذا المضلين أعمل اسم الفاعل.
{ ويوم يقول نادوا شركآئي } ليس المعنى أنه تعالى أخبر أنهم شركاؤه ولكن ذلك على زعمكم والإضافة تكون بأدنى ملابسة ومفعولا زعمتم محذوفان لدلالة المعنى عليهما إذ التقدير زعمتموهم شركائي والنداء بمعنى الاستغاثة أي استغيثوا بشركائكم والمراد نادوهم لدفع العذاب عنكم أو للشفاعة لكم والظاهر أن الضمير في بينهم عائد على الداعين والمدعوين وهم المشركون والشركاء.
{ موبقا } الموبق المهلك يقال وبق يوبق ووبق يبق وبوقا إذا هلك فهو وابق وأوبقته ذنوبه أهلكته.
[18.53-110]
قال تعالى: { ولقد صرفنا في هذا القرآن } الآية تقدم تفسير نظير هذه الآية وهنا شىء مفرد معناه الجمع أي اكثر الاشياء التي يتأتى منها الجدال أن فصلتها واحدة بعد واحدة جدلا خصومة ومماراة بمعنى أن جدال الإنسان أكثر من جدل كل شىء ونحوه فإذا هو خصيم مبين وانتصب جدلا على التمييز قيل والإنسان هنا النضر بن الحارث وقيل ابن الزبعري وقيل أمية بن خلف وكان جداله في البعث حتى أتى بعظم فذره فقال: أيقدر الله على إعادة هذا وكثيرا ما يذكر الإنسان في معرض الذم وقد تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: { وكان الإنسان أكثر شيء جدلا } حين عاتب عليا كرم الله و جهه على النوم عن صلاة الليل وقال له علي: إنما نفسي بيد الله تعالى فاستعمل الإنسان على العموم وفي قوله: وما منع الناس الآية تأسف عليهم وتنبيه على فساد حالهم لأن هذا المنع لم يكن منهم بقصد أن يمتنعوا لتجنبهم العذاب وإنما امتنعوا مع اعتقاد أنهم مصيبون لكن الأمر في نفسه يسوقهم إلى هذا وكان حالهم يقتضي التأسف عليهم والناس يراد به كفار عصر الرسول صلى الله عليه وسلم الذين تولوا دفع الشريعة وتكذيبها.
{ وما منع الناس أن يؤمنوا } إلا ما سبق في علمنا وقضائنا أن يجري عليهم سنة الأولين من عذاب الاستئصال من المسخ والصيحة والخسف والغرق وعذاب الظلة ونحو ذلك وأراد بالأولين من أهلك من الأمم السابقة وأن يؤمنوا في موضع نصب على إسقاط حرف الجر أي: من الإيمان وفاعل منع قوله: أن يأتيهم وهو على حذف مضاف تقديره إلا انتظار أن يأتيهم وقرأ قبلا بضم القاف والباء فاحتمل أن يكون بمعنى قبلا بكسر القاف وفتح الباء وقرىء: به وحكاها أبو عبيدة أنهما بمعنى واحد في المقابلة وأن يكون جمع قبيل أن يذيقهم العذاب أنواعا.
{ وما نرسل المرسلين إلا مبشرين } أي بالنعيم المقيم لمن آمن.
{ ومنذرين } أي بالعذاب الأليم لمن كفر.
{ ليدحضوا به } ليزيلوا.
{ واتخذوا ءايتي } يجمع آيات القرآن وعلامات الرسول قولا وفعلا.
{ ومآ أنذروا } من عذاب الآخرة واحتملت ما أن تكون بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره وما أنذروه وأن تكون مصدرية أي وأنذرهم فلا يحتاج إلى عائد.
{ هزوا } أي سخرية واستخفافا لقولهم أساطير الأولين لو شئنا لقلنا مثل هذا وتقدم تفسير نظير قوله:
{ إنا جعلنا على قلوبهم } الآية ثم أخبر تعالى أن هؤلاء لا يتهدون أبدا وهذا من العام والمراد به الخصوص وهو من طبع الله على قلبه وقضى عليه بالموافاة على الكفر إذ قد اهتدى كثير من الكفار وآمنوا وحمل أولا على لفظ من في قوله: ذكر بآيات ربه فأعرض عنها فأفرد ثم على المعنى في قوله: انا جعلنا على قلوبهم، فجمع وفي وان تدعهم وتقييده بالأبدية مبالغة في انتفاء هدايتهم والغفور صفة مبالغة وذو الرحمة أي الموصوف بالرحمة ثم ذكر دليل رحمته وهو كونه تعالى لا يؤاخذهم عاجلا بل يمهلهم مع إفراطهم في الكفر وعداوة الرسول صلى الله عليه وسلم والموعد أجل الموت وأشار تعالى بقوله:
{ وتلك القرى } إلى القرى المجاورة أهل مكة كقرى ثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا بما جرى عليهم وليحذروا ما حل بهم كما حل بتلك القرى وتلك مبتدأ والقرى صفة أو عطف بيان والخبر أهلكناهم ويجوز أن يكون القرى الخبر وأهلكناهم جملة حالية كقوله تعالى:
فتلك بيوتهم خاوية
[النمل: 52] ويجوز أن يكون تلك منصوبا بإضمار فعل يفسره ما بعده أي وأهلكنا تلك القرى أهلكناهم وتلك القرى على إضمار مضاف أي وأصحاب تلك القرى ولذلك عاد الضمير على ذلك المضمر في قوله: أهلكناهم وقوله: لما ظلموا اشعار بعلة الاهلاك وهي الظلم وبهذا استدل الأستاذ أبو الحسن ابن عصفور على حرفية لما وانها ليست بمعنى حين لأن الظرف لا دلالة فيه على العلة وفي قوله لما ظلموا تحذير من الظلم إذ نتيجته الإهلاك وضربنا لإهلاكهم وقتا معلوما وهو الموعد واحتمل الموعد أن يكون مصدرا أو زمانا.
{ وإذ قال موسى لفتاه } الآية في الحديث الثابت الصحيح وفي التواريخ أن موسى بن عمران موسى بني إسرائيل المرسل هو وأخوه هارون إلى فرعون وفتاه يوشع بن نون بن افراثيم بن يوسف بن يعقوب والفتى الشاب وسبب هذه القصة أن موسى عليه السلام جلس يوما في مجلس لبني إسرائيل وخطب فأبلغ فقيل له هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: لا فأوحى الله تعالى إليه أن يسير بطول سيف البحر حتى يبلغ البحرين وعتب الله عليه حيث لم يرد العلم إلى الله فأوحى إليه بل أعلم منك عبد لي عند مجمع البحرين وهو الخضر في أيام افريدون قبل موسى وكان على مقدمة ذي القرنين الأكبر وبقي إلى أيام موسى عليه السلام ومعنى:
{ لا أبرح } لا أزال وهي من أخوات كان تحتاج إلى اسم وخبر واسمها الضمير المستكن في أبرح العائد على موسى والخبر محذوف لفهم المعنى يدل عليه التغيية بحتى التقدير لا أبرح سائرا حتى أبلغ ونص أصحابنا على أن خبر كان وأخواتها لا يجوز حذفه وان دل الدليل على حذفه إلا ما جاء في الشعر من قوله:
لهفي عليك للهفة من خائف
يبغي جوارك حين ليس مجير
أي حين ليس في الدنيا مجير والذي أراه أنه يجوز حذفه إذا دل الدليل على حذفه كهذا الموضع، قال الزمخشري: فإن قلت: لا أبرح إن كان بمعنى لا أزول من برح المكان، فقد دل على الإقامة على السفر وإن كان بمعنى أزال فلا بد من الخبر، قلت: هو بمعنى لا أزال وقد حذف الخبر لأن الحال والكلام معايد لأن عليه أما الحال فلأنها كانت حال سفر وأما الكلام فلأن قوله: حتى أبلغ مجمع البحرين غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له فلا بد أن يكون المعنى لا يبرح مسيري حتى أبلغ على أن حتى أبلغ هو الخبر فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه وهو ضمير المتكلم فانقلب الفعل عن الضمير الغائب إلى ضمير المتكلم وهو وجه لطيف " انتهى " هما وجهان خلطهما الزمخشري أما الأول فجعل الفعل مسندا إلى المتكلم لفظا وجعل الخبر محذوفا كما قدره ابن عطية وحتى أبلغ فضله متعلقة بالخبر المحذوف وغاية له والوجه الثاني جعل لا أبرح مسندا من حيث اللفظ إلى المتكلم ومن حيث المعنى إلى ذلك المقدر المحذوف وجعل خبر لا أبرح هو حتى أبلغ فهو عمدة إذ أصله خبر المبتدأ لأنه خبر أبرح قال الزمخشري: ويجوز أن يكون المعنى لا أبرح ما أنا عليه بمعنى ألزم المسير والطلب ولا أتركه ولا أفارقه حتى أبلغ كما تقول لا أبرح المكان " انتهى " ومجمع البحرين، قال مجاهد وقتادة: هو مجمع بحر فارس وبحر الروم قال ابن عطية: هو ذراع يخرج من البحر المحيط من شمال إلى جنوب في أرض فارس من وراء أذربيجان فالركن الذي لاجتماع البحرين مما يلي بر الشام هو مجتمع البحرين على هذا القول وقالت فرقة منهم محمد بن كعب القرظي هو عند طنجة حيث يجتمع البحر المحيط والبحر الخارج منه من دبور إلى صبا والقرية التي أبت أن تضيفهما هي الجزيرة الخضراء وقال ابن عباس: الحقب الدهر وقيل ثمانون سنة وقيل سبعون وقيل سنة بلغة قريش والظاهر أن قوله: أو أمضى معطوف على أبلغ فغيابا حد الأمرين إما ببلوغه المجمع وإما بمضيه حقبا وقيل هي تغيية لقوله لا أبرح كقولك: لا أفارقك أو تقتضيني حقي فالمعنى لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين إلى ان أمضي زمانا لتيقن معه فوات مجمع البحرين.
{ فلما بلغا مجمع بينهما } ثم جملة محذوفة والتقدير فساروا فلما بلغا أي موسى وفتاه مجمع بينهما أي بين البحرين نسيا حوتهما وكان من أمر الحوت وقصته أن موسى عليه السلام حين أوحى الله تعالى إليه أن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك قال موسى: يا رب فكيف لي به، قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم فأخذ حوتا فجعله في مكتله ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون حتى أتيا الصخرة وصفا رءوسهما وناما واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه وسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا وأمسك الله تعالى عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق والسرب المسلك في جوف الأرض.
{ فلما جاوزا } أي مجمع البحرين وهو الموعد قيل سارا بعد مجاوزة الصخرة الليلة والغد إلى الظهر وألقى على موسى النصب والجوع جين جاوز الموعد ولم ينصب ولا جاع قبل ذلك فتذكر الحوت وطلبه والنصب وقوله:
{ من سفرنا هذا } إشارة إلى مسيرهما وراء الصخرة * وقال الزمخشري:
{ أرأيت } بمعنى أخبرني فإن قلت: ما وجه التئام هذا الكلام فإن كل واحد من أرأيت وإذا أوينا وفإني نسيت الحوت لا متعلق له قلت: لما طلب موسى الحوت ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية فدهش فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك كأنه قال: أرأيت ما دهاني إذا أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت فحذف ذلك " انتهى " وكون أرأيت بمعنى أخبرني ذكره سيبويه وقد أمعنا الكلام في ذلك في سورة الانعام ويجوز أن يكون أرأيت هنا بمعنى أعلمت أي أعلمت ما جرى فلا يكون بمعنى أخبر في وإن معمولة لا رأيت هذه وفي نسبة النسيان إلى نفسه دليل على حسن أدبه وتلطفه في فقد الحوت وأن أذكره يتقدر بالمصدر تقديره ذكري إياه وهو بدل اشتمال من ضمير الغيبة في إنسانيه وفصل بين المبدل منه والبدل بقوله: إلا الشيطان، وهو فاعل انسانيه والظاهر أن الضمير في واتخذ سبيله في البحر عجبا عائد على الحوت كما عاد في قوله: واتخذ سبيله في البحر سربا وهو من كلام يوشع وإنما كان عجبا لخروجه من المكتل وحياته بعد كونه مشويا أو مأكولا بعض منه وإمساك جرية الماء عليه والإشارة بقوله: ذلك أي أمر الحوت وفقده واتخاذه سبيلا في البحر لأنه أمارة الظفر بالطلبة من لقاء ذلك العبد الصالح وذلك مبتدأ وما موصولة خبر عن المبتدأ ونبغي صلة ما والعائد عليها محذوف تقديره نبغيه فارتدا أي رجعا على أدراجهما من حيث جاآ قصصا أي يقصان الأثر قصصا فانتصب على المصدرية بإضمار يقصان أو تكون في موضع الحال أي مقتضين فينتصب بقوله فارتدا فوجدا أي موسى والفتى عبدا من عبادنا هذه إضافة تشريف واختصاص وجداه عند الصخرة التي فقدا الحوت عندها وهو مسجي في ثوبه مستلقيا على الأرض فقال السلام عليك فرفع رأسه وقال: اني بأرضك السلام ثم قال له من أنت قال: موسى قال: موسى بني إسرائيل، قال: نعم، قال له: ألم يكن لك في بني إسرائيل ما يشغلك عن السفر إلى هنا؟ قال: بلى، ولكن أحببت لقاءك وأن أتعلم منك، قال له: إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت وأنت على علم من علم الله علمكه الله تعالى لا أعلمه أنا قيل واسم الخضر بليا من ملكان وفي قول الخضر لموسى من أنت وقد أعلمه الله بواطن الأشياء ومآلها دليل على كذب هؤلاء المنتمين للتصوف المدعين علم الغيب والكشف عن أحوال الناس أعاذنا الله من ذلك ولدن تقدم الكلام عليها في أوائل آل عمران قال موسى في الكلام محذوف تقديره فلما التقيا وتراجعا الكلام وهو الذي ورد في الحديث الصحيح * قال له موسى هل اتبعك وفي هذا دليل على التواضع للعالم وفي هذه القصة دليل على الحث على الرحلة في طلب العلم وعلى حسن التلطف والاستنزال والأدب في طلب العلم بقوله هل أتبعك وفيه المسافرة مع العالم لاقتباس فوائده والمعنى هل يخف عليك ويتفق لك وانتصب رشدا على أنه مفعول ثان لقوله: تعلمن أو على أنه مصدر في موضع الحال وذو الحال الضمير في اتبعك وقرىء: رشدا ورشدا.
{ قال إنك لن تستطيع معي صبرا } نفى الخضر استطاعته الصبر معه على سبيل التأكيد كأنها ما لا يصح ولا يستقيم.
{ وكيف تصبر } أي أن صبرك على ما لا خبرة لك به مستبعد * وفيه إبداء عذر له حيث لا يمكنه الصبر لما يرى من منافاة ما هو عليه وانتصب خبرا على التمييز أي بما لم يحط به خبرك فهو منقول من الفاعل أو على أنه مصدر على غير المصدر لأن معنى بما لم تحط به لم تخبره.
{ قال ستجدني إن شآء الله صابرا } وعده بوجدانه صابرا، وقرن: ذلك بمشيئة الله تعالى علما منه بشدة الأمر وصعوبته إذ لا يصبر إلا على ما ينافي ما هو عليه إذا رآه.
{ ولا أعصي } يحتمل أن يكون معطوفا على صابرا أي صابرا وغير عاص فيكون في موضع نصب عطفا على الاسم إذا كان في معناه كقوله تعالى:
صفت ويقبضن
[الملك: 19] أي وقابضات ويجوز أن يكون معطوفا على ستجدني فلا محل له من الإعراب ولا يكون مقيدا بالمشيئة لفظا.
{ فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة } الآية فانطلقا أي موسى والخضر وكان معهما يوشع ولم يضم إليه لأنه في حكم التبع وقيل كان موسى قد صرفه ورده إلى بني إسرائيل والألف واللام في السفينة لتعريف الجنس إذ لم يتقدم عهد في سفينة مخصوصة وقد روي في كيفية ركوبهما السفينة وخرقها وسدها أقوال والمعتمد ما رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما قالا: فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فكلموهم أن يحملوهم فعرفوا الخضر فحملوه بغير نول فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحا من ألواح السفينة بالقدوم فقال له موسى صلى الله عليه وسلم قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها إلى قوله: عسرا، قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وكانت الأولى من موسى نسيانا قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة فنقر فقال له الخضر: ما علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر واللام في لتغرق أهلها قيل لام العاقبة وقيل لام العلة وقرىء: لتغرق بفتح التاء والراء وسكون الغين أهلها بالرفع، وقرىء: بتاء الخطاب ثم ذكره الخضر بما سبق له من نفي استطاعته الصبر لما يرى.
و { قال لا تؤاخذني بما نسيت } والظاهر حمل النسيان على وضعه وقد قال صلى الله عليه وسلم كانت الأولى من موسى نسيانا والمعنى أنه نسي العهد الذي كان بينهما من عدم سؤاله حتى يكون هو المخبر له أولا.
{ لقد جئت شيئا إمرا } أي شنيعا من الأمور كالداهية والأذى ونحوه.
{ فانطلقا } في الكلام حذف تقديره فخرجا من السفينة ولم يقع غرق بأهلها فانطلقا فبينما هما يمشيان على ساحل البحر إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الصبيان وفي بعض الروايات فمر بغلمان يلعبون فعمد الخضر إلى غلام حسن الهيئة وضيء الوجه فاقتلع رأسه وقيل غير ذلك من كيفيات القتل وحكى القرطبي عن صاحب العرس والعرائس أن موسى لما قال للخضر: أقتلت نفسا زكية غضب الخضر واقتلع كتف الصبي الأيسر وقشر اللحم عنه وإذا في عظم كتفه مكتوب كافر لا يؤمن بالله أبدا ومعنى زاكية طاهرة من الذنوب ووصفها بهذا الوصف لأنه لم يرها اذنبت ومعنى نكرا أنكر من الأول لأن الخرق يمكن سده والقتل لا سبيل إلى تدارك الحياة معه وفي قوله: لك زجر وإغلاظ ليس في الأول لأن مواقعه التساؤل ثابتة بعد التقدم إلى ترك السؤال واستعذار موسى صلى الله عليه وسلم بالنسيان أفظع وأفظع في المخالفات لما كان أخذ على نفسه من الصبر وانتفاء العصيان.
{ قال إن سألتك عن شيء بعدها } أي بعد هذه القصة أو بعد هذه المسألة.
{ فلا تصاحبني } أي فأوقع الفراق بيني وبينك ومعنى قد بلغت أي قد أعذرت إلي وبلغت إلي العذر وفي البخاري قال: يرحم الله موسى لوددنا أنه صبر حتى يقص علينا من أمرهما والقرية التي أتيا أهلها قيل الجزيرة الخضراء وقيل غير ذلك وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم وهذه عبرة مصرحة بهوان الدنيا على الله وتكرر لفظ أهل على سبيل التوكيد وقد يظهر له فائدة غير التوكيد وهو أنهما حين أتيا أهل القرية لم يأتيا جميع أهل القرية إنما أتيا بعضهم فلما قال استطعما احتمل أنهما لم يستطعما إلا ذلك البعض الذي أتياه فجيء بلفظ أهلها لتعم جميعهم وأنهم تتبعوهم واحدا واحدا بالاستطعام ولو كان التركيب استطعماهم لكن عائدا على البعض المأتي واسناده الإرادة إلى الجدار من المجاز البليغ والاستعارة البارعة وكثيرا ما يوجد في كلام العرب إسناد أشياء تكون من أفعال العقلاء إلى ما لا يعقل من الحيوان والجماد والمعنى لو كان الجماد أوالحيوان الذي لا يعقل مكان العاقل لكان صادرا منه ذلك الفعل فاقامة قال ابن عباس: دفعه بيده فاستقام وهذا أليق بحال الأنبياء عليهم السلام.
{ قال لو شئت } ظاهره أنه اعتراض إذ كان في غاية الاحتياج إلى الطعام فناسب أخذ الأجر على ما فعله من إقامة الجدار ولذلك قال: هذا فراق بيني وبينك إذ قد تقدم قوله: إن سألتك عن شىء، وقوله: لو شئت يتضمن معنى السؤال، وقرىء: لاتخذت ولتخذت والماضي تخذ يتخذ كتبع يتبع والتاء أصلية.
{ سأنبئك } أي سأخبرك بتأويل ما رأيت بما آل إليه الأمر فيما كان ظاهره أن لا يكون.
{ أما السفينة فكانت لمساكين } الآية واللام في لمساكين ظاهره أنها للاختصاص وأنهم كانوا مالكين لها.
{ فأردت أن أعيبها } فيه إسناد إرادة العيب إليه.
{ ورآءهم ملك } وراء من الأضداد بمعنى خلف وبمعنى أمام وفسر هنا وراءهم بمعنى أمامهم ملك ذكر أن اسمه هود بن بدر وكان كافرا وقرأ أبي وعبد الله.
{ كل سفينة } صالحة ويحمل ذلك على التفسير لا على أنه قرآن وانتصب غصبا على أنه مفعول من أجله ولما ظهر أن السفينة قد عيبت بإخراج بعض ألواحها وخوف أهلها من الغرق لم يتعرض هذا الملك إلى أخذها.
{ وأما الغلام } فالألف واللام فيه للعهد إذ قد تقدم مجيئه نكرة وهو لقيا غلاما فهو نظير كما أرسلنا إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول.
{ فكان أبواه مؤمنين } يراد بأبويه أبوه وأمه ثني تغليبا من باب القمرين في الشمس والقمر وهي تثنية لا تقاس.
{ فخشينآ } أي خفنا أن يغشى الوالدين المؤمنين طغيانا عليهما وكفرا لنعتمتهما بعقوقه وسوء صنيعه وإنما خشي الخضر منه ذلك لأن الله عز وعلا أعلمه بمآله وأطلعه على سر أمره وأمره بقتله كاخترامه لمفسدة عرفها في حياته والزكاة هنا الطهارة النقاء من الذنوب وما ينطوي عليه من شرف الخلق والسكينة والرحم والرحمة العطف مصدران كالكثر والكثرة وأفعل هنا ليس للتفضيل لأن ذلك الغلام الكافر لا زكاة فيه ولا رحمة والظاهر أن قوله:
{ وأقرب رحما } أي يرحم والديه * وقال ابن جريج ويرحمانه * وقال رؤبة بن العجاج يا منزل الرحم على ادريسا ومنزل اللعن على ابليسا وقيل الرحم من الرحمة والقرابة ووصف الغلامين باليتم يدل أنهما كانا صغيرين وفي الحديث لا يتم بعد البلوغ واسمهما أصرم وصريم واسم أبيهما كاشح واسم أمهما دهنا والظاهر أن أباهما هو الأقرب إليهما الذي ولدهما دنية وفي الحديث أن الله تعالى يحفظ الرجل الصالح في ذريته وانتصب رحما على المفعول له والظاهر في الكنز أنه مال مدفون جسيم ذهب وفضة وفي قوله:
{ فأراد ربك } إسناد الإرادة إلى الله لما تضمنت من إرادة الخير بخلاف ما تقدم من قوله : فأردت أن أعيبها.
{ وما فعلته عن أمري } الضمير في فعلته عائد على ما تقدم من خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار عن أمري يدل على أن ذلك كان بأمر الله وقد استدل بهذا على أن الخضر كان نبيا * وتستطيع مضارع استطاع بهمزة الوصل وقال ابن السكيت: يقال ما أستطيع وما أسطيع وما استتيع وما استيع أربع لغات والمحذوف في يستطيع تاء الافتعال إذ الأصل هي الطاء فاء الكلمة والألف المنقلبة عن الواو وهي غير الكلمة آخر الام الكلمة والأصول الطوع والله أعلم.
{ ويسألونك عن ذي القرنين } الآية الضمير في ويسئلونك عائد على قريش حين دستها اليهود على سؤاله عن الروح والرجل الطواف وفتية ذهبوا في الدهر ليقع امتحانه بذلك وذو القرنين هو الاسكندر اليوناني ذكره ابن إسحاق وعن علي رضي الله عنه كان عبدا صالحا ليس بملك ولا نبي ضرب على قرنه الأيمن في طاعة الله فمات فبعثه الله وضرب على قرنه الأيسر فمات فبعثه الله فسمى ذا القرنين وورد في الحديث
" أن الذين ملكوا الأرض أربعة مؤمنان سليمان وذو القرنين وكافران نمروذ وبخت نصر "
وكان بعد نمروذ قوله:
{ ذكرا } يحتمل أن يريد قرآنا وأن يريد حديثا وخبرا والتمكين الذي له في الأرض كونه ملك الدنيا ودانت له الملوك كلها.
{ وآتيناه من كل شيء } يحتاج إليه في الوصول إلى أغراضه.
{ سببا } أي طريقا موصلا إليه والسبب ما يتوصل به إلى المقصود من علم أو قدرة أو آلة فأراد بلوغ المغرب.
{ فأتبع سببا } يوصله إليه.
{ حتى إذا بلغ } وكذلك أراد المشرق فاتبع سببا وأراد بلوغ السدين فاتبع سببا وأصل السبب الحبل ثم توسع فيه حتى صار يطلق على ما يتوصل به إلى الغرض وقرىء: حامية يعني حارة وحمئة يعني فيها ماء وطين وفي حديث أبي ذر
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى الشمس عند غروبها فقال أتدري أين تغرب يا أبا ذر فقلت لا فقال انها تغرب في عين حمئة * "
وهذا الحديث وظاهر النص دليل على أن قوله في عين متعلق بتغرب.
{ ووجد عندها قوما } أي عند تلك العين قال وهب: انطلق يؤم المغرب إلى أن انتهى إلى باسك فوجد جمعا لا يحصيهم إلا الله فضرب حولهم ثلاثة عساكر حتى جمعهم في مكان واحد ثم دخل عليهم في النور ودعاهم إلى عبادة الله فمنهم من آمن ومنهم من صد عنه.
{ إمآ أن تعذب } بالقتل على الكفر.
{ وإمآ أن تتخذ فيهم حسنا } أي بالحمل على الهدى والإيمان ولما خيره تعالى بين تعذيبهم ودعائهم إلى الإسلام اختار الدعوة والاجتهاد في استمالتهم فقال أما من دعوته فأبى إلا البقاء على الظلم وهو الكفر هنا بلا خلاف فذلك هو المعذب في الدارين.
{ وأما من آمن } وعمل ما يقتضيه الإيمان.
{ فله جزآء الحسنى } وأتى بحرف التنفيس في:
{ فسوف نعذبه } لما يتخلل بين اظهاره كفره وبين تعذيبه من دعائه إلى الإيمان وتأبيه عنه فهو لا يعاجلهم بالقتل على ظلمهم بل يدعوهم ويذكرهم فإن رجعوا وإلا فالقتل وقوله:
{ ثم يرد إلى ربه } أي يوم القيامة وأتى بنون العظمة في نعذبه على عادة الملوك في قولهم: نحن فعلنا وقوله: إلى ربه فيه اشعار بأن التخيير لذي القرنين ليس من الله إذ لو كان كذلك لكان التركيب ثم يرد إليك فتعذبه ولا يبعد أن يكون التخيير من الله ويكون قد أعلم ذو القرنين بذلك أتباعه ثم فصل مخاطبا لاتباعه لا لربه تعالى وما أحس مجيء هذه الجمل لما ذكر ما يستحقه من ظلم بدأ بما هو أقرب لهم ومحسوس عندهم وهو قوله: فسوف نعذبه ثم أخبر بما يلحقه آخرا يوم القيامة وهو تعذيب الله إياه العذاب النكر ولأن الترتيب الواقع هو كذا * ولما ذكر ما يستحقه من آمن وعمل صالحا ذكر جزاء الله له في الآخرة وهو الحسنى أي الجنة لأن طمع المؤمن في الآخرة ورجاءه هو الذي حمله على أن من آمن لأجل جزائه في الآخرة وهو عظيم بالنسبة للإحسان في الدنيا ثم اتبع ذلك بإحسانه له في الدنيا بقوله:
{ وسنقول له من أمرنا يسرا } أي لا نقول له ما يتكلفه مما هو شاق عليه أي قولا ذا يسر وسهولة كما قال قولا ميسورا ولما ذكر ما أعد الله له من الحسنى جزاء لم يناسب أن يذكر جزاءه بالفعل بل اقتصر على القول أدبا مع الله وان كان يعلم أنه يحسن إليه قولا وفعلا.
{ ثم أتبع سببا } أي طريقا إلى مقصده الذي يسر له والقوم هنا الزنج * والستر هنا البنيان وقيل غير ذلك والمعنى أنهم لا شىء لهم يسترهم من حر الشمس وقال مجاهد السودان عند مطلع الشمس أكثر من جميع الأرض وقال بعض الرجاز:
بالزنج حر غير الأجساد
حتى كسا جلودها السوادا
{ ثم أتبع سببا * حتى إذا بلغ بين السدين } الآية، قال وهب السدان: جبلان منيفان في السماء من ورائهما وأمامهما البلدان وهما بمنقطع أرض بلاد الترك مما يلي بلاد أرمينية وأذربيجان وهما لينان أملسان يلزق عليهما كل شىء وسمى الجبلان سدين لأن كل واحد منهما قد سد فجاج الأرض وكانت بينهما فجوة يدخل منها يأجوج ومأجوج والضمير في قالوا عائد على هؤلاء القوم شكوا ما يلقون من يأجوج ومأجوج إذ رجوا عند ما ينفهم لكونه بتلك الأرض ودوخ الملوك وبلغ إليهم وهم لم يبلغ أرضهم ملك قبله * ويأجوج ومأجوج قبيلتان من بني آدم وقيل هما من ولد يافث بن نوح وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجبل والديلم وقال السدي والضحاك: الترك شرذمة منهم خرجت تغير فجاء ذو القرنين فضرب السد عليهم وبقيت من هذا الجانب وقال قتادة والسدي بني السد على إحدى وعشرين قبيلة وبقيت منهم قبيلة واحدة دون السد فهم الترك وقد اختلف في عددهم وصفاتهم ولم يصح في ذلك شىء من هذا وهما ممنوعا الصرف فمن زعم أنهما أعجميان فللعلمية والعجمة ومن زعم أنهما عربيان فللتأنيث والعلمية لأنهما اسما قبيلة وقرىء: يأجوج ومأجوج بهمزة وبغير همزة.
{ مفسدون في الأرض } لم يعين جهة الفساد وفيها أقوال ذكرت في البحر.
{ فهل نجعل لك خرجا } هذا استدعاء منهم قبول ما يبذلونه مما يعينه على ما طلبوه على جهة حسن الأدب إذ سألوه ذلك كقول موسى عليه السلام للخضر هل أتبعك على ان تعلمني وقرىء: خراجا وخرجا والخراج والخرج بمعنى واحد كالنوال والنول والمعنى جعلا نخرجه من أموالنا وكل ما يستخرج من ضريبة وجزية وغلة فهو خراج وخرج، وقرىء: بفتح السين في السدين وسدا وبضمها.
{ قال ما مكني فيه ربي خير } أي ما بسط الله لي من القدرة والملك خير من خرجكم.
{ فأعينوني بقوة } بما أتقوى به من فعلة وصناع يحسنون العمل والبناء وبالآت وقرىء: مكنى ومكنني بالادغام وبإظهار النونين وما مبتدأ موصول بمعنى الذي وما بعده صلته والعائد الضمير الذي في فيه وخير خبر.
و { ردما } حاجزا حصينا موثقا وقرىء:
قال { آتوني } واتئوني من أتى وآتى والمعنى احضروا زبر الحديد وثم محذوف تقديره فأتوه بما طلب.
{ حتى إذا ساوى بين الصدفين } قرىء: بضم الصاد والدال وبفتحهما وبضم الصاد وإسكان الدال والصدفان جانبا الجبل إذا تحاذيا لتصادفهما لتلاقيهما وحكي في الكيفية أن ذا القرنين قاس ما بين الصدفين وحفر الأساس حتى بلغ الماء ثم جعل حشوه الصخر وطينه النحاس يذاب ثم يصب عليه والبنيان من زبر الحديد بينهما الحطب والفحم حتى يسد ما بين الجبلين إلى أعلاهما ثم وضع المنافخ حتى إذا صار كالنار صب النحاس المذاب على الحديد المحمى فاختلط والتصق بعضه ببعض وصار جبلا صلدا وقيل طول ما بين السدين مائة فرسخ وعرضه خمسون فرسخا وفي الحديث
" أن رجلا أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رآه فقال كيف رأيته قال: كالبرد المحبر طريقة سوداء وطريقة حمراء قال: قد رأيته ".
{ حتى إذا جعله نارا } في الكلام حذف تقديره فنفخوا حتى جعلوه نارا والفاعل بجعل هو الضمير المفهوم من قوله: انفخوا التقدير هو أي النفخ نار.
{ قال آتوني } فيه القراءتان اللتان في آتوني المتقدمة أي جيئوني * قطرا منصوب بأفرغ على اعمال الثاني أن ينازعه ائتوني وأفرغ وحذف الضمير من الأول ولو كان أعمل الأول لكان التركيب ائتوني أفرغه عليه قطرا فكنت تضمر في الثاني على الفصيح والقطر النحاس.
{ فما اسطاعوا } بحذف التاء تخفيفا لقربها من الطاء وقرأ حمزة وطلحة بإدغامها في الطاء وهو إدغام على غير حدة إذ لا يصح الإدغام إلا أن يكون قبل الإدغام متحرك أو حرف مد ولين.
{ أن يظهروه } أن يعلو عليه وفي الكلام حذف تقديره فلما أكمل بناء السد واستوى واستحكم.
{ قال هذا رحمة من ربي } ودكا منونة مصدر دككته والظاهر أن جعله بمعنى صيره فدكا مفعول ثان * قال ابن عطية ويحتمل أن يكون جعل بمعنى خلق وينصب دكا على الحال " انتهى " هذا بعيد جدا لأن السد إذ ذاك موجود مخلوق ولا يخلق المخلوق لكنه ينتقل من بعض هيئاته إلى هيئة أخرى.
{ وتركنا } هذا الضمير لله والأظهر أن الضمير في بعضهم يعود على الخلق أي يوم إذ جاء وعد الله وهو يوم القيامة ويقويه قوله تعالى: { ونفخ في الصور } ويظهر أن ذلك هو يوم القيامة ولذلك ما جاء بعده من الجمع وعرض جهنم وتقدم الكلام على النفخ في الصور في سورة الانعام وجمعا مصدر مؤكد.
{ وعرضنا } أي أبرزنا جهنم يومئذ أي يوم إذ جمعناهم.
{ الذين كانت أعينهم في غطآء } صفة ذم استعار الغطاء لأعينهم والمراد أنهم لا يبصرون آياتي التي ينظر إليها فيعتبر بها * وكانوا لا يستطيعون سمعا مبالغة في انتفاء السمع إذ نفيت الاستطاعة وهم إن كانوا يسمعون جعلوا كمن نفيت قدرته على السمع لما لم ينتفعوا بسمعهم.
{ أفحسب الذين كفروا } الآية هم من عبد من الملائكة وعزير وعيسى واتخذوهم أولياء من دون الله وهم بعض العرب واليهود والنصارى وهو استفهام فيه معنى الإنكار والتوبيخ والمعنى أنهم ليس لهم من ولاية هؤلاء الذين تولوهم شىء ولا يجدون عندهم منتفعا وحسب يتعدى لمفعولين سدت أن مع معمولها مسدهما وقرأ علي ابن أبي طالب وجماعة أفحسب بإسكان السين وضم الباء مضافا إلى الذين أي أفكافيهم ومحسبهم ومنتهى غرضهم والمعنى أن ذلك لا يكفيهم ولا ينفعهم عند الله فارتفع حسب على الابتداء والخبر أن يتخذوا * وقال الزمخشري: أو على الفعل والفاعل لأن اسم الفاعل إذا اعتمد على الهمزة ساوى الفعل في العمل كقولك: أقائم الزيدان أو هي قراءة محكمة جيدة انتهى والذي يظهر أن هذا الاعراب لا يجوز لأن حسبا ليس باسم فاعل فيعمل ولا يلزم من تفسير شىء بشىء أن تجري عليه جميع أحكامه وقد ذكر سيبويه أشياء من الصفات التي تجري مجرى الأسماء وان الوجه فيها الرفع ثم قال وذلك مررت برجل خير منه أبوه ومررت برجل سواء عليه الخير والشر ومررت برجل أب له صاحبه ومررت برجل حسبك من رجل هو ومررت برجل أيما رجل هو " انتهى " ولا يبعد أن يرفع به الظاهر فقد أجازوا في مررت برجل أبي عشرة أبوه ارتفاع أبوه بأبي عشرة لأنه في المعنى والد عشرة.
{ إنآ أعتدنا } أي أعددنا ويسرنا والنزل موضع النزول والنزل أيضا ما يقدم للضيف ويهيأ له وللقادم من الطعام والنزول هنا يحتمل التفسيرين.
{ قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا } الآية قل يا محمد للكافرين هل ننبئكم فإذا طلبوا ذلك فقل لهم أولئك الذين كفروا والأخسرين أعمالا كل من دان بدين غير دين الإسلام راءى بعمله أو أقام على بدعة والأخسر من أتعب نفسه فأدى به تعبه إلى النار وانتصب أعمالا على التمييز وجمع لأن أعمالهم في الضلال مختلفة وليسوا مشتركين في عمل واحد والذين يصح رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين وكأنه جواب عن سؤال ويجوز نصبه على الذم وجره على الوصف أو على البدل.
{ ضل سعيهم } أي هلك وبطل وذهب ويحسبون ويحسنون من تجنيس التصحيف وهو أن يكون النقط والشكل فرقا بين الكلمتين ومنه * قول أبي عبادة:
ولم يكن المعتز بالله إذ سرى
ليعجز والمعتز بالله طالبه
{ ذلك جزآؤهم } مبتدأ وخبر وجهنم بدل وذلك إشارة إلى ترك إقامة الوزن.
{ إن الذين آمنوا } الآية لما ذكر ما أعد للكافرين ذكر ما أعد للمؤمنين وفي الصحيح جنات الفردوس أربع ثنتان من ذهب حليتهما وآنيتهما وما فيهما وثنتان من فضة حليتهما وآنيتهما وما فيهما وفي حديث عبادة الفردوس أعلاها يعني أعلا الجنة ويقال كرم مفردس أي معرش ولذلك سميت الروضة التي دون اليمامة فردوسا لاجتماع نخلها وتعرشها على أرضها.
و { نزلا } يحتمل من التأويل ما يحتمل نزلا المتقدم ومعنى حولا تحولا إلى غيرها قال ابن عيسى هو مصدر كالعوج والصغر.
{ قل لو كان البحر مدادا } أي ماء البحر مدادا وهو ما يمد به الدواة من الجر وما يمد به السراج من السليط ويقال السماء مداد الأرض.
{ لكلمات ربي } أي ممدا لكتب كلمات ربي وهو علمه وحكمته وكتب بذلك المداد.
{ لنفد البحر } أي فنى ماؤه الذي هو المداد قبل أن تنفد الكلمات لأن كلماته تعالى لا يمكن نفادها لأنها لا تتناهى والبحر ينفد لأنه متناه ضرورة وجواب لو الأولى لنفذ وجواب الثانية محذوف تقديره لم تنفد الكلمات وفي قوله:
{ ولو جئنا } التفات من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم والضمير في بمثله عائد على البحر ومددا تمييز لجواز دخول من عليه كما قال الشاعر:
فإن الهوى يكفيه مثله صبرا*
والمدد هو الممدود به فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض وفي قوله:
{ قل إنمآ أنا بشر مثلكم } اعلام بالبشرية والمماثلة في ذلك لا أدعي أني ملك يوحى إلي أي علمي إنما هو مسند إلي وحي وربي ونبه على الوحدانية لأنهم كانوا كفار بعبادة الأصنام ثم حض على ما فيه النجاة ويرجو بمعنى يطمع ولقاء ربه على تقدير محذوف أي حسن لقاء ربه.
{ ولا يشرك } نهي عن الإشراك بعبادة الله وقال ابن جبير لا يرائي في عمله فلا يبتغي إلا وجه ربه خالصا لا يخلط به غيره قيل:
" نزلت في جندب بن زهير، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم اني أعمل العمل لله فإذا أطلع عليه سرني فقال: ان الله لا يقبل ما شورك فيه "
وقرىء: تشرك بالتاء خطابا للسامع والتفاتا من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب وهو المأمور بالعمل الصالح ثم عاد إلى الإلتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله ربه ولم يأت التركيب بربك إيذانا بأن الضميرين لمدلول واحد وهو من قوله فمن كان يرجو لقاء ربه.
[19 - سورة مريم]
[19.1-23]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * كهيعص } الآية هذه السورة مكية كالسورة التي قبلها وقال مقاتل: إلا آية السجدة فهي مدنية ونزلت بعد مهاجرة المؤمنين إلى الحبشة * ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى ضمن السورة التي قبلها قصصا عجبا كقصة أهل الكهف وقصة الرجلين وقصة موسى مع الخضر وقصة ذي القرنين وهذه السورة تضمنت قصصا عجبا من ولادة يحيى بين شيخ فان وعجوز عاقر وولادة عيسى من غير أب فلما اجتمعا في هذا الشىء المغرب ناسب ذكر هذه الآية بعد تلك وتقدم الكلام في أول البقرة على الحروف المقطعة التي في فواتح السور بما يوقف عليه هناك وذكر خبر مبتدأ محذوف أي هذا المتلو من القرآن ذكر وقرىء: ذكر فعلا ماضيا رحمة بالنصب وقرىء: ذكر فعل أمر من التذكير رحمة بالنصب وعبده نصب بالرحم أي: ذكر أن رحمة ربك عبده وذكر في السبعة كما تقدم * ورحمة مصدر لا يراد بها أنها واحدة من الرحمات لأنه إذ ذاك لا ينصب المفعول لا يجوز أن تقول أعجبني ضربه زيد عمرا لأنه إذ ذاك محدود بالوحدة فلا يعمل.
و { زكريآ } بدل أو عطف بيان وإذ ظرف العامل فيه ذكر أو رحمة ووصف النداء بالخفي لئلا يخالطه رياء وقيل غير ذلك.
{ قال رب إني وهن العظم مني } هذه كيفية دعائه وتفسير ندائه ومعناه ضعف وأسند الوهن إلى العظم لأنه عمود البدن وبه قوامه وهو أصل بنائه فإذا وهن تداعى وسقطت قوته وقرىء: وهن بفتح الهاء وكسرها.
{ واشتعل الرأس شيبا } شبه الشيب بشواظ النار في بياضه وانتشاره في الشعر وفشوه فيه ثم أخرجه مخرج الاستعارة ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس وأخرج الشيب مميزا ولم يضف الرأس اكتفاء بعلم المخاطب أنه رأسه وإلى هذا نظر ابن دريد فقال:
واشتعل المبيض في مسوده
مثل اشتعال النار في جزل الغضا
{ ولم أكن } يغني فيما مضى أي ما كنت.
{ بدعآئك رب شقيا } بل كنت سعيدا موفقا إذ كنت تجيب دعائي فأسعد بذلك فعلى هذا الكاف مفعول وقيل المعنى بدعائك لي إلى الإيمان شقيا بل كنت ممن أطاعك وعبدك مخلصا فالكاف على هذا فاعل والأظهر الأول وروي أن حاتما الطائي أتاه طالب حاجة فقال: أنا الذي أحسنت إليك وقت كذا فقال: مرحبا بالذي توسل بنا إلينا وقضى حاجته.
{ وإني خفت الموالي من ورآءى } الموالي بنو العم والقرابة الذين يلون بالنسب*. وقال الشاعر:
مهلا بني عمنا مهلا موالينا
تنبشوا بيننا ما كان مدفونا
والأظهر اللائق بزكريا من حيث هو معصوم أنه لا يطلب الولد لأجل ما يخلفه من حطام الدنيا وكذلك قول من قال إنما خاف أن تنقطع النبوة من ولده وترجع إلى عصبته لأن ذلك إنما هو لله يضعها الله حيث شاء ولا يعترض على الله فيمن شاؤه ويصطفيه من عباده وقرىء:
{ يرثني ويرث } بجزمهما جوابا للأمر وهو هب وبرفعهما على الصفة لقوله: وليا والظاهر أن الإرث يكون في العلم والدين والظاهر أن يعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم.
و { رضيا } بمعنى مرضي.
{ يزكريآ } أي قيل له بأثر الدعاء والمنادي والمبشر لزكريا هم الملائكة بوحي من الله تعالى قال تعالى:
فنادته الملائكة
[آل عمران: 39] الآية والغلام الولد الذكر وقد يقال على الأنثى غلامه والظاهر أن يحيى ليس عربيا لأنه لم يكن عادتهم أن يسموا بألفاظ العربية فيكون منعه الصرف للعلمية والعجمة.
{ من قبل سميا } أي من قبل ولادته من تسمى باسمه بل هو منفرد بتسمية يحيى وأنى بمعنى كيف وتقدم الكلام عليها في قوله: قال رب أنى يكون لي غلام في آل عمران والقي المبالغة في الكبر ويبس العود يقال عتا العود وعسا يبس وجسا.
{ قال كذلك } أي الأمر كذلك تصديق له ثم ابتدأ.
{ قال ربك } فالكاف رفع أو نصب بقال وذلك إشارة إلى مبهم يفسره قوله:
{ هو علي هين } وهو ضمير معناه إيجاده علي هين.
{ وقد خلقتك من قبل } أي من قبل ولادة يحيى يشير إلى عظيم قدرته.
{ تك شيئا } أي في حيز العدم والمعدوم لا يسمى شيئا .
{ قال } أي زكريا.
{ رب اجعل لي آية } أي علامة أعلم بها وقوع ما بشرت به وطلب ذلك ليزداد يقينه كما قال إبراهيم ولكن ليطمئن قلبي لا لتوقف منه صدق ما وعد به ولا لتوهم أن ذلك من عند غير الله لعصمة الأنبياء عن مثل ذلك قال: آيتك روي ابن زيد أنه لما حملت زوجته بيحيى أصبح لا يستطيع أن يكلم أحدا ومع ذلك يقرأ التوراة ويذكر الله فإذا أراد مقاولة أحد لم يطقه.
و { سويا } حال من ضمير ألا تكلم أي في حال صحتك ليس بك خرس ولا علة وعن ابن عباس سويا عائد على الليالي أي كاملات مستويات فيكون صفة لثلاث وذكر الليالي هنا والأيام في آل عمران على أن المنع من الكلام استمر له ثلاثة أيام بلياليهن وقرىء: ألا تكلم بالرفع جعلها أن المخففة من الثقيلة التقدير أنه لا يكلم وقرىء: بالنصب على أنها الناصبة للمضارع.
{ فخرج على قومه من المحراب } أي وهو بتلك الصفة من كونه لا يستطيع أن يكلم الناس ومحرابه موضع مصلاه والمحراب تقدم الكلام عليه في آل عمران.
{ فأوحى إليهم } أي أشار إليهم ويشهد له قوله: إلا رمزا.
{ ييحيى خذ الكتاب بقوة } في الكلام حذف والتقدير فلما ولد يحيى وكبر وبلغ السن الذي يؤمر فيه قال الله تعالى له على لسان ملك يا يحيى خذ الكتاب ويدل عليه قوله تعالى: { وآتيناه الحكم صبيا } والكتاب التوراة * قال ابن عطية: هو التوراة بلا خلاف لأنه ولد قبل عيسى ولم يكن الإنجيل موجودا " انتهى " ليس كما قال بل قيل انه كتاب خص به كما خص كثير من الأنبياء بمثل ذلك وقيل الكتاب هنا اسم جنس أي اتل كتاب الله تعالى وقيل الكتاب صحف إبراهيم والحكم النبوة وصبيا أي شابا لم يبلغ سن الكهولة وعن ابن عباس في حديث مرفوع ابن سبع سنين.
{ وحنانا } معطوف على الحكم والحنان الرحمة قاله ابن عباس * قال أبو عبيدة:
تحنن على هواك المليك
فإن لكل مقام مقالا
قال وأكثر ما يستعمل مثنى كما قال الشاعر:
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا
حنانيك بعض الشر أهون من بعض
{ وزكاة } أي طهارة.
{ وكان تقيا } قل قتادة: لم يهم قط بكبيرة ولا صغيرة ولا هم بامرأة.
{ وبرا بوالديه } أي كثير البر والإكرام والتبجيل.
{ ولم يكن جبارا } أي منكرا عصيا أي كثير العصيان.
{ وسلام عليه } أي أمان عليه والأظهر أنها التحية المتعارفة وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى.
{ واذكر في الكتاب مريم } الآية لما تقدم قصة زكريا مع ما فيها من الغرابة أعقب بما هو أغرب منها وهو وجود ولد من غير ذكر وإذ ظرف لما معنى لا يعمل فيه أذكر لأنه مستقبل بل التقدير واذكر ما جرى لمريم وقت كذا.
{ انتبذت } افتعل من نبذ ومعناه ارتمت وتنحت وانفردت وانتصب مكانا على الظرف أي في مكان ووصف بشرقي لأنه كان مما يلي بيت المقدس.
{ حجابا } أي حائطا أو لشىء يسترها والظاهر أن الروح هو جبريل وانتصب بشرا على أنه حال ووصفه بقوله: سويا أي كامل الصورة حسن الأعضاء وضيء الوجه وإنما مثله لها في صورة الإنسان لتستأنس بكلامه ولا تنفر عنه ولو بدا لها في صورة الملائكة لنفرت ولم تقدر على السماع لكلامه ودل على عفافها وورعها أنها تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن وكان تمثيله على تلك الصفة ابتلاء لها وسبرا لعفتها وجواب أن في قوله: إن كنت محذوف تقديره ان كنت تقيا فاذهب عني.
{ قال } أي جبريل.
{ إنمآ أنا رسول ربك } الناظر في مصلحتك والمالك لأمرك وهو الذي استعاذت به وقوله لها ذلك تطمين لها واني لست ممن يظن به ريبة أرسلني إليك.
{ لأهب لك غلاما } وقرىء: ليهب بالياء وفيه ضمير يعود على الله تعالى وقرىء: بالهمز أسند الهبة إلى نفسه على سبيل المجاز إذ الواهب هو الله تعجبت مريم وعلمت بما ألقى في روعها أنه من عند الله وتقدم الكلام على سؤالها عن الكيفية في آل عمران في قصتها وفي قولها ولم أك بغيا تخصيص بعد تعميم لأن مسيس البشر يكون بسفاح أو بنكاح والبغي المجاهرة المشتهرة في الزنا ووزنه فعول اجتمعت ياء وواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت في الياء وكسر ما قبل الياء لتصح الياء.
{ قال كذلك } الكلام عليه كالكلام السابق في قصة زكريا.
{ ولنجعله } يحتمل أن يكون معطوفا على تعليل محذوف تقديره لنبين به قدرتنا ولنجعله أو محذوف متأخر أي فعلنا ذلك والضمير في ولنجعله عائد على الغلام وكذلك في قوله وكان أي وجوده أمرا مفروغا وكونه رحمة من الله أي طريق هدى لعالم كثير فينالون الرحمة بذلك.
{ فحملته } أي في بطنها وذكروا أقوالا كثيرة مضطربة في مدة الحمل.
{ مكانا قصيا } أي مكانا بعيدا.
{ فأجآءها المخاض } أي ساقها المخاض وهو الطلق بالألم الذي يلحقها لانزعاج الولد في بطنها للخروج فأجاءها أي جاء بها تعدى جاء تارة بالباء وتارة بالهمز قال الزمخشري إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء ألا تراك لا تقول جئت المكان وأجاء فيه كما تقول بلغنيه وأبلغنيه ونظيره أتى حيث لم تستعمل في الاعطاء ولم تقل آتيت المكان وآتانيه فلان " انتهى " أما قوله: وقول غيره ان الاستعمال غيره إلى معنى الإلجاء فيحتاج إلى نقل الأئمة المستقرئين ذلك على لسان العرب والإجاءة تدل على المطلق فيصلح لما هو بمعنى الإلجاء ولما هو بمعنى الاختيار كما لو قلت أقمت زيدا فإنه قد يكون مختارا لذلك وقد تكون قد فسرته على القيام وأما قوله له: ألا تراك إلى آخره فمن رأى أن التعدية بالهمزة قياس أجاز ذلك ولو لم يسمع ومن لا يراه قياسا فقد سمع ذلك في جاء حيث قالوا أجاء فيجيز ذلك وأما تنظيره ذلك بآتي فهو تنظير غير صحيح لأنه بناه على أن الهمزة فيه للتعدية وأن أصله أأتى وليس كذلك بل آتى مما بني على أفعل فليس منقولا من أتى بمعنى جاء إذ لو كان منقولا من أتى المتعدية لواحد لكان ذلك الواحد هو المفعول الثاني والفاعل هو الأول إذا عديت بالهمزة تقول آتى المال زيدا وآتي زيد عمرا المال فيختلف التركيب بالتعدية لأن زيدا عند النحويين هو المفعول الأول والمال هو المفعول الثاني وعلى ما ذكره الزمخشري يكون العكس فدل ذلك على أنه ليس ما قاله وأيضا فأتى مرادف لأعطى فهو مخالف من حيث الدلالة في المعنى وقوله: ولم يقل أتيت المكان وآتانيه هذا غير مسلم بل يقال أتيت المكان كما تقول جئت المكان وقال الشاعر:
أتوا ناري فقلت منون أنتم
فقالوا الجن قلت عموا صباحا
ومن رأى النقل بالهمزة قياسا قال آتانيه * والمستفيض المشهور أن ميلاد عيسى كان ببيت لحم وأنها لما هربت وخافت عليه أسرعت به وجاءت به إلى بيت المقدس فوضعته على صخرة فانخفضت له وصارت كالمهد وهي الآن تزار بحرم بيت المقدس ثم بعد أيام توجهت به إلى بحر الأردن فغمدته فيه وهو الذي يتخذه النصارى ويسمونه يوم الغطاس وهم يظنون أن المياه في ذلك اليوم تقدست فلذلك يغطسون في ذلك اليوم في كل ماء.
{ إلى جذع النخلة } استندت إلى الجذع إذ لم يكن وراءها امرأة تشددها كعادة النساء عند الوضع ذكروا في هذا الجذع أقوالا مضطربة والظاهر أنها نخلة عادتها أن تثمر وترطب فلما اشتد بها الأمر هناك واحتضنت الجذع لشدة الوجع وولدت عيسى عليه السلام قالت عند ولادتها لما رأته من الآلام والتغرب وإنكار قومها وصعوبة الحال من غير ما وجه.
{ يليتني مت قبل هذا } وتمنت مريم الموت من جهة الدين إذ خافت أن يظن بها السوء في دينها * والنسى الشىء الحقير الذي من شأنه أن ينسى فلا يتألم لفقده كالوتد والحبل للمسافر وخرقه الطمث ونسي فعل بمعنى مفعول كالطحن بمعنى مطحون ورعي بمعنى مرعي وأكد ذلك بقوله: منسيا لاختلاف صورتي التركيب والظاهر أن المنادى هو عيسى عليه السلام أي فولدته فأنطقه الله * وناداها أي حالة الوضع وقيل جبريل عليه السلام وكان في بقعة من الأرض أخفض من البقعة التي كانت عليها وقيل وكان يقبل الولد كالقابلة وقرىء: من تحتها فقيل عيسى وقيل جبريل فمن موصولة فعلى هذا يكون المنادى عيسى صلى الله عليه وسلم وأن حرف تفسير.
[19.24-55]
{ ألا تحزني } نهي * سريا السرى الرجل العظيم من الرجال له شأن عظيم والسري في اللغة الجدول وفي قوله: ربك تأنيس لها إذ هو مالكها والناظر في إصلاحها ثم أمرها بهز الجذع اليابس لترى آية أخرى في إحياء موات الجذع * قال ابن عباس: كان الجذع نخرا يابسا فلما هزته إذا السعف قد طلع ثم نظرت إلى الطلع يخرج من بين السعف ثم اخضر فصار بلحا ثم احمر فصار زهوا ثم رطبا كل ذلك في طرفة عين فجعل الرطب يقع بين يديها لا يتسرح منها شىء وإلى حرف جر وفي قوله: هزي ضمير الفاعل وهو الياء وقد تعدى الفعل إلى ضمير الجر ونظيره قوله تعالى:
واضمم إليك جناحك
[القصص: 32] وقوله تعالى:
أمسك عليك زوجك
[الأحزاب: 37] وفي النحو أن الفعل إذا رفع ضميرا متصلا أو مستكنا لا يتعدى إلى ضمير النصب ولا إلى ضمير الجر فلا تقول ضربتك ولا تضربيني ولا زيد ضربه يعني ضرب نفسه بل المعروف أنه يؤتى بدل الضمير المنصوب بالنفس فتقول ضربت نفسك وضربت نفسي وزيد ضرب نفسه إلا في باب ظن وفقد وعدم فيجوز ذلك فتقول ظننتك قائما وظننتني قائما وفي هزي إليك جاء فصيحا تعدى ذلك إلى ضمير الجر والباء زائدة في قوله بجذع لأن هز متعد بنفسه تقول هززت الغصن وقرىء:
{ تساقط } بتشديد السين وأصله تتساقط فأدغمت التاء في السين، وقرىء: تساقط بحذف التاء وقرىء: تساقط مضارع ساقطت تساقط فعلى هذه القراءة يكون رطبا مفعولا به وعلى القراءتين قبل ذلك يكون رطبا تمييزا منقولا من الفاعل إذ الأصل تساقط أو تساقط رطبه وفي قوله: وهزي دليل على السبب لتحصيل الرزق.
{ فكلي واشربي } لما كانت العادة تقديم الأكل على الشرب تقدم في الآية ولمجاورة قوله تساقط عليك رطبا جنيا * ولما كان المحزون قد يأكل ويشرب قال:
{ وقري عينا } أي لا تحزني ثم ألقى إليها ما تقول إن رأت أحدا.
{ فإما ترين } إن شرطية وما زائدة وأصل ترين ترأييني نقلت حركة الهمزة إلى الراء وحذفت الهمزة وحذفت نون الرفع لدخول الجازم الذي هوان ثم أدخلت النون الشديدة فانحذفت تاء الضمير فبقيت ترين والياء المكسورة هي لام الفعل.
{ فقولي } جواب الشرط والجملة بعده معمول لقولي في موضع نصب وفي قولها:
{ إني نذرت للرحمن } لطيفة وهو قولها: للرحمن أي الذي رحمني أولا وآخرا وفي هذه الحال وغيرها ولا تناقض لأن المعنى:
{ فلن أكلم اليوم إنسيا } بعد قولي هذا وبين الشرط وجزائه جملة محذوفة يدل عليها المعنى أي فاما ترين من البشر أحدا وسألك أو حاورك الكلام فقولي * وصوما قال السدي وابن زيد: كانت سنة الصيام عندهم الإمساك عن الأكل والكلام.
{ فأتت به قومها } الآية تحمله جملة حالية أي حاملة له * والفري العظيم الشنيع.
{ يأخت هارون } الآية الظاهر أنه أخوها الأقرب وكانوا يسمون بأنبيائهم والصالحين قبلهم نعوا عليها ما جاءت به وأن أبويها كانا صالحين فكيف صدرت منك هذه الفعلة القبيحة وفي هذا دليل على أن الفروع غالبا تكون زاكية إذا زكت الأصول وينكر عليها إذا جاءت بضد ذلك.
{ ما كان أبوك امرأ سوء } لما اتهموها بما اتهموها نفوا عن أبويها السوء ونفوا عن أمها البغاء وهو الزنا روي أنها لما دخلت به على قومها وهم أهل بيت صالحون تباكوا وقالوا ذلك وقيل هموا برجمها حتى تكلم عيسى عليه السلام فتركوها.
{ فأشارت إليه } ألف أشارت منقلبة عن ياء وقال يزيد بن حاتم المهلبي هي منقلبة عن واو من الشورى ونازعه أبو عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن غانم بن شرحبيل بن ثوبان الرعيني قاضي افريقية وتحاكما إلى قتيبة الميال وكان يزيد قد جلبه من الكوفة إلى المغرب فقال له ابن غانم: كيف تبني من الإشارة تفاعلنا فقال: تشايرنا فقال له يزيد: ما الدليل على هذا؟ فقال: قول كثير وقلت وفي الأحشاء داء مخامر إلا حبذا يا عز ذاك التشاير وقوله تعالى: { فأشارت إليه } أي هو الذي يجيبكم إذا ناطقتموه وقيل كان المستنطق لعيسى زكريا ويروى أنهم لما أشارت إلى الطفل قالوا: استخفافها بنا أشد علينا من زناها ثم قالوا لها على جهة الإنكار والتهكم بها.
{ كيف نكلم } أي:
{ من كان في المهد } يربى لا يكلم وإنما أشارت إليه لما تقدم لها من وعده أنه يجيبهم عنها ويغنيها عن الكلام وقيل بوحي من الله إليها وكان قيل انها تامة وقيل زائدة وينتصب.
{ صبيا } على الحال في هذين القولين والظاهر أنها ناقصة فتكون بمعنى صار أو تبقى على مدلولها من اقتران مدلول الجملة بالزمان الماضي ولا يدل ذلك على الانقطاع كما لم يدل في قوله وكان الله غفورا رحيما.
{ قال إني عبد الله } أنطقه الله أولا بقوله: إني عبد الله ردا للوهم الذي ذهبت إليه النصارى وفي قوله: عبد الله والجمل التي بعده تنبيه على براءة أمه مما اتهمت به لأنه تعالى لم يخص بولد موصوف بالنبوة والخلال الحميدة إلا مبراة مصطفاة * والكتاب الإنجيل أو التوراة أو مجموعهما.
{ وجعلني نبيا } أنه تعالى نبأه حال طفولته أكمل الله تعالى عقله واستنبأه طفلا وقيل ان ذلك سبق في قضائه وسابق حكمته.
{ وجعلني مباركا } أي نفاعا.
و { أين ما كنت } شرط وجزاؤه محذوف تقديره جعلني مباركا وحذف لدلالة ما تقدم عليه * وما في أينما زائدة وفي ما دمت مصدرية ظرفية أي مدة دوام حياتي والظاهر حمل الصلاة والزكاة على ما شرع في شريعتهم في البدن والمال * والجبار المتعاظم وكان صلى الله عليه وسلم في غاية التواضع يأكل الشجر ويلبس الشعر ويجلس على التراب وينام حيث جنه الليل لا مسكن له وكان يقول سلوني فإني لين القلب صغير في نفسي والألف واللام في والسلام للجنس.
{ ذلك عيسى ابن مريم } الآية الإشارة بذلك إلى المولود الذي ولدته مريم المتصف بتلك الأوصاف الجميلة وذلك مبتدأ وعيسى خبره وابن مريم صفة لعيسى أو خبر بعد خبر أو بدل والمقصود ثبوت بنوته من مريم خاصة من غير أب وليس بابن الله كما تزعم النصارى ولا لغير رشدة كما تزعم اليهود وانتصاب قول على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة أي هذا الاخبار عن عيسى بن مريم ثابت صدق ليس منسوبا لغيرها أي أنها ولدته من غير مس بشر كما تقول هذا عبد الله الحق لا الباطل أي أقول الحق وأقول قول الحق فيكون الحق هنا الصدق، وقرىء: قول برفع اللام وارتفاعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو أي نسبته إلى أمه خاصة فقط الحق، قال الزمخشري: وارتفاعه على أنه خبر بعد خبر أو بدل " انتهى " هذا الذي ذكره لا يكون إلا على المجاز في قول وهو أن يراد به كلمة الله لأن اللفظ لا يكون الذات وقرىء: يمترون بياء الغيبة وبتاء الخطاب وامترى افتعل اما من المرية وهي الشك أو من المراء وهو المجادلة والملاحاة وكلاهما مقبول هنا قالت اليهود ساحر كذاب وقالت النصارى ابن الله وثالث ثلاثة وهو الله.
{ ما كان لله أن يتخذ من ولد } من زائدة في سياق النفي والنفي لم يتسلط على كان وإذ انتفى الكون انتفى متعلقة وهو الاتخاذ فكان حرف النفي باشر يتخذ ومن ولد في موضع المفعول والنفي هنا دل على التنزيه ولذلك أعقب هذا النفي بقوله سبحانه: أي تنزه عن الولد إذ هو فما لا يتأتى ولا يتصور في المعقول ولا يتعلق به القدرة لاستحالته إذ هو تعالى متى تعلقت إرادته بإيجاد شىء أوجده فهو منزه عن التوالد وقال بعض شعراء العرب:
ألا رب مولود وليس له أب
وذي ولد لم يلده أبوان
عني بالأول عيسى وبالثاني آدم وتقدم الكلام على الجملة من قوله إذا قضى أمرا وقرىء وإن بكسر الهمزة وقرىء: بفتحها التقدير وكان الله ربي وربكم فاعبدوه والإشارة بقوله هذا أي القول بالتوحيد وفني الولد والصاحبة والصراط هو الطريق المستقيم الذي يفضي بقائله ومعتقده إل يالنجاة.
{ فاختلف الأحزاب من بينهم } هذا إخبار من الله تعالى لرسوله بتفرق بني إسرائيل فرقا ومعنى من بينهم أن الاختلاف لم يخرج عنهم بل كانوا هم المختلفين لم يقع الاختلاف بسببه من غيرهم * والأحزاب قال الكلبي: اليهود والنصارى، وقال قتادة: ان بني إسرائيل جمعوا أربعة من أحبارهم فقال أحدهم: عيسى هو الله نزل إلى الأرض وأحيا من أحيا وأمات من أمات فكذبه الثلاثة واتبعه اليعقوبية ثم قال أحد الثلاثة عيسى هو ابن الله فكذبه الاثنان واتبعه النسطورية وقال أحد الاثنين عيسى أحد ثلاثة الله إله ومريم إله وعيسى إله فكذبه الرابع واتبعه الإسرائيلية وقال الرابع عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فاتبعه فريق من بني إسرائيل ثم اقتتل الأربعة فغلب المؤمنون وقتلوا وظهر اليعقوبية على الجميع والأربعة يعقوب ونسطور وملكا وإسرائيل ومشهد مفعل من الشهود وهو الحضور أو من الشهادة ويكون مصدرا ومكانا وزمانا فمن الشهود يجوز أن يكون المعنى من شهود هول الحساب والجزاء في يوم القيامة وأن يكون من مكان الشهود فيه وهو الموقف وأن يكون من وقت الشهود ومن الشهادة ويجوز أن يكون المعنى من شهادة ذلك اليوم وأن يشهد عليهم الملائكة والأنبياء وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بالكفر وأن يكون من مكان الشهادة أو أن يكون من وقت الشهادة واليوم العظيم على هذه الاحتمالات هو يوم القيامة.
{ أسمع بهم وأبصر } صيغة تعجب وحذف من الثاني بهم لدلالة الأول عليه وتقديره ما أسمعهم وما أبصرهم وتقدم الكلام في التعجب من الله تعالى وفي قوله: فما أصبرهم على النار.
{ يوم يأتوننا } هو يوم القيامة.
{ لكن الظالمون } عموم يندرج فيه هؤلاء الأحزاب الكفار وغيرهم من الظالمين واليوم أي في دار الدنيا ويوم الحسرة اسم جنس لأن بعده حسرات كثيرة في مواطن عدة منها يوم الموت ومنها أخذ الكتاب بالشمال وغير ذلك.
و { قضي الأمر } أي أمر يوم القيامة.
{ وهم في غفلة } جملة حالية والعامل فيها قوله: وأنذرهم لعلهم ينتفعون بالإنذار ويفكرون في يوم الحسرة.
{ إنا نحن نرث الأرض ومن عليها } هو عبارة عن فناء المخلوقات وبقاء الخالق وكأنها وارثة.
{ واذكر في الكتاب إبراهيم } الآية واذكر خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد أتل عليهم نبأ إبراهيم وذاكره ومورده في التنزيل هو الله تعالى * ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر قصة مريم وابنها عيسى واختلاف الأحزاب فيها وعبادتهما من دون الله وكانا من قبيل من قامت بهما الحياة ذكر الفريق الضال الذي عبد الجماد والفريقان وإن اشتركا في الضلال فالفريق العابد الجماد أضل ثم ذكر قصة إبراهيم عليه السلام مع أبيه تذكيرا للعرب بما كان أبوهم عليه من توحيد الله وتبيين أنهم سلكوا غير طريقه وفيه صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به وأن ذلك متلقى بالوحي والصديق من أبنية المبالغة وهو مبني من الثلاثي للمبالغة أي كثير الصدق والصدق عرفه في اللسان ويقابله الكذب وقد يستعمل في الأفعال والخلق وفيما لا يعقل * قال الزمخشري: هذه الجملة يعني قوله: انه كان صديقا نبيا وقعت اعتراضا بين المبدل منه وبدله أعني إبراهيم وإذا قال نحو قولك رأيت زيدا ونعم الرجل أخاك ويجوز أن يتعلق إذ بكان أو بصديقا نبيا أي كان جامعا لمقام الصديقين والأنبياء حين خاطب أباه تلك المخاطبات " انتهى " التخريج الأول يقتضي تصرف إذ وقد تقدم لنا أنها لا تتصرف والتخريج الثاني مبني على أن كان الناقصة وأخواتها تعمل في الظروف وهي مسألة خلاف والتخريج الثالث لا يصح لأن العمل لا تنسب إلا إلى لفظ واحد اما أن ينسب إلى مركب من مجموع لفظين فلا ولا جائز أن يكون إذ معمولا لصديقا لأنه قد نعت إلا على رأي الكوفيين ويحتمل أن يكون معمولا لنبيا أي منبأ في وقت قوله: لأبيه ما قال وان التنبئة كانت في ذلك الوقت وهو بعيد وتقدم الكلام على يا أبت في سورة يوسف واستفهم إبراهيم عن السبب الحامل لأبيه على عبادة الأصنام وهو منتف عنه السمع والبصر والإغناء عنه شيئا تنبيها على شنعة الرأي وقبحه وفساده في عبادة من انتفت عنه هذه الأوصاف رتب إبراهيم عليه السلام الكلام مع أبيه في أحسن اتساق وساقه أرشق مساق مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن منتصحا في ذلك نصيحة ربه عز وجل ولما سأله عن العلة في عبادة الصنم ولا يمكن أن يجد جوابا انتقل معه إلى اخباره بأنه قد جاءه من العلم ما لم يأته ولم يصف أباه بالجهل إذ يغني عنه السؤال السابق وقال من العلم على سبيل التبعيض أي شىء من العلم ليس معك وهذه المحاورة تدل على أن ذلك كان بعد ما نبىء إذ في لفظ جاءني تجدد العلم والذي جاءه الوحي الذي يأتي به الملك أو العلم بأمور الآخرة وثوابها وعقابها وتوحيد الله وإفراده بالعبادة والألوهية فاتبعني على توحيد الله بالعبادة وارفض الأصنام.
{ أهدك صراطا سويا } وهو الإيمان وإفراده بالعبادة.
{ يأبت لا تعبد الشيطان } انتقل من أمره باتباعه إلى نهيه عن عبادة الشيطان وعبادته كونه يطيعه في عبادة الأصنام ثم نفره عن عبادة الشيطان بأنه كان عصيا للرحمن استعصى حين أمره بالسجود لآدم صلى الله عليه وسلم فأبى فهو عدو لك ولأبيك آدم من قبل وكان لفظ الرحمن هنا تنبيها على سعة رحمته وأن من هذا وصفه هو الذي ينبغي أن يعبد ولا يعصى وإعلاما بشقاوة الشيطان حيث عصى من هذه صفته وارتكب من ذلك ما طرده عن هذه الرحمة.
{ يأبت إني أخاف أن يمسك } الآية الأولى حمل أخاف على موضوعه الأصلي لأنه لم يكن آيسا من إيمانه بل كان راجيا له وخائفا أن لا يؤمن وأن يتمادى على الكفر فيمسه العذاب وخوفه إبراهيم سوء العاقبة وتأدب معه إذ لم يصرح بلحوق العذاب به بل أخرج ذلك فخرج الخائف وأتى بلفظ هو ألطف من المعاقبة ونكر العذاب ورتب على مس العذاب بقوله: إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن ما هو أكبر منه وهو ولاية الشيطان.
{ قال أراغب أنت عن آلهتي } قال أي أبوه استفهم استفهام إنكار والرغبة عن الشىء تركه عمدا وآلهته أصنامه وأغلط له في الإنكار وناداه باسمه ولم يقابل يا أبت بيا بني * قال الزمخشري: وقدم الخبر على المبتدأ في قوله: أراغب أنت عن آلهتي لأنه كان أهم عنده أعني وفيه ضرب من التعجب والإنكار لرغبته عن آلهته وأن آلهته ما ينبغي أن يرغب عنها أحد وفي هذا سلوان وثلج لصدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يلقى من مثل ذلك من كفار قومه " انتهى " والمختار في إعراب أراغب أنت أن يكون راغب مبتدأ لأنه قد اعتمد على أداة الاستفهام وأنت فاعل سدت مسد الخبر ويترجح هذا الاعراب على ما أعربه به الزمخشري من كون أراغب خبر وأنت مبتدأ بوجهين أحدهما أن لا يكون فيه تقديم ولا تأخير إذ رتبة الخبر أن يتأخر عن المبتدأ والثاني أن لا يكون فصل بين العامل الذي هو أراغب وبين معموله الذي هو عن آلهتي بما ليس بمعمول للعامل لأن الخبر ليس هو عاملا في المبتدأ بخلاف كون أنت فاعلا فإنه معمول لراغب فلم يفصل بين أراغب وبين عن آلهتي بأجنبي إنما فصل بمعمول له ولما أنكر عليه رغبته عن آلهته توعده مقسما على إنفاد ما توعده به إن لم ينته ومتعلق تنته محذوف واحتمل أن يكون عن مخاطبتي بما خاطبتني به ودعوتني إليه وأن تكون لئن لم تنته عن الرغبة عن آلهتي.
{ لأرجمنك } جواب القسم محذوف وظاهر الرجم بالحجارة * قال الزمخشري: فإن قلت علام عطف واهجرني قلت على معطوف عليه محذوف يدل عليه لأرجمنك أي فاحذرني واهجرني لأن لأرجمنك تهديد وتقريع " انتهى " وإنما احتاج إلى حذف ليناسب بين جملتي العطف والمعطوف عليه وليس ذلك بلازم عند سيبويه بل يجوز عطف الجملة الخبرية على الجملة الإنشائية فقوله: واهجرني معطوف على قوله: لئن لم تنته لأرجمنك وكلاهما معمول للقول وانتصب مليا على الظرف أي دهرا طويلا ومنه الملوان وهما الليل والنهار.
{ قال سلام عليك } قرأ أبو البرهشم سلاما بالنصب ورفع سلام على الابتداء ونصبه على المصدر أي سلمت سلاما دعاء له بالسلامة على سبيل الاستمالة ثم وعده بالاستغفار وذلك يكون بشرط حصول ما يمكن معه الاستغفار وهو الإيمان بالله وإفراده بالعبادة.
{ إنه كان بي حفيا } أي معتنيا وبي متعلق به ولما كان في قوله لأرجمنك فظاظة وقساوة قلب قابله بالدعاء له بالسلامة والأمن ووعده بالاستغفار قضاء لحق الأبوة ولما أمره بهجره الزمان الطويل أخبره بأنه يمتثل أمره ويعتزله وقومه ومعبوداتهم فهاجر إلى الشام وقيل الى حران وكانوا بأرض كوثا ولسان الصدق الثناء الحسن الباقي عليهم آخر الأبد قاله ابن عباس:
{ واذكر في الكتاب موسى } الآية وقرىء: مخلصا بفتح اللام أي أخلصه الله للعبادة والنبوة وقرىء: بكسر اللام أي أخلص العبادة عن الشرك والرياء وحسن مجيء قوله: نبيا بعد قوله: رسولا كونه فاصلة واطلاق رسول على الملائكة ولا يقال لهم في العرف أنبياء ونداؤه إياه هو تكليمه تعالى إياه * والطور الجبل المشهور بالشام والظاهر أن الأيمن صفة للجانب لقوله في آية أخرى جانب الطور الأيمن بنصب الأيمن نعتا لجانب الطور والأيمن مشتق من اليمن وهي البركة.
{ وقربناه نجيا } هو تقريب مكانة وتشريف لا مكان ونجيا فعيلا من المناجاة وهو حال من المفعول في قربناه والمناجاة المسارة ومن في من رحمتنا للسبب أي من أجل رحمتنا له أو للتبعيض وأخا مفعول بوهبنا وهارون بدل أو عطف بيان * قال الزمخشري: وأخاه على هذا الوجه يعني كون من في من رحمتنا للتبعيض بدل وهارون عطف بيان كقولك رأيت رجلا أخاك زيدا " انتهى " والذي يظهر ما قلناه ولا ترادف من بعضنا فتبدل منها وإسماعيل هو ابن ابراهيم عليهما السلام وصدق وعده أنه كان منه مواعيد لله وللناس فوفي بالجميع ولذلك خص بصدق الوعد.
{ وكان يأمر أهله بالصلاة } أي كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح والعبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم ولأنهم أولى من سائر الناس كقوله تعالى:
وأنذر عشيرتك الأقربين
[الشعراء: 214].
{ مرضيا } مفعول من رضى ويقال: مرضو بإدغام واو مفعول في اللام التي هي واو يقال مرضى لأنه اجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون وقلبت ياء فأدغمت الياء في الياء مرضيا وحسن مجيء مرضى دون مرضو كونه فاصلة.
[19.56-74]
{ إدريس } جد أبي نوح وهو أخنوخ وهو أول من نظر في النجوم والحساب وجعله الله من معجزاته وأول من خط بالقلم وخاط الثياب ولبس المخيط وكانوا قبل يلبسون الجلود وأول مرسل بعد آدم وأول من اتخذ المكاييل والموازين والأسلحة فقاتل بني قابيل وامتنع من الصرف للعلمية والعجمة * والمكان العلي شرف النبوة والزلفى عند الله وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة وحديث أبي هريرة وأنس أنه في السماء الرابعة.
{ أولئك } مبتدأ والذين خبره وهو إشارة إلى من تقدم ذكره في هذه السورة من الأنبياء ومن في من النبيين للبيان لأن جميع الأنبياء منعم عليهم ومن الثانية للتبعيض وكان إدريس من ذرية آدم صلى الله عليه وسلم لقربه منه لأنه جد أبي نوح وإبراهيم من ذرية من حمل من نوح لأنه من ولد سام بن نوح.
{ ومن ذرية إبراهيم } إسحاق ويعقوب وإسماعيل وإسرائيل معطوف على إبراهيم وزكريا ويحيى وموسى وهارون من ذرية إسرائيل وكذلك عيسى عليه السلام لأن مريم من ذريته.
{ وممن هدينا } يحتمل العطف على من الأولى والثانية.
{ وإذا تتلى } كلام مستأنف ويجوز أن يكون الذين صفة لأولئك والجملة الشرطية خبر وانتقل في هذه الجمل من الاسم الظاهر إلى ضمير المتكلم في قوله: حملنا وما بعده ثم إلى الاسم الظاهر في قوله: آيات الرحمن وهذا من التفنن في البلاغة والفصاحة وانتصب سجدا على الحال المقدرة لأنهم حالة الحزور ما كانوا سجدا والبكي جمع باك كشاهد.
{ وبكيا } أصله بكويا اجتمعت واو وياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت وكسر ما قبلها * قال ابن عطية: وبكيا بكسر الباء وهو مصدر لا يحتمل غير ذلك " انتهى " ليس قوله هذا بسديد لأن اتباع حركة الباء لحركة الكاف لا يعني المصدرية ألا تراهم قرؤا جثيا بكسر الجيم جمع جاث وقالوا: عصى فاتبعوا وسمع في جمعه بكاة كرام ورماة قال الشاعر:
ولا تراهم وإن جلت مصيبتهم
مع البكاة على من مات يبكونا
{ فخلف من بعدهم خلف } الآية، قال ابن عباس ومقاتل: نزلت في اليهود وإضاعة الصلاة تأخيرها عن وقتها قاله ابن مسعود وغيره: والشهوات عام في كل مشتهى يشغل عن الصلاة وذكر الله وعن على الشهوات من بني الشديد وركب المنظور ولبس المشهور وألغى كل شر والرشاد كل خير وقال عبد الله بن عمرو وغيره الغي واد في جهنم.
{ إلا من تاب } إستثناء متصل والضمير في تاب مفرد عائد على لفظ من ثم حمل على المعنى فجمع في قوله: فأولئك، وقرىء: يدخلون مبنيا للفاعل والمفعول وانتصب جنات عدن على أنه بدل من قوله: الجنة، وقرىء: بالرفع على إضمار مبتدأ محذوف تقديره تلك جنات عدن والعدن الإقامة يقال عدن بالمكان إذا قام به وقال الزمخشري: عدن علم لأن المضاف إليها وهو جنات وصف بالتي وهي معرفة فلو لم تكن جنات مضافة إلى معرفة لم توصف بالمعرفة " انتهى " ولا يتعين ذلك إذ يجوز أن تكون التي خبر مبتدأ محذوف أو منصوبا بإضمار أعني أو أمدح أو بدلا من جنات ويبعد أن يكون صفة لقوله الجنة للفصل بالبدل الذي هو جنات والحكم أنه إذا اجتمع النعت والبدل قدم النعت وجيء بعده بالبدل ودعوى الزمخشري أن عدنا علم بمعنى العدن يحتاج إلى توقيف وسماع من العرب وكذا دعوى العلمية الشخصية فيه، وقال الزمخشري أيضا: ولولا ذلك أي كونه علما لأرض الجنة لما ساغ الإبدال لأن النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة ولما ساغ وصفها بالتي " انتهى " أما قوله: ولولا ذلك إلى قوله: موصوفة فليس مذهب البصريين لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة وإن لم تكن موصوفة وإنما ذلك شىء قاله البغداديون وهم محجوجون بالسماع على ما بيناه في كتبنا في النحو فملازمته فاسدة وبالغيب حال أي وعدها وهي غائبة عنهم أي وهم غائبون عنها لا يشهدونها ومأتيا مفعول من أتى واحتمل وعده أن يكون اسم مفعول أي موعوده.
{ إلا سلاما } إستثناء منقطع لأن سلام الملائكة ليس من جنس اللغو ومعنى بكرة وعشيا جميع الأوقات وكني بالطرفين عن ذلك ألا ترى إلى قوله تعالى:
أكلها دآئم وظلها
[الرعد: 35].
{ نورث من عبادنا } التوريث استعارة أي يبقى عليه الجنة كما يبقى على الوارث مال الموروث والأتقياء يلقون ربهم وقد انقضت أعمالهم وثمرتها باقية وهي الجنة.
{ وما نتنزل إلا بأمر ربك } أبطأ جبريل عليه السلام مرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما جاء قال: يا جبريل قد اشتقت إليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا فنزلت الآية.
{ له ما بين أيدينا وما خلفنا } القصد بذلك الاشعار بملك الله تعالى لملائكته وأن قليل تصرفهم وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له وهم ملكه.
{ وما كان ربك نسيا } فعيل للمبالغة في ناس كرحيم مبالغة في راحم والمعنى أنه تعالى لا يهمل أمرك وارتفع رب السماوات على البدل من قوله: ربك أو على تقدير خبر مبتدأ محذوف تقديره هو رب وعدي فاصطبر باللام على سبيل التضمين أي أثبت بالصبر لعبادته لأن العبادة تورد شدائد فأثبت لها وأصله التعدية بعلى كقوله تعالى:
واصطبر عليها
[طه: 132] والسمي من يوافق في الاسم تقول هذا سميك أي اسمه مثل اسمك فالمعنى أنه لم يتسم بفلظ الله شىء قط وكان المشركون يسمون أصنامهم كاللات والعزى إله وأما لفظة الله فلم يطلقوه على شىء من أصنامهم.
{ ويقول الإنسان } الآية سبب النزول أي رجلا من قريش قيل هو أبي بن خلف جاء بعظم رفات فنفخ فيه وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيبعث هذا وسخر وكذب وإسناد هذه المقالة للجنس بما صدر من بعضهم، وقرىء: أئذا على الاستفهام وإذا على الخبر والناصب لإذا فعل محذوف تقديره أئذا مت أبعث ولا يمكن أن يعمل فيه لسوف أخرج لأن لام الابتداء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها قال الزمخشري: فإن قلت لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال فكيف جامعت حرف الاستقبال قلت لم تجامعها إلا مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض واضمحل عنها معنى التعريف " انتهى " ما ذكره من أن اللام تعطي معنى الحال منازع فيه فعلى مذهب من لا يقول ذلك يسقط السؤال وأما قوله: كما أخلصت الهمزة إلى آخره فليس ذلك إلا على مذهب من يزعم أن الأصل فيه الاله وأما من يزعم أن أصله لاه فلا تكون الهمزة فيه للتعويض إذ لم يحذف منه شىء ولو قلنا أن أصله إله وحذف فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض إذ لو كانت للعوض من المحذوفة لتثبت دائما في النداء وغيره ولما جاز حذفها في النداء قالوا: يا الله بحذفها وقد نصوا على أن قطع همزة الوصل في النداء شاذا ولا يذكر الإنسان كرر لفظ الإنسان تشنيعا عليه في إنكاره البعث وتذكيرا له بإيجاده قبل ذلك وإنشائه من العدم الصرف * قال الزمخشري: الواو عطفت لا يذكر على يقول وسقطت همزة الإنكار بين المعطوف عليه وحرف العطف " انتهى " * هذا رجوع منه إلى مذهب الجماعة من أن حرف العطف إذا تقدمته الهمزة فإنما عطف ما بعدها على ما قبلها وقدمت الهمزة لأن لها صدر الكلام وكان مذهبه أن يقدر بين الهمزة والحرف ما يصلح أن يعطف عليه ما بعد الواو فتقر الهمزة على حالها وليست مقدمة من تأخير وقد رددنا عليه هذه المقالة.
و { من قبل } أي من قبل بعثه وإنكاره البعث.
{ ولم يك شيئا } إشارة إلى العدم الصرف وانتفاء الشيئية عنه بدل على أن المعدوم لا يسمى شيئا ولما أقام الحجة على حقيقة البعث أقسم على ذلك باسمه تعالى مضافا إلى رسوله صلى الله عليه وسلم تشريفا له وتفخيما لقدره وقد تكرر هذا القسم في القرآن تعظيما لحقه ورفعا منه.
و { لنحشرنهم } جواب القسم والضمير المنصوب الظاهر أنه عائد على منكري البعث في قوله: ويقول الإنسان يريد الإنسان الجنس المنكر للبعث وقيل الضمير عام في جميع المحشورين والشياطين معطوف على الضمير المنصوب.
{ ثم لنحضرنهم } إن كان الضمير عاما أحضروا ليروا النار فيفرح المؤمن بنجاته وحول منصوب على الظرف وجثيا قاعدين على الركب.
{ ثم لننزعن } أي: لنخرجن كقوله تعالى:
ونزع يده
[الأعراف: 108] وقيل لزمين من نزع القوس وهو الرمي بالسهم * والشيعة الجماعة المرتبطة بمذهب والضمير في أيهم عائد على المحشورين المحضرين وأيهم مبني عند سيبويه وهو مفعول بلننزعن ويدل على أنه مفعول قراءة من قرأ أيهم بالنصب وأشد خبر مبتدأ محذوف تقديره هم أشد وليونس والخليل مذهب في أيهم وأيها استفهام مرفوع بالابتداء ذكر ذلك في النحو * وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون النزع واقعا على من كل شيعة كقوله:
ووهبنا لهم من رحمتنا
[مريم: 50] أي لننزعن بعض كل شيعة فكان قائلا قال: فمن هم فقيل أيهم أشد عتيا " انتهى " فيكون أيهم موصولة خبر مبتدأ محذوف وهذا تكلف وادعاء إضمار لا ضرورة تدعو إليه وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين وعتيا تمييز وأصله المصدر يقال عتا يعتو عتوا وعتيا.
{ ثم لنحن أعلم } أي نحن في ذلك النزع لا نضع شيئا مميز موضعه بها أي: بجهنم.
و { صليا } تمييز وهو في الأصل مصدر.
{ وإن منكم إلا واردها } إن نافية بمعنى ما وثم محذوف تقديره وإن منكم أحد إلا واردها خبر لمبتدأ محذوف ومعنى واردها أي معروض عليها ولا يقتضي الورود الدخول * قال ابن عطية: وإن منكم إلا واردها قسم والواو يقتضيه ويفسره قول النبي صلى الله عليه وسلم:
" من مات له ثلاث من الولد لم تمسه النار إلا تحلة القسم "
" انتهى " ذهل عن قول النحويين أنه لا يستغني عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو بأن والجواب جاء هنا على زعمه بأن النافية فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا عليه وقوله: الواو يقتضيه يدل على أنها عنده واو القسم ولا يذهب نحوي إلى أن مثل هذه الواو واو القسم لأنه يلزم من ذلك حذف المجرور وإبقاء الجار ولا يجوز ذلك إلا أن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه كما أولوا في قولهم نعم السير على بئس العير أي على عير بئس العير * وقول الشاعر:
والله ما زيد بنام صاحبه
أي برجل نام صاحبه
وهذه الآية ليست من هذا الضرب إذ لم يحذف المقسم به وقامت صفته مقامه.
{ كان على ربك } اسم كان ضمير عائد على المصدر المفهوم من قوله: واردها أي كان الورود ومفعول اتقوا محذوف أي الشرك والشرك هنا ظلم الكفر.
{ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينت } نزلت في النضر بن الحارث وأصحابه كان فقراء الصحابة في خشونة عيش ورثاثة سربال والمشركون يدهنون رؤوسهم ويرجلون شعورهم ويلبسون الحرير وفاخر الملابس فقالوا للمؤمنين أي الفريقين خير مقاما أي منزلا وسكنا * وأحسن نديا أي مجلسا ولما أقام الحجة على منكري البعث واتبعه بما يكون يوم القيامة أخبر عنهم أنهم عارضوا تلك الحجة الدامغة بحسن شارتهم في الدنيا وذلك عندهم يدل على كرامتهم عند الله ثم ذكر كثرة من أهلك من القرون ممن كان أحسن حالا منهم في الدنيا تنبيها على أنه تعالى يهلكهم ويستأصل شأفتهم وكم جزية مفعول بأهلكنا أي كثيرا أهلكنا.
و { من قرن } تمييز * قال الزمخشري: وهم أحسن في محل النصب صفة لكم ألا ترى أنك لو تركت هم لم يكن لك بد من نصب أحسن على الوصفية " انتهى " تابعه أبو البقاء على ذلك ونص أصحابنا على أن كم الخبرية والاستفهامية لا توصف ولا يوصف بها فعلى هذا يكون أحسن في موضع الصفة لقرن وجمع لأن القرن هو مشتمل على أفراد كثيرة فروعي معناه ولو أفرد الضمير على اللفظ لكان عربيا فصار كلفظ جميع قال تعالى:
فإذا هم جميع لدينا محضرون
[يس: 53] وقال: نحن جميع منتصر فوصفه بالجمع وبالمفرد وقرىء:
{ ورءيا } بهمزة ساكنة وزنه فعل بمعنى مفعول كالطحن بمعنى المطحون فمعناه مرئيا وقرىء: وريا بإبدال الهمزة ياء وإدغام الياء في الياء بعدها وهو بمعنى المهموز وقرىء: وزيا بالزاي بعدها ياء مشددة وهي البزة الحسنة والأثاث الآلات المجتمعة المستحسنة.
[19.75-98]
{ قل من كان في الضللة } الآية فليمدد يحتمل أن يكون على معناه من الطلب ويكون دعاء وكان الأصل منا ومنكم مد الله له أي أملى له حتى يؤول إلى عذابه وكان الدعاء على صيغة الطلب لأنه الأصل ويحتمل أن يكون خبرا في المعنى وصورته صورة الأمر تقديره فيمد له كما جاء في الأمر يراد به الخبر في قول الشاعر:
وكوني بالمكارم ذكريني
أي تذكرينني فأوقع الأمر وأراد به الخبر وحتى غاية لما قبله وجمع الضمير في رأوا حملا على معنى من بعد حمله مفردا في كان وفي له إما العذاب في الدنيا وهو غلبة المسلمين عليهم وتعذيبهم إياهم قتلا وأسرا وإظهار الله تعالى دينه على الدين كله على أيديهم وأما يوم القيامة وما ينالهم من العذاب والنكال فيحينئذ يعلمون عند المعاينة أن الأمر على عكس ما قدروه وأنهم شر مكانا وأضعف جندا لا خير مقاما وأحسن نديا وان المؤمنين على خلاف صفتهم * ولما ذكر امداد الضلال لهم في ضلالاتهم وارتباكهم في الافتخار بنعم الدنيا عقب ذكر ذلك بزيادة هدى للمتقين المهتدين وبذكر الباقيات الصالحات التي هي بدل من تنعيمهم في الدنيا التي تضمحل ولا تثبت * وقال الزمخشري: ويزيد معطوف على موضع فليمدد لأنه واقع موقع الخبر تقديره من كان في الضلالة مدا ويمد له الرحمن ويزيد أي يزيد في ضلال الضلال بخذلانه ويزيد المهتدي هداية بتوفيقه " انتهى " لا يجوز أن يكون ويزيد معطوفا على موضع فليمدد سواء كان دعاء أم خبرا بصورة الأمر لأنه في موضع الخبر ان كانت من موصولة أو في موضع الجواب إن كانت من شرطية وعلى كلا التقديرين فالجملة من قوله: ويزيد الله الذين اهتدوا عارية من ضمير يعود على من يربط جملة الخبر بالمبتدأ وجملة الشرط بالجزاء الذي هو فليمدد وما عطف عليه لأن المعطوف على جملة الجزاء جزاء وإذا كانت أداة الشرط إسما لا ظرفا تعين أن يكون في جملة الجزاء ضميرا أو ما يقوم مقامه وكذا في الجملة المعطوف عليها أي مرجعا وتقدم تفسيره في الباقيات الصالحات في الكهف.
{ أفرأيت الذي كفر } الآية قيل نزلت في العاص بن وائل عمل له خباب بن الأرت وكان قينا أي حدادا فاجتمع له عنده دين فتقاضاه فقال لا أقضيك حتى تكفر بمحمد فقال خباب: لا أكفر بمحمد حتى يميتك الله ويبعثك، فقال العاص: أو مبعوث أنا بعد الموت فقال خباب: نعم، قال فإنه إذا كان ذلك فسيكون لي مال وولد وعند ذلك أقضيك دينك والهمزة في أطلع للإستفهام ولذلك عادلتها أم ومفعول أرأيت الأول الذي كفر والمفعول الثاني جملة الاستفهام التي هي أطلع وما بعدها وتقدم الكلام على أرأيت في الأنعام عند الرحمن عهدا أي: له عمل صالح قدمه فهو يرجو بذلك ما يقول وكلا حرف ردع وزجر وتنبيه على الخطأ أي فهو مخطىء فيما يصوره لنفسه ويتمناه فليرتدع عنه ولم يجيء كلا فيما تقدم تفسيره من القرآن.
{ سنكتب ما يقول } كني بالكتابة عما يترتب عليها من الجزاء فلذلك دخلت السين التي للاستقبال أي سنجازيه على ما يقوله:
{ ونمد له } أي نطول له من العذاب الذي يعذب به المستهزؤون أي نزيده من العذاب ونضاعف له من المد.
{ ونرثه ما يقول } أي نسلبه المال والولد فيكون كالوارث له.
{ ويأتينا فردا } أي بلا مال ولا ولد واللام في ليكونوا لام كي، يكونوا الآلهة لهم عزا يتعززون بها في النصرة والمنعة والإنقاذ من العذاب والظاهر أن الضمير في سيكفرون عائد على أقرب مذكور محدث عنه فالمعنى أن الآلهة سيجحدون عبادة هؤلاء إياهم ويحتمل أن يكون الضمير للمشركين ينكرون لسوء العاقبة إن يكونوا كما قالوا
والله ربنا ما كنا مشركين
[الأنعام: 23].
{ ضدا } قال ابن عباس: أعوانا.
{ ألم تر أنآ أرسلنا الشياطين على الكافرين } الآية أرسلنا معناه سلطنا ولذلك عداه بعلى ومعنى تؤزهم أي تحركهم إلى الكفر.
{ فلا تعجل عليهم } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمعنى لا تعجل عليهم بأن يهلكوا.
{ إنما نعد لهم عدا } أياما محصورة وأنفاسا معدودة كأنها في سرعة تقضيها تعدو عدي نحشر بإلى الرحمن تعظيما لهم وتشريفا وذكر صفة الرحمانية التي حضهم بها كرامة إذ لفظ الحشر فيه جمع من أماكن متفرقة وأقطار شاسعة على سبيل القهر فجاءت لفظة الرحمن مؤذنة بأنهم يحشرون إلى من يرحمهم ولفظة الوفد مشعرة بالإكرام والتبجيل كما يفد الوفاد على الملوك منتظرين للكرامة عندهم ولفظة السوق فيه إزعاج وهو أن، وعدي بإلى جهنم تفظيعا لهم وتشنيعا لحال مقرهم والورد مصدر ورد أي سار إلى الماء كما قال الشاعر:
ردي ورد قطاة صما
كدرية أعجبها ورد ألما
وأطلق الورد على العطاش تسمية للشىء بسببه إذ لا يرد الماء إلا من كان عطشانا * والضمير في لا يملكون عائد على الخلق الدال عليهم ذكر المتقين والمجرمين إذ هم قسماه والاستثناء متصل ومن بدل من ذلك الضمير * وقال الزمخشري: ويجوز أن تكون يعني الواو في لا يملكون علامة للجمع كالتي في أكلوني البراغيث والفاعل من اتخذ لأنه في معنى الجمع " انتهى " * لا ينبغي حمل القرآن على هذه اللغة القليلة مع وضوح جعل الواو ضميرا وذكر الأستاذ أبو الحسن بن عصفور أنه لغة ضعيفة وأيضا قالوا والألف والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلا إلا بصريح الجمع وصريح التثنية أو العطف إما أن يأتي بلفظ مفرد يطلق على جمع أو على مثنى فيحتاج في إثبات ذلك إلى نقل عن العرب وأما عود الضمائر مثناة ومجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال ذلك إلا بسماع * والعهد هنا قال ابن عباس: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
{ وقالوا اتخذ الرحمن } الضمير في قالوا عائد على بعض اليهود حيث قالوا: عزير ابن الله وبعض النصارى حيث قالوا: المسيح ابن الله وبعض مشركي العرب حيث قالوا الملائكة بنات الله.
{ لقد جئتم } فيه التفات من ضمير الغيبة في قالوا: إلى ضمير الخطاب في جئتم زيادة تسجيل عليهم بالجراءة على الله والتعرض لسخطه وتنبيه على عظيم ما قالوا:
{ شيئا إدا } الاد بفتح الهمزة والاد بكسرها العجب وقيل العظيم المنكر والادة الشدة وآدني الأمر أثقلني وعظم علي وقرىء: يكاد بالياء وبالتاء وقرىء: * يتفطرون وينفطرون ومعنى ينفطرن بتشققن منه أي من نسبة الولد إلى الله * وهدا منصوب على الحال ومعناه هدما وسقوطا.
{ أن دعوا للرحمن ولدا } أن مع الفعل بتأويل المصدر وهو تعليل للأفعال قبله من الانفطار والانشقاق والخرور * قال الزمخشري: يجوز في أن دعوا ثلاثة أوجه أن يكون مجرورا بدلا من الهاء في منه كقوله:
على حالة لو أن في البحر حاتما
على جوده لضن بالماء حاتم
ومنصوبا بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي هذا لأن دعوا علل الخرور بالهد والهد بدعاء الولد ومرفوعا بأنه فاعل هدا أي هدها دعاء الولد للرحمن " انتهى " الأول فيه بعد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه بجملتين والثاني أيضا فيه بعد لأن الظاهر أن هذا لا يكون مفعولا له بل مصدر من معنى وتخر أو في موضع الحال والثالث أيضا بعيد لأن ظاهر هدا أن يكون مصدرا توكيد يا والمصدر التوكيدي لا يعمل ولو فرضناه غير توكيدي لم يعمل بقياس إلا إن كان أمرا أو مستفهما عنه نحو ضربا زيدا واضربا زيدا على خلاف فيه وأما أن كان خبرا كما قدره الزمخشري أي هدها دعاء الولد للرحمن فلا يقاس بل ما جاء من ذلك فهو نادر كقول امرىء القيس:
وقوفا بها صحبى على مطيهم
أي وقف صحبي ومعنى دعوا نسبوا لله الولد وينبغي مطاوع لبغي بمعنى طلب أي وما يتأتى له اتخاذ الولد لأن الولد مستحيل وينبغي من الأفعال التي تتصرف وسمع فيها الماضي قالوا ابتغي وقد عدها ابن مالك في التسهيل من الأفعال التي لا تتصرف وهو غلط * وكل مبتدأ مضافة إلى من الموصولة أي وكل الذي والخبر قوله: الا آتى وقال الزمخشري: من موصوفة لأنها وقعت بعد كل نكرة وقوعها بعد رب في قوله: * رب من انفجت غيظا صدره *.
" انتهى " * الأولى جعلها موصولة لأن كونها موصوفة بالنسبة إلى الموصولة قليل * وانتصب عبدا على الحال ثم ذكر تعالى أنه أحصاهم وأحاط بهم وحصرهم بالعدد فلم يفته أحد منهم وانتصب فردا على الحال أي منفردا ليس معه أحد ممن جعلوه شريكا له وخبر كلهم آتيه فردا وكل إذا أضيف إلى معرفة ملفوظ بها نحو كلهم وكل الناس فالمنقول أنه يجوز أن يعود الضمير مفردا على لفظ كل فتقول كلكم ذاهب ويجوز أن يعود جمعا مراعاة للمعنى فتقول كلكم ذاهبون * والسين في سيجعل للاستقبال فاحتمل أن يكون هذا الجعل في الدنيا وهي بأداة الاستقبال لأن المؤمنين كانوا بمكة حال نزول هذه السورة وكانوا ممقوتين من الكفرة فوعدهم الله بذلك إذا ظهر الإسلام وفشا واحتمل أن يكون ذلك في الدنيا لا على الإطلاق ومعنى ودا أي: محبة والضمير في يسرناه عائد على القرآن أي أنزلناه عليك ميسرا سهلا بلسانك، أي: بلغتك وهو اللسان العربي المبين.
{ لتبشر به المتقين } أي تخبرهم بما يسرهم وبما يكون لهم من الثواب على تقواهم * واللد جمع ألد لدا وهو الشديد الخصومة في الباطل.
{ وكم أهلكنا } تخويف لهم وإنذار بالاهلاك بالعذاب والضمير في قبلهم عائد على قوما لدا وهل تحس استفهام معناه النفي وكم خبرية بأهلكنا أي كثيرا أهلكنا ومن أحد مفعول بتحس ومن زائدة.
والركز قال ابن عباس: الصوت الخفي.
[20 - سورة طه]
[20.1-32]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * طه * مآ أنزلنا } الآية هذه السورة مكية بلا خلاف كان عليه السلام يراوح بين قدميه يقوم على رجل فنزلت * ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر تيسر القرآن بلسان الرسول أي بلغته وكان فيما علل به قوله لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا أكد ذلك بقوله: ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلا تذكرة لمن يخشى والتذكرة هنا البشارة والنذارة وأن ما ادعاه المشركون من إنزاله شقاء ليس كذلك بل إنما أنزل تذكرة والظاهر أن طه من الحروف المقطعة نحو يس والروما أشبههما وتقدم الكلام في أوائل البقرة والظاهر أن قوله: إلا تذكرة استثناء منقطع تقديره لكن أنزلناه تذكرة فتذكرة مفعول من أجله والعامل فيه أنزلناه هذه المقدرة وفي البحر أعاريب متكلفة تنظر هناك وانتصب.
{ تنزيلا } على أنه مصدر لفعل محذوف أي نزل تنزيلا * قال الزمخشري في نصب تنزيلا: وجوه أن يكون بدلا من تذكرة إذا جعل حالا لا إذا كان مفعولا له لأن الشىء لا يعلل بنفسه وأن ينصب بنزل مضمرا وأن ينصب بأنزلناه لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة وأن ينصب على المدح والاختصاص وأن تنصب بيخشى مفعولا له أي أنزله إليه تذكرة لمن يخشى تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين " انتهى " الأحسن ما قدمناه أولا من أنه منصوب بنزل مضمرة وما ذكره الزمخشري من نصبه على غير ذلك متكلف أما الأول ففيه جعل تذكرة وتنزيلا حالين وهما مصدران وجعل المصدر حالا لا ينقاس وأيضا فمدلول تذكرة ليس مدلول تنزيلا ولا تنزيلا بعض تذكرة وان كان بدلا فيكون بدل اشتمال على مذهب سيبويه يرى أن الثاني مشتمل على الأول لأن التنزيل مشتمل على التذكرة وغيرها وأما قوله: لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرة أنزلناه تذكرة فليس كذلك لأن معنى الحصر يفوت في ذلك وأما نصبه على المدح فبعيد وأما نصبه بيخشى ففي غاية البعد لأن يخشى رأس آية فاصلة لا يناسب أن يكون تنزيلا مفعولا بيخشى * قال الزمخشري: ويجوز أن يكون أنزلناه حكاية لكلام جبريل والملائكة النازلين معه " انتهى " هذا تجويز بعيد بل الظاهر أنه إخبار من الله عن نفسه ممن خلق ومن الظاهر أنها متعلقة بتنزيل ويجوز أن يكون في موضع الصفة فتتعلق بمحذوف وفي قوله ممن خلق التفات إذ فيها خروج من ضمير المتكلم وهو نافي أنزلنا إلى الغيبة والعلا جمع العليا ووصف السماوات بالعلا دليل على عظم قدرة من اخترعها إذ لا يمكن وجود مثلها في علوها من غيره تعالى * قال ابن عطية: ويجوز أن يكون يعني الرحمن بدلا من الضمير المستتر في خلق " انتهى " أرى أن مثل هذا لا يجوز لأن البدل يحل محل المبدل منه والرحمن لا يمكن أن يحل محل الضمير لأن الضمير عائد على من الموصولة وخلو صلته والرابط هو الضمير فلا يحل محله الظاهر لعدم الرابط * قال الزمخشري: روى جناح بن خنيس عن بعضهم أنه قرأ الرحمن بالكسر صفة لمن خلق ومذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص التي لا تتم إلا بصلاتها نحو من وما لا يجوز نعتها إلا الذي والتي فيجوزهم نعتهما فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون الرحمن صفة لمن خلق فالأحسن أن يكون الرحمن بدلا من من وقد جرى الرحمن في القرآن مجرى العلم في ولايته العوامل.
{ له ما في السموت } ما غاية يشمل من يعقل ومن لا وأنه له ملك جميع ما حوت السماوات والأرض.
{ وما بينهما وما تحت الثرى } أي تحت الأرض السابعة قاله ابن عباس والخطاب بقوله:
{ وإن تجهر } لرسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا والمراد أمته، ولما كان خطاب الناس لا يتأتى إلا بالجهر بالكلام، جاء الشرط بالجهر وعلق على الجهر علمه بالسر لأن علمه بالسر يتضمن علمه بالجهر، أي: إذا كان يعلم السر فأحرى الجهر كما قال يعلم سركم وجهركم والظاهر ان أخفى أفعل تفضيل أي وأخفى من السر * قال ابن عباس: السر ما تسره إلى غيرك والأخفى ما تخفيه في نفسك.
{ الله لا إله إلا هو } الله مبتدأ ولا إله إلا هو الخبر.
و { له الأسمآء الحسنى } خبر ثاني ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف كأنه قيل من الذي يعلم السر وأخفى فقيل هو الله.
و { الحسنى } تأنيث الأحسن وصفة المؤنثة المفردة يجري على جمع التكسير وحسن ذلك كونها وقعت فاصلة والأحسنية كونها تضمنت المعاني التي هي في غاية الحسن من التقديس والتعظيم والربوبية والافعال التي لا يمكن صدورها إلا منه تعالى.
{ وهل أتاك حديث موسى } مناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر تعظيم كتابه وتضمن تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم اتبعه بقصة موسى لتتأسى به في تحمل أعباء النبوة وتكاليف الرسالة * وهل أتاك حديث موسى الآية هذا استفهام تقرير يحث على الإصغاء لما يلقى إليه وكان من حديثه أنه لما قضى أكمل الأجلين استأذن شعيبا في الرجوع من مدين إلى مصر لزيارة والدته وأخيه فأذن له وقد طالت مدة جنايته بمصر ورجا خفاء أمره فخرج بأهله وماله وكان في فصل الشتاء وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام وامرأته حامل ولا يدري أليلا تضع أم نهارا فسار في البرية لا يعرف طريقها فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في ليلة مظلمة مثلجة شديدة البرد وأخذ امرأته الطلق فقدح زنده فلم يور والظاهر أن إذ ظرف للحديث لأنه حدث قال لأهله: امكثوا أي أقيموا في مكانكم وخاطب امرأته وولديه والخادم.
{ إني آنست } أي أحسست والنار على بعد لا تحس إلا بالبصر فلذلك فسره بعضهم برأيت والايناس أعم من الرؤية لأنك تقول أآنست من فلان خبرا والظاهر أنه رأى نارا حقيقة ولفظة على هنا على بابها من الاستعلاء ومعناه: أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها وانتصب:
{ هدى } على أنه مفعول له على تقدير محذوف أي ذا هدى وكان قد أضل الطريق فيرجى أن يجد من يهديه إلى الطريق والضمير في أتاها عائد على النار أتاها فإذا هي مضطرمة في شجرة خضراء يانعة عناب قاله ابن عباس: فكأنه كلما قرب منها تباعدت فإذا أدبر اتبعته فأيقن أن هذا أمر من أمور الله الخارقة للعادة ووقف متحيرا وسمع من السماء تسبيح الملائكة وألقيت عليه السكينة ونودي وهو تكليم الله إياه ونودي مبني للمفعول وحذف الفاعل للتعظيم ولما كان النداء بمعنى القول كسرت ان بعده فقيل: اني أنا كما يكسر بعد القول الصريح والظاهر أن أمره إياه تعالى بخلع النعلين لعظم الحال التي حصل فيها كما تخلع عند الملوك غاية في التواضع وقيل كانتا من جلد حمار ميت فأمر بطرحهما لنجاستهما وفي الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم
" كان على موسى عليه السلام يوم كلمه ربه كساء صوف وجبة صوف وكمة صوف وسراويل صوف وكانت نعلاه من جلد حمار ميت * "
قال الترمذي: هذا حديث غريب والكمة القلنسوة الصغيرة لكن أمره بخلعهما لينال بركة الوادي المقدس وتمس قدماه تربته والمقدس المطهر.
و { طوى } اسم علم عليه فيكون بدلا أو عطف بيان، وقرىء: منونا لوحظ فيه معنى المكان وغير منون لوحظ فيه معنى البقعة فمنع من الصرف للعلمية والتأنيث وقرىء:
{ وأنا اخترتك } فأنا مبتدأ أو اخترتك جملة في موضع الخبر وقرىء: وانا اخترناك أنا وان اسمها واخترناك في موضع الخبر لما يوحى متعلق باستمع وما موصولة بمعنى الذي يوحي وفيه ضمير يعود على ما تقديره يوحي هو * وقال أبو الفضل الجوهري لما قيل لموسى عليه السلام استمع لما يوحى وقف على حجر واستند إلى حجر ووضع يمينه على شماله وألقى ذقنه على صدره ووقف يستمع وكان كل لباسه صوفا والموحى قوله:
{ إنني أنا الله } إلى آخر الجمل، جاء ذلك تبيينا وتفسيرا للإبهام في قوله: لما يوحى ففي الاخبار الأول قال: أنا ربك أي مالكك والناظر في مصلحتك وفي الثاني أنا الله ذكر الاسم العلم المعظم العلم الدال على جميع الصفات العلية والظاهر أن فاعبدني لفظ يتناول ما كلفه به من العبادة وعطف عليه ما قد يدخل تحت ذاك المطلق فبدأ بالصلاة إذ هي أفضل الأعمال وأنفعها في الآخرة والذكر مصدر يحتمل أن يضاف إلى المفعول أي لتذكرني فإن ذكري أن أعبد ويصلى لي لما ذكر تعالى الأمر بالعبادة وأقام الصلاة.
ذكر الحامل على ذلك وهو البعث والمعاد أي الجزاء فقال:
{ إن الساعة آتية } وهي التي يظهر عندها ما عمله الإنسان وجزاء ذلك إما ثوابا وإما عقابا.
{ أكاد أخفيها } أخفي من الأضداد بمعنى الإظهار وبمعنى السر * قال أبو عبيدة خفيت وأخفيت بمعنى واحد وقد حكاه عن أبي الخطاب وأكاد من أفعال المقاربة لكنها هنا مجاز بالنسبة إلى الله ولتجزى متعلقة بآتية وأكاد أخفيها جملة اعتراض بينهما ويجوز أن يتعلق لتجزى بقوله: أخفيها إذا كان المعنى أظهرها والظاهر أن الضمير في عنها عائد على الساعة والمعنى عن اعتقاد صحتها ووقوعها لا محالة والحشر بعدها والجزاء والظاهر أن الخطاب في فلا يصدنك لموسى عليه السلام ولا يلزم من النهي عن الشىء إمكان وقوعه ممن سبقت له العصمة فينبغي أن يكون له لفظا وللسامع غيره ممن يمكن وقوع ذلك منه.
{ واتبع هواه } عطفا على صلة من.
{ فتردى } جواب للنهي وأن مقدرة بعد فاء الجواب وتردى علامة النصب فيه فتحة مقدرة في الألف ومثاله في جواب النهي قوله تعالى:
ولا تطغوا فيه فيحل
[طه: 81].
{ وما تلك بيمينك يموسى } علم تعالى في الأول ما هي. وإنما سأله ليريه عظم ما يخترعه عز وعلا في الخشبة اليابسة من قلبها حية تسعى وليقرر في نفسه البعد بين المقلوب عنه والمقلوب إليه وتنبيه على قدرته الباهرة وما استفهام مبتدأ وتلك خبره وبيمينك في موضع الحال كقوله: وهذا بعلي شيخا والعامل إسم الإشارة * وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون تلك إسما موصولا صلته بيمينك ولم يذكر ابن عطية غيره وليس ذلك مذهبا للبصريين وإنما ذهب إليه الكوفيون قالوا: يجوز أن يكون إسم الإشارة موصولا حيث يتقدر بالموصول كأنه قيل وما التي بيمينك وعلى هذا فيكون العامل في المجرور محذوفا كأنه قيل وما التي استقرت بيمينك وفي هذا السؤال وما قبله من خطابه لموسى عليه السلام استئناس عظيم وتشريف كريم.
{ قال هي عصاي } قرأ ابن إسحاق والجحدري عصي وهي لغة هذيل * قال الشاعر:
يطوف بي غلب في معد
ويضرب بالصلمة في قفينا
يريد في قفاي.
{ أتوكأ عليها } التوكؤ على الشىء التحامل عليه في المشي والوقوف ومنه الاتكاء توكأت واتكأت بمعنى واحد.
{ وأهش } هش على الغنم يهش بضم الهاء خبط أوراق الشجر لتسقط وهش إلى الرجل يهش بالكسر قاله ثعلب إذا نش وأظهر الفرح به والأصل في هذه المادة الرخاوة يقال: رجل هش وقوم في الجواب مصلحة نفسه في قوله: أتوكأ عليها ثم ثنى بمصلحة رعيته في قوله: وأهش بها على غنمي.
و { مآرب } ذكر المفسرون أنها كانت ذات شعبتين ومحجن فإذا طال الغصن حناه بالمحجن وإذا طلب كسره لواه بالشعبتين وإذا سار ألقاها على عاتقه فعلق بها أدواته من القوس والكنانة والحلاب وإذا كان في البرية وكزها وعرض الزندين على شعبتها وألقى عليها الكساء واستظل وإذا قصر رشاؤه وصله بها وكان يقاتل بها السباع عن غنمه والمآرب الحاجات وعامل المآرب وان كانت جمعا معاملة الواحدة المؤنثة فاتبعها صفتها في قوله: أخرى ولم يقل أخر رعيا للفواصل وهو جائز من غير الفواصل فكان أجوز وأحسن في الفواصل.
{ قال ألقها } الظاهر أن القائل هو الله تعالى ومعنى ألقها أطرحها على الأرض.
{ فإذا هي } التي للمفاجأة والحية ينطلق على الصغير والكبير والذكر والأنثى والجان الرقيق من الحيات والثعبان العظيم منها ولا ينافي بين تشبيهها بالجان في قوله:
فلما رآها تهتز كأنها جآن
[النمل: 10، القصص: 31] وبين كونها ثعبانا لأن تشبيهها بالجان هو أول حالها ثم تزيدت حتى صارت ثعبانا أو شبهت بالجان وهي ثعبان في سرعة حركتها واهتزازها مع عظم خلقها قيل كان له عرف كعرف الفرس وصارت شعبتا العصا لها فما وبين لحييها أربعون ذراعا وعن ابن عباس انقلبت ثعبانا يتبلع الصخر والشجر المحجن عنقا وعيناها يقدان فلما رأى هذا الأمر العجيب الهائل لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف لا سيما هذا الأمر الذي يذهل العقول ومعنى تسعى تمشي وتنتقل بسرعة وحكمة انقلابها وقت مناجاته تأنيسه بهذا المعجز الهائل حتى يلقيها لفرعون فلا يلحقه ذعر منها في ذلك الوقت إذ قد جرت له بذلك عادة وتدريبه في تلقي تكاليف النبوة ومشاق الرسالة ثم أمره تعالى بالاقدام على أخذها ونهاه عن أن يخاف منها والسيرة من السير وهي الهيئة كالركبة والجلبية يقال سار فلان سيرة حسنة ثم اتسع فيها فتقلب إلى معنى المذهب والطريقة وقيل سير الأولين أي طريقة الأولين وانتصب:
{ سيرتها } على أنه بدل اشتمال من الضمير المنصوب في سنعيدها أي سنعيد سيرتها الأولى وهي كونها كانت عصا.
{ واضمم يدك إلى جناحك } الجناح حقيقة في الطائر ثم أطلق على العضد مجاز أو في الكلام حذف إذ لا يترتب الخروج على الضم وإنما يترتب على الإخراج والتقدير واضمم يدل إلى جناحك ينضم وأخرجها تخرج فحذف من الأول وأبقى مقابله ومن الثاني وأبقى مقابله وهو اضمم لأنه معنى ادخل كما تبين في الآية الأخرى.
{ تخرج بيضآء } قيل خرجت بيضاء تضيء وتشف كأنها شمس وكان آدم اللون وانتصب بيضاء على الحال.
و { سوء } الرداءة والقبح في كل شىء وقوله: من غير سوء متعلق ببيضاء لأنه لو قال بيضاء لأوهم ذلك من برص أو بهق وانتصب:
{ آية } على الحال * وقال الزمخشري: يجوز أن يكون منصوبا على إضمار خذ ودونك وما أشبه ذلك يحذف لدلالة الكلام كذا قال: " انتهى " * أما تقديره فشائع وأما دونك فلا يسوغ لأنه اسم فعل من باب الإغراء ولا يجوز حذفه لأنه حذف منه في الأصل العامل فيه وناب منابه فلا يجوز أن يحذف النائب والمنوب منه ولذلك لم يجر مجراه في جميع أحكامه.
و { أخرى } أي غير الآية الأولى التي هي قلب العصا حية واللام في لنريك لام كي.
و { الكبرى } صفة لقوله: آياتنا فوصف الجمع بما يوصف به المفرد ولو كان ذلك في الكلام لكان الوصف مطابقا في الجمع للموصوف فكان يكون الكبر لكن حسن هذا كون الكبرى فاصلة * قال الزمخشري: لنرينك أي حد هذه الآية أيضا بعد قلب العصا حية لنريك بهاتين بعض آياتنا الكبرى أو لنريك بهما الكبرى من آياتنا أو لنرينك من آياتنا الكبرى فعلنا ذلك يعني أنه أجاز أن يكون مفعول لنريك الثاني الكبرى أو يكون من آياتنا في موضع المفعول الثاني ويكون الكبرى صفة لآياتنا على حد الأسماء الحسنى ومآرب أخرى مجريان مثل هذا الجمع مجرى الواحدة المؤنثة وأجاز هذين الوجهين من الإعراب الحوفي وابن عطية وأبو البقاء والذي نختاره أن يكون من آياتنا في موضع المفعول الثاني والكبرى صفة لآياتنا لأنه يلزم من ذلك أن تكون آياته تعالى كلها هي الكبرى لأن ما كان بعض الآيات الكبرى صدق عليه أنه آية الكبرى فإذا جعلت الكبرى مفعولا فلا يمكن أن يكون صفة للعصا واليد معا لأنهما كانا يلزم التثنية في وصفهما وكان يكون التركيب الكبريين ولا يمكن أن يخص أحدهما لأن كلا منهما فيها معنى التفضيل ويبعد ما قال الحسن من أن اليد أعظم في الإعجاز من العصا لأنه ذكر عقيب اليد لنريك من آياتنا الكبرى لأنه جعل الكبرى مفعولا ثانيا لنريك وجعل ذلك راجعا إلى الآية القريبة وهي إخراج اليد بيضاء من غير سوء وقد ضعف قوله هذا لأنه ليس في اليد إلا تغير اللون وأما العصا ففيها تغير اللون وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والأعضاء المختلفة وابتلاع الحجر والشجر ثم عادت عصا بعد ذلك فقد وقع التغيير مرارا فكانت أعظم من اليد ولما أراه الله تعالى هاتين المعجزتين العظيمتين في نفسه وفيما يلابسه وهو العصا أمره بالذهاب إلى فرعون رسولا من عنده تعالى وعلل حكمه الذهاب إليه بقوله: انه طغى وخص فرعون وإن كان مبعوثا إليهم كلهم لأنه رأس الكفر ومدعي الإلهية وقومه تباعه.
{ قال رب اشرح لي صدري } الآية سأل ربه ورغب في أن يشرح صدره ليحتمل ما يرد عليه من الشدائد التي يضيق لها الصدر * والعقدة استعارة للثقل الذي كان في لسانه خلقة وقيل كان من الجمرة التي أدخلها فاه في قصة حكيت في البحر قال الزمخشري: وفي تنكيره العقدة ولم يقل واحلل عقدة لساني أنه طلب حل بعضها إرادة أن يفهم عنه فهما جيدا ولم يطلب الفصاحة الكاملة ومن لساني صفة للعقدة كأنه قيل عقدة من عقد لساني " انتهى " يظهر أن من لساني متعلق باحلل لا في موضع الصفة لعقدة وكذا قال الحوفي وأجاز أبو البقاء الوجهين * والوزير المعين القائم بوزر الأمور أي بثقلها فوزير الملك يتحمل عنه أوزاره ومؤنه وقيل من الوزر وهو الملجأ يلتجىء إليه الإنسان ويجوز أن يكون وزيرا مفعولا أول والمفعول الثاني من أهلي ويجوز أن يكون هارون مفعولا أول ووزيرا مفعولا ثانيا ويجوز في الوجه الأول أن يكون هارون مفعولا أول ووزيرا مفعولا ثانيا ويجوز في الوجه الأول أن يكون هارون بدلا من وزيرا بدل معرفة من نكرة ولا يجوز أن يكون عطف بيان للتخالف لكون وزيرا نكرة وهارون معرفة قال الزمخشري: وإن جعل يعني أخي عطف بيان جاز وحسن " انتهى " يبعد فيه عطف البيان لأن الأكثر أن يكون الأول دونه في الشهرة والأمر هنا بالعكس وقرىء: أشدد بهمزة قطع جوابا لقوله: اجعل وقرىء: بوصل الهمزة وهو طلب من موسى عليه السلام لربه أن يشد أزره به * وأشركه على معنى الدعاء في شد الأزر فكان هارون أكبر من موسى عليه السلام بأربعة أعوام وجعل موسى ما رغب فيه وطلبه من نعم سببا يلزم فيه العبادة والاجتهاد في أمر الله والتظافر على العبادة والتعاون فيها مثير للرغبة والتزيد من الخير.
[20.33-47]
{ كي نسبحك } أي ننزهك عما لا يليق بك.
{ ونذكرك } بالدعاء والثناء عليك وقدم التسبيح لأنه تنزيهه تعالى في ذاته وصفاته وبراءته عن النقائص ومحل ذلك القلب والذكر الثناء على الله تعالى بصفات الكمال ومحله اللسان فلذلك قدم ما محله القلب * وكثيرا نعت لمصدر محذوف.
{ إنك كنت بنا بصيرا } أي عالما بأحوالنا والسؤل فعل بمعنى المسؤول كالخبز والأكل بمعنى المخبوز والمأكول والمعنى أعطيت طلبتك وما سألته من شرح الصدر وتيسير الأمر وحل العقدة وجعل أخيك وزيرا وذلك من المنة عليه ثم ذكره تعالى تقديم منته عليه على سبيل التوقيف ليعظم اجتهاده وتقوى بصيرته * ومرة معناه منة وأخرى تأنيث أخر بمعنى غير أي منة غير هذه المنة.
{ إذ أوحينآ إلى أمك } قال الجمهور: هو وحي إلهام كقوله تعالى:
وأوحى ربك إلى النحل
[النحل: 68] وقيل وحي إعلام إما بإراءة ذلك في المنام واما ببعث ملك إليها لا على جهة النبوة كما بعثه إلى مريم وهذا هو الظاهر لظاهر قوله: يأخذه عدو لي وعدو له ولظاهر آية القصص
إنا رآدوه إليك وجاعلوه من المرسلين
[القصص: 7] * وان يحتمل أن تكون مفسرة بمعنى أي: لأنه تقدم أوحينا وهو بمعنى القول ويحتمل أن تكون مصدرية وصلت الأمر * التابوت كان من خشب سدت خروقه وفرشت فيه نطعا وقطنا محلوجا وسرت فمه وجصصته وألقته في اليم وهو اسم للبحر العذب والظاهر أن الضمير في:
{ فاقذفيه } عائد على موسى وكذلك الضمير ان بعده إذ هو المحدث عنه لا التابوت إنما ذكر التابوت على سبيل الوعاء والفضلة.
{ فليلقه اليم } إنما ذكره بلفظ الأمر لسابق علمه بوقوع المخبر به على ما أخبر به وكان البحر مأمور متمثل للأمر.
{ يأخذه } جواب الأمر الذي هو فليقله والظاهر أن البحر ألقاه بالساحل فالتقطه منه والعدو الذي لله ولموسى هو فرعون وأخبرت به أم موسى على طريق الإلهام ولذلك قالت لأخته قصيه وهي لا تدري أين استقر.
{ وألقيت عليك محبة مني } قيل محبة آسية وفرعون وكان فرعون أحبه حبا شديدا حتى لا يتمالك أن يصبر عنه وكذا من رآه ومني يجوز أن يكون متعلقا بألقيت ويجوز أن يكون في موضع الصفة فيتعلق بمحذوف تقديره كائنة مني وقرأ الجمهور: ولتصنع بكسر لام كي وضم التاء ونصب الفعل أي لتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك وراقبك كما يراعي الرجل الشىء بعينه إذا اعتنى به وهو معطوف على محذوف أي ليتلطف بك ولتصنع أو متعلقة بفعل متأخر تقديره فعلت ذلك.
{ إذ تمشي أختك } قيل إسمها مريم * قيل سبب ذلك أن آسية عرضته للرضاع فلم يقبل امرأة فجعلت تنادي عليه في المدينة ويطاف به ويعرض للمراضع فيأبى وبقيت أمه بعد قذفه في اليم مغمومة فأمرت أخته بالتفيتش في المدينة لعلها تقع على خبره فبصرت به في طوافها فقالت: أنا أدلكم على من يكفله لكم وهم له ناصحون فتعلقوا بها وقالوا: أنت تعرفين هذا الصبي فقالت: لا ولكني أعلم من أهل هذا البيت الحرص على التقرب إلى الملكة والجد في خدمتها ورضاها فتركوها وسألوها الدلالة فجاءت بأم موسى عليه السلام فلما قربته شرب ثديها فسرت آسية بذلك وقالت لها: كوني معي في القصر، فقالت: ما كنت لأدع بيتي وولدي ولكنه يكون عندي، قالت: نعم، فأحسنت إلى أهل ذلك البيت غاية الإحسان واعتز بنو إسرائيل بهذا الرضاع والنسب من الملكة ولما كمل رضاعه أرسلت آسية إليها أن جيئيني بولدي ليوم كذا وأمرت خدمها ومن لها أن يلقينه بالهدايا والتحف واللباس فوصل إليها على ذلك وهو بخير حال وأجمل شأن فسرت به ودخلت به على فرعون ليراه وليهبه فأعجبه وقربه إليه فأخذ موسى عليه السلام بلحيته وتقدم ما جرى له عند ذكر العقدة * وإذ بدل من إذ في قوله: إذ أوحينا فالعامل فيها مشى وقرىء: تقر بكسر القاف وتقدم أنهما لغتان في قوله:
وقري عينا
[مريم: 26] وقرأ جناح بن حبيش بضم التاء وفتح القاف مبنيا للمفعول.
{ وقتلت نفسا } هو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي قتله وهو ابن اثنتي عشرة سنة واغتم بذلك خوفا من عقاب الله ومن اقتصاص فرعون فغفر الله له ذلك باستغفاره حين قال:
رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي
[القصص: 16] ونجاه من فرعون حين هاجر به إلى مدين والغم ما يغم على القلب بسبب الخوف من القتل * وفتونا مصدر وفتناك خلصناك من محنة إلى محنة ولد في عام كان يقتل فيه الولدان وألقته أمه في البحر وهم فرعون بقتله وقتل قبطيا فخرج خائفا إلى أهل مدين فلبث سنين وكان عمره حين ذهب إلى مدين اثني عشر عاما والسنون التي لبثها في مدين عشر سنين وأقام عشرة أعوام في رعي غنم شعيب ثم ثمانية عشرة عاما بعد بنائه بامرأته بنت شعيب وولد له فكمل له أربعون سنة وهي المدة التي عادة الله إرسال الأنبياء على رأسها.
{ ثم جئت } أي المكان الذي ناجيتك فيه وكلمتك واستنبأتك.
{ على قدر } أي وقت معين قدرته لم تتقدم ولم تتأخر عنه.
{ واصطنعتك لنفسي } أي جعلتك موضع الصنيعة ومقر الإجمال والإحسان وأخلصتك بالالطاف واخترتك لمحبتي يقال اصطنع فلان فلانا اتخذه صنيعه وهو افتعال من الصنع وهو الإحسان إلى الشخص حتى يضاف إليه فيقال هذا صنيع فلان.
{ اذهب أنت وأخوك بآياتي } أمره الله أولا بالذهاب إلى فرعون فلما دعا ربه وطلب منه أشياء كان منهما أن يشرك أخاه هارون فذكر الله عالى أنه آتاه سؤله وكان منه إشراك أخيه فأمره هنا وأخاه بالذهاب * وأخوك معطوف على الضمير المستكن في اذهب المؤكد بأنت وتقدم الكلام على نظيره في قوله:
فاذهب أنت وربك
[الآية: 24] في المائدة وظاهر بآياتي الجمع فقيل هي العصا واليد وحل عقدة لسانه.
{ ولا تنيا } أي لا تفترا ولا تقصرا والوني الفتور يقال ونايني ولما حذف من يذهب إليه في الأمر قبله نص عليه في هذا الأمر الثاني فقيل.
{ اذهبآ إلى فرعون } أي بالرسالة ونبه على سبب الذهاب إليه بالرسالة من عنده بقوله:
{ إنه طغى } أي مجاوزا الحد في الفساد ودعواه الربوبية والألوهية من دون الله.
{ فقولا له قولا لينا } القول اللين هو مثل ما في سورة النازعات هل لك إلى أن تزكى الآيات وهذا من لطيف الكلام إذا أبرز ذلك في صورة الاستفهام والعرض لما فيه من الفوز العظيم.
{ لعله يتذكر } والترجي بالنسبة لهما إذ هو مستحيل وقوعه من الله أي اذهبا على رجائكما وطمعكما وباشرا الأمر مباشرة من يرجو ويطمع أن يثمر عمله ولا يخيب سعيه وقوله: يتذكر حالة نشأته صغيرا وأنه حدث بعد أن لم يكن موجودا.
{ أو يخشى } عقاب الله في دعواه الربوبية وفرط سبق ومنه الفارط السابق والمعنى أننا نخاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها أو أن يطغى في التخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجرأته عليك وقسوة قلبه وفي المجيء به هكذا على سبيل الإطلاق والرمز باب من حسن الأدب وتجاف عن التفوه بالعظيمة.
{ إنني معكمآ } المعية هنا بالنصرة والعون.
{ أسمع } أقوالكما.
{ وأرى } أفعالكما وقال ابن عباس: أسمع جوابه لكما وأرى ما يفعل بكما وهما كناية عن العلم.
{ فأتياه } كرر الأمر بالإتيان.
{ فقولا إنا رسولا ربك } وخاطباه بقولكما ربك تحقيرا له وإعلاما أنه مربوب مملوك إذ كان هو يدعي الربوبية وأمرا بدعواته إلى أن يبعث معهما بني إسرائيل ويخرجهم من ذل خدمة القبط وكانوا يعذبونهم بتكليف الأعمال الشاقة من الحفر والبناء ونقل الحجارة والسخرة في كل شىء مع قتل الولدان واستخدام النساء وقد ذكر في هذه الآية دعاءه إلى الإيمان فجملة ما دعي إليه فرعون الإيمان وإرسال بني إسرائيل ثم ذكرا ما يدل على صدقهما في إرسالهما إليه فقالا:
{ قد جئناك بآية من ربك } وتكرر أيضا قولهما من ربك على سبيل التوكيد بأنه مربوب مقهور والآية التي أحالا عليها هي العصا واليد ولما كانا مشتركين في الرسالة صح نسبة المجيء بالآية إليهما وإن كانت صادرة من أحدهما قد جئناك بآية من ربك جارية من الجملة الأولى وهي انا رسولا ربك مجرى البيان والتفسير لأن دعوى الرسالة لا يثبت الدعوى برهانها وكأنه قال: قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعيناه من الرسالة وكذلك قد جئتكم ببينة من ربكم فائت بآية ان كنت من الصادقين.
{ والسلام على من اتبع الهدى } مندرج متصل بقوله انا قد أوحي إلينا فيكون إذ ذاك خبرا بسلامة المهتدين من العذاب وفيه تنبيه على أن فرعون ليس من اتبع الهدى.
[20.48-71]
{ إنا قد أوحي إلينآ } الآية أوحي مبني للمفعول والمفعول الذي لم يسم فاعله مصدر منسبك من أن وما بعدها تقديره أوحي إلينا كينونة العذاب على من كذب وفيه تنبيه على أن فرعون ممن كذب وتولى.
{ قال فمن ربكما يموسى } الآية بين قال: وفمن محذوف تقديره سمعت قولكما فمن ربكما وخاطبهما معاد أفرد موسى عليه السلام بالنداء إذ كان صاحب عظم الرسالة وهارون وزيره وتابعه واستبد موسى عليه السلام بجواب فرعون من حيث خصه بالسؤال والنداء معا ثم أعلمه من صفات الله بالصفة التي لا شرك فيها لفرعون بوجه ولا مجاز والمعنى أعطى كل ما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الاتقان.
{ ثم هدى } أي يسر كل شىء لمنافعه ومرافقه فأعطى العين الهيئة التي تطابق الابصار والإذن الشكل الذي يناسب الاستماع وكذلك الأنف واليد والرجل واللسان كل واحد منهما يطابق لما علق به من المنفعة غير ناب عنه قال الزمخشري: والخلق المخلوق لأن البطش والرؤية والنطق معان مخلوقة أودعها الله للأعضاء.
{ قال فما بال القرون الأولى } لما أجابه موسى عليه السلام بجواب فسكت ولم يقدر فرعون على معارضته فيه انتقل إلى سؤال آخر وهو ما حال من هلك من القرون وذلك على سبيل الروغان عن الإعتراف بما قال موسى وما أجابه به والحيدة والمغالطة قيل سأله عن أخبارها وأحاديثها ليختبر أهما نبيان أو هما من جملة القصاص الذين دارسوا قصص الأمم السالفة ولم يكن عنده عليه السلام علم إذ التوراة إنما نزلت عليه بعد هلاك فرعون فقال:
{ علمها عند ربي } والكتاب هنا اللوح المحفوظ وقيل فيما كتبته الملائكة من أحوال البشر.
{ لا يضل ربي } الكتاب .
{ ولا ينسى } ما فيه.
{ الذي جعل لكم الأرض مهدا } الآية لما ذكر موسى عليه السلام دلالته على ربوبية الله تعالى وتم كلامه عند قوله: ولا ينسى ذكر تعالى ما نبه به على قدرته ووحدانيته فأخبر عنه نفسه بأنه هو الذي صنع كيت وكيت وإنما ذهبنا إلى أن هذا هو من كلام الله تعالى لقوله تعالى فأخرجنا به وقوله كلوا وارعوا أنعامكم وقوله: ولقد أريناه فيكون قوله: فأخرجنا وأريناه التفاتا من ضمير الغائب في جعل وسلك إلى ضمير المتكلم المعظم نفسه ولا يكون الإلتفات من قائلين، وقرىء: مهدا ومهادا ومعنى سبلا أي طرقا وأزواجا أصنافا وشتى صفة للأزواج والألف فيها للتأنيث ووزنها فعلى * ومن نبات صفة لقوله أزواجا يتعلق بمحذوف تقديره كائنة من أنبات وتأخر جعل الاسم صفة على المجرور الذي هو صفة مراعاة لكون شتى فاصلة ومعنى شتى مختلفة الطعم واللون والرائحة والشكل بعضها يصلح للناس وبعضها يصلح للبهائم.
{ كلوا وارعوا أنعامكم } أمر إباحة معمول بحال محذوفة أي فاخرجنا قائلين أي آذنين في الانتفاع بها مبيحين أن يأكلوا بعضها ويعلفوا بعضها عدي ارعوا ورعى يكون لازما ومتعديا تقول رعيت الدابة رعيا ورعاها صاحبها رعاية إذا سامها وسرحها وأراحها وأشار بقوله:
{ إن في ذلك لآيات } للآيات السابقة من جعل الأرض مهدا وسلك سبلها وإنزال الماء وإخراج النبات وقالوا: النهي جمع نهية وهو العقل سمي بذلك لأنه ينهى عن القبائح والضمير في منها عائد على الأرض وأراد خلق أصلهم آدم عليه السلام وقيل من الأغذية التي تتولد من الأرض فيكون ذلك تنبيها على ما توالدت منه الاخلاط المتولد منها الإنسان فهو من باب مجاز الحذف.
{ وفيها نعيدكم } أي بالدفن فيها.
{ ومنها نخرجكم } أي بالبعث تارة أي مرة أخرى نؤلف أجزاءهم المتفرقة ونردهم كما كانوا أحياء وقوله أخرى أي إخراجه أخرى لأن معنى قوله: منها خلقناكم أخرجناكم.
{ ولقد أريناه آياتنا كلها } هو إخبار من الله لمحمد عليه السلام وهذا يدل على أن قوله: فأخرجنا إنما هو خطاب له صلى الله عليه وسلم وأريناه آياتنا هي المنقولة من رأى البصرية ولذلك تعدت إلى اثنين بهمزة النقل وآياتنا ليس عاما إذ لم يره تعالى جميع الآيات وإنما المعني آياتنا التي رآها فصارت الإضافة تفيد ما يفيده الألف واللام من العهد وإنما رأى العصا واليد والطمسة وغير ذلك مما رآه فجاء التوكيد بالنسبة لهذه الآيات المعهودة فكذب بها جميعا وأبى أن يقبلها أو شيئا منها وفي قوله.
{ أجئتنا لتخرجنا } وهن ظهر منه كثير واضطراب لما جاء به موسى عليه السلام إذ علم أنه على الحق وأنه غالبه على ملكه لا محالة وذكر علة المجيء وهي إخراجهم وألقاها في مسامع قومه ليصيروا مبغضين له إذ الاخراج من الموطن مما يشق وجعله الله مساويا للقتل في قوله:
أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم
[النساء: 66] وقوله:
{ بسحرك } تعلل وتحير لأنه لا يخفى عليه أن ساحرا لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه ويغلبه على ملكه بالسحر وأورد ذلك على سبيل الشبهة الطاعنة في النبوة وان المعجز إنما يتميز عن السحر بكون المعجز مما يتعدد معارضته فقال:
{ فلنأتينك بسحر مثله } ويدل على أن أمر موسى عليه السلام قد قوي وكثرت منعته من بني إسرائيل ووقع أمره في نفوس إذ هي مقالة من يحتاج إلى الحجة لا من يصدع بأمر نفسه وأرضهم هي أرض مصر وخاطبه بقوله: بسحرك لأن الكلام كان معه والعصا واليد إنما ظهرتا من قبله فلنأتينك جواب لقسم محذوف أوهم الناس أن ما جاء به موسى عليه السلام إنما هو من باب السحر وأن عنده من يقاومه في ذلك فطلب ضرب موعد للمناظرة بالسحر والظاهر أن موعدا هنا هو زمان أي فعين لنا وقت اجتماع ولذلك أجاب بقوله: موعدكم يوم الزينة ومعنى لا نخلفه أي لا نخلف ذلك الوقت في الاجتماع فيه وقوله: ولا أنت معطوف على الضمير المستكن في نخلفة المؤكد بنحن.
{ سوى } صفة لقوله مكانا وقرىء: سوى بكسر السين وضمها وكون فعل صفة قليل قالوا: منزل زيم أي متفرق أهله وفعل صفة كثير نحو حطم وليد والظاهر أن قوله: موعدا يراد به زمان الوعد ولذلك أجاب بقوله: موعدكم يوم الزينة وأن يحشر أن مع الفعل بتأويل المصدر في موضع جر تقديره يوم الزينة وحشر الناس وروي أن يوم الزنية كان عيدا لهم ويوما مشهودا عندهم وصادف يوم عاشوراء وكان يوم السبت قال الزمخشري * فإن قلت فبم ينتصب مكانا * قلت بالمصدر أو بفعل يدل عليه المصدر * فإن قلت كيف يطابقه الجواب * قلت اما على قراءة الحسن فظاهر واما على قراءة العامة فعلى تقدير وعدكم وعد يوم الزينة ويجوز على قراءة الحسن أن يكون موعدكم مبتدأ بمعنى الوقت وضحى خبره على نية التعريف فيه لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه " انتهى " قوله: إن مكانا ينتصب بالمصدر ليس بجائز لأنه قد وصف قبل العمل بقوله لا نخلفه وهو موصول والمصدر إذا وصف قبل العمل لم يجز أن يعمل عندهم وقوله: ضحى خبره على نية التعريف فيه لأنه ضحى ذلك اليوم بعينه وهو وان كان ضحى ذلك اليوم بعينه ليس على نية التعريف بل هو نكرة وإن كان من يوم بعينه لأنه ليس معدولا عن الألف واللام كسحر ولا هو معرف بالاضافة ولو قلت جئت يوم الجمعة بكرا لم تدع أن بكرا معرفة وإن كنا نعلم أنه من يوم بعينه وانتصب مكانا بإضمار فعل تقديره عدنا مكانا سوي.
{ فتولى فرعون } أي معرضا عن قبول الحق.
{ فجمع كيده } أي ذوي كيده وهم السحرة وكانوا عصابة لم يخلق الله أسحر منها ثم أتى الموعد الذي كانوا تواعدوه وأتى موسى عليه السلام بمن معه من بني إسرائيل.
{ قال لهم موسى } الآية وتقدم تفسير ويل في البقرة خاطبهم خطاب محذور ندبهم إلى قول الحق إذا رأوه وألا يباهتوا بكذب فيسحتكم أي يهلككم ويستأصلكم وفيه دلالة على عظم الافتراء وأنه يترتب عليه هلاك الاستئصال ثم ذكر أنه لا يظفر بالبغية ولا ينجح وطلبه من افترى على الله الكذب.
{ فيسحتكم } منصوب بإضمار أن بعد الفاء وهو جواب للنهي في قوله ولا تفتروا وقرىء: يسحتكم من أسحت ويسحتكم من سحت.
{ فتنازعوا أمرهم } أي تجاذبوه والتنازع يقتضي الاختلاف وإسرارهم النجوى خيفة من فرعون أن يتبين فيهم ضعفا لأنهم لم يكونوا مصممين على غلبة موسى عليه السلام بل كان ظنا من بعضهم وقال ابن عباس: ان نجواهم إن غلبنا موسى اتبعناه * وأمرهم مفعول بتنازعوا فتعدى لمفعول واحد وقال الشاعر:
فما تنازعنا الحديث واسمحت
هصرت بعض ذي شماريخ ميال
ولو حذفت الباء لتعدى الفعل إلى اثنين تقول نازعت زيدا الحديث.
{ قالوا إن هذان } قرىء: هذين بالياء وهم اسم ان وقرىء بالألف وهي لغة لطوائف من العرب بني الحارث بن كعب وبعض كنانة وخثعم وزبيد وبني العنبر وبني الهجيم ومراد وعذرة يجعلون المثنى بالألف رفعا ونصبا وجرا وقال شاعرهم في النصب أعرف منها الأنف والعينانا وقال في الجر
فأطرق إطراق الشجاع ولو رأى
مضيا لنا باه الشجاع لصمما
يريد لنابيه وقرىء: ان هذان بتخفيف ان وهي المخففة من الثقيلة وهذان مبتدأ ولساحران الخبر واللام هي الفارقة بين ان النافية وان المخففة من الثقيلة وقوله: يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما تبعوا فيه مقالة فرعون في قوله: أجئتنا لتخرجنا من أرضنا بسحرك ونسبوا السحر أيضا لهارون لما كان مشتركا معه في الرسالة وسالكا طريقته وعلقوا الحكم على الظاهر عندهم وأرضكم هي أرض مصر ووصفوهما بالسحر تنقيصا لهما وحطا من قدرهما وقد كان ظهر لهم من أمر اليد والعصا ما يدل على صدقهما وعلموا أنه ليس في قدرة الساحر أن يأتي بمثل ذلك والظاهر أن الضمير في قالوا عائد على السحرة خاطب بعضهم بعضا * والمثلى تأنيث الأمثل أي الفضلى الحسنى وقرىء: فأجمعوا بهمزة الوصل من جمع وفأجمعوا بقطع الهمزة من أجمع وتقدم الكلام على هذا في يونس والظاهر أنه من كلام السحرة بعضهم لبعض وانتصب صفا على الحالين أي مصطفين.
{ وقد أفلح اليوم } أي ظفر فاز ببغيته من طلب العلو في أمره وسعا سعيه واختلفوا في عدد السحرة اختلافا كثيرا فأقل ما قيل أنهم كانوا اثنين وسبعين ساحرا مع كل ساحر عصى وحبال وأكثر ما قيل أنهم كانوا تسعمائة ألف ساحر.
{ قالوا يموسى إمآ أن تلقي } الآية في الكلام حذف تقديره فجاؤوا مصطفين إلى مكان الموعد وبيد كل واحد منهم عصا وحبل وجاء موسى وأخوه ومعه عصاه ووقفوا أمامه وقالوا يا موسى إما أن تلقى وذكروا الإلقاء لأنهم علموا أن آية موسى في إلقاء العصا قيل خيروه ثقة منهم بالغلب لموسى وكانوا يعتقدون أن أحد لا يقاومهم في السحر وأن وما بعدها ينسبك مصدرا فإما أن يكون مرفوعا وإما أن يكون منصوبا والمعنى أنك تختار أحد الأمرين فاختار أن يكون مبتدأ والخبر محذوف تقديره إلقاؤك أول ويدل عليه قوله:
{ وإمآ أن نكون أول من ألقى } فتحسن المقابلة من حيث المعنى لا من حيث اللفظ.
{ قال بل ألقوا } ثم حذف تقديره فألقوا فإذا حبالهم وإذا هي الفجائية وما بعدها مبتدأ * والضمير في إليه الظاهر أنه يعود على موسى لقوله: قبله قال: بل ألقوا ولقوله بعد فأوجس في نفسه خيفة موسى وأنها تسعى في موضع المفعول لقوله: يخيل أي سعيها والجملة من قوله: يخيل إلى آخرها في موضع خبر المبتدأ الذي هو حبالهم والرابط في الجملة هو الضمير الذي في تسعى أي تسعى هي أي الحبال والعصي والإيجاس هو من الهاجس الذي يخطر بالبال وليس يتمكن وخيفة أصله خوفة قلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها وتأخر فاعل أوجس وهو موسى لكونه فاصلة وتقدم الضمير في نفسه وإن كان القياس تأخره فصار نظير ضرب غلامه زيد.
{ إنك أنت الأعلى } تقرير لغلبته وقهره وتوكيد بالاستئناف وبكلمة التوكيد وبتكرير الضمير وبلام التعريف وبالاعلوية الدالة على التفضيل.
{ وألق ما في يمينك } لم يأت التركيب وألق عصاك لما في لفظ اليمين من معنى اليمن والبركة وفي قوله:
{ تلقف } حمل على معنى ما لا على لفظها إذا أطلقت ما على العصا والعصا مؤنثة ولو حمل على اللفظ لكان بالياء وقرىء: تلقف وهو جواب الأمر وأصله تتلقف ولذلك أدغم البزي التاء في التاء وهو مضارع ماضيه تلقف وقرىء: تلقف وهو مضارع والماضي لقف.
{ إنما صنعوا } ما موصولة صلته صنعوا والضمير العائد على ما محذوف تقديره صنعوه وكيد خبر ان وقرىء: كيد سحر ومعنى لا يفلح أي لا يظفر ببغيته.
{ حيث أتى } أي حيث توجه وسلك.
{ فألقي السحرة سجدا } وجاء التركيب فألقى السحرة ولم يأت فسجدوا كأنهم أزعجوا بالأمر الذي جاءهم وهو عبارة عن سرعة ما تأثروا لذلك الخارق العظيم فلم يتمالكوا أن وقعوا ساجدين وقدم موسى في سورة الأعراف وأخر هارون لأجل الفواصل ولكون موسى عليه السلام هو المنسوب إليه العصا التي ظهر منها ما ظهر من الإعجاز وأخر هنا موسى لأجل الفواصل وتقدم الخلاف في قراءة آمنتم وفي لأقطعن ولأصلبن في الأعراف وتقدم تفسير نظير هذه الآية فيها وجاء هناك آمنتم به وهنا له وآمن توصل بالباء إذا كان بالله وباللام لغيره في الأكثر نحو قوله: فما آمن لموسى لن نؤمن لك وما أنت بمؤمن لنا فآمن له لوط واحتمل الضمير في به أن يعود على موسى عليه السلام وأن يعود على الرب وأراد بالتقطيع والتصليب في الجذوع التمثيل بهم ولما كان الجذع مقرا للصلوب واشتمل عليه اشتمال الظرف على المظروف عدي الفعل بفي التي للوعاء ولتعلمن هنا معلق بأينا أشد وهي جملة استفهامية من مبتدأ وخبر في موضع نصب بقوله: ولتعلمن سدت مسدا لمفعولين أو في موضع مفعول واحد ان كان لتعلمن معدي تعدية عرف ويجوز على هذا الوجه أن تكون أينا مفعول لتعلمن وهو مبني على رأي سيبويه وأشد خبر مبتدأ محذوف وأينا موصولة والجملة بعدها صلته والتقدير ولتعلمن الذي هو أشد عذابا وأبقى.
[20.72-96]
{ قالوا لن نؤثرك } الآية أي لن نختار اتباعك وسلامتنا من عذابك على ما جاءنا من البينات وهي المعجزة التي أتتنا وعلمنا صحتها وفي قولهم: هذا توهين له واستصغار لما هددهم به وعدم اكتراث بقوله: وفي نسبة المجيء إليهم وإن كانت البينات جاءت لهم ولغيرهم لأنهم كانوا هم أعرف بالسحر من غيرهم وقد علموا أن ما جاءهم به موسى عليه السلام ليس بسحر وكانوا على جلية من العلم بالمعجز وغيرهم يقلدهم في ذلك والواو في والذي فطرنا واو عطف على ما جاءنا أي وعلى الذي فطرنا لما لاحت لهم حجة الله تعالى في المعجز بدؤوا بها ثم ترقوا إلى القادر على خرق العادة وهو الله وذكر وأوصف الاختراع وهو قولهم الذي فطرنا تبيينا لعجز فرعون وتكذيبه في ادعاء الربوبية والإلهية وما موصولة بمعنى الذي وصلته أنت قاض والعائد محذوف تقديره ما أنت قاضيه ونظيره قول الشاعر:
وتصغر في عيني تلادي إذا انثنت
يميني بإدراك الذي كنت طالبا
أي طالبه وفي قولهم فاقض أمر تحقير لفرعون وعدم مبالاة بما هددهم به وانتصب هذه الحياة على الظرف وما مهيئة وتحتمل أن تكون مصدرية أي إن قضاءك في هذه الحياة الدنيا لا في الآخرة ولم يصرح في القرآن بأنه أنفذ فيهم وعيده السابق بل الظاهر أنه تعالى سلمهم منه ويدل على ذلك قوله تعالى:
أنتما ومن اتبعكما الغالبون
[القصص: 35] وإكراههم إياه على السحر حملهم على معارضته موسى عليه السلام مع علمهم أنه ليس بساحر.
{ والله خير وأبقى } رد على قوله: أينا أشد عذابا وأبقى أي وثواب الله تعالى وما أعده لمن آمن به خير وأبقى.
{ إنه من يأت ربه مجرما } قيل هو حكاية قولهم عظة لفرعون وقيل خبر من الله تعالى لا على وجه الحكاية تنبيها على قبح ما فعل فرعون وحسن ما فعل السحرة وموعظة وتحذيرا والضمير في انه ضمير الأمر والشأن والجملة الشرطية بعده وجوابها في موضع خبر ان وحملت الضمائر فيها على لفظ من فأفردت وفي الجملة الآتية بعدها حملت أولا على لفظ من فأفرد ثم ثانيا على معنى من فجمع في قوله: فأولئك لهم وجنات بدل من قوله: الدرجات ومعنى:
{ تزكى } أي تطهر من المعاصي.
{ ولقد أوحينآ إلى موسى } الآية هذا استئناف إخبار عن شىء من أمر موسى عليه السلام وبينه وبين مقال السحرة المتقدم مدة من الزمان حدث فيها لموسى وفرعون حوادث وذلك أن فرعون لما انقضى أمر السحرة وغلب موسى وقوي أمره وعده فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل فأقام موسى على وعده حتى غدره فرعون ونكث فأعلمه أنه لا يرسلهم معه فبعث الله حينئذ الآيات المذكورة في غير هذه الآيات كلما جاءت آية وعد فرعون أن يرسل بني إسرائيل عند انكشاف العذاب فإذا انكشف نكث حتى تأتي أخرى فلما كملت الآيات أوحى ألله إلى موسى أن يخرج ببني إسرائيل في الليل ساريا والسري سير الليل ويحتمل أن تكون مفسرة وأن تكون الناصبة للمضارع وبعبادي إضافة تشريف والظاهر أن الإيحاء إليه بذلك وبأن يضرب البحر كان متقدما بمصر على وقت اتباع فرعون موسى وقومه بجنوده ويروى أن موسى عليه السلام نهض ببني إسرائيل وهم ستمائة ألف إنسان فسار بهم من مصر يريد بحر القلزم واتصل الخبر بفرعون فجمع جنوده وحشرهم ونهض وراءه فأوحى الله إلى موسى أن يقصد البحر فجزع بنو إسرائيل ورأوا أن العدو من ورائهم والبحر أمامهم وموسى يثق بصنع الله فلما رآهم فرعون قد نهضوا نحو البحر طمع فيهم وكان مقصدهم إلى موضع ينقطع فيه الفحوص والطرق الواسعة قيل وكان في خيل فرعون سبعون ألف أدهم ونسبة ذلك من سائر الألوان وقيل أكثر من ذلك فضرب موسى عليه السلام البحر فانفلق اثنتي عشرة فرقة طرقا واسعة بينها حيطان الماء واقفة فدخل موسى عليه السلام البحر بعد أن بعث الله ريح لصبا فجففت تلك الطرق حتى يبست ودخل بنو إسرائيل ووصل فرعون إلى المدخل وبنو إسرائيل كلهم في البحر فرأى الماء على تلك الحالة فجزع قومه واستعظموا الأمر فقال لهم إنما انفلق من هيبتي وتقدم غرق فرعون وقومه في البقرة والاعراف ويونس والظاهر أن لفظة اضرب هنا على حقيقتها من مس العصا البحر بقوة وتحامل على العصا ويوضحه في آية أخرى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق والمعنى أن اضرب بعصاك البحر لينفلق لهم فيصير طريقا فتعدى إلى الطريق بدخول هذا المعنى لما كان الطريق متسببا عن الضرب جعل كأنه المضروب.
و { يبسا } مصدر وصف به الطريق وصفه بما آل إليه إذ كان حالة الضرب لم يتصف باليبس بل مرت عليه الصبا فجففته كما روي ويقال: يبس يبسا ويبسا كالعدم والعدم ومن كونه مصدرا وصف به المؤنث قالوا: شاة يبس وناقة يبس إذا جف لبنها وقرىء:
{ لا تخاف } وهي جملة في موضع الحال وقرىء: لا تخف على جواب الأمر والدرك والدرك اسمان من الإدراك أي لا يدركك فرعون وجنوده.
{ ولا تخشى } والظاهر أن الضمير في غشيهم في الموضعين عائد على فرعون وقومه والفاعل بغشيهم ما الموصولة أي الذي غشيهم وفي لفظة ما إبهام وتهويل وتعظيم كقوله تعالى:
فغشاها ما غشى
[النجم: 54].
{ وما هدى } أي ما هدى قومه إلى الدين أو ما اهتدى في نفسه لأن هدى قد يأتي بمعنى اهتدى.
{ يبني إسرائيل قد أنجيناكم } الآية ذكرهم بأنواع نعمه وبدأ بإزالة ما كانوا فيه من الضرر من الإذلال والخراج والذبح وهي آكد أن تكون مقدمة على المنفعة الدنياوية لأن إزالة الضرر أعظم في النعمة من اتصال تلك المنفعة ثم أعقب ذلك بذكر المنفعة الدينية وهو قوله تعالى: { وواعدناكم } جانب الطور الأيمن إذ أنزل على نبيهم موسى عليه السلام كتابا فيه بيان دينهم وشرح شريعتهم ثم بذكر المنفعة الدنياوية وهو قوله تعالى: { ونزلنا عليكم المن والسلوى } قال الزمخشري: وقرىء: الأيمن بالجر على الجوار نحو جحر ضب خرب " انتهى " هذا من الشذوذ والقلة بحيث ينبغي أن لا تخرج القراءة عليه والصحيح أنه نعت للطور لما فيه من اليمن وإما لكونه على يمين من يستقبل الجبل والظاهر أن الخطاب لمن نجا مع موسى عليه السلام بعد إغراق فرعون وقومه فيحل منصوب بإضمار أن بعد الفاء في جواب النهي فقد هوى أي سقط وهو كناية عن الهلاك.
{ ومآ أعجلك عن قومك } الآية وما أعجلك سؤال عن سبب العجلة وأجاب بقوله:
{ هم أولاء على أثري وعجلت إليك رب لترضى } لأن قوله: وما أعجلك تضمن تأخر قومه عنه فأجاب مشيرا إليهم لقربهم منه أنهم على أثره جائين للموعد وذلك على ما كان عهد إليهم أن يجيئوا للموعد ثم ذكر السبب الذي حمله على العجلة وهو ما تضمنه قوله: وعجلت إليك رب لترضى من طلبه رضا الله تعالى في السبق إلى ما وعده ربه ومعنى إليك أي إلى مكان وعدك ولترضى أي ليدوم رضاك ويستمر لأنه تعالى كان راضيا عنه.
{ قال فإنا قد فتنا قومك } الآية أي اختبرناهم بما فعل السامري والسامري قيل اسمه موسى بن مظفر وقيل غير ذلك وتقدم في الاعراف كيفية اتخاذ العجل.
{ فرجع موسى إلى قومه } وذلك بعدما استوفى الأربعين وانتصب غضبان أسفا على الحال والأسف أشد الحزن ثم أخذ موسى عليه السلام يوبخهم على إضلالهم والوعد الحسن ما وعدهم من الوصول إلى جانب الطور الأيمن وما بعد ذلك من الفتوح في الأرض.
{ أفطال عليكم العهد } توقيف على أعذار لم تكن ولا تصح لهم وهو طول العهد حتى تبين لهم خلف في الموعد وقرىء:
{ بملكنا } بفتح الميم وضمها وكسرها قال أبو علي الفارسي فمعنى الضم أنه لم يكن لنا ملك فنخلف موعدك بسلطانه وإنما أخلفناه بنظر أدى إليه ما فعل السامري فليس المعنى أن لهم ملكا وفتح الميم مصدر من ملك والمعنى ما فعلنا ذلك بأنا ملكنا الصواب ولا وقفنا له بل غلبتنا أنفسنا وكسر الميم كثر استعماله فيما تحوزه اليد ولكنه يستعمل في الأمور التي يبرمها الإنسان ومعناها كمعنى التي قبلها والمصدر في هذين الوجهين مضاف إلى الفاعل والمفعول مقدر أي بملكنا الصواب والأوزار الأثقال أطلق على ما كانوا استعادوا من القبط برسم التزين أوزارا لثقلها أو بسبب أنهم أثموا في ذلك فسميت أوزارا لما حصلت الأوزار التي هي الآثام بسببها والقوم هنا القبط.
{ فقذفناها } أي الحلي في النار وكان أشار عليهم بذلك السامري فحفرت حفرة وسجرت فيها النار وقذف كل من كان معه شىء من ذلك الحلي في النار وقذف السامري ما معه ومعنى فكذلك أي مثل إلقائنا إياها ألقى السامري ما كان معه فأخرج لهم أي السامري.
{ عجلا جسدا له خوار } تقدم الكلام على مثل هذا في الاعراف والضمير في فقالوا لبني إسرائيل: أي: ضلوا حين قال كبارهم لصغارهم: وهذه إشارة إلى العجل والظاهر أن الضمير في:
{ فنسي } عائد على السامري أي فنسي إيمانه وإسلامه قاله ابن عباس: ثم بين تعالى فساد اعتقادهم بأن الألوهية لا تصلح لمن سلبت عنه هذه الصفات فقال:
{ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا } والرؤية هنا بمعنى العلم ولذلك جاء بعدها أن المخففة من الثقيلة كما جاء ألم يروا أنه لا يكلمهم.
{ ولقد قال لهم هارون } الآية أشفق هارون على نفسه وعليهم وبذل لهم لا مساس أي لا مماسة ولا إذاية.
النصيحة وبين أن ما ذهبوا إليه من أمر العجل إنما هو فتنة إذ كان مأمورا من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن أخيه موسى عليه السلام أخلفني في قومي ولا يمكنه أن يخالف أمر الله وأمر أخيه والضمير في به عائد على العجل زجرهم أولا هارون عن الباطل وإزالة الشبهة بقوله: إنما فتنتم به ثم نبههم على معرفة ربهم وذكر صفة الرحمة تنبيها على أنهم متى تابوا قبلهم وتذكير لتخليصهم من فرعون زمان لم يوجد العجل ثم أمرهم باتباعه تنبيها على أنه نبي يجب أن يتبع ويطاع أمره ولما وعظهم هارون ونبههم على ما فيه رشدهم اتبعوا سبيل الغي وقالوا: لن نبرح على عبادته مقيمين ملازمين له وعينوا ذلك برجوع موسى عليه السلام وفي قولهم: ذلك دليل على عدم رجوعهم إلى الاستدلال وأخذ بتقليدهم السامري * أن لا تتبعني أن هي الناصبة للمضارع وينسبك مصدرا أي ما منعك من اتباعي.
{ أفعصيت أمري } استفهام إنكار وهو عليه السلام لم يعص كلام أخيه.
{ قال يبنؤم } تقدم الكلام على ابن أم في الاعراف.
{ لا تأخذ } وكان قد شرع في أخذ رأس أخيه كما تقدم في قوله: وأخذ برأس أخيه يجره إليه لأن في ذلك إهانة واستعذر هارون لأخيه بقوله:
{ إني خشيت } والتفريق الذي خشيه هو التقاتل بينهم لتكون أنت المتدارك لأمرهم ولما فزع من عتابه لأخيه وجواب لأخيه له رجع إلى مخاطبة الذي أوقعهم في الضلال وهو السامري قال ابن عطية: ما خطبك كما تقول ما شأنك وما أمرك لكن لفظ الخطب يقتضي انتهارا لأن الخطب مستعمل في المكاره فكأنه قال: ما نحسك وما شؤمك وما هذا الخطب الذي جاء من قبلك " انتهى " هذا ليس كما ذكر ألا ترى إلى قوله تعالى:
قال فما خطبكم أيها المرسلون
[الحجر: 57] وهو قول إبراهيم لملائكة الله فليس هذا يقتضي انتهارا ولا شيئا مما ذكر وقرىء:
{ فقبضت } بالضاد المعجمة فيهما أي أخذت بكفي مع الأصابع وقرىء: بالصاد فيهما وقال المفسرون الرسول هنا جبريل عليه السلام وتقديره من أثر حافر فرس الرسول والأثر التراب الذي تحت حافره وقال أبو مسلم الأصبهاني ليس في القرآن تصريح بما ذكره المفسرون وهنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى وأثره سنته ورسمه الذي أمر به فقد يقول الرجل فلان يقفو أثر فلان ويقتص أثره إذا كان يمتثل رسمه والتقدير أن موسى لما أقبل على السامري باللوم والمسئلة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في العجل.
{ قال بصرت بما لم يبصروا به } أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئا من دينك فنبذتها أي طرحتها فعند ذلك أعلمه موسى بماله من العذاب في الدنيا والآخرة وإنما أراد لفظ الاخبار عن غائب كما يقول الرجل لرئيسه وهو مواجه له ما يقول الأمير في كذا أو بماذا يأمر الأمير وأما تسميته رسولا مع جحده وكفره فعلى مذهب من حكى الله عنه قوله:
يأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون
[الحجر: 6]، وإن لم يؤمنوا بالإنزال قيل وما ذكره أبو مسلم أقرب إلى التحقيق إلا أن فيه مخالفة المفسرين، قيل: ويبعد ما قالوه ان جبريل عليه السلام ليس معهودا باسم رسول ولم يجر له فيما تقدم ذكر حين تكون اللام في الرسول السابق للذكر ولأن ما قالوه لا بد فيه من إضمار أي من أثر حافر فرس الرسول والاضمار خلاف الأصل ولأن اختصاص السامري برؤية جبريل ومعرفته من بين الناس يبعد جدا وكيف عرف أن أثر حافر فرسه يؤثر هذا الأثر الغريب العجيب من إحياء الجماد به وصيرورته لحما ودما وكيف عرف أن جبريل يتردد إلى نبي وقد عرف نبوته وصحت عنده فحاول الإضلال وكيف اطلع كافر على تراب هذا شأنه فلقائل أن يقول لعل موسى اطلع على شىء آخر يشبه هذا فلأجله أتى بالمعجزات فيصير ذلك قادحا فيما أتوا به من الخوارق.
{ فنبذتها } أي ألقيتها على الحلي الذي تصور منه العجل.
{ وكذلك سولت لي نفسي } أي كما حدث ووقع قربت لي نفسي وجعلته لي سولا وأربا حتى فعلته كان موسى عليه السلام لا يقتل بني إسرائيل إلا في حد أو وحي فعاقبه باجتهاد نفسه بأن أبعده ونحاه عن الناس وأمر بني إسرائيل باجتنابه واجتناب قبيلته وأن لا يؤاكلوا ولا يناكحوا وجعل له أن يقول مدة حياته.
[20.97-126]
{ وإن لك موعدا } أي القيامة لن تخلفه أي لن تستطيع الروغان عنه والحيدة فتزل عن موعد العذاب.
{ وانظر إلى إلهك } خاطبه وحده إذ كان هو رأس الضلال وهو ينظر لقولهم لن نبرح عليه عاكفين وأقسم لنحرقنه وهو أعظم فساد الصورة.
{ ثم لننسفنه في اليم } حتى تتفرق أجزاؤه فلا تجتمع وانتصب علما على التمييز المنقول من الفاعل تقديره وسع علمه كل شىء.
{ كذلك نقص عليك } الآية ذلك إشارة إلى نبأ موسى وبني إسرائيل وفرعون أي كقصنا هذا النبأ الغريب نقص عليك من أنباء الأمم السابقة وهذا فيه ذكر نعمة عظيمة وهي الاعلام باخبار الأمم السالفة ليتسلى بذلك ويعلم أن ما صدر من الأمم السالفة لرسلهم وما قامت الرسل منهم والظاهر أن الذكر هنا القرآن امتن تعالى عليه بإيتائه الذكر المشتمل على القصص والاخبار الدال ذلك على معجزات أوتيها.
{ من أعرض عنه } أي عن القرآن بكونه لم يؤمن به ولم يتبع ما فيه وقرىء: يحمل مضارع حمل وقرىء: يحمل مشددا والظاهر أنه عبر عن العقوبة بالوزر لأنه سببها ولذلك قال: خالدين فيه أي في العذاب والعقوبة وجمع خالدين والضمير في لهم حملا على معنى من بعد الحمل على لفظها في أعرض وفي فإنه يحمل والمخصوص بالذم محذوف تقديره وزرهم ولهم للبيان كهي في هيت لك لا متعلقة بساء وساء هنا التي جرت مجرى بئس لا ساء التي بمعنى أحزن وأهم لفساد المعنى.
{ يوم ينفخ } بدل من يوم القيامة أسند النفخ إلى الآمر به والنافخ هو إسرافيل ولكرامته أسند ما يتولاه إلى ذاته المقدسة * والصور تقدم الكلام عليه في سورة الأنعام والظاهر أن المراد هنا بالزرقة زرقة العيون والزرقة أبغض الألوان للعرب وكانت تتشاءم به.
{ يتخافتون بينهم } أي يتسارون بينهم لهول المطلع وشدة ذهاب أذهانهم عزب عنهم قدر المدة التي لبثوا فيها.
{ إن لبثتم } أي في الدار الدنيا أو في البرزخ أو بين النفختين ثلاثة أقوال ووصف ما لبثوا فيه بالقصر.
{ إلا يوما } إشارة لقصر مدة لبثهم وإلا عشرا يحتمل أن يكون عشر ليال أو عشرة أيام لأن المذكر إذا حذف وأبقى عدده قد لا يأتي بالتاء وحكى الكسائي عن أبي الجراح صمنا من الشهر خمسا يريد خمسة أيام وما جاء ثم اتبعه بست من شوال يريد ستة أيام وحسن الحذف هنا كون ذلك فاصله رأس آية ذكر أولا منتهى أقل العدد وهو العشر وذكر أعد لهم طريقة أقل العدد وهو اليوم الواحد ودل ظاهر قوله إلا يوما على أن المراد بقولهم عشرا عشرة أيام * وضمير الغائب في ويسئلونك عائد على قريش منكري البعث والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم والظاهر وجود السؤال وكأنه تضمن معنى الشرط ولذلك دخلت الفاء في قوله: فقل بخلاف السؤالات في القرآن فليس فيها الفاء بل لفظ قل وروي أن الله تعالى يرسل على الجبال ريحا فتدكدكها حتى تكون كالعهن المنفوش ثم تتوالى عليها حتى تعيدها كالهباء المنبث فذلك هو النسف والظاهر عود الضمير في فيذرها على الجبال أي بعد النسف تبقى قاعا أي مستويا من الأرض معتدلا.
{ عوجا } قال ابن عباس: ميلا.
{ ولا أمتا } أثرا مثل الشراك.
{ يومئذ يتبعون الداعي } التنوين فيه للعوض من الجملة المحذوفة التقدير يوم إذ ينسف الله الجبال.
{ يتبعون } أي الخلائق داعي الله إلى المحشر نحو قوله: مهطعين إلى الداع وهو إسرافيل يقوم على صخرة بيت المقدس يدعو الناس فيقبلون من كل جهة يضع الصور في فيه ويقول أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرقة هلم إلى العرض على الرحمن والظاهر أن الضمير في له عائد على الداعي نفي عنه العوج أي لا عوج له غاية بل يسمع جميعهم فلا يميل إلى ناس دون ناس.
{ وخشعت الأصوات للرحمن } هو على حذف مضاف أي أصحاب الأصوات * والهمس الصوت الخفي.
{ إلا من أذن له } هو على حذف مضاف تقديره إلا شفاعة من أذن له الرحمن أي في الشفاعة ومن في موضع رفع بدلا من قوله الشفاعة على حذف المضاف الذي قلناه.
{ ورضي له قولا } هو لا إله إلا الله قاله ابن عباس: والظاهر أن الضمير في أيديهم وما خلفهم عائد على الخلق المحشورين وهم متبعو الداعي والضمير في به عائد على الله أي لا يحيط علم أحد بالله إذ ليس داخلا تحت تحديد وعلما تمييز منقول من الفاعل أي ولا يحيط علمهم به والظاهر عموم الوجوه أي وجوه الخلائق وخص الوجوه لأن آثار الذل إنما تظهر أولا في الوجوه.
{ القيوم } تقدم الكلام عليه في البقرة.
{ وقد خاب } أي لم ينجح ولم يظفر بمطلوبه والظلم يعم الشرك والمعاصي وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم.
{ ومن يعمل من الصالحات } من للتبعيض.
{ وهو مؤمن } جملة في موضع الحال وقرىء: فلا يخاف على الخبر والتقدير فهو لا يخاف فهو مبتدأ ولا يخاف جملة في موضع الخبر وقرأ ابن محيصن وحميد فلا يخف على النهي والهضم نقص من الحسنات قاله ابن عباس: * وكذلك عطف على كذلك نقص أي ومثل ذلك الإنزال أو كما أنزلنا عليك هذه الآيات المتضمنة الوعيد أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة.
{ لعلهم يتقون } أي يتخذون وقاية من وعيد الله بالعذاب.
{ أو يحدث لهم ذكرا } عظة بما حل بالأمم السالفة.
{ فتعلى الله الملك الحق } لما كان فيما سبق تعظيم القرآن في قوله وقد آتيناك من لدنا ذكرا وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا ذكر عظم منزله تعالى ثم ذكر هاتين الصفتين وهي صفة الملك التي تضمنت القهر والسلطنة والحق وهي الصفة الثابتة له.
{ ولا تعجل بالقرآن } أي تأن حتى يفرغ الملقى إليك الوحي ولا تساوق في قراءتك قراءته والقاه كقوله تعالى:
لا تحرك به لسانك لتعجل به
[القيامة: 16].
{ ولقد عهدنآ إلى ءادم } الآية، لما تقدم كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق كان من هذه الأنباء قصة آدم عليه السلام ليتحفظ بنوه من وسوسة الشيطان وعهده نهيه عن قربان تلك الشجرة وأكله منها والظاهر أن النسيان هنا الترك أي ترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها والعزم التصميم والمضي.
{ وإذ قلنا للملائكة } الآية وأبى جملة مستأنفة مبنية أن امتناعه من السجود إنما كان عن إباء منه وامتناع، الظاهر حذف متعلق أي وأنه يقدر هنا ما صرح به في الاية الأخرى أي أن يكون من الساجدين وهذا إشارة إلى إبليس وعدو يطلق على الواحد والمثنى والمجموع عرف تعالى آدم عداوة إبليس له ولزوجه ليحذراه فلم يغن الحذر من القدر.
{ فلا يخرجنكما } الظاهر أنه نهي لإبليس عن إخراجهما والمعنى أنه لا تتعرضا لمخالفتكما إياي بالقربان والأكل فيخرجكم من الجنة فاقتصر بقوله فتشقى على شقاء آدم فقط لأن زوجته تابعة له ولأن لكلمة رأس آية.
{ إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى } لما كان الشبع والري والكسوة والكن هي الأمور الضرورية للإنسان اقتصر عليها لكونها كافية له وما أحسن المقابلة في هذه الأربعة فقابل الجوع بخلو الباطن والتعري بخلو الظاهر والظمأ بإحراق الباطن والصخو بإحراق الظاهر فقابل الخلو بالخلو والإحراق بالإحراق وأورد ذلك مورد النفي وقرىء: وإنك معطوفا على أن لا تجوع وقرىء: وإنك على الاستئناف أو عطفا على أن لك وتقدم الكلام في فوسوس وتعدى وسوس هنا بإلى وفي الأعراف باللام فالتعدي إلى معناه أنهى الوسوسة إليه والتعدي بلام الجر قيل معناه لأجله ولما وسوس إليه ناداه باسمه ليكون أقبل عليه وأمكن للاستماع ثم عرض عليه ما يلقى بقوله:
{ هل أدلك } على سبيل الاستفهام الذي يشعر بالنصح ويؤثر قبول من يخاطبه كقول موسى لفرعون: هل لك إلى تزكى وهو عرض فيه مناصحة وكان آدم صلى الله عليه وسلم قدر عنه الله في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله تعالى: { فلا يخرجنكما } الآية ورغبة إبليس في دوام الراحة وانتظام المعيشة بقوله: هل أدلك فجاءه إبليس من الجهة التي رغبه الله تعالى فيها وفي الأعراف ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الآية وهنا هل أدلك والجمع بينهما أن قوله هل أدلك يكون سابقا على قوله: ما نهاكما لما رأى إصغاءه وميله إلى ما عرض عليه انتقل إلى الاخبار والحصر ومعنى عن شجرة الخلد أي الشجرة التي من أكل منها خلد وحصل له ملك لا يخلق.
{ وعصى ءادم ربه فغوى } قال القاضي أبو بكر بن العربي: لا يجوز لأحدنا اليوم أن يخبر بذلك عن آدم صلى الله عليه وسلم إلا إذا تلاه في أثناء كلامه تعالى أو قول نبيه صلى الله عليه وسلم فأما أن نبتدىء ذلك من قبل أنفسنا فليس بجائز لنا في أبائنا الأدنين لنا المماثلين لنا فكيف بأبينا الأقدم الأعظم الأكرم البني المقدم الذي اجتباه الله تعالى تاب عليه وغفر له والضمير في اهبطا ضمير تثنية وهو أمر لآدم وحواء وجعل هبوطهما عقوبتهما جميعا حال منهما وبعضكم لبعض جملة حالية.
{ ومن أعرض عن ذكري } الذكر يقع على القرآن وعلى سائر الكتب الإلهية * وضنكا مصدر يوصف به المذكر والمؤنث والمفرد والمثنى والمجموع والمعنى النكد الشاق من العيش والمنازل ومواطن الحرب وغيرها والظاهر أن قوله:
{ أعمى } المراد به عمى البصر كما قال تعالى:
ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا
[الإسراء: 97].
{ قال رب لم حشرتني أعمى } سأل العبد ربه عن السبب الذي استحق به أن يحشر أعمى لأنه جهله فظن أنه لا ذنب له فقال له جل ذكره:
{ كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى } أي مثل ذلك فعلت أنت ثم فسر بأن آياتنا أتتك واضحة مستنيرة فلم تنظر إليها بعين المعتبر ولم تتبصر وتركتها وعميت عنها فكذلك اليوم نتركك على عماك ولا نزيل غطاءه عن عينيك والنسيان هنا بمعنى الترك لا بمعنى الذهول ومعنى تنسى تترك في العذاب.
[20.127-135]
{ وكذلك نجزي } أي مثل ذلك الجزاء نجزي.
{ من أسرف } أي جاوز الحد في المعصية ثم أخبر تعالى أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا لأنه أعظم منه وأبقى أي منه لأنه دائم مستمر وعذاب الدنيا منقطع.
{ أفلم يهد لهم } الآية وبخهم تعالى وذكرهم العبر بمن تقدم من القرون ويعني بالاهلاك الاهلاك الناشىء عن التكذيب بالرسل وترك الإيمان بالله واتباع رسوله والفاعل في ليهد ضمير عائد على الله ويؤيد هذا التخريج قراءة من قرأ بالنون نهد ومعناه نبين وكم خبرية مفعوله بأهلكنا التقدير كثيرا أهلكنا والضمير فى يمشون عائد على ما عاد عليه هم وهم الكفار الموبخون يريد قريشا وغيرهم.
{ يمشون في مساكنهم } جملة في موضع الحال من ضمير لهم والعامل نهد أي ألم نبين للمشركين في حال مشيهم في مساكن من أهلك من الكفار وقيل حال من مفعول أهلكنا أي أهلكناهم غارين آمنين متصرفين في مساكنهم.
{ إن في ذلك لآيات } أي ان في ذلك التبيين بإهلاك القرون الماضية لآيات.
{ لأولي النهى } أي العقول السليمة لم يبين تعالى الوجه الذي لأجله لا ينزل العذاب معجلا على من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم والكلمة السابقة هي العدة بتأخير جزائهم إلى الآخرة قال تعالى:
بل الساعة موعدهم
[القمر: 46] يقول: لولا العدة لكان العذاب لزاما أي لازما والظاهر عطف وأجل مسمى على كلمة وأخر المعطوف على المعطوف عليه وفصل بينهما بجواب لولا لمراعاة الفواصل ورؤوس الآي ثم أمره تعالى بالصبر على ما يقول مشركو قريش وهم الذين عاد عليهم الضمير في أفلم يهد لهم وأمره بالتسبيح مقرونا بالحمد وهو الثناء عليه قبل طلوع الشمس وهو صلاة الصبح وقبل غروبها وهي صلاة الظهر والعصر ومن آناء الليل الآناء جمع أني وهو الوقت ووزنه فعل كمعى وإمعاء وهو متعلق بقوله: فسبح كما تقول بزيد فامرر.
{ وأطراف النهار } منصوب على الظرف وهي أعم مما بين القبلين يشير إلى تنفل الضحى وغير ذلك.
{ لعلك ترضى } قرىء: بفتح التاء وضمها.
{ ولا تمدن عينيك } الآية تقدم الكلام على مثلها في سورة الحجر.
و { زهرة } منصوب على الظرف الزماني لإضافتها إليه وقرىء: زهرة بفتح الهاء وسكونها نحو نهر ونهر ما يروق من النور وسراج زاهر له بريق وإلا نجم الزهر المضيئة وأزهر الشجر بدا نوره.
{ لنفتنهم } متعلق بمتعنا والضمير في فيه عائد على ما الموصولة بمتعنا.
{ ورزق ربك خير } أي خير مما متعنا به هؤلاء في الدنيا.
{ وأبقى } أي أدوم.
{ وأمر أهلك بالصلاة } أمره تعالى بأن يأمر أهله بالصلاة التي هي بعد الشهادة آكد أركان الإسلام وأمره بالاصطبار على مداومتها ومشاقها وأن لا يشتغل عنها وأخبره تعالى أنه لا يسأله أن يرزق نفسه ولا أن يسعى في تحصيل الرزق ويدأب في ذلك بل أمره بتفريغ باله لأمر الآخرة ويدخل في خطابه صلى الله عليه وسلم أمته.
{ والعاقبة } أي الحميدة وأحسن العاقبة لأهل التقوى.
{ وقالوا لولا يأتينا } لولا للتحضيض وهذه عادتهم في اقتراح الآيات كأنهم جعلوا من ظهر من الآيات ليس بآيات فاقترحوا هم ما يختارون على ديدنهم في التعنت فأجيبوا بقوله:
{ أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى } كصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل والزبور وغيرهما من الكتب الإلهية وقرىء: تأتهم بالتاء وبالياء وفي هذا الاستفهام توبيخ لهم.
{ بعذاب من قبله } الضمير في من قبله عائد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي من قبل بعثته.
{ لولا أرسلت } لولا للتحضيض.
{ فنتبع } منصوب بإضمار أن بعد الفاء وهو جواب التحضيض.
{ من قبل أن نذل ونخزى } الذل والخزي مقترنان بعذاب الآخرة.
{ قل كل متربص } أي مناو منكم منتظر عاقبة أمره.
{ فتربصوا } وفي ذلك تهديد لهم ووعيد وأفرد الخبر وهو متربص حملا على لفظ كل كقوله تعالى:
قل كل يعمل على شاكلته
[الإسراء: 84] والتربص الثاني والانتظار للفرج.
و { من } مبتدأ وهو استفهام.
و { أصحاب } خبر والجملة في موضع نصب والفعل قبلها معلق عنها والسوي المستقيم.
{ ومن اهتدى } معطوف على من.
[21 - سورة الأنبياء]
[21.1-21]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * اقترب للناس حسابهم } الآية هذه السورة مكية بلا خلاف ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر قل كل متربص فتربصوا قال مشركو قريش محمد يهددنا بالبعث والجزاء على الأعمال وليس بصحيح فأنزل الله اقترب للناس حسابهم واقترب افتعل بمعنى الفعل المجرد وهو قرب كما تقول كما تقول ارتقب ورقب والناس مشركو مكة وغيرهم ممن ينكر البعث * والحساب في اللغة الكمية من مبلغ العدد وقد يطلق على المحسوب وجعل ذلك اقترابا لأن كل ما هو آت وإن طال وقت انتظاره قريب والواو في:
{ وهم } واو الحال وأخبر عنهم بخبرين ظاهرهما التنافي لأن الغفلة عن الشىء والإعراض عنه متنافيان لكن يجمع بينهما باختلاف حالين أخبر عنهم أولا بأنهم لا يتفكرون في عاقبة بل هم غافلون عما يؤول إليه أمرهم ثم أخبر عنهم ثانيا أنهم إذا نبهوا من سنة الغفلة وذكروا بما يؤول إليه أمر المحسن والمسيء أعرضوا عنه ولم يبالوا بذلك * والذكر هنا ما ينزل من القرآن شيئا بعد شىء ومن زائدة وذكر فاعل ووصفه بالحدوث إذ كان القرآن لنزوله وقتا بعد وقت.
و { استمعوه } جملة حالية من الضمير المنصوب في يأتيهم تقديره إلا مستمعيه.
{ وهم يلعبون } جملة حالية من ضمير استمعوه.
و { لاهية } حال من ضمير يلعبون أو من ضمير استمعوه فيكون حالا بعد حال واللاهية من قول العرب لها عنه إذا ذهل وغفل يقال لها يلهى لهيا ولهيانا أي وان فطنوا فلا يجدي ذلك لاستيلاء الغفلة والذهول وعدم التبصر بقولهم.
و { النجوى } من التناجي ولا يكون إلا خفية والواو في وأسروا فاعل ضمير يعود على ما قبله.
و { الذين } بدل منه.
{ هل هذآ } قبله حال محذوفة تقديره قائلين هل هذا إلا بشر وهو استفهام معناه التعجب أي خص دونكم بالبنون مع مماثلته لكم في البشرية.
{ أفتأتون السحر } استفهام معناه التوبيخ والسحر عنوا به ما ظهر على يديه من المعجزات التي أعظمها القرآن وهاتان الجملتان الاستفهاميتان الظاهر أنهما متعلقان بقوله: وأسروا النجوى وأنهما محكيتان للنجوى لأنه بمعنى القول الخفي فهما في موضع نصب على المفعول بالنجوى.
{ وأنتم تبصرون } جملة حالية وللزمخشري فيه تخبيط رددناه عليه في البحر.
{ قل } أمر لنبيه صلى الله عليه وسلم والقول أعم من أن يكون سرا وجهرا ثم ثنى ذلك بقوله: وهو السميع لأقوالكم العليم بما انطوت عليه ضمائركم.
{ بل قالوا } ذكر اضطرابهم في مقالاتهم فذكر أنهم أضربوا عن نسبة السحر إليه وقالوا: ما يأتي به إنما هو أضغاث أحلام وتقدم تفسيرها في يوسف ثم أضربوا عن هذا فقالوا: بل افتراه أي اختلقه أي وليس من عند الله ثم أضربوا عن هذا فقالوا بل هو شاعر وهكذا المبطل لا يثبت على قول بل يبقى متحيرا وهذه الأقوال الظاهر أنها صدرت من قائلين متفقين انتقلوا من قول إلى قول أو مختلفين قال كل منهم مقالة والكاف في كما أرسل يجوز أن تكون في موضع النعت لآية وما أرسل في تقدير المصدر والمعنى بآية مثل آية إرسال الأولين وفي قولهم كما أرسل الأولون دلالة على معرفتهم إيتان الرسل.
{ مآ آمنت قبلهم من قرية } المراد بهم قوم صالح وقوم فرعون وغيرهما ومعنى أهلكناها حكمنا بإهلاكها بما اقترحوا من الآيات.
{ أفهم يؤمنون } استبعاد وإنكار أي هؤلاء أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعهدوا أنهم يؤمنون عندها فلما جاءتهم نكثوا.
{ ومآ أرسلنا قبلك } الآية تقدم الكلام على مثله في يوسف.
{ إلا رجالا } أي بشرا ولم يكونوا ملاكئة كما اعتقدتم ثم أحالهم على أهل الذكر وهم اخبار أهل الكتابين وشهادتهم تقوم بها الحجة في إرسال الله البشر.
{ وما جعلناهم جسدا } أي ذوي جسد ولما ثبت أنهم كانوا أجسادا يأكلون الطعام بين أن مآلهم إلى الفناء والنفاد ونفى عنهم الخلود وهو البقاء السرمدي أي هؤلاء الرسل بشر أجساد يطعمون ويموتون كغيرهم من البشر والذي صاروا به رسلا هو ظهور المعجزة على أيديهم وعصمتهم من الصفات القادحة في التبليغ وغيره.
{ ثم صدقناهم الوعد } فكذلك يصدق نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما وعدهم به من النصر وظهور الكلمة وهذه عدة للمؤمنين ووعيد للكافرين وصدقناهم الوعد من باب اختار وهو ما يتعدى الفعل فيه إلى واحد وإلى الآخر بحرف الجر ويجوز حذف ذلك الحرف أي في الوعد.
{ ومن نشآء } هم المؤمنون والمسرفون هم الكفار ولما توعدهم في هذه الآية أعقب ذلك بوعده بنعمته عليهم فقال:
{ لقد أنزلنآ إليكم كتابا فيه ذكركم } والكتاب هو القرآن وعن ابن عباس ذكر شرفكم حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه.
{ وكم قصمنا من قرية } كم خبرية معناه كثيرا والقصم أفظع الكسر عبر به عن الإهلاك الشديد وكم منصوبة بقصمنا.
{ من قرية } هو على حذف مضاف أي من أهل قرية.
{ كانت } أي كان أهلها.
{ وأنشأنا بعدها } أي بعد إهلاك أهلها وعن ابن عباس أن القرية هي حضوراء قرية باليمن ومن حديثها أن الله بعث إليهم نبيا فقتلوه فسلط الله عليهم بخت نصر كما سلطه على أهل بيت المقدس بعث إليهم جيشا فهزموه ثم بعث إليهم آخر فهزموه فخرج إليهم بنفسه فهزمهم في الثالثة فلما أخذ القتل فيهم ركضوا هاربين.
{ فلمآ أحسوا بأسنآ } أي باشروه بالإحساس والضمير في أحسوا عائد على أهل المحذوف من قوله: وكم قصمنا من قرية والضمير في منها عائد على القرية والظاهر أنهم لما أدركتهم مقدمة العذاب ركبوا دوابهم يركضونها هاربين منهزمين وإذا الفجائية جواب قوله: فلما * وقوله: لا تركضوا، قال ابن عطية: يحتمل أن تكون من قول رجال بخت نصر فالمعنى على هذا أنهم فدعوهم واستهزؤوا بهم بأن قالوا للهاربين منهم لا تفروا وارجعوا إلى منازلكم لعلكم تسألون صلحا أو جزية أو أمرا يتفق عليه فلما انصرفوا أمر بخت نصر أن ينادي فيهم بالثارات للنبي المقتول فقتلوا بالسيف عن آخرهم " انتهى " ويجوز أن يكون لا تركضوا من كلام بعضهم لبعض لما هزموا الجيش ثاني مرة.
{ ومساكنكم } معطوف على ما الموصولة بأترفتم والإتراف إبطار النعمة والتقدير وإلى مساكنكم وفي قوله: لعلكم تسألون، دليل على أن من كان قارا في مسكنه مترفا فيه جدير بأن يكون يسأل في المهمات ويعتمد عليه فيها ونداء الويل هو على سبيل المجاز كأنهم قالوا يا هلكتنا وتقدم تفسير الويل في البقرة والظلم هنا الإشراك وتكذيب الرسل وإيقاع أنفسهم في الهلاك واسم زالت هو اسم الإشارة وهو تلك وهو إشارة إلى الجملة المقولة ودعواهم الخبر ويجوز العكس قاله الزجاج وبعض أصحابنا إذا لم يكن مبين الاسم والخبر الأول جعل الاسم والثاني الخبر كما قالوا في ضرب موسى عيسى أي فما زالت تلك الدعوى دعواهم قال المفسرون: فما زالوا يكررون تلك الكلمة فلم تنفعهم كقوله تعالى:
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا
[غافر: 85] والدعوى مصدر دعا يقال دعا دعوى ودعوة لأن المذلول كأنه يدعو الويل وقوله: حصيدا أي بالعذاب تركوا كالحصيد خامدين أي موتى دون أرواح مشبهين بالنار إذا أطفئت ولما ذكر تعالى قصم تلك القرى الظالمة اتبع ذلك بما يدل على أنه فعل ذلك عدلا منه ومجازاة على ما فعلوا وأنه ما أنشأ هذا العالم العلوي المحتوي على عجائب صنعه وغرائب من فعله وهذا العالم السفلي وما أودع فيه من عجائب الحيوان والنبات والمعادن وما بينهما من الهواء والسحاب والرياح على سبيل اللعب بل لفوائد دينية تقضي بسعادة الأبد أو بشقاوته ودنياوية لا تعد ولا تحصى كقوله تعالى:
وما خلقنا السمآء والأرض وما بينهما باطلا
[ص: 27].
{ لو أردنآ أن نتخذ لهوا } أصل اللهو ما تسرع إليه الشهوة ويدعو إليه الهوى وقال ابن عباس وغيره اللهو هنا الولد.
{ بل نقذف } أي ترمي بسرعة وهذا من مجاز التمثيل شبه الحق بالصخرة الصلبة والباطل بالرخو وأنه قذف الصخرة على الرخو.
{ فيدمغه } أي يصيب دماغه وذلك مهلك في البشر وكذلك الحق يهلك الباطل.
{ ولكم الويل } خطاب للكفار أي الخزي والهم.
{ مما تصفون } أي تصفونه بما لا يليق به تعالى من اتخاذ الصاحبة والولد والظاهر أن قوله: وله من في السماوات والأرض استئناف اخبار بأن جميع العالم ملكه وعند هنا لا يراد بها ظرف المكان لأنه تعالى منزه عن المكان بل المعنى شرف المكانة وعلو المنزلة.
{ لا يستكبرون } جملة حالية.
{ ولا يستحسرون } أي لا يكلون ولا يسامون وبينه ما بعده من قوله:
{ يسبحون اليل والنهار لا يفترون * أم اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون } لما ذكر الدلائل على وحدانيته وأن من في السماوات والأرض ملك له وأن الملائكة المكرمين هم في خدمته عاد إلى ما كان عليه من توبيخ المشركين وذمهم وتسفيه أحلامهم وأم هنا منقطعة تتقدر ببل والهمزة وفيها إضراب وانتقال من خبر إلى خبر واستفهام معناه التعجب والإنكار أي اتخذوا آلهة من الأرض يتصفون بالاحياء ويقدرون عليها وعلى الاماتة أي لم يتخذوا آلهة بهذا الوصف بل اتخذوا آلهة جمادا لا تتصف بالقدرة على شىء فهي غير آلهة لأن من صفة الإله القدرة على الإحياء والإماتة.
{ هم ينشرون } صفة لقوله: آلهة بعد وصفه بالمجرور الذي هو من الأرض والضمير في فيهما عائد على السماء والأرض وهما كناية عن العالم والا صفة لآلهة أي آلهة غير الله وكون الا يوصف بها معهود في لسان العرب ومن ذلك ما أنشده سيبويه
وكل أخ مفارقه أخوه
لعمر أبيك إلا الفرقدان
أي وكل أخ غير الفرقدين مفارقه أخوه وقال أبو العباس المبرد في إلا الله أن يكون بدلا لأن ما بعد لو غير موجب في المعنى والبدل في غير الواجب أحسن من الوصف والذي يظهر أن معنى الآية وجود الفساد فيهما مرتبا على وجود الآلهة المغايرة لله وهذا الوجود لم يقع فلا يقع ما يترتب عليه وهو الفساد.
[21.22-56]
{ فسبحان الله } نزه نفسه عما وصفه به أهل الجهل ثم وصف نفسه بأنه مالك هذا المخلوق العظيم الذي جميع العالم هو متضمنهم ثم وصف نفسه بكمال القدرة ونهاية الحكمة فقال: لا يسأل عما يفعل إذ له أن يفعل في ملكه ما يشاء وفعله على أقصى درجات الحكمة فلا اعتراض ولا تعقب عليه والظاهر في قوله: لا يسأل العموم في الأزمان.
{ وهم يسألون } عن أعمالهم ثم كرر تعالى عليهم الإنكار والتوبيخ فقال: أم اتخذوا من دونه آلهة استفظاعا لشأنهم واستعظاما لكفرهم وزاد في هذا التوبيخ قوله: من دونه فكأنه وبخهم على قصد الكفر بالله عز وجل ثم دعاهم إلى الإتيان بالحجة على ما اتخذوا ولا حجة تقوم على أن لله شريكا لا من جهة العقل ولا النقل بل كتب الله السابقة شاهدة بتنزيهه تعالى عن الشركاء والانداد كما في الوحي الذي جئتكم به.
{ هذا ذكر من معي } أي عظة للذين معي وهم أمته.
{ وذكر من قبلي } وهم أمم الأنبياء والذكر هنا مراد به الكتب الإلهية ويجوز أن يكون هذا إشارة إلى القرآن والمعنى في ذكر الأولين والآخرين بالدعوة وبيان الشرع وذكر الأولين بقص أخبارهم وذكر الغيوب في أمورهم والمعنى على هذا عرض القرآن في معرض البرهان أي:
{ هاتوا برهانكم } فهذا برهاني في ذلك ظاهر.
{ ومآ أرسلنا من قبلك } الآية أخبر تعالى أنه ما أرسل من رسول إلا جاء مقررا لتوحيد الله وإفراده بالإلهية والأمر بالعبادة ولما كان من رسول عاما وكان له لفظ ومعنى أفرد على اللفظ في قوله:
{ إلا نوحي إليه } ثم جمع على المعنى في قوله:
{ فاعبدون } ولم يأت التركيب فاعبدني ويحتمل أن يكون الأمر له ولأمته ثم نزه تعالى نفسه عما نسبوا إليه من الولد قيل ونزلت في خزاعة حيث قالوا الملائكة بنات الله وقالت النصارى نحو هذا في عيسى واليهود في عزير ثم أضرب تعالى عن نسبة الولد إليه فقال.
{ بل عباد مكرمون } تقديره بل هم عباد مكرمون ويشمل هذا اللفظ الملائكة وعزيرا والمسيح.
{ لا يسبقونه بالقول } المعنى أنهم يتبعون قوله: ولا يقولون شيئا حتى يقوله: فلا يسبق قولهم قوله:
{ وهم بأمره يعملون } فكما أن قولهم تابع لقوله: كذلك فعلهم مبني على أمره لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به وهذه عبارة عن توغلهم في طاعته والامتثال لأمره.
{ ولا يشفعون } لما كانوا مقهورين تحت أمره وملكوته وهو محيط بهم لم يجسروا على أن يشفعوا.
{ إلا لمن ارتضى } الله تعالى وأهله للشفاعة في زيادة الثواب والتعظيم ثم هم مع ذلك .
{ من خشيته مشفقون } متوقعون حذرون لا يأمنون مكر الله وقال ابن عباس: لمن ارتضى هو من قال: لا إله إلا الله وشفاعتهم الاستغفار.
{ ومن يقل منهم إني إله } بعد أن وصف كرامتهم عليه وأثنى عليهم وأضاف إليهم تلك الأفعال السنية فاجأ بالوعيد الشديد وأنذر بعذاب جهنم من ادعى منهم أنه إله وذلك على سبيل الفرض والتمثيل مع علمه بأنه لا يكون كقوله تعالى:
ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون
[الأنعام: 88] قصد بذلك تفظيع أمر الشرك وتعظيم شأن التوحيد.
{ كذلك } مثل ذلك الجزاء نجزي الظالمين وهم الكافرون الواضعون الشىء في غير موضعه وأداة الشرط تدخل على الممكن والممتنع نحو قوله تعالى:
لئن أشركت ليحبطن عملك
[الزمر: 65].
{ أولم ير الذين كفروا أن السموت } الآية هذا استفهام توبيخ لمن ادعى مع الله آلهة ودلالة على تنزيهه عن الشريك وتوكيد لما تقدم من أدلة التوحيد وقوله:
{ كانتا رتقا } قال الزجاج: السماوات جمع أريد به الواحد ولهذا قال: كانتا رتقا لأنه أراد السماء والأرض قال ابن عباس: وجماعة كانتا شيئا واحدا ففضل الله بينهما بالهواء وقيل في الرتق والفتق غير ذلك يقال رتق الشىء سده فارتقق ومنه الرتقاء للمنضنمة الفرج وفتق فصل ما بين المتصلين.
{ وجعلنا } ان تعدت الواحد كانت بمعنى خلقنا.
{ من المآء كل } حيوان أي مادته النطفة وإن تعدت إلى اثنين فالمعنى صيرنا كل.
{ شيء حي } متسببا من الماء لا بد له منه.
{ أفلا يؤمنون } استفهام إنكار وفيه معنى التعجب من ضعف عقولهم والمعنى أفلا يتدبرون هذه الأدلة ويعملوا بمقتضاها.
{ وجعلنا في الأرض رواسي } تقدم نظيره في النحل والظاهر أن الضمير فيها عائد على الأرض وقيل على الرواسي وجاء هنا تقديم فجاجا على قوله سبلا وفي سورة نوح لتسلكوا منها سبلا فجاجا لأجل الفواصل.
{ وجعلنا السمآء سقفا محفوظا } وما رفع وسمك على شىء فهو سقف وعن بن عباس
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى السماء فقال: إن السماء سقف مرفوع وموج مكفوف يجري كما يجري السهم محفوظا من الشياطين ".
{ وهم عن آياتها } أي عما وضع الله تعالى فيها من الأدلة والعبر بالشمس والقمر وسائر النيرات ومسايرها وطلوعها وغروبها على الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة.
{ وهو الذي خلق الليل والنهار } قدم الليل لأن الظلمة تسبق النور والشمس على القمر لأن القمر يستمد النور منها.
{ كل في فلك } الفلك الجسم الدائر دورة اليوم والليلة وعن ابن عباس الفلك السماء وقال أكثر المفسرين: الفلك موج مكفوف تحت السماء تجري فيه الشمس والقمر كل في فلك الذي حذف مضافة يجوز أن يعود الضمير عليه مفردا كقوله تعالى:
قل كل يعمل على شاكلته
[الإسراء: 84] ويجوز أن يعود عليه جمعا كقوله تعالى:
وكل كانوا ظالمين
[الأنفال: 54] وجاء هنا بمضير الجمع في قوله: يسبحون رعيا للفواصل وكني بالسبح عن الجريان وجاء الضمير مجموعا وإن كان عائدا على الشمس والقمر باعتبار أوقات مطالعهما لكثرة المطالع.
{ وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد } قيل ان بعض المسلمين قال: ان محمدا لا يموت وإنما هو مخلد فأنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت والفاء في أفان مت للعطف وقدمت عليها همزة الاستفهام له صدر الكلام وهمزة الاستفهام دخلت على أن الشرطية والجملة بعدها جواب الشرط وليست مصب الاستفهام فتكون الهمزة داخلة عليها واعترض الشرط بينهما فحذف جوابه هذا مذهب سيبويه وزعم يونس أن تلك الجملة هي مصب الاستفهام والشرط معترض بينهما وجوابه محذوف وفي هذه الآية دليل لمذهب سيبويه وللمذهبين تقرير في علم النحو:
{ كل نفس ذآئقة الموت } تقدم الكلام عليه.
{ ونبلوكم } نختبركم وقدم الشر لأن الابتلاء به أكثر ولأن العرب تقدم الأقل والأرد أو عن ابن عباس الخير والشر هنا عام في الغنى والفقر والصحة والمرض والطاعة والمعصية.
{ وإلينا ترجعون } فنجازيكم على ما صدر منكم في حالة الابتلاء من الصبر والشكر وفي غير الابتلاء.
{ وإذا رآك الذين كفروا } الآية، قال السدي: ومقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي جهل وأبي سفيان فقال أبو جهل: هذا نبي بني عبد مناف فقال أبو سفيان وما تنكر أن يكون نبيا في بني عبد مناف فسمعهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لأبي جهل ما تنتهي حتى ينزل بك ما نزل بعمك الوليد بن المغيرة وأما أنت يا أبا سفيان فإنما قلت ما قتله حمية فنزلت وان نافية بمعنى ما والظاهر أن جواب إذا هو أن يتخذونك وجوب إذا بان النافية لم يرد منه في القرآن إلا هذا وقوله في الفرقان وإذا رأوك. أن يتخذونك الا هزأ ولم يحتج إلى الفاء في الجواب كما لم تحتج إليه ما إذا وقت جوابا كقوله تعالى:
وإذا تتلى عليهم ءايتنا بينات ما كان حجتهم
[الجاثية: 25] بخلاف أدوات الشرط فإنها إذا كان الجواب مصدرا بما النافية فلا بد من الفاء نحو أن تزرنا فما نسيء إليك.
{ أهذا الذي يذكر آلهتكم } أهذا استفهام فيه إنكار وتعجيب والذكر يكون بالخير والشر فإذا لم يذكر متعلقة فالقرينة تدل عليه فإن كان من صديق فالذكر ثناء أو من غيره فذم ومنه قالوا سمعنا فتى يذكرهم أي بسوء وكذلك هنا أي أهذا الذي يذكر آلهتكم ثم نعي عليهم إنكارهم عليه ذكر آلهتهم بهذه الجملة الحالية وهي وهم بذكر الرحمن هم كافرون أي منكرون وهذه حالهم يكفرون بذكر الرحمن وهو ما أنزل من القرآن فمن هذه حالة لا ينبغي أن ينكر على من يعيب آلهتهم والظاهر أن هذه الجملة حال من الضمير في يقولون المحذوف ولما كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإقرار والعلم نهاهم تعالى عن الاستعجال وقدم أولا ذم الإنسان على فراط العجلة وأنه مطبوع عليها والظاهر أنه يراد بالإنسان هنا إسم الجنس وكونه خلق من عجل هو على سبيل المبالغة لما كان يصدر منهم كثيرا كما تقول لمكثر اللعب أنت من لعب.
{ ويقولون متى هذا الوعد } فمتى استفهام على جهة الهزؤ وكان المسلمون يتوعدونهم على لسان الشرع * ومتى في موضع الخبر لهذا فموضعه رفع وهو على حذف مضاف تقديره حتى انجاز هذا الوعد.
{ لو يعلم الذين كفروا } الآية الظاهر أن مفعول يعلم محذوف لدلالة ما قبله عليه أي لو يعلم الذين كفروا مجيء الموعود الذي سألوا عنه واستبطؤه وحين منصوب بالمفعول الذي هو مجيء ويجوز أن يكون من باب الأعمال على حذف مضاف وأعمل الثاني والمعنى لو يعلمون مباشرة النار حين لا يكفونها عن وجوههم وذكر الوجه لأنه أشرف ما في الإنسان ومحل حواسه والإنسان أحرص على الدفاع عنه من غيره من أعضائه ثم عطف عليها الظهور والمراد عموم النار لجميع أبدانهم ولا أحد يمنعهم من العذاب وجواب لو محذوف تفسيره لسعوا فيما يخلصهم من عذاب الله والظاهر أن الضمير في تأتيهم عائد على النار بغتة أي فجأة.
{ ولا هم ينظرون } أي لا يؤخرون عما حل بهم من العذاب ولما تقدم قوله: إن يتخذونك إلا هزؤا سلاه تعالى بأن من تقدمه من الرسل وقع من أحمهم الاستهزاء بهم وأن ثمرة استهزائهم جنوها هلاكا وعقابا في الدنيا والآخرة فكذلك حال هؤلاء المستهزئين وتقدم تفسير مثل هذه الآية في الانعام ثم أمره تعالى أن يسألهم من الذي يحفظكم في أوقاتكم من يأس الله أي: لا أحد يحفظكم منه وهو استفهام توبيخ وتقريع وفي الكلام تقدير محذوف كأنه قال ليس لهم ما نع ولا كالىء وعلى هذا النفي تركبت بل في قوله تعالى: { بل هم عن ذكر ربهم معرضون }.
{ تمنعهم من دوننا } أي: من جهة غير جهتنا ويجوز أن يكون في موضع الصفة لقوله: آلهة أي كائنة من جهتنا تمنعهم لما ذكر تعالى نفي منع آلهتهم وذكر أيضا عنهم أنهم لا يستطيعون نصر أنفسهم ولا هم منقادون منا أي يؤخذون منا يقال أصحب فلان فلانا إذا أقاده ومنه قول الشاعر: ولست بذي رثيه امر إذا قيد مستكرها أصحبا يريد إنقاد والرثية البطؤ في الشىء والأمر الرجل الذي يطيع كل ما أمر.
{ بل متعنا هؤلاء } قال أكثر المفسرين: انها نزلت في كفار مكة وهؤلاء إشارة إلى المخاطبين من كفار مكة ومن اتخذ آلهة من دون الله أخبر تعالى أنه متع هؤلاء الكفار وآباءهم من قبلهم بما رزقهم من حطام الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة وتدعوا في الضلالة بإمهاله إياهم وتأخيرهم إلى الوقت الذي يأخذهم فيه.
{ أفلا يرون أنا نأتي الأرض } تقدم تفسير هذه الجملة في آخر الرعد وفي قوله: { أفهم الغالبون } دليل على أنهم هم المغلوبون فهو استفهام فيه تقريع لهم وتوبيخ حيث لم يعتبروا بما يجري عليهم ثم أمره تعالى أن يقول لهم إنما أنذركم بالوحي أي أعلمكم بما تخافون منه بوحي من الله لا من تلقاء نفسي وما كان من جهة الله فهو الصدق الواقع لا محالة كما رأيتم بالعيان من نقصان الأرض من أطرافها * ثم أخبر أنهم مع إنذارهم معرضون عما أنذروا به والإنذار لا يجدي فيهم إذ هم صم عن سماعه ولما كان الوحي من المسموعات كان ذكر الصم مناسبا والصم هم المنذرون فأل فيه للعهد وناب الظاهر مناب المضمر لأن فيه التصريح بتصامهم وسد أسماعهم إذ أنذروا ونفي السماع هنا هو نفي جدواه ثم أخبر تعالى أن هؤلاء الذين صموا عن سماع ما أنذروا به إذ نالهم شىء مما أنذروا به ولو كان يسيرا نادوا بالهلاك وأقروا بأنهم كانوا ظالمين نبهوا على العلة التي أوجبت لهم العذاب وهو ظلم الكفر وذلوا وأذعنوا قال ابن عباس: نفحة طرف وعنه هو الجوع الذي نزل بمكة ولما ذكر حالهم في الدنيا إذا أصيبوا بشيء استطرد لما يكون في الآخرة التي هي مقر الثواب والعقاب فأخبر تعالى عن عدله وأسند ذلك إلى نفسه بنون العظمة فقال:
{ ونضع الموازين } وتقدم الكلام على الموازين في أول الاعراف والقسط مصدر قسط وصفت به الموازين مبالغة فكأنها جعلت في أنفسها القسط أو على حذف مضاف أي ذوات القسط ويجوز أن يكون مفعولا من أجله أي لأجل القسط وقرىء:
{ مثقال } بالرفع فاعل لكان وهي تامة ومثقال بالنصب على خبر كان واسمها مضمرمة تقديره وإن كان هو أي العمل أو الشىء والجملة دالة على جميع ما يفعل الإنسان من صغير وكبير وتفسيره ب
{ حبة من خردل } مبالغة في التقليل وأنث الضمير في بها وهو عائد على مذكر وهو مثقال لإضافته إلى مؤنث.
{ وكفى بنا حاسبين } فيه توعد وبنا فاعل والباء زائدة نحو كفى بالله وهو إشارة إلى ضبط أعمالهم من الحساب وهو العد والإحصاء والظاهر أن حاسبين تمييز لقبوله من ويجوز أن يكون حالا.
{ ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان } لما ذكر ما آتى رسوله وحال مشركي العرب حال ذكر ما أوتي موسى وهارون بإشارة إلى قصتها مع قومهما مع ما أوتوا من الفرقان والضياء والذكر ثم نبه على ما آتى رسوله من الذكر المبارك ثم استفهم على سبيل الإنكار على إنكارهم ما آتى رسله والفرقان التوراة وهو الضياء والذكر أي كتابا هو فرقان وضياء وذكر ويدل على هذا المعنى قراءة ابن عباس ضياء بغير واو.
{ وهم من الساعة مشفقون } استئناف اخبار عنهم وأن يكون معطوفا على صلة الذين وتكون الصلة الأولى مشعرة بالتجدد دائما كأنها حالتهم فيما يتعلق بالدنيا والصلة الثانية من مبتدأ وخبر عنه بالاسم المشعر بثبوت الوصف كأنها حالتهم فيما يتعلق بالآخرة ولما ذكر ما آتى بموسى وهارون عليهما السلام أشار إلى ما آتى محمدا صلى الله عليه وسلم فقال: وهذا ذكر أي وهذا القرآن ذكر مبارك أي كثير منافعه غزير خيره وجاءنا هنا الوصف بالاسم بالجملة جريا على الأشهر.
{ وهذا ذكر مبارك أنزلناه } تقدم الكلام عليه في الانعام.
{ أفأنتم له منكرون } استفهام إنكار وتوبيخ وهو خطاب للمشركين والضمير في له عائد على ذكر وهو القرآن وفيه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإذ أنكر ذلك المشركون كما أنكر أسلاف اليهود ما أنزل الله على موسى عليه السلام.
{ ولقد آتينآ إبراهيم } الآية لما تقدم الكلام في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد اتبع ذلك بذكر أنبياء وما جرى لهم كل ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليتأسى بهم فيما جرى عليه من قومه وقرىء:
{ رشده } ورشده والرشد الظاهر أنها النبوة والمضاف إليه من قبل محذوف وهو معرفة ولذلك بني قبل أي من قبل موسى وهارون والضمير في به الظاهر أنه عائد على إبراهيم وعلمه تعالى به أنه علم منه أحوالا عجيبة وأسرارا بديعة فأهله لخلته كقوله تعالى:
الله أعلم حيث يجعل رسالته
[الأنعام: 124] * وهذا من أعظم المدح وأبلغه إذ أخبر تعالى أنه آتاه الرشد وأنه عالم بما آتاه ربه صلى الله عليه وسلم ثم استطرد من ذلك إلى تفسير الرشد وهو الدعاء إلى توحيد الله تعالى ورفض ما عبد من دونه وإذ معمولة لآتينا وبدأ أولا بذكر أبيه لأنه الأهم عنده في النصيحة وإنقاذه من الضلالة ثم عطف عليه قومه كقوله تعالى:
وأنذر عشيرتك الأقربين
[الشعراء: 214] وفي قوله:
{ ما هذه التماثيل } تحقير لها وتصغير لشأنها وتجاهل بها مع علمه بها وبتعظيمهم لما وفي خطابه لهم بقوله: أنتم استهانة بهم وتوقيف على سوء صنيعهم والتمثال الصورة المصنوعة مشبهة لمخلوق من مخلوقات الله ومنه مثلث الشىء بالشىء إذا شبهته به * وقال امرؤ القيس:
ويا رب يوم قد لهوت وليلة
بآنسة كأنها خط تمثال
وعكف يتعدى بعلى كقوله تعالى:
يعكفون على أصنام لهم
[الأعراف: 138] فقيل لها بمعنى عليها كما قيل في قوله: وإن أسأتم فلها والظاهر أن اللام في لها لام التعليل أي لتعظيمها وصلة عاكفون محذوفة أي على عبادتها وقيل ضمن عاكفون معنى عابدين فعداه باللام ولما سألهم أجابوه بالتقليد البحت وأنه فعل آبائهم اقتدوا به من غير برهان فلما أجابوه بما لا شبهة لهم فيه.
{ قال لقد كنتم أنتم وآبآؤكم في ضلال } أي حيرة واضحة لا التباس فيها وحكم بالضلال على المقلدين والمقلدين وجعل الضلال مستقرا لهم وأنتم توكيد للضمير الذي هو اسم كان * أم أنت من اللاعبين جملة معادلة للجملة التي قبلها والمعنى أجئتنا بالحق أم بغير الحق وهو اللعب.
{ بل ربكم } قبلها جملة محذوفة تقديرها ليست تلك التماثيل أربابا بل ربكم.
{ رب السموت والأرض الذي فطرهن } الظاهر أنه عائد على السماوات والأرض وتخيل ابن عطية وغيره أن الضمير في فطرهن يخص من يعقل وليس بصحيح بل هو لفظ مشترك بين من يعقل وما لا يعقل من المؤنث المجموع ومن ذلك قوله تعالى:
فلا تظلموا فيهن أنفسكم
[التوبة: 36] والضمير عائد على الأشهر الأربعة الحرم والإشارة بقوله: ذلكم إلى ربوبيته تعالى ووصفه بالاختراع لهذا العالم ومن للتبعيض أي الذين يشهدون الربوبية كثيرون وأنا بعض منهم.
[21.57-91]
{ وتالله لأكيدن أصنامكم } بادرهم أولا بالقول المنبه على دلالة العقل ثم بالفعل الذي يقتضي تقطيع أصنامهم وفك أجزائها فقال: وتالله لأكيدن والكيد الاحتيال في وصول الضرر إلى المكيد والظاهر أنه خاطب بها أباه وقومه وقوله:
{ بعد أن تولوا مدبرين } أي إلى عيد كان لهم يحضرون له وتخلف هو عنهم لما يقصده.
{ فجعلهم جذاذا } قبله محذوف تقديره فتولوا إلى عيدهم وقصد هو ما كان نواه فجعلهم أي الأصنام جذاذا أي مفكوكة الأجزاء وقرىء: جذاذا بضم الجيم وكسرها والجذ القطع وقوله:
{ إلا كبيرا لهم } إستثناء من الضمير في فجعلهم أي فلم يكسره قيل وكانت الأصنام مصطفة وصنم منها عظيم مستقبل الباب من ذهب وفي عينيه درتان مضيئتان فكسرها بفاس إلا ذلك الصنم وعلق الفاس في عنقه وقيل في يده والضمير في لهم يحتمل أن يعود على الأصنام أو على عباده والكبر هنا عظم الجثة أو كبيرا عندهم في المنزلة لكونهم صاغوه من ذهب وجعلوا في عينيه جوهرتين مضيئتين بالليل والنهار والضمير في إليه عائد على إبراهيم أي فعل ذلك ترجيا منه بعقب ذلك رجعة إليه وإلى شرعه.
{ قالوا من فعل هذا } الآية في الكلام محذوف تقديره فلما رجعوا من عيدهم إلى آلهتهم ورأوا ما فعل بها استفهموا على سبيل البحث والإنكار فقالوا: من فعل هذا التكسير والتحطيم انه لظالم إلى اجترائه على الآلهة المستحقة للتعظيم والتوقير.
{ قالوا } أي سمعوا قوله: وتالله لأكيدن أصنامكم يذكرهم بسوء.
{ يقال له إبراهيم } يحتمل أن يكون جوابا لسؤال مقدر لما قالوا سمعنا فتى يذكرهم وأتوا به منكرا قيل من يقال له فقيل: يقال له إبراهيم وارتفع إبراهيم على أنه مقدر بجملة محكية يقال اما على النداء أي يقال له حين يدعي يا إبراهيم واما على خبر مبتدأ محذوف أي هو إبراهيم أو على أنه مفرد مفعول ما لم يسم فاعله ويكون من إسناد للفظ لا المدلولة أي يطلق عليه هذا اللفظ.
{ على أعين الناس } أي أحضروه بمرأى منهم فعلى أعين الناس في موضع الحال وعلى معناها الاستعلاء المجازي كأنهم لتحديقهم إليه وارتفاع أبصارهم لرؤيته مستعل على أبصارهم.
{ لعلهم يشهدون } جوابه إذا سألوه عن تلك الأصنام.
{ قالوا أأنت فعلت هذا } أي الكسر والهشم.
{ بآلهتنا } وارتفاع أنت المختار أنه يفعل محذوف يفسره فعلت ولما حذف انفصل الضمير ويجوز أن يكون مبتدأ وإذا تقدم الاسم في نحو هذا التركيب على الفعل كان الفعل صادرا واستفهم عن فاعله وهو المشكوك فيه وإذا تقدم الفعل كان الفاعل مشكوكا فيه فاستفهم عنه أوقع ذلك أو لم يقع والظاهر أن بل للإضراب عن جملة محذوفة أي قال: لم أفعله إنما الفاعل حقيقة هو الله تعالى.
{ بل فعله كبيرهم } وأسند الفعل إلى كبيرهم على جهة المجاز لما كان سببا في كسر هذه الأصنام هو تعظيمهم وعبادتهم له ولما دونه من الأصنام كان ذلك حاملا على تحطيمها وكسرها فأسند الفعل إلى الكبير إذ كان تعظيمهم له أكثر من تعظيم ما دونه.
{ فاسألوهم } لا يريد حقيقة السؤال بل ذلك على سبيل التعجيز والاستهزاء بهم كأنه قال:
{ إن كانوا ينطقون } فاسألوهم وهم لا ينطقون فلا يصح السؤال.
{ فرجعوا إلى أنفسهم } قال ابن عباس: حين عبدتم ما لا ينطق ولا يصلح للعبادة.
{ ثم نكسوا على رءوسهم } أي ارتبكوا في ضلالهم وعلموا أن الأصنام لا تنطق فساءهم ذلك حين نبه على قيام الحجة عليهم ونكسهم كناية عن مجادلتهم ومكابرتهم.
{ ما هؤلاء } جملة منفية في موضع نصب معلق عنها الفعل الذي هو علمت قال:
{ أفتعبدون } لما ظهرت الحجة له عليهم أخذ يقرعهم ويوبخهم بعبادة تماثيل لا تنفع ولا تضر ثم أبدى لهم التضجر منهم ومن معبوداتهم وتقدم الخلاف في أف في سبحان واللام في لكم لبيان المتأفف به أي لكم وللآلهتكم هذا التأفف ثم نبههم على ما تدرك به حقائق الأشياء وهو العقل فقال:
{ أفلا تعقلون } أي قبح ما أنتم عليه وهو استفهام توبيخ وإنكار.
{ قالوا حرقوه وانصروا آلهتكم } قالوا حرقوه أي قال بعضهم لبعض: وقيل أشار بإحراقه نمرود ولما نبههم على قبيح مرتكبهم واعلمهم بإقامة الحجة عليهم لاذوا بالإيذاء له والتعصب لآلهتهم واختاروا أشد العذاب وهو الإحراق بالنار التي هي سبب للإعدام المحض قال ابن عطية: روي أن الذي أشار بإحراقه رجل من الأكراد من أعراب فارس أي باديتها فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة وروي أنهم اتخذوا منجنيقا قيل بتعليم إبليس، إذ كان لم يصنع فشد إبراهيم رباطا ووقع في كفه المنجنيق ورمي به فوقع في النار وروي أن جبريل عليه السلام جاءه وهو في الهواء فقاله له: ألك حاجة؟ فقال: أما إليك فلا وعن ابن عباس إنما نجا إبراهيم عليه السلام بقوله: حسبي الله ونعم الوكيل.
{ قلنا ينار كوني } الآية، لما كانت النار تنفعل لما أراده الله منهما كما ينفعل من يعقل عبر عن ذلك بالقول ها والنداء والأمر.
{ كوني بردا وسلما } المعنى ذات برد وسلام فبولغ في ذلك كان ذاتها برد وسلام.
{ وأرادوا به كيدا } قيل هو إلقاؤه في النار.
{ فجعلناهم الأخسرين } أي المبالغين في الخسران وهو إبطال ما راموه به * والضمير في ونجيناه عائد على إبراهيم وضمن معنى أخرجناه بنجاتنا إلى الأرض ولذلك تعدى نجيناه بإلى ويحتمل أن يكون إلى متعلقا بمحذوف تقديره منتهيا إلى الأرض فيكون في موضع الحال ولا تضمين في ونجيناه على هذا والأرض التي خرجا منها هي كوثى من أرض العراق والتي صار إليها هي أرض الشام * وبركتها ما فيها من الخصب والأنهار والأشجار وبعث أكثر الأنبياء منها وقيل أرض مصر وبركتها نيلها وزكاة زرعها وعمارة مواضعها وروي أن إبراهيم عليه السلام خرج مهاجرا إلى ربه ومعه لوط وكان ابن أخيه فآمنت به سارة وهي ابنة عمه هازان الأكبر فأخرجها معه فارا بدينه وفي هذه الخرجة لقي الجبار الذي رام أخذها منه فنزل حران ومكث بها زمانا ثم قدم مصر ثم خرج منها إلى الشام فنزل السبع من أرض فلسطين ونزل لوط بالمؤتفكة على مسيرة يوم وليلة من السبع أو أقرب فبعثه الله نبيا * والنافلة العطية وكلا يشمل من ذكر إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب * يهدون بأمرنا يرشدون الناس إلى الدين * وأئمة قدوة لغيرهم وقرىء: أئمة بتحقيق الهمزتين وتسهيل الثانية وإبدالها همزة محضة.
{ وأوحينآ إليهم } أي خصصناهم بشرف النبوة لأن الإيحاء هو التنبئة وفعل الخيرات بدأ أولا في الإيحاء بعام وهو فعل الخيرات ثم بخاص وهو إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وجاء إقام الصلاة بغير تاء التأنيث والقياس إقامة بالتاء كما تقول أطال إطالة قال ابن عطية: والإقام مصدر وفي هذا نظر " انتهى " وأي نظر في هذا وقد نص سيبويه على أنه مصدر بمعنى الإقامة وإن كان الأكثر الإقامة بالتاء وهو المقيس في مصدر أفعل إذا اعتلت عينه وحسن حذف التاء هنا مقابلته لقوله: وإيتاء بغير تاء التأنيث وانتصب * ولوطا على الاشتغال تقديره وآتينا لوطا والحكم النبوة.
{ ونجيناه من القرية } أي من عذاب أهل القرية والقرية سدوم وكانت قراهم سبعا عبر عنها بالواحدة لاتفاق أهلها على الفاحشة ونسب عمل الخبائث إلى القرية مجازا وهو لأهلها وانتصب الخبائث على معنى يعمل الاعمال أو الفعلات الخبيثة وهي ما ذكره تعالى في غير هذه السورة مضافا إلى كفرهم بالله وتكذيبهم نبيه.
{ وأدخلناه في رحمتنآ } أي في أهل رحمتنا أو في الجنة سماها رحمة إذ كانت أثر الرحمة ولما ذكر تعالى قصة إبراهيم عليه السلام وهو أبو العرب وتنجيته من أعدائه ذكر قصة أبي العالم الأنس كلهم وهو الأب الثاني لآدم لأنه ليس أحد إلا من نسله من حام وسام ويافث وانتصب.
{ ونوحا } على إضمار اذكر أي واذكر نوحا أي قصته إذ نادى ومعنى نادى دعا مجملا بقوله:
أني مغلوب فانتصر
[القمر: 10] ومفصلا بقوله:
رب لا تذر على الأرض
[نوح: 26] الآيات والكرب أقصى الغم والأخذ بالنفس وهو هنا الغرق عبر عنه بأول أحوال ما يأخذ الغريق.
{ وداوود وسليمان } عطفا على ونوحا وكان داود ملكا نبيا يحكم بين الناس فوقعت هذه النازلة وكان ابنه إذ ذاك قد كبر وكان يجلس على الباب الذي يخرج منه الخصوم وكانوا يدخلون إلى داود من باب ويخرجون من آخر فتخاصم إليه رجل له زرع وقيل كرم والحارث فعلى أنه كرم رأى أن الغنم تقاوم ما أفسدت من ثمن الغلة وعلى أنه زرع رأى أنها تقاوم الحارث والغلة فخرجا على سليمان فشكى صاحب الغنم فجاء سليمان فقال يا نبي الله إني أرى ما هو أرفق بالجميع أن يأخذ صاحب الغنم الحرث يقوم عليه ويصلحه حتى يعود كما كان ويأخذ صاحب الحرث الغنم في تلك المدة ينتفع بمرافقها من لبن وصوف ونسل فإذا عاد الحرث إلى حاله صرف كل مال صاحبه إليه فرجعت الغنم إلى ربها والحرث إلى ربه فقال داود: وفقت يا بني وقضى بينهما بذلك والنفش رعي الماشية بالليل بغير راع والهمل رعيها بالنهار بغير راع.
{ وكنا لحكمهم } المعنى وكنا للحكم الذي صدر في هذه القضية.
{ شاهدين } فالمصدر هنا لا يراد به العلاج بل يراد به وجود الحقيقة والضمير في:
{ ففهمناها } عائد على الحكومة أو الفتوى.
{ وسخرنا مع داوود الجبال } ذكر ما امتاز به داود عن سليمان والظاهر أن يسبحن جملة من الجبال أي مسبحات والظاهر وقوله التسبيح منها بالنطق خلق الله تعالى فيها الكلام كما سبح الحصى في كف رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع الناس ذلك وانتصب والطير عطفا على الجبال ولا يلزم من العطف دخوله في قيد التسبيح وقيل هو مفعول معه أي يسجن مع الطير.
{ وكنا فاعلين } أي فاعلين هذه الأعاجيب من تسخير الجبال وتسبيحهن والطير لمن نخصه بكرامتنا * قال الزمخشري: فإن قلت لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأدل على القدرة وأدخل في الإعجاز لأنها جماد والطير حيوان ناطق " انتهى " قوله: حيوان ناطق إن عني به أنه ذو نفس ناطقة كما يقولون في حد الإنسان أنه حيوان ناطق فيلزم أن يكون الطير إنسانا وإن عني به أنه متكلم كما يتكلم الإنسان فليس بصحيح وإنما عني به أنه مصوت أي له صوت ووصف الطير بالنطق مجاز لأنها في الحقيقة لا نطق لها.
{ وعلمناه صنعة لبوس لكم } اللبوس الملبوس فعول بمعنى مفعول كالركوب بمعنى المركوب وهو الدرع هنا واللبوس ما يلبس وقال الشاعر:
عليها أسود ضاريات لبوسهم
سوابغ بيض لا يخرقها النبل
امتن تعالى عليه بإيتائه حكما وعلما وتسخير الجبال والطير معه وتعليم صنعة اللبوس وفي ذلك فضل هذه الصنعة إذ اسند تعالى تعليمها إياه إليه ثم امتن علينا بها بقوله:
{ لتحصنكم من بأسكم } أي ليكون وقاية لكم في حربكم وسبب نجاة من عدوكم وقرىء: بالنون والياء والتاء فالنون ضمير الله والتاء عائد على الدروع والياء على اللبوس.
{ فهل أنتم شاكرون } استفهام يتضمن الأمر أي اشكروا الله على ما أنعم به عليكم لقوله تعالى:
فهل أنتم منتهون
[المائدة: 91]، أي: انتهوا عما حرم الله ولما ذكر تعالى ما خص به نبيه داود ذكر ما خص به ابنه سليمان فقال:
{ ولسليمان الريح } وجاء التركيب هنا حين ذكر تسخير الريح لسليمان باللام وحين ذكر تسخير الجبال جاء بلفظ مع فقال: وسخرنا مع داود الجبال وكذا يا جبال أوبي معه وقال فسخرنا له الريح تجري بأمره وذلك أنه لما اشتركا في التسبيح ناسب ذكر مع الدالة على الاستصعاب ولما كانت الريح مسخرة لسليمان أضيفت إليه بلام التمليك لأنها في طاعته وتحت أمره.
و { عاصفة } حال العامل فيها سخرنا، ويقال: عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة ولغة أسد أعصفت فهي معصفة ومعصف ووصفت هذه الريح بالعصف وبالرخاء والعصف الشدة في السير والرخاء اللين وقيل: كان ذلك بالنسبة إلى الوقت الذي يريد فيه سليمان أحد الوصفين فلم يتخذ الزمان وقيل الجمع بين الوصفين كونهما رخاء في نفسها طيبة كالنسيم عاصفة في عملها تبعد في مدة يسيرة كما قال عدوها شهر وردفها شهر وقيل الرخاء في البداءة والعصف بعد ذلك ولما ذكر تعالى تسخير الريح له وهي جسم شفاف لا يعقل ولا يدرك بالبصر ذكر تسخير الشياطين له وهم أجسام لطيفة تعقل والجامع بينهما أيضا سرعة الانتقال ألا ترى إلى قوله:
قال عفريت من الجن
[النمل: 39] ومن في موضع نصب أي وسخرنا من الشياطين من يغوصون أو في موضع رفع على الابتداء والخبر في الجار والمجرور قبله وجمع الضمير في يغوصون حملا على معنى من وحسن ذلك تقدم جمع قبله ومعنى يغوصون أي في البحار لاستخراج اللآلىء ودل الغوص على المغاص فيه وعلى ما يغاص لاستحزابه وهو الجوهر ومعنى له أي لسليمان لأن الغائص قد يغوص لنفسه ولغيره فذكر أن الغوص ليس لأنفسهم إنما هو لأجل سليمان وامتثالهم أمره والإشارة بذلك إلى الغوص أي دون الغوص من بناء المدائن والقصور وغير ذلك كما قال تعالى:
يعملون له ما يشآء
[سبأ: 13] الآية، وقيل الحمام والنورة والطاحون والقوارير والصابون من استخراجهم.
{ وكنا لهم حافظين } أي من أن يزيغوا عن أمره أو يبدلوا أو يغيروا أو يوجد منهم فساد فيما هم فيه مسخرون.
{ وأيوب إذ نادى ربه } الآية روي أن أيوب كان روميا من ولد إسحاق بن يعقوب استنبأه الله وبسط عليه الدنيا وكثر أهله وماله فابتلاه الله بالمرض في بدنه.
{ وذا الكفل } قيل كان عبدا صالحا ولم يكن نبيا * وقال الأكثرون هو نبي.
{ وذا النون } النون الحوت وذا بمعنى صاحب كما قال تعالى:
ن والقلم
[القلم: 1] وانتصب.
{ مغاضبا } على الحال فقيل معناه غضبانا وقيل مغاضبا لقومه أغضبهم بمفارقته وتخوفهم حلول العذاب وأغضبوه حين دعاهم إلى الله مدة فلم يجيبوه فأوعدهم بالعذاب ثم خرج من بينهم على عادة الأنبياء عند نزول العذاب قبل أن يأذن الله له في الخروج.
{ فظن أن لن نقدر عليه } أي نضيق عليه من القدر لا من القدرة.
{ فنادى في الظلمات } في الكلام جمل محذوفة قد أوضحت في والصافات وجمع الظلمات لشدة تكاثفها فإنها ظلمة مع ظلمة وقيل ظلمة بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل وروي أن يونس عليه السلام سجد سجدة في بطن الحوت حين سمع تسبيح الحيتان في قعر الماء.
{ أن لا إله إلا أنت } أن تفسيرية لأنه سبق فنادى وهو فيه معنى القول ويجوز أن يكون التقدير بأنه فتكون مخففة من الثقيلة حصر الألوهية فيه تعالى ثم نزهه عن سمات النقص ثم أقر بما بعد ذلك وعن النبي صلى الله عليه وسلم ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له.
و { الغم } ما كان ناله حين التقمه الحوت ومدة بقائه في بطنه.
{ وزكريآ } تقدم الكلام عليه في آل عمران.
{ وأصلحنا له زوجه } روي أنها كانت سيئة الخلق فحسن الله خلقها والضمير في أنهم عائد على زكريا ويحيى والزوجة.
{ رغبا ورهبا } أي وقت الرغبة والرهبة.
{ والتي أحصنت فرجها } هي مريم بنت عمران أم عيسى عليه السلام والظاهر أن الفرج هنا حياء المرأة أحصنته أي منعته من الحلال والحرام وقيل الفرج أيضا جيب قميصها وأضاف الروح إليه تعالى على جهة التشريف وأفرد آية لأن حالهما بمجموعهما آية واحدة وهي ولادة مريم عيسى عليه السلام من غير فعل وإن كان في مريم آيات وفي عيسى آيات لكنه هنا لحظ أمر الولادة من غير ذكر وذلك هو آية واحدة * قال الزمخشري: فإن قلت نفخ الروح في الجسد عبارة عن إحيائه قال الله تعالى:
فإذا سويته ونفخت فيه من روحي
[الحجر: 29، ص: 72] أي أحييته وإذا ثبت ذلك كان قوله: ونفخنا فيها من روحنا ظاهر الاشكال لأنه يدل على إحياء مريم * قلت: معناه نفخنا الروح في عيسى فيها أي أحييناه في جوفها ونحو ذلك أن يقول الزمار نفخت في بيت فلان أي نفخت في المزمار في بيته " انتهى " لا اشكال في ذلك لأنه على حذف مضاف أي: فنفخنا في ابنها روحنا وقوله: قلت: معناه نفخنا الروح في عيسى فيها استعمل نفخ متعديا والمحفوظ أنه لا يتعدى فيحتاج في تعديته إلى سماع وغير متعد استعمله هو في قوله: نفخت في المزمار في بيته وقوله: للعالمين أي لمن اعتبر بها من عالمي زمانهم فمن بعدهم وناسب ذكر قصة زكريا وزوجه ويحيى للقرابة التي بينهم قال الشاعر:
ألا رب مولود وليس له أب
وذي ولد لم يلده أبوان
يريد عيسى وآدم صلى الله عليهما وسلم.
[21.92-112]
{ إن هذه أمتكم } الظاهر أن قوله: أمتكم خطاب لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه إشارة إلى أن ملة الإسلام هي ملتكم التي يجب أن تكونوا أنتم عليها لا تنحرفون عنها ملة واحدة غير مختلفة.
{ وتقطعوا أمرهم بينهم } أخبر تعالى أنهم بعد ذلك اختلفوا وتقطعوا أمرهم والضمير في تقطعوا عائد على ضمير الخطاب على سبيل الإلتفات أي وتقطعتم ولما كان هذا الفعل من أقبح المرتكبات عدل عن الخطاب إلى الغيبة كان هذا الفعل ما صدر من المخاطب لأن في الاخبار عنهم بذلك نعيا عليهم ما أفسدوه وكأنه يخبر غيرهم بما صدر عنهم من قبيح فعلهم ويقول: ألا ترى ما ارتكب هؤلاء في دين الله جعلوا أمر دينهم قطعا كما تتوزع الجماعة الشىء لهذا نصيب ولهذا نصيب تمثيلا لاختلافهم ثم توعدهم برجوع هذه الفرقة المختلفة إلى جزائه.
{ فلا كفران لسعيه } ذكر حال المحسن وأنه لا يكفر سعيه والكفران مثل في حرمان الثواب كما أن الشكر مثل في إعطائه إذ قيل لله شكور ولا لنفي الجنس فهو أبلغ من قوله: فلا نكفر سعيه والكتابة عبارة عن إثبات عمله الصالح في صحيفة الأعمال ليثاب عليه ولا يضيع.
{ وحرام على قرية } استعير الحرام للممتنع وجوده ومعنى أهلكناها قدرنا إهلاكها على ما هي عليه من الكفر فالإهلاك هنا إهلاك عن كفر ولا في لا يرجعون زائدة أي لا يرجعون إلى الإيمان كقوله:
قال ما منعك ألا تسجد
[الأعراف: 12] والمعنى وممتنع على أهل قرية قدرنا عليهم إهلاكهم لكفرهم رجوع في الدنيا إلى الإيمان إلى أن تقوم القيامة فحينئذ يرجعون ويقولون يا ويلنا قد كنا في غفلة من هذا وغيا بما قرب من مجيء الساعة وهو فتح يأجوج ومأجوج وتقدم الكلام على يأجوج والضمير في وهم عائد على يأجوج ومأجوج.
{ من كل حدب } أي من الأماكن المرتفعة.
{ ينسلون } يتساقطون ويسرعون.
{ واقترب الوعد } أي الوعد بالبعث.
{ الحق } الذي لا شك فيه والفاء جواب إذا السابقة وإذا الفجائية وهي ضمير القصة مبتدأ وأبصار مبتدأ وشاخصة خبره والجملة خبر عن ضمير القصة وقال الزمخشري: هي ضمير مبهم يوضحه الابصار ويفسره كما فسروا الذين ظلموا وأسروا " انتهى " لم يذكر غير هذا الوجه وهو قول الفراء.
{ في غفلة من هذا } أي مما وجدنا الآن وتبينا من الحقائق ثم أضربوا عن قولهم: قد كنا في غفلة وأخبروا بما كانوا قد تعمدوه من الكفر والإعراض عن الإيمان فقالوا:
{ بل كنا ظالمين } والخطاب بقوله:
{ إنكم وما تعبدون } للكفار المعاصرين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا سيما أهل مكة ومعبوداتهم هي الأصنام * والحصب ما يحصب به أي يرمي به في نار جهنم.
{ أنتم لها } أي النار.
{ واردون } الورود هنا ورود دخول.
{ لو كان هؤلاء } أي الأصنام التي يعبدونها.
{ آلهة ما وردوها } أي ما دخلوها.
{ وكل فيها } أي كل من العابدين ومعبوداتهم.
{ لهم فيها زفير } الزفير صوت نفس المغموم يخرج من وسط القلب والظاهر أن الزفير إنما يكون ممن تقوم به الحياة وهم العابدون والمعبودون ممن كان يدعي الإلهية كفرعون وغلاة الإسماعيلية الذين كانوا ملوك مصر من بني عبيد الله أول ملوكهم ويجوز أن يجعل الله تعالى للأصنام التي عبدت حياة فيكون لها زفير.
{ وهم فيها لا يسمعون } ما يسرهم بل يسمعون كلام من يتولى عذابهم من الزبانية كما قال تعالى:
ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما
[الإسراء: 97].
{ إن الذين سبقت لهم } الآية سبب نزولها قول ابن الزبعري حين سمع أنكم وما تعبدون الآية لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد خصمتك ورب الكعبة أليس اليهود عبدوا عزيرا والنصارى عبدوا المسيح وبنو مليح عبدوا الملائكة فقال صلى الله عليه وسلم: بل عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك فأنزل الله الآية.
و { الحسنى } الخصلة المفضلة في الحسن تأنيث الأحسن إما السعادة وإما البشرى بالثواب * والحسيس الصوت الذي يحس من حركة الإجرام والشهوة طلب النفس اللذة * والفزع الأكبر عام في كل هول يكون في القيامة.
{ وتتلقاهم الملائكة } بالسلام عليكم وعن ابن عباس تتلقاهم الملائكة بالرحمة عند خروجهم من القبور قائلين لهم:
{ هذا يومكم الذي كنتم توعدون } بالكرامة والثواب والنعيم فيه.
{ يوم نطوي السمآء } المعنى طيا مثل طي السجل قال الزمخشري: العامل في يوم من قوله: يوم نطوي الفزع " انتهى " هذا ليس بجائز لأن الفزع مصدر وقد وصف قبل أخذ معموله فلا يجوز ما ذكر والعامل فيه اذكر مقدرة التقدير أذكر يوم نطوي وطي مصدر مضاف إلى المفعول أي ليكتب فيه أو لما يكتب فيه من المعاني الكثيرة والظاهر أن الكاف ليست مكفوفة بل هي جارة وما بعدها مصدرية ينسبك منها مع الفعل مصدر هو في موضع جر بالكاف * وأول خلق مفعول بدأنا والمعنى نعبد أول خلق إعادة مثل بدأتنا له أي: كما أبرزناه من العدم إلى الوجود كذلك نعيده من العدم إلى الوجود وانتصب.
{ وعدا } على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة الخبرية قبله.
{ إنا كنا فاعلين } تأكيد لتحتم الخبر أي نحن قادرون على أن نفعل * والزبور الظاهر أنه زبور داود وقيل الزبور يعم الكتب المنزلة * والذكر اللوح المحفوظ * والأرض قال ابن عباس: هي أرض الجنة قال تعالى:
وأورثنا الأرض
[الزمر: 74] نتبوأ والإشارة في قوله: ان في هذا لبلاغا إلى المذكور في هذه السورة من الاخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة.
{ لبلاغا } كفاية يبلغ بها إلى الخير وكونه عليه السلام رحمة لكونه جاءهم بما يسعدهم.
و { للعالمين } قيل خاص بمن آمن به وقيل عام وكونه رحمة للكافرين حيث أخر عقوبتهم ولم يستأصل الكفار بالعذاب، قال: عوفي مما أصاب غيرهم من الأمم من مسخ وخسف وغرق وقذف وأخر أمره إلى الآخرة * قال ابن عطية: ويحتمل أن يكون معناه وما أرسلناك للعالمين إلا رحمة أي هو رحمة في نفسه وهدى بين أخذ به من أخذ وأعرض عنه من أعرض " انتهى " لا يجوز على المشهور أن يتعلق الجار بعد إلا بالفعل قبلها إلا ان كان العامل مفرغا له نحو ما مررت إلا بزيد * قال الزمخشري: إنما لقصر الحكم على شىء أو لقصر الشىء على حكم كقوله: إنما زيد قائم وإنما يقوم زيد وقد اجتمع المثالان في هذه الآية لأن إنما يوحى إلي مع فاعله بمنزلة إنما يقوم زيد وإنما إلهكم إله واحد بمنزلة إنما زيد قائم * وفائدة اجتماعهما الدلالة على أن الوحي للرسول صلى الله عليه وسلم مقصور على استئثار الله بالوحدانية " انتهى " أما ما ذكره في إنما انها لقصر ما ذكر فهو مبني على أن إنما للحصر وقد قررنا أنها لا تكون للحصر وأن ما مع أن كهي مع كأن ومع لعل فكما أنها لا تفيد الحصر في التشبيه ولا الحصر في الترجي فكذا لا تفيده مع أن وأما جعله إنما المفتوحة الهمزة مثل مكسورتها تدل على القصر فلا نعلم الخلاف إلا في إنما بالكسر وأما بالفتح فحرف مصدري ينسبك منه مع ما بعده مصدر فالجملة بعدها ليست جملة مستقلة ولو كانت إنما دالة على الحصر لزم أن يقال: أنه لم يوح إليه شىء إلا التوحيد وذلك لا يصح في الحصر إذ قد أوحي إليه أشياء غير التوحيد.
{ فهل أنتم مسلمون } استفهام يتضمن الأمر بإخلاص التوحيد والانقياد إلى الله تعالى.
{ ءاذنتكم } أعلمتكم ويتضمن معنى التحذير والنذارة.
{ على سوآء } لم أحض أحدا دون أحد وهذا الإنذار إعلام بما يحل بمن تولى من العذاب وغلبة الإسلام ولكني لا أدري متى يكون ذلك وان نافية وأدري معلقة * والجملة الاستفهامية في موضع نصب بأدري وتأخر المستفهم عنه لكونه فاصلة إذ لو كان التركيب.
{ أقريب أم بعيد ما توعدون } لم تكن فاصلة وكثيرا ما يرجح الحكم في الشىء لكونه فاصلة آخر آية والمعنى: أنه تعالى لم يعلمني علمه ولم يطلعني عليه والله هو العالم الذي لا يخفى عليه شىء وما في قوله: ما توعدون فاعل بقريب تقديره أيقرب ما توعدون أم يبعد.
{ وإن أدري لعله فتنة لكم } أي: لعل تأخير هذا الوعد امتحان لكم لينظر كيف تعملون أو متاع لكم إلى حين ليكون ذلك حجة وليقع الموعد في وقت هو حكمه وأدري هي هنا معلقة أيضا وجملة الترجي هي مصب الفعل والكوفيون يجرون لعل مجرى هل فكما يقع التعليل عن هل فكذلك عن لعل وقد ذهب إلى ذلك أبو علي الفارسي وإن كان ذلك ظاهرا فيها كقوله تعالى:
وما يدريك لعل الساعة قريب
[الشورى: 17] وقيل إلى حين إي إلى يوم القيامة.
{ قال رب احكم بالحق } قرىء: قل على الأمر وقال: على الخبر وهو من باب الإلتفات انتقل من ضمير المتكلم في أدري إلى ضمير الغائب في قال: ورب منادى مضاف تقديره يا رب وقرىء: احكم على الأمر وقرىء: بإسكان الياء في ربي أحكم جعله أفعل التفضيل فربي أحكم مبتدأ وخبر وقرىء: احكم فعلا ماضيا وقرأ الجمهور تصفون بتاء الخطاب وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ على أبي ما يصفون بياء الغيبة.
[22 - سورة الحج]
[22.1-23]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * يأيها الناس اتقوا ربكم } الآية هذه السورة مكية إلا هذان خصمان إلى تمام ثلاث آيات قاله ابن عباس: * ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر حال الأشقياء والسعداء وذكر الفزع الأكبر وهو ما يهول يوم القيامة وكان مشركو مكة قد أنكروا المعاد وكذبوه بسبب تأخر العذاب عنهم فنزلت هذه السورة تحذيرا لهم وتخويفا لما انطوت عليه من ذكر زلزلة الساعة وشدة هولها وذكر ما أعد لمنكريها وتنبيههم على البعث بتطويرهم في خلقهم وبهمود الأرض واهتزازها بعد بالنبات والظاهر أن قوله: يا أيها الناس عام ونبه تعالى على سبب اتقائه وهو ما يؤول إليه من أهوال الساعة وهو على حذف مضاف أي اتقوا عذاب ربكم والزلزلة الحركة المزعجة وهي عند النفخة الأولى وأضيفت إلى الساعة لأنها من أشراطها والمصدر مضاف إلى الفاعل والمحذوف المفعول وهو الأرض ويدل عليه قوله:
إذا زلزلت الأرض زلزالها
[الزلزلة: 1]، وشىء هنا يدل على إطلاقه على المعدوم لأن الزلزلة لم تقع بعد وذكر تعالى أهول الصفات في قوله يوم ترونها الآية، لينظروا إلى تلك الصفة ببصائرهم ويتصوروها بعقولهم ليكون ذلك حاملا على تقواه تعالى إذ لا نجاة من تلك الشدائد إلا بالتقوى وروي أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق وقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول ولم يطبخوا قدرا وكانوا بين حزين وباك ومفكر رضوان الله عليهم والناصب ليوم تذهل والظاهر أن الضمير المنصوب في ترونها عائد على الزلزلة لأنها المحدث عنها ويدل على ذلك وجود هول المرضعة ووضع الحمل هذا إذا أريد الحقيقة وهي الأصل ويكون ذلك في الدنيا وقيل الضمير يعود على الساعة فيكون الذهول والوضع عبارة عن شدة الهول في ذلك اليوم ولا ذهول ولا وضع هناك كقولهم: يوم يشيب فيه الوليد وبجاء بلفظ مرضعة دون مرضع لأنه أريد به الفعل لا النسب بمعنى ذات رضاع وقال الشاعر:
كمرضعة أولاد أخرى وضيعت
بني بطنها هذا الضلال عن القصد
والظاهر أن ما في قوله عما أرضعت بمعنى الذي والعائد محذوف أي أرضعته ويقويه تعدى وتضع إلى المفعول به في قوله حملها لا إلى المصدر.
{ وترى الناس سكارى } قرىء: سكارى وهو جمع سكران كعجلان وعجالى وقرىء: سكرى والصحيح أنه جمع حكى سيبويه رجل سكر فيجمع على سكرى كزمن وزمنى أثبت أنهم سكارى على طريق التشبيه ثم نفى عنهم الحقيقة وهي السكر من الخمر وذلك لما هم فيه من الحيرة وتخليط العقل وجاء هذا الاستدراك بالاخبار عن عذاب الله أنه شديد لما تقدم ما هو بالنسبة إلى العذاب كالحالة الهينة اللينة وهو الذهول والوضع ورؤية الناس أشباه السكارى فكأنه قيل هذه أحوال هينة.
{ ولكن عذاب الله شديد } ليس بهين ولا لين لأن لكن لا بد أن تقع بين متنافيين بوجه ما.
{ ومن الناس من يجادل } الآية، أي في قدرته وصفاته قيل نزلت في أبي جهل وقيل في النضر وكان جدلا بقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين ولا يقدر الله على إحياء من بلي وصار ترابا والآية عامة في كل من تعاطى الجدال فيما يجوز على الله تعالى وما لا يجوز من الصفات والأفعال ولا يرجع إلى علم ولا برهان ولا لصفة والظاهر أن قوله :
{ كل شيطان مريد } هو من الجن كقوله: وان يدعون إلا شيطانا مريدا والظاهر أن الضمير في عليه عائد على من لأنه المحدث عنه وفي أنه وتولاه وفي فإنه عائد عليه أيضا والفاعل من تولى ضمير من وكذلك الهاء في يضله قال الزمخشري: في أنه من تولاه فإنه يضله ويهديه من فتح ولأن الأول فاعل كتب يعني به مفعولا لم يسم فاعله قال: والثاني عطف عليه " انتهى " هذا لا يجوز لأنك إذا جعلت فإنه عطفا على أنه بقيت أنه بلا استيفاء خبر لأن من تولاه من فيه مبتدأة وان قدرتها موصولة فلا خبر لها حتى تستقل خبرا لأنه وان جعلتها شرطية فلا جواب لها إذ جعلت فإنه عطفا على وأنه ومثل قول الزمخشري: قال ابن عطية: وانه في موضع رفع على المفعول الذي لم يسم فاعله وانه الثانية عطف على الأولى مؤكدة مثلها وهذا خطأ لما بيناه الظاهر أن ذلك من إسناد كتب إلى الجملة إسنادا لفظيا أي كتب عليه هذا الكلام كما تقول كتب ان الله يأمر بالعدل * قال الزمخشري: أو على تقدير قيل أو على أن كتب فيه معنى القول " انتهى " أما الأول وهو على تقدير قيل يعني فيكون عليه في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله لكتب والجملة من أنه من تولاه في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله لقيل مقدرة وهذا لا يجوز عند البصريين لأن الفاعل عندهم لا يكون جملة فلا يكون ذلك مفعولا لم يسم فاعله وأما الثاني فلا يجوز أيضا على مذهب البصريين لأنه لا تكسر أن بعدما هو بمعنى القول صريحة فاعرفه * ولما ذكر تعالى من يجادل في قدرة الله بغير علم وكان جدالهم في الحشر والمعاد ذكر دليلين واضحين على ذلك أحدهما في نفس الانسان وابتداء خلقه وتطوره في مراتب سبع وهي التراب والنطفة والعلقة والمضغة والاخراج طفلا وبلوغ الأشد والتوفي ورذالة العمر والثاني في الأرض التي يشاهدون تنقلها من حال إلى حال فإذا اعتبر العاقل بذلك ثبت عنده وعلم أنه واقع لا محالة * العلقة قطعة من الدم الجامد والمضغة اللحمة الصغيرة قدر ما يمضغ * والمخلقة المسواة الملساء لا نقص ولا عيب يقال خلق السواك والعود سواه وملسه من قولهم صخرة خلقاء أي ملساء.
{ لنبين لكم } بهذا التدريج قدرتنا وأن من قدر على البشر أولا من تراب ثم من نطفة ثانيا ولا تناسب بين التراب والماء وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر ثم يجعل العلقة مضغة قدر على إعادة ما أبداه بل هذا أدخل في القدرة.
{ إلى أجل مسمى } وهو وقت الوضع وما لم يشأ إقراره مجته الأرحام وأسقطته ومعنى يخرجكم يخرج كل واحد منكم كقولك: الرجال يشبعهم رغيف أي يشبع كل واحد منهم رغيف واللام في:
{ لتبلغوا } يتعلق بمحذوف تقديره يستمر عمركم لتبلغوا والأشد تقدم الكلام عليه في يوسف.
{ ومنكم من يتوفى } أي يستوفي أجله أي بعد الأشد وقبل الهرم وهو أرذل العمر والخرف لكيلا يتعلق بيرد وكي ناصبة بنفسها أي ليصير نساء بحيث إذا اكتسب علما في شىء لم ينشب أن ينساه ويزل عنه علمه حتى يسأل عنه من ساعته.
{ وترى الأرض هامدة } هذا هو الدليل الثاني الذي تضمنته والدليل الأول الآية ولما كان الدليل الأول بعض مراتب الخلقة فيه غير مرئي قال: إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم فلم يحل في جميع رتبه على الرؤية ولما كان هذا الدليل الثاني مشاهدا للابصار أحال على الرؤية فقال: وترى الأرض أي أيها السامع أو المجادل هامدة أي يابسة لا نداوة فيها ولا رطوبة في شىء منها ولظهوره تكرر هذا الدليل في القرآن * والماء ماء المطر والأنهار والعيون والسواقي واهتزازها تخلخلها واضطراب بعض أجسامها لأجل خروج هذا النبات.
{ وربت } أي زدات وانتفخت.
{ من كل زوج } أي صنف.
{ بهيج } أي رائق للعين حسن المنظر.
{ ذلك بأن الله هو الحق } أي ذلك الذي ذكرنا من خلق بني آدم وتطورهم في تلك المراتب من احياء الأرض حاصل بهذا وهو حقيقته تعالى فهو الثابت الموجود القادر على إحياء الموتى وعلى كل مقدور وقد وعدنا بالبعث وهو قادر عليه فلا بد من كناية * وقوله ان الساعة إلى آخره توكيد لقوله تعالى: وأنه يحيي الموتى والظاهر أن قوله: وان الساعة آتية ليس داخلا في سبب ما تقدم ذكره وليس معطوفا على أنه التي تليه فيكون على تقدير والأمر أن الساعة وذلك مبتدأ وبأن الخبر.
{ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } الآية، الظاهر أن المجادل في هذه الآية غير المجادل في الآية التي قبلها فعن محمد بن كعب أنها نزلت في الأخنس بن شريق وعن ابن عباس أنها نزلت في أبي جهل * قال ابن عطية: وكرر هذه على جهة التوبيخ فكأنه يقول هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ومن الناس مع ذلك من يجادل فكان الواو واو الحال والآية المتقدمة الواو فيها واو عطف عطفت جملة الكلام على ما قبلها والآية على معنى الاخبار وهي هنا مكررة للتوبيخ " انتهى ".
لا يتخيل أن الواو في ومن الناس من يجادل واو حال على تقدير الجملة التي قدرها قبله لو كان مصرحا بها لم تتقدر بإذ فلا تكون للحال وإنما هي للعطف * قسم المخذولين إلى مجادل في الله بغير علم متبع لكل شيطان مريد ومجادل أيضا بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير وعابد ربه على حرف والمراد بالعلم العلم الضروري وبالهدى الاستدلال والنظر لأنه يهدي إلى المعرفة وبالكتاب المنير الوحي أي يجادل بغير واحد من هذه الثلاثة وانتصب ثاني عطفه على الحال من الضمير المستكن في يجادل قال ابن عباس: متكبرا وقال مجاهد: لاويا عنقه وليضل متعلق بيجادل والخزي في الدنيا ما لحقه يوم بدر من الأسر والقتل والهزيمة وقد أسر النضل وقيل يوم بدر بالصفراء * والحريق قيل طبقة من طباق جهنم وقد يكون من إضافة الموصوف إلى صفته أي العذاب الحريق أي المحرق ذلك إشارة إلى الخزي والإذاقة.
{ بما قدمت يداك } أي باجترامك وبعدل الله فيك.
{ وأن الله ليس بظلم للعبيد } تقدم الكلام عليه.
{ من يعبد الله على حرف } نزلت في إعراب من أسلم وغطفان تباطؤا عن الإسلام وقالوا أنخاف أن لا ينصر محمد فينقطع ما بيننا وبين حلفائنا من يهود فلا يقرونا ولا يؤوونا وقال ابن عطية: على حرف أي انحراف منه على العقيدة البيضاء.
{ يدعو من دون الله } نفي هنا الضرر والنفع وأثبتهما في قوله: لمن أضره أقرب من نفعه، وذلك لاختلاف المتعلق وذلك أن قوله ما لا ينفعه هو الأصنام والأوثان ولذلك أتى التعبير عنها بما التي لا تكون لآحاد من يعقل وفي الثاني بمن التي هي لمن يعقل وعلى هذا فتكون الجملتان من إخبار الله عمن يدعو إلها غير الله وذكروا في إعراب يدعو وجوها ذكرت في البحر والذي نختاره أن مفعول يدعو محذوف تقديره يدعو الأصنام ممن يعقل ثم أخبر عن هذا المدعو بقوله: لمن ضره فاللام لام الابتداء ومن موصولة مبتدأ وضره أقرب من نفعه مبتدأ وخبر صلة لمن ومن خبره والجملة الدالة على الذم وهي قوله:
{ لبئس المولى ولبئس العشير } تقديره هو فهو هذا وعائد على من الموصولة المبتدأ والمولى الناصر والعشير المخالط والظاهر أن الضمير في ينصره عائد على من لأنه المذكور وحق الضمير أن يعود على المذكور وثم محذوف تقديره إذا كان طالبا للنصر محتاجا إليه.
{ فليمدد } بحبل.
{ إلى السمآء } المظلة.
{ ثم ليقطع } أي ذلك الحبل وهذا كله كناية عن التحيل في طلب النصر وهو لا يقع إلا ان أراده الله.
{ هل يذهبن } جملة استفهام في موضع نصب وفلينظر معلق عنها ومعنى قوله: كيده أي ما يتحيل وهو فاعل يذهبن وما في قوله: ما يغيظ مفعول والمعنى أن غيظه لا يزول بإظهار كيده.
{ وكذلك أنزلناه } أي مثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيات بينات أي لا تفاوت في إنزال بعضه ولا إنزال كله والهاء في أنزلناه للقرآن أضمر للدلالة عليه والتقدير والأمر أن الله يهدي من يريد أي يخلق الهداية في قلب من يريد هدايته لا خالق للهداية إلا هو تعالى.
{ إن الذين آمنوا والذين هادوا } الآية لما ذكر قبل أن الله يهدي من يريد أعقب ببيان من يهديه ومن لا يهديه والمجوس هم عبدة النار ويقال: انهم كان لهم نبي اسمه زاردشت ويجوز أن يحذف منه أل فلا ينصرف كما إذا حذفت أل من اليهود لا ينصرف أيضا وفي منع صرف مجوس قال الشاعر:
أجار ترى بريقا هب وقتا
كنار مجوس تستعير إستعارا
قال الشاعر في منع صرف يهود:
أولئك أولى من يهود بمدحة
إذا ابن يوما قبلها لم يؤنب
ومنع الصرف للعلمية وتأنيث القبيلة.
{ والذين أشركوا } هم عبدة الأوثان والأصنام وخبر ان قوله ان الله يفصل بينهم وحسن ذلك طول الفصل بين إن وخبرها بالمعاطيف ويقل أن تقول ان زيدا ان عمرا ضاربه بلا فصل.
" ولله يسجد " الظاهر أن السجود هنا عبارة عن طواعية ما ذكر الله والانقياد لما يريده تعالى وهذا معنى يشمل من يعقل ومن لا ومن يسجد سجود التكليف ومن لا وعطف على من ما عبد من دون الله ففي السماوات الملائكة عبدتها والشمس عبدتها حمير وعبد القمر كنانة قاله ابن عباس والدبران: تميم والشعري لخم والثرياطي وعطارد أسد والمرزم ربيعة وفي الأرض من عبد من البشر والأصنام المنحوتة من الجبال والشجر والبقر وما عبد من الحيوان والأحسن على أن بين من يعقل وما يعقل قدرا مشتركا وهو الإنفعال والطواعية لما يريد الله تعالى منه ومن مفعول بيهن تقديره أي شخص والفاء في قوله: فما جواب الشرط ومن مكرم مبتدأ ومن زائدة خبره له.
{ هذان خصمان } لما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة ذكر ما دار بينهم من الخصومة في دينه فقال: هذا خصمان * قال قيس بن عباد وهلال بن يساف نزلت في المتبارزين يوم بدر حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث برز والعتبة وشيبة ابني ربيعة والوليد بن عتبة وقال ابن عباس: الإشارة إلى المؤمنين وأهل الكتاب وقع بينهم تخاصم فقالت اليهود: فمن أقدم دينا منكم: فنزلت وخصم مصدر أريد به هنا الفريق فلذلك جاء اختصموا مراعاة للمعنى إذ تحت كل خصم منهم أفراد ومعنى في ربهم والظاهر أن هذا الاختصام هو في الآخرة ولذلك جاء بعد قوله: اختصموا التقسيم بالفاء الدالة على التعقيب في قوله:
{ فالذين كفروا } ولهذا قال علي كرم الله وجهه أنا أول من يجثو يوم القيامة للخصومة بين يدي الله عزل وجل وأقسم أبو ذر على هذا.
{ ثياب من نار } كأنه تعالى يدر لهم نيرانا على مقادير جثتهم تشتمل عليهم.
{ يصهر به } الآية صهرت الشحم بالنار إذا أذابته والصهارة الألية المذابة وقيل نضج وما موصولة مفعولة بيصهر.
{ والجلود } معطوف على ما.
{ ولهم مقامع } المقمعة بكسر الميم المقرعة يقمع بها المضروب.
و { من غم } بدل من قوله: منها أعيد معه حرف الجر والظاهر تعليق الإعادة على الإرادة للخروج فلا بد من محذوف يصح به المعنى أي من أماكنهم المعدة لتعذيبهم.
{ أعيدوا فيها } أي في الأماكن وقيل أعيدوا فيها بضرب الزبانية إياهم بالمقامع.
{ وذوقوا } أي يقال لهم ذوقوا والظاهر أن من في من أساور للتبعيض وفي من ذهب لابتداء الغاية أن أنشئت من ذهب.
[22.24-63]
{ وهدوا إلى الطيب } هذا اخبار عما يقع منهم في الآخرة وهو قولهم:
الحمد لله الذي صدقنا وعده
[الزمر: 74] وما أشبه ذلك من محاورة أهل الجنة ويكون الصراط الطريق إلى الجنة * والظاهر أن الحميد وصف الله تعالى وناسب هذا الوصف لكثرة ما يحمده أهل الجنة.
{ إن الذين كفروا ويصدون } الآية المضارع قد لا يلحظ فيه زمان معين من حال أو استقبال فيدل إذ ذاك على الاستمرار ومنه ويصدون عن سبيل الله كقوله تعالى: { الذين آمنو } وتطمئن وهذه الآية، نزلت عام الحديبية حين صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام والظاهر أنه نفس المسجد وقيل الحرم كله ومن صد عن الوصول إليه فقد صد عنه وقرىء سواء بالنصب مفعول ثان لجعلنا فارتفع به العاكف وسواء أصله مصدر بمعنى مستو فعلى هذا يكون العاكف مبتدأ وفيه متعلق بالعاكف وسواء الخبر والجملة في موضع المفعول الثاني لجعلنا وخبر أن محذوف يدل عليه جزاء الشرط تقديره يجزون على كفرهم وصدهم بالعذاب الأليم ومفعول يرد بالحاء والباء زائدة والأحسن أن يضمن معنى يرد يلتبس فيتعدى بالباء والإلحاد هو الميل عن القصد والظلم هو الشرك ولذلك رتب عليه العذاب الأليم * ولما ذكر تعالى حال الكفار وصدهم عن المسجد الحرام وتوعد من أراد فيه بإلحاد ذكرهم حال أبيهم إبراهيم ووبخهم على سلوكهم غير طريقه من كفرهم باتخاذ الأصنام وامتنانه عليهم بإيفاد العلم إليهم.
{ وإذ بوأنا } أي واذكر إذ بوأنا أي: جعلنا لإبراهيم مكان البيت مباءة أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة.
{ أن لا تشرك بي شيئا } خطاب لإبراهيم صلى الله عليه وسلم وكذا ما بعده من الأمر وأن مصدرية وصلت بالنهي كما توصل بالأمر.
{ والقآئمين } هم المصلون ذكر من أركانها أعظمها وهو القيام والركوع والسجود.
{ وأذن في الناس بالحج } أي ناد وروي أنه صعد أبا قبيس فقال: يا أيها الناس حجوا بيت ربكم.
{ يأتوك } جواب الأمر والكاف في يأتوك خطاب لإبراهيم صلى الله عليه وسلم جعل إتيان البيت إتيانا له صلى الله عليه وسلم لأنه المعلم بإتيان الناس.
و { رجالا } جمع راجل وهو الماشي على قدميه.
{ وعلى كل ضامر } أي وركبانا على كل ضامر وهي الإبل التي ضمرت أحشاؤها من طول السير والضمير في:
{ يأتين } عائد على كل ضامر.
{ عميق } البعيد وأصله البعد سفلا يقال: بئر عميق أي بعيدة الغور والفعل عمق وعمق قال الشاعر:
إذا الخيل جاءت من فجاج عميقة
يمد بها في السير أشعث شاحب
{ ليشهدوا } متعلق بيأتوك ونكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنياوية لا توجد في غيرها من العبادات.
{ ويذكروا اسم الله } كني عن النحر والذبح بذكر اسم الله لأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه وإذا نحروا أو ذبحوا وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي فيما يتقرب إلى الله أن يذكر اسمه عليه * والأيام المعلومات أيام العشر قاله ابن عباس وجماعة * وبهيمة الانعام تقدم الكلام عليها في المائدة.
{ فكلوا منها } الظاهر وجوب الأكل والإطعام وقيل باستحبابهما وقيل باستحباب الأكل ووجوب الإطعام والبائس الذي أصابه بؤس أي شدة.
{ ثم ليقضوا تفثهم } والتفث ما يصنعه المحرم عند حله من تقصير شعر وحلقه وإزالة شعثه ونحوه من إقامة الخمس من الفطرة حسب الحديث والنذور هنا ما ينذرونه من أعمال البر في حجهم.
{ وليطوفوا } هذا طواف الإفاضة وهو طواف الزيارة الذي هو من أركان الحج وبه تمام التحلل * والعتيق القديم كما قال تعالى:
إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة
[آل عمران: 96] وقال الشاعر:
إذا ذقت فاها قلت طعم مدامة
معتقة مما يجيء به التجر
يعني بمعتقة أي قديمة.
{ ذلك ومن يعظم حرمات الله } ذلك إشارة إلى الطواف وهو مبتدأ خبره محذوف تقديره تمام الحج والحرمات ما لا يحل هتكه وجميع التكليفات من مناسك الحج وغيرها حرمة وضمير فهو عائد على المصدر المفهوم من قوله: ومن يعظم أي فالتعظيم خير له عند ربه أي قربة منه وزيادة في طاعته يثيبه عليها والظاهر عمومه في جميع التكاليف والظاهر أن خيرا هنا ليس أفعل تفضيل.
{ وأحلت لكم الأنعام } دفعا لما كانت العرب تعتاده من تحريم أشياء برأيها كالبحيرة والسائبة ويعني بقوله:
{ إلا ما يتلى عليكم } ما نص في كتابه على تحريمه والمعنى إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه ولما حث على تعظيم حرمات الله وذكر أن تعظيمها خير لمعظمها عند الله أتبعه الأمر باجتناب الأوثان وقول الزور لأن توحيد الله ونفي الشركاء عنه وصدق القول أعظم الحرمات وجمعا في قرآن واحد لأن الشرك من أعظم الزور لأن المشرك يزعم أن الوثن يستحق العبادة فكأنه قال: فاجتنبوا عبادة الأوثان التي هي رأس الزور.
{ واجتنبوا قول الزور } كله ومن في من الأوثان لبيان الجنس وتقدر بالموصول عندهم أي الرجس الذي هو الأوثان.
{ ومن يشرك بالله } شبه المشرك بأن صور حاله بصورة حال من خر من السماء فاختطفته الطير فتفرق قطعا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المطاوح البعيدة.
{ ذلك ومن يعظم شعائر الله } الآية ذلك مبتدأ خبره محذوف تقديره حال المشرك وتقدم تفسير شعائر الله في أول المائدة وأما هنا فقال ابن عباس وجماعة هي البدن الهدايا وتعظيمها تسمينها والاهتبال بها والمغالاة فيها والضمير في فإنها عائد على الشعائر على حذف مضاف أي فإن تعظيمها * وأضاف التقوى إلى القلوب كما قال صلى الله عليه وسلم
" التقوى هاهنا وأشار إلى صدره "
قال الزمخشري: فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب فحذفت هذه المضافات ولا يستقيم المعنى إلا بتقديرها لأنه لا بد من راجع إلى الجزاء إلى من ليرتبط به وإنما ذكرت القلوب لأنها مراكز التقوى الذي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء " انتهى " وما قدره عار من راجع إلى الجزاء إلى من ألا ترى أن قوله: فإن تعظيمها من أفعال ذوي تقوى القلوب ليس في شىء منه ضمير يعود إلى من يربط جملة الجزاء بجملة الشرط الذي أداته من وإصلاح ما قاله أن يكون التقدير فإن تعظيمها منه فيكون الضمير في منه عائدا إلى من فيرتبط الخبراء بالشرط فاعرفه * والضمير في فيها عائد على البدن والمنافع درها ونسلها وصوفها وركوب ظهرها.
{ إلى أجل مسمى } وهو أن يسمنها ويوجبها هديا فليس له شىء من منافعها قاله ابن عباس:
{ ثم محلهآ } وثم للتراخي في الوقت فاستعيرت للتراخي في الأفعال ثم محلها.
{ إلى البيت العتيق } أي وجوب نحرها أو وقت وجوب نحرها منتهية إلى البيت العتيق والمراد نحرها في الحرم الذي هو في حكم البيت.
{ منسكا } قال الفراء عيدا.
{ ليذكروا اسم الله } معناه أمرناهم عند ذبائحهم بذكر الله وأن يكون الذبح له لأنه رازق ذلك ثم خرج إلى الحاضرين فقال:
{ فإلهكم إله واحد فله أسلموا } أي انقادوا وكما أن الإله واحد يجب أن يخلص له في الذبيحة ولا يشرك فيها بغيره وتقدم شرح الاخبات وناس تبشير من اتصف بالاجبات وناسب تبشير من اتصف بالاخبات هنا لأن أفعال الحج من نزع الثياب والتجرد من المخيط وكشف الرأس والتردد في تلك المواضع المغبرة المحجرة والتلبس بأفعال شاقة لا يعلم معناها إلا الله مؤذن بالاستسلام المحض والتواضع المفرط حيث يخرج الإنسان عن مألوفه إلى أفعال غريبة ولذلك وصفهم بالاخبات والوجل إذا ذكر الله والصبر على ما أصابهم من المشاق وإقامة الصلوات في مواضع لا يقيمها إلا المؤمنون المصطفون والانفاق مما رزقهم الله ومنها الهدايا التي يغالون فيها * وانتصب البدن على الاشتغال أي وجعلنا البدن وقرىء: بالرفع على الابتداء.
و { لكم } أي لأجلكم من شعائر في موضع المفعول الثاني ومعنى من شعائر الله من أعلام الشريعة التي شرعها الله وأضافها إلى اسمه تعظيما لها.
{ لكم فيها خير } قاله ابن عباس: نفع في الدنيا وأجر في الآخرة وذكر اسم الله أن يقول عند النحر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك وإليك.
{ عليها صوآف } أي على نحرها معقولة.
{ فإذا وجبت جنوبها } عبارة عن سقوطها إلى الأرض بعد نحرها قال ابن عباس: القانع المستغني بما أعطيته والمقر المعترض من غير سؤال.
{ كذلك سخرناها لكم } أي مثل ذلك التسخير سخرناها لكم تأخذونها منقادة من الله عليهم بذلك ولولا التسخير من الله لم نطق ذلك وكفى بالإبل شاهدا وعبرة.
{ لن ينال الله لحومها ولا دمآؤها } قال مجاهد: أراد المسلمون أن يفعلوا فعل المشركين من الذبح وتشريح اللحم حول الكعبة منصوبا ونضح حوالي الكعبة بالدم تقربا إلى الله فنزلت هذه الآية وكرر تذكير النعم بالتسخير أي: لتشكروا الله على هدايته إياكم لإعلام دينه ومناسك حجه بأن تهللوا وتكبروا، فاختصر الكلام بأن ضمن التكبير معنى الشكر وعدي تعديته.
{ وبشر المحسنين } ظاهر في العموم.
{ إن الله يدافع عن الذين آمنوا } روي أن المؤمنين لما كثروا بمكة وآذاهم الكفار وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة أراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار ويحتال ويغدر فنزلت إلى قوله: كفور وعرفها بالمدافعة ونهي عن الخيانة وخص المؤمنين بالدفع عنهم والنصرة لهم * ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر جملة مما يفعل في الحج وكان المشركون قد صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية وآذوا من كان بمكة من المؤمنين أنزل الله تعالى هذه الآيات مبشرة للمؤمنين بدفعه تعالى عنهم ومشيرة إلى نصرهم وآذنة لهم في القتال وتمكنهم في الأرض بردهم إلى ديارهم وفتح مكة وأن عاقبة الأمور راجعة إلى الله تعالى.
{ أذن للذين يقاتلون } لما هاجر المؤمنون إلى المدينة أذن الله في القتال، وقرىء: أذن وأذن ويقاتلون بكسر التاء وفتحها.
{ الذين أخرجوا } في موضع جر نعت للذين أو بدل أو في موضع نصب بأعني أو في موضع رفع إضمارهم.
و { إلا أن يقولوا } استثناء منقطع، فإن يقولوا في موضع نصب لأنه منقطع لا يمكن توجه العامل إليه فهو مقدر بلكن من حيث المعنى، لأنك لو قلت: الذين أخرجوا من ديارهم إلا أن يقولوا ربنا الله لم يصح، وقال الزمخشري: أن يقولوا في محل الجر على الإبدال من حق أي: بغير موجب سوى التوحيد الذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار والتمكين لا موجب الإخراج والتسيير ومثله وهل تنقمون منا الآية " انتهى " اتبع الزمخشري في هذا الزجاج وما أجازاه من البدل لا يكون إلا إذا سبقه نفي أو نهى أو استفهام في معنى النفي نحو ما قام أحد إلا زيد ولا يضرب أحد إلا زيد وهل يضرب أحد إلا زيد وأما إذا كان الكلام موجبا أو أمرا فلا يجوز البدل لا يقال قام القوم إلا زيد على البدل ولا ليضرب القوم إلا زيد على البدل لأن البدل لا يكون إلا حيث يكون العامل يتسلط عليه ولو قلت قام إلا زيد وليضرب إلا عمر ولم يجز ولو قلت في غير القرآن أخرج الناس من ديارهم إلا بأن يقولوا: لا إله إلا الله لم يكن كلاما هذا إذا تخيل أن يكون إلا أن يقولوا في موضع جر بدلا من غير المضاف إلى حق وأما أن يكون بدلا من حق كما نص عليه الزمخشري فهو في غاية الفساد لأنه يلزم منه أن يكون البدل يلي ضميرا فيصير التركيب بغير إلا أن يقولوا وهذا لا يصح ولو قدر إلا بغير كما يقدر في النفي في ما مررت بأحد إلا زيد فيجعله بدلا لم يصح لأنه يصير التركيب بغير ضمير كقولهم: ربنا الله فتكون قد أضيفت غير إلى غير وهي هي فصار بغير غير ويصح في ما مررت بأحد إلا زيد أن تقول ما مررت بغير زيد ثم ان الزمخشري حين مثل البدل قدره بغير موجب سوى التوحيد وهذا التمثيل للصفة جعل إلا بمعنى سوى ويصح على الصفة فالتبس عليه باب الصفة بباب البدل ويجوز أن تقول: مررت بالقوم إلا زيد على الصفة لا على البدل.
{ ولولا دفع الله } تقدم الكلام عليه في البقرة * الهدم معروف * الصومعة موضع العبادة ووزنها فوعلة وهي بناء مرتفع منفرد حديد الأعلى والأصمع من الرجال الحديد القول فكانت قبل الإسلام مختصة برهبان النصارى وبعباد الصائبين ثم استعمل في مئذنة المسلمين والأظهر في تعداد هذه المواضع أن ذلك بحسب متعبدات الأمم فالصوامع للرهبان وقيل للصابئين والبيع للنصارى والصلوات لليهود وهو على حذف مضاف أي ومواضع صلوات والمساجد للمسلمين وأخبر تعالى أنه قوي على نصرهم عزيز لا يغالب والظاهر عود الضمير في قوله: يذكر منها على المواضع جميعا فيكون يذكر في موضع الصفة لها ويجوز أنيعود على قوله: ومساجد فيكون يذكر صفة للمساجد.
{ الذين إن مكناهم } يجوز في إعرابه ما يجوز في إعراب الذين أخرجوا.
{ ولله عاقبة الأمور } توعد للمخالف ما ترتب على التمكين.
{ وإن يكذبوك } فيها تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بتكذيب من سبق من الأمم السالفة لأنبيائهم ووعيد لقريش إذ مثلهم بالأمم المكذبة المعذبة وأسند الفعل بعلامة التأنيث من حيث أراد الأمة والقبيلة وبني الفعل للمفعول في وكذب موسى لأن قومه لم يكذبوه إنما كذبه القبط.
{ فأمليت للكافرين } أي أمهلت لهم وأخرت عنهم العذاب مع علمي بفعلهم وفي قوله: فأمليت للكافرين، ترتيب الإملاء على وصف الكفر فكذلك قريش أملى لهم الله تعالى ثم أخذهم في غزوة بدر وفتح مكة وغيرهما، والأخذ كناية عن العذاب والإهلاك والنكير مصدر كالنذير المراد به المصدر والمعنى فكيف إنكاري عليهم وتبديل حالهم الحسنة بالسيئة وحياتهم بالإهلاك ومعمورهم بالخراب وهذا استفهام يصحبه معنى التعجب كأنه قيل ما أشد ما كان إنكاري عليهم وفي الجملة إرهاب لقريش.
{ وكأين } للتكثير وتقدم الكلام عليها واحتمل أن يكون في موضع رفع الابتداء وفي موضع نصب على الاشتغال.
{ وهي ظالمة } جملة حالية.
{ فهي خاوية } تقدم تفسيرها في البقرة * وقال الزمخشري: * فإن قلث ما محل الجملتين من الإعراب أعني وهي ظالمة فهو خاوية * قلت الأولى في محل نصب على الحال والثانية لا محل لها لأنها معطوفة على أهلكناها وهذا الفعل ليس له محل " انتهى ". وهذا الذي قاله ليس بجيد لأن وكأين الأجود في إعرابها أن تكون مبتدأة والخبر الجملة من قوله أهلكناها فهي في موضع رفع والمعطوف على الخبر خبر فيكون قوله: فهي خاوية في موضع رفع لكن يتجه قول الزمخشري على الوجه القليل وهو إعراب فكأين منصوبا بإضمار فعل على الاشتغال فتكون الجملة من قوله: أهلكناها مفسرة لذلك الفعل وعلى هذا لا محل لهذه الجملة المفسرة فالمعطوف عليها لا محل له * وقرىء: وبئر بهمز وبغير همز * يقال عطلت البئر وأعطلتها فعطلت بفتح الطاء وعطلت المرأة من الحلى بكسر الطاء ووصف القصر بمشيد ولم يوصف بمشيد كما في بروج مشيدة لأن ذلك جمع ناسب التكثير فيه وهذا مفرد وأيضا مشيد فاصلة آية وقال الشاعر:
وتيماء لم نترك بها جذع نخلة
ولا اطما إلا مشيدا بجندل
وعطف وبئر وقصر على قوله: من قرية يدل على التكثير وثم بليدة عند البئر اسمها حاضورا بناها قوم صالح وأمروا عليهم جلهس بن جلاس وأقاموا بها زمانا وعبدوا صنما فأرسل الله إليهم حنظلة بن صفوان وقيل اسمه شريح بن صفوان نبيا فقتلوه في السوق فأهلكهم الله عن آخرهم وسلط عليهم بخت نصر الذي تقدم ذكره في الأنبياء وعطف وبئر وقصر على قوله من قرية فدل على التكثير وقد عينت هذه البئر فعن ابن عباس أنها كانت لأهل عدن من اليمن وهي الرس وعن كعب الاحبار ان القصر بناه عاد الثاني وهو منذر بن عاد بن زم بن عاد وعن الضحاك وغيره ان البئر بحضرموت من أرض الشحر والقصر مشرف على قلة جبل لا يرتقى.
{ أفلم يسيروا في الأرض } الآية تقدم الكلام عليه وإسناد العقل إلى القلب يدل على أنه محله ولا ننكر أن للدماغ بالقلب اتصالا يقتضي فساد العقل إذا فسد الدماغ ومتعلق يعقلون بها محذوف أي ما حل بالأمم السالفة حين كذبوا أنبياءهم وكذلك مفعول يسمعون أي يسمعون أخبار تلك الأمم الماضية والضمير في فإنها ضمير القصة.
{ ولكن تعمى القلوب } وصفت القلوب بالتي في الصدور مبالغة كقوله: يقولون بأفواههم والضمير في ويستعجلونك لقريش وكان صلى الله عليه وسلم يحذرهم نقمات الله تعالى ويتوعدهم ذلك دنيا وآخره وهم لا يصدقون بذلك ويستبعدون وقوعه فكان استعجالهم على سبيل الاستهزاء وأن ما وعدتنا به لا يقع وأن لا بعث وفي قوله: ولن يخلف الله وعده أي أن ذلك واقع لا محالة لكن لوقوعه أجل لا يتعداه وأضاف الوعد إليه تعالى لأن رسوله صلى الله عليه وسلم هو المخبر به عن الله تعالى وقيل التشبيه وقع في الطول للعذاب فيه والشدة أي وان يوما من أيام عذاب الله لشدة العذاب فيه وطوله كألف سنة من عددكم إذ أيام الترحة مستطالة وأيام الفرحة مستقصرة وقرىء: تعدون بالتاء للخطاب والياء للغيبة وتكرر التكثير بكأين في القرى لإفادة معنى ضمير ما جاءت له الأولى لأنه ذكر فيها القرى التي أهلكنا دون إملاء وتأخير بل أعقب الإهلاك التذكير وهذه الآية لما كان تعالى قد أمهل قريشا حتى استعجلت بالعذاب جاءت بالإهلاك بعد الإملاء تنبيها على أن قريشا وان أملى تعالى لهم وأمهلهم فإنه لا بد من عذابهم فلا يفرحوا بتأخير العذاب عنهم ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لأهل مكة يا أيها الناس إنما أنا لكم نذير مبين من عذاب الله موضح لكم ما تحذرون أو موضح النذارة لا تلجلج فيها وذكر النذارة دون البشارة وان كان التقسيم بعد ذلك يقتضيها لأن الحديث مسوق للمشركين ويا أيها الناس نداء لهم وهم المقول فيهم والسعي الطلب والاجتهاد في ذلك فيكون بإصلاح وبإفساد وقرىء: معاجزين ومعجزين فاما معاجزين فمعناه معاندين ومعجزين معناه مثبطين.
{ ومآ أرسلنا من قبلك من رسول } الآية، ذكر له تعالى مسلاة ثانية باعتبار من مضى من الرسل والأنبياء وهو أنهم كانوا حريصين على إيمان قومهم وأنه ما منهم أحد إلا وكان الشيطان يراغمه بتزيين الكفر لقومه وبث ذلك إليهم وإلقائه في نفوسهم كما أنه صلى الله عليه وسلم كان من أحرص الناس على هداية قومه وكان فيهم شياطين كالنضر بن الحارث يلقون لقومهم وللوافدين عليهم شبها يثبطون بها عن الاسلام ولذلك جاء قبل هذه الآية والذين سعوا في آياتنا معاجزين وسعيهم إلقاء الشبه في قلوب من استمالوه ونسب ذلك إلى الشيطان لأنه هو المغوي والمحرك شياطين الإنس للإغواء كما قال لأغوينهم وقيل ان الشياطين هنا هو جنس يراد به شياطين الإنس والضمير في أمنيته عائد على الشياطين أي في أمنيته نفسه أي بسبب أمنية نفسه ومفعول ألقى محذوف لفهم المعنى وهو الشر والكفر ومخالفة ذلك الرسول أو النبي لأن الشيطان ليس يلقي الخير ومعنى:
{ فينسخ الله } أي يزيل تلك الشبهة شيئا فشيئا حتى يسلم الناس كما قال تعالى:
ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا
[النصر: 2].
{ يحكم الله آياته } أي معجزاته يظهرها محكمة لا لبس فيها.
{ ليجعل ما يلقي الشيطان } من تلك الشبه وزخارف القول فتنة لمريض القلب ولقاسيه وليعلم من أوتي العلم أن ما تمنى الرسول والنبي من هداية قومه وإيمانهم هو الحق وهذه الآية ليس فيها إسناد شىء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما تضمنت حالة من كان قبله من الرسل والأنبياء إذا تمنوا * وذكر المفسرون أشياء ذكرت فيه البحر.
{ من قبلك } من لابتداء الغاية وفي.
{ من رسول } زائدة تفيد استغراق الجنس وهو مفعول تقديره رسولا وعطف ولا نبي على من رسول دليل على المغايرة وتقدم الكلام عليها وحمل بعض المفسرين قوله: إذا تمنى على تلا وفي أمنيته أي في تمنيه ضلاله تابع الرسول أو النبي لتعارض الحق بالباطل * والمرية الشك * والظاهر أن الساعة يوم القيامة * واليوم العقيم يوم بدر وإنما وصف يوم الحرب بالعقم لأن أولاد النساء يقتلون فيه فيصرن كأنهن عقم لم يلدن * والتنوين في يومئذ تنوين العوض والجملة المعوض منها هذا التنوين هو الذي حذف بعد إلغائه أي الملك إذ تأتيهم الساعة.
{ والذين هاجروا } هذا ابتداء معنى آخر وذلك أنه لما مات عثمان بن مظعون وأبو سلمة بن عبد الأسد، قال بعض الناس: من قتل من المهاجرين أفضل ممن مات حتف أنفه فنزلت مسوية بينهم في أن الله يرزقهم زرقا حسنا وظاهر والذين هاجروا العموم.
{ ليدخلنهم مدخلا } لما ذكر الرزق ذكر المسكن وهو الجنة.
{ يرضونه } إذ فيه رضاهم كما قال تعالى:
لا يبغون عنها حولا
[الكهف: 108].
{ ذلك ومن عاقب } قيل نزلت في قوم من المؤمنين لقيهم الكفار في الشهر الحرام فأبى المؤمنون من قتالهم وأبو المشركون إلا القتال فلما اقتتلوا جد المؤمنون ونصرهم الله ومناسبتها لما قبلها واضحة وهو أنه تعالى لما ذكر ثواب من هاجر وقتل أو مات في سبيل الله أخبر أنه لا يدع نصرتهم في الدنيا على من بغى عليهم.
{ يولج الليل في النهار } الآية تقدم الكلام عليه في أوائل آل عمران.
{ ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء } لما ذكر تعالى ما دل على قدرته الباهرة من إيلاج الليل في النهار وهما مرئيان مشاهدان مجيء الظلمة والنور ذكر أيضا ما هو مشاهد من العالم العلوي والعالم السفلي وهو نزول المطر وإنبات الأرض ونسبة الإنزال الأرض ونسبة الإنزال إلى الله مدرك بالعقل وقوله:
{ فتصبح الأرض مخضرة } قال سيبويه فيه: وسألته يعني الخليل عن ألم تر ان الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة فقال: هذا واجب وهو تنبيه كأنك قلت: أتسمع إنزال الله من السماء ماء فكان كذا ولابن عطية والزمخشري فيه كلام في البحر.
[22.64-78]
{ وما في الأرض } يشمل الحيوان والمعادن والمرافق الفلك * تقدم الكلام عليه والظاهر أن أن تقع في موضع نصب بدل اشتمال أي ويمنع وقوع السماء على الأرض إلا بإذنه متعلق بتقع أي إلا بإذنه فتقع.
{ وهو الذي أحياكم } تقدم الكلام عليه.
{ لكفور } لجحود بنعم الله يعبد الله يعبد غير من أنعم عليه بهذه النعم المذكورة وبغيرها.
{ لكل أمة جعلنا منسكا } روي أنها نزلت بسبب جدل الكفار بديل من ورقاء وبشر بن سفيان الخزاعيين وغيرهما في الذبائح وقولهم للمؤمنين تأكلون ما ذبحتم وهو من قتلكم ولا تأكلون ما قتل الله تعالى فنزلت بسبب هذه المنازعة.
{ وإن جادلوك } آية موادعة نسختها آية السيف أي وان أبوا للجاجهم إلا المجادلة بعد اجتهادك أن لا يكون بينك وبينهم تنازع فادفعهم بأن الله أعلم بأعمالكم وبقبحها وبما تستحقون عليها من الجزاء وهذا وعيد وإنذار لكن برفق ولين.
{ الله يحكم بينكم } خطاب من الله للمؤمنين والكافرين أي يفصل بينكم بالثواب والعقاب ومسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان يلقى منهم.
{ ألم تعلم أن الله يعلم } الآية لما تقدم ذكر الفصل بين الكفار والمؤمنين يوم القيامة أخبر تعالى أنه عالم بجميع ما في السماء والأرض فلا يخفى عليه أعمالكم وأن ذلك في كتاب وهو أم الكتاب الذي كتبه قبل خلق السماوات والأرض كتب فيه ما هو كائن إلى يوم القيامة والإشارة بقوله: إن ذلك على الله يسير قيل إلى الحكم السابق والظاهر أنه إشارة إلى حصر المخلوقات تحت علمه وإحاطته.
{ يسطون } قال ابن عباس يبسطون إليهم أيديهم.
{ قل أفأنبئكم } وعيد وتقريع والإشارة بذلكم إلى غيظهم على التالين وسطوهم عليهم وروي أنهم قالوا محمد وأصحابه شر خلق، قال الله تعالى: قل لهم يا محمد { أفأنبئكم بشر من ذلكم } على زعمكم أهل النار فهم أنتم شر خلق الله * والنار خبر مبتدأ محذوف تقديره هو النار والذين كفروا المفعول الأول والضمير في وعدها المفعول الثاني وبئس المصير مخصوص بالذم محذوف تقديره الناس.
{ يأيها الناس ضرب مثل } الآية الخطاب عام يشمل من نظر في عبادة غير الله تعالى فإنه يظهر له قبح ذلك * وضرب مبني للمفعول والظاهر أن ضارب المثل هو الله ضرب مثلا لما يعبد من دونه أي بين شبها لكم ولمعبودكم * وتدعون بتاء الخطاب لكفار مكة والضمير العائد على الذين محذوف تقديره تدعوهم آلهة.
{ فاستمعوا له } أي لهذا المثل وبدأ تعالى بنفي اختراعهم وخلقهم أقل المخلوقات من حيث أن الاختراع صفة ثابتة له تعالى مختصة به لا يشركه فيها أحد وثني بالأمر الذي بلغ بهم غاية التعجيز وهو سلب الذباب وعدم استنقاذ شىء مما سلبهم وكان الذباب كثيرا عند العرب وكانوا يضمخون أوثانهم بأنواع الطيب وكان الذباب يذهب بذلك وعن ابن عباس: كانوا يطلونها بالزغفران ورؤوسها بالعسل ويغلقون عليها الأبواب فيدخل الذباب من الكوى فيأكله.
{ ولو اجتمعوا له } الواو للعطف على حال مقدرة تقديره على كل حال ولو في هذه الحالة التي كانت تقتضي أن يخلقوا لأجل اجتماعهم ولكنه ليس في مقدورهم ذلك والضمير في له عائد على الخالق المفهوم من يخلقوا.
{ ضعف الطالب والمطلوب } قال ابن عباس: الصنم والذباب.
{ ما قدروا الله حق قدره } أي ما عرفوه حق معرفته حيث عبدوا من هو منسلخ عن صفاته وسموه باسمه ثم ختم بصفتين منافيتين لصفات آلهتهم من القوة والغلبة.
{ الله يصطفي } نزلت بسبب قول الوليد بن المغيرة أنزل الذكر عليه من بيننا وأنكروا أن يكون الرسول من البشر فرد الله تعالى عليهم بأن رسله تعالى ملائكة وبشر ثم ذكر أنه عالم بأحوال المكلفين لا يخفى عليه منهم شىء.
{ يأيها الذين آمنوا اركعوا } أمروا أولا بالصلاة وهي نوع من العبادة وثانيا بالعبادة وثانيا بالعبادة وهي نوع من فعل الخير وثالثا بفعل الخير وهو أعم من العبادة فبدأ بخاص ثم بعام ثم بأعم.
{ وجاهدوا في الله } أمر بالجهاد في دين الله وإعزاز كلمة يشمل جهاد الكفار والمبتدعة.
{ حق جهاده } أي استفرغوا جهدكم وطاقتكم في ذلك وأضاف الجهاد إليه تعالى لما كان مختصا بالله تعالى من حيث هو مفعول لوجه الله.
{ من حرج } من ضيق بل هي حنيفية سمحة ليس فيها تشديد بني إسرائيل شرع فيها التوبة والكفارات والرخص وانتصب.
{ ملة أبيكم } بفعل محذوف تقديره اتبعوا ملة أبيكم وفي ذلك تذكير لهم بترك إبراهيم عبادة الأصنام ونهيه إياه عن ذلك وقال أبيكم بالإضافة إلى أمة الرسول لأنه أب للرسول وأمة الرسول في حكم أولاده فصار أبا لأمته بهذه الوساطة * والظاهر أن الضمير في هو سماكم عائد على إبراهيم عليه السلام وهو أقرب مذكور ولكل نبي دعوة مستجابة ودعا إبراهيم فقال: ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك فاستجاب الله تعالى له فجعلها أمة محمد صلى الله عليه وسلم * والمسلمين مفعول بإسقاط حرف الجر تقديره بالمسلمين.
{ من قبل } أي من قبل ظهور ملة الرسول صلى الله عليه وسلم.
{ وفي هذا } أي التسمية وهو إشارة إلى التسمية وثم مبتدأ محذوف تقديره وفي هذا شرف لكم وفخر واستبشار وخبر هذا المبتدأ قوله: وفي هذا ولتكونوا متعلق بما تعلق به المجرور الذي هو في هذا.
{ ليكون الرسول شهيدا عليكم } أنه قد بلغكم.
{ وتكونوا شهدآء على الناس } بأن الرسل قد بلغتهم وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به ولا تطلبوا النصرة والولاية إلا منه فهو خير مولى وناصر سبحانه وتعالى.
[23 - سورة المؤمنون]
[23.1-35]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * قد أفلح المؤمنون } الآية، هذه السورة مكية بلا خلاف وفي الصحيح للحاكم عنه صلى الله عليه والسلم أنه قال: لقد أنزلت علي عشر آيات * ومناسبتها لآخر السورة قبلها ظاهرة لأنه تعالى خاطب المؤمنين بقوله:
يأيها الذين آمنوا اركعوا
[الحج: 77] الآية، وفيها لعلكم تفلحون، وذلك على سبيل الترجية فناسب ذلك قوله: قد أفلح المؤمنون اخبار بحصول ما كانوا رجوه من الفلاح وقوله: أو ما ملكت أريد بما النوع كقوله:
فانكحوا ما طاب لكم
[النساء: 3] وهو مختص بالإناث بإجماع وفي الجمع بين الأختين من ملك اليمين وبين المملوكة وعمتها وخالتها خلاف ومعنى وراء ذلك وراء هذا الحد من الأزواج ومملوكات النساء وانتصابه على أنه مفعول بأبتغى أي خلاف ذلك ويشمل قوله وراء ذلك الزنا واللواط ومواقعة البهائم والجمهور على تحريم الاستمناء وكان أحمد بن حنبل يجيز ذلك لأنه فضلة في البدن فجاز إخراجها عند الحاجة كالفصد والحجامة وقد ذكر عن بعض العرب فعل ذلك وأنشد لهم فيه أبيات ذكر بعض ذلك في النوادر لأبي علي * والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما ائتمن تعالى عليه العبد من قول وفعل واعتقاد فيدخل في ذلك جميع الواجبات من الأفعال والتروك وما ائتمنه الإنسان والخشوع والمحافظة متغايران بدأ أولا بالخشوع وهو الجامع للمراقبة القلبية والتذلل بالأفعال البدنية وثني بالمحافظة وهي تأديتها في وقتها بشروطها من طهارة المصلي وملبوسه ومكانه وأداء أركانها على أحسن هيآتها ويكون ذلك دأبه في كل وقت.
{ أولئك } أي الجامعون لهذه الأوصاف.
{ هم الوارثون } الاحقاء أن يسموا وراثا دون من عداهم ثم ترجم الوارثين بقوله:
{ الذين يرثون الفردوس } فجاء بفخامة وجزالة لإرثهم لا تخفى على الناظر وتقدم الكلام في الفردوس في آخر الكهف.
{ هم فيها } يدل على تأنيث الفردوس.
{ ولقد خلقنا الإنسان } لما ذكر تعالى أن المتصفين بتلك الأوصاف الجليلة هم يرثون الفردوس فتضمن ذلك المعاد الأخروي ذكر النشأة الأولى ليستدل بها على صحة النشأة الآخرة.
{ من طين } قال ابن عباس: هو آدم لأنه أنسل من الطين.
{ ثم جعلناه } عائد على ابن آدم وإن كان لم يذكر لشهرة الأمر.
{ نطفة } هو المني.
{ في قرار مكين } هي الرحم وتقدم تفسير العلقة والمضغة.
{ عظاما } دليل على أن المضغة تصير بنفسها عظاما وقرىء: عظما.
{ ثم أنشأناه خلقا آخر } قال ابن عباس وجماعة: هو نفخ الروح فيه وقيل خروجه إلى الدنيا وتبارك فعل ماض لا يتصرف ومعناه تعالى وتقدس.
و { أحسن الخالقين } أفعل التفضيل والخلاف فيها إذا أضيفت إلى معرفة هل أضافتها محضة أم غير محضة أعربه بدلا والإشارة بقوله: بعد ذلك إلى هذا التطوير والإنشاء خلقا أي وانقضاء مدة حياتكم.
{ ثم إنكم يوم القيامة تبعثون } ونبه تعالى على عظيم قدرته بالاختراع أولا ثم بالاعدام ثم بالإيجاد.
{ ولقد خلقنا فوقكم سبع طرآئق } لما ذكر ابتداء خلق الإنسان وانتهاء أمره ذكره بنعمه وسبع طرائق قيل لها طرائق لتطارق بعضها فوق بعض يقال طارق النعل جعله على نعل وطارق بين ثوبين لبس أحدهما على الآخر.
{ فأسكنه في الأرض } أي جعلنا مقره في الأرض وعن ابن عباس أنزل الله من الجنة خمسة أنهار جيحون وسيحون ودجلة والفرات والنيل وفي قوله: فأسكناه دليل على أن مقر ما نزل من السماء هو في الأرض فمنه الأنهار والعيون والآبار وكما أنزله تعالى بقدرته هو قادر على ذهابه والباء في به للتعدية أي على إذهابه كان الفعل لازما فصار بالباء متعديا كما قال تعالى:
لذهب بسمعهم
[البقرة: 20] أي لأذهب سمعهم ولما ذكر تعالى نعمة الماء ذكر ما ينشأ عنه فقال:
{ فأنشأنا لكم به جنات } وخص هذه الأنواع الثلاثة من النخل والعنب والزيتون كأنها أكرم الشجر وأجمعها للمنافع ووصف النخل والعنب بقوله: لكم فيها إلى آخره لأن ثمرها جامع بين أمرين أحدهما أنه فاكهة يتفكه بها والآخر أنه طعام يؤكل رطبا ويابسا رطبا وتمرا وعنبا وزبيبا والزيتون فإن دهنه صالح للاصطباح والاصطباغ جميعا والضمير في ولكم عائد على الجنات وهو أعم لسائر الثمرات وعطف وشجرة على جنات وهي شجرة الزيتون وهي كبيرة بالشام * تخرج من طور سيناء الطور الجبل أضيف إلى سيناء والظاهر أنه علم اسم بقعة امتنع من الصرف للعلمية والتأنيث وقرىء: بفتح السين وكسرها وقرىء:
{ تنبت } بفتح التاء وضم الباء ويكون بالدهن حالا أي ملتبسة بالدهن وقرىء: تنبت فالباء في بالدهن زائدة أي تنبت الدهن فيكون مفعولا به.
{ وإن لكم في الأنعام } تقدم الكلام عليه في النحل.
{ ولكم فيها منافع } من الحمل والركوب والحرث والانتفاع بجلودها وأوبارها ونبه على أغزر فوائدها وألزمها وهو الشرب والأكل وأدرج باقي المنافع في قوله: ولكم فيها منافع كثيرة ثم ذكر ما يكاد يختص به بعض الأنعام وهو الحمل عليها وقرنها بالفلك لأنها سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر قال ذو الرمة:
سفينة بر تحت خدي زمامها
يريد صيدح ناقته الفلك
معطوف على قوله: وعليها أعيد معه حرف الجر.
{ ولقد أرسلنا نوحا } الآية لما ذكر أولا بدأ الإنسان وتطوره في تل الأطوار وما امتن به عليه مما جعله سببا لحياتهم وإدراك مقاصدهم ذكر أمثالا لكفار قريش من الأمم السالفة المنكرة لإرسال الله تعالى رسلا المكذبة بما جاءتهم به الأنبياء عن الله وابتدأ بقصة نوح صلى الله عليه وسلم لأنه أبو البشر الثاني كما ذكر أولا آدم في قوله من سلالة من طين ولقصته أيضا مناسبة بما قبلها إذ قبلها وعلى الفلك تحملون فذكر قصة من صنع الفلك أولا وأنه كان سبب نجاة من آمن وهلك من لم يكن فيه فالفلك من نعمة الله كل هذه القصص يحذر بها قريشا نقم الله تعالى ويذكرهم نعمه.
{ يريد أن يتفضل عليكم } أي يطلب الفضل عليكم ويرأسكم كقوله:
وتكون لكما الكبريآء في الأرض
[يونس: 78] والإشارة في بهذا إلى إفراد الله بألوهية وترك الأصنام.
{ به جنة } معلوم عندهم أنه ليس بمجنون.
{ فتربصوا به } أي انتظروا حاله حين يتجلى أمره وعاقبة خبره فدعا ربه بأن ينصره ويظفره بهم بسبب ما كذبوه وتقدم تفسير أكثر الألفاظ التي في هود ونهاه تعالى أن يخاطبه في قومه بدعاء نجاة أو غيره وبين النهي بأنه تعالى قد حكم عليهم بالإغراق وأمره تعالى بأن يحمده على نجاته وهلاكهم فكان الأمر له وحده وان كان الشرط قد شمله ومن معه لأنه نبيهم وإمامهم وهم متبعوه في ذلك ثم أمره أن يدعوه بأن ينزله منزلا مباركا قيل: قال ذلك عند الركوب في السفينة وقيل: عند الخروج منها.
{ إن في ذلك } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي أن في ما جرى على هذه أمة نوح لدلائل وعبرا.
{ وإن كنا لمبتلين } أي مصيبين قوم نوح ببلاء عظيم أو لمختبرين بهذه الآيات عبادنا ليعتبروا كقوله تعالى:
ولقد تركناها آية فهل من مدكر
[القمر: 15].
{ ثم أنشأنا من بعدهم قرنا آخرين } الآية، ذكر هذه القصة عقيب قصة قوم نوح فظهر أن هؤلاء هم قوم هود وهو قول الأكثرين.
{ بلقآء الآخرة } أي بلقاء الجزاء من الثواب والعقاب فيها.
{ وأترفناهم } أي بسطنا لهم الآمال والأرزاق ونعمناهم واحتملت هذه الجملة أن تكون معطوفة على صلة الذين وكان العطف مشعرا بعلية التكذيب والكفر أي الحامل لهم على ذلك كوننا نعمناهم وأحسنا إليهم وكان ينبغي أن يكون الأمر بخلاف ذلك وأن يقابلوا انعمنا بالإيمان وتصديق من أرسلته إليهم وأن يكون جملة حالية أي وقد أترفناهم أي كذبوا في هذه الحال ويؤول هذا المعنى إلى المعنى الأول أي كذبوا في حال الإحسان إليهم وكان ينبغي أن لا يكفروا وأن يشكروا النعمة بالإيمان بي والتصديق لرسلي.
{ مما تأكلون منه } تحقيق للبشرية وحكم بالتساوي بينه وبينهم وأن لا مزية له عليهم والظاهر أن ما موصولة في قوله مما تشربون وأن العائد محذوف تقديره مما تشربون منه فحذف منه لوجود من الداخلة على الموصول قال الزمخشري: إذن واقع في جزاء الشرط وجواب للذين قاولوهم من قومهم أي تخسرون عقولكم وتغبنون في آرائكم " انتهى " ليس إذن واقعا في جزاء الشرط بل واقعا بين انكم والخبر وانكم والخبر ليس جزاء للشرط بل ذلك جملة جواب القسم المحذوف قبل اللام الموطئة ولو كانت إنكم والخبر جوابا للشرط لزمت الفاء في انكم بل لو كانت بالفاء في تركيب غير القرآن لم يكن ذلك التركيب جائزا إلا عند الفراء والبصريون لا يجيزونه وهو عندهم خطأ واختلف المعربون في تخريج إنكم الثانية فالمنقول عن سيبويه أن انكم بدل من الأولى وفيها معنى التأكيد وخبر انكم الأولى محذوفة لدلالة خبر الثانية عليه تقديره انكم تبعثون إذا متم وهذا الخبر المحذوف هو العامل في إذا.
[23.36-91]
{ هيهات } اسم فعل لا يتعدى برفع الفاعل ظاهرا أو مضمرا مثال رفع الظاهر قول الشاعر:
فهيهات العقيق وأهله
وهيهات خل بالعقيق نواصله
ومثال المضمر قوله في هذه لآية هيهات هو أي إخراجكم وفي هيهات لغات قال الزمخشري: فمن نونه نزله منزلة المصدر إلى آخره " انتهى " ليس هذا بواضح لأنهم قد نونوا أسماء الأفعال ولا نقول انها إذا نونت تنزلت منزلة المصدر * قال ابن عطية طورا تلى الفاعل دون لام تقول هيهات مجيء زيد أي بعد وأحيانا يكون الفاعل محذوفا وذلك عند اللام كهذه الآية التقدير بعد الوجود لما توعدون " انتهى " هذا ليس بجيد لأن فيه حذف الفاعل وفيه أنه مصدر حذف وأبقى معمولة ولا يجيز البصريون شيئا من هذا وقالوا ان هي إن نافية وهي مبتدأ معناه أن الحياة إلا حياتنا الخبر ففسر الضمير بسياق المعنى * افترى نسبوه إلى افتراء الكذب على الله تعالى في أنه نبأه وأرسله إلينا وأخبره أنا نبعث.
{ وما نحن له بمؤمنين } أي بمصدقين والضمير في قائل عائد على الرب.
{ عما قليل } ما زائدة للتوكيد وقليل نعت لمنعوت محذوف تقديره عن زمان قليل وعن تحتمل وجهين أحدهما أن تتعلق بفعل محذوف تقديره عما قليل أنصرك والثاني أن يكون متعلقا بيصبحن وفيه دليل على أن ما بعد اللام المتلقى به القسم يجوز أن يتقدم على اللام تقول والله لأضربن زيدا فيجوز تقديم المفعول على اللام فيقول: والله زيدا لأضربن ونادمين خبر ليصبحن والصيحة تقدم الكلام عليها وشبههم في هلاكهم بالغثاء وهو حميل السيل ما بلي واسود من الورق والعيدان * وانتصب بعد الفعل متروك إظهاره أي بعد وأبعدا أي هلكوا هلاكا والقوم الظالمون بيان لمن دعا عليه بالبعد.
{ ثم أنشأنا من بعدهم قرونا آخرين } قال ابن عباس: هم بنو إسرائيل.
{ ما تسبق } إلى آخر الآية تقدم الكلام عليه في الحجر.
{ ثم أرسلنا رسلنا تترا } أي لأمم آخرين أنشأناهم بعد أولئك والتاء الأولى في تترى بدل من الواو وأصله وقرىء: كما أبدلوا التاء من الواو في تخمة أصله وخمة ووزن الكلمة فعلى قرىء: منونا فتكون الألف فيه للإلحاق كهي في أرطا منونا وقرىء: بغير تنوين فتكون الألف للتأنيث اللازمة كهي في أرطى في لغة من لم ينون. وانتصب على الحال أي متواترين واحدا بعد واحد وأضاف الرسل إليه تعالى وأضاف رسولا إلى ضمير الأمة المرسل إليها لأن الإضافة تكون بالملابسة والرسول يلابس المرسل والمرسل إليه فالأول كانت الإضافة لتشريف الرسل والثاني كانت الإضافة إلى الأمة حيث كذبته فلم ينجح فيهم إرساله إليهم فناسب الإضافة إليهم.
{ فأتبعنا بعضهم بعضا } في الهلاك الناشىء عن التكذيب.
{ وجعلناهم أحاديث } الظاهر أنه جمع أحدوثة وهو ما يتحدث به الناس على جهة الغرابة والتعجب، قال الزمخشري: الأحاديث يكون اسم جمع للحديث ومنه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أفاعيل ليس من أبنية اسم الجمع وإنما ذكره أصحابنا فيما شذ من الجموع كقطيع وأقاطيع وإذا كان عباديد قد حكموا عليه بأنه جمع تكسير لا اسم جمع وهو لم يلفظ له بواحد وهو حديث فالصحيح أنه جمع تكسير لما ذكرنا.
{ بآياتنا } قال ابن عباس: هي التسع * والسلطان المبين قيل هي العصا واليد وهما اللتان اقترن بهما التحدي.
{ قوما عالين } أي رفيعي الحال في الدنيا.
{ وقومهما } أي بنو إسرائيل.
{ لنا عابدون } أي خاضعون متذللون.
{ موسى الكتاب } أي قوم موسى والكتاب التوراة ولذلك عاد الضمير على ذلك المحذوف في قولهم لعلهم ولا يصح عود هذا الضمير في لعلهم على فرعون وقومه لأن الكتاب لم يؤته موسى إلا بعد هلاك بشرائعها ومواعظها.
{ وجعلنا ابن مريم وأمه } أي قصتهما وهي آية عظمى بمجموعهما وهي آيات مع التفصيل * والربوة هنا قال ابن عباس: الغوطة بدمشق وصفتها أنها ذات قرار ومعين على الكمال.
{ وإن هذه أمتكم } تقدم تفسيرها في الأنبياء ويدل على أن النداء للرسل نودي كل واحد منهم في زمانه بقوله: وإن هذه أمتكم وقوله: فتقطعوا، وجاء هنا فاتقون، وهي أبلغ في التخويف والتحذير من قوله في الأنبياء: فاعبدون، لأن هذه جاءت عقب إهلاك طوائف كثيرين قوم نوح والأمم الذين من بعدهم وفي الأنبياء وان تقدمت أيضا قصة نوح وما قبلها فإنه جاء بعدها ما يدل على الإحسان واللطف التام في قصة أيوب ويونس وزكريا ومريم فناسب الأمر بالعبادة لمن هذه صفته تعالى وجاء هنا فتقطعوا بالفاء إيذانا أن التقطيع اعتقب الأمر بالتقوى وذلك مبالغة في عدم قبولهم ونفارهم عن توحيد الله وعبادته وجاء في الأنبياء بالواو فاحتمل معنى الفاء واحتمل تأخر تقطعهم عن الأمر بالعبادة وفرح كل حزب بما لديه دليل على تعمقه في ضلاله وأنه هو الذي ينبغي أن يعتقد وكأنه لا ريب عنده في أنه الحق.
{ غمرتهم } هذا وعيد لهم حيث تقطعوا في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقائل هو شاعر وقائل ساحر وقائل به جنة كما تقطع من قبلهم الأمم والغمرة الماء الذي يغمر القامة فضرب مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم.
{ حتى حين } ينزل بهم الموت وما في قوله: إنما موصولة بمعنى الذي وهي اسم ان وصلتها نمدهم والضمير في به عائد على ما الموصولة.
و { من مال وبنين } تبيين وتوضيح لما أنبهم في ما الموصولة وخبر أن قوله:
{ نسارع لهم في الخيرات } والمعنى نسارع لهم به وحذف لطول الكلام ودلالة به الأول عليه.
{ إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون } لما فرغ من ذكر الكفرة وتوعدهم عقب ذلك بذكر المؤمنين ووعدهم وذكرهم بأبلغ صفاتهم والاشفاق أبلغ التوقع والخوف.
{ أولئك يسارعون } مبتدأ وخبر والجملة خبر ان.
و { ولا نكلف نفسا } تقدم الكلام عليه في البقرة.
{ ولدينا كتاب } أي كتاب فيه إحصاء أعمال الخلق مشيرا إلى الصحف التي يقرؤون فيها ما ثبت لهم.
{ بل قلوبهم } أي قلوب الكفار في ضلال قد غمرها كما يغمر الماء.
{ من هذا } أي من هذا العمل الذي وصف به المؤمنون.
{ من دون ذلك } أي من دون الغمرة والضلال المحيط بهم والمعنى: أنهم ضالون معرضون عن الحق وهم مع ذلك لهم سعايات فساد فوصفهم الله تعالى بحالتي شر والضمير في اذاهم عائد على مترفيهم وإذا الفجائية جواب لإذا الشرطية يجأرون يجزعون عبر عن الصراخ بالجزع إذ الجزع بسببه.
{ إنكم منا لا تنصرون * قد كانت آياتي } هي آيات القرآن.
{ تنكصون } ترجعون استعارة للإعراض عن الحق والضمير في به عائد على المصدر الدال عليه تنكصون أي بالنكوص والتباعد عن سماع الآيات لأنها في معنى الكتاب وضمن مستكبرين معنى مكذبين فعدي بالباء أو تكون الباء للسبب أي يحدث لكم بسبب سماعه استكبار وعتو.
{ سامرا } السامر مفرد بمعنى الجمع يقال: قوم سامر وسمر ومعناه سمر الليل مأخوذ من السمر وهو ما يقع على الشجر من ضوء القمر وكانوا يجلسون للحديث في ضوء القمر والسمير الرفيق بالليل في السمر ويقال له السمار أيضا ويقال لا أفعله ما سمر ابنا سمير والسمير الدهر وابناه الليل والنهار وكانوا يسمرون حول البيت بذكر القرآن وغيره وقرىء: تهجرون بفتح التاء وضم الجيم قال ابن عباس: تهجرون الحق وذكر الله وتقطعونه من الهجر وقرىء: تهجرون بضم التاء وكسر الجيم مضارع أهجر وهو الفحش وفي قراءة التاء التفات من غيبة إلى خطاب وقرىء: بالياء فلا التفات.
{ أفلم يدبروا القول } ذكر تعالى توبيخهم على إعراضهم عن اتباع الحق، والقول القرآن الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم قرعهم أولا بترك الانتفاع بالقرآن ثم ثانيا بأن ما جاءهم جاء آباءهم الأولين ثم ثالثا بأنهم يعرفون محمدا صلى الله عليه وسلم وصحة نسبه وأمانته وصدقه ثم رابعا نسبوه إلى الجن وقد علموا أنه أرجحهم عقلا وأثقبهم ذهنا.
{ ولو اتبع الحق أهوآءهم } أوقع التناقص باختلاف أهوائهم واضطرابها واختل نظام العالم بذكرهم أي بوعظهم والبيان لهم.
{ أم تسألهم خرجا } هذا استفهام توبيخ أيضا المعنى بل أتسألهم مالا فقلقوا لذلك واستثقلوك من أجله وتقدم الكلام على قوله: خرجا في آخر الكهف ولما زيف طريقة الكفار اتبع ذلك ببيان صحة ما جاء به الرسول فقال: وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وهو دين الإسلام ثم أخبر أن من أنكر المعاد ناكب عن هذا الصراط لأنه لا يسلكه إلا من كان راجيا للثواب خائفا من العقاب وهؤلاء غير مصدقين بالجزاء فهم مائلون عنه * من ضر وقيل هو الأسر بالعذاب قيل هو الأسر والقتل.
{ بابا ذا عذاب شديد } روي
" أنه لما أسلم ثمامة بن أثال الحنفي ولحق باليمامة منع الميرة من أهل مكة فأخذهم الله بالسنين حتى أكلوا العلهز فجاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: أنشدك الله والرحم ألست تزعم أنك بعثت رحمة للعالمين فقال: بلى، فقال: قتلت الآباء بالسيف والأبناء بالجوع "
فنزلت الآية:
{ مبلسون } أي آيسون من الشر الذي نالهم.
{ وهو الذي أنشأ لكم } الآية، تقدم الكلام على نظيرها.
{ ما تشكرون } ما زائدة للتأكيد.
{ بل قالوا } بل إضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات بل قالوا والضمير لأهل مكة ومن جرى مجراهم في إنكار البعث مثل ما قال آباؤهم عاد وثمود ومن يرجعون إليهم من الكفار.
{ قل لمن الأرض } لما اتخذوا من دونه آلهة ونسبوا إليه الولد نبههم على فرط جهلهم بكونهم مقرين بأنه تعالى له الأرض ومن فيها ملك له وأنه رب العالم العلوي وأنه مالك كل شىء وهم مع ذلك ينسبون إليه الولد ويتخذون له شركاء * قوله لله جواب مطابق لقوله: لمن الأرض كما تقول: لمن الدار فتقول لزيد:
{ سيقولون لله } الثاني والثالث بلفظ الجلالة مرفوعا وكذا هو في مصاحف أهل الحرمين والكوفة والشام وقرىء: لله فيهما بلام الجر فالقراءة الأولى فيها المطابقة لفظا ومعنى والثانية جاءت على المعنى لأن قولك من رب هذا ولمن هذا في معنى واحد ولم يختلف في الأول أنه باللام وختم كل سؤال بما يناسبه فختم ملك الأرض ومن فيها بالتذكر أي أفلا تذكرون فتعلمون أن من له ملك الأرض ومن فيها حقيق أن لا يشرك به بعض خلقه في الربوبية وختم ما بعدها بالتقوى وهي أبلغ من التذكر وفيها وعيد شديد أي أفلا تخافونه فلا تشركون به وختم ما بعد هذه بقوله:
{ فأنى تسحرون } مبالغة في التوبيخ بعد إقرارهم والتزامهم ما يقع عليهم به الاحتجاج وأنى بمعنى كيف قرر أنهم مسحورون وسألهم عن الهيئة التي سحروا بها أي كيف تخدعون عن توحيده وطاعته والسحر هنا مستعار وهو تشبيه لما يقع منهم من التخليط ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع من المسحور عبر عنهم بذلك.
{ وإنهم لكاذبون } فيما ينسبون إليه من اتخاذ الولد والشركاء وغير ذلك مما هم فيه كاذبون ثم نفى اتخاذ الولد وهو نفي استحالة ونفي الشريك بقوله: وما كان معه من إله، أي: وما كان معه شريك في خلق العالم واختراعهم ولا في غير ذلك مما يليق فه من الصفات العلى فنفي الولد تنبيه على من قال الملائكة بنات الله ونفي الشريك في الألوهية تنبيه على من قال: الأصنام آلهة.
و { من إله } نفي عام يفيد استغراق الجنس ولهذا جاء.
{ إذا لذهب كل إله } ولم يأتي التركيب إذ الذهب الإله * ومعنى لذهب أي لا نفرد كل إله بخلقه الذي خلق واستبد به وتميز كل ملك واحد عن ملك الآخر وغلب بعضهم بعضا كحال ملوك الدنيا وإذا لم يقع الإنفراد والتغالب فاعلموا أنه إله واحد واذن لم يتقدمه في اللفظ شرط ولا سؤال سائل ولا عدة قالوا: فالشرط محذوف تقديره ولو كان معه إله وإنما حذفت لدلالة قوله: وما كان معه من إله عليه وهذا قول الفراء زعم انه إذا جاء بعدها اللام كانت لو وما دخلت عليه محذوفة وقد قررنا تخريجه لها على غير هذا في وإذا لاتخذونك خليلا في سورة سبحان والظاهر أن ما في خلق بمعنى الذي * وقال الإمام فخر الدين محمد بن عمر الرازي في تقرير استحالة وجود إلهين ما نصه لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لذاتهما فلا بد أن يشتركا في الوجود ولا بد أن يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بعينه وما به الاشتراك غير ما به الممايزة فيكون كل واحد مشاركا للآخر وكل مركب يفتقر إلى آخر ممكن لذاته فاذن واجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته هذا خلف فاذن ليس واجب الوجود إلا واحدا وكل ما عداه محدث " انتهى ".
{ سبحان الله عما يصفون } تنزيه عن الولد والشريك.
[23.93-118]
{ قل رب إما تريني } الآية لما ذكر تعالى ما كان عليه الكفار من ادعاء الولد والشريك لله وكان تعالى قد أعلم نبيه أنه ينتقم منهم ولم يبين أذلك في حياته أم بعد موته أمره بأن يدعو بهذا الدعاء أي ان تريني ما تعدهم واقعا بهم في الدنيا أو في الآخرة فلا تجعلني معهم ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم معصوم مما يكون سببا لجعله معهم ولكنه أمره أن يدعو بذلك إظهارا للعبودية وتواضعا لله * على أن نريك متعلق بقادرون ثم أمره تعالى بحسن الأخلاق والتي هي أحسن أبلغ من الحسنة للمبالغة الدال عليها أفعل التفضيل وجاء في صلة التي ليدل على معرفة السامع بالحالة التي هي أحسن قيل وهذه الآية منسوخة بآية السيف والتي هي أحسن شهادة أن لا إله إلا الله والسيئة الشرك * ثم أمره تعالى أن يستعيذ من نخسات الشيطان والهمز من الشيطان عبارة عن حثه على العصيان والاغراء ثم أمره أن يستعيذ من حضورهم عنده لأنهم إذا حضروا توقع الهمز وفسر همز الشيطان بسورة الغضب التي لا يملك الإنسان فيها نفسه.
{ حتى إذا جآء أحدهم الموت } قبلها جملة محذوفة تكون حتى غاية لها يدل عليها ما قبلها التقدير فلا أكون كالكفار الذين يهمزهم الشياطين ويحضرونهم حتى إذا جاء أحدهم الموت ونظير حذف هذه الجملة قول الشاعر:
فيا عجبا حتى كليب تسبني
كان أباها نهشل أو مجاشع
أي يسبني الناس حتى كليب فدل ما بعد حتى على الجملة المحذوفة وفي الآية دل ما قبلها عليها * حتى إذا جاء أحدهم الموت أي حضر وعاينه الإنسان فحينئذ يسأل الرجعة إلى الدنيا وفي الحديث
" إذا عاين الموت قالت له الملائكة: نرجعك فيقول إلى دار الهموم والأحزان بل قدما إلى الله وأما الكافر فيقول: ارجعون لعلي أعمل صالحا "
ومعنى: فيما تركت في الإيمان الذي تركته.
{ كلا } كلمة ردع عن طلب الرجعة وإنكار واستبعاد فقيل هي من قول الله لهم وقيل من قول من عاين الموت يقول ذلك لنفسه على سبيل التحسر والندم ومعنى هو قائلها لا يسكت ولا ينزع لاستيلاء الحسرة عليه ولا يجدي لها جدوى ولا يجاب لما سأل ولا يغاث.
{ ومن ورآئهم } أي الكفار.
{ برزخ } حاجز بينهم وبين الرجعة إلى وقت البعث وفي هذه الجملة إقناط كلي أن لا رجوع إلى الدنيا وإنما الرجوع إلى الآخرة استعير البرزخ للمدة التي بين موت الإنسان وبعثه.
{ فلا أنساب } أي لا تواصل بينهم حين افتراقهم إلى ما أعد لهم من ثواب وعقاب وإنما التواصل بالأعمال ولا تعارض بين انتفاء التساؤل هنا وبين إثباته في قوله:
وأقبل بعضهم على بعض يتسآءلون
[الصافات : 27، الطور: 25] لأن يوم القيامة مواطن ومواقف وتقدم الكلام في الموازين في الأعراف * قال الزمخشري: في جهنم خالدون بدل من خسروا أنفسهم ولا محل للبدل والمبدل منه لأن الصلة لا محل لها أو خبر بعد خبر لأولئك أو خبر مبتدأ محذوف " انتهى " جعل في جهنم بدلا من خسروا وهذا بدل غريب وحقيقته أن يكون البدل الفعل الذي يتعلق به في جهنم أي استقروا في جهنم وكأنه من بدل الشىء من الشىء وهما المسمى واحد على سبيل المجاز لأن من خسر نفسه استقر في جهنم وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين نعتا لأولئك وخبر أولئك في جهنم والظاهر أن تكون خبرا لأولئك لا نعتا وخالدون خبرا ثانيا وفي جهنم متعلقا به * اللقح أشد من النفخ تأثيرا والكلوح تشمر الشفتين عن الأسنان ومنه كلوح الكلب والأسد وخص الوجه باللفح لأنه أشرف ما في الإنسان والإنسان أحفظ له من الآفات من غيره من الأعضاء فإذا لفح الأشرف فما دونه ملفوح ولما ذكر إصابة النار للوجه ذكر الكلوح المختص ببعض أعضاء الوجه وفي الترمذي
" تتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته "
قال: هذا حديث حسن صحيح.
{ ألم تكن آياتي } الآية يقول الله تعالى لهم على لسان من يشاء من ملائكته: { ألم تكن آياتي } وهي القرآن ولما سمعوا هذا التقرير أذعنوا وأقروا على أنفسهم بقولهم: غلبت علينا شقوتنا من قولهم: غلبني فلان على كذا إذا أخذه منك وامتلكه والشقاوة سوء العاقبة.
{ وكنا قوما ضآلين } أي عن الهدى ثم تدرجوا من الإقرار إلى الرغبة والتضرع وذلك أنهم أقروا والاقرار بالذنب اعتذار فقالوا:
{ ربنآ أخرجنا منها } أي من جهنم.
{ فإن عدنا } إلى التكذيب واتخاذ آلهة وعبادة غيرك.
{ فإنا ظالمون } أي متجاوزون الحد في العدوان حيث ظلمنا أنفسنا أولا ثم سومحنا فظلمناها ثانية.
{ قال اخسئوا فيها } أي ذلوا فيها وانزجروا كما تزجر الكلاب إذا زجرت يقال خسأت الكلب وخسأ هو بنفسه يكون متعديا ولازما.
{ ولا تكلمون } أي في رفع العذاب أو تخفيفه قيل : هو آخر كلام يتكلمون به ثم لا كلام بعد ذلك إلا الشهيق والزفير والعواء كعواء الكلاب لا يفهمون ولا يفهمون.
{ إنه كان فريق من عبادي } الفريق هنا هم المستضعفون من المؤمنين وهذه الآية مما يقال للكفار على جهة التوبيخ ونزلت في كفار قريش مع صهيب وعمار وبلال ونظرائهم ثم هي عامة فيمن جرى مجراهم قديما وبقية الدهر.
{ سخريا } أي تسخرون منهم ومن اتباعهم للحق * قال الزمخشري: في قراءة من قرأ انهم بالفتح هو المفعول الثاني أي جزيتهم فوزهم " انتهى " الظاهر أنه تعليل أي جزيتهم لأنهم والكسر على الاستئناف وقد يراد به التعليل فيكون الكسر مثل الفتح من حيث المعنى لا من حيث الاعراب لاضطرار المفتوحة إلى عامل.
و { الفآئزون } الناجون من هلكة إلى نعمة.
{ قال كم لبثتم } سألهم سؤال توقيف وهو تعالى يعلم عدد ما لبثوا ولما سئلوا عن المدة التي أقاموا فيها في الأرض أجابوا بقولهم: لبثنا يوما أو بعض يوم ترددوا فيما لبثوا فنسوا لفرط هول العذاب حتى قالوا يوما أو بعض يوم * العبث اللعب الخالي عن الفائدة وانتصب على أنه مصدر في موضع الحال تقديره عابثين وعلى أنه مفعول من أجله والمعنى في هذا ما خلقناكم للعبث وإنما خلقناكم للتكليف والعبادة.
{ وأنكم إلينا } معطوف على إنما فهو داخل في الحسبان والكريم صفة للعرش لتنزيل الخيرات منه أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين ومن شرطية وجوابه فإنما حسابه ولا برهان له به صفة لازمة للاحتراز من أن يكون ثم آخر يقوم عليه برهان فهي مؤكدة كقوله يطير بجناحه ويجوز أن يكون جملة اعتراض بين الشرط وجزائه فلا موضع لها من الإعراب وافتتح السورة بقوله: قد أفلح المؤمنون وأورد في خاتمتها أنه لا يفلح الكافرون فنظر تفاوت ما بين الافتتاح والاختتام ثم أمر رسوله بأن يدعو بالغفران والرحمة.
[24 - سورة النور]
[24.1-27]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * سورة أنزلناها } الآية، هذه السورة مدنية بلا خلاف ولما ذكر تعالى في مشركي قريش ولهم أعمال من دون ذلك أي أعمال سيئة هم لها عاملون واستطرد بعد ذلك إلى أحوالهم واتخاذهم الولد والشريك وإلى مآلهم في النار كان من أعمالهم السيئة أنه كان لهم جوار بغايا يستحسنون عليهن ويأكلون من كسبهن من الزنا فأنزل الله تعالى هذه السورة تغليظا في أمر الزنا وكان فيما ذكر ناس من المسلمين هموا بنكاحهن.
{ سورة } مرفوع بالابتداء أو خبر مبتدأ محذوف تقديره فيما أنزلنا سورة أو هذه سورة وقرىء: سورة " انتهى " جعله بالنصب على الاشتغال أي أنزلنا سورة أنزلنا ما قال الزمخشري: أو على دونك سورة " انتهى " جعله منصوبا على الأعراء ولا يجوز حذف أداة الإغراء * وكان الابتداء بقوله: سورة وإن كان نكرة لتقدير صفة محذوفة تسوغ الابتداء بالنكرة كأنه قيل سورة معظمة أنزلناها وقرىء:
{ وفرضناها } بالتخفيف والتشديد.
{ وأنزلنا فيهآ آيات } أي: أمثالا ومواعظ وأحكاما ليس فيها مشكل يحتاج إلى تأويل.
{ الزانية } مبتدأ والخبر محذوف أي فيما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني وقوله: فاجلدوا بيان لذلك الحكم هذا مذهب سيبويه وقدمت الزانية على الزاني لأن داعيتها أقوى لقوة شهوتها ونقصان عقلها ولكون زناها أفحش وأكثر عارا وللعلوق بولد الزنا وحال النساء الحجبة والصيانة وأل في الزانية والزاني للعموم في جميع الزناة والجلد إصابة الجلد بالضرب كما تقول رأسه وبطنه وظهره أي ضرب رأسه وبطنه وظهره والمأمور بالجلد أئمة المسلمين دنوا بهم.
{ كل واحد منهما } الظاهر إندراج الكافر والعبد والمحصن في هذا العموم وهو لا يندرج فيه لا الصبي ولا المجنون والظاهر الاقتصار على الجلد أحصنا أو لم يحصنا وهو مذهب الخوارج واتفق فقهاء الأمصار على أن المحصن يرجم ولا يجلد وجلد علي رضي الله عنه شراحة الهمدانية ثم رجمها وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله.
{ تأخذكم } بالتاء والياء رأفة بسكون الهمزة وفتحها.
{ رأفة } أي لين وهوادة في استيفاء حدود الله وقرىء:
{ إن كنتم تؤمنون بالله } تثبيت وحض وتهييج للغضب لله ولدينه وأمره تعالى بحضور جلدهما طائفة إغلاظا على الزناة وتوبيخا لهم بحضرة الناس وسمي الجلد عذابا إذ فيه إيلام وافتضاح وهو عقوبة على ذلك الفعل والطائفة المأمور بشهودها ذلك أقل ما يتصور فيه ذلك ثلاثة وهي صفة غالبة لأنها الجماعة.
{ الزاني لا ينكح إلا زانية } الظاهر أنه خبر قصد به تشنيع الزنا وأمره ومعنى لا ينكح لا يطأ وزاد المشركة في التقسيم فالمعنى أن الزاني في وقت زناه لا يجامع إلا زانية من المسلمين أو أخس منها وهي المشركة والنكاح بمعنى الجماع.
{ والذين يرمون } القذف الرمي بالزنا وغيره واستعير الرمي للشتم لأنه إذاية بالقول كما قال وجرح اللسان كجرح اليد.
و { المحصنات } الظاهر أن المراد النساء العفائف وخص النساء بذلك وإن كان الرجال يشاركوهن في الحكم لأن القذف فيهن أشنع وأنكى للنفوس ومن حيث هن هوى للرجال ففيه إيذاء لهن ولأزواجهن وقراباتهن وقيل المعنى الفروج المحصنات كما قال:
والتي أحصنت فرجها
[الأنبياء: 91] ويكون اللفظ شاملا للنساء والرجال * ولما كانت معصية الزنا كبيرة من أمهات الكبائر وكان متعاطيها كثيرا ما يتستر بها وقلما يطلع عليها أحد شدد الله على القاذف حيث شرط فيها أربعة شهداء رحمة للعباد وسترا والمعنى ثم لم يأتوا الحكام والجمهور على إضافة أربعة إلى شهداء وقرأ أبو زرعة وعبد الله بن مسلم بأربعة بالتنوين وهي قراءة فصيحة لأنه إذا اجتمع اسم العدد والصفة كان الاتباع أجود من الإضافة قال ابن عطية وسيبويه: يرى أن تنوين العدد وترك إضافته إنما يجوز في الشعر " انتهى ". ليس كما ذكر إنما يرى ذلك سيبويه في العدد الذي بعده اسم نحو ثلاثة رجال وأما في الصفة فلا بل الصحيح التفضيل الذي ذكرنا وإذا نونت أربعة فشهداء بدل إذ هو وصف جرى مجرى الأسماء أو صفة لأنه صفة حقيقة ويضعف قول من قال انه حال أو تمييز.
{ فاجلدوهم } الأمر للإمام ونوابه بالجلد والظاهر وجوب الجلد وان لم يطالب المقذوف وبه قال ابن أبي ليلى وقال أبو حنيفة وأصحابه والأوزاعي والشافعي لا يجلد إلا بمطالبته قال مالك: إلا أن يكون الإمام سمعه يقذفه فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول وان لم يطالب المقذوف والظاهر أن العبد القاذف الحر إذا لم يأت بأربعة شهداء جلد ثمانين لاندراجه في عموم والذين وبه قال عبد الله بن مسعود والأوزاعي وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك والثوري وعثمان البتي والشافعي يجلد أربعين.
{ ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا } الظاهر أن لا تقبل شهادته أبدا وإن أكذب نفسه وتاب وهو نهي جاء بعد أمر وكما أن حكمه الجلد كذلك حكم رد شهادته.
{ وأولئك هم الفاسقون } الظاهر أنه كلام مستأنف غير راحل في خبر والذين يرمون كأنه اخبار بحال الرامين بعد انقضاء الموصول المتضمن معنى الشرط وما ترتب في خبره من الجلد وعدم قبول الشهادة أبدا.
{ إلا الذين تابوا } الآية هذا الاستثناء تعقب جملا ثلاثة جملة الأمر بالجلد وهو لو تاب وأكذب نفسه لم يسقط عنه حد القذف وجملة النهي عن قبول شهادتهم أبدا وقد وقع الخلاف في قبول شهادتهم إذا تابوا بناء على أن هذا الاستثناء راجع إلى جملة النهي وجملة الحكم بالفسق أو هو راجع إلى الجملة الأخيرة وهي الثالثة وهي الحكم بفسقهم والذي يقتضيه النظر أن الاستثناء إذا تعقب جملا يصلح أن يتخصص كل واحد منها بالاستثناء أي يجعل تخصيصا في الجملة الأخيرة وهذه المسئلة تكلم عليها في أصول الفقه وفيها خلاف وتفصيل ولم أر من تكلم عليها من النحاة غير المهابادي وابن مالك واختار ابن مالك أن يعود إلى الجمل كلها كالشرط واختار المهابادي أن يعود إلى الجملة الأخيرة وهو الذي نختاره وقد استدللنا على صحة ذلك في شرح التسهيل * ولما ذكر تعالى قذف المحصنات وكان الظاهر أنه يتناول الأزواج وغيرهن وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم عزم على حد هلال بن أمية حين رمى زوجته بشريك من سحماء فنزلت:
{ والذين يرمون أزواجهم } والمعنى بالزنا.
{ ولم يكن لهم شهدآء } ولم يقيد بعدد اكتفاء بالتقييد في قذف غير الزوجات والمعنى: شهداء على صدق قولهم وأزواجهم يعم سائر الأزواج من المؤمنات والكافرات والاماء فكلهن يلاعن الزوج للانتفاء من الحمل وقرىء: أربع شهادات بالنصب على المصدر وارتفع فشهادة خبرا على إضمار مبتدأ أي صالحكم أو الواجب أو مبتدأ على إضمار الخبر متقدما أي فعليه أن يشهد أو مؤخرا أي كافية أو واجبة وقرىء:
{ والخامسة } بالرفع فيهما وهو مبتدأ وقرىء:
{ أن لعنت الله } وأن لعنة مخففة من الثقيلة وينسبك من القراءتين مصدر وهو خبر عن قوله: والخامسة كينونة لعنة الله عليه وقرىء:
{ أن غضب الله عليهآ } بالتشديد والتخفيف.
{ ويدرؤا } أي يدفع * والعذاب قال الجمهور: الحد، وقال أصحاب الرأي: لا حد عليها إن لم تلاعن ولا يوجبه عليها قول الزوج والظاهر الاكتفاء في اللعان بهذه الكيفية المذكورة في الآية.
{ ولولا فضل الله } جواب لو محذوف تقديره لهلكتم.
{ إن الذين جآءوا بالإفك } الآية، سبب نزول هذه الآيات مذكور في حديث عائشة في الصحيح والإفك الكذب والافتراء * والعصبة الجماعة وتقدم الكلام عليها في يوسف.
{ منكم } أي من أهل ملتكم في موضع الصفة.
و { لا تحسبوه } مستأنف والضمير في لا تحسبوه الظاهر أنه عائد على الإفك بل هو خير لكم لبراءة الساحة وثواب الصبر على ذلك الأذى وانكشاف كذب القاذفين.
{ ما اكتسب من الإثم } أي جزاء ما اكتسب وذلك بقدر ما خاض فيه لأن بعضهم ضحك وبعضهم سكت وبعضهم تكلم واكتسب مستعمل في المآثم ونحوها لأنها تدل على اعتمال وقصد فهو أبلغ في التكذيب وكسب مستعمل في الخير لأن حصوله مغن عن الدلالة على اعتمال فيه وقد تستعمل كسب في الوجهين.
{ والذي تولى كبره } المشهور أنه عبد الله بن أبي ابن سلول * والعذاب العظيم هو عذاب يوم القيامة وقيل هو ما أصاب حسان من ذهاب بصره وشل يده، وقرىء: كبره بكسر الكاف وضمها والعذاب الأليم عماه وحده وضرب صفوان له بالسيف على رأسه وقال:
توق ذباب السيوف عني فإنني غلام إذا هو جيت لست بشاعر.
ولكنني أحمي حماي وأتقى من الباهت الرامي البريء الظواهر وأنشد حسان أبياتا يثني فيها على أم المؤمنين ويهر براءته مما نسب إليه وهي هذه:
حصان رزان ما تزن بريبة
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
خليلة خير الناس دينا ومنصبا
نبي الهدى والمكرمات الفواضل
عقيلة جى من لؤي بن غالب
كرام المساعي مجدها غير زائل
مهذبة قد طيب الله خيمها
وطهرها من كل شين وباطل
فإن كان ما بلغت عني قلته
فلا رفعت سوطي إلى أناملي
وكيف وودي ما حييت ونصرتي
لآل رسول الله زين المحافل
له رتب عال على الناس فضلها
تقاصر عنها سورة المتطاول
{ لولا إذ سمعتموه } لولا حرف تحضيض بمعنى هلا وفيه تحريض على ظن الخبر وزجر وأدب والظاهر أن الخطاب للمؤمنين حاشا من تولى كبره قيل ويحتمل دخولهم في الخطاب وفيه عتاب أي كان الإنكار واجبا عليهم وعدل بعد الخطاب إلى الغيبة وعن الضمير إلى الظاهر ولم يجيء التركيب ظننتم بأنفسكم خيرا وقلتم ليبالغ في التوبيخ بطريقة الإلتفات وليصرح بلفظ الإيمان دلالة على أن الإشتراك فيه مقتض أن لا يصدق مؤمن على أخيه قول عائب ولا طاعن وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع مقالة في أخيه أن يبني الأمر فيه على ظن الخير وان يقول بناء على ظنه هذا إفك مبين هكذا باللفظ الصريح ببراءة أخيه.
{ ولولا فضل الله عليكم } الآية، أي في الدنيا بالنعم التي منها الإمهال للتوبة.
{ ورحمته } عليكم في الآخرة بالعفو والمغفرة.
{ لمسكم } العذاب فيما خضتم فيه من حديث الإفك يقال: أخاض في الحديث واندفع وهضب وخاض.
{ إذ تلقونه } العامل في إذ لمسكم تلقونه أي يأخذه بعضكم من بعض يقال تلقى القول وتلقنه والأصل وتلقنه تتلقونه ومعنى بأفواهكم أي تلوكونه وتديرونه فيها من غير علم لأن الشىء المعلوم يكون في القلب ثم يعبر عنه باللسان وهذا الإفك ليس محله إلا الأفواه كما قال يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.
{ وتحسبونه هينا } أي ذنبا صغيرا.
{ وهو عند الله } من الكبائر وعلق من العذاب بثلاثة آثام تلقى الإفك والتكلم به واستصغاره ثم أخذ يوبخهم على التكلم به وكان الواجب عليهم إذا سمعوه أن لا يفوهوا به.
{ إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة } قال مجاهد هذه الإشارة إلى عبد الله ابن أبي ومن أشبهه.
{ في الذين آمنوا } لعداوتهم لهم والعذاب الأليم في الدنيا الحد وفي الآخرة النار والظاهر في الذين يحبون العموم في كل قاذف منافقا كان أو مؤمنا وتعليق الوعيد على محبة الشياع دليل على أن إرادة الفسق فسق والله يعلم أي البريء من المذنب وسرائر الأمور ووجه الحكمة في ستركم والتغليظ في الوعيد.
{ والله يعلم } كذبهم.
{ وأنتم لا تعلمون } لأنه غيب وجواب لولا محذوف أي لعاقبكم.
{ وأن الله رءوف } بالبرية.
{ رحيم } بقبول توبة من تاب من قذف قال ابن عباس: والخطاب لحسان ومسطح وحمنة والظاهر العموم.
{ يأيها الذين آمنوا لا تتبعوا } الآية تقدم الكلام على خطوات الشيطان في فإنه عائد على من الشرطية أي فإن متبع خطوات الشيطان.
{ يأمر بالفحشآء } وهو ما أفرط قبحه.
{ والمنكر } وهو ما تنكره العقول السليمة أي يصر رأسا في الضلال بحيث يكون أمرا تطيعه أصحابه.
{ ولولا فضل الله عليكم ورحمته } بالتوبة الممحصة ما طهر أحد منكم ما زكى يزكى من يشاء ممن سبقت له السعادة وكان عمله الصالح أمارة على سبقها أو من يشاء بقبول التوبة النصوح.
{ والله سميع } لأقوالكم عليكم بضمائركم.
{ ولا يأتل } هو مضارع ائتلى افتعل من الألية وهي الحلف وقيل معناه يقصر بني افتعل من ألوت بمعنى قصرت ومنه لا يألونكم خبالا وقال الشاعر:
وما المرء ما دامت حشاشة نفسه
بمدرك أطراف الخطوب ولا آل
وسبب نزولها المشهور أنه حلف أبي بكر على مسطح أن لا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعة وقال ابن عباس والضحاك: قطع جماعة من المؤمنين منافعهم عمن قال في الإفك وقالوا لا نصل من تكلم به فنزلت في جميعهم، والآية تتناول من هو بهذا الوصف.
{ الغافلات } أي السليمات الصدور النقيات القلوب اللاتي ليس فيهن دهاء ولا مكر لأنهن لم يجربن الأمور ولا يفطن لما يفطن له المجربات.
{ لعنوا في الدنيا والآخرة } جاء في قذف المحصنات قبل هذا الاستثناء بالتوبة وفي هذه الآية لم يجيء استثناء ويناسب أن تكون هذه الآية كما قيل نزلت في مشركي مكة كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا: خرجت لتفجر قاله أبو حمزة اليماني ويؤيده قوله:
{ يوم تشهد عليهم } والناصب ليوم تشهد ما تعلق به الجار والمجرور وهو ولهم.
{ يومئذ يوفيهم } يوم بدل من يوم والتنوين في إذ للعوض من الجملة المحذوفة والتقدير يوم إذ تشهد عليهم والذين هنا هو الجزاء أي جزاء أعمالهم الخبيث من يكتم في قلبه إذاية الناس حتى يمكر بهم.
{ أولئك } إشارة للطيبين والطيبات والضمير في يقولون عائد على ذوي الخبث.
{ يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا } الآية، جاءت إمرأة من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أكون في بيتي على حال لا أحب أحدا يراني عليها فلا يزال حتى يدخل علي رجل من أهلي فنزلت فقال أبو بكر بعد نزولها يا رسول الله أرأيت الخانات والمساكن التي ليس فيها ساكن فنزل ليس عليكم جناح الآية * ومناسبتها لما قبلها هو أن أهل الإفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة فصارت كأنها طريقة للتهمة فأوجب الله أن لا يدخل المرء بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام لأن في الدخول على غير هذا الوجه وقوع التهمة وفي ذلك من المضرة ما لا يخفي والظاهر أنه يجوز للإنسان أن يدخل بيت نفسه بغير استئذان ولا سلام لقوله: غير بيوتكم، ويروى:
" أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأستأذن على أمي قال: نعم، قال: ليس لها خادم غيري أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن وعيا النهي عن الدخول بالاستئناس والسلام على أهل تلك البيوت "
والظاهر أن الاستئناس خلاف الاستيحاش.
[24.28-42]
{ غير مسكونة } هي الفنادق التي في طرق المسافرين وقيل الخرب التي تدخل للتبرز وقيل الربط وقيل حوانيت البياعين والمتاع المنفعة كالاستكنان من الحر والبرد وإيواء الرحال والشراء والبيع وغير ذلك.
{ قل للمؤمنين يغضوا } الآية تقدم مثل هذا التركيب في قوله تعالى:
قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا
[إبراهيم: 31] ومن لابتداء الغاية.
{ ذلك } أي غض البصر وحفظ الفرج أطهر لهم.
{ خبير بما يصنعون } من إحالة النظر وانكشاف العورات فيجازي على ذلك والمؤمنات عام في الزوجات المملوكات.
{ ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } وهو الكحل والخضاب والخاتم.
{ وليضربن بخمرهن على جيوبهن } الخمر جمع خمار وهو المقنعة التي تلقى المرأة على رأسها وهو جمع كثرة مقيس ويجمع في القلة على أخمرة وهو مقيس فيه أيضا، قال: وقرىء: الشجر افي ريقه * كرؤوس قطعت فيها الخمر وكان النساء يغطين رؤوسهن بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهر فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهن وضمن وليضربن معنى وليضعن وليلقين فلذلك عداه بعلى وبدأ تعالى بالأزواج لأن اطلاعهم يقع على أعظم من الزينة ثم ثني بالمحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة ولكن تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر فالأب والأخ ليسا كابن الزوج فقد تبدى للأب ما لا تبدى لابن الزوج ولم يذكر تعالى هنا العم ولا الخال وقال الحسن: هما كسائر المحارم في جواز النظر.
{ أو نسآئهن } مخصوص بمن كان دينهن قال ابن عباس: ليس للمسلمة أن تتجرد بين نساء أهل الذمة ولا تبدي للكافرة إلا ما تبدي للأجانب إلا أن تكون أمة لقوله تعالى:
{ أو ما ملكت أيمانهن } وكتب عمر إلى أبي عبيدة أن أمنع نساء أهل الذمة من دخول الحمام مع المؤمنات والظاهر العموم في قوله: أو ما ملكت أيمانهن فيشمل الذكور والإناث فيجوز للعبد أن ينظر من سيدته ما ينظر أولئك المستثنون وهو مذهب عائشة وأم سلمة وقال سعيد من المسيب: لا تغرنكم آية النور فإنما المراد بها الإماء * قال الزمخشري: وهذا هو الصحيح لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصيا كان أو فحلا وعن ميسون بنت بحدل الكلابية أن معاوية دخل عليها ومعها خصي فتقنعت منه فقال: هو خصي، فقالت: يا معاوية أترى المثلة تحلل ما حرم الله هو عن أبي حنيفة لا يحل إمساك الخصيان واستخدامهم وبيعهم وشراؤهم ولم ينقل عن أحد من السلف إمساكهم.
و { الإربة } الحاجة إلى الوطء لأنهم بله لا يعرفون شيئا من أمر النساء ويدخل في هذه الصفة المجنون والمعتوه والمخنث والشيخ الفاني والزمن الموقوذ بزمانته وقسم التابعين غير أولي الحاجة إلى الوطء قسمين رجال وأطفال والمفرد المحلى بأل يكون للجنس فيعم ولذلك وصف بالجمع في قوله:
{ الذين لم يظهروا } ومن ذلك قول العرب أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض يريد الدنانير والدراهم فكأنه قال: والأطفال والطفل ما لم يراهق الحلم.
{ ولا يضربن بأرجلهن } كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليقعقع خلخالها فيعلم أنها ذات خلخال وزعم حضرمي أن امرأة اتخذت خلخالا من فضة واتخذت جزعا فجعلته في ساقها فمرت على القوم فضربت برجلها الأرض فوقع الخلخال على الجزع فصوت فنزلت هذه الآية.
{ وتوبوا إلى الله } لما سبقت منه تعالى أوامر ومناه وكان الإنسان لا يكاد يقدر على مراعاتها دائما وان ضبط نفسه واجتهد فلا بد من تقصير أمر بالتوبة وترجي الفلاح إذا تابوا وعن ابن عباس: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية لعلكم تسعدون في الدنيا والآخرة وقرىء:
{ أيه المؤمنون } وأيه الساحر وأيه الثقلان أصل ها للتنبيه ضمت لضم الياء قبلها اتباعا وضمها لغة لبني مالك رهط شقيق بن سلمة.
{ وأنكحوا الأيامى } لما تقدمت أوامر ونواه في غض البصر وحفظ الفرج وإخفاء الزينة وغير ذلك قال بعده: وانكحوا والظاهر أن الأمر في وانكحوا للوجوب وبه قال أهل الظاهر: وأكثر العلماء على أنها للندب وتقدم في المفردات أن الايم من لا زوج له من ذكر وأنثى ووزنه فعيل يقال منه آم يئيم وقال:
كل امرىء ستئيم منه
العرس أو منها يئم
{ وإمائكم } جمع أمة أصله أموه حذفت منه لام الكلمة وهي الواو.
{ وليستعفف } أي ليجتهد في العفة وصون النفس وهو استفعل بمعنى طلب العفة من نفسه وحملها عليها وجاء الفك في لغة الحجاز.
{ لا يجدون نكاحا } قيل النكاح هنا اسم لما يمهر به وينفق في الزواج كاللحاف واللباس لما يلتحف به ويلبس أمر أو لا بما يعصم عن الفتنة ويبعد عن مواقعة العصيان وهو غض البصر ثم بالنكاح الذي يحصن به الدين ويقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام ثم بالحمل على النفس الأمارة بالسوء وعزفها عن الطموح إلى الشهوات عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة ولما بعث السيد على تزويج الصالحين من العبيد والإماء رغبهم في أن يكاتبوهم إذا طلبوا ذلك ليصيروا أحرارا فيتصرفون في أنفسهم.
{ والذين يبتغون الكتاب } أي المكاتبة كالعتاب والمعاتبة.
{ مما ملكت أيمانكم } يعم المماليك الذكور والإناث والذين يحتمل أن يكون مبتدأ خبره الجملة والفاء دخلت في الخبر لما تضمن الموصول من معنى اسم الشرط * والخير المال قاله ابن عباس:
{ وآتوهم } أمر للمكاتبين.
{ من مال الله } لا يدل على مقدار معين من المال.
{ ولا تكرهوا فتياتكم على البغآء } في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن عبد الله بن أبي كان له ست جوار * معاذة * ومسيكة * وأميمة * وعمرة * وأروى * وقتيلة جاءت إحداهن ذات يوم بدينار وأخرى ببرد فقال لهما: ارجعا فازينا فقالت: والله لا نفعل ذلك قد جاءنا الله بالإسلام وحرم الزنا فأتتا رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكتا له ذلك فنزلت * والفتاة المملوكة وهذا خطاب للجميع ويؤكد أن يكون وآتوهم خطابا للجميع والنهي عن الإكراه على الزنا مشروط بإرادة التعفف منهن لأنه لا يمكن الإكراه إلا مع إرادة التحصن أما إذا كانت مريدة للزنا فإنه لا يتصور الإكراه.
.
{ فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم } جواب للشرط والصحيح أن التقدير غفور رحيم لهم ليكون جواب الشرط فيه ضمير يعود على من الذي هو اسم الشرط ويكون ذلك مشروطا بالتوبة ولما غفل الزمخشري وابن عطية وأبو البقاء عن هذا الحكم وقدروا فإن الله غفور رحيم لهن أي المكرهات فعريت جملة الشرط من ضمير يعود على اسم الشرط * ومثلا أي قصة غريبة من قصصهم كقصة يوسف ومريم في براءتهما وقال الضحاك المثل ما في التوراة والإنجيل من إقامة الحدود وأنزل في القرآن مثله.
{ وموعظة } أي: ما وعظ به في الآيات والمثل من نحو قوله ولا تأخذكم بها رأفة لولا إذ سمعتموه يعظكم الله أن تعود والمثلة وحض المتقين لأنهم المنتفعون بالموعظة.
{ الله نور السموت والأرض } الآية النور الضوء المدرك بالبصر واسناده إلى الله مجاز كما تقول زيد كرم وإسناده على اعتبارين إما على أنه إسم فاعل أي منور السماوات والأرض وإما على حذف مضاف أي ذو نور ويؤيده قوله: مثل نوره وأضاف النور للسماوات والأرض للدلالة على سعة إشراقه وفشو إضاءته حتى تضيء له السماوات والأرض * المشكاة الكوة غير النافذة، قال الكلبي: وهو حبشي معرب وهو على حذف مضاف أي صفة نوره كنور مشكاة.
{ فيها مصباح } المصباح آلة يستصبح بها كالمفتاح آلة للفتح وقال أبو موسى: المشكاة الحديدة والرصاصة التي يكون فيها الفتيلة في جوف الزجاجة والزجاجة ظرف للمصباح لقوله: المصباح في زجاجة.
{ كأنها } أي كأن الزجاجة لصفاء جوهرها وذاتها وهي أبلغ في الإنارة أو لما احتوت عليه من نور المصباح كأنها:
{ كوكب دري } قرىء: دري بضم الدال وتشديد الياء نسبة إلى الدر لصفائه وقرىء: درىء بهمزة على وزن مريق وقرىء: درىء بكسر الدال والهمز وهما مشتقان من درأ أي دفع كأنهما يدفعان الظلمة، وقرىء: يوفد أي المصباح وتوقد بالتاء أي الزجاجة ونسب الاتقاد إليها لتوقد المصباح.
{ من شجرة } أي من زيت شجرة.
{ مباركة } قيل بارك فيها سبعون نبيا منهم إبراهيم صلى الله عليه وسلم * والزيتون من أعظم الشجر ثمرا ونماء.
{ زيتونة } بدل من شجرة وأجاز الكوفيون والفارسي أن يكون عطف بيان ولا يجيز البصريون ذلك لأنهم شرطوا في عطف البيان أن يكون معرفة لمعرفة.
{ لا شرقية ولا غربية } هي من شجر الشام فليست من شرق الأرض ولا من غربها لأن شجر الشام من أفضل الشجر.
{ يكاد زيتها يضيء } مبالغة في صفاء الزيت وأنه لإشراقه وجودته يكاد يضيء من غير نار والجملة من قوله:
{ ولو لم تمسسه نار } حالية معطوفة على حال محذوفة أي يكاد زيتها يضيء في كل حال ولو في هذه الحال التي تقتضي أنه لا يضيء لانتفاء مس النار له.
{ نور على نور } أي متضاعف تعاون عليه المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت فلم يبق مما يقوي النور ويزيده إشراقا شىء لأن المصباح إذا كان في مكان ضيق كان أجمع لنوره بخلاف المكان الواسع فإنه ينشر النور والقنديل أعون شىء على زيادة النور وكذلك الزيت وصفاءه وهنا تم المثال وما أحسن ما جاء في التركيب في قوله تعالى: { المصباح في زجاجة } حيث ذكر الإصباح مرتين نكرة ومعرفة وكذلك قوله: الزجاجة ذكرها نكرة ومعرفة فدل ذلك على تفخيم هذا التركيب وحسنه ولو كان في غير القرآن لاكتفى بقوله: كمصباح في مشكاة في زجاجة، وهذا التشبيه كله إنما جاء باعتبار ما يتخيله الناس من انتشار هذا النور وإلا فالنور المنسوب إلى الله أعظم من كل نور يتخيل ولقد أحسن أبو تمام في قوله: وقد مدح ملكا فشبهه بعمر وفي إقدامه وحاتم في كرمه وأحنف في حلمه وإياس في ذكائه، فقال:
اقدام عمر وفي سماحة حاتم
في حلم أحنف في ذكاء إياس
فقيل له: شبهت ذلك الملك باجلاف من العرب فقال مرتجلا:
لا تنكروا ضربي له من دونه
مثلا شردوا في الندى والياس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
مثلا من المشكاة والنبراس
والنبراس المصباح ثم قال:
{ يهدي الله لنوره } أي يهدي من يشاء هدايته ويصطفيه لها ثم ذكر تعالى أنه يضرب الأمثال ليقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الإيمان.
{ في بيوت } الظاهر أن يتعلق في بيوت بقوله: يسبح وان ارتباط هذه بما قبلها هو أنه تعالى لما ذكر أنه يهدي لنوره من يشاء ذكر حال من حصلت له الهداية لذلك النور وهم المؤمنون ثم ذكر أشرف عباداتهم القلبية وهو تنزيههم الله تعالى عن النقائص وإظهار ذلك بالتلفظ به في مساجد الجماعات ثم ذكر سائر أوصافهم من التزام ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وخوفهم ما يكون في البعث ولذلك جاء مقابل المؤمنين وهم الكفار في قوله: والذين كفروا وكأنه لما ذكرت الهداية للنور جاء التقسيم لقابل الهداية وعدم قابلها فبدىء بالمؤمن وما تأثر به من أنواع الهدى ثم ذكر الكافرين وقرىء: يسبح بكسر الباء ورجال فاعل، وقرىء: بفتح الباء ورجال فاعل بفعل محذوف ولما قال: يسبح له، قيل: من يسبحه فقيل: رجال وحذف لدلالة يسبح عليه وفيها بدل من قوله: في بيوت ثم ذكر تعالى وصف المسبحين بأنهم لمراقبتهم أمر الله تعالى وطلبهم رضاه لا يشتغلون عن ذكر الله * واحتمل قوله لا تلهيهم وجهين أحدهما أنهم لا تجارة لهم تلهيهم عن ذكر الله كقوله: على لا حب لا يهتدي بمناره أي لا منار له فيهتدي به والثاني أنهم ذوو تجارة وبيع ولكن لا يشغلهم ذلك عن ذكر الله وعما فرض عليهم * واللام في ليجزيهم متعلقة بمحذوف تقديره فعلوا ذلك ليجزيهم * أحسن هو على حذف مضاف أي ثواب أحسن ما عملوا وما في ما عملوا يحتمل أن تكون موصولة بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره عملوه واحتمل أن تكون مصدرية أي أحسن عملهم.
{ والذين كفروا أعمالهم كسراب } الآية لما ذكر تعالى حال المؤمنين ذكر حال الكافرين فمثل لهم ولأعمالهم مثلين أحدهما بطلان أعمالهم في الآخرة وأنهم لا ينتفعون بها والثاني يقتضي حالها في الدنيا من ارتباكها في الضلال والظلمة شبه أعمالهم أولا في اضمحلالها وفقدان ثمرتها بسراب في مكان منخفض ظنه العطشان ماء فقصده وأتعب نفسه في الوصول إليه.
{ حتى إذا جآءه } أي جاء موضعه الذي تخيله فيه.
{ لم يجده شيئا } أي فقده لأنه مع الدنو لا يرى شيئا كذلك الكافر يظن أن عمله في الدنيا نافعه حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم ينفعه عمله بل صار وبالا عليه * والقيعة المكان المنخفض من الأرض وجمعها قيعان * والظمآن العطشان * والسراب الضباب المنعقد كأنه سحاب وهو لا حقيقة له والظاهر أنه تعالى شبه أعمالهم في عدم انتفاعهم بها بسراب صفة كذا وأن الضمائر فيما بعد الظمآن له والمعنى في:
{ ووجد الله عنده } أي ووجد مقدور الله عليه في هلاكه بالظمأ عنده أي عند موضع السراب.
{ فوفاه } ما كتب له من ذلك وهو المحسوب له والله تعالى معجل حسابه لا يؤخره عنه فيكون الكلام متناسقا آخذا بعضه بعنق بعض وذلك باتصال الضمائر لشىء واحد ويكون هذا التشبيه مطابقا لأعمالهم من حيث أنهم اعتقدوها نافعة فلم ينفعه وحصل لهم الهلاك باثر ما حوسبوا.
{ أو كظلمات } هذا التشبيه الثاني لأعمالهم والأول فيما تؤول إليه أعمالهم في الآخرة وهذا الثاني فيما هم عليه في حال الدنيا وبدأ بالتشبيه الأول لأنه آكد في الاخبار لما فيه من ذكر ما يؤول إليه أمرهم من العقاب الدائم والعذاب السرمد أتبعه بهذا التمثيل الذي نبههم على ما هي أعمالهم.
{ لعلهم يرجعون } إلى الإيمان ويتفكرون في نور الله تعالى الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وقرىء:
{ سحاب ظلمات } على الإضافة وسحاب منونا ظلمات مجرور بدلا من ظلمات المتقدمة ويكون بعضها فوق بعض مبتدأ وخبر في موضع الصفة بظلمات وقرىء: سحاب منونا ظلمات منونا بدل من قوله سحاب * والضمير في يده عائد على محذوف يدل عليه المعنى تقديره إذا أخرج من استقر في الظلمات يده لم يكد يراها أي: لم يقارب رؤيتها لتكاثف الظلمة وإذا انتفت المقاربة انتفت الرؤية.
{ ألم تر أن الله يسبح له } الآية لما ذكر تعالى المؤمن والكافر وان الإيمان والضلال أمرهما راجع إليه أعقب بذكر الدلائل على قدرته وتوحيده والظاهر حمل التسبيح على حقيقته وتخصيص من في قوله: ومن في الأرض بالمطيع لله من الثقيلين وقيل من عام لكل موجود وغلب من يعقل على ما لا يعقل فادرج ما لا يعقل فيه ولما ذكر انقياد من في السماوات والأرض والطير إليه وذكر ملكه لهذا العالم وصيرورتهم إليه أكد ذلك بشىء عجيب من أفعاله مشعرا بانتقال من حال إلى حال وكان عقب قوله: وإليه المصير، فاعلم بانتقال إلى معاد فعطف عليه ما يدل على تصرفه في نقل الأشياء من حال إلى حال * ومعنى يزجي يسوق قليلا قليلا ويستعمل في سوق الثقيل برفق كالسحاب والإبل والسحاب اسم جنس واحده سحابة والمعنى يسوق سحابة إلى سحابة * ثم يؤلف بينه أي بين أجزائه لأنه سحابة تلحق بسحابة فيجعل ذلك ملتئما بتأليف بعضه إلى بعض * فيجعله ركاما أي متكاثفا يجعل بعضه على بعض.
[24.43-64]
{ فترى الودق } أي المطر لتراكم السحاب بعضه على بعض وانعصاره بذلك.
{ من خلاله } أي من فتوقه ومخارجه التي حدثت بالتراكم والانعصار * والخلال قيل مفرد وقيل جمع خلل كجبال وجبل والظاهر أن في السماء جبالا من برد قاله مجاهد والكلبي وأكثر المفسرين خلقها الله تعالى كما خلق في الأرض جبالا من حجارة وجبال على معنى الكثرة وقرىء: سنا مقصورا * برقه منفردا، وقرىء: سناء ممدودا برقه بضم الباء وفتح الراء جمع برقة كاللقمة وهي المقدار من البرق.
{ يذهب بالأبصار } الباء للتعدية تقديره يذهب الأبصار.
{ كل دآبة من مآء } والظاهر أن من ماء متعلق بخلق ومن لابتداء الغاية أي ابتدأ خلقها من الماء واندرج في كل دابة المميزة وغيره فسهل التفصيل بمن التي لمن يعقل وما لا يعقل إذ كان مندرجا في العام فحكم له بحكمه كان الدواب كلهم مميزون والماشي على بطنه الحيات والحوت ونحوه من الدود وغيره.
و { على رجلين } الإنسان والطير.
و { على أربع } لسائر الحيوان الأرضي من البهائم وغيرها فإن وجد من له أكثر من أربع فقيل: اعتماده إنما هو على الأربع ولا يفتقر في مشيه إلى جميعها وقدم ما هو أغرب في القدرة وأعجب وهو الماشي بغير آلة مشي من أرجل وقوائم ثم الماشي على رجلين ثم على أربع.
{ ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا } الآية إلى قوله: إلا البلاغ المبين نزلت في المنافقين بسبب منافق اسمه بشر دعاه يهودي في خصومة بينهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا هو إلى كعب بن الأشرف فنزلت * ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد أتبع ذلك بذم قوم آمنوا بألسنتهم دون عقائديهم.
{ ثم يتولى فريق منهم } عن الإيمان بعد ذلك أي بعد قولهم آمنا.
{ ومآ أولئك بالمؤمنين } إشارة إلى القائلين فينتفي عن جميعهم الإيمان أو إلى الفريق المولى فيكون ما سبق لهم من الإيمان ليس إيمانا إنما كان ادعاء باللسان من غير مواطأة بالقلب وأفرد الضمير في ليحكم وقد تقدم قوله إلى الله ورسوله لأن حكم الرسول عن الله تعالى وقسم تعالى جهات توليهم عن حكومته فقال :
{ أفي قلوبهم مرض } أي نفاق وعدم إخلاص.
{ أم ارتابوا } أي عرضت لهم الريبة والشك في نبوته بعد أن كانوا مخلصين.
{ أم يخافون } أي يعرض لهم الخوف من الحين في حكومته فيكون ذلك ظلما لهم ثم استدرك ببل أنهم هم الظالمون.
{ وأقسموا بالله } لما بلغ المنافقين ما أنزل الله فيهم أتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأقسموا إلى آخره أي ليخرجن عن ديارهم ونسائهم وأموالهم أو لئن أمرتهم بالجهاد ليخرجن * وتقدم الكلام في مهد أيمانهم في الانعام ونهاهم تعالى عن قسمهم لعلمه تعالى أنه ليس حقا * وطاعة مبتدأ ومعروفة صفة والخبر محذوف أي أمثل وأولى أو خبر مبتدأ محذوف أي أمرنا والمطلوب طاعة معروفة.
{ فإن تولوا فإنما عليه } أي على الرسول.
{ ما حمل } وهو التبليغ ومكافحة الناس بالرسالة واعمال الجهاد في إنذارهم.
{ وعليكم ما حملتم } وهو السمع والطاعة واتباع الحق ثم علق هدايتهم على طاعته فلا تقع إلا بطاعته.
{ وما على الرسول إلا البلاغ } تقدم الكلام على مثل هذه الجملة في المائدة * والخطاب في منكم للرسول صلى الله عليه وسلم وأتباعه ومن للبيان أي الذين هم أنتم.
{ وعد الله } أن ينصر الإسلام على الكافرين ويورثهم الأرض ويجعلهم خلفاء.
{ كما استخلف الذين من قبلهم } أي بني إسرائيل حين أورثهم مصر والشام بعد هلاك الجبابرة * واللام في ليستخلفنهم جواب قسم محذوف أي وأقسم ليستخلفنهم أو أجرى وعد الله لتحققه مجرى القسم فجووب بما يجاب به القسم وعلى تقدير حذف القسم يكون معمول وعد محذوفا تقديره استخلافكم وتمكين دينكم ودل عليه جواب القسم المحذوف.
{ وليمكنن لهم دينهم } أي يثبته ويوطده بإظهاره وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله.
و { الذي ارتضى } لهم صفة مدح جليلة وقد بلغت هذه الأمة في تمكين هذا الدين الغاية القصوى بما أظهره الله على أيديهم من الفتوح والعلوم التي فاقوا فيها جميع العالم من لدن آدم صلى الله عليه وسلم إلى زمان هذه الملة المحمدية.
{ لا تحسبن } قال صاحب النظم: لا يحتمل أن يكون ومأواهم متصلا بقوله: لا تحسبن ذلك نهي وهذا إيجاب فهو إذن معطوف بالواو على مضمر قبله تقديره لا تحسبن الذين كفروا معجزين في الأرض بل هم مقهورون.
{ ومأوهم النار } " انتهى " واستبعد العطف من حيث أن لا تحسبن نهي ومأواهم جملة خبرية فلم تناسب عنده أن تعطف الجملة الخبرية على جملة النهي لتباينهما وهذا مذهب قوم ولما أحس الزمخشري بهذا قال: كأنه قيل الذين كفروا لا يفوتون الله فتأول جملة النهي بجملة خبرية حتى تقع المناسبة والصحيح أن ذلك لا يشترط بل يجوز عطف الجمل على اختلافها بعضها على بعض وان لم تتحد في النوعية وهو مذهب سيبويه، قال الزمخشري: يكون الأصل لا تحسبنهم الذين كفروا معجزين ثم حذف الضمير الذي هو المفعول الأول وكأن الذي سوغ ذلك أن الفاعل والمفعولين لما كانت كالشىء الواحد اقتنع بذكر اثنين عن ذكر الثالث " انتهى " قد رددنا هذا التخريج في آخر آل عمران في قوله: لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا في قراءة من قرأ بياء الغيبة وجعل الفاعل الذين يفرحون وملخصه أنه ليس هذا من الضمائر التي يفسرها ما بعدها فلا يتقدر لا تحسبنهم إذ لا يجوز ظنه زيد قائما على تقدير رفع زيد بظنه.
{ يأيها الذين ءامنوا ليستأذنكم } الآية روي أن عمر بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم غلاما من الأنصار يقال له مدلج وكان نائما فدق عليه الباب ودخل فاستيقظ وجلس فانكشف منه شىء فقال عمر وددت أن الله تعالى نهى أبناءنا ونساءنا عن الدخول علينا في هذه الساعة إلا بإذن ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد هذه الآية قد نزلت فخر ساجدا لله * وليستأذنكم أمر والظاهر حمله على الوجوب وقيل على الندب والظاهر عموم الذين ملكت أيمانكم في العبيد والإماء * والظاهر من قوله: ثلاث مرات ثلاث استئذانات ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:
" الاستئذان ثلاث ".
{ من قبل صلوة الفجر } لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ما ينام فيه من الثياب ولبس ثياب اليقظة وقد ينكشف النائم.
{ وحين تضعون ثيبكم من الظهيرة } لأنه وقت وضع الثياب للقائلة لأن النهار إذ ذاك يشتد حره في ذلك الوقت.
{ ومن بعد صلوة العشآء } لأنه وقت التجرد من ثياب اليقظة والإلتحاف بثياب النوم.
{ ثلاث عورات لكم } سمي كل واحدة منها عورة لأن الناس يختل تسترهم وتحفظهم فيها والعورة الخلل ومنه أعور الفارس وأعور المكان والأعور المختل العين وقرىء: ثلاث بالرفع أي تلك وقرىء: بالنصب وقرأ الأعمش عورات بفتح الواو وهي لغة تميم وهذيل بن مدركة.
{ طوفون عليكم } أي يمضون ويجيئون وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هم طوافون أي المماليك والصغار طوافون عليكم يدخلون عليكم في المنازل غدوة وعشية بغير إذن إلا في تلك الأوقات.
{ كذلك } الإشارة إلى ما تقدم ذكره من استئذان المماليك وغير البلغ * ولما أمر تعالى النساء بالتحفظ من الرجال والأطفال غير البلغ في الأوقات التي هي مظنة كشف عورتهن استثنى القواعد من النساء اللاتي كبرن وقعدن عن الميل إليهن والافتتان بهن فقال: والقواعد وهو جمع قاعد من صفات الإناث وقال ابن السكيت: امرأة قاعد قعدت عن الحيض وقال ابن قتيبة: سمين بذلك لأنهن بعد الكبر يكثرن القعود.
{ ليس على الأعمى حرج } عن ابن عباس: لما نزلت لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، تحرج المسلمون عن مواكلة الأعمى لأنه لا يبصر موضع الطعام الطيب والأعرج لأنه لا يستطيع المزاحمة على الطعام والمريض لأنه لا يستطيع استيفاء الطعام فأنزل الله تعالى هذه الآية، قيل: وتحرجوا عن أكل طعام القرابات فنزلت مبيحة جميع هذه المطاعم ومبينة أن تلك في التعدي والقمار وما يأكله المؤمن من مال من يكره أهله.
{ أو ما ملكتم مفاتحه } قيل ألزمني ملكوا التصرف في البيوت التي سلمت إليهم مفاتيحها وقيل ولي اليتيم يتناول من ماله بقدر ما قال تعالى ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف ومفاتحه بيده.
{ أو صديقكم } قرن الله تعالى الصديق آكد من القرابة ألا ترى استغاثة الجهنميين فما لنا من شافعين ولا صديق حميم ولم يستغيثوا بالآباء والأمهات * وانتصب جميعا وأشتاتا على الحال أي مجتمعين أو متفرقين.
{ فسلموا على أنفسكم } قال ابن عباس: المساجد فسلموا على من فيها فإن لم يكن فيها أحد قال السلام على رسول الله وقيل يقول السلام عليكم يعني الملائكة ثم يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين وقيل: إذا دخلتم بيوتا من هذه البيوت لتأكلوا فيها فابدؤا بالسلام على أهلها الذين هم منكم دينا وقرابة.
{ تحية من عند الله } أي ثابتة بأمره مشروعة من لدنه * وانتصب تحية لقوله: فسلموا لأن معناه فحيوا كقولك: قعدت جلوسا.
{ إنما المؤمنون الذين آمنوا } الآية، لما افتتح السورة بقوله: سورة أنزلناها وذكر أنواعا من الأوامر والحدود مما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم اختتمها بما يجب له صلى الله عليه وسلم على أمته من التابع والتشايع على ما فيه مصلحة الإسلام ومن طلب استئذانه أن عرض لأحد منهم عارض ومن توقيره في دعائهم إياه والمؤمنون مبتدأ والموصول خبره وهو قوله: الذين آمنوا، ومعنى على أمرها مع نحو مقاتلة عدو وتشاور في أمر مهم أو نضام لإرهاب مخالف يحتاج فيه إلى اجتماع ذوي الآراء فإذا ذاك لا يحل ذهاب أحد ممن يحتاج إليه إلا بعد استئذان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولذلك غيا الذهاب بقوله حتى يستأذنوه ثم أكد الاستئذان بقوله: إن الذين يستأذنوك بلفظ ان وبالإشارة في قوله أولئك وبالخبر بعده * ثم أمره تعالى بأن يأذن لمن يستأذن لبعض شأنه وأمره باستغفار الله له على طاعته باستئذانه.
{ لا تجعلوا } خطاب لمعاصري رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان التداعي بالأسماء على عادة البداوة أمروا بتوقير الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يدعوه بأحسن ما يدعى به نحو يا رسول الله يا نبي الله ألا ترى إلى بعض جفاة من أسلم كان يقول يا محمد وفي قوله: كدعاء بعضكم بعضا إشارة إلى جواز ذلك مع بعضهم لبعض إذ لم يؤمر بالتوقير والتعظيم في دعائه صلى الله عليه وسلم إلا من دعاه لا من دعا غيره وكانوا يقولون يا أبا القاسم يا محمد فنهوا عن ذلك ومعنى:
{ يتسللون } ينصرفون قليلا قليلا عن الجماعة في خفيه.
و { لواذا } يلوذ بعضهم ببعض هذا بذاك بحيث يدور معه حيث دار استتارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو إذا صحت الواو فيه وان كان قبلها كسرة لصحتها في الفعل في قولهم لاوذ بخلاف قام قياما فإنها اعتلت في الفعل فاعتلت في مصدره وقيل في حفر الخندق ينصرف المنافقون بغير إذن ويستأذن المؤمنون إذا عرضت لهم حاجة وخالف يتعدى بنفسه يقول: خالفت أمر زيد وبإلى تقول خالفت إلى كذا فقوله: عن أمر ضمن خالف معنى صد وأعرض فعداه بعن والضمير في أمره عائد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهر الأمر الوجوب ولذلك جعل في المخالفة إصابة الفتنة أو إصابة العذاب.
{ قد يعلم مآ أنتم عليه } أي من مخالفة أمر الله وأمر رسوله وفيه تهديد ووعيد وأتى بالمضارع وهو يعلم كناية عن المجازاة والظاهر أن الخطاب في أنتم للمنافقين ولغيرهم وما عامة في الأعمال التي يعملها المكلفون.
{ ويوم يرجعون إليه } ويوم معطوف على ما أي علم الذين أنتم عليه.
{ فينبئهم بما عملوا } فتعلق علمه بالأمرين حالا وهو ما أنتم عليه ومآلا وهو يوم يرجعون إليه والتفت من ضمير الخطاب في أنتم إلى ضمير الغيبة في يرجعون.
[25 - سورة الفرقان]
[25.1-24]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا } هذه السورة مكية في قول الجمهور وقال ابن عباس وقتادة: إلا ثلاث آيات نزلت بالمدينة وهي والذين لا يدعون مع الله إلى قوله: وكان الله غفورا رحيما * ومناسبة هذه لما قبلها أنه تعالى لما ذكر من تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الاستئذان وتوقيره عليه الصلاة والسلام في أن لا يكون دعاؤهم له عليه الصلاة والسلام كدعاء بعضهم بعضا بل بالإجلال والتعظيم والتوقير وربت على مخالفة أمره إصابة الفتنة أو العذاب ناسب افتتاح هذه السورة بتعظيمه عليه الصلاة والسلام بنسبته إليه وإنزاله القرآن عليه وجعله نذيرا للعالمين كلهم وناسب قوله: لله ما في السماوات والأرض، وتنزيهه تعالى عن الولد والشريك * والضمير في ليكون عائد على عبده لأنه أقرب مذكور والفرقان القرآن.
{ وخلق كل شيء } عام في الخلق.
{ فقدره تقديرا } تقدير الأشياء هو حدها بالأمكنة والأزمان والمقادير والمصلحة والإتقان والضمير في واتخذوا عائد على ما يفهم من سياق الكلام لأن في قوله: ولم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك دلالة على ذلك إذ لم ينتف إلا وقد قيل به ويندرج في واتخذوا كل من ادعى إلها غير الله ولا يختص بذلك عباد الأوثان ولا عباد الكواكب.
{ وقال الذين كفروا } قال ابن عباس: هو النضر بن الحارث وأتباعه والإفك أسوأ الكذب.
{ وأعانه عليه قوم آخرون } قال: مجاهد قوم من اليهود ألقوا أخبار الأمم إليه وقيل عداس مولى حويطب بن عبد العزى ويسار مولى العلاء بن الحضرمي وجبر مولى عامر وكانوا كتابيين يقرؤن التوراة أسلموا وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يتعهدهم والظاهر أن الضمير في فقد جاؤوا عائد على الذين كفروا والمعنى أن هؤلاء الكفار وردوا ظلما كما تقول: جئت المكان فيكن جاء متعديا بنفسه ويجوز أن يحذف الجار أي جاؤوا بظلم وزور ويصل الفعل بنفسه.
{ اكتتبها } أي جمعها من قولهم كتب الشىء أي جمعه أو من الكتابة أي كتبها بيده فيكون ذلك من جملة كذبهم عليه وهم يعلمون أنه لا يكتب شيئا.
و { أساطير } خبر مبتدأ محذوف أي هو وهذه أساطير واكتتبها خبر ثاني وأساطير تقدم الكلام عليه قال الزمخشري: قرأ طلحة اكتتبها مبنيا للمفعول والمعنى: اكتتبها كاتب له لأنه أمي لا يكتب بيده وذلك من تمام إعجازه ثم حذفت اللام فأفضى الفعل إلى الضمير فصار اكتتبها إياه كاتب كقوله: واختار موسى قومه ثم بنى الفعل للضمير الذي هداياه فانقلب مرفوعا مستترا بعد أن كان بارزا منصوبا وبقي ضمير الأساطير على حاله فصار اكتتبها كما ترى انتهى لا يصح ذلك على مذهب جمهور البصريين لأن اكتتبها له كاتب وصل فيه اكتتب لمفعولين أحدهما مسرح وهو ضمير الأساطير والآخر مقيد وهو ضميره عليه الصلاة والسلام ثم اتسع في الفعل فحذف حرف الجر فصار اكتتبها إياه كاتب فإذا بني هذا للمفعول إنما ينوب عن المفعول لمسرح لفظا وتقدير إلا المسرح لفظا المقيد تقديرا فعلى هذا كان يكون التركيب اكتتبه لا اكتتبها وعلى هذا الذي قلناه جاء السماع من العرب في هذا النوع الذي أخذ المفعولين فيه مسرح لفظا وتقديرا والآخر مسرح لفظا لا تقديرا قال الفرزدق:
ومنا الذي اختير الرجال سماحة
وجود إذا هب الرياح الزعازع
ولو جاء على ما قرره الزمخشري لجاء التركيب ومنا الذي اختيره الرجال لأن اختار تعدى إلى الرجال على إسقاط حرف الجر إذ تقديره اختر من الرجال.
{ قل أنزله الذي يعلم السر } أي كل سر خفي ورد عليهم بهذا وهو وصفه تعالى بالعلم لأن هذا القرآن لم يكن ليصدر إلا من عالم بكل المعلومات.
{ وقالوا مال هذا الرسول } الضمير لكفار قريش وكانوا قد جمعهم والرسول مجلس مشهور ذكره ابن إسحاق في السير فقالوا عتبة وغيره ان كنت تحب الرئاسة وليناك علينا أو المال جمعنا لك فلما أبى عليهم اجتمعوا عليه فقالوا مالك وأنت رسول من الله تأكل الطعام وتقف بالأسواق لالتماس الرزق سل ربك أن ينزل معك أو يلقي إليك كنزا تنفق منه أو يرد لك جبال مكة ذهبا وتزال الجبال ويكون مكانها جنات تطرد فيها المياه وأشاعوا هذه المحاجة فنزلت وهذا استفهام يصحبه استهزاء.
{ انظر كيف ضربوا لك الأمثال } بالمسحور والكاهن والشاعر وغيره.
{ فضلوا } أي أخطؤوا الطريق فلا يجدون سبيل هداية ولا يطيقونه لالتباسهم والإشارة بذلك الظاهر أنه إلى ما ذكره الكفار من الكنز والجنة في الدنيا والظاهر أن هذا الجعل كان يكون في الدنيا لو شاء الله وقيل في الآخرة.
{ ويجعل لك } قرىء: بجزم اللام معطوفا على قوله جعل لأنه في موضع جزم على جواب الشرط وقرىء بالرفع على الاستئناف أي وهو يجعل لك * قال الزمخشري: وقرىء: ويجعل بالرفع عطفا على جعل إذ الشرط إذ أوقع ماضيا جاز في جوابه الجزم والرفع كقوله:
وإن أتاه خليل يوم مسئلة
يقول لا غائب مالي ولا حرم
انتهى هذا الذي ذهب إليه الزمخشري ليس مذهب سيبويه وفي المسئلة خلاف ذكر في النحو.
{ وأعتدنا } جعلنا معدا.
{ لمن كذب بالساعة } عام في هؤلاء المكذبين وغيرهم.
{ سعيرا } نارا كثيرة الإيقاد.
{ إذا رأتهم } أي صارت منهم بقدر ما يرى الرائي من البعد كقولهم: دورهم تتراءى أي تتناظر وتتقابل ومنه لا تتراءى نارا هما وقيل هو على حذف مضاف أي إذا رأتهم خزنتها.
{ من مكان بعيد سمعوا لها } صوت تغيظ لأن التعيظ لا يسمع وإذا كان على حذف مضاف كان لمعنى تغيظ الزبانية وزفروا على الكفار غضبا وشهوة للإنتقام منهم وقيل سمعوا صوت لهيبها واشتعالها وانتصب مكانا على الظرف أي في مكان ضيق وعن ابن عباس يضيق عليهم الزج في الرمح.
{ مقرنين } قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل وقيل بقرن مع كل كافر شيطانه في سلسلة وفي أرجلهم الاصفاد.
{ هنالك } ظرف مكان أشير به لقوله: مكانا ضيقا والظاهر دعاء الثبور وهو الهلاك فيقولون واثبوراه.
{ لا تدعوا اليوم } يقال لهم لا تدعوا أوهم أحق أن يقال لهم ذلك وإن لم يكن هناك قول أي لا تقتصروا على حزن واحد بل احزنوا حزنا كثيرا وكثرته اما لديمومة العذاب فهو متجدد دائما واما لأنه أنواع وكل نوع منه يكون ثبورا لشدته وفظاعته والظاهر أن الإشارة بذلك إلى النار وأحوال أهلها وخير هنا ليست تدل على الأفضلية بل هي على ما جرت عادة العرب من بيان فضل الشىء وخصوصيته بالفضل مقابلة كقوله: فشركما لخير كما الفداء * وهذا الاستفهام على سبيل التوقيف والتوبيخ * قال ابن عطية: ومن حيث كان الكلام استفهاما جاز فيه مجيء لفظة التفضيل بين الجنة والنار في الحيز لأن الموقف جائز له أن يوقف محاوره على ما يشاء ليرى هل يجيبه بالصواب أم بالخطأ وإنما منع سيبويه وغيره من التفضيل بين شيئين لاشترك بينهما في المعنى الذي فيه تفضيل إذا كان الكلام خبرا لأن فيه مخالفة وأما إذا كان استفهاما فذلك سائغ انتهى ما ذكره يخالفه قوله: فشركما لخيركما الفداء وقوله:
رب السجن أحب إلي
[يوسف : 33] فإن هذا خبر وكذلك قولهم: العسل أحلى من الخل إلا أن يقيد الخبر بأنه إذا كان واضح الحكم فيه للسامع بحيث لا يختلج في ذهنه ولا يتردد أيهما أفضل فإنه يجوز.
{ وعدا } أي موعودا.
{ مسئولا } سألته الملائكة في قولهم:
ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم
[غافر: 8].
{ ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله } الآية، قرىء: نحشرهم وفنقول بالنون والياء فيهما * قال ابن عطية: وقرأ الأعرج نحشرهم بكسر الشين وهي قليلة في الاستعمال قوية في القياس لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعل بضم العين " انتهى " هذا ليس كما ذكر بل فعل المتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة ولا حلقي عين ولا لام فإنه جاء على يفعل ويفعل كثيرا فإن شهر أحد الاستعمالين اتبع وإلا فالخيار حتى أن بعض أصحابنا خير فيهما سمعا للكلمة أولم يسمعا * وقال الجمهور: من عبد من يعقل ممن لم يأمر بعبادته كالملائكة وعيسى وعزير وهو الأظهر: لقوله:
{ أأنتم أضللتم عبادي } وما بعده من المحاورات التي ظاهرها أنها لا تصدر إلا من العقلاء جاء ما يشبه ذلك خصوصا وفي قوله:
ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون
[سبأ: 40]، و
أأنت قلت للناس اتخذوني
[المائدة: 116] وسؤاله تعالى وهو عالم بالمسؤول عنه ليجيبوا بما أجابوا به فيبكت عبدتهم بتكذيبهم إياهم فتزيد حسرتهم وجاء الاستفهام مقدما فيه الاسم على الفعل ولم يأت التركيب أضللتم ولا أم ضلوا لأن كلا من الضلال والإضلال واقع والسؤال إنما هو عن فاعله وتقدم نظير هذا في قوله:
أأنت فعلت هذا بآلهتنا
[الأنبياء: 62].
و { سبحانك } تنزيه لله تعالى أن يشرك معه في العبادة أحد أو يفرد بعبادة.
{ من أوليآء } مفعول على زيادة من وحسن زيادتها انسحاب النفي على أن يتخذ لأنه معمول لينبغي وإذا انتفى الابتغاء لزم منه انتفاء متعلقة وهو اتخاذ ولي من دون الله ولما تضمن قولهم: ما كان ينبغي لنا انا لم نضللهم ولم نحملهم على الامتناع من الإيمان صلح أن يستدرك بلكن والمعنى لكن أكثرت عليهم وعلى آبائهم النعمة وأطلت أعمارهم وكان يجب عليهم شكرها والإيمان بما جاءت به الرسل عليهم الصلاة والسلام فكان ذلك سببا للإعراض عن ذكر الله تعالى.
{ بورا } البور مصدر يوصف به الواحد والجمع وقيل جمع بائر كعائد وعود وقيل فسدي وهو لغة الأزد يقولون أمر بائر أي فاسد وبارت البضاعة فسدت ومنه قولهم أرض بوار أي متعطلة لا نبات فيها.
{ فقد كذبوكم } هذا من قول الله تعالى بلا خلاف وهي مفاجأة بالاحتجاج والإلزام والخطاب للمعبودين من العقلاء عيسى والملائكة وعزير وهو الظاهر لتناسق الخطاب مع قوله: أنتم أضللتم أي كذبكم المعبودون.
{ بما تقولون } أي بقولهم انكم أضللتموهم وزعمهم أنكم أولياؤهم من دون الله تعالى.
{ فما تستطيعون صرفا } لأنفسهم عما هم عليه وما يستطيعون صرفكم عن الحق الذي أنتم عليه.
{ ولا نصرا } لأنفسهم من البلاء الذي استوجبوه بتكذيبهم.
{ ومن يظلم } الظاهر أنه عام والظلم هنا الشرك ومفعول أرسلنا محذوف تقديره رسولا من المرسلين والجملة بعد إلا في موضع الحال ولما تقدم طعنهم على الرسول عليه الصلاة والسلام بأكل الطعام والمشي في الأسواق أخبر تعالى أن هذه عادة مستمرة في كل رسله عليهم السلام.
{ وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } هو عام للمؤمن والكافر فالصحيح فتنة للمريض والغني فتنة للفقير والفقير الشاكر فتنة للغني والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس الكفار في عصره وكذلك العلماء وحكام العدل وقد تلا ابن القاسم هذه الآية حين رأى أشهب والتوقيف ب
{ أتصبرون } خاص للمؤمنين المحقين فهو لأمة محمد عليه الصلاة والسلام كأنه جعل إمهال الكفار فتنة للمؤمنين أي اختبارا ثم وقفهم هل تبصرون أم لا ثم أعرب قوله:
{ وكان ربك بصيرا } عن الوعد للصابرين والوعيد للعاصين.
{ وقال الذين لا يرجون لقآءنا } الآية لا يرجون أي لا يخافون.
{ لولا أنزل علينا الملائكة } فتخبرنا أنك رسول حقا.
{ أو نرى ربنا } فيخبرنا بذلك وهذا كله على سبيل التعنت وإلا فما جاءهم به من المعجزات كاف لو وفقوا.
و { لقد استكبروا } أي تكبروا.
{ في أنفسهم } أي عظموا أنفسهم بسؤال رؤية الله تعالى وهم ليسوا بأهل لها واللام في لقد جواب قسم محذوف.
و { وعتوا } تجاوزوا الحد في الظلم ووصف بكبيرا مبالغة في إفراطه أي لم يجسروا على هذا القول إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار وأقصى العتو وجاء هنا عتوا على الأصل وفي مريم عتيا على استثقال اجتماع الواوين والقلب لمناسبة الفواصل قال ابن عباس: عتوا كفروا أشد الكفر وأفحشوا.
{ يوم يرون الملائكة } يوم منصوب باذكر وهو أقرب أو بفعل يدل عليه.
{ لا بشرى يومئذ للمجرمين } أي يمنعون البشرى ولا يعمل فيه لا بشرى لأنه مصدر ولأنه منفي بلا التي لنفي الجنس لأنه لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ودخول لا على بشرى لانتفاء أنواع البشرى وهذا اليوم الظاهر أنه يوم القيامة لقوله: بعد وقدمنا إلى ما عملوا من عمل، والظاهر عموم المجرمين فيندرج هؤلاء القائلون فيهم والظاهر أن الضمير في ويقولون عائد على القائلين لأنهم المحدث عنهم كأنهم يطلبون نزول الملائكة ثم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم وفزعوا منهم لأنهم لا يلقونهم إلا بما يكرهون فقالوا عند رؤيتهم ما كانوا يقولون عند لقاء العدو ونزول الشدة.
{ حجرا محجورا } عوذا يستعيذون من الملائكة وقال أبو عبيدة: هاتان اللفظتان عوذة للعرب يقولها من خاف آخر في الحرم أو في شهر حرام إذا لقيه وبينهما ترة.
{ وقدمنآ إلى ما عملوا من عمل } القدوم الحقيقي مستحيل في حق الله تعالى فهو عبارة عن حكمه بذلك وإنفاذه قيل أو على حذف مضاف أي قدمت ملائكتنا أسند ذلك إليه لأنه عن أمره وحسنت لفظة قدمنا لأن القادم على شىء مكروه لم يقرره ولا أمر به مغير له ومذهب ومثلت حال هؤلاء وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم وإغاثة ملهوف وقرىء: ضيف ومن على أسير وغير ذلك من مكارمهم بحال قوم خالفوا سلطانهم فقصد إلى ما تحت أيديهم فمزقها بحيث لم يترك لها أثرا وفي أمثالهم أقل من الهباء ومنثورا صفة للهباء شبه بالهباء لقلته وأنه لا ينتفع به ثم وصفه بمنثورا لأن الهباء تراه منتظما مع الضوء فإذا حركته الريح رأيته قد تناثر وذهب.
{ خير مستقرا } المستقر مكان الاستقرار في أكثر الأوقات والمقيل المكان الذي يأوون إليه في الاسترواح إلى الأزواج والتمتع ولا نوم في الجنة فسمي مكان استرواحهم إلى الحور.
{ مقيلا } على طريق التشبيه إذ المكان المتخير للقيلولة يكون أطيب المواضع وفي لفظ أحسن رمز إلى ما يتزين به مقيلهم من حسن الوجوه وملاحة الصور إلى غير ذلك من التحاسين.
[25.25-77]
{ ويوم تشقق السمآء بالغمام } الظاهر أن السماء هي المظلة لنا والباء باء الحال أي متغيمة أو باء السبب أي بسبب طلوع الغمام منه كان الذي ينشق به السماء كما تقول شق السنام بالشفرة.
{ ونزل الملائكة } أي: إلى الأرض لوقوع الجزاء والحساب والحق صفة للملك أي الثابت لأن كل ملك يومئذ يبطل ولا يبقى إلا ملكه * وخبر
{ الملك يومئذ } وللرحمن متعلق بالحق أو للبيان أي أعني للرحمن وعسر ذلك اليوم على الكافرين بدخولهم النار وما في خلال ذلك من المخاوف ودل قوله على الكافرين على تيسيره على المؤمنين ففي الحديث
" أنه يهون حتى يكون على المؤمن أخف عليه من صلاة مكتوبة صلاها في الدنيا ".
{ ويوم يعض الظالم على يديه } قيل سبب نزولها هو عقبة وأبى وقيل كان عقبة خليلا لأمية فأسلم عقبة فقال أمية: وجهي من وجهك حرام ان بايعت محمدا فكفر وارتد لرضا أمية فنزلت وذكر من إساءة عقبة إلى الرسول ما كان سبب أن قال له الرسول عليه الصلاة والسلام: لا ألقاك خارجا من مكة إلا علوت رأسك بالسيف فقتل عقبة يوم بدر صبرا أمر عليا فضرب عنقه وقتل أبي بن خلف يوم أحد في المبارزة والمقصود ذكر هول يوم القيامة بتندم الظالم وتمنيه أنه لم يكن أطاع خليله الذي كان يأمره بالظلم وما من ظالم إلا وله في الغالب خليل خاص به يعبر عنه بفلان وفلان كناية عن اسم علي لمن يعقل كما ان فل كناية عن نكرة من يعقل تقول يا فل معناه يا رجل والظاهر أن الظالم بعض يديه فعل النادم المتفجع والذكر ذكر الله أو القرآن أو الموعظة والظاهر حمل الشيطان على ظاهره لأنه هو الذي وسوس إليه في مخالة من أصله أو يريد خليله الذي أضله سماه شيطانا لأنه أضل كما أضل الشيطان ثم خذله ولم ينفعه في العاقبة والظاهر أن هذه الجملة من تمام كلام الظالم والظاهر أن دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه واخباره بهجر قومه قريش القرآن هو مما جرى له في الدنيا بدليل إقباله عليه مسليا ومواسيا بقوله: وكذلك جعلنا وأنه هو الكافي في هدايته ونصره فهو وعد منه بالنصر وهذا القول من الرسول وشكايته فيه تخويف لقومه والظاهر أن مهجورا بمعنى متروكا من الإيمان به مبعدا مقصيا في الهجر * وانتصب هاديا ونصيرا على التمييز وقالوا: أي الكفار على سبيل الاقتراح والاعتراض الدال على نفورهم عن الحق قال الزمخشري: نزل ها هنا بمعنى: أنزل لا غير كخبر بمعنى أخبر وإلا كان متدافعا " انتهى ". وإنما قال: ان نزل بمعنى أنزل لأن نزل عنده أصلها أن تكون للتفريق، فلو أقره على أصله عنده من الدلالة على التفريق تدافع هو وقوله جملة واحدة وقد قررنا أن نزل لا يقتضي التفريق لأن التضعيف فيه عندنا مرادف للهمزة وقد بينا ذلك في أول آل عمران وقائل ذلك كفار قريش قالوا: لو كان هذا من عند الله لنزل جملة واحدة كما نزلت التوراة والإنجيل وقيل قائلو ذلك اليهود * والكاف في:
{ كذلك } للتشبيه وذلك إشارة إلى تنزيله مفرقا.
{ لنثبت } متعلق بنزلناه المحذوفة.
{ ورتلناه } أي فصلناه.
{ ولا يأتونك بمثل } يضرونه على جهة المعارضة منهم كتمثيلهم في هذه بالتوراة والإنجيل إلا جاء القرآن بالحق في ذلك ثم هو أوضح بيانا وتفصيلا.
{ الذين يحشرون على وجوههم } الظاهر أنهم لما اعترضوا في حديث القرآن وإنزاله مفرقا كان في ضمن كلامهم أنهم ذوو رشد وخير وانهم على طريق مستقيم ولذلك اعترضوا فأخبر تعالى بحالهم وما يؤول إليه أمرهم في الآخرة بكونهم شر مكانا وأضل سبيلا والظاهر أنه يحشر الكافر على وجهه بأن يسحب على وجهه وفي الحديث
" ان الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم "
وقيل هو مجاز للذلة المفرطة والهوان والخزي واعربوا الذين مبتدأ والجملة من أولئك في موضع الخبر ويجوز عندي أن يكون الذين خبر مبتدأ محذوف لما تقدم ذكر الكافرين وما قالوا: قال ابعادا لهم وتسميعا بما يؤول إليه حالهم: هم الذين يحشرون ثم استأنف اخبارا آخر عنهم فقال أولئك شر مكانا.
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } الآية لما تقدم تكذيب قريش والكفار لما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر تعالى ما فيه تسلية له عليه الصلاة والسلام وإرهاب للمكذبين وتذكير أن يصيبهم ما أصاب الأمم السالفة لما كذبوا رسلهم فناسب أولا أن ذكر من نزل عليه كتابه جملة واحدة ومع ذلك كفروا وكذبوا به فكذلك هؤلاء لو نزل عليه القرآن جملة واحدة لكفروا وكذبوا كما كذب قوم موسى * والكتاب هنا التوراة * وهارون بدل أو عطف بيان * ووزيرا مفعول ثان لجعلناه والمذهوب إليهم القبط وفرعون وفي الكلام حذف تقديره ذهبا وأديا الرسالة فكذبوهما فدمرناهم والتدمير أشد الإهلاك.
{ وقوم نوح } وهو منصوب بإضمار فعل تقديره وأهلكنا قوم نوح أو معطوف على ضمير النصب في دمرناهم وأجازوا أن يكون منصوبا على الاشتغال أي وأغرقنا قوم نوح وهو قد يجوز لأن لما ان كانت ظرفا كما زعم بعضهم بمعنى حين فالجملة بعدها في موضع جر والناصب للما أغرقناهم وإن كانت حرف وجوب لوجوب وهو الصحيح كان أغرقناهم جوابا للما وهو لا يجوز أن يفسر وذلك إشارة إلى أولئك المتقدمي فلذلك حسن دخول بين عليه من غير أن يعطف عليه شىء كأنه يقل بين المذكورين وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة ثم يشير إليها بذلك * وانتصب كلا الأول على الاشتغال أي وأنذرنا كلا أو حذرنا كلا والثاني على أنه مفعول بتبرنا لأنه لم يأخذ مفعولا ومعنى ضرب الأمثال أي بين لهم القصص العجيبة من قصص الأولين ووصفنا لهم ما أدى إليه تكذيبهم بأنبيائهم من عذاب الله تعالى وتدميره إياهم والضمير في ولقد أتوا لقريش كانوا يمرون على سدوم من قرى لوط عليه السلام وتقدم الكلام عليها * ومطر السوء الحجارة التي أمطرت عليهم من السماء فهلكوا.
{ أفلم يكونوا يرونها } فيعتبروا بما جرى لأهلها ثم أضرب ببل والمعنى أنهم حملهم على عدم الاعتبار كونهم لا يؤمنون بالبعث وهو النشور.
{ وإذا رأوك } تقدم الكلام على نظير هذه الجملة في الأنبياء وبعث صلة للذي وضميره محذوف ورسولا منصوب على الحال.
{ إن كاد } إن هي المخففة من الثقيلة واسم كاد ضمير يعود على الرسول واللام هي الفارقة بين ان النافية وان المخففة وتقم الكلام على هذا في أول البقرة في قوله:
وإن كانت لكبيرة
[البقرة: 143] ومذهب الكوفيين في ذلك.
{ أن صبرنا } في موضع مبتدأ وخبره محذوف تقديره لولا صبرنا موجود وجواب لولا محذوف تقديره لأضلنا والظاهر أن من استفهامية مبتدأ وأصل خبره والجملة في موضع نصب ليعلمون ويعلمون معلق ويجوز أن تكون من موصولة مفعولة بيعلمون وأضل خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أضل وهذه الجملة صلة لمن وجاز حذف هذا الضمير للاستطالة التي حصلت بالتمييز كما حصلت في قول العرب ما أنا بالذي قائل لك سوأ.
{ أرأيت من اتخذ إلهه هواه } هذا إياس عن إيمانهم وإشارة إليه عليه الصلاة والسلام أن لا يتأسف عليهم وإعلام أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في العواقب مثل البهائم ثم ذكر أنهم أضل سبيلا من الانعام من حيث لهم فهم وتركوا استعماله فيما يخلصهم من عذاب الله تعالى والانعام لا سبيل لها إلى فهم المصالح وأرأيت استفهام تعجب من جهل من هذه حالته وآلهة المفعول الأول لاتخذ وهواه الثاني أي أقام مقام إلهه الذي يعبده هواه فهو جار على ما يكون في هواه والمعنى أنه لم يتخذ إلها إلا هواه ومفعول أرأيت الأول هو من الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني وتقدم لنا الكلام في أرأيت في أوائل الانعام ومعنى:
{ وكيلا } أي هل تستطيع أن تدعوه إلى الهدى فتتوكل عليه وتجبره على الإسلام وأم منقطعة تقدر ببل والهمزة كأنه قال: بل أتحسب كأن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها حتى خفت بالاضراب عنها إليها وهو كونهم مسلوبي الأسماع كالانعام التي هي مثل في الغفلة والضلالة ثم انتقل إلى إضراب آخر بقوله: بل هم أضل أي أشد في الضلال من الانعام وحذف من الانعام.
{ ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } الآية لما بين تعالى جهل المعترضين على دلائل الصانع وفساد طريقتهم ذكر أنواعا من الدلائل الواضحة التي تدل على قدرته التامة لعلهم يتدبرونها فبدأ بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال وان ذلك جار على مشيئته وتقدم الكلام على ألم تر في البقرة والمعنى ألم تر إلى صنع ربك وقدرته * وكيف سؤال عن حال في موضع نصب بمد والجملة في موضع متعلق ألم تر لأن تر معلقة والجملة الاستفهامية التي هي معلق عنها فعل القلب ليس باقيا على حقيقة الاستفهام فالمعنى ألم تر إلى مد ربك الظل.
{ ولو شآء لجعله ساكنا } مستقرا على تلك الحالة ثم خلق الشمس وجعلها على ذلك الظل سلطها عليه ونصبها دليلا متبوعا له كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد بها وينقص ويمتد ويقلص ثم نسخه بها قبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير وفيه التفات من خروج ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم في جعلناه وقبضناه.
{ وهو الذي جعل لكم اليل لباسا } انتقل من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب * ولباسا تشبيه بالثوب الذي يغطي البدن ويستره من حيث الليل يستر الأشياء * والسبات ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضا فشبه النوم به والسبت الإقامة في المكان فكان السبات سكونا ما * والنشور هنا الاحياء شبه اليقظة به ليطابق الاحياء مع الإماتة * بين يدي رحمته استعارة حسنة أي قدام المطر لأنها تجيء معلمة به والطهور فعول اما للمبالغة كنؤم فهو معدول عن ظاهر وإما أن يكون إسما لما يتطهر به كالسحور والفطور واما مصدر لتطهر جاء على غير المصدر حكاه سيبويه والظاهر في قوله: ماء طهورا أن يكون للمبالغة في طهارته وجه المبالغة كونه لم يشبه شىء بخلاف ما نبع من الأرض ونحوه فإنه تشويه أجزاء أرضية من مقره أو من ممره أو مما يطرح فيه ويجوز أن يوصف بالاسم وبالمصدر.
{ لنحيي به بلدة ميتا } وصف بلدة بصفة المذكر لأن البلدة في معنى البلد في قوله:
فسقناه إلى بلد ميت
[فاطر: 9] وقدم إحياء الأرض وسقي الانعام على سقي الأناسي لأن حياتهم بحياة أرضهم وحياة أنعامهم فقدم ما هو السبب في ذلك ولأنهم إذا وجدوا ما يسقي أرضهم ومواشيهم وجدوا سقياهم ونكر الانعام والأناسي ووصفا بالكثرة لأن كثيرا منهم لا يعيشهم إلا ما أنزل الله من المطر وكذلك لنحيي به بلدة ميتا يريد بعض بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظان الماء بخلاف سكان المدن فإنهم قريبون من الأودية والأنهار والعيون فهم غنيون غالبا عن ماء المطر وخص الانعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب لأن الطيور والوحوش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الانعام فإنها قنية الأناسي ومنافعهم متعلقة بها فكان الانعام عليهم بسقي إنعامهم كالانعام بسقيهم.
{ وأناسي } جمع إنسان في مذهب سيبويه وجمع أنسي في مذهب الفراء والمبرد وحكى أناسين في جمع إنسان كسرحان وسراحين.
{ ولقد صرفناه بينهم } قال ابن عباس: عائد على القرآن وإن لم يجر له ذكر لوضوح الأمر ويعضده وجاهدهم به.
{ وهو الذي مرج البحرين } يقال مرج الأمر اختلط واضطرب وقيل مرج وأمرج * العذب الحلو * والفرات البالغ في الحلاوة * والملح المالح * والاجاج البالغ في الملوحة والظاهر أنه يراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح والبرزخ والحجر ما حجز بينهما من الأرض والسد.
{ وحجرا محجورا } كلمة يقولها المتعوذ وقد فسرناها وهي هنا واقعة على سبيل المجاز كأن كل واحد من البحرين يتعود من صاحبه ويقول له: حجرا محجورا كما قال تعالى:
لا يبغيان
[الرحمن: 20] أي لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة فانتفاء البغي ثم كالتعوذ هنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه والظاهر عموم البشر وهم بنو آدم والبشر ينطلق على الواحد والجمع والنسب والصهر يعمان كل قربى بين آدميين وأن الكافر اسم جنس فيعم وقيل هو أبو جهل والآية نزلت فيه ومعنى ظهيرا هينا مهينا من قولهم: ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك لا تلتفت إليه.
{ قل مآ أسألكم } أمره تعالى أن يحتج عليهم مزيلا لوجوه التهم بقوله: لا أسألكم عليه أي على القرآن أجرا أي لا أطلب مالا.
{ ولا نفعا } يختص بي والضمير في عليه عائد على القرآن والظاهر في إلا من شاء أنه استثناء منقطع تقديره لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فليفعل، والظاهر تعلق به بقوله: فاسأل وبقاء الباء غير مضمنة معنى عن وخبيرا من صفات الله كما تقول لقيت بزيد أسدا ولقيت بزيد البحر تريد أنه هو الأسد شجاعة والبحر كرما والمعنى أنه تعالى اللطيف العليم الخبير والمعنى فاسأل الله الخبير بالأشياء العالم بخفاتها وقال الشاعر:
إن تسألوني بالنساء فإنني
بصير بادواء النساء طبيب
{ وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن } الظاهر أنهم لما قيل لهم اسجدوا للرحمن فذكرت الصفة المقتضية للمبالغة في الرحمة والكلمة عربية لا ينكر وضعها أظهروا التجاهل بهذه الصفة التي لله مغالطة منهم ووقاحة.
{ قالوا وما الرحمن } وهم عارفون به وبصفته الرحمانية وهذا كما قال فرعون وما رب العالمين حين قال له موسى: إني رسول من رب العالمين، على سبيل المناكرة وهو عالم برب العالمين كما قال له موسى عليه السلام: لقد علمت ما أنزل هؤلاء فكذلك كفار قريش استفهموا عن الرحمن استفهام من يجهله وهم عالمون به، وقرىء: تأمرنا بالياء والتاء.
{ وزادهم } أي هذا القول وهو الأمر بالسجود للرحمن.
{ نفورا } أي فرارا.
{ تبارك الذي جعل في السمآء بروجا } الآية لما جعلت قريش سؤالها عن اسمه الذي هو الرحمن سؤالا عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بألوهيته * ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر أنه خلق السماوات والأرض وغير ذلك نبههم على ما لهم به اعتناء تام من رصد الكواكب وأحوالها ووضع أسماء لها والظاهر أن المراد بالبروج المعروفة عند العرب وتقدم الكلام عليها والضمير في فيها الظاهر أنه عائد على السماء وقيل على البروج فالمعنى وجعل في جملتها سراجا وهو الشمس وانتصب:
{ خلفة } على الحال فقيل هو مصدر خلف خلفة أي خلف هذا ذاك وذاك هذا وقيل خلفة في الزيادة والنقصان.
{ لمن أراد أن يذكر } قال ابن عباس: ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما، فيستدركه في الذي يليه ولما تقدم ذكر الكفار وذمهم وجاء لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ذكر أحوال المؤمنين المتذكرين الشاكرين فقال:
{ وعباد الرحمن } وهذه إضافة تشريف وتفضيل وهو جمع عبد أي الذين يعبدون الله حق عبادته والظاهر أن وعباد مبتدأ والذين يمشون الخبر وقيل: أولئك الخبر والذين صفة والهون الرفق واللين وانتصب: هونا على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشيا هونا أو على الحال أي يمشون هينين في تؤدة وسكينة وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم الأرض ولا يخفقون بنعالهم أشرا وبطرا.
{ وإذا خاطبهم الجاهلون } أي بما لا يسوغ الخطاب به.
{ قالوا سلاما } أي سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه سلام عليك وقيل هو على إضمار فعل تقديره سلمنا سلاما.
{ والذين يبيتون لربهم سجدا } البيتوتة هو أن يدركك الليل نمت أو لم تنم وهو خلاف الظلول والظلول الإقامة بالنهار ولما ذكر حالهم بالنهار بأنهم يتصرفون أحسن تصرف ذكر حالهم بالليل والظاهر أنه يعني إحياء الليل بالصلاة أو أكثره ثم عقبه بذكر دعائهم هذا إيذانا بأنهم مع اجتهادهم خائفون يبتهلون إلى الله تعالى في صرف العذاب عنهم * وساءت بمعنى بئست والمخصوص بالذم محذوف وفي ساءت ضمير مبهم * ويتعين أن يكون مستقرا ومقاما تمييز والتقدير ساءت مستقرا ومقاما هي وهذا المخصوص بالذم هو رابط الجملة الواقعة خبرا لأن ويجوز أن تكون ساءت بمعنى أحزنت فيكون المفعول محذوفا أي ساءتهم والفاعل ضمير مبهم وجاز في مستقر أو مقاما أن يكونا تمييزين وأن يكونا حالين قد عطف أحدهما على الآخر.
{ لم يسرفوا ولم يقتروا } الانفاق في غير طاعة الله تعالى إسراف والإمساك عن طاعة الله إقتار وقرىء: يقتروا بفتح الياء وكسر التاء وضمها من قتر ويقتر بضم الياء وكسر التاء من اقتر واسم كان ضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله: أنفقوا { بين ذلك } أي بين الإسراف والإقتار و { قواما } معتدلا يجوز أن يكون خبرا لكان وبين ذلك خبر وقواما حال.
{ والذين لا يدعون مع الله إلها آخر } الآية
" سأل ابن مسعود رسول الله أي الذنب أعظم فقال: أن تجعل لله ندا وهو خلقك قال؛ ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، قال: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك "
فانزل الله تصديقها والذين لا يدعون، الآية وقيل الآثام الإثم ومعناها يلق جزاء أثام فأطلق اسم الشيء على جزائه.
{ ذلك } إشارة إلى كل فرد مما تقدم * يضاعف ويخلد قرىء: بالرفع فيها على الاستئناف أو يكون في موضع الحال تقديره مضاعفا له العذاب وخالدا فيه مهانا وقرىء: بالجزم فيهما على أن يكون يضاعف بدلا من يلق بدل فعل من فعل كما قال الشاعر:
متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا
تجد حطبا جزلا ونارا تأججا
والظاهر أن توبة المؤمن القاتل النفسي بغير حق مقبولة لعموم قوله تعالى: { إلا من تاب } وسيآتهم هو المفعول الثاني وهو أصله أن يكون مقيدا بحرف الجر أي بسيآتهم وحسنات هو المفعول الأول وهو المسرح كما قال تعالى:
وبدلناهم بجنتيهم جنتين
[سبأ: 16] وقال الشاعر:
تضحك مني أخت ذات النحيين
أبدلها الله بلونها لونين
سواد وجه وبياض عينين
{ والذين لا يشهدون الزور } عاد إلى ذكر أوصاف عباد الرحمن والظاهر أن المعنى لا يشهدون بالزور أو شهادة الزور واللغو كما ينبغي أن يلغى ويطرح والمعنى: وإذا مروا بأهل اللغو مروا معرضين عنهم مكرمين أنفسهم عن التوقف عندهم والخوض معهم كقوله تعالى:
وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه
[القصص: 55].
{ بآيات ربهم } هي القرآن.
{ لم يخروا عليها صما وعميانا } النفي متوجه إلى القيد الذي هو صم وعميان لا للخرور الداخل عليه وهذا الأكثر في لسان العرب ان النفي يتسلط على القيد والمعنى أنهم إذا ذكروا بها أكبوا عليها حرصا على استماعها وأقبلوا على المذكر بها بآذان واعية وأعين راعية بخلاف غيرهم من المنافقين وأشباههم فإنهم إذا ذكروا بها كانوا مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها في ظاهر الأمر وكانوا صما وعميانا حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها.
{ قرة أعين } كناية عن السرور والفرح وهو مأخوذ من القر وهو البرد يقال: دمع السرور بارد ودمع الحزن سخن ويقال أقر الله عينك وأسخن الله عين العدو وقال الشاعر:
فأما عيون العاشقين فاسخنت
وأما عيون الشامتين فقرت
وقال الزمخشري: وجاء أعين بصيغة جمع القلة دون عيون الذي هو صيغة جمع الكثرة لأنه أريد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى غيرهم " انتهى ". ليس بجيد لأن أعين ينطلق على العشرة فما دونها من الجمع والمتقون لبست أعينهم عشرة بل هي عيون كثيرة جدا وإن كانت عيونهم قليلة بالنسبة إلى عيون غيرهم فهي من الكثرة بحيث تفوت العدو قرىء: ذريتنا على الإفراد وذرياتنا على الجمع.
{ أولئك } إشارة إلى الموصوفين بهذه الصفات العشرة * والغرفة اسم معرف بال فيعم أي الغرف كما جاء وهم في الغرفات آمنون وهي العلالي قال ابن عباس: هي بيوت من زبرجد ودر وياقوت والباء في بما صبروا للسبب والتحية دعاء بالتعمير والسلام دعاء بالسلامة أي تحييهم الملائكة أو يحيي بعضهم بعضا.
{ حسنت مستقرا ومقاما } معادل لقوله: في جهنم ساءت مستقرا ومقاما، والظاهر أن قوله: قل ما يعبأ بكم ربي خطاب لكفار قريش القائلين أنسجد لما تأمرنا أي لا يحفل ربكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إياه في الشدائد.
{ فقد كذبتم } بما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام فتستحقون العقاب.
{ فسوف يكون } العقاب وهو ما أنتجه تكذيبكم ونفس لهم في حلوله بلفظة فسوف يكون { لزاما } أي لازما لكم لا تنفكون منه.
[26 - سورة الشعراء]
[26.1-49]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * طسم * تلك آيات الكتاب المبين } هذه السورة مكية كلها في قول الجمهور إلا أربع آيات من والشعراء إلى آخر السورة ومناسبة أولها لآخر ما قبلها أنه لما قال تعالى فقد كذبتم فسوف يكون لزاما ذكر تلهف رسول الله صلى الله عليه وسلم على كونهم لم يؤمنوا وكونهم كذبوا بالحق لما جاءهم ولما أوعدهم في آخر السورة بقوله فسوف يكون لزاما أوعدهم في أول هذه فقال إثر إخباره بتكذيبهم فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزؤون وتلك إشارة إلى آيات السورة وآيات القرآن المبين هو القرآن وتقدم تفسير باخع نفسك في أول الكهف.
{ ألا يكونوا مؤمنين } أي لئلا يؤمنوا أو خيفة أن لا يؤمنوا.
{ إن نشأ ننزل } دخلت إن على نشأ وان للممكن أو المحقق المنبهم زمانه ومعنى آية أي ملجئة إلى الإيمان تقهر عليه.
{ أعناقهم } أعناق الناس رؤسائهم ومقدموهم شبهوا بالأعناق كما قيل لهم الرؤوس والصدور.
{ خاضعين } أي متذللين.
{ وما يأتيهم من ذكر } تقدم تفسيره في الأنبياء.
{ إلا كانوا } جملة حالية أي لا يكونون.
{ معرضين } عنها وكان تدل على أن ديدنهم وعادتهم الإعراض عن ذكر الله تعالى ولما كان إعراضهم عن النظر في صانع الوجود نبه تعالى على قدرته وأنه الخالق المنشىء الذي يستحق العبادة بقوله.
{ أولم يروا إلى الأرض } والزوج النوع والكريم الحسن.
{ لآية وما كان أكثرهم مؤمنين } تسجيل على أكثرهم بالكفر.
{ وإن ربك لهو العزيز } أي الغالب القاهر ولما كان الموضع موضع بيان القدرة قدم صفة العزة على صفة الرحمة فالرحمة إذا كانت عن قدرة كانت أعظم وقعا والمعنى أنه عز في نقمته من الكفار ورحم مؤمني كل أمة ولما ذكر تكذيب قريش بما جاءهم من الحق وإعراضهم عنه ذكر قصة موسى عليه السلام وما قاسى مع فرعون وقومه ليكون ذلك مسلاة لما يقاسي عليه السلام من كفار قريش قد اتخذت آلهة من دون الله تعالى وكان قوم فرعون قد اتخذوه إلها وكان أتباع ملة موسى عليه السلام المجاورون من آمن بالرسول عليه الصلاة والسلام بدأ بقصة موسى عليه السلام ثم ذكر بعد ذلك ما يأتي ذكره من القصص والعامل في إذ أتل مضمرة أي أتل هذه القصة فيما تتلو ومعنى نادى دعا * وأن يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون تفسيرية وسجل عليهم بالظلم لظلم أنفسهم بالكفر وظلم بني إسرائيل بالاستعباد وذبح الأولاد وقوم فرعون قيل بدل من القوم الظالمين والأجود أن يكون عطف بيان لأنهما عبارتان يعتقبان على مدلول واحد إذ كل واحد من عطف البيان ومتبوعه مستقل بالإسناد ولما كان القوم الظالمين يوهم الاشتراك أتى عطف البيان بإزالته إذ هو أشهر وقرىء ألا يتقون باليا على الغيبة وبتاء الخطاب على طريق الإلتفات إليهم إنكارا وغضبا عليهم وإن لم يكونوا حاضرين لأنه مبلغهم ذلك ومكافحهم والظاهر أن الا للعرض المضمن الحض على التقوى قال الزمخشري: ويحتمل أن يكون ألا يتقون حالا من الضمير في الظالمين أن يظلمون غير متقين الله وعقابه فأدخلت همزة الإنكار على الحال " انتهى " هذا الاحتمال الذي أورده خطأ فاحش لأنه جعل حالا من الضمير في الظالمين وقد أعرب هو قوم فرعون عطف بيان فصار فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي منهما لأن قوم فرعون معمول لقوله: إئت والذي زعم أنه حال معمول لقوله الظالمين وذلك لا يجوز وأيضا لو لم يفصل بينهما بقوله قوم فرعون لم يجز أن تكون الجملة حالا لأن ما بعده الهمزة يمتنع أن يكون معمولا لما قبلها وقولك جئت أمسرعا على أن يكون أمسرعا حالا من الضمير في جئت لا يجوز فلو أضمرت عاملا بعد الهمزة جاز ولما كان فرعون عظيم النخوة حتى ادعى الألوهية كثير المهابة قد أشربت القلوب الخوف منه خصوصا من كان من بني إسرائيل قال موسى عليه السلام.
{ إني أخاف أن يكذبون } وقرىء يضيق ولا ينطلق بالرفع فيهما عطفا على أخاف والمعنى أنه يفيد ثلاث علل خوف التكذيب وضيق الصدر وامتناع إنطلاق اللسان وقرىء بالنصب فيهما عطفا على يكذبون فيكون التكذيب وما بعده متعلقا بالخوف وفي الخبر أن الله أرسل موسى إلى هارون وكان هارون بمصر حين بعث الله موسى نبيا بالشام قيل سار أهله إلى مصر فالتقى بهارون وهو لا يعرفه فقال أنا موسى فتعارفا وأمرهما أن ينطلقا إلى فرعون لأداء الرسالة فصاحت أمهما لخوفها عليهما فذهبا إليه .
{ ولهم علي ذنب } أي قبلي قود ذنب أو عقوبة ذنب وهو قتله القبطي الكافر خباز فرعون بالوكزة التي وكزها.
{ كلا } رد لقوله إني أخاف أي لا تخف ذلك وقوله فاذهبا أمر لهما بخطاب موسى فقط لأن هارون ليس بمكلم بإجماع ولكنه قال لموسى إذهب أنت وأخوك.
و { معكم } قيل من وضع الجمع موضع المثنى أي معكما وقيل هو على ظاهره من الجمع والمزاد موسى وهارون ومن أرسلا إليه وكان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يرجح أن يكون أريد بصورة الجمع الخطاب لموسى وهارون فقط قال: لأن لفظة مع تباين من يكون كافرا فإنه لا يقال الله معه وعلى أنه أريد بالجمع التثنية حمله سيبوه وكأنهما لشرفهما عند الله عاملهما في الخطاب معاملة الجمع إذ كان ذلك جائزا أن يعامل به الواحد لشرفه وعظمته عنده وأفرد رسول هنا ولم يثن كما في قوله انا رسولا ربك اما لأنه مصدر بمعنى الرسالة فجاز أن يقع مفردا خبرا لمفرد فما فوقه واما لكونهما ذوي شريعة واحدة فكأنهما رسول واحد وأريد بقوله انا إن كل واحد منا رسول ورسول رب العالمين فيه رد عليه وانه مربوب لله تعالى بأداه بنقض ما كان أبرمه من ادعاء الألوهية ولذلك أنكر فقال: وما رب العالمين والمعنى إليك وإن أرسل يجوز أن تكون تفسيرية لما في رسول من معنى القول وأن تكون مصدرية وأرسل بمعنى أطلق وسرح كما تقول أرسلت الحجر من يدي وأرسلت الصقر وكان وموسى عليه السلام مبعوثا إلى فرعون في أمرين إرسال بني إسرائيل ليزول عنهم العبودية والإيمان بالله وبعث بالعبادات والشرع إلى بني إسرائيل وإرسالهم معهما كان إلى فلسطين وكانت مسكن موسى وهارون.
{ قال ألم نربك فينا وليدا } الآية يروى أنهما انطلقا إلى فرعون وأديا الرسالة فعرف موسى فقال له ألم نربك فينا وليدا وفي الكلام حذف يدل عليه المعنى تقديره فأتيا فرعون فقالا له ذلك ولما بادهه موسى بأنه رسول رب العالمين وأمره بإرسال بني إسرائيل معه أخذ يستحقره ويضرب عن المرسل وما جاء به من عنده ويذكره بحالة الصغر والمن عليه بالتربية والوليد الصبي وهو فعيل بمعنى مفعول أطلق ذلك عليه لقربه من الولادة وقرىء:
{ فعلتك } بفتح الفاء إذ كانت وكزة واحدة وقرأ الشعبي فعلتك بكسر الفاء يريد الهيئة لأن الوكزة نوع من القتل عدد عليه نعمة التربية ومبلغه عنده مبلغ الرجال حيث كان يقتل نظراءه من بني إسرائيل وذكره ما جرى على يده من قتل القبطي وعظم ذلك بقوله وفعلت فعلتك التي فعلت لأن في هذا الإبهام بكونه لم يصرح انها القتل تهويل للواقعة وتعظيم شأنها.
{ وأنت من الكافرين } بالنعمة التي لي عليك من التربية والإحسان.
{ قال فعلتهآ إذا } أجابه موسى عليه السلام عن كلامه الأخير المتضمن للقتل إذ كان الإعتذار فيه أهم من الجواب في ذكر النعمة بالتربية لأن فيه إزهاق النفس.
{ وأنا من الضالين } معناه من الجاهلين بأن وكزتي إياه تأتي على نفسه.
{ ففررت منكم } الفرار لم يكن منه وحده وإنما هو منه ومن ملائه المذكورين قبل.
{ وتلك } إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله ألم نربك فينا وليدا ذكر هذا أخيرا على ما بدأ به فرعون في قوله: ألم نربك فينا والظاهر أن هذا الكلام إقرار من موسى عليه السلام بالنعمة ويقول وتربيتك لي بنعمة علي من حيث عبدت غيري وتركتني واتخذتني ولدا ولكن لا يدفع ذلك رسالتي قال قتادة هذا منه على جهة الإنكار عليه أن تكون ثم نعمة كأنه يقول أو يصح لك أن تعتد على نعمة ترك قتلي من أجل أنك ظلمت بني إسرائيل وقتلتهم أي ليست بنعمة لأن الواجب كان أن لا تقتلني، ان لا تقتلهم ولا تستعبدهم بالقتل والخدمة وغير ذلك ولما أخبر موسى فرعون بأنه رسول رب العالمين لم يسئل إذ ذاك فيقول وما رب العالمين بل أخذ في المداهاة وتذكار التربية والتقبيح لما فعله من قتل القبطي.
فلما أجابه عن ذلك انقطعت حجته في التربية والقتل وكان في قوله رسول رب العالمين دعاء إلى الإقرار بربوبية الله تعالى وإلى طاعة رب العالمين فأخذ فرعون يستفهم عن الذي ذكر موسى أنه رسول من عنده والظاهر أن سؤاله بما كان على سبيل المباهتة والمكابرة والمرادة وكان عالما بالله تعالى ويدل عليه لقد علمت ما أنزل هؤلاء الارب السماوات والأرض بصائر ولكنه تعامى عن ذلك طلبا للرياسة ودعوى الإلهية فاستفهم بما استفهاما عن مجهول من الأشياء فمن ربكما يا موسى لما سأله فرعون وكان السؤال مما التي هي سؤال عن الماهية ولم يمكن الجواب بالماهية أجاب بالصفات التي تبين للسامع أنه لا مشاركة لفرعون فيها وهي ربوبية السماوات والأرض وما بينهما.
{ إن كنتم موقنين } بشىء قط فهذا أولى ما توقنون به لظهوره وإنارة دليله وهذه المحاورة من فرعون تدل على أن موسى عليه السلام دعاه إلى التوحيد.
{ قال لمن حوله } هم أشراف قومه قيل كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور وكانت للملوك خاصة.
{ ألا تستمعون } أي ألا تصغون إلى هذه المقالة إغراء به وتعجبا إذ كانت عقيدتهم أن فرعون ربهم ومعبودهم.
{ قال ربكم ورب آبآئكم الأولين } نبههم على منشئهم ومنشىء آبائهم وجاء في قوله الأولين دلالة على إماتتهم بعد إيجادهم وانتقل من الاستدلال بالعام إلى ما يخصهم ليكون أوضح لهم في بيان بطلان دعوى فرعون الإلهية إذ كان آباؤهم الأولون تقدموا فرعون في الوجود فمحال أن يكون وهو في العدم صرف إلها لهم.
{ قال إن رسولكم } أي هذا الذي يدعي الرسالة لا يفهم السؤال فضلا عن أن يجيب عنه فقال موسى عليه السلام:
{ رب المشرق والمغرب وما بينهمآ } فعدل إلى طريق أوضح من الثاني وذلك أنه أراد بالمشرق طلوع الشمس وظهور النهار وأراد بالمغرب غروب الشمس وزوال النهار وهذا التقدير المستمر على الوجه العجيب لا يتم إلا بتدبير مدبر يدبره ولما انقطع فرعون في باب الإحتجاج رجع إلى الإستعلاء والغلب وهذا أبين علامات الإنقطاع فتوعد موسى بالسجن حين أعياه خطابه.
{ قال لئن اتخذت إلها غيري } الآية ولما كان عند موسى عليه السلام من أمر الله تعالى ما لا يروعه توعد فرعون قال له على جهة اللطف به والطمع في إيمانه:
{ أولو جئتك بشيء مبين } أي يوضح لك صدقي أفكنت تسجنني حتى في هذه الحالة التي لا يناسب أن أسجن وأنا متلبس بها ولما سمع فرعون هذا من موسى طمع أن يجد موضع معارضة فقال له:
{ فأت به إن كنت من الصادقين * فألقى عصاه } أي رماها من يده وتقدم الكلام على عصى موسى عليه السلام والثعبان أعظم ما يكون من الحيات ومعنى مبين ظاهر الثعبانية ليست من الأشياء التي تزور بالشعبذة والسحر.
{ ونزع يده } من جيبه.
{ فإذا هي } تلألأ كأنها قطعة من الشمس ومعنى للناظرين أي بياضها يجمع النظارة على النظر إليه لخروجه عن العادة وكان بياضا نورانيا روي أنه لما أبصر أمر العصى قال: فهل غيرها فأخرج يده فقال ما هذه قال: يدك فأدخلها في إبطه ثم نزعها ولها شعاع يكاد يغشي الأبصار ويسد الأفق.
{ قال للملإ حوله } الآية تقدم الكلام عليها.
{ لميقات يوم معلوم } وهو يوم الزينة.
[26.50-89]
{ قالوا لا ضير } أي لا ضرر علينا في وقوع ما توعدتنا به من قطع الأيدي والأرجل والتصليب بل لنا المنفعة التامة بالصبر عليه يقال ضاره يضيره ضيرا وضاره يضوره ضورا.
{ إنآ إلى ربنا } أي إلى عظيم ثوابه أو لا ضير علينا إذا انقلابنا إلى الله تعالى بسبب من أسباب الموت والقتل أهون أسبابه.
{ وأوحينآ إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون } الآية أمر تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلا من مصر إلى تجاه البحر وأخبر أنهم سيتبعون فخرج سحرا جاعلا طريق الشام على يساره وتوجه البحر فيقال له في ترك الطريق فيقول هكذا أمرت فلما أصبح علم فرعون بسري موسى ببني إسرائيل فخرج في أثرهم وبعث إلى مدائن مصر لتلحقه العساكر وذكروا أعدادا في اتباع فرعون وفي بني إسرائيل الله أعلم بصحة ذلك.
{ إن هؤلاء لشرذمة } أي قال: ان هؤلاء وصفهم بالقلة ثم جمع القليل فجعل كل حزب قليلا جمع السلامة الذي هو للقلة وقد يجمع القليل على أقله وقلل والظاهر تقليل العدد والشرذمة بالجمع القليل المحتقر وشرذمة كل شىء بقيته الخسيسة وقال الجوهري الشرذمة الطائفة من الناس والقطعة من الشىء وثوب شراذم أي قطع ومعنى حذرون خائفون متحرزون منهم.
{ فأخرجناهم } الضمير عائد على القبط.
{ من جنات وعيون } بحافتي النيل من أسوان إلى رشيد.
{ وكنوز } هي الأموال التي خزنوها.
{ ومقام كريم } قال ابن لهيعة هو الفيوم قال الزمخشري: كذلك يحتمل ثلاثة أوجه النصب على أخرجناهم مثل ذلك الإخراج الذي وصفناه والجر على أنه وصف لمقام أي ومقام كريم مثل ذلك المقام الذي كان لهم والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذف أي الأمر كذلك انتهى الوجه الأول لا يسوغ لأنه يؤول إلى تشبيه الشىء بنفسه وكذلك الوجه الثاني لأن المقام الذي كان لهم هو المقام الكريم ولا يشبه الشىء بنفسه والظاهر أن مشرقين حال من الفاعل أي وقت إشراق الشمس.
{ فلما تراءى الجمعان } أي رأى أحدهما الآخر.
{ قال أصحاب موسى إنا لمدركون } أي ملحقون قالوا ذلك حين رأوا العدو القوي وراءهم والبحر أمامهم وساءت ظنونهم والكاف في ذلك للتشبيه وذلك إسم إشارة قال الزمخشري: يحتمل أن يكون المعنى أخرجناهم مثل ذلك الإخراج " انتهى " وهذا لا يصح لأنه يؤول إلى تشبيه الشىء بنفسه والذي يظهر أنه إشارة إلى ما يفهم من قوله تعالى: { أن أسر بعبادي } فمعناه أخرج بهم من ديار مصر أي مثل ذلك الإخراج لهم كان هذا الإخراج لفرعون وقومه.
{ قال كلا إن معي ربي } زجرهم وردعهم بحرف الردع وهو كلا والمعنى لن يدركوكم لأن الله تعالى وعدكم النصر والخلاص منهم.
{ سيهدين } عن قريب إلى طريق النجاة ويعرفنيه وسيكفيني أمرهم ولما انتهى موسى إلى البحر قال له مؤمن آل فرعون وكان بين يدي موسى عليه السلام أين أمرت وهذا البحر أمامك وقد غشيك آل فرعون قال أمرت بالبحر ولا يدري ما يصنع فأوحى الله تعالى إليه أن اضرب بعصاك البحر وثم محذوف تقديره فضرب فانفلق فضرب موسى بعصاه فصار فيه اثنا عشر طريقا لكل سبط طريق وأراد تعالى أن يجعل هذه الآية متصلة بموسى عليه السلام ومتعلقة بفعل فعله ولكنه بقدرة الله تعالى إذ ضرب البحر بالعصا لا يوجب انفلاق البحر بذاته ولو شاء تعالى لفلقه دون ضربه بالعصا وتقدم الخلاف في مكان هذا البحر والفرق الجزء المنفصل والطود الجبل العظيم المنطاد في السماء.
{ وأزلفنا } أي قربنا.
{ ثم } أي هناك وثم ظرف مكان للبعيد.
{ الآخرين } أي قوم فرعون أي قربناهم ولم يذكر من قربوا منه فاحتمل أن يكون المعنى قربناهم حيث انفلق البحر من بني إسرائيل أو قربنا بعضهم من بعض حتى لا ينجو أحد أو قربناهم من البحر والآخرين فرعون وقومه.
{ إن في ذلك لآية } لعلامة واضحة عاينها الناس وشاع أمرها والذي يظهر أن قوله:
{ وما كان أكثرهم } أي أكثر قوم فرعون وهم القبط إذ قد آمن من السحرة ناس وآمنت آسية امرأة فرعون ومؤمن آل فرعون وعجوز اسمها مريم.
{ واتل عليهم نبأ إبراهيم } الآية لما كانت العرب لها خصوصية بإبراهيم عليه السلام أمر الله تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يتلو عليهم قصصه وما جرى له مع قومه ولم يأت في قصة من قصص هذه السورة أمره عليه الصلاة والسلام بتلاوة سورة إلا في هذه والعامل في إذ نبأ والظاهر أن الضمير في قومه عائد على إبراهيم وقيل على أبيه أي وقوم أبيه كما قال إني أراك وقومك في ضلال مبين وما استفهام بمعنى التحقير والتقرير وقد كان إبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عبدة أصنام ولكن سألهم ليريهم أن ما كانوا يعبدونه ليس مستحقا للعبادة لما يترتب على جوابهم من أوصاف معبوداتهم التي هي منافية للعبادة ولما سألهم عن الذي يعبدونه لم يقتصروا على ذكره فقط بل أجابوا بالفعل ومتعلقة وما عطف عليه من تمام صفتهم مع معبودهم فقالوا:
{ نعبد أصناما } على سبيل الابتهاج والافتخار فأتوا بقصتهم معهم كاملة ولم يقتصروا على أن يجيبوا بقولهم أصناما ولما أجابوا إبراهيم عليه السلام أخذ يوقفهم على قلة عقولهم باستفهامه على أوصاف مسلوبة عنهم لا يكون ثبوتها إلا لله تعالى ومعنى يسمعونكم إذ تدعون أي يجيبونكم كقوله سمع الله لمن حمده والعامل في إذ يسمعونكم قال ابن عطية: ويجوز فيه قياس مدكر ولم يقرأ به أحد والقياس أن يكون اللفظ به ان يدعون والذي منع من هذا اللفظ كثرة المتماثلات " انتهى " هذا الذي ذكره من أنه يجوز فيه قياس مدكر لا يجوز لأن ذلك الإبدال هو إبدال التاء وإلا لا يكون إلا في افتعل مما فاؤه ذال أو زاي أو دال نحو أذكر وازدجر وادهن أصله إذ تكر وازنجر وادتهن أو جيم شذوذا قالوا جد مع في اجتمع ومن تاء الضمير بعد الزاي والدال ومثلوا بتاء الضمير للمتكلم فقالوا في فزت فزد وفي جلدت جلد ومن تاء تولج شذوذا قالوا دولج وتاء المضارعة ليس شيئا مما ذكرنا فلا تبدل تاؤه دالا وقول ابن عطية: والذي منع من هذا اللفظ ألح يدل على أنه لولا ذلك لجاز إبدال تاء المضارعة ذالا وإدغام الدال فيها فكنت تقول في إذ تخرج إذ دخرج وذلك لا يقوله أحد بل إذا أدغم مثل هذا أبدل من الذال تاء وأدغم في التاء فتقول أتخرج.
{ أو ينفعونكم } بقربكم إليهم ودعائكم إياهم.
{ أو يضرون } بترك عبادتكم إياهم فإذا لم ينفعوا ولم يضروا فما معنى عبادتكم لها.
{ قالوا بل وجدنآ } هذه جيدة عن جواب الاستفهام لأنهم لو قالوا يسمعوننا ولا ينفعوننا ويضروننا فضحوا أنفسهم بالكذب الذي لا يمترى فيه ولو قالوا ما يسمعوننا ولا ينفعوننا ولا يضروننا أسجلوا على أنفسهم بالخطأ المحض فعدلوا إلى التقليد البحت لآبائهم في عبادتها من غير برهان ولا حجة والكاف في موضع نصب بيفعلون أي يفعلون في عبادتهم تلك الأصنام مثل ذلك الفعل الذي نفعله وهو عبادتهم والحيدة عن الجواب من علامات انقطاع الحجة وبل هنا إضراب عن جوابه لما سأل وأخذ في شىء آخر لم يسألهم عنه انقطاعا وإقرارا بالعجز.
{ وآبآؤكم الأقدمون } وصفهم بالأقدمين دلالة على تقادم عبادة الأصنام فيهم إذا كانوا قد عبدوها في زمان نوح عليه السلام وزمان من بعده.
{ الذي خلقني } بقدرته.
{ فهو يهدين } إلى طاعاته والظاهر أن قوله:
{ يطعمني ويسقين } الطعام المعهود والسقي المعهود وفيه تعويد نعمة الرزق ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو فلم يكن التركيب الذي هو خلقني ولما كانت الهداية قد يمكن إدعاؤها والإطعام والسقي كذلك أكد بهو في قوله فهو يهدين والذي هو يطعمني وذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة ويستمر نظام الخلق وهو الغذاء والشراب ولما كان ذلك سببا لغلبة إحدى الكيفيات على الأخرى بزيادة الغذاء أو نقصانه فيحدث بعد ذلك مرض ذكر نعمته بإزالة ما حدث من السقم وأضاف المرض إلى نفسه ولم يأت التركيب وإذا أمرضني لا ينبغي أن يسند ما فيه ناد إليه تعالى وذلك على سبيل الأدب وان كان تعالى هو الفاعل لذلك وإبراهيم عليه السلام عدد نعم الله تعالى والشفاء محبوب والمرض مكروه ولما لم يكن المرض منها لم يضفه إلى الله تعالى ولما كانت الإماتة ثم البعث لا يمكن إسناده إلا إلى الله تعالى لم يحتج إلى توكيد ودعوى نمروذ الإماتة والإحياء هي منه على سبيل المخرقة وكذلك لم يحتج إلى تأكيد في والذي أطمع وقدم إبراهيم عليه السلام الثناء على الله تعالى وذكره بالأوصاف الحسنة بين يدي طلبته ومسألته ثم سأله تعالى:
فقال { رب هب لي حكما } فدل أن تقديم الثناء على المسألة من المهمات والظاهر أن الحكم هو الفصل بين الناس بالحق.
و { لسان صدق } هو الثناء وتخليد المكانة وأعظم ذلك ما في الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم * ولما فرغ من مطالب الدنيا والآخرة لنفسه طلب لأشد الناس التصاقا به وهو أصله الذي كان ناشئا عنه وهو أبوه فقال:
{ واغفر لأبي } { ولا تخزني } اما من الخزي وهو الهوان واما من الخزاية وهي الحياء والضمير في:
{ يبعثون } ضمير العباد.
{ يوم لا ينفع } بدل من يوم يبعثون.
{ مال ولا بنون } أي كما ينفع في الدنيا يفديه ماله ويذب عنه بنوه قال ابن عطية: وهذه الآيات في قوله يوم لا ينفع مال ولا بنون عندي منقطعة من كلام إبراهيم عليه السلام وهي إخبار من الله عز وجل بصفة ذلك اليوم الذي وقف إبراهيم عليه السلام عنده في دعائه أن لا يخزي فيه " انتهى ".
كان ابن عطية قد أعرب يوم لا ينفع بدلا من يوم يبعثون وعلى هذا لا يتأتى هذا الذي ذكره من تفكيك الكلام وجعل بعضه من بعض كلام إبراهيم وبعضه من كلام الله تعالى لأن العامل في البدل على مذهب الجمهور فعل آخر من لفظ الأول أو الأول وعلى كلا التقديرين لا يصح أن يكون من كلام الله أن يصير التقدير ولا تخزني يوم لا ينفع مال ولا بنون والظاهر أن الاستثناء منقطع أي لكن من أتى الله بقلب سليم ينفعه سلامة قلبه.
[26.90-189]
{ وأزلفت الجنة } قربت لينظروا إليها ويغتبطوا بحشرهم إليها.
{ وبرزت الجحيم } أظهرت وكشفت بحيث كانت بمرأى منهم وجيء ذلك كله بلفظ الماضي في أتى وأزلفت وبرزت لتحقق وقوع ذلك وإن كان لم يقع والضمير في فكبكبوا عائد على الأصنام أجريت مجرى من يعقل من حيث ذكرت بعبادة وأسند إليها فعل من يعقل * والغاوون هم الكفرة الذين شملتهم الغواية.
{ وجنود إبليس } قبيله وكل من تبعه فهو جند له وعون والخطاب في إذ نسويكم للأصنام على جهة الإعتراف والإقرار بالحق.
{ ومآ أضلنآ إلا المجرمون } أي أصحاب الجرائم والمعاصي العظام والجرأة وهم ساداتهم وذوو المكانة في الدنيا والاستتباع كقولهم أطعنا سادتنا وكبراءنا الآية والظاهر أن لو أشربت معنى التمني وفتكون الجواب كأنه قيل يا ليت لنا كرة فنكون وقيل هي الخالصة للدلالة لما كان سيقع لوقوع غيره فيكون قوله فنكون معطوفا على كرة أي فنكون من المؤمنين وجواب لو محذوف أي لكان لنا شفعاء وأصدقاء أو لخلصتا من العذاب والإشارة بقوله ان في ذلك إلى قصة إبراهيم ومحاورته لقومه.
{ وما كان أكثرهم } أي أكثر قوم إبراهيم بين تعالى أن أكثر قومه لم يؤمنوا مع ظهور هذه الدلائل التي استدل بها إبراهيم عليه السلام وفي ذلك مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه إياه عليه الصلاة والسلام.
{ كذبت قوم نوح المرسلين } الآية تقدم الكلام على قوم نوح.
{ ألا تتقون } لما عرض عليهم تقوى الله برفق انتقل من العرض إلى الأمر فقال:
{ فاتقوا الله وأطيعون } في نصحي لكم وفيما دعوتكم إليه من توحيد الله وإقراره بالعبادة فشرع أشرافهم في تنقيص متبعيه وأن الحامل على انتفاء إيمانهم له كونه اتبعه الأرذلون وقوله:
{ واتبعك الأرذلون } جملة حالية أي كيف نؤمن وقد اتبعك أراذلنا فنتساوى معهم في اتباعك وكذا فعلت قريش في شأن عمار وصهيب والضعفاء أكثر استجابة من الرؤساء لأن أذهانهم ليست مملوءة بزخارف الدنيا فهم أدرك للحق وأقبل لهم من الرؤساء وقرىء وابتاعك جمع تابع كصاحب وأصحاب.
{ ومآ أنا بطارد المؤمنين } هذا مشعر بأنهم طلبوا منه ذلك فأجابهم بذلك كما طلب رؤساء قريش من رسول الله صلى الله أن يطرد من آمن من الضعفاء فنزلت ولا تطرد الذين يدعون ربهم إي لا أطردهم عني لاتباع شهواتكم والطمع في إيمانكم ولما اعتلوا في ترك إيمانهم بإيمان من هو دونهم دل ذلك على أنه لم تثلج صدورهم للإيمان إذ اتباع الحق لا يأنف منه أحد لوجود الشركة فيه أخذوا في التهديد والوعيد.
{ قالوا لئن لم تنته } عن تقبيح ما نحن عليه وادعائك الرسالة من الله تعالى.
{ لتكونن من المرجومين } أي بالحجارة وقيل بالشتم وأيس إذ ذاك من فلاحهم فنادى ربه وهو أعلم بحاله.
{ إن قومي كذبون } فدعائي ليس لأجل أنهم آذوني ولكن لأجل دينك.
{ فافتح } أي فاحكم ودعا لنفسه ولمن آمن به بالنجاة وفي ذلك إشعار بحلول العذاب بقومه أي ونجني مما يحل بهم والمشحون المملوء بما ينبغي له من قدر ما يحمل يقال شحنها عليهم خيلا ورجالا.
{ ثم أغرقنا بعد } أي بعد نجاة نوح والمؤمنين.
{ كذبت عاد المرسلين } الآية وكان أخاهم من النسب وكان تاجرا جميلا أشبه الخلق بآدم عليه السلام عاش أربعمائة سنة وأربعا وستين سنة وبينه وبين ثمود مائة سنة وكانت منازل عاد ما بين عمان إلى حضرموت أمرع البلاد فجعلها الله جبالا ورمالا أمرهم أولا بما أمر به نوح قومه ثم نعى عليهم من سوء أعمالهم مع كفرهم فقال:
{ أتبنون بكل ريع } والريع بكسر الراء وفتحها جمع ريعة وهو المكان المرتفع وقال أبو عبيدة الريع أيضا الطريق * والمصانع جمع مصنعة قيل وهي البناء على الماء ولما خوفهم عذاب الله وعقابه كان من جوابهم أن قالوا:
{ سوآء علينآ } وعظك وعدمه وجعلوا قوله وعظا إذ لم يعتقدوا صحة ما جاء به وأنه كاذب فيما ادعاه وقولهم ذلك على سبيل الاستخفاف وعدم المبالاة بما خوفهم به.
{ كذبت ثمود المرسلين } الآية.
{ أتتركون } يجوز أن يكون إنكارا لأن يتركوا مخلدين في نعيم لا يزولون عنه وأن يكون تذكيرا بالنعمة في تخلية الله إياهم وما يتبعون فيه من الجناة وغير ذلك مع الأمن والدعة والنخل والهضيم قال ابن عباس: إذا أينع وبلغ * من الجبال أي مغارات ليحفظوا أموالهم.
{ فارهين } قال قتادة: آمنين وقيل غير ذلك * ومثلنا أي في الأكل والشرب وغير ذلك من صفات البشر فلا اختصاص لك بالرياسة.
{ فأت بآية } أي بعلامة على صحة دعواك وفي الكلام حذف تقديره قال آتي بها قالوا ما هي قال هذه ناقة * روي أنهم اقترحوا عليه ناقة عشراء تخرج من هذه الصخرة تلد سبقا فقعد صالح يتفكر فقال له جبريل عليه السلام صل ركعتين وسل ربك بالناقة ففعل فخرجت الناقة وبركت بين أيديهم ونتجت سبقا مثلها في العظم وتقدم في الأعراف طرف من قصة ثمود والناقة والشرب النضيب المشروب من الماء نحو السقي وظاهر هذا العذاب أنه في الدنيا وكان وقع ووصف بالعظم لحلول العذاب فيه ونسب العقر إلى جميعهم لكونهم راضين بذلك حتى روي أنهم استرضوا المرأة في خدرها والصبيان فرضوا جميعا.
{ فأصبحوا نادمين } لا ندم توبة بل ندم خوف أن يحل بهم العذاب عاجلا وذلك عند معاينة العذاب وذلك في غير وقت التوبة أصبحوا وقد تغيرت ألوانهم حسبما كان أخبرهم به صالح عليه السلام وكان العذاب صيحة خمدت لها أبدانهم وانشقت قلوبهم وماتوا عن آخرهم وصب عليهم حجارة خلال ذلك وأل في أخذهم العذاب للعهد في العذاب السابق أي عذاب ذلك اليوم العظيم.
{ كذبت قوم لوط المرسلين } الآية.
{ أتأتون } إستفهام إنكار وتقريع وتوبيخ والذكر أن جمع ذكر مقابل الأنثى والإتيان كناية عن وطء الرجال وقد سماه تعالى بالفاحشة.
{ من العالمين } وهو مخصوص بذكر أن بني آدم وقيل مخصوص بالغرباء.
{ وتذرون ما خلق لكم ربكم } ظاهر في كونهم لا يأتون النساء اما البتة وإما غلبة.
{ ما خلق لكم ربكم } يدل على الإباحة بشرطها.
{ من أزواجكم } أي من الإناث.
{ بل أنتم قوم عادون } أي متجاوزون الحد في الظلم وهو إضراب بمعنى الإنتقال من شىء إلى شىء ولما نهاهم عن هذا الفعل القبيح توعدوه بالإخراج وهو النفي من بلده الذي نشأ فيه أي لئن لم تنته عن دعواك النبوة وعن الإنكار علينا فيما نأتيه من الذكر ان لننفينك كما نفينا من نهانا قبلك.
{ قال إني لعملكم } أي للفاحشة التي أنتم تعملونها ولعملكم متعلق بالقالين قال أبو عبد الله الرازي القلى البغض الشديد كأنه بغض فقلى الفؤاد والكبد " انتهى " ولا يكون قلى بمعنى أبغض وقلى من الشي والطبخ من مادة واحدة لاختلاف التركيب فمادة قلى من الشي من ذوات الواو وتقول قلوت اللحم فهو مقلو ومادة قلى من البغض من ذوات الياء قليت الرجل فهو مقلي ولست بمقلي الخلال ولا قال ولما توعدوه بالإخراج أخبرهم ببغض عملهم ثم دعا ربه فقال:
{ رب نجني وأهلي } أي من عقوبة ما يعملون من المعاصي * ولما كانت زوجته مندرجة في الأصل وكان ظاهر دعائه دخولها في النتيجة وكانت كافرة استثنيت في قوله:
{ فنجيناه وأهله أجمعين * إلا عجوزا في الغابرين } وفي الغابرين صفة أي من الباقين من لداتها وأهل بيتها ونجاته عليه السلام ان أمره بالرحلة ليلا وكانت امرأته كافرة تعين عليه قومه فأصابها حجر فهلكت فيمن هلك قال قتادة: أمطر الله تعالى على شذاذ القوم حجارة من السماء فهلكوا وقال مقاتل خسف الله بقوم لوط وأرسل الحجارة على من كان خارجا من القرية ولم يكن فيها مؤمن إلا بيت لوط عليه السلام.
{ كذب أصحاب لئيكة المرسلين } روي في الحديث أن شعيبا أخا مدين أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة أمرهم بإيفاء الكيل وهو الواجب ونهاهم عن الإخسار وهو التطفيف ولم يذكر الزيادة على الواجب لأن النفوس قد تشح بذلك فمن فعله فقد أحسن ومن تركه فلا حرج وتقدم تفسير القسطاس في سورة الإسراء.
{ ولا تبخسوا الناس أشيآءهم } تقدم الكلام عليها ولما تقدم أمره عليه السلام بتقوى الله إياهم أمرهم ثانيا بتقوى من أوجدهم وأوجد من قبلهم تنبيها على أن من أوجدهم قادر أن يعدمهم ويهلكهم وعطف عليهم.
{ والجبلة } إيذانا بذلك فكأنه قيل مصيركم إلى ما صار إليه أولوكم فاتقوا الله الذي تصيرون إليه والجبلة الخلق وقيل الخلق المتجمد الغليظ مأخوذ من الجبل ثم طلبوا منه إسقاط كسف من السماء عليهم وليس له ذلك فالمعنى إن كنت صادقا فادع الذي أرسلك أن يسقط علينا كسفنا أي قطعة ودل طلبهم ذلك على التصميم على الجحود والتكذيب ولما طلبوا منه ما طلبوا أحال علم ذلك إلى الله تعالى وأنه هو العالم بأعمالكم وما تستوجبون عليها من العقاب فهو يعاقبكم بما يشاء.
{ فكذبوه فأخذهم عذاب يوم الظلة } وهو نحو مما اقترحوا ولم يذكر الله تعالى كيفية عذاب الظلة وروي في حديثها اختلاف كثير فروي أنه حبس عنهم الريح سبعا فابتلوا بحر عظيم يأخذ بأنفاسهم لا ينفعهم ظل ولا ماء فاضطروا إلى أن خرجوا إلى البرية فأظلتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما فاجتمعوا تحتها فأمطرت عليهم نارا فأحرقتهم وكرر ما كرر في أوائل هذه القصص تنبيها على أن طريقة الأنبياء واحدة لا اختلاف فيها وهي الدعاء إلى توحيد الله تعالى وعبادته ورفض ما سواه وأنهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما جاءت به الرسل عليهم السلام قبله وتلك عادة الأنبياء.
[26.192-227]
{ وإنه لتنزيل رب العالمين } الآية الضمير في وإنه عائد على القرآن أي أنه ليس بكهانة ولا سحر بل هو من عند الله تعالى وكأنه عاد أيضا إلى ما افتتح به السورة من إعراض المشركين عما يأتيهم من الذكر ليتناسب المفتتح والمختتم والروح هنا جبريل عليه السلام وتقدم في سورة مريم لم أطلق عليه الروح والظاهر تعلق.
{ على قلبك } ولتكون بنزل وخص القلب والمعنى عليك لأنه محل الوعي والتثبيت وليعلم أن المنزل على قلبه عليه الصلاة والسلام محفوظ لا يجوز عليه التبديل والتغيير وليكون عليه من التنزيل أو النزول اقتصر عليها لأن ذلك أزجر للسامع وإن كان القرآن نزله للإنذار والتبشير والظاهر تعلق بلسان ينزل فكان يسمع من جبريل عليه السلام حروفا عربية.
{ وإنه } أي القرآن.
{ لفي زبر الأولين } أي مذكور في الكتب المنزلة القديمة منبه عليه مشار إليه.
{ أو لم يكن لهم آية } أي علامة على صحته علم بني إسرائيل إذ كانت قريش ترجع في كثير من الأمور الثقيلة إلى بني إسرائيل ويسألونهم عنها ويقولون هم أصحاب الكتب الإلهية وقد تهود كثير من العرب وتنصر كثير لاعتقادهم في صحة دينهم وذكر الثعلبي عن ابن عباس أن أهل مكة بعثوا إلى أحبار يثرب يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا هذا زمانه ووصفوا نعته وخلطوا في أمر محمد عليه الصلاة والسلام فنزلت الآية في ذلك ويؤيد هذا كون الآية مكية وقرىء يكن بالياء آية النصب خبر يكن وأن يعلمه أن مع الفعل بتأويل المصدر تقديره علم بني إسرائيل وهو إسم يكن وقرىء تكن بالتاء آية بالرفع وخرجه الزمخشري على أن آية إسم تكن وأن يعلمه الخبر فجعل النكرة إسم تكن وأن يعلمه المعرفة الخبر وهو عكس الإعراب أعني جعل الإسم نكرة والخبر معرفة وهو لا يجوز إلا في الشعر كقول الشاعر كان سبيئة من بيت رأس يكون مزاجها عسل وماء والأحسن في هذه القراءة أن يكون في تكن ضمير القصة إسما لها وآية وأن يعلمه جملة في موضع خبر تكن.
{ ولو نزلناه } بلغة العجم على رجل أعجمي فقرأه على العرب لم يؤمنوا به من حيث لم يفهموه واستنكفوا اتباعه وقال الفراء الأعجمين جمع أعجم أو أعجمي على حذف ياء النسب ما قالوا الأشعريين واحدهم أشعري.
{ فقرأه عليهم } أي على العرب بلسان العجم والضمير في سلكناه عائد على ما عادت عليه الضمائر قيل وهو القرآن والمعنى مثل ذلك المثل وهو الإدخال والتمكين والتفهم لمعانيه.
{ سلكناه } أدخلناه ومكناه في قلوب المجرمين والمعنى ما ترتب على ذلك السلك من كونهم فهموه وأدركوه فلم يزدهم ذلك إلا عنادا أو جحودا أو كفروا به ورؤيتهم للعذاب قيل في الدنيا وقيل يوم القيامة.
{ فيقولوا } أي كل أمة معذبة.
{ هل نحن منظرون } مؤخرون وهذا على جهة التمني منهم والرغبة حيث لا تنفع الرغبة ثم رجع لفظ الآية إلى توبيخ قريش على استعجالهم عذاب الله في طلبهم سقوط السماء كسفا وغير ذلك وقولهم للرسول أين الذي تعدنا به.
{ أفرأيت إن متعناهم سنين } خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة الحجة عليهم في أن مدة الإرجاء والإمهال والإملاء لا تغني إذ أنزل العذاب بعدها ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية من القرى إلا قد أرسل إليها من ينذرها عذاب الله إن هي عصت ولم تؤمن كما قال تعالى:
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا
[الإسراء: 15] وجمع منذرون لأن من قرية عام في القرى الظالمة كأنه قيل وما أهلكنا القرى الظالمة والجملة من قوله لها منذرون في موضع الحال من قرية قال الزمخشري: فإن قلت كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ولم تعزل عنها في قوله وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم قلت الأصل عزل الواو لأن الجملة صفة لقرية وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله
سبعة وثامنهم كلبهم
[الكهف: 22] " انتهى " الإعراب أن يكون لها في موضع الحال وارتفع منذرون بالمجرور أي إلا كائنا لها منذرون فتكون من مجيء الحال مفرد إلا جملة ولو قدرنا لها منذرون جملة لم يجز أن تجيء صفة بعد إلا ومذهب الجمهور أنه لا تجيء الصفة بعد إلا معتمدة على أداة الاستثناء نحو ما جاء في أحد إلا راكب وإذا سمع مثل هذا خرجوه على البدل أي إلا رجل ركب ويدعى على صحة هذا المذهب أن العرب تقول ما مررت بأحد إلا قائما ولا يحفظ من كلامها مررت بأحد إلا قائم بالجر فلو كانت الجملة في موضع الصفة للنكرة لورد المفرد بعد إلا صفة لها فإن كانت الصفة غير معتمدة على الأداة جاءت الصفة بعد إلا نحو ما جاءني أحد إلا زيد خير من عمرو والتقدير ما جاءني أحد خير من عمرو إلا زيد وأما كون الواو تزاد لتأكيد وصل الصفة بالموصوف فغير معهود في كلام النحويين لو قلت جاءني رجل وعاقل على أن يكون وعاقل صفة لرجل لم يجز وإنما تدخل الواو في الصفات جوازا إذا عطف بعضها على بعض وتغاير مدلولها نحو مررت بزيد الكريم والشجاع والشاعر وأما ثامنهم كلبهم فقد تقدم الكلام عليه في موضعه.
و { ذكرى } منصوب على المصدر والعامل فيه منذرون لأنه في معنى مذكرون وقال الزمخشري: ووجه آخر وهو أن تكون ذكرى متعلقة بأهلكنا مفعولا له معنى والتقدير وما أهلكنا من أهل قرية ظالمة إلا بعد ما ألزمناهم الحجة بإرسال المنذرين إليهم ليكون تذكرة وعبرة لغيرهم فلا يعصوا مثل عصيانهم.
{ وما كنا ظالمين } فنهلك قوما غير ظالمين وهذا الوجه عليه المعول " انتهى " هذا لا معول عليه لأن مذهب الجمهور إن ما قبل إلا لا يعمل فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى أو مستثنى منه أو تابعا له غير معتمد على الأداة نحو ما مررت بأحد إلا زيد خير من عمرو والمفعول له ليس واحدا من هذه الثلاثة فلا يجوز أن يتعلق بأهلكنا ويتخرج جواز ذلك على مذهب الكسائي والأخفش وإن كانا لم ينصا على المفعول له بخصوصيته.
{ وما تنزلت به الشياطين } الآية كان مشركو قريش يقولون ان لمحمد تابعا من الجن يخبره كما يخبر الكهنة فنزلت والضمير في به يعود على القرآن بل نزل به الروح الأمين وما أحسن ما ترتب نفي هذه الجمل نفي أولا تنزل الشياطين به والنفي في الغالب يكون في الممكن وإن كان هنا لا يمكن من الشياطين التنزل بالقرآن ثم نفى ابتغاء ذلك والصلاحية أي ولو فرض الإمكان لم يكونوا أهلا له ثم نفى قدرتهم على ذلك وأنه مستحيل في حقهم التنزل به فارتقى في نفي الإمكان إلى نفي الصلاحية إلى نفي القدرة والإستطاعة وذلك مبالغة مرتبة في نفي تنزيلهم به ثم علل انتفاء ذلك على استماع كلام أهل السماء مرجومون بالشهب ثم قال تعالى:
{ فلا تدع مع الله إلها آخر } والخطاب في الحقيقة للسامع لأنه تعالى قد علم أن ذلك لا يمكن أن يكون من الرسول عليه الصلاة والسلام ولذلك قال المفسرون المعنى قل يا محمد لمن كفر لا تدع مع الله إلها آخر ثم أمره تعالى بإنذار عشيرته والعشيرة تحت الفخذ وفوق الفصيلة ونبه على العشيرة وإن كان مأمورا بإنذار الناس كافة لأن في إنذارهم وهم عشيرته عدم محاباة ولطف بهم وأنهم والناس في ذلك شرع واحد في التخويف والإنذار.
{ واخفض جناحك } تقدم الكلام على هذه الجملة في آخر الحجر وهو كناية عن التواضع نهاه عن التكبر بعد التواضع.
و { من المؤمنين } عام في عشيرته وغيرهم.
{ وتوكل } قرىء بالفاء والواو.
و { حين تقوم } في التهجد والصلاة والقيام بالليل.
{ وتقلبك } معطوف على مفعول يراك أي ويرى تقلبك.
{ هل أنبئكم } أي قل يا محمد هل أخبركم وهذا استفهام توقيف وتقرير.
و { على من } متعلق بتنزل والجملة المتضمنة معنى الإستفهام في موضع نصب لأنبئكم لأنه بمعنى أعلمكم فإن قدرتها متعدية لاثنين كانت سادة مسد المفعول الثاني وأن قدرتها متعدية لثلاثة كانت سادة مسد الاثنين.
{ على كل أفاك } وهو الكثير الإفك وهو الكذب.
و { أثيم } كثير الإثم فأفاك وأثيم صيغتا مبالغة والمراد الكهنة والضمير في { يلقون } يحتمل أن يكون عائد على الشياطين أي ينصتون ويصغون بأسماعهم ليسترقوا شيئا مما تكلم به الملائكة حتى ينزلوا بها إلى الكهنة أو يلقون السمع أي المسموع إلى من يتنزلون عليه.
{ وأكثرهم } أي وأكثر الشياطين الملقين.
{ كاذبون } فعلى معنى الإنصات يكون استئناف اخبار وعلى إلقاء المسموع إلى الكهنة احتمل الاستئناف واحتمل أن يكون حالا من الشياطين أي تنزل على كل أفاك أثيم ملقين ما سمعوا.
{ والشعرآء يتبعهم الغاوون } قيل هي أمية بن أبي الصلت وأبي عزة ومسافع الجمحي وهبيرة بن أبي وهب وأبي سفيان بن الحرث وابن الزبعري وقد أسلم ابن الزبعري وأبو سفيان والشعراء عام يدخل فيه كل شاعر والمذموم من يمدح ويهجو شهوة محرمة ويقذف المحصنات ويقول الزور وما لا يسوغ شرعا والغاوون قال ابن عباس: الرواة وقال أيضا: المستحسنون لأشعارهم المصاحبون لهم.
{ ألم تر أنهم في كل واد يهيمون } تمثيل لذهابهم في كل شعب من القول واعتسافهم وقلة مبالاتهم بالغلو في المنطق ومجاوزة الحد في القصد حتى يفضلوا أجبن الناس على عنترة وأشحهم على حاتم ويبهتوا البريء ويفسقوا التقي.
{ وأنهم يقولون ما لا يفعلون } وذلك لغلوهم في أفانين الكلام ولهجهم في الفصاحة والمعاني اللطيفة قد ينسبون لأنفسهم ما لا يقع منهم وقد درأ الحد في الخمر عمر بن الخطاب عن النعمان بن عدي في شعر قاله لزوجته حين احتج عليه بهذه الآية وقد كان ولاه ميسان فعزله وأراد أن يحده والفرزدق أنشد سليمان بن عبد الملك فبتن كأنهم مصرعات * وبت أفض أغلاق الختام * فقال له سليمان لقد وجب عليك الحد فقال لقد درأ الله عني الحد بقوله: { وأنهم يقولون ما لا يفعلون } أخبر تعالى عن الشعراء بالأحوال التي تخالف أمر النبوة إذ أمرهم كما ذكر والمراد بالمستثنين حسان وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك وكعب بن زهير ومن كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال عليه الصلاة والسلام لكعب بن مالك
" أهجهم فوالذي نفسي بيده لهو أشد عليهم من النبل "
وقال لحسان:
" قل وروح القدس معك "
ولما ذكر:
{ وانتصروا من بعد ما ظلموا } توعد الظالمين هذا التوعد العظيم الهائل الصادع للأكياد وأبهم في قوله:
{ أي منقلب ينقلبون } وكان السلف الصالح يتواعظون بها والمفهوم من الشريعة أن الذين ظلموا هم الكفار وقرأ ابن عباس وابن أرقم عن الحسن أي منفلت ينفلتون بفاءين وتاءين ومعناه بأن الذين ظلموا يطمعون أن ينفلتوا من عذاب الله تعالى وسيعلمون أن ليس لهم وجه من وجوه الإنفلات وهو النجاة وسيعلم هنا معلقة وأي ومنقلب استفهام والناصب له ينقلبون وهو مصدر والجملة في موضع المعمول لسيعلم.
[27 - سورة النمل]
[27.1-20]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين } هذه السورة مكية بلا خلاف * ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة لأنه قال وما تنزلت به الشياطين وقبله وأنه لتنزيل رب العالمين وقال هنا طس تلك آيات القرآن أي الذي هو تنزيل رب العالمين وأضاف الآيات إلى القرآن والكتاب المبين على سبيل التفخيم لها والتعظيم لأن المضاف إلى العظيم عظيم والمبين تقدم الكلام عليه.
{ هدى } قيل إلى الجنة.
{ وبشرى } بالثواب ولما كان الإيقان بالآخرة مما هو ثابت عندهم مستقر الديمومة جاءت الجملة إسمية وأكد المسند إليه فيها بتكراره فقيل:
{ هم يوقنون } وجاء خبر المبتدأ أفعلا ليدل على الديمومة واحتمل أن تكون تلك الجملة استئناف اخبار * قال ابن عطية: والأخسرون جمع أخسر لأن أفعل صفة لا يجمع إلا أن يضاف فيقوى ويثبت في الأسماء وفي هذا نظر " انتهى " لا نظر في كونه يجمع جمع سلامة أو جمع تكسير إذا كان بال بل لا يجوز فيه إلا ذلك إذا كان قبله ما يطابقه في الجمعية فتقول الزيدون هم الأفضلون والأفاضل والهندات هن الفضليات والفضل وأما قوله لا يجمع إلا أن يضاف فلا يتعين إذ ذاك جمعه بل إذا أضيف إلى نكرة فلا يجوز جمعه وإن أضيف إلى معرفة جاز فيه الجمع والإفراد على ما قرر ذلك في كتب النحو.
{ وإنك لتلقى القرآن } لما تقدم تلك آيات القرآن خاطب نبيه عليه الصلاة والسلام بقوله: وإنك أي هذا القرآن الذي تلقيته هو من عند الله وهو الحكيم العليم لا كما ادعاه المشركون من أنه إفك وأساطير وكهانة وشعر وغير ذلك من تقولاتهم وبني الفعل للمفعول وحذف الفاعل وهو جبريل عليه السلام للدلالة عليه في قوله:
نزل به الروح الأمين
[الشعراء: 193] ولقي مخفضا يتعدى إلى واحد والتضعيف فيه للتعدية فيتعدى به إلى اثنين وكأنه كان غائبا عنه فلقيه فتلقاه.
و { إذ قال موسى } تقدم الكلام عليه.
{ آتيكم بشهاب قبس } على الإضافة وبشهاب منونا قبس بدلا منه والظاهر أن الضمير في جاءها عائد على النار ونودي المفعول الذي لم يسم فاعله ضمير عائد على موسى عليه السلام وان على هذا يجوز أن تكون مفسرة لوجود شرطها ويجوز أن تكون مصدرية إما الثنائية التي تنصب المضارع وبورك صلة لها والأصل حرف الجر أي بأن بورك وبورك الخبر وإما المخففة من الثقيلة وأصلها بحرف الجر ومن مفعول لم يسم فاعله قال الزمخشري فإن قلت هل يجوز أن تكون يعني أن في قوله ان بورك المخففة من الثقيلة وتقديره أنه بورك والضمير ضمير الشأن والقصة قلت لا لأنه لا بد من قد فإن قلت فعلى إضمارها قلت لا يصح لأنها علامة ولا تحذف " انتهى " يجوز أن تكون المخففة من الثقيلة وبورك فعل دعاء كما تقول بارك الله فيك وإذا كان دعاء لم يجز دخول قد عليه فيكون كقوله تعالى: والخامسة إن غضب الله عليها في قراءة من جعله فعلا ماضيا وكقول العرب إما أن جزاك الله خيرا وإما أن يغفر الله لك وكان الزمخشري بنى ذلك على أن بورك خبر لادعاء فلذلك لم يجز أن تكون المخففة من الثقيلة.
و { من في النار } موسى عليه السلام ومن حولها هم الملائكة وجعلت النار ظرفا له عليه السلام. لما كان طالبا لها وجائيا إليها والظاهر أن الضمير في أنه ضمير الشأن.
و { أنا الله } جملة في موضع الخبر.
و { العزيز الحكيم } صفتان قال الزمخشري: يجوز أن يكون الضمير في أنه راجعا إلى ما دل عليه ما قبله يعني مكلمك أنا والله بيان لأنا والعزيز الحكيم صفتان للبيان " انتهى " إذا حذف الفاعل وبني الفعل للمفعول فلا يجوز أن يعود الضمير على ذلك المحذوف إذ قد غير الفعل عن نائبه له وعزم على أن لا يكون محدثا عنه فعود الضمير إليه مما ينافي ذلك إذ قد يصير معنى به مقصودا.
{ وألق عصاك } تقدم الكلام عليه وهنا شبهها حالة اهتزازها بالجان قيل وهو صغار الحيات شبهها بها في سرعة اضطرابها وحركتها مع عظم جثتها * ولما رأى موسى عليه السلام هو الأمر الهائل.
{ ولى مدبرا ولم يعقب } أي لم يرجع.
{ إلا من ظلم } إستثناء منقطع والمعنى لكن من ظلم من غيرهم.
{ وأدخل يدك في جيبك } تقدم الكلام عليه.
{ في تسع آيات } أي في جملة تسع آيات وتقدم الكلام على الآيات في الأعراف.
{ إلى فرعون } أي ذاهبا إلى فرعون.
{ وجحدوا بها } ضمن جحدوا معنى كفروا فلذلك عداه بالباء وانتصب.
{ ظلما } على أنه مفعول من أجله والعامل فيه جحدوا.
{ ولقد آتينا داوود وسليمان علما } هذا ابتداء قصص وإخبار بمغيبات وغير منكر علما لأنه طائفة من العلم * ومنطق الطير استعاره لما يسمع منها من الأصوات وهو حقيقة في بني آدم لما كان سليمان يفهم منه ما يفهم من كلام بني آدم كما يفهم بعض الطير من بعض أطلق عليه منطق.
{ وأوتينا من كل شيء } ظاهره العموم المراد الخصوص أي من كل شىء يصلح لنا ونتمناه وأريد به كثرة ما أوتي فكأنه مستغرق لجميع الأشياء.
{ فهم يوزعون } يحشر أولهم على آخرهم أي يوقفوا متقدمو العسكر حتى يأتي آخرهم فيجتمعون لا يتخلف منهم أحد وذلك للكثرة العظيمة.
{ حتى إذآ أتوا } هذه غاية لشىء مقدر أي وساروا حتى إذا أتوا أو يضمن يوزعون معنى فعل يقتضي أن تكون حتى غاية له أي فهم يسيرون منكوفا بعضهم من مفارقة بعض وعدي أتوا بعلى أما لأن إتيانهم كان من فوق واما أن يراد قطع الوادي وبلوغ آخره من قولهم أتى على الشىء إذا أتى على آخره وأنفذه وذكروا اختلافا كثيرا في صغر هذه النملة وكبرها وفي اسمها العلم ما لفظه وليت شعري من الذي وضع لفظا يحضها أبنو آدم أم النمل وقالوا كانت نملة عرجاء ولحوق التاء في قالت لا يدل على أن النملة مؤنثة بل يصح أن يقال في المذكر قالت نملة لأن نملة وإن كانت بالتاء وهو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث وما كان كذلك كالنملة والقملة مما بينه في الجمع وبين واحده من الحيوان تاء التأنيث فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث على أنه ذكر أو أنثى لأن التاء دخلت فيه للفرق لا دالة على التأنيث الحقيقي بل دالة على الواحد من هذا الجنس والضمير في أدخلوا ضمير جمع من يعقل وكذلك ضمير الخطاب في مساكنكم لما كان النمل قابلا لفعل ما أمروا به نزلوا منزلة جمع من يعقل ووادي النمل قيل بالشام وقيل بأقصى اليمن وفي الكلام حذف تقديره فسمع سليمان قولها:
{ فتبسم ضاحكا من قولها وقال رب أوزعني } أي اجعلني أزع شكر نعمتك وارتبطه حتى لا ينفلت مني حتى لا أنفك شاكرا لك.
{ وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد } الآية الظاهر أنه تفقد جميع الطير وذلك بحسب ما تقتضيه العناية بأمور الملك والاهتمام بالرعايا قيل وكان يأتيه من كل صنف واحد وفي الكلام حذف تقديره ففقد الهدهد حين تفقد الطير.
{ أم } هنا هي المنقطعة تتقدر ببل والهمزة ودل قوله من الغائبين أنه كان في عسكر سليمان من كان يغيب عنه.
[27.21-34]
{ لأعذبنه عذابا شديدا } أبهم العذاب الشديد وفي تعيينه أقوال مضطربة فمنها أنه يحشره مع غير جنسه والسلطان المبين الحجة والعذر وفيه دليل على الاغلاظ على العاصين وعقابهم وبدأ أولا بأخف العقابين وهو التعذيب ثم أتبعه بالأشد وهو إذهاب المهجة بالذبح وأقسم على هذين لأنهما من فعله وأقسم على الإتيان بالسلطان وليس من فعله لما نظم الثلاثة في الحكم باه كأنه قال ليكونن أحد هذه الثلاثة والمعنى ان أتى بالسلطان لم يكن تعذيب ولا ذبح وإلا كان أحدهما * والظاهر أن الضمير في مكث عائد على الهدهد أي غير زمن بعيد أي عن قريب ووصف مكثه بقصر المدة للدلالة على إسراعه خوفا من سليمان وليعلم كيف كان الطير مسخرا له ولبيان ما أعطي من المعجزة الدالة على نبوته وعلى قدرة الله تعالى وكان فيما روي قد أعلم بما أقسم به سليمان فبادر إلى جوابه بما يسكن غيظه عليه وهو أن غيبته كانت لأمر عظيم عرض له.
{ فقال أحطت بما لم تحط به } وفي هذا جسارة من لديه علم لم يكن عند غيره وتبجحه بذلك وإبهام حتى تتشوق النفس إلى معرفة ذلك المبهم ما هو ومعنى الإحاطة هنا أنه علم علما ليس عند نبي الله سليمان عليه السلام قال الزمخشري: ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة إبتلاء له في علمه وتنبيها على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به لتتحاقد إليه نفسه ويصغر إليه علمه ويكون لطفا له في ترك الإعجاب الذي هو فتنة للعلماء وأعظم بها فتنة والإحاطة بالشىء علما أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم قالوا وفيه دليل على بطلان قول الرافضة ان الإمام لا يخفى عليه شىء ولا يكون في زمانه أحد علم منه " انتهى " ولما أبهم في قوله: بما لم تحط به انتقل إلى ما هو أقل منه إبهاما وهو قوله:
{ وجئتك من سبإ بنبإ يقين } إذ فيه إخبار بالمكان الذي جاء منه وأنه له علم بخبر مستيقن له وقرىء فمكث بضم الكاف وفتحها وذكر أن مثل سبأ بنبأ يسمى تجنيس التصريف قال: وهو أن تنفرد كل كلمة من الكلمتين عن الأخرى بحرف ومنه قول ذلكم بما كنتم تفرحون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تمرحون ولفظ بناء لا يكون إلا الخبر الذي له شأن ولفظ الخبر مطلق فيطلق على ماله شأن وما ليس له شأن ولما أبهم الهدهد أولا ثم أبهم ثانيا دون ذلك الإبهام صرح بما كان أبهمه فقال:
{ إني وجدت امرأة تملكهم } ومعنى وجدت هنا أصبت والضمير في تملكهم عائد على سبأ إن كان أريد به القبيلة وإن أريد الموضع فهو على حذف مضاف أي وجئتك من أهل سبأ والمرأة بلقيس بنت شراحيل وكان أبوها ملك اليمن كلها وقد ولده أربعون ملكا ولم يكن له ولد غيره فغلبت على الملك وكانت هي وقومها مجوسا يعبدون الشمس.
{ من كل شيء } هذا على سبيل المبالغة والمعنى من كل شىء احتاجت إليه أو من كل شىء في أرضها.
{ ولها عرش عظيم } قيل كرسيها وكان مرصعا بالجواهر وما أحسن ائتلافات هذه الأخبار بعد تهدد الهدهد وعلمه بذلك أخبر أولا باطلاعه على ما لم يطلع عليه سليمان تحصنا من العقوبة برتبة العلم الذي حصلت له فتشوق السامع إلى ذلك ثم أخبر ثانيا بمتعلق ذلك العلم وهو أنه من سبأ وأنه أمر متقين لا يشك فيه فزاد تشوق السامع إلى سماع ذلك النبأ ثم أخبر ثالثا عن الملك الذي أوتيته امرأة وكان سليمان قد سأل الله تعالى أن يؤتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده ثم أخبر رابعا ما ظاهره الاشتراك وبين هذه المرأة التي ليس من شأنها ولا من شأن النساء أن تملك فحول الرجال وهو قول وأوتيت من كل شىء وقوله ولها عرش عظيم وكان سليمان له بساط قد صنع له وكان عظيما ولم يتأثر سليمان للإخبار بهذا كله إذ هو أمر دنياوي أخبره خامسا بما يهزه لطلب هذه الملكة ودعائها إلى الإيمان بالله تعالى وإفراده بالعبادة فقال:
{ وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله } وقرىء إلا بالتخفيف وهو حرف استفتاح وياء للتنبيه واسجدوا فعل أمر وقرىء ألا بالتشديد وهي أدغمت نونها في لا التي للنفي ويسجدوا فعل مضارع منصوب بأن والمعنى فهم لا يهتدون لنفي سجودهم لله تعالى أي الحامل لهم على انتفاء الهداية إنتفاء سجودهم لله تعالى لأن الذنب يجر الذنب فلما انتفى عنهم السجود انتفت الهداية وفي البحر إعراب يوقف عليه فيه * والخبء مصدر أطلق على المخبوء وهو المطر والنبات وغيرهما مما خبأه الله تعالى من غيوبه * والظاهر أن في السماوات متعلق بالخبء أي المخبوء في السماوات * والظاهر أن قوله ألا يسجدوا إلى العظيم من كلام الهدهد ولما فرغ الهدهد من كلامه وأبدى عذره في غيبته أخر سليمان أمره إلى أن يتبين له صدقه فقال:
{ سننظر أصدقت } والنظر هنا التأمل والتصفيح وأصدقت جملة معلق عنها سننظر وهي في موضع نصب على إسقاط حرف الجر لأن نظر بمعنى التأمل والتفكر إنما يتعدى بحرف الجر الذي هو في وعادل بين الجملتين بأم ولم يكن التركيب أم كذبت لأنه كان ثم كذابون وفي الكلام حذفت تقديره فأمر بكتابة كتاب إليهم وبذهاب الهدهد رسولا إليهم بالكتاب فقال إذهب بكتابي هذا أي الحاضر المكتوب الآن فألقه إليهم ثم تول عنهم أي تنح عنهم إلى مكان قريب بحيث تسمع ما يصدر منهم وما يرجع به بعضهم إلى بعض من القول وفي قوله إذهب بكتابي هذا فألقه إليهم دليل على إرسال الكتب للمشركين من الإمام يبلغهم الدعوة ويدعوهم إلى الإسلام وقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك العرب وقال وهب أمره بالتولي حسن أدب ليتنحى حسبما يتأدب به مع الملوك بمعنى وكن قريبا بحيث تسمع مراجعتهم * ومعنى فانظر ماذا يرجعون أي تأمل واستحضره في ذهنك وقيل معناه فانتظر وماذا إن كان معنى فانظر معنى التأمل بالفكر كان أنظر معلقا * وما داما كلمة استفهام في موضع نصب وإما أن تكون ما استفهاما وذا موصول بمعنى الذي فعلى الأول يكون يرجعون خبراعن ماذا وعلى الثاني يكون ذا هو الخبر * ويرجعون صلة ذا وإذا كان معنى فانظر فانتظر فليس فعل قلب فيعلق بل يكون ماذا كله موصولا بمعنى الذي أي فانتظر الذي يرجعون والمعنى فانظر ماذا يرجعون حتى ترد إلى ما يرجعون من القول وفي الكلام حذف تقديره فذهب وألقى الكتاب وتفكر فيما يرجع به إليه.
{ قالت يأيها الملأ إني ألقي إلي كتاب كريم } الآية فقيل ان الهدهد ألقى الكتاب من كوة كانت في القصر وتوارى فيها فأخذت الكتاب ونادت أشراف قومها وكانت قارئة عربية من قوم تبع.
{ قالت يأيها الملأ } وكرم الكتاب لطبعه بالخاتم وفي الحديث كرم الكتاب ختمه أو لكونه من سليمان وكانت عالمة بملكه ثم أخبرتهم فقالت:
{ إنه من سليمان } كأنها قيل لها ممن الكتاب وما هو فقالت إنه من سليمان وإنه كيت وكيت أبهمت أولا ثم فسرت وفي بنائها ألقي للمفعول دلالة على جهلها بالملقى حيث حذفته أو تحقيرا له حيث كان طائرا إن كانت شاهدته والظاهر أن بداءة الكتابة من سليمان بسم الله الرحمن الرحيم إلى آخر ما قص الله منه خاصة وأن من:
{ ألا تعلوا } مفسرة ولا تعلو فهي لمشاكلة عطف الأمر عليه ولما قرأت على الملأ الكتاب ورأت ما فيه من الأمر بالانتقال إلى سليمان استشارتهم في أمرها وكانت بأرض مأرب من صنعاء على ثلاثة أيام والمراد هنا أشيروا علي بما عندكم فيما حدث لها من الرأي السديد والتدبير وقصدت بإشارتهم واستطلاع آرائهم واستعطافهم وتطييب نفوسهم ليمالؤها ويقوموا معها.
{ ما كنت قاطعة أمرا } أي مبرمة وفاصلة أمرا.
{ حتى تشهدون } أي تحضروا عندي فلا أستبد بأمر بل تكونون حاضرين معي وما كنت قاطعة أمرا عام في كل أمر أي إذ كانت عادتي هذه معكم فكيف لا أستشيركم في هذه الحادثة الكبرى التي هي الخروج من الملك والانسلاك في طاعة غيري والصيرورة تبعا فراجعها الملأ بما أقر عينها من قولهم نحن أولو قوة أي قوة بالعدة والعدد.
و { وأولو بأس شديد } أي أصحاب شجاعة وخبرة ثم قالوا.
{ والأمر إليك فانظري ماذا تأمرين } وذلك من حسن محاورتهم إذ وكلوا الأمر إليها وفيه دليل على الطاعة المفرطة أي نحن ذكرنا ما نحن عليه ومع ذلك فالأمر موكول إليك كأنهم أشاروا أولا بالحرب أو أرادوا نحن أبناء الحرب لا أبناء الاستشارة وأنت ذات الرأي والتدبير الحسن فانظري ماذا تأمرين به نرجع إليك ونتبع رأيك وفانظري من التأمل والتفكر وماذا هو المفعول الثاني لتأمرين والمفعول الأول محذوف لفهم المعنى أي تأمريننا به والجملة معلق عنها أنظري فهي في موضع مفعول لأنظري بعد إسقاط الحرف من إسم الإستفهام ولما وصل إليها كتاب سليمان لا على يد رجل بل على طائر استعظمت ملك سليمان وعلمت أن من سخر له الطير حتى يرسله بأمر خاص إلى شخص خاص مغلق عليه الأبواب غير ممتنع عليه تدويخ الأرض وملوكها فأخبرت بحال الملوك ومالت إلى المهاداة والصلح فقالت:
{ إن الملوك إذا دخلوا قرية } أي تغلبوا عليها.
{ أفسدوها } أي خربوها بالهدم والحرق والقطع وأذلوا أعزة أهلها بالقتل والنهب والأسر وقولها فيه تزييف لآرائهم في الحرب وخوف عليهم وحياطة لهم واستعظام لملك سليمان عليه السلام وجاء لفظ الهدية مبهما وقد ذكروا في تعيينها أقوالا مضطربة وذكروا من حليها في الهدية ومن حال سليمان حين وصلت إليه الهدية وكلامه مع رسلها ما الله أعلم بصحته.
[27.35-86]
{ فناظرة } معطوف على مرسلة.
و { بم } متعلق بيرجع والنظر هنا معلق أيضا والجملة في موضع مفعول به وفيه دلالة على أنها لم تثق بقبول الهدية بل جوزت الرد وأرادت بذلك أن ينكشف لها غرض سليمان والهدية إسم لما يهدى كالعطية إسم لما يعطى وروي أنها قالت لقومها إن كان ملكا ديناويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك وإن كان نبيا لم يرضه المال وينبغي لنا أن نتبعه على دنيه وفي الكلام حذف فأرسلت الهدية.
{ فلما جآء } أي الرسول سليمان والمراد بالرسول الجنس لا حقيقة المفرد وكذلك الضمير في إرجع والرسول يقع على الجمع والمفرد والمذكر والمؤنث.
و { أتمدونن بمال } إستفهام إنكار واستقلال وفي ذلك دلالة على عزوفه عن الدنيا وعدم تعلق قلبه بها عليه السلام ثم ذكر نعمة الله عليه وأن ما آتاه الله من النبوة وسعة الملك { خير ممآ آتاكم بل أنتم } بما يهدي إليكم.
{ تفرحون } لحبكم الدنيا.
{ ارجع إليهم } وهو خطاب للرسول الذي جاء بالهدية وهو المنذر بن عمرو أمير الوفد والمعنى إرجع إليهم بهديتهم ثم أقسم سليمان فقال:
{ فلنأتينهم بجنود } متوعدا لهم وفيه حذف أي إذا لم يأتوني مسلمين ودل هذا التوعد على أنهم كانوا كفارا باقين على الكفر إذ ذاك والضمير في بها عائد على الجنود ومعنى.
{ لا قبل } لا طاقة وحقيقة القبل المقاومة والمقابلة أي لا يقدرون أن يقاتلوهم والضمير في منها عائد على سبأ وهي أرض بلقيس وقومها وانتصب أذلة على الحال.
{ وهم صاغرون } حال أخرى والذل ذهاب ما كانوا فيه من العز والصغار وقوعهم في أسر واستبعاد ولا يقتصر بهم على أن يرجعوا سوقة بعد أن كانوا ملوكا.
{ قال يأيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها } الآية قال ابن عباس: كان سليمان مهيبا لا يبتدأ بشىء حتى يكون هو الذي يسأل عنه فنظر ذات يوم رهجا قريبا منه فقال ما هذا؟ قالوا بلقيس فقال ذلك.
{ قال عفريت من الجن أنا آتيك به } الآية وكان سليمان عليه السلام يجلس في مجلس الحكم من الصبح إلى الظهر فقيل من مقامك أي من مجلس الحكم وقيل قبل أن تستوي من جلوسك قائما.
{ وإني عليه } أي على الإتيان به.
{ لقوي } على حمله.
{ أمين } لا أختلس منه شيئا.
{ قال الذي عنده علم من الكتاب } قيل هو آصف بن برخيا وقيل غير ذلك والعلم الذي أوتيه إسم الله الأعظم والظاهر أن ارتداد الطرف حقيقة ولذلك روي أن سليمان قال: أريد أسرع من ذلك حين أجابه العفريت فروي أن آصف قال لسليمان عليه السلام: مد عينيك حتى ينتهي ظرفك فنظر نحو اليمن فدعا آصف فغار العرش من مكانه بمأرب ثم نبع عند مجلس سليمان عليه السلام بالشام بقدرة الله تعالى.
{ فلما رآه مستقرا عنده } في الكلام حذف تقديره فدعا الله فأتاه به فلما رآه أي عرش بلقيس وانتصب مستقرا على الحال وعنده معمول له والظرف إذا وقع في موضع الحال كان العامل فيه واجب الحذف فقال ابن عطية وظهر العامل في الظرف من قوله مستقرا وهذا هو المقدر أبدا في كل ظرف جاءها هنا مظهرا وليس في كتاب الله مثله " انتهى ".
{ قال هذا من فضل ربي } أي هذا الإتيان بعرشها وتحصيل ما أردت من ذلك هو فضل ربي علي وإحسانه ثم علل ذلك بقوله:
{ ليبلوني أأشكر أم أكفر } وتلقى سليمان النعمة وفضل الله بالشكر إذ ذاك نعمة متجددة والشكر قيد النعم.
و { أأشكر أم أكفر } في موضع نصب ليبلوني وهو معلق لأنه في معنى التمييز والتمييز في معنى العلم وكثر التعليق في هذا الفعل إجراء له مجرى العلم وإن لم يكن مرادفا له لأن مدلوله الحقيقي هو الإختبار.
{ ومن شكر فإنما يشكر لنفسه } أي ذلك الشكر عائد ثوابه إليه إذا كان قد صان نفسه عن كفران النعمة وفعل ما هو واجب عليه من شكر نعمة الله عليه.
{ ومن كفر } أي فضل الله ونعمته عليه.
{ فإن ربي غني } عن شكره إذ ثمرة شكره لا يعود نفعها إلى الله لأنه هو الغني المطلق الكريم بالانعام على من كفر نعمته والظاهر أن قوله: فإن ربي غني كريم هو جواب الشرط ولذلك أضمرنا في قوله غني أي عن شكره ويجوز أن يكون الجواب محذوفا دل عليه ما قبله من قسيمة أي ومن كفر فلنفسه أي ذلك الكفر عائد عقابه عليه.
{ قال نكروا لها عرشها } أمر بالتنكير وهو أن يزاد فيه وينقص والتنكير جعله متنكرا متغيرا عن شكله وهيئته.
{ فلما جآءت } في الكلام حذف تقديره فنكروا عرشها ونظروا ما جوابها إذ سئلت عنه فلما جاءت.
{ قيل أهكذا عرشك } أي أمثل هذا العرش الذي رأيتيه عرشك الذي تركتيه ببلادك ولم يأت التركيب أهذا عرشك بل جاء بأداة التشبيه لئلا يكون ذلك تلقينا لها ولما رأته على هيئة لا تعرفها فيه وتميزت فيه أشياء من عرشها لم تجزم بأنه هو ولا نفته النفي البالغ بل أبرزت ذلك في صورة تشبيهية فقالت:
{ كأنه هو } وذلك من جودة ذهنها حيث لم تجزم في الصورة المختلفة بأحد الجائزين من كونه إياه أو من كونه ليس إياه وقابلت تشبيههم بتشبيهها والظاهر أن قوله:
{ وأوتينا العلم } إلى قوله من قوم كافرين ليس من كلام بلقيس وإن كان متصلا بكلامها فقيل هو من كلام سليمان عليه السلام والصرح كل بناء عال ومنه ابن لي صرحا الآية ولما وصلت بلقيس أمر سليمان الجن فصنعت له صرحا وهو السطح من الصحن من غير سقف وجعلته مبنيا كالصهريج وملىء ماء وبث فيه السمك والضفادع وطبق بالزجاج الأبيض الشفاف ولهذا جاء صرحا وجعل لسليمان في وسطه كرسي فجلس عليه وعكفت عليه الطير والجن والإنس فلما وصلت بلقيس قيل لها أدخلي إلى نبي الله سليمان فرأت اللجة وفزعت ولم يكن لها بد من امتثال الأمر فكشفت عن ساقيها فرأى سليمان ساقيها سالمتين مما قالت الجن فيها فلما بلغت هذا الحد قال لها سليمان انه صرح ممرد من قوارير فعند ذلك استسلمت بلقيس وأذعنت وأسلمت وأقرت على نفسها بالظلم وفي الكلام حذف تقديره فدخلت امتثالا للأمر واللجة الماء الكثير وكشف ساقيها عادة كل من كان لابسا وأراد أن يخوض الماء إلى مقصد له ولم يكن المقصود من الصرح إلا تهويل الأمر وحصل كشف الساق على سبيل التبع قال ابن عطية: ومع ظرف بني على الفتح وأما إذا سكنت العين فلا خلاف أنه حرف جاء لمعنى " انتهى " الصحيح أنها ظرف فتحت العين أو سكنت وليس التسكين مخصوصا بالشعر كما زعم بعضهم بل ذلك لغة لبعض العرب والظرفية فيها مجاز وإنما هو إسم يدل على معنى الصحبة.
{ ولقد أرسلنآ إلى ثمود أخاهم صالحا } الآية ثمود هي بعد عاد الأولى وصالح أخوهم في النسب لما ذكر قصة موسى وداود وسليمان وهم من بني إسرائيل ذكر قصة من هو من العرب يذكر بها قريشا والعرب وينبههم على من تقدم من الأنبياء من العرب كان يدعو إلى إفراد الله تعالى بالعبادة ليعلموا أنهم في عبادة الأصنام على ضلالة وإن شأن الأنبياء عربهم وعجمهم هو الدعاء إلى عبادة الله تعالى وإن في أن اعبدوا الله يجوز أن تكون مفسرة لأن أرسلنا يتضمن معنى القول ويجوز أن تكون مصدرية أي بأن اعبدوا فحذف حرف الجر فعلى الأول لا موضع لها من الإعراب وعلى الثاني ففي موضعها خلاف أهو في موضع نصب أم في موضع جر والظاهر أن الضمير في فأداهم عائد على ثمود وان قومه انقسموا فريقين مؤمنا وكافرا وقد جاء ذلك مفسرا في سورة الأعراف في قوله: قال الذين استكبروا للذين استضعفوا لمن آمن منهم وإذا هنا هي الفجائية وعطف بالفاء الذي تقتضي التعقب المهلة فكان المعنى أنهم بادروا بالاختصام متعقبا دعاء صالح إياهم إلى عبادة الله تعالى وجاء يختصمون على المعنى لأن الفريقين جمع قوله
إنا بالذي آمنتم به كافرون
[الأعراف: 76] فقال آمنتم وهو ضمير الجمع وإن كان الفريق المؤمن هو صالحا وحده فإنه قد انضم إلى قومه والمجموع جمع وأوثر يختصمون على يختصمان وإن كان من حيث التثنية جائزا فصيحا لأنه مقطع فصل واختصامهم دعوى كل فريق أن الحق معهم وقد ذكر الله تعالى تخاصمهم في الأعراف ثم تلطف صالح بقومه ورفق بهم في الخطاب فقال مناديا لهم على جهة التحنن عليهم.
{ لم تستعجلون بالسيئة } أي بوقوع ما يسوؤكم.
{ قبل } الحالة.
{ الحسنة } وهي رحمة الله تعالى وكان قد قال لهم في حديث الناقة ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم فقالوا له: إئتنا بعذاب الله.
{ قالوا اطيرنا بك وبمن معك } أي تشاء منا بك وبالذين آمنوا معك فرد عليهم بقوله:
{ قال طائركم عند الله } أي حظكم في الحقيقة من خير أو شر هو من عند الله وبقضائه إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم * ثم انتقل إلى الاخبار عنهم بحالهم فقال:
{ بل أنتم قوم تفتنون } بشهواتكم أي تسعفون بها وجاء تفتنون بتاء الخطاب على مراعاة أنتم وهو الكثير في لسان العرب ويجوز يفتنون بالياء للغيبة على مراعاة لفظ قوم وهو قليل تقول العرب أنت رجل تأمر بالمعروف بتاء الخطاب وبياء الغيبة * والمدينة مجتمع ثمود وقريتهم وهي الحجر وذكر المفسرون أسماء التسعة وفي بعضها اختلاف ورأسهم قدار بن سالف وأسماء لا تنضبط بشكل ولا بتعيين وكانوا عظماء القرية وأغنياءها وفساقها * والرهط من الثلاثة إلى العشرة والنفر من الثلاثة إلى التسعة واتفق المفسرون على أن المعنى تسعة رجال.
{ قالوا تقاسموا بالله } معناه تحالفوا وقرىء لتبينته ثم لتقولن وضم ما قبل نون التوكيد وقرىء بالنون فيهما وفتح ما قبل نون التوكيد والظاهر أن في الكلام حذف معطوف يدل على ما قبله والتقدير ما شهدنا مهلك أهله ومهلكه ودل عليه قولهم لنبيتنه وما روي أنهم عزموا على قتله وقتل أهله ويكون قوله:
{ وإنا لصادقون } كذبا في الاخبار أوهموا قومهم أنهم إذا قتلوه وأهله سرا ولم يشعر بهم أحد وقالوا تلك المقالة انهم صادقون وهم كاذبون ومكرهم ما أخفوه من تدبير الفتك بصالح وأهله ومكر الله إهلاكهم من حيث لا يشعرون * والظاهر أن كيف خبر كان وعاقبة الإسم والجملة في موضع نصب بانظر وهي معلقة وقرىء إنا بكسر الهمزة على الاستئناف وقرىء بفتحها فإنا بدل من عاقبة أوجز لكان وكيف في موضع الحال أو خبر مبتدأ محذوف أي هي أي العاقبة تدميرهم أو يكون التقدير لأنا وحذف حرف الجر وعلى كلا القولين يجوز أن تكون كان تامة وعاقبة فاعلا بها وأن تكون زائدة وعاقبة مبتدأ خبره كيف ولما أمر تعالى بالنظر فيما جرى لهم من الهلاك في أنفسهم بين ذلك والإشارة إلى منازلهم وكيف خلت منهم وخراب البيوت خلوها من أهلها حتى لا يبقى منهم أحدكما تعاقب به الظلمة إذ يدل ذلك على استئصالهم.
{ ولوطا إذ قال لقومه } الآية ولوطا عطف على صالحا أي أرسلنا لوطا.
و { أتأتون } إستفهام إنكار وتوبيخ وأبهم أولا في قوله الفاحشة ثم عينها في قوله:
{ أإنكم لتأتون الرجال } وقوله:
{ وأنتم تبصرون } أي تعلمون قبح هذا الفعل المبتكر الذي أحدثتموه وأنه من أعظم الخطايا أو آثار العصاة قبلكم أو ينظر بعضكم لبعض لا يستتر ولا يتحاشى من إظهار ذلك وانتصب شهوة على أنه مفعول من أجله وتجهلون غلب فيه الخطاب كما غلب في قوله بل أنتم قوم تفتنون ومعنى تجهلون أي عاقبة ما أنتم عليه أو تفعلون فعل السفهاء المجان ولما أنكر عليهم ونسبهم إلى الجهل ولم تكن لهم حجة فيما يأتونه من ذلك عدلوا إلى المغالبة والإيذاء وتقدم معنى يتطهرون في الاعراف وباقي الآية تقدم تفسير نظيره في الأعراف.
و { فسآء } بمعنى بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره مطرحم.
{ قل الحمد لله وسلام على عباده } الآية لما فرع من قصص هذه السورة أمر رسوله عليه الصلاة والسلام بحمده تعالى وبالسلام على المصطفين وأخذ في مباينة واجب الوجود للأصنام التي أشركوها مع الله تعالى وعبدوها وابتدأ في هذا التقرير لقريش وغيرهم بالحمدلة وكأنها صدر خطبة لما يلقى من البراهين الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة * ولما كان خلق السماوات والأرض وإنزال الماء من السماء لا شبهة للعاقل في أن ذلك لا يكون إلا لله تعالى وكان الإثبات مما قد يتسبب فيه الإنسان بالبذر والسقي والتهيئة ويسوغ لفاعل السبب نسبة فعل المسبب إليه بين تعالى اختصاصه بذلك بطريق الإلتفاف وتأكيد ذلك بقوله: ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ألا ترى أن المتسبب لذلك قد لا يأتي على وفق مراده ولو أتى فهو جاهل لطبعه ومقداره وكيفيته فكيف يكون فاعلا لها * والبهجة الجمال والنضرة والحسن لأن الناظر فيها يبتهج أي يسر ويفرح وقوله:
{ ءآلله خير أما يشركون } إستفهام فيه تبكيت وتوبيخ وتهكم بحالهم وتنبيه على موضع التباين بين الله تعالى وبين الأوثان التي يعبر عنها بما التي هي لما لا يعقل إذ معلوم عند من له عقل أنه لا يشرك في الخيرية بين الله وبينهم وكثيرا ما يجيء هذا النوع من أفعل التفضيل حيث يعلم ويتحقق أن لها شركة فيها وإنما يذكر على سبيل إلزام الخصم وتنبيهه على خطأ مرتكبه وقرىء: ذات بهجة بالإفراد وجمع التكسير يجري في الوصف مجرى الواحدة كقوله تعالى:
أزوج مطهرة
[البقرة: 25] أو هو على معنى جماعة.
{ ما كان لكم أن تنبتوا شجرها } قد تقدم أن نفي مثل هذه الكينونة قد يكون ذلك لاستحالة وقوعه كهذا أو لامتناع وقوعه شرعا أو لنفي الأولوية والمعنى هنا أن إنبات ذلك منكم محال لأنه إبراز شىء من العدم إلى الوجود وهذا ليس بمقدور إلا الله تعالى ولما ذكر منته عليهم خاطبهم بذلك ثم لما ذكر ذمهم عدل من الخطاب إلى الغيبة فقال:
{ بل هم قوم يعدلون } إما التفاتا وإما إخبارا للرسول عليه الصلاة والسلام بحالهم أي يعدلون عن الحق أو يعدلون به غيره أي يجعلون له مثيلا وعديلا ولما ذكر تعالى أنه منشىء السماوات والأرض وذكر شيئا مشتركا بين السماء والأرض وهو إنزال الماء من السماء وإنبات الحدائق بالأرض ذكر شيئا مختصا بالأرض وهو جعلها قرارا أي مستقرا لكم بحيث يمكنكم الإقامة بها والاستقرار عليها ولا يديرها الفلك قيل لأنها مضمحلة في جنب الفلك كالنقطة في وسط الرحى.
{ وجعل خلالهآ } أي بين أماكنها في شعابها وأوديتها.
{ أنهارا وجعل لها رواسي } أي جبالا ثوابت حتى لا تنكفىء بكم وتميد. والبحران العذب والملح والحاجز الفاصل من قدرة الله تعالى وما أحسن ما جاء تركيب هذه الجمل بلفظ وجعل إذ صارت كل جملة مستقلة بذاتها بخلاف عطف المفردات وجاءت بلفظ الماضي دلالة على أن لا تجدد فيها بخلاف الجمل التي بعدها فإنها جاءت بلفظ المضارع الدال على التكرار والتجدد.
{ أمن يجيب المضطر } المضطر إسم مفعول وهو الذي أحوجه مرض أو فقر أو حادث من حوادث الدهر إلى الإلتجاء إلى الله تعالى والتضرع إليه فيدعوه لكشف ما اعتراه من ذلك وإزالته عنه.
{ ويكشف السوء } هو كل ما يسوء وهو عام في كل ضر انتقل من حالة المضطر وهي خاص إلى أعم وهو ما يسوء سواء كان المكشوف عنه في حال الاضطرار أو فيما دونهم وخلفاء أي الأمم السالفة أو في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وظلمة البر هي ظلمة الليل وهي الحقيقة وتنطلق مجازا على الجهل وعلى انبهام الأمر يقال أظلم على الأمر وهداية البر تكون بالعلامات وهداية البحر تكون بالعلامات وهداية البحر تكون بالنجوم.
{ ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته } تقدم تفسير نظير هذه الجملة وقرىء عما تشركون بتاء الخطاب.
{ أمن يبدأ الخلق } الظاهر أن الخلق هو المخلوق وبدؤه اختراعه وإنشاؤه ويظهر أن المقصود هو من يعيده في الآخرة من الإنس والجن والملك لا عموم المخلوق ولما كان إيجاد بني آدم إنعاما إليهم وإحسانا ولا تتم النعمة إلا بالرزق قال:
{ ومن يرزقكم من السمآء } بالمطر.
{ والأرض } بالنبات.
{ قل هاتوا برهانكم } أي أحضروا حجتكم ودليلكم على ما تدعون من إنكار شىء مما تقدم تقريره.
{ إن كنتم صادقين } في ان مع الله إلها آخر فأين دليلكم عليه وهذا رجع إلى ما تقدم من جميع الاستفهام الذي جاء به على سبيل التقرير وناسب ختم كل استفهام بما تقدمه كما ذكر إيجاد العلم العلوي والسفلي ختم بقوله: بل هم قوم يعدلون ولما ذكر جعل الأرض مستقرا ختم بقوله: { بل أكثرهم لا يعلمون } إذ كان فيهم من يعلم ويفكر في ذلك ولما ذكر إجابة دعاء المضطر ختم بقوله: { قليلا ما تذكرون } إشارة إلى توالي النسيان على الإنسان إذا صار في خير وزال اضطراره ولما ذكر الهداية في الظلمات قال عما يشركون واعتقب كل واحدة من هذه الجمل قوله أإله مع الله على سبيل التوكيد والتقرير أنه لا إله إلا هو تعالى قيل سأل الكفار عن وقت القيامة التي وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وألحوا عليه فنزل:
{ قل لا يعلم من في السموت والأرض الغيب إلا الله } الآية والمتبادر إلى الذهن أن من فاعل بيعلم والغيب مفعول وإلا الله استثناء منقطع لعدم إندراجه في مدلول لفظ من جاء مرفوعا على لغة تميم ودلت هذه الآية على أنه تعالى هو المنفرد بعلم الغيب * وأيان تقدم الكلام فيها في الأعراف وهي هنا إسم استفهام بمعنى متى وهي هنا معمولة ليبعثون ويشعرون معلق والجملة التي فيها استفهام في موضع نصب به وقرىء بل إدراك أصله تدارك وقرىء أدرك على وزن أفعل قال ابن عباس: المعنى بل تدارك علمهم ما جهلوه في الدنيا أي علموه في الآخرة بمعنى تكامل علمهم في الآخرة بأن كل ما وعدوا به حق وهذا حقيقة إثبات العلم لهم لمشاهدتهم عيانا في الآخرة ما وعدوا به عيانا في الدنيا وكونه بمعنى المضي ومعناه الاستقبال لأن الاخبار به صدق فكأنه قد وقع.
{ وقال الذين كفروا أإذا كنا ترابا وآبآؤنآ } الآية ناسب ذكر مقالتهم في استبعادها وأن ما وعدوا به من ذلك ليس بصحيح إنما ذلك ما سطر الأولون من غير إخبار بذلك عن حقيقة ثم ذكروا أنهم وعدوا ذلك هم وآباؤهم فلم يقع شىء من هذا الموعود ثم جزموا وحصروا أن ذلك من أكاذيب من تقدم وجاء هنا تقديم الموعود به وهو هذا وتأخر في آية أخرى على حسب ما سيق الكلام لأجله ثم أمر نبيه عليه السلام أن يأمرهم بالسير في الأرض وتقدم الكلام في نظيره وأراد بالمجرمين الكافرين ثم سلى نبيه فقال:
{ ولا تحزن عليهم } أي في كونهم لم يسلموا ولم يذعنوا إلى ما جئت به ولما استعجلت قريش بأمر الساعة أو بالعذاب الموعود به هم وسألوا عن الوقت الموعود على سبيل الاستهزاء قيل له:
{ قل عسى أن يكون ردف لكم } أي تبعكم عن قرب وصار كالرديف التابع لكم بعض ما استعجلتم به وهو كان عذاب يوم بدر وقيل عذاب القبر وقرىء: ردف لكم بكسر الدال وفتحها وهما لغتان وأصله التعدي بمعنى تبع ولحق فاحتمل أن يكون مضمنا معنى اللازم ولذلك فسره ابن عباس وغيره بازف وقرب لما كان يجيء بعد الشىء قريبا منه ضمن معنه ومزيد اللام في مفعوله لتأكيد وصول الفعل إليه كما زيدت الباء في ولا تلقوا بأيديكم وقد عدى بمن على سبيل التضمين لما يتعدى بها قال الشاعر: فلما ردفنا من عمير وصحبه * تولوا سراعا والمنية تعنق.
أي دنوا من عمير وبدأ فيما يحض الإنسان ثم عم كل غائبة عبر أولا بالمحال وهي الصدور عن الحال فيها وهي القلوب الظاهر عموم قوله من غائبة أي ما من شىء في غاية الغيبوبة والخفاء إلا في كتاب عند الله تعالى ومكنون علمه * ومن غائبة في موضع المبتدأ ومن زائدة وفي كتاب خبره.
{ إنك لا تسمع الموتى } ولما كان القرآن وما قص الله فيه لا يكاد يجدي عندهم أخبر الله عنهم أنهم موتى القلوب أو شبهوا بالموتى وإن كانوا أحياء صحاح الأبصار كأنه إذا تلى عليهم لا تعيه آذانهم فكانت حالتهم لانتفاء جدوى السماع كحالة الموتى.
{ ومآ أنت بهادي العمي } حيث يضلون الطريق فلا يقدر أحد أن يزيل ذلك عنهم ويحولهم هداة بصراء إلا الله تعالى وقرىء بهادي العمى إسم فاعل مضاف وقرىء بهاد منونا العمى وقرىء: تهدي مضارع هدي العمى بالنصب.
{ إن تسمع } هم الذين علم الله أنهم يصدقون بآياته.
{ فهم مسلمون } منقادون للحق.
{ وإذا وقع القول عليهم } أي إذا انتجز وعد عذابهم الذي تضمنه القول الأزلي من الله تعالى كقوله
حقت كلمة العذاب
[الزمر: 71] فالمعنى إذا أراد الله أن ينفذ في الكافرين سابق علمه فيهم من العذاب أخرج لهم دابة من الأرض ووقع عبارة عن الثبوت واللزوم وروي أن خروجها حين ينقطع الخبر ولا يؤمر بالمعروف ولا ينهى عن منكر ولا يبقى منيب ولا تائب وفي الحديث أن الدابة وطلوع الشمس من المغرب من أول الإشراط ولم يعين الأول منهما وكذلك الدجال وظاهر الأحاديث أن طلوع الشمس آخرها والظاهر أن الدابة التي تخرج واحدة وروي أنها تخرج كل بلد دابة مما هو مثبوت نوعها في الأرض وليست واحدة فيكون قوله: دابة إسم جنس واختلفوا في كيفيتها اختلافا كثيرا وقيل تخاطبهم فتقول للمؤمن هذا مؤمن وللكافر هذا كافر وقيل تكلمهم تجرحهم من الكلم وروي أنها تسم الكافر في جبهته فتربده وتمسح على وجه المؤمن فتبيضه.
{ ويوم نحشر من كل أمة فوجا } الآية الحشر الجمع على عنف من كل أمة أي من الأمم ومن هي للتبعيض فوجا أي جماعة كثيرة.
{ ممن يكذب بآياتنا } من للبيان أي الذين يكذبون والآيات القرآن.
{ فهم يوزعون } تقدم تفسيره.
{ حتى إذا جآءوا } أي إلى الموقف.
{ قال أكذبتم } إستفهام توبيخ وتقريع وإهانة.
{ ولم تحيطوا بها علما } الظاهر أن الواو للحال أي أوقع تكذيبهم بها غير متدبرين لها ولا محيطين بكنهها وأم هنا منقطعة فتقدر ببل وحدها انتقل من الاستفهام الذي يقتضي التوبيخ إلى الاستفهام عن عملهم أيضا على جهة التوبيخ أي أي شيء كنتم تعملون والمعنى إذ كان لكم عمل أو حجة فهاتوا وليس لهم عمل ولا حجة فيما عملوه إلا الكفر والتكذيب وماذا بجملته يحتمل أن يكون استفهاما منصوبا بخبر كان وهو تعملون وأن تكون ما هو الإستفهام وإذا موصولة بمعنى الذي فيكونان مبتدأ وخبرا وكان صلة لذا والعائد محذوف تقديره الاستفهام وذا موصولة بمعنى الذي فيكونان مبتدأ وخبرا وكان صلة لذا والعائد محذوف تقديره أي شىء الذي كنتم تعملونه.
{ ووقع القول } أي العذاب الموعود به بسبب ظلمهم وهو التكذيب بآيات الله ولما ذكر أشياء من أحوال يوم القيامة ليرتدع بسماعها من أراد الله تعالى ارتداعه نبههم على ما هو دليل على التوحيد والحشر بما هم يشاهدونه في حالة حياتهم وهو تقليب الليل والنهار من نور إلى ظلمة ومن ظلمة إلى نور وفاعل ذلك واحد وهو الله تعالى * قال الزمخشري: وهو مراعى من حيث المعنى وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف لأن معنى مبصرا لتبصروا فيه طريق التقليب في المكاسب " انتهى " الذي يظهر أن هذا من باب ما حذف من أوله ما أثبت نظيره في مقابله وحذف من آخر، ما أثبت في أوله فالتقدير جعلنا الليل مظلما لتسكنوا فيه والنهار مبصرا لتتصرفوا فيه فالابصار ينشأ عنه التصرف في المصالح ويدل عليه قوله:
وجعلنآ آية النهار مبصرة
[الإسراء: 12] فالكون علة لجعل الليل مظلما والتصرف علة لجعل النهار مبصرا وتقدم لنا الكلام على نظير هذين الحذفين مشبعا في البقرة في قوله:
ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق
[البقرة: 171].
[27.87-93]
{ ويوم ينفخ في الصور } تقدم الكلام عليه وهذه النفخة هي نفخة الفزع وروى أبو هريرة أن الملك له في الصور ثلاث نفخات نفخة الفزع وهو فزع الحياة الدنيا وليس بالفزع الأكبر ونفخة الصعق ونفخة القيام من القبور وعبر هنا بالماضي في قوله: ففزع وإن كان لم يقع إشعارا بصحة وقوعه وأنه كائن لا محالة.
{ إلا من شآء الله } أي فلا ينالهم هذا الفزع وروي أبو هريرة حديثا
" أنهم الشهداء متقلدون السيوف حول العرش "
وقد صححه القاضي أبو بكر بن العربي وقرىء: أتوه فعلا ماضيا وآتوه إسم فاعل والضمير في آتوه عائد على الموقف يجوز أن يراد رجوعهم إلى الله وانقيادهم له.
و { داخرين } حال ومعناه منقادين ذليلين.
{ وترى الجبال } هو من رؤية العين.
{ تحسبها } حال من فاعل ترى أو من الجبال وجامدة من جمد مكانه إذا لم يبرح منه وهذه الحال للجبال عقيب النفخ في الصور وهي أول أحوال الجبال تموج وتسير ثم ينسفها الله فتصير كالعهن ثم تكون هباء منبثا في آخر الأمر.
{ وهي تمر مر السحاب } جملة حالية أي تحسبها في رأى العين ثابتة مقيمة في أماكنها وهي سائرة وتشبيه مرورها بمر السحاب في كونها تمر مرا حثيثا كمر السحاب وانتصب.
{ صنع الله } على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تليها. فالعامل فيه مضمر من لفظه والحسنة الإيمان ورتب على ذلك شيئين أحدهما أنه له خير منها ويظهر أن خير ليس أفعل تفضيل ومن لابتداء الغاية أي له خير من الخيور مبدؤه ومنشؤه منها أي من جهة هذه الحسنة أو خير هنا الثواب والأجر والأمن من الفزع وقرىء: من فزع بالتنوين * ويومئذ منصوب على الظرف معمول لقوله آمنون أو لفزغ أو في موضع الصفة لفزع أي كائن في ذلك الوقت وقرىء بإضافة فزع إلى يومئذ بكسر الميم حركة إعراب وفتحها حركة بناء لإضافة إلى مبنى والتنوين في يومئذ تنوين العوض حذفت الجملة وعوض منها والأولى أن تكون الجملة المحذوفة ما قرب من الظرف أي يوم إذ جاء بالحسنة والسيئة الكفر والمعاصي فيمن ختم الله عليه من أهل المشيئة بدخول النار وخصت الوجوه إذ كانت أشرف الأعضاء ويلزم من كبها في النار كب الجميع أو عبر بالوجه عن جملة الإنسان والظاهر من كب أنهم يلقون في النار منكوسين أعلاهم قبل أسفلهم.
{ هل تجزون } خطاب لهم على إضمار القول أي يقال لهم وقت الكب هل تجزون ثم أمر تعالى نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول:
{ إنمآ أمرت } والآمر هو الله تعالى على لسان جبريل عليه السلام.
{ أن أعبد } أي أفرده بالعبادة والبلد هي مكة وأسند التحريم إليه تشريفا لها واختصاصا.
{ وأمرت أن أكون من المسلمين } أي المنقادين إلى أمر الله فأعبده كما أمرني .
{ وأن أتلو القرآن } أي أتلو عليكم القرآن.
{ فمن اهتدى } به ووحد الله تعالى وامتثل أمر نبيه عليه الصلاة والسلام وآمن بما جاء به فثمرة هدايته مختصة به.
{ ومن ضل } فوبال ضلاله مختص به حذف جواب من ضل لدلالة مقابلة عليه ويحتمل أن يكون:
{ إنمآ أنا من المنذرين } ويحتاج إلى رابط يعود على من تقديره من المنذرين له.
{ وقل الحمد لله } أمر أن يقول ذلك فيحمد ربه على ما خصه به من شرف النبوة والرسالة.
{ سيريكم آياته } تهديد لأعدائه بما يريهم الله من آياته التي تضطرهم إلى معرفتها والإقرار إلى أنها آيات الله تعالى ولما قسمهم إلى مهتد وضال أخبر تعالى أنه محيط بأعمالهم غير غافل عنها وقرىء يعملون بياء الغيبة التفاتا من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة.
[28 - سورة القصص]
[28.1-23]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * طسم * تلك آيات الكتاب المبين } الآية هذه السورة مكية كلها وقيل غير ذلك * ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى أمر نبيه بحمده ثم قال سيريكم آياته وكان مما فسر به آياته تعالى معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام وأنه أضافها تعالى إليه إذ كان هو المجري بها على يديه فقال: تلك آيات الكتاب المبين فأضافها إلى الكتاب إذ الكتاب هو أعظم المعجزات وأكثر الآيات البينات والكتاب هو القرآن.
{ نتلوا } أي نقرأ عليك بقراءة جبريل عليه السلام ومفعول نتلو.
{ من نبإ } أي بعض نبأ.
و { بالحق } متعلق بنتلو أي محقين أو في موضع الحال من نبأ أي متلبسا بالحق وخص المؤمنين لأنهم هم المنتفعون بالتلاوة.
{ علا في الأرض } أي تجبروا واستكبر حتى ادعى الربوبية والإلهية والأرض أرض مصر * والشيع الفرق ملك القبط واستعبد بني إسرائيل.
{ ونريد } حكاية حال ماضية والجملة معطوفة على قوله ان فرعون لأن كلتيهما تفسير للبناء.
{ أن نمن } أي بخلاصهم من فرعون وإغراقه.
{ ونجعلهم أئمة } أي مقتدى بهم في الدين والدنيا.
{ ونجعلهم الوارثين } أي يرثون فرعون وقومهم ملكهم وما كان لهم * والتمكين التوطئة في الأرض وهي أرض مصر والشام بحيث ينفذ أمرهم ويتسلطون على من سواهم وقرىء: ونرى مضارع أرى ونصب ما بعده ويرى مضارع رأى ورفع ما بعده.
{ وهامان } وزير فرعون.
و { يحذرون } أي من زوال ملكهم وإهلاكهم على يدي مولود من بني إسرائيل.
{ وأوحينآ إلى أم موسى أن أرضعيه } الآية الظاهر أن الإيحاء هنا هو إرسال ملك إليها لقوله بعد إنا رادوه إليك وأجمعوا على أنها لم تكن نبية والظاهر أن هذا الإيحاء هو بعد الولادة فيكون ثم جملة محذوفة أي وضعت موسى أمه في زمن الذبح وخافت عليه فأوحينا وأن تفسيرية أو مصدرية.
{ فإذا خفت عليه } من جواسيس فرعون ونقبائه الذي يقتلون الأولاد.
{ فألقيه في اليم } واليم هنا نيل مصر.
{ ولا تخافي } أي من غرقه وضياعه ومن التقاطه فيقتل ولا تحزني لمفارقتك إياه.
{ إنا رآدوه إليك } وعد صادق بتسكين قلبها وتبشيرها وجعله رسولا وقد تقدم طرف من هذا الكلام في طه واستفصح الأصمعي امرأة من العرب أنشدت شعرا فقالت: أبعد قوله تعالى: { وأوحينآ إلى أم موسى } الآية فصاحة وقد أجمع أمرين ونهيين وخبرين وبشارتين.
{ فالتقطه } في الكلام حذف تقديره ففعلت ما أمرت به من إرضاعه ومن إلقائه في اليم واللام في ليكون للتعليل المجازي لما كان مآل التقاطه وتربيته إلى كونه عدوا لهم وحزنا وإن كانوا لم يلتقطوه إلا للتبني وكونه حبيبا يكون لهم ويعبر عن هذه اللام بلام العاقبة وبلام الصيرورة وقرة خبر مبتدأ محذوف هو قرة وتقدم شرح القرة.
{ وهم لا يشعرون } جملة حالية أي لا يشعرون أنه الذي يفسد ملكهم على يديه.
{ إن فرعون } جملة اعتراضية واقعة بين المعطوف والمعطوف عليه مؤكدة لمعنى خطئهم.
{ وأصبح فؤاد أم موسى فارغا } الآية وأصبح أي صار فارغا من الصبر وذلك حين بلغها أنه وقع في يد فرعون قد همها الأمر فطاش لبها وغلب عليها ما يغلب على البشر عند مفاجأة الخطب العظيم ثم استكانت بعد ذلك لموعود الله تعالى وجواب لولا محذوف تقديره لأبدت به والظاهر أن الضمير في به عائد على موسى فالباء زائدة أي لتظهره وقيل مفعول تبدي محذوف أي لتبدي القول به أي بسببه وأنه ولدها.
{ وقالت لأخته قصيه } أي اتبعي أثره وتتبعي خبره فروي أنها خرجت في سكك المدينة مختفية فرأته عند قوم من حاشية إمرأة فرعون يتطلبون له إمرأة ترضعه حين لم يقبل المراضع وفي الكلام حذف تقديره فقصت أثره.
{ فبصرت به } أي أبصرته.
{ عن جنب } أي عن بعد.
{ وهم لا يشعرون } بطلبها إياه ولا بإبصارها وعن جنب عن شوق إليه.
{ وحرمنا عليه } التحريم هنا بمعنى المنع أي منعناه أن يرضع ثدي إمرأة والمراضع جمع مرضع وهي المرأة التي ترضع.
{ فقالت هل أدلكم } تقدم الكلام عليه والظاهر أن الضمير في له عائد على موسى ولما قالت لهم هل أدلكم فقالوا لها: إنك قد عرفتيه فأخبرينا من هو فقالت: ما أردت إلا أنهم ناصحون للملك فتخلصت منهم بهذا التأويل وفي الكلام حذف تقديره فمرت بهم إلى أمه وكلموها في إرضاعه ولما أخبر الله تعالى وعده في الرد ثبت عندها أنه سيكون رسولا نبيا.
{ ولتعلم أن وعد الله حق } فعلنا ذلك.
{ ولما بلغ أشده } تقدم الكلام عليه في يوسف.
{ ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها } الآية المدينة قال ابن عباس: هي منف ركب فرعون يوما وسار إليها فعلم موسى بركوبه فلحق بتلك المدينة في وقت القائلة.
{ يقتتلان } في الدين إذ أحدهما إسرائيلي مؤمن والآخر قبطي كافر.
{ فاستغاثه الذي من شيعته } وهو الإسرائيلي.
{ على الذي من عدوه } وهو القبطي وقيل اسمه فاتون وهذا حكاية حال ماضية والظاهر أن فاعل فقضى ضمير عائد على موسى وكان موسى لم يتعمد قتله ولكن وافقت وكزته الأجل فندم موسى عليه السلام.
و { قال هذا من عمل الشيطان } وهو ما لحقه من الغضب حتى أدى إلى الوكزة التي قضت على القبطي وجعله من عمل الشيطان وسماه ظلما لنفسه واستغفر منه لأنه أدى إلى قتل من لم يؤذن له في قتله.
{ فأصبح في المدينة خآئفا يترقب } أي من قتل القبطي أن يؤخذ به يترقب وقوع المكروه به.
{ فإذا الذي استنصره بالأمس } أي الإسرائيلي الذي كان قتل القبطي بسببه وإذا هنا للمفاجأة وبالأمس يعني اليوم الذي قبل يوم الاستصراخ.
{ يستصرخه } يصبح به مستغيثا من قبطي آخر.
{ قال له موسى } الظاهر أن الضمير في له عائد على الإسرائيلي.
{ إنك لغوي } لكونك كنت سببا في قتل القبطي بالأمس قال له ذلك على سبيل العتاب والتأنيب.
{ فلمآ أن أراد أن يبطش } الظاهر أن الضمير في أراد وأن يبطش هو لموسى.
{ بالذي هو عدو لهما } أي للمستصرخ وموسى هو القبطي قال القبطي:
{ أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس } دفعا لما ظن منه.
{ جبارا في الأرض } وشأن الجبار أن يقتل بغير حق.
{ وجآء رجل من أقصى المدينة يسعى } قيل هو مؤمن آل فرعون وكان ابن عم فرعون قال الكلبي واسمه جبريل بن شمعون * يسعى أي يشتد في مشيه ولما أمر فرعون بقتله وخرج الجلاوزة من الشارع الأعظم لطلبه فسلك هذا الرجل طريقا أقرب إلى موسى عليه السلام ومن أقصى ويسعى صفتان ومعنى يأتمرون يتشاورون.
{ فاخرج } امتثل موسى عليه السلام ما أمره به ذلك الرجل وعلم صدقه ونصحه وخرج وقد أقبل طالبوه فلم يجدوه وكان موسى لا يعرف الطريق ولم يصحب أحدا فسلك مجهلا واثقا بالله تعالى داعيا راغبا إلى ربه في تنجيته من الظالمين.
{ ولما توجه تلقآء مدين } الآية توجه رد وجهه تلقاء تقدم الكلام عليه في يونس أي ناحية وجهة استعمل المصدر استعمال الظرف وكان هناك ثلاث طرق فأخذ موسى في أواسطها وأخذ طالبوه في الآخرين وقالوا المريب لا يأخذ في أعظم الطرق ولا يسلك إلا في بنياتها فبقي في الطريق ثماني ليال وهو خاف لا يطعم الأوراق الشجر والظاهر من قوله عسى ربي أنه كان لا يعرف الطريق فسأل ربه أن يهديه أقصر الطريق بحيث أنه لا يضل إذا لو سلك ما لا يوصله إلى المقصود لتاه وعن ابن عباس قصد مدين وأخذ يمشي من غير معرفة فأوصله الله إلى مدين.
{ ولما ورد مآء مدين } أي وصل إليه والورد يكون بمعنى الوصول أي الشىء وبمعنى الدخول فيه قيل وكان هذا بئرا والأمة الجمع الكثير ومعنى عليه أي على شفيره وحاشيته.
{ يسقون } يعني مواشيهم.
{ ووجد من دونهم } أي من الجهة التي وصل إليها قبل أن يصل إلى الأمة.
{ امرأتين تذودان } قال ابن عباس تذودان غنمهما عن الماء خوفا من الرعاة الأقوياء وكانتا تكرهان المزاحمة على الماء واسم الصغرى عبرا والكبرى صبورا ولما رآهما موسى واقفتين لا يتقدمان للسقي سألهما فقال ما خطبكما والسؤال بالخطب إنكا يكون في مصاب أو مضطهد أو من يشفق عليه أو يأتي بمكروه من الأمر وفي سؤاله عليه السلام دليل على جواز مكالمة الأجنبية فيمن يعن ولم يكن لأبيهما أجير فكانتا تسوقان الغنم إلى الماء ولم يكن لهما قوة الاستسقاء وكان الرعاة يسقون من البئر فيسقون مواشيهم فإذا صدروا فإن بقي في الحوض شىء سقتا فوافى موسى عليه السلام ذلك اليوم وهما يمنعنان غنمهما عن الماء فرق عليهما وقال ما خطبكما وقرىء يصدر من صدر وقرىء يصدر من أصدر والرعاء فاعل والتقدير فيمن قرأ يصدر أن يكون المعنى حتى يصدر الرعاء عن الماء بغنمهم والمعنى على من قرأ يصدر أي يصدر الرعاء عن الماء غنمهم وجمع راع على رعاء شاذ في القياس وبابه أن يجمع على فعلة كقاض وقضاة خلافا للزمخشري إذا زعم أن جمع راع على فعال قياس وقرىء الرعاء بضم الراء وهو اسم جمع كالرجال.
{ وأبونا شيخ كبير } اعتذار لموسى عن مباشرتهما السقي بأنفسهما وتنبيه على أن أباهما لا يقدر على السقي لشيخه وكبره واستعطاف لموسى عليه السلام في إعانتهما.
[28.24-57]
{ فسقى لهما } أي سقي غنمهما لأجلهما وروي أن الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا لا يقله إلا عدد من الرجال فأقله هو وحده وقيل كانت لهم دلو لا ينزع بها إلا أربعون رجلا فنزع بها وحده وروي أنه زاحمهم على الماء حتى سقي لهم كل ذلك رغبة في الثواب على ما كان به من نصب السفر وكثرة الجوع حتى كانت تظهر الخضرة في بطنه من البقل.
{ ثم تولى إلى الظل } أي ظل شجرة قيل كانت سبمرة.
{ فقال رب إني لمآ أنزلت إلي من خير فقير } قال المفسرون تعرض لمن يطعمه لما ناله من الجوع ولم يصرح بالسؤال وأنزلت هنا بمعنى تنزل وفي الكلام حذف تقديره فذهبتا إلى أبيهما من غير إبطاء في السقي وقصتا عليه أمر السقي لهما فأمر أحدهما أن تدعوه له.
{ فجآءته إحداهما } وإحداهما مبهم فقيل الكبرى وقيل الصغرى.
و { على استحيآء } في موضع الحال أي مستحية متحفزة قال عمر بن الخطاب قد سترت وجهها بكم درعها.
{ ليجزيك أجر ما سقيت لنا } في ذلك ما كان شعيب عليه من الإحسان والمكافأة لمن عمل له عملا ولم يقصد المكافأة.
{ فلما جآءه } أي فذهب معها إلى أبيها وفي هذا دليل على اعتماد اخبار المرأة إذ ذهب موسى عليه السلام معها كما يعتمد على إخبارها في باب الرواية.
{ وقص عليه القصص } أي ما جرى له من خروجه من مصر وسبب ذلك.
{ قال لا تخف نجوت من القوم الظالمين } أي قبل الله دعاءك في قولك رب نجني من القوم الظالمين ولما أخبره بنجاته منهم أنسه بقوله لا تخف وقرب إليه طعاما فقال له موسى: انا أهل بيت لا نبيع ديننا بملء الأرض ذهبا فقال له شعيب ليس هذا عوض السقي ولكن هذه عادتي وعادة آبائي قرى الضيف وإطعام الطعام فحينئذ أكل موسى عليه السلام.
{ قالت إحداهما } أبهم القائلة قيل وهي الذاهبة والقائلة والمتزوجة.
{ يأبت استأجره } أي لرعي الغنم وسقيها ووصفته بالقوة لكونه رفع الصخرة عن البئر وحده أو انتزع بتلك الدلو أو زاحمهم حتى غلبهم على الماء والأمانة لأنها حين قام يتبعها هبت الريح فلفت ثيابها فوصفتها فقال لها ارجعي خلفي ودليني على الطريق وقولها كلام حكيم جامع لأنه إذا اجتمعت الأمانة والكفاءة في القائم بأمر فقد تم المقصود وهو كلام جرى مجرى المثل وصار مطروقا للناس وكان ذلك تعليلا للاستئجار وكأنها قالت استأجره لأمانته وقوته وصار الوصفان منبهين عليه.
{ قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين } قال الزمخشري هاتين فيه دليل على أنه كان له غيرهما انتهى لا دليل في ذلك لأنها كانتا اللتين رآهما يذودان وجاءته إحداهما فأشار إليهما والإشارة إليهما لا تدل على أن له غيرهما رغب شعيب في مصاهرته لما وصفته به ولما رأى فيه من عزوفه عن الدنيا وتعلقه بالله تعالى وفراره من الكفرة وظاهر قوله ان أنكحك إن الإنكاح إلى الولي لا حق للمرأة فيه خلافا لأبي حنيفة في بعض صوره بأن تكون بالغة عالمة بمصالح نفسها فإنها تعقد على نفسها بمحضر من الشهود وإحدى ابنتي مبهم وهذا عرض لا عقد ألا ترى إلى قوله إني أريد وحين العقد يعين من شاء منهما ولذلك لم يحد أول أمد الإجارة والظاهر من الآية جواز النكاح بالإجارة وبه قال الشافعي وأصحابه:
{ على أن تأجرني } في موضع الحال من ضمير أنكحك اما الفاعل وإما المفعول وتأجرني من أجرته كنت له أجيرا كقولك أبوته كنت له أبا ومفعول تأجرني الثاني محذوف تقديره نفسك.
{ ثماني حجج } ظرف عشرا تقديره عشر حجج.
{ فمن عندك } خبر مبتدأ محذوف تقديره فالإتمام إحسان من عندك.
{ ستجدني إن شاء الله } وعد صادق مقرون بالمشيئة.
{ من الصالحين } في حسن المعاملة ووطاءة الخلق ولما فرغ شعيب مما حاور به موسى.
{ قال } موسى.
{ ذلك بيني وبينك } على جهة التقرير والتوثق في أن الشرط إنما وقع في ثمان حجج وذلك مبتدأ خبره بيني وبينك أشار إلى ما عاهده عليه أي ذلك الذي عاهدتني وشاطرتني عليه قائم بيننا جميعا لا نخرج عنه ثم قال:
{ أيما الأجلين } أي الثماني والعشر وما زائدة وأي شرطية منصوبة بقضيت.
{ فلا عدوان } جواب الشرط.
{ والله على ما نقول } أي على ما تعاهدنا عليه وتواثقنا.
{ وكيل } أي شاهد.
{ فلما قضى موسى الأجل } جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وفي أطول الأجلين وهو العشر ثم محذوف تقديره وزوجه ابنته وسار بأهله إلى مصر بلده وبلد قومه والخلاف فيمن تزوج الكبرى أم الصغرى وكذلك اسميهما وتقدم كيفية مسيره وإيناسه النار في طه.
{ لعلكم تصطلون } أي تسخنون بها إذا كانت ليلة باردة وقد أضلوا الطريق.
{ فلمآ أتاها نودي من شاطىء الوادي الأيمن } الآية من في من شاطىء لابتداء الغاية ومن الشجرة كذلك إذ هي بدل من الأولى أي من قبل الشجرة والأيمن يحتمل أن يكون صفة للشاطىء وللوادي على معنى اليمن والبركة ووصفت البقعة بالبركة لما خصت به من آيات الله تعالى وأنواره وتكليمه لموسى عليه السلام ويتعلق في البقعة بنودي أو يكون في موضع الحال من الشاطىء والشجرة عتاب وقيل غير ذلك. وأن يحتمل أن تكون تفسيرية وأن تكون مخففة من الثقيلة وجاء في طه نودي يا موسى إني أنا ربك وفي النمل نودي أن بورك من في النار وهنا نودي من شاطىء ولا منافاة إذ حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء والجمهور على أنه تعالى كلمه في هذا المقام من غير واسطة.
{ وأن ألق عصاك } تقدم الكلام عليه وتخرج وتقدم الكلام عليه أيضا والظاهر حمل واضمم إليك جناحك من الرهب على الحقيقة وهو الخوف وقرىء الرهب والرهب والرهب قال الثوري: خاف موسى أن يكون حدث به سوء فأمره تعالى أن يعيد يده إلى جيبه لتعود على حالتها الأولى فيعلم موسى أنه لم يكن سوأ بل آية من الله تعالى.
{ فذانك } إشارة إلى العصا واليد وهما مؤنثتان ولكن ذكر التذكير الخبر.
{ برهانان } حجتان نيرتان.
{ قال رب إني قتلت منهم نفسا } هو القبطي الذي وكزه فمات فطلب من ربه ما يزداد به قوة وذكر أخاه والعلة التي تكون زيادة في التبليغ.
و { أفصح } يدل على أن فيه فصاحة ولكن أخوه أفصح.
{ فأرسله معي ردءا يصدقني } وقرىء ردا بالهمز وردا بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى الدال وقرىء يصدقني بالجزم على أنه جواب الأمر وبالرفع على أنه صفة لقوله ردأ.
{ قال سنشد عضدك } المعنى فيه سنقويك بأخيك ويقال في الخير شد الله عضدك وفي الشر فت الله في عضدك والسلطان الحجة والغلبة والتسلط.
{ فلا يصلون إليكما } أي بسوء أو إلى اذايتكما ويحتمل بآياتنا أن يتعلق بقوله ونجعل أو بيصلون.
{ فلما جآءهم موسى بآياتنا } الآية بآياتنا هي العصا واليد بينات أي واضحات الدلالة على صدقه وأنه أمر خارق كفوا عن مقاومته ورجعوا إلى البهت والكذب على عادتهم ونفوا أنهم ما سمعوا بهذا في آبائهم الأولين وقد كذبوا في ذلك لأن الرسل جاءت به قبل ولما رأى موسى ما قابلوه به من انتفاء السماع في الزمان السابق.
{ وقال موسى ربي أعلم بمن جآء بالهدى من عنده } يعني بذلك نفسه ونفى فرعون علمه بما له غيره للملأ ويريد بذلك نفي وجوده أي مالكم من إله غيري واستمر في مخرقته ونادى وزيره هامان وأمره أن يوقد النار على الطين قيل وهو أول من عمل الآجر ولم يقل أطبخ الآجر لأنه لم يتقدم لهامان علم بذلك ففرعون هو الذي يعلمه ما يصنع.
{ فاجعل لي صرحا } أي ابن لي.
{ لعلي أطلع إلى إله موسى } أوهم قومه ان إله موسى يمكن الوصول إليه والقدرة عليه وهو عالم متيقن أن ذلك لا يمكن وأطلع في معنى طلع يقال طلع إلى الجبل وأطلع بمعنى واحد والأرض هنا أرض مصر.
{ فنبذناهم في اليم } كناية عن إدخالهم في البحر حتى غرقوا شبهوا بحصيات قذفها الرامي من يده ومنه نبذ النواة وجعل هنا بمعنى صير أي صيرناهم أئمة أي قدوة للكفار يقتدون في ضلالاتهم اشتهروا بذلك وبقي حديثهم وعطف ويوم القيامة على في هذه الدنيا * ومن المقبوحين قال ابن عباس: من المشوهين الخلقة بسواد الوجوه وزرقة العيون.
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } وهو التوراة وهو أول كتاب أنزلت فيه الفرائض والأحكام.
{ من بعد مآ أهلكنا القرون الأولى } قوم نوح وهود وصالح ولوط ويقال لم تهلك قرية بعد نزول التوراة غير القرية التي مسخ أهلها قردة وانتصب بصائر على الحال أي طرائق هدى يستبصر بها.
{ وما كنت بجانب الغربي } الآية لما قص تعالى من انباء موسى وغرائب ما جرى له أوحى تعالى بجميع ذلك إلى محمد عليه الصلاة والسلام وذكره بإنعامه عليه بذلك وبما قصه من الغيوب التي كان لا يعلمها لا هو ولا قومه فقال:
{ وما كنت بجانب الغربي } والأمر قبل الحكم والنبوة الذي آتاه الله موسى وبدأ أولا بنفي شىء خاص وهو أنه لم يحضر وقت قضاء الله لموسى الأمر ثم ثنى بكونه لم يكن من الشاهدين والمعنى والله أعلم من الشاهدين بجميع ما أعلمناك به فهو نفي لشهادته جميع ما جرى لموسى عليه السلام فكان عموما بعد خصوص وبجانب الغربي من إضافة الموصوف إلى صفته عند قوم ومن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه عند قوم تقديره أصله بالجانب الغربي وعلى الثاني أصله بجانب المكان الغربي.
{ وما كنت ثاويا } أي مقيما.
{ في أهل مدين } هم شعيب والمؤمنون.
{ تتلوا عليهم } آياتنا تقرأ عليهم تعلما منهم يريد الآيات التي فيها قصة شعيب وقومه ولكنا أرسلناك وأخبرناك بها وعلمناكها.
{ إذ نادينا } يريد مناداة موسى ليلة المناجاة وتكليمه ولكن أعلمناك رحمة وأرسلناك لتنذر قوما العرب ولولا الأولى حرف امتناع لوجود ما.
{ أن تصيبهم } في موضع المبتدأ كأنه قال لولا إصابتهم.
{ فيقولوا } معطوف على أن تصيبهم ولولا الثانية للتخصيص جوابها فنتبع ونكون وجواب لولا الأولى محذوف تقديره ما أرسلناك منذرا لهم.
{ فلما جآءهم الحق } هو محمد صلى الله عليه وسلم والظاهر أنه عائد على قريش الذين قالوا لولا أوتي أي محمد مثل ما أوتي موسى وذلك أن تكذيبهم لمحمد صلى الله عليه وسلم تكذيب لموسى عليه السلام ونسبتهم السحر للرسول نسبة السحر لموسى إذ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم من واد واحد فمن نسب إلى واحد من الأنبياء ما لا يليق كان ناسبا ذلك إلى جميع الأنبياء وتتناسق الضمائر كلها في هذا وفي قوله:
{ قل فأتوا بكتاب من عند الله } وإن كان الظاهر من القول انه النطق اللساني فقد ينطلق على الإعتقاد وهو من حيث إنكار النبوات معتقدون أن ما ظهر على أيدي الأنبياء من الآيات إنما هو من باب السحر وقرىء ساحران وسحران والضمير في جاءهم عائد على العرب.
{ إنا بكل كافرون } أي بكل من الساحرين أو من السحرين ثم أمره تعالى أن يصدع بهذه الآية وفي قوله: { قل فأتوا } أي أنتم أيها المكذبون بالكتب الإلهية التي تضمنت الأمر بالعبادات ومكارم الأخلاق ونهت عن الكفر والنقائص ووعد الله عليها الثواب الجزيل إن كان تكذيبهم لمعنى فأتوا بكتاب من عند الله يهدي أكثر من هذه أتبعه معكم والضمير في منهما عائد على ما أنزل على موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام وتعليق إتيانهم بشرط الصدق أمر متحقق متيقن أنه لا يكون ولا يمكن صدقهم كما أنه لا يمكن أن يأتوا بكتاب من عند الله يكون أهدى من الكتابين ويجوز أن يراد بالشرط التهكم بهم.
{ فإن لم يستجيبوا لك } قال ابن عباس يريد فإن لم يؤمنوا بما جئت به من الحجج ولم يمكنهم أن يأتوا بكتاب هو أفضل والاستجابة تقتضي دعاء وهو صلى الله عليه وسلم يدعوهم دائما إلى الإيمان.
{ ولقد وصلنا لهم القول لعلهم يتذكرون } الآية الضمير في لهم عائد على قريش وقال رفاعة القرظي نزلت في عشرة من اليهود هو أحدهم ومعنى وصلنا تابعنا القرآن موصولا بعضه ببعض في المواعظ والزجر والدعاء إلى الإسلام وفي الحديث
" ثلاثة يؤتيهم الله أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن في الحديث ".
{ إنك لا تهدي من أحببت } أي لا تقدر على خلق الهداية فيه ولا تنافي بين هذا وبين قوله وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم لأن معنى هذا وإنك لترشد وقد أجمع المسلمون على أنها نزلت في أبي طالب وحديثه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حالة ان مات مشهور والضمير في وقالوا عائد على قريش وقيل الحارث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف إنك على الحق فتخاف من اتباعك ومعنى يجيء يساق.
[28.58-88]
{ وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها } الآية هذا تخويف لأهل مكة من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم من انعام الله تعالى عليهم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش فغمطوا النعمة وقابلوها بالأشر والبطر فدمرهم الله تعالى وخرب ديارهم ومعيشتها منصوب على التمييز على مذهب الكوفيين أو مشبه بالمفعول على مذهب بعضهم أو مفعول به على تضمين بطرت أي خسرت أو على إسقاط في أي في معيشتها أو على الظرف على حذف مضاف أي أيام معيشتها وتقدم ذكر المساكن.
{ وما كان ربك } تقدم الكلام عليه لما ذكر تعالى تفاوت بين ما أوتوا من المتاع والزينة وما عند الله من الثواب قال: فبعد هذا التفاوت الظاهر يسوي بين أبناء الآخرة وأبناء الدنيا والفاء في فهو لاقيه للتسبب لأن لقاء الموعود مسبب عن الوعد الذي هو الضمان في الخير وثم لتراخي حال الإحضار عن حال التمتع بتراخي وقته عن وقته وقرىء ثم هو بضم الهاء وبسكونها أجري مجرى الفاء والواو فكما سكنوا جاء هو وهي نحو فهو وهي فكذلك سكنوها بعد ثم ومعنى من المحضرين أي المحضرين العذاب.
{ ويوم يناديهم } الآية نداؤه تعالى يحتمل أن يكون بواسطة أو بغير واسطة فيقول أين شركائي أي على زعمكم وهذا الاستفهام على جهة التوبيخ والتقريع والشركاء هم من عبدوه من دون الله تعالى من ملك أو غيره ومفعولا يزعمون محذوفان أحدهما العائد على الموصول والتقدير يزعمونهم شركاء.
{ قال الذين حق عليهم القول } أي الشياطين وأئمة الكفر ورؤسه وحق أي وجب عليهم القول أي مقتضاه وهؤلاء مبتدأ والذين صفة له وأغوينا صلة للذين والعائد محذوف تقديره أغويناهم وأغويناهم خبر المبتدأ وتقيد بقوله: { كما غوينا } استفيد من الخبر ما لم يستفد من الصلة ويجوز أن يكون هؤلاء مبتدأ والذي وأغوينا خبر المبتدأ وأغويناهم استئناف أخبار مقيد بقوله: { كما غوينا }.
{ وقيل ادعوا شركآءكم } لما سئلوا أين شركاؤكم وأجابوا بغير جواب سئلوا ثانيا فقيل ادعوا شركاءكم وأضاف الشركاء إليهم أي الذين جعلتموهم شركاء لله وقوله: { ادعوا } على سبيل التهكم لأنه يعلم أنه لا فائدة في دعائهم.
{ فدعوهم } هذه السخافة عقولهم في ذلك الموطن أيضا إذ لم يعلموا أن من كان موجودا منهم في ذلك الموطن لا يجيبهم والضمير في رأوا قيل للتابع والمتبوع وجواب لو محذوف والظاهر أن يقدر مما يدل عليه ما يليه أي لو كانوا مؤمنين ما رأوا العذاب في الآخرة.
{ ويوم يناديهم } حكى أولا ما يوبخهم به من اتخاذ الشركاء ثم باستعانتهم بشركائهم ثم بما يبكتون به من الإجتماع عليهم بإرسال الرسل وإزالة العلل ومعنى عميت أظلمت عليهم الأمور فلم يستطيعوا أن يخبروا بما فيه نجاة لهم وأتى بلفظ الماضي لتحقق وقوعه.
{ فهم لا يتسآءلون } أي لا يسأل بعضهم بعضا فيما يتخلصون به إذ أيقنوا أنهم لا حجة منهم في عمى وعجز عن الجواب والمراد بالنبأ الخبر عما أجاب به المرسل إليه رسوله.
{ وربك يخلق ما يشآء ويختار } نزلت بسبب ما تكلمت به قريش من استغراب أمر النبي صلى الله عليه وسلم وقول بعضهم لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم وقالت ذلك الوليد بن المغيرة.
{ ومن رحمته } من هنا للسبب أي وسبب رحمته إياكم جعل لكم الليل والنهار ثم علل جعل كل واحد منهما فبدأ بعلة الأول وهو الليل وهو لتسكنوا فيه ثم بعلة الثاني وهو النهار ولتبتغوا من فضله ثم بما يشبه العلة لجعل هذين الشيئين وهو لعلكم تشكرون أي هذه الرحمة والنعمة. وهذا النوع من علم البديع يسمى التفسير وهو أن تسمي أشياء ثم تفسرها بما يناسبها والضمير في فيه عائد على الليل ومن فضله يجوز أن يكون عائدا على الله تعالى والتقدير من فضل الله أي في النهار وحذف لدلالة المعنى عليه ولدلالة لفظ فيه السابق عليه.
{ ويوم يناديهم } الآية تقدم الكلام عليها وكرر هنا على جهة الإبلاغ والتأكيد * وقارون إسم أعجمي امتنع من الصرف للعلمية والعجمة قيل ومعنى كان من قومه أي آمن به وهو إسرائيلي بإجماع واختلف في قرابته من موسى عليه السلام اختلافا كثيرا قال ابن عباس: أنه ابن عمه وهو قارون بن يضهر بن قاهث جد موسى لأن النساب ذكروا نسبه كذلك وكان يسمى المنور لحسن صورته وكان أحفظ بني إسرائيل للتوراة وأقرأهم فنافق كما نافق السامري.
{ فبغى عليهم } ذكروا من أنواع بغيه الكفر والكبر وحسده لموسى عليه السلام على النبوة ولهارون على الذبح والقربان وظلمه بني إسرائيل حين ملكه فرعون عليهم ودسه بغيا تكذب عليه أنه تعرض لها وتفضحه بذلك بين ملأ بني إسرائيل ومن تكبره أنه زاد في ثيابه شبرا.
{ وآتيناه من الكنوز } قيل أظفره الله تعالى بكنز من كنوز يوسف عليه السلام وقيل سميت أمواله كنوزا إذ كان ممتنعا من أداء الزكاة وبسبب ذلك عادى موسى عليه السلام أول عداوته وما موصولة صلتها أن ومعمولاها وتقدم الكلام على مفاتح في سورة الأنعام.
{ لتنوء } أي لتثقل والصحيح أن الباء للتعدية أي لتنيء العصبة وتقدم تفسير العصبة والمراد وآتيناه من الكنوز ما ان حفظها والاطلاع عليها ليثقل على العصبة أي هذه الكنوز لكثرتها واختلاف أصنافها يتعب حفظها القائمين عليها.
{ إذ قال له قومه لا تفرح } نهوه عن الفرح المطغي الذي هو إنهماك وإنحلال نفس وأشر وإعجاب وإنما يفرح بإقبال الدنيا عليه من اطمأن إليها وغفل عن أمر الآخرة قال الزمخشري: ومحل إذ منصوب بتنوء " انتهى " هذا ضعيف جدا لأن إثقال المفاتيح العصبة ليس مقيدا بوقت قول قومه له لا تفرح قال ابن عطية: وهو متعلق بقوله: فبغى عليهم " انتهى " هذا ضعيف أيضا لأن بغيه عليهم لم يكن مقيدا بذلك الوقت وقال أبو البقاء إذ قال له قومه ظرف لآتيناه وهذا ضعيف أيضا لأن الإيتاء لم يكن وقت ذلك القول وقال أيضا ويجوز أن يكون ظرفا لفعل محذوف دل عليه الكلام أي بغى عليهم إذ قال له قومه " انتهى " ويظهر لي أن يكون تقديره فأظهر التفاخر والفرح بما أوتي من الكنوز إذ قال له قومه لا تفرح ولما نهوه عن الفرح المطغي أمروه بأن يطلب فيما آتاه الله من الكنوز وسعة الرزق ثواب الدار الآخرة بأن يفعل فيه أفعال البر ويجعله زادا إلى الآخرة.
{ ولا تنس نصيبك من الدنيا } قال ابن عباس معناه ولا تضيع عمرك في أن لا تعمل صالحا.
{ على علم عندي } قيل هي الكيمياء وقيل هي غير ذلك.
{ فخرج على قومه في زينته } قيل كان يوم السبت أي أظهر ما يقدر عليه من الملابس والمراكب وزينة الدنيا. قيل في ثياب حمر وقيل هو وحشمه في ثياب معصفرة وقيل في ثياب الأرجوان وقيل على بغلة شهباء عليها الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه أربعة آلاف على زيه وقيل عليهم وعلى حيواناتهم الديباج الأحمر وعلى يمينه ثلثمائة غلام وعلى يساره ثلثمائمة جارية بيض عليهم الحلى والديباج وقيل في تسعين ألفا عليهم المعصفرات وهو أول يوم رئي فيه المعصفر وقيل غير ذلك من الكيفيات ما الله أعلم بصحة ذلك.
{ ويكأنه } هي كاف التشبيه الداخلة على أن وكتبت وي متصلة بكاف التشبيه لكثرة الاستعمال وأنشد سيبويه:
كأن من يكن له نشب يحبب *
ومن يفتقر يعض عيش ضر
وحكى الفراء أن امرأة قالت لزوجها أين ابنك فقال: ويكأنه وراء البيت وقال الأخفش هي ويك وينبغي أن تكون الكاف حرف خطاب فلا موضع له من الإعراب والوقف عليه ويك ومنه قوله عنترة*
ولقد شفا نفسي وأبرأ سقمها *
قيل الفوارس ويك عنتر أقدم
{ ولا فسادا } جاء النفي بلا فدل على أن كل واحد من العلو والفساد مقصود لا مجموعها.
{ فرض عليك القرآن } قيل العمل به.
{ لرآدك إلى معاد } قيل هي مكة أراد رده إليها يوم الفتح وقيل غير ذلك.
{ قل ربي أعلم من جآء بالهدى } هو محمد صلى الله عليه وسلم.
{ ومن هو في ضلال مبين } هم المشركون.
{ وما كنت ترجو } تذكير لنعمه تعالى على رسوله وأنه تعالى رحمه رحمة لم يتعلق بها رجاؤه.
{ وادع إلى ربك } أي إلى دين ربك وهذه المناهي كلها ظاهرها أنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي في الحقيقة لاتباعه والهلاك يطلق بإزاء العدم المحض فالمعنى أن الله يعدم كل شىء سواه وبإزاء نفي الإنتفاع به اما للأماتة أو لتفريق الأجزاء وإن كانت باقية يقال هلك الثوب لا يريدون فناء أجزائه ولكن خروجه عن الإنتفاع به ومعنى.
{ إلا وجهه } أي إلا إياه.
{ له الحكم } أي فصل القضاء.
{ وإليه ترجعون } أي إلى جزائه.
[29 - سورة العنكبوت]
[29.1-33]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } هذه السورة مكية وقيل مدنية ونزل أوائلها في مسلمين بمكة كرهوا الجهاد حين فرض بالمدينة وقيل في مهجع مولى عمر قتل ببدر فجزع أبوه وامرأته عليه وفيه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" سيد الشهداء مهجع وهو أول من يدعى إلى باب الجنة * "
والناس فسر بمن نزلت فيه الآية وحسب يطلب مفعولين سدت ان وما بعدها من معمولها مسد المفعولين * أن يقولوا أو لأن يقولوا * وهم لا يفتنون جملة حالية قال الزمخشري إن قلت فأين الكلام الدال على المضمر الذي يقتضيه الحساب قلت هو في قوله: { أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون } وذلك أن تقديره أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا فالترك أول مفعولي حسب وقولهم آمنا هو الخبر وأما غير مفتونين فتقة للترك لأنه من الترك الذي هو بمعنى التصيير كقوله فتركته جزر السباع ينشنه * ألا ترى أنك قبل المجيء بالحسبان تقدر أن يقول تركتهم غير مفتونين لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام * فإن قلت ان يقولوا هو علة تركهم غير مفتونين وكيف يصح أن يقع خبر مبتدأ قلت كما يقول خروجه لمخافة الشر وضربه للتأديب وقد كان التأديب والمخافة في قولك خرجت مخافة لشر وضربته تأديبا نعليلين وتقول أيضا حسبت خروجهم لمخافة الشر وظننت ضربه للتأديب فنجعلهما مفعولين كما جعلتهما مبتدأ وجزاء " انتهى " هذا كلام فيه اضطراب ذكر أولا أن تقديره أولا غير مفتونين تتمة يعني أنه حال لأنه سبك ذلك من قوله: { وهم لا يفتنون } وهذ جملة حالية ثم ذكر أن يتركوا هنا من الترك الذي هو التصيير وهذا لا يصح لأن مفعول ضمير لا يستقيم أن يكون لقولهم إذ يصير التقدير أن يصيروا لقولهم وهم لا يفتنون وهذا كلام لا يصح وأما ما مثله من البيت فإنه يصح أن يكون جزر السباع مفعولا ثانيا لترك بمعنى صير بخلاف ما قدر في الآية وأما تقديره تركهم غير مفتونين لقولهم آمنا على تقدير حاصل ومستقر قبل اللام فلا يصح إذا كان تركهم بمعنى تصييرهم وكان غير مفتونين حالا إذ لا ينعقد من تركهم بمعنى تصييرهم ولقولهم مبتدأ وخبر لاحتياج تركهم بمعنى تصييرهم إلى مفعول ثان لأن غير مفتونين عنده حال لا مفعول ثان وأما قولهم فإن قلت الخبر محتاج إلى فضلة فهم وذلك أن قوله: ان يقولوا هو علة تركهم فليس كذلك لأنه لو كان علة له لكان به متعلقا كما يتعلق بالفعل ولكنه علة للخبر المحذوف الذي هو مستقر أو كائن والخبر غير المبتدأ ولو كان لقولهم علة للترك لكان من تمامه فكان محتاجا إلى خبر وأما قوله كما تقول خروجه لمخافة الضر فليس علة للخروج بل للخبر الذي هو مستقر أو كائن.
و { الذين من قبلهم } المؤمنون اتباع الأنبياء أصابهم من المحن ما فرق به المؤمن بالمنشار فرقتين ومشط بأمشاط الحديد ولا يرجع عن دينه.
{ فليعلمن الله } بالإمتحان الذين صدقوا في إيمانهم وليعلمن الكاذبين فيه من علم المتعدية إلى واحد فيهما ومستحيل حدوث العلم لله تعالى بالمعنى وليتعلقن علمه به موجودا كما كان يتعلق به حين كان معروفا والمعنى وليميزون الصادق منهم والكاذب قال ابن عطية أم معادلة للألف في قوله أحسب وكأنه عز وجل قرر الفريقين قرر المؤمن على ظنهم أنهم لا يفتنون وقرر الكافرين الذين يعملون السيئات في تعذيب المؤمنين وغير ذلك على ظنهم أنهم يسبقون نقمات الله ويعجزونه " انتهى " ليست أم معادلة للألف أحسب كما ذكر لأنها إذ ذاك تكون متصلة ولها شرطان أحدهما أن يكون قبلها لفظ همزة الاستفهام وهذا الشرط هنا موجود والثاني أن يكون بعدها مفرد أو ما هو في تقدير المفرد مثال المفرد أزيد قام أم عمرو ومثال ما هو في تقدير المفرد أقام زيد أم قعد وجوابها تعيين أحد الشيئين إن كان التعادل بين شيئين أو الأشياء ان كان التعادل بين أكثر من شيئين وهنا بعد أم جملة ولا يمكن الجواب هنا بأحد الشيئين بل أم هنا منقطعة بمعنى بل التي للإضراب بمعنى الإنتقال من قصة إلى قصة لا بمعنى الإبطال والإستفهام هنا للتقرير والتوبيخ والإنكار فلا يقتضي جوابا لأنه في معنى كيف وقع حسبان ذلك والذين يعملون السيئات قال ابن عباس: يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل وغيرهما من صناديد قريش والآية وإن نزلت على سبب فهي تعم جميع من يعمل السيئات من كافر ومسلم.
{ أن يسبقونا } بمعنى أن يفوتونا.
{ سآء ما يحكمون } تقدم الكلام عليه في البقرة.
{ من كان يرجو } الظاهر أنها على بابها ومعنى لقاء الله الوصول إلى عاقبة الأمر من الموت والبعث والجزاء مثلت حاله بحال عبد قدم على مولاه من سفر بعيد وقد اطلع مولاه على ما يعمل في غيبته عنه فإن كان عمل خيرا تلقاه بإحسان أو شرا فبضد الإحسان.
{ فإن أجل الله لآت } وما أجله وجعل له أجلا لآتيه لا محالة فليبادر لما يصدق رجاءه * والظاهر أن قوله ومن جاهد معناه جاهد نفسه بالصبر على الطاعات بثمرة جهاده وهو الثواب المعدلة إنما هي له لا لله تعالى والله غني عنه وعن العالمين.
{ ووصينا الإنسان بوالديه } في جامع الترمذي أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص آلت أمه أن لا تطعم ولا تشرب حتى تموت أو يكفر بمحمد.
{ ووصينا } أي أمرناه بتعاهدهما ومراعاتهما وانتصب.
{ حسنا } على أنه مصدر وصينا أي إيصاء حسنا أي ذا حسن أو على سبيل المبالغة أي هو من ذاته حسن.
{ ومن الناس } قال ابن زيد: نزلت في المنافقين ولما ذكر تعالى ما أعده للمؤمنين ذكر حال المنافقين ناسا آمنوا بألسنتهم فإذا آذاهم الكفار جعلوا ذلك الأذى وهو فتنة الناس صارفا عن الإيمان كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر ولنجعل اللام فيه لام الأمر وأكثر ما تدخل لام الأمر على المضارع المراد به الغائب كقوله: ثم ليقطع فلينظر وقد جاء في المخاطب قليلا قرأ بعضهم فبذلك فليفرحوا وأما دخوله على المتكلم فهو قليل وقد جاء في الحديث وحولها على المضارع المتكلم قوموا فلا صل لكم والحمل هنا مجاز شبه القيام بما يتحصل من عواقب الإثم بالحمل على الظهر والخطايا بالمحمول ولما كان الأمر يراد به الخبر صح فيه أن يكذب.
{ وليسألن يوم القيامة } أي سؤال توبيخ وتقريع قال الزمخشري بعد كلام وهذا قول صناديد قريش كانوا يقولون لم آمن منهم لا نبعث نحن ولا أنتم فإن عسى كان ذلك فنحن فتحمل عنكم الإثم " انتهى " قوله: فإن عسى كان تركيب أعجمي لا عربي لأن أن الشرطية لا تدخل على عسى لأنه فعل جامد ولا تدخل أدوات الشرط على القول الجامد وأيضا فإن عسى لا يليها كان واستعمل عسى بغير إسم ولا خبر ولم يستعملها تامة.
{ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه } ذكر هذه القصة تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يلقى من أذى الكفار فذكر ما لقي أول الرسل نوح عليه السلام من أذى قومه المدد المتطاولة تسلية لخاتم الرسل صلوات الله عليه وسلم والواو في ولقد واو عطف عطفت جملة على جملة والاستثناء من الألف استدل به على جواز الاستثناء من العدد وفي كونه ثابتا من لسان العرب خلاف مذكور في النحو واختلف في مقدار عمره حين بعث وحين مات اختلافا كثيرا قال ابن عطية وقد يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته من لدن مولده إلى غرق قومه " انتهى " ليس عندي بمحتمل لأن اللبث تعقب بالفاء الدالة على التعقيب والضمير في وجعلناها يحتمل أن يعود على السفينة وأفرد آية وجاءت الفاصلة للعالمين لأن إنجاء السفن أمر معهود فالآية إنجاؤه تعالى أصحاب السفينة وقت الحاجة ولأنها بقيت أعواما حتى مر عليها الناس ورأوها فحصل لهم العلم بها فناسب ذلك قوله للعالمين وانتصب إبراهيم عطفا على نوحا.
{ إنما تعبدون } هذه القصة تمثيل لقريش وتذكير لهم بحال أبيهم إبراهيم عليه السلام من رفض الأصنام والدعوى إلى عبادة الله تعالى.
{ وتخلقون إفكا } قال ابن عباس هو نحت الأصنام وخلقها سماها إفكا توسعا من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة وقال مجاهد هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك ثم يعيده ثم الله ينشىء هاتان جملتان مستأنفتان إخبار من الله تعالى بالإعادة بعد الموت وقدم ما قبل هاتين الجملتين على سبيل الدلالة على إمكان ذلك وإذا أمكن ذلك وأخبر الصادق بوقوعه صار واجبا مقطوعا بعلمه لا شك فيه.
{ وإليه تقلبون } أي تردون.
{ ومآ أنتم بمعجزين } أي فائتين ما أراد الله بكم والظاهر أن قوله:
وإن يكذبوك
[الحج: 42] من كلام الله تعالى حكاية عن إبراهيم إلى قوله: { عذاب أليم } وقيل هذه الآيات اعتراض من كلام الله تعالى بين كلام إبراهيم والاخبار عن جواب قومه أي وإن يكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم.
{ فما كان جواب قومه } الآية لما أمرهم بعبادة الله تعالى وبين سفههم في عبادة الأوثان وظهرت حجته عليهم رجعوا إلى القلب فجعلوا القائم مقام جوابه فيما أمرهم به قولهم: اقتلوه أو أحرقوه والآمرون بذلك اما بعضهم لبعض أو كبراؤهم قالوا لاتباعهم اقتلوه فتستريحوا منه عاجلا أو احرقوه بالنار فإما أن يرجع إلى دينكم إذا مضته النار وإما أن يموت بها ان أصر على قوله ودينه في الكلام حذف تقديره فقذفوه في النار فأنجاه الله تعالى من النار وفي ذلك إشارة إلى خلوصه من النار بعد إلقائه فيها قال كعب لم يحترق منه بالنار إلا الحبل الذي أوثقوه به وجاء هنا الترديد بين قتله وإحراقه فقد يكون ذلك من قائلين ناس أشاروا بالقتل وناس بالإحراق وفي الأنبياء قالوا حرقوه اقتصروا على أحد الشيئين هو الذي فعلوه رموه في النار ولم يقتلوه وقرىء مودة بالرفع من غير تنوين وبينكم بفتح النون على خبران وما موصولة بمعنى الذي أي أن الأوثان التي اتخذتموها مودة وقرىء مودة منصوبا منونا وبينكم ظرف معمول لمودة وقرىء مودة نصبا بغير تنوين مضافا لقوله بينكم.
{ فآمن له لوط } لم يؤمن بإبراهيم أحد من قومه إلا لوط عليه السلام حين رأى النار لم تحرقه وكان ابن أخيه وسارة وكانت بنت عمه والضمير في وقال عائد على إبراهيم وهو الظاهر لتناسقه مع قوله ووهبنا له إسحق وكان إبراهيم ابن خمس وسبعين سنة وهو أول من هاجر في الله تعالى * وانتصب لوطا بإضمار اذكر أو بالعطف على إبراهيم أو بالعطف على ما عطف عليه إبراهيم استفهم أولا وثانيا استفهام توبيخ وإنكار وتقريع وبين ما تلك الفاحشة المبهمة في قوله: { إنكم لتأتون الفاحشة } وإن كانت معينة انها إيتان الذكور في أدبارهم بقوله: { ما سبقكم بها }.
{ وتقطعون السبيل } أي سبيل الولد بتعطيل الفروج ووطء أدبار الرجال قال الزمخشري: ما سبقكم بها جملة مستأنفة مقدرة يعني لقبح تلك الفعلة " انتهى " ويظهر أنها جملة حالية كأنه قال أتأتون الفاحشة مبتدعين لها غير مسبوقين بها وفي عموم قوله من أحد من العالمين دليل على أنه لم يفز ذكر على ذكر قبل قوم لوط.
{ وتأتون في ناديكم } أي في مجلسكم الذي تجتمعون فيه وهو إسم جنس إذ أنديتهم في مدائنهم كثيرة ولا يسمى ناديا إلا ما دام فيه أهله فإذا قاموا عنه لم يطلق عليه ناد وإلا بمجاز والمنكر ما تنكره العقول والشرائع والمروآت من تضارطهم وتصافعهم وغير ذلك وهم أول من لاط ونساؤهم أول من ساحق ولما وقفهم لوط عليه السلام على هذه القبائح أصروا على اللجاج في التكذيب فكان جوابهم له أن قالوا: إئتنا بعذاب الله قالوا ذلك وهم مصممون على اعتقاد كذبه فيما وعدهم به ثم استنصر لوط عليه السلام ربه عليهم فبعث ملائكة لعذابهم ورميهم بالحاصب.
{ ولمآ أن جآءت رسلنا لوطا } تقدم الكلام عليه.
[29.34-69]
{ وإلى مدين أخاهم شعيبا } أي أرسلنا وأرجو أي خافوا جزاء اليوم الآخر من إنتقام الله منكم ولا تعثوا تقدم فأخذتهم الرجفة تقدم الكلام عليه.
{ فكلا أخذنا بذنبه } فالحاصب لقوم لوط وهي ريح عاصف فيها حصباء والصيحة لمدين وثمود والخسف لقارون والغرق لقوم نوح وفرعون وقومه.
{ كمثل العنكبوت } حيوان معروف ووزنه فعللوت ويؤنث ويذكر شبه الله تعالى الكفار في عبادتهم وبنائهم أمورهم عليها بالعنكبوت التي تبني وتجتهد وأمرها كله ضعيف متى مسه أدنى هامة أذهبته فكذلك أمر هؤلاء وسعيهم مضمحل لا قوة له ولا معتمد قال الزمخشري: والغرض تشبيه ما اتخذوه متكلا ومعتمدا في دينهم وتولوه من دون الله تعالى بما هو مثل عند الناس في الوهن وضعف القوة وهو نسج العنكبوت ألا ترى إلى مقطع التشبيه وهو قوله: { وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت } " انتهى " والنص يظهر في تشبيه المتخذ من دون الله أولياء بالعنكبوت المتخذة وليا بيتا فلا اعتماد للمتخذ على وليه من دون الله كما أن العنكبوت لا اعتماد لها على بيتها في استظلال وسكنى بل لو دخلت فيه خرقته ثم بين حال بيتها وأنه في غاية الوهن بحيث لا ينتفع به كما أن تلك الأصنام لا تنفع فلا تحدث شيئا البتة والإشارة بقوله: وتلك إلى الأمثال وما تقدم في السورة من الأمثال.
{ وما يعقلهآ } أي لا يعقل صحتها وحسنها وفائدتها إلا العالمون وكان جهلة قريش يقولون: ان رب محمد يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت ويضحكون من ذلك وما علموا أن الأمثال تبرز المعاني الخفية في الصور الجلية.
{ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن } وأهل الكتاب اليهود والنصارى والتي هي أحسن الملاطفة في الدعاء إلى الله تعالى والتنبيه على آياته.
{ إلا الذين ظلموا } من لم يؤد جزية ونصب الحرب وصرح بأن لله تعالى ولدا أو شريكا أو يده مغلولة والآية منسوخة في مهادن من لم يحارب.
{ وقولوا آمنا } هذا من المجادلة وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال:
" كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله ".
{ وكذلك } أي مثل إنزال تلك الكتب السابقة.
{ أنزلنآ إليك الكتاب } أي القرآن.
{ فالذين آتيناهم الكتاب } هم عبد الله بن سلام ومن آمن معه.
{ ومن هؤلاء } أي من أهل مكة من يؤمن به أي بالقرآن إذ هو مذكور في كتبهم أنه ينزل على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ وما يجحد بآياتنآ } مع ظهورها وزوال الشبه عنها.
{ إلا الكافرون } أي من بني إسرائيل وغيرهم.
{ وما كنت تتلوا من قبله } أي من قبل نزوله عليك.
{ من كتاب } أي كتابا ومن زائدة لأنها في متعلق النفي.
{ ولا تخطه } أي لا تقرأ ولا تكتب بيمينك وهي الجارحة التي يكتب بها وذكرها زيادة تصوير لما نفي عنه من الكتابة.
{ إذا لارتاب المبطلون } أي لو كان يقرأ كتبا قبل نزول القرآن عليه أو يكتب لحصلت الريبة للمبطلين إذ كانوا يقولون حصل ذلك الذي يتلوه مما قر أقبل وخطه واستحفظه فكان يكون لهم في ارتيابهم تعلق ببعض شبهة وأما ارتيابهم مع وضوح هذه الحجة فظاهر فساده والمبطلون أهل الكتاب.
{ وقالوا لولا أنزل عليه } أي قالت قريش وبعض اليهود كانوا يعلمون قريشا مثل هذا الاقتراح ويقولون لهم ألا يأتيكم بآية مثل آية موسى من العصا وغيرها.
{ أولم يكفهم } الظاهر أنه رد على الذين قالوا لولا أنزل أي أو لم يكفهم آية مغنية عن سائر الآيات إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان فلا تزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحل.
{ أنآ أنزلنا عليك } روي
" أن كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا: يا محمد من يشهد لك بأنك رسول الله فنزلت قل كفى بالله أي قد بلغت وأنذرت وانكم جحدتم وكذبتم وهو العالم ما في السماوات والأرض فيعلم أمري وأمركم ".
{ والذين آمنوا بالباطل } قال ابن عباس بغير الله * وأجاز أبو البقاء أن يكون الذين منصوبا بفعل محذوف يدل عليهم ليؤمنهم وهذا لا يجوز لأنه لا يفسر إلا ما يجوز له أن يعمل ولا يجوز أن يقول زيدا لأضربن فلا يجوز أن تقول زيدا لاضربنه لما ذكرنا.
{ ويستعجلونك } أي كفار قريش في قولهم: إئتنا بما تعدنا وهو استعجال على جهة التعجيز والتكذيب والاستهزاء بالعذاب الذي كان يتوعدهم به الرسول عليه الصلاة والسلام والأجل المسمى ما سماه الله تعالى واثبته في اللوح المحفوظ لعذابهم وأوجبت الحكمة تأخيره ثم كرر فعلهم وقبحه وأخبر أن وراءهم جهنم تحيط بهم وانتصب يوم يغشاهم بمحيط.
{ يعبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة } أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن قوله: { يعبادي } نزلت فيمن كان مقيما بمكة أمروا بالهجرة عنها إلى المدينة أي جانبوا أهل الشرك واطلبوا أهل الإيمان ولما أخبر تعالى بسعة أرضه وكان ذلك إشارة إلى الهجرة وأمر بعبادته فكان قد يتوهم متوهم أنه إذا خرج من أرضه التي نشأ فيها لأجل من حلها من أهل الكفر إلى دار الإسلام لا يستقيم له فيها ما كان يستقيم له في أرضه فربما أدى ذلك إلى هلاكه أخبر أن كل نفس لها أجل تبلغه وتموت في أي مكان حل وأن رجوع الجميع إلى جزائه يوم القيامة وقرىء:
{ لنبوئنهم } من المباءة وهي المرجع والمعنى لنجعلن لهم مكان مباءة أي مرجعا يأوون إليه.
{ غرفا } أي علالي وقرىء: لنثوينهم من ثوى أي أقام وهو فعل لازم فدخلت عليه همزة التعدية فصار يتعدى إلى واحد وقرأ مشددا عدي بالتضعيف فانتصب غرفا اما على اسقاط حرف الجر أي في غرف ثم اتسع فحذف واما على تضمين الفعل معنى التبوئة فتعدى إلى اثنين أو شبه الظرف الكائن المختص بالمبهم فوصل إليه الفعل.
{ الذين صبروا } أي على مفارقة أوطانهم والهجرة.
{ وعلى ربهم يتوكلون } هذان جماع الخير كله الصبر وتفويض الأمور إلى الله تعالى ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بالهجرة خافوا الفقر فقالوا غربة في بلد لا دار لنا فيه ولا عقار ولا من يطعم فمثل لهم بأكثر الدواب التي تتقوت ولا تدخر ولا تروي في رزقها ولا تحمل رزقها من الحمل أي لا تعقل ولا تنظر في ادخار ثم قال الله يرزقها أي على ضعفها وإياكم أي على قدرتكم على الاكتساب وعلى التحيل في تحصيل المعيشة ومع ذلك فرازقكم هو الله تعالى.
{ وما هذه } الإشارة بهذه ازدراء للدنيا وتصغير لأمرها والحيوان والحياة بمعنى واحد وجعلت الدار الآخرة حيوانا على المبالغة بالوصف بالحياة ولما ذكر تعالى أنهم مقرون بالله تعالى إذ سئلوا من خلق العالم ومن نزل من السماء ماء ذكر أيضا حالة أخرى يرجعون فيها إلى الله تعالى ويقرون بأنه هو الفاعل لما يريد وذلك حين ركوب البحر واضطراب أمواجه واختلاف رياحه.
{ إذا هم يشركون } جواب للما أي فاجأ التنجية إشراكهم بالله تعالى أي لم يتأخر عنها ولا وقتا والظاهر في ليكفروا أنها لام كي وعطف عليه وليتمتعوا والمعنى عادوا إلى شركهم ليكفروا أي الحامل لهم على الشرك كفرهم بما أعطاهم الله تعالى وتلذذهم بما متعوا به من عرض الدنيا بخلاف المؤمنين فلم يقابلوها إلا بالشكر بالله تعالى على ذلك ثم ذكرهم تعالى بنعمه حيث أسكنهم بلدة أمنوا فيها لا يغزوهم أحد ولا يسلب منهم مع كونهم قليلي العدد قارين في مكان غير ذي زرع. وهذه من أعظم النعم التي كفروا بها وهي نعمة لا يقدر عليها إلا الله تعالى.
{ والذين جاهدوا } أطلق المجاهدة ولم يقيدها بمتعلق ليتناول المجاهدة في النفس قال ابن عباس: جاهدوا أهواءهم في طاعة الله لنهدينهم هداية إلى سبيل الخير كقوله:
والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم
[محمد: 17] والذين مبتدأ خبره القسم المحذوف وجوابه وهو لنهدينهم.
[30 - سورة الروم]
[30.1-29]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * الم * غلبت الروم } هذه السورة مكية بلا خلاف وسبب نزولها أن كسرى بعث جيشا إلى الروم وأمر عليهم رجلا اختلف في اسمه فسار إليهم بأهل فارس فظفر وقتل وخرب وقطع زيتونهم وكان التقاهم باذرعات وبصرى وكان قد بعث قيصر رجلا أميرا على الروم وفي كتابنا البحر ذكرت حكاية غلب الروم فارس قال ابن عطية والقراءة بضم الغين أصح وأجمع الناس على سيغلبون أنه بفتح الياء يراد به الروم ويروى عن ابن عمر أنه قرأ أيضا سيغلبون بضم الياء وفي هذه القراءة قلب المعنى الذي تظاهرت به الروايات " انتهى " * قوله:
أجمعوا
[يوسف: 102] ليس كذلك ألا ترى أن الذين قرؤا غلبت بفتح الغين هم الذين قرؤا سيغلبون بضم الياء وفتح اللام فليست هذه مخصوصة بابن عمر كما ذكر.
{ في بضع سنين } تقدم الكلام عليه في يوسف والظاهر أن يومئذ ظرف معمول ليفرح والتنوين فيه للعوض من الجملة المحذوفة أي ويوم إذ يغلب الروم فارس يفرح المؤمنون ثم ابتدأ الاخبار بفرح المؤمنين بالنصر وبنصر الله أي الروم على فارس أو المسلمين على عدوهم * وانتصب وعد الله على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة التي تقدمت وهو قوله: { سيغلبون } و { يفرح المؤمنون }.
{ ولكن أكثر الناس } الكفار من قريش وغيرهم.
{ لا يعلمون } نفي عنهم العلم النافع للآخرة وقد أثبت لهم العلم بأحوال الدنيا.
{ يعلمون ظاهرا } أي بينا أي ما أدتهم إليه حواسهم فكان علومهم إذن هي علوم البهائم.
{ أولم يتفكروا } الظاهر أنها معلقة ومتعلقها الجملة من قوله ما خلق إلخ وفي أنفسهم ظرف على سبيل التأكيد لأن الفكر لا يكون إلا في النفس كما أن الكتابة لا تكون إلا باليد * وبالحق في موضع الحال أي ملتبسة بالحق مقترنة به وبتقدير أجل مسمى لا بد لها أن تنتهي إليه وهو قيام الساعة ووقف الحساب والثواب والعقاب والمراد بلقاء ربهم الأجل المسمى.
{ أولم يسيروا في الأرض } هذا تقرير وتوبيخ أي قد ساروا ونظروا إلى ما حل بمن كان قبلهم من مكذبي الرسل.
{ وأثاروا الأرض } أي قلبوها للزراعة وغير ذلك وعمروها من العمارة أي بقاؤهم فيها أكثر من بقاء هؤلاء أو من العمران أي سكنوا فيها وقرىء عاقبة بالرفع وهي إسم كان * والذين أساؤا من وضع الظاهر موضع المضمر كأنه قال عاقبة مكرهم وخبر كان قوله السوأى وهي الحالة السيئة والسوأى افعل تفضيل مؤنث تذكيره الاسوء ويجوز أن يكون السوأى مصدرا منصوبا باساؤا وان كذبوا هو الخبر أي تكذيبهم بآيات الله وقرىء عاقبة بالنصب على أنه خبر كان واسمها يجوز أن يكون السوأى ويجوز أن يكون ان كذبوا أي تكذيبهم فيكون السوأى مصدر الأساؤا قال الزمخشري: ويجوز أن يكون أن بمعنى أي ووجه آخر وهو أن يكون أساؤا السوأي هنا بمعنى اقترفوا الخطيئة التي هي أسوأ الخطايات وان كذبوا عطف بيان لها وخبر كان محذوف كما يحذف جواب لما ولو ارادة الابهام " انتهى " * وكون أن هنا حرف تفسير متكلف جدا وأما قوله وإن كذبوا عطف بيان لها أي للسوأى وخبر كان محذوف الخبر فهذا فهم أعجمي لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف فيتكلف له محذوف لا يدل على دليل وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان وأخواتها لا اقتصارا ولا اختصارا إلا أن ورد منه شىء فلا يقاس عليه.
{ يبلس المجرمون } أي لا ينطقون * في روضة والروضة الأرض ذات النبات والماء.
{ يحبرون } يسرون حبره سره سرورا تهلل له وجهه وظهر له أثره ومعنى محضرون مجموعون له لا يغيب أحد منهم وجاء في روضة منكرا وفي العذاب معرفا والتنكيل لإبهام أمرها وتفخيمه وجاء يجدون بالفعل المضارع لاستعماله لمتجدد لأنهم كل ساعة يأتيهم ما يسرون به متجددات الملاذ أو أنواعها المختلفة وجاء محضرون باسم الفاعل لاستعماله للثبوت فيهم إذا دخلوا العذاب يبقون فيه محضرين فهو وصف لهم لازم.
{ فسبحان الله حين تمسون } الآية لما بين تعالى عظيم قدرته في خلق السماوات والأرض بالحق وهي حالة لمبدأ العالم وفي مصيرهم إلى الجنة والنار وهي حالة الإنتهاء أمر تعالى بتنزيهه من كل سوء في هذه الأوقات وقابل بالعشي الإمساء وبالإظهار الإصباح لأن كلا منهما يتعقب ما قابله فالعشى يتعقبه الإمساء والإصباح يتعقبه الإظهار ولما لم يتصرف من العشى فعل لا يقال أعشى كما يقال أمسى وأصبح وأظهر جاء التركيب وعشيا ولما ذكر الابداء والإعادة ناسب ذكر يخرج الحي من الميت وتقدم الكلام عليه.
{ وكذلك } أي مثل ذلك الإخراج والمعنى تساوي الإبداء والإعادة في حقه تعالى ثم ذكر آيات من بدء خلق الإنسان آية آية إلى حين بعثه من القبر فقال:
{ ومن آياته } أن خلقكم من تراب جعل خلقهم من تراب حيث كان خلق أباهم آدم من تراب.
و { تنتشرون } تتصرفون في أغراضكم وأسفاركم وإذا للمفاجأة ولما كان بين الخلق وبين الإنتشار رتب آخر كان العطف بثم المقتضية المهلة والتراخي وبدأ أولا من الآيات بالنشأة الأولى وهي خلق الإنسان من التراب ثم كونه بشرا منتشرا وهو خلق حي من جماد ثم أتبعه بأن خلق له من نفسه زوجا وجعل بينهما توادا وذلك خلق حي من عضو حي وقال:
{ لقوم يتفكرون } لأن ذلك لا يدرك إلا بالفكر في تأليف بين شيئين لم يكن بينهما تعارف ثم أتبعه بما هو مشاهد للعالم كلهم وهو خلق السماوات والأرض واختلاف اللغات والألوان والاختلاف دائم بدوام الإنسان لا يفارق وقال:
{ للعالمين } لأنها آية مكشوفة للعالم ثم أتبعه بالمنام والابتغاء وهما من الأمور المفارقة في بعض الأوقات بخلاف اختلاف الألسنة والألوان وقال:
{ لقوم يسمعون } لأنه لما كان من أفعال العباد قد يتوهم أنه لا يحتاج إلى مرشد فنبه على السماع وجعل البال من كلام المرشد ولما ذكر عرضيات الأنفس اللازمة والمفارقة ذكر عرضيات الآفاق المفارقة من إراءة البرق وإنزال المطر وقدمهما على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء كما قدم السماوات على الأرض وقدم البرق على الإنزال لأنه كالمبشر يجيء بين يدي القادم والإعراب لا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب إلى جانب وقال لقوم يعقلون لأن البرق والإنزال ليس أمرا عاديا فيتوهم أنه طبيعة إذ قد يقع ذلك ببلدة دون أخرى ووقتا دون وقت وقويا وضعيفا فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار فقال هداية لمن عقل وإن لم يتفكر تفكرا تاما ثم ختم هذه الآيات بقيام السماوات والأرض وذلك من العوارض اللازمة فإن كلا من السماء والأرض لا يخرج عن مكانه فيتعجب من وقوف الأرض وعدم نزولها ومن علو السماء وثباتها من غير عمد ثم اتبع ذلك بالنشأة الآخرة وهي الخروج من الأرض وذكر تعالى من كل باب أمرين من الأنفس خلقكم وخلق لكم من الآفاق السماء والأرض ومن لوازم الإنسان اختلاف الألسنة واختلاف الألوان ومن عوارضه الابتغاء ومن عوارض الآفاق البرق والمطر ومن لوازمها قيام السماء وقيام الأرض.
{ وله من في السموت والأرض } عام في كونهم تحت ملكه وقهره.
{ قانتون } قال ابن عباس: مطيعون أي في تصريفه لا يمتنع عليه شىء يريد فعله بهم من حياة وموت ومرض وصحة وفي طاعة الإرادة لا طاعة العبادة والضمير في عليه عائد إلى الله تعالى وقيل أهون للتفضيل وذلك بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في الشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون من البداءة للاستغناء عن الروية التي كانت في البداءة هذا وإن كان الإثنان عنده تعالى من اليسر في حيز واحد وقيل الضمير في عليه عائد على الخلق أي والعود أهون على الخلق بمعنى أسرع لأن البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن يصير إنسانا والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات في الأطوار إنما يدعوه الله تعالى فيخرج فكأنه قال: وهو أيسر عليه أي أقصر مدة وانتقالا.
{ ضرب لكم مثلا من أنفسكم } قال ابن عباس بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله تعالى بضربه هذا المثل ومعناه أنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومنهم أموركم ولا في شىء على استواء المنزلة وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم أو يقاسمونكم إياها في حياتكم كما يفعل بعضكم ببعض فإذا كان هذا فيكم فكيف تقولون ان من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته وتثبتون في جانبه ما لا يليق عندكم بجوانبكم وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير.
[30.30-50]
{ لا تبديل لخلق الله } أي لخلق الله والقيم بناء مبالغة من القيام بمعنى الاستقامة.
و { منيبين } حال من الناس والظاهر أن المشركين كل من أشرك فيدخل فيهم أهل الكتاب وغيرهم ومن الذين بدل من المشركين فارقوا دينهم أي دين الإسلام وجعلوه أديانا مختلفة لاختلاف أهوائهم.
{ وكانوا شيعا } كل فرقة تشائع امامها الذي كان سبب ضلالها.
{ كل حزب } أي منهم فرح بمذهبه مفتون به وكل حزب مبتدأ وقد حذف الخبر.
{ وإذا مس الناس ضر } الآية الضر الشدة من مرض أو فقر أو قحط أو غير ذلك والرحمة الخلاص من ذلك الضر.
{ دعوا ربهم } أفردوه بالدعاء والتضرع لينجوا من ذلك الضر وتركوا أصنامهم لعلمهم أنه لا يكشف الضر إلا هو تعالى فلهم في ذلك الوقت إنابة وخضوع فإذا أخلصهم من ذلك الضر أشرك فريق ممن خلص وهذا الفريق هم عبدة الأصنام.
و { إذا فريق } جواب إذا ادامتهم الأولى شرطية والثانية للمفاجأة وتقدم نظيره وجاء هنا فريق لأنه قوله وإذا مس الناس عام للمؤمن والكافر فلا يشرك إلا الكافر وضر هنا مطلق.
{ أم أنزلنا } بمعنى بل والهمزة بل للإضراب عن الكلام السابق والهمزة للإستفهام عن الحجة إستفهام إنكار وتوبيخ والسلطان البرهان من كتاب أو نحوه.
{ فهو يتكلم } أي يظهر مذهبهم وينطق بشركهم والتكلم مجاز وإذا أذقنا الناس في إصابة الرحمة فرحوا بها وذهلوا عن شكر من أسداها إليهم وفي إصابة البلاء قنطوا ويئسوا وذهلوا عن الصبر ونسوا ما أنعم به عليهم قبل إصابة البلاء وإذا هم جواب وان تصبهم يقوم مقام الفاء في الجملة الإسمية الواقعة جوابا للشرط ونظيره وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولا نعلم جاءت إذا الفجائية جوابا لأن الشرطية إلا في هذين الموضعين وقرىء: يقنطون مضارع قنط ويقنطون مضارع قنط وحين ذكر إذاقة الرحمة لم يذكر سببها وهو زيادة الإحسان والتفضل وحين ذكر إصابة السيئة ذكر سببا وهو العصيان ليتحقق عدله ثم ذكر تعالى الأمر الذي من اعتبره لم يأس من روح الله وهو أنه تعالى هو الباسط والقابض فينبغي أن لا يقنط وأن يتلقى ما يرد من قبل الله تعالى بالصبر في البلاء والشكر في النعماء وأن يقلع عن المعصية التي أصابته السيئة بسببها حتى تعود إليه رحمة ربه * ووجه مناسبة فآت ذا القربى لما قبله لما ذكر أنه تعالى هو الباسط القابض وجعل في ذلك آية للمؤمن أمره نبيه صلى الله عليه وسلم بالإحسان لمن به فاقة واحتياج لأن من الإيمان الشفقة على خلق الله تعالى فخاطب من بسط له الرزق بأداء حق الله تعالى من المال وصرفه إلى من يصرف إليه في رحم أو غيره من مسكين.
{ ومآ آتيتم من ربا } قال السدي: نزلت في ربا ثقيف كانوا يعملون ويعمله قريش فيهم.
{ فلا يربوا } أي لا يزكو في المال ولا يبارك الله فيه كقوله:
يمحق الله الربوا ويربي الصدقت
[البقرة: 276] وقرىء: أتيتم بالقصر وآتيتم بالمد فأولئك التفات من الخطاب في آتيتم إلى الغيبة في قوله: { فأولئك هم }.
{ الله الذي خلقكم } كرر تعالى خطاب الكفار في أمر أوثانهم فذكر أفعاله التي لا يمكن أن يدعى له فيها شريك وهي الخلق والرزق والإماتة والإحياء ثم استفهم على جهة التقرير لهم والتوبيخ ثم نزه نفسه تعالى عن مقالاتهم.
و { الله الذي خلقكم } مبتدأ وخبر ومن مبتدأ موصولة ومن شركائكم الخبر ومن شىء مفعول ومن زائدة تقديره شيئا قال الزمخشري:
{ هل من شركآئكم } الذين اتخذتموهم أندادا من الأصنام وغيرها.
{ من يفعل } شيئا قط من تلك الأفعال حتى يصح ما ذهبتم إليه " انتهى " * استعمل قط في غير موضعها لأنها ظرف للماضي وهنا جعلها معمولة ليفعل.
و { ذلكم } إشارة إلى ما تقدم من الخلق والرزق والإماتة والإحياء.
{ ظهر الفساد } ظهوره بارتفاع البركات ونزول رزايا وحدوث فتن وتقلب عدو كافر وهذه الثلاثة توجد.
{ في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس } أي من المعاصي وقرىء لنذيقهم بالنون وبالياء وسيروا تقدم الكلام عليه من قبل أن يأتي يوم هو يوم القيامة وفيه تحذير يعم الناس.
{ لا مرد له من الله } والمرد مصدر.
{ يومئذ } أي يوم إذ يأتي ذلك اليوم.
{ يصدعون } يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير يقال تصدع القوم إذا تفرقوا ومنه الصداع لأنه يفرق شعب الرأس.
{ من كفر فعليه كفره } وعبر عن حالة الكافر بعليه وهي تدل على الثقل والمشقة وعن حال المؤمن بقوله: فلأنفسهم باللام التي هي كلام الملك ويمهدون يوطئون وهي استعارة من الفرش.
{ ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات } منصوب على الحال.
{ وليذيقكم } معطوف عليه على التوهم كأنه قيل ليبشر وليذيق وتبشيرها إذاقة الرحمة وهي نزول المطر ويتبعه حصول الخصب والروح الذي معه الهبوب وإزالة العفونة من الهواء وتذرية الحبوب وغير ذلك وبأمره يعني أن جريانها لما كان مسندا إليها أخبر أنه بأمره تعالى من فضله بما ينشىء لكم من الريح من التجارات في البحر ومن غنائم أهل الشرك ثم أنس رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ضرب له مثل من أرسل من الأنبياء وتوعد قريشا بأن ضرب لهم مثل من أهلك من الأمم الذين أجرموا وكذبوا الأنبياء ولما كان تعالى بين الأصلين المبدأ والمعاد ببراهين ذكر الأصل الثالث وهو النبوة وفي الكلام حذف تقديره فآمن به بعض وكذب بعض.
{ فانتقمنا من الذين أجرموا } وفي قوله:
{ وكان حقا علينا } تبشير للرسول صلى الله عليه وسلم وأمته بالنصر والظفر إذ أخبر أن المؤمنين بأولئك الأنبياء نصروا وفي لفظة حقا مبالغة في التحتم وتكريم للمؤمنين وإظهار لفضيلة سابقة الإيمان حيث جعلهم مستحقين النصر والظفر والظاهر أن حقا خبر كان ونصر المؤمنين الإسم وآخر لكون ما تعلق به فاصلة وللإهتمام بالخبر إذ هو محط الفائدة.
{ الله الذي يرسل الرياح } هذا متعلق بقوله: { ومن آياته أن يرسل الرياح } والجملة التي بينها اعتراض جاءت تأنيسا للرسول عليه السلام وتسلية ووعدا بالنصر ووعيدا لأهل الكفر وفي إرسالها قدرة وحكمة أما القدرة فإن الهواء اللطيف الذي يسبقه البرق يصبر بحيث يقلع الشجر ويهدم البناء وهو ليس بذاته يفعل ذلك بل بفاعل مختار وأما الحكمة ففيما يفضي إليه نفس الهبوب من إثارة السحب وإخراج الماء منه وانبات الزرع ودر الضرع واختصاصه بناس دون ناس وهذه حكمة بالغة مقرونة بالمشيئة والإثارة تحريكها وتسييرها والبسط نشرها في الآفاق الكسف القطع.
{ فترى الودق } تقدم الكلام عليه والضمير في:
{ من خلاله } الظاهر أنه عائد على السحاب إذ هو المحدث عنه وذكر الضمير لأن السحاب إسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه.
[30.51-60]
{ ولئن أرسلنا ريحا } أخبر تعالى عن تقلب ابن آدم في أنه بعد الاستبشار بالمطر بعث الله ريحا فاصفر بها النبات فظلوا يكفرون قلقا منهم والريح الذي يصفر بها النبات صرصور أو هما مما يصبح به النبات هشيما والحرور جنب الشمال إذا عصفت والضمير في فرأوه عائد على ما يفهم من سياق الكلام وهو النبات واللام في ولئن مؤذنة بقسم محذوف وجوابه لظلوا وهو مما وضع فيه الماضي موضع المستقبل إتساعا تقديره ليظللن والضمير في بعده عائد على الإصفرار أي من بعد إصفرار النبات يجحدون نعمته وتقدم الكلام على قوله: { فإنك لا تسمع الموتى } إلى قوله: { فهم مسلمون } في أواخر النمل إلا أن هنا الربط بالفاء في قوله: فإنك.
{ الله الذي خلقكم من ضعف } الآية لما ذكر من دلائل الآفاق ما ذكر ذكر شيئا من دلائل الأنفس وجعل الخلق من ضعف لكثرة ضعف الإنسان أول نشأته وطفوليته كقوله تعالى:
خلق الإنسان من عجل
[الأنبياء: 27] والقوة التي تلت الضعف هي رعرعته ونماؤه وقوته إلى فصل الاكتهال والضعف الذي بعد القوة هو حال الشيخوخة والهرم وقرىء: ضعف بضم الضاد وفتحها ما لبثوا في الدنيا استقلوها لما عاينوا من أمر الآخرة واخبارهم بذلك هو على جهة التقول بغير علم أي على جهة النسيان والكذب.
{ يؤفكون } أي يصرفون عن قول الحق والنطق بالصدق.
و { الذين أوتوا العلم } هم الملائكة والأنبياء والمؤمنون.
{ في كتاب الله } فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث والعلم يعم الإيمان وغيره ولكن نص على هذا الخاص تشريفا وتنبيها على محله من العلم وقيل في كتاب الله في اللوح المحفوظ.
{ فيومئذ } أي يوم إذ يقع ذلك من أقسام الكفار وقول أولي العلم لهم.
{ ولا هم يستعتبون } في إزالة ما سألوه مما هم فيه.
{ ولقد ضربنا } إشارة إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكناية من الإنذار.
{ كذلك يطبع الله } أي مثل هذا الطبع يطبع الله أي يختم على قلوب الجهلة الذين قد حتم عليه بالكفر في الأزل وأسند الطبع إلى ذاته تعالى إذ هو فاعل ذلك ومقدره ثم أمره تعالى بالصبر عليهم وعلى عداوتهم وقواه بتحقيق الوعد بأنه لا بد من إيجاده والوفاء به ونهاه عن الإهتزاز لكلامهم والتحرك فإنهم لا يقين لهم ولا بصيرة.
[31 - سورة لقمان]
[31.1-19]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * الم * تلك آيات الكتاب الحكيم } هذه السورة مكية قال ابن عباس: إلا ثلاث آيات أولهن ولو ان ما في الأرض وسبب نزولها أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه وعن بر والديه فنزلت * ومناسبتها لما قبلها أنه قال تعالى:
ولقد ضربنا للناس
[الروم : 58] فأشار هنا إلى ذلك بقوله: { الم * تلك آيات الكتاب } الخ وكان في آخر تلك ولئن جئتهم بآية وهنا وإذا تتلى عليه وتلك إشارة إلى البعيد فاحتمل أن يكون ذلك البعد غايته وعلو شأنه وآيات الكتاب أي القرآن أو اللوح المحفوظ. ولما ذكر من صفات القرآن الحكمة وأنه هدى ورحمة وان متبعه فائز ذكر حال من بدل بطلب الحكمة اللهو وذكر مبالغته في ارتكابه حتى جعله مشتريا له وباذلا فيه رأس عقله وذكر علته وأنها الإضلال عن طريق الله تعالى ونزلت هذه الآية في النضر بن الحارث كان يتجر إلى فارس ويشتري كتب الأعاجم فيحدث قريشا بحديث رسم واسفندار يقول: أنا أحسن حديثا ومن قوله: من يشتري موصولة بدأ أولا بالحمل على اللفظ فأفرد في قوله: وإذا تتلى إلى آخر الضمائر وضمن هذه الآية ذم المشتري من وجوه التولي عن الحكمة ثم الاستكثار ثم عدم الالتفات إلى سماعها كأنه غافل عنها ثم الإيغال في الإعراض بكون أذنيه كان فيهما صمما يصده عن السماع.
و { كأن لم يسمعها } حال من الضمير في مستكبرا أي مشبها حال من لم يسمعها لكونه لا يجعل لها بالا ولا يلتفت إليها وكأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واجب الحذف وكان في أذنيه حال من لم يسمعها وانتصب.
{ وعد الله } على أنه مصدر مؤكد والعامل فيه محذوف تقديره وعد الله وحقا منصوب بمحذوف تقديره أحق حقا وكلاهما مؤكد لما قبلهما.
{ خلق السموت } تقدم الكلام عليه والزوج الصنف ومعنى كريم مدحه بكرم جوهره ونفاسته وحسن منظره.
{ هذا خلق الله } إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته وبخ بذلك الكفار وأظهر حجته عليهم والخلق بمعنى المخلوق كقولهم: درهم ضرب الأمير أي مضروبه.
{ ولقد آتينا لقمان الحكمة } اختلف في لقمان هل كان حرا أم عبدا أم نبيا أم رجلا صالحا إختلافا كثيرا مذكورا في البحر والحكمة المنطق الذي يتعظ به ويتنبه وتتناقله الناس.
{ أن اشكر } هي المخففة من الثقيلة أو مفسرة ولنفسه أي ثواب الشكر لا يحصل إلا للشاكر وكفر من كفر لا يضره وحميد مستحق الحمد لذاته وصفاته * وإذ قال الناصب لأن أذكر محذوفة واختلف في إسم ابنه إختلافا كثيرا.
{ وهو يعظه } جملة حالية قيل كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما والظاهر أن قوله:
{ إن الشرك لظلم عظيم } من كلام لقمان وقيل هو خبر من الله منقطع عن كلام لقمان متصل به في تأكيد المعنى وفي صحيح مسلم ما ظاهره أنه من كلام لقمان.
{ ووصينا الإنسان بوالديه } هذه الآية إعتراض بين أثناء وصية لقمان وفيها تشديد وتوكيد لاتباع الولد والده وامتثال أمره في طاعة الله تعالى والصحيح أن هذه الآية وآية العنكبوت نزلتا في سعد بن أبي وقاص وعليه جماعة من المفسرين ولما خص الأم بالمشقات من الحمل والنفاس والرضاع والتربية نبه على السبب الموجب للإيصاء بها ولذلك جاء في الحديث الأمر ببر الأم ثلاث مرات ثم ذكر الأب فجعل له مرة الربع من المبرة.
{ وهنا على وهن } قال ابن عباس: شدة بعد شدة وخلقا بعد خلق.
{ وفصاله في عامين } ومعناه فصاله في تمام عامين عبر عنه بنهايته وأجمعوا على اعتبار العامين في مدة الرضاع في باب الإحكام والنفقات وأما في تحريم اللبن في الرضاع فخلاف مذكور في الفقه.
{ وإن جاهداك } تقدم الكلام عليه في العنكبوت وانتصب معروفا على أنه صفة لمصدر محذوف أي صحابا أو مصاحبا معروفا وعشرة جميلة وهو إطعامهما وكسوتهما وعدم جفائهما وانتهارهما وعيادتهما إذا مرضا ومواراتهما إذا ماتا.
{ واتبع سبيل من أناب إلي } أي رجع إلى الله تعالى وهو سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم لا سبيلهما.
{ ثم إلي مرجعكم } أي مرجعك ومرجعهما فأجازي كلا منكم بعمله ولما نهى لقمان ابنه عن الشرك نبه على قدرة الله تعالى وأنه لا يمكن أن يتأخر عن مقدوره شىء.
فقال { يبني إنهآ إن تك } والظاهر ان الضمير في انها ضمير القصة وتك مضارع كان حذفت نونها وهي تامة ومثقال فاعل بتك وأنث الفعل لإضافة الفاعل إلى مؤنث كما قالوا تواضعت سور المدينة.
{ من خردل } في موضع الصفة لحبة فتكن معطوف على تك وهي تامة اسمها مضمر فيها أي فتكن هي والخبر في صخرة وبدأ أولا بما يتعقله الإنسان وهي كينونة الشىء في صخرة وهو ما صلب من الحجر وعسر إخراجه منها ثم اتبعه بالعالم العلوي وهو أغرب للسامع ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد وهو الأرض * يأت بها الله جواب الشرط لما نهاه أولا عن الشرك أمر بما يتوسل به إليه من الطاعات فبدأ بأشرفها وهو الصلاة ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم بالصبر على ما يصبه من المحن.
{ إن ذلك } إشارة إلى ما تقدم مما نهاه عنه وأمره به والعزم مصدر فاحتمل أن يكون يراد به المفعول أي من معزوم الأمور واحتمل أن يراد به الفاعل أي عازم الأمور كقوله: فإذا عزم الأمر وقرىء:
{ ولا تصعر } ولا تصاعر معناه لا تولهم شق وجهك كفعل المتكبر وأقبل على الناس بوجهك من غير تكبر ولا إعجاب.
{ ولا تمش } تقدم الكلام عليه في سبحان.
{ إن الله لا يحب } تقدم الكلام عليه في النساء.
{ واقصد في مشيك واغضض من صوتك } لما نهاه عن الخلق الذميم أمره بالخلق الكريم وهو القصد في المشي بحيث لا يبطىء كما يفعل المتنامسون والمتعاجبون يتباطؤون في نقل خطواتهم المتنامس للرياء والمتعاجب للترفع ولا تسرع كما يفعل الخرق المشهور * والغض من الصوت التنقيص من رفعه وجهارته والغض رد طموح الشىء كالصوت والنظر والزمام وكانت العرب تفخر بجهارة الصوت وتمدح به في الجاهلية والظاهر أن قوله:
{ إن أنكر الأصوات } من كلام لقمان لابنه تنفيرا له عن رفع الصوت وقيل هو من كلام الله تعالى رد الله به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت وقيل واقصد في مشيك إشارة إلى الأفعال واغضض من صوتك إشارة إلى الأقوال فنبه على التوسط في الأفعال وعلى الإقلال من فضول الكلام.
[31.20-34]
{ ألم تروا أن الله سخر لكم } تنبيه على الصفة الدالة على الصانع.
{ ومن الناس } تقدم الكلام عليه.
{ ومن يسلم } تقدم أيضا ولما ذكر حال الكافر المجادل ذكر حال المسلم وأخبر بأن منتهى الأمور صائر إليه تعالى.
{ ولو أنما في الأرض } قالت اليهود ان الله أنزل التوراة على موسى عليه السلام وخلفها فينا ومعنا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله تعالى فنزلت هذه الآية ولما ذكر تعالى كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم للحشر إلا كنفس واحدة أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها.
و { من شجرة } تبيين لما الموصولة له.
و { أقلام } خبر لأن وقرىء والبحر بالنصب على الاشتغال أو عطفا على ما وبالرفع على الإبتداء والجملة الحالية ما نفرت جواب لو.
{ من بعده } أي من بعد نفاد ما فيه.
{ سبعة أبحر } لا يراد به الإقتصار على هذا العدد بل جيء به للكثرة كقوله: المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء لا يراد به العدد بل ذلك إشارة إلى القلة والكثرة ولما كان لفظ سبعة ليس موضوعا في الأصل للتكثير وإن كان مرادا به هنا التكثير جاء مميزا بلفظ القلة وهو أبحر ولم يقل بحور وإن كان لا يراد به أيضا إلا التكثير ليناسب بين اللفظين فكما تجوز في سبعة واستعمل للتكثير كذلك تجوز في أبحر واستعمل للتكثير وفي الكلام جملة محذوفة يدل عليها المعنى تقديره وكتب بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ما نفدت والمعنى ولو أن أشجار الأرض أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ما نفذت ونفذ الاقلام والمداد الذي في البحر وما يمده كما قال الله تعالى:
قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي
[الكهف: 109] الآية.
{ ألم تر أن الله يولج الليل في النهار } جاء هنا إلى أجل ويدل على الانتهاء أي يبلغه وينتهي إليه وفي الزمر لأجل ويدل على الإختصاص فجعل الجزي مختصا بإدراك أجل مسمى وجري الشمس مختص باجزاء السنة وجري القمر بأجزاء الشهر فكلا المعنيين مناسب لجريهما فلذلك عدى بهما.
{ ذلك بأن الله } تقدم الكلام عليه وصبار شكور بنيتا مبالغة وفعال أبلغ لزيادة حروفه.
{ فمنهم مقتصد } أي مؤمن يعرف حق الله تعالى في هذه النعم وختم هنا ببنيتي مبالغة وهما ختار وكفور فالصبار الشكور معترف بآيات الله تعالى والختار الكفور يجحد بها وتوازنت هذه الكلمات لفظا ومعنى أما لفظا فظاهر وأما معنى فالختار هو الشديد الغدر والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر لأن الصابر يفوض أمره إلى الله تعالى وأما الغدار فيعهد ويغدر فلا يصبر على العهد وأما الكفور فمقابلة معنى الشكور واضحة ولما ذكر تعالى الدلائل على وحدانيته والحشر من أول السورة أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بهذا اليوم العظيم.
{ لا يجزي } لا يقضي ومنه قيل للمتقاضي المتجازى ولما كان الوالد أكثر شفقة على الولد من الولد على أبيه بدأ به أولا وأتى في الإسناد إلى الواو بالفعل المقتضى للتجدد لأن شفقته متحددة على الولد في كل حال وأتى في الإسناد إلى الولد باسم الفاعل لأنه يدل على الثبوت والثبوت يصدق بالمرة الواحدة والجملة من لا يجزي صفة ليوم والضمير محذوف أي فيه فإما أن يحذف برمته وإما على التدريج حذف حرف الجر فتعدى الفعل إلى الضمير وهو منصوب فحذف.
{ إن الله عنده علم الساعة } روي أن الحارث بن عمارة المحاربي قال: يا رسول الله أخبرني عن الساعة متى قيامها وإني قد ألقيت حباتي في الأرض وقد أبطأت عني السماء فمتى تمطر وأخبرني عن امرأتي فقد اشتملت على ما في بطنها أذكر أم أنثى وعلمت ما عملت أمس فما أعمل غدا وهذا مولدي قد عرفته فأين أموت فنزلت وفي الحديث
" خمس لا يعلمهن إلا الله "
وتلا هذه الآية وعلم مصدر أضيف إلى الساعة والمعنى علم تعيين وقتها وينزل الغيث في إبانه من غير تقدم ولا تأخير * ما في الأرحام من ذكر أم أنثى أم ناقص.
{ وما تدري نفس } برة أو فاجرة.
{ ماذا تكسب غدا } من خير أو شر وربما عزمت على أحدهما فعملت بضده.
{ بأي أرض تموت } ربما أقامت بمكان ناوية أن لا تفارقه إلى أن تدفن به ثم تدفن بمكان لم يخطر لها ببال قط وأسند العلم لله تعالى والدراية للنفس من معنى الختل والحيلة ولذلك وصف الله تعالى بالعالم ولا يوصف بالداري وبأي متعلق بتموت والباء ظرفية أي من أي أرض فالجملة في موضع نصب بتدري ووقع الاخبار بأن الله تعالى استأثر بعلم هذه الخمس لأنها جواب لسائل سأل وهو سبحانه وتعالى مستأثر بعلم أشياء لا يحصيها إلا هو تعالى وتقدس.
[32 - سورة السجدة]
[32.1-13]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * الم * تنزيل الكتاب لا ريب فيه } هذه السورة مكية وقال ابن عباس إلا ثلاث ايات نزلن بالمدينة * ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر فيما قبلها دلائل التوحيد من بدء الخلق وهو الأصل الأول ثم ذكر المعاد والحشر وهو الأصل الثاني وختم به السورة ذكر في بدء هذه السورة الأصل الثالث وهو تبيين الرسالة والكتاب هو القرآن والظاهر أن يكون تنزيل مبتدأ ولا ريب فيه اعتراضا ومن رب العالمين الخبر قال الزمخشري: من رب العالمين متعلق بتنزيل وفي الكلام تقديم وتأخير ويجوز أن يتعلق بقوله لا ريب أي لا شك فيه من جهة الله تعالى فإن وقع شك الكفرة فذلك لا يراعى والريب الشك وكذا هو في كل القرآن إلا قوله: ريب المنون " انتهى " وإذا كان تنزيل خبر مبتدأ وكانت الجملة اعتراضية بين ما افتقر إلى غيره وبينه لم يقل فيه ان فيه تقديما وتأخيرا بل لو تأخر لم يكن اعتراضا وأما كونه متعلقا بلا ريب فليس بالجيد لأن نفي الريب عنه مطلقا هو المقصود كان المعنى لا مدخل للريب فيه انه تنزيل الله تعالى لأن موجب نفي الريب عنه موجود وهو الإعجاز وهو أبعد شيء من الريب.
{ أم يقولون افتراه } تقدم الكلام عليه ومن ربك في موضع الحال أي كائنا من عند ربك وبه يتعلق بلتنذر أو بمحذوف تقديره أنزله لتنذر والقوم هنا قريش والعرب وما نافية ومن نذير من زائدة ونذير فاعل أتاهم أخبر تعالى أنه لم يبعث إليهم رسولا بخصوصيتهم قبل محمد صلى الله عليه وسلم لا هم ولا آباؤهم لكنهم كانوا متعبدين بملة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وما زالوا على ذلك إلى أن غير ذلك بعض رؤسائهم وعبدوا الأصنام وعم ذلك فهم مندرجون تحت قولهم: وإن من أمة إلا خلا فيها نذير أي شريعته ودينه والنذير ليس مخصوصا بمن باشر بل يكون نذيرا لمن باشره ولغير من باشره والعرب ممن سبق لها نذير ولم يباشرهم نذير غير محمد صلى الله عليه وسلم.
{ في ستة أيام } تقدم الكلام عليه.
{ يدبر الأمر } واحد الأمور أي ينفذ الله قضاءه بجميع ما يشاؤه.
{ ثم يعرج إليه } أي يصعد خبر ذلك.
{ في يوم } من أيام الدنيا.
{ مقداره } ان سير فيه السير المعروف من البشر.
{ ألف سنة } لأن ما بين السماء والأرض خمسمائة عام والضمير في مقداره عائد على التدبير أي كان مقدار التدبير المقضي من يوم ألف سنة لو دبره البشر * وقرىء خلقه بسكون اللام وهو بدل اشتمال من قوله: كل التقدير أحسن خلق كل شىء وقرىء: بفتح اللام فعلا ماضيا فالضمير المنصوب فيه ان عاد على كل كانت الجملة صفة له في موضع نصب وإن عاد على شىء كانت الجملة في موضع جر صفة له.
{ وبدأ خلق الإنسان من طين } هو آدم عليه السلام.
{ ثم جعل نسله } أي ذريته نسل من الشيء انفصل منه.
{ ثم سواه } أي قومه وأضاف الروح إلى ذاته دلالة على أنه خلق عجيب لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وهو إضافة ملك إلى مالك وخلق إلى خالق سبحانه وتعالى.
{ وجعل لكم } التفات إذ هو خروج من مفرد غائب إلى جمع مخاطب وتعديد النعم وهي شاملة لآدم كما أن التسوية ونفخ الروح شامل له ولذريته.
و { قليلا } نعت لمصدر محذوف وما زائدة والتقدير تشكرون شكرا قليلا والظاهر أن الضمير في وقالوا للجمع وقيل القائل أبي بن خلف وأسند إلى الجمع لرضاهم به والناصب للظرف محذوف يدل عليه المعنى تقديره انبعث إذا ضللنا في الأرض وهو استفهام استبعاد واستهزاء وأصله من حفل الماء في اللبن إذ أذهب فيه.
{ أءنا } إستفهام إستبعاد واستهزاء أيضا.
{ بل هم بلقآء ربهم } إضراب عن معنى استفهامهم كأنه قال: ليسوا مستفهمين هم.
{ كافرون } جاحدون بلقاء الله والصيرورة إلى جزائه ثم أمره تعالى أن يخبرهم بجملة الحال غير مفصلة من قبض أرواحهم ثم عودهم إلى جزاء ربهم بالبعث وملك الموت عليه السلام اسمه عزرائيل ومعناه عبد الله.
{ ولو ترى } الظاهر أنه خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وقيل له ولأمته أي ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب قال الزمخشري: ويجوز أن يكون خطابا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه وجهان أن يراد به التمني كأنه قيل وليتك ترى والتمني له كما كان الترجي له في لعلهم يهتدون لأنه تجرع منهم الغصص ومن عداوتهم وضرارهم فجعل الله تمنى أن يراهم على تلك الصفة القطيعة من الحياء والخزي والغم لشمت بهم وأن تكون لو الامتناعية قد حذف جوابها وهو لرأيت أمرا فظيعا ويجوز أن يخاطب به كل أحد كما تقول فلان لئيم إن أكرمته أهانك وإن أحسنت إليه أساءك فلا تريد به مخاطبا بعينه وكأنك قلت ان أكرم وإن أحسن إليه " انتهى " * والمتمنى في هذا الموضع بلو بعيد وتسمية لو امتناعية ليس بجيد بل العبارة الصحيحة في لو أنها لما كان سيقع لوقوع غيره وهي عبارة سيبويه وقوله: قد حذف جوابها وتقديره وليتك ترى مما يدل على أنها إذا كانت للتمني لا جواب لها والصحيح أنها إذا أشربت معنى التمني يكون لها جواب كحالها إذا لم تشربه قال الشاعر:
فلو نبش المقابر عن كليب *
فتخبر بالذئاب أي زير
بيوم الشعثمين لقر عينا *
وكيف لقاء من تحت القبور *
وقال الزمخشري: وقد تجيء لو في معنى التمنى كقولك: لو تأتيني فتحدثني كما تقول ليتك تأتيني فقال ابن مالك إن أراد به الحذف أي وددت تأتيني فصحيح وإن أراد أنها موضوعة للتمني فغير صحيح لأنها لو كانت موضوعة له ما جاز أن يجمع بينها وبين فعل التمني لا يقال تمنيت ليتك تفعل ويجوز تمنيت لو تقدم ولذلك امتنع الجمع بين لعل وأترجى وبين إلا واستثنى.
{ ناكسوا رءوسهم } أي مطرقوها من الذل والحزن والهم والغم والندم.
{ عند ربهم } أي عند مجازاته وهو مكان شدة الخجل لأن المربوب إذا أساء ووقف بين يدي ربه كان في غاية الخجل.
{ ربنآ } على إضمار يقولون ربنا.
{ أبصرنا } ما كنا نكذب وسمعنا ما كنا ننكر.
{ فارجعنا } أي إلى الدنيا.
{ إنا موقنون } أي بالبعث.
{ ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها } أي اخترعنا الإيمان فيها كقوله:
أن لو يشآء الله لهدى الناس
[الرعد: 31].
[32.14-30]
{ فذوقوا } مفعوله محذوف أي العذاب والكاف في كما للتعليل لا للتشبيه وما مصدرية أي لنسيانكم والمراد بنسيانهم إهمالهم وغفلتهم وعدم الفكر في لقاء جزاء ربهم وهذه صفة ليومكم ثم قال انا نسيانكم على المقابلة أي جازيناكم جزاء نسيانكم وذوقوا العذاب المخلد في جهنم.
{ تتجافى جنوبهم } أي ترتفع وتتنحى يقال: جفا الرجل الموضع تركه وتجافى الجنب عن الموضع تركه والمضاجع تقدم الكلام عليه * ويدعون حال * وخوفا وطمعا مفعول من أجله أو مصدران في موضع الحال وما مفعولة بتعلم موصولة وقرىء: أخفي فعلا ماضيا مبنيا للمفعول ومفعوله ضمير يعود على ما قرىء وأخفي مضارع أخفى ومن قرة تبيين لما انبهم في ما وجزاء مفعول من أجله.
{ أفمن كان مؤمنا } قال ابن عباس: نزلت في علي والوليد بن عقبة تلاحيا فقال له الوليد: انا أذلق منك لسانا وأحد سنانا وأرد للكتيبة فقال له علي أسكت فإنك فاسق فنزلت وأريد هنا بالمؤمن والفاسق الجنس ولذلك جاء جمعا في قوله: لا يستوون والفاسق هنا هو الكافر ويبينه أنه فسق الكفر التقسيم بعد ذلك ثم بين عدم الاستواء بمقر كل واحد منهما وهو أن المؤمن له الجنة والفاسق له النار قال الزمخشري: ويجوز أن يراد فجنة مأواهم النار أي النار لهم مكان فجنة المأوى للمؤمنين كقوله:
فبشرهم بعذاب أليم
[آل عمران: 21] " انتهى " هذا فيه بعد وإنما يذهب إليه في مثل فبشرهم بعذاب أليم إذ كان مصرحا به فنقول قام مقام التبشير العذاب وكذلك قام مقام التحية ضرب وجيع إما أن تضمر شيئا الكلام مستغن عنه جار على أحسن وجوه الفصاحة حتى يحمل الكلام على إضمار فليس بجيد والعذاب الأدنى هو الأقرب إليهم في الدنيا من القتل والنهب والأسر والعذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار قال ابن عطية: ولا خلاف إن العذاب عذاب الآخرة " انتهى " وفي كتاب التحرير وأكثرهم على أن العذاب الأكبر عذاب يوم القيامة في النار وقيل هو القتل والسبي والأسر والعذاب وعن جعفر بن محمد أنه خروج المهدي بالسيف.
{ ومن أظلم } تقدم.
و { من المجرمين } عام في كل مجرم ومن متعلقة بمنتقمون.
{ ولقد آتينا موسى الكتاب } لما قدم الأصول الثلاثة الرسالة وبدأ الخلق والمعاد عاد إلى الأصل الذي بدأ به وهو الرسالة أي لست بدعا في الرسالة بل سبقك رسل وذكر موسى لقرب زمانه والظاهر أن الضمير في لقائه عائد على موسى مضافا إليه على طريق المفعول والفاعل محذوف ضمير الرسول أي من لقائك موسى أي في ليلة الإسراء أي شاهدته حقيقة وهو النبي الذي أوتي التوراة وقرىء: لما حرف وجوب لوجوب وجوابه متقدم عليه وهو جعلناه وقرىء: لما بكسر اللام وتخفيف الميم وهي لام العلة وما مصدرية تقديره بصبرهم.
{ أولم يهد لهم } تقدم الكلام عليه في طه إلا أن هنا من قبلهم ولقوم يسمعون وهناك قبلهم ولأولي النهي ويسمعون. النهي من الفواصل جاء كل منهما مطابقا لما قبله وما بعده من الفواصل.
{ أولم يروا أنا نسوق المآء } لما أقام تعالى الحجة على الكفرة بالأمم السالفة الذين كفروا فأهلكوا ثم أقامها عليهم بإظهار قدرته وتنبيههم على البعث وتقدم الكلام على الجرز في الكهف وكل أرض جرز داخلة في هذا فلا تخصيص لها بمكان معين قال ابن عباس: هي أرض أبين من اليمن.
{ فنخرج به } أي بالماء وحض الزرع بالذكر وان كان يخرج الله به أنواعا كثيرة من الفواكه والبقول والعشب المنتفع به في الطب وغيره تشريفا للزرع ولأنه أعظم ما يقصد من النبات أو أوقع الزرع موقع النبات وقدمت الأنعام لأن ما ينبت تأكله الأنعام أولا فأولا من قبل أن يأكل بنو آدم الحب ألا ترى أن العقيل وهو شعير يزرع تأكله الأنعام أولا قبل أن يسبل تأكله الأنعام قبل بني آدم أو لأنه غذاء الدواب والإنسان قد يتغذى بغيره من حيوان وغيره أو بدأ بالأدنى ثم ترقى إلى الأشرف وهم بنو آدم والفتح الحكم وهو الذي يترتب عليه قوله: قال يوم الفتح إلخ وقيل فتح مكة وهو غير سديد لعدم مطابقته ما بعده لأن من آمن يوم فتح مكة ينفعه إيمانه.
{ ولا هم ينظرون } أي لا يؤخرون عن العذاب ولما علم غرضهم في سؤالهم على سبيل الهزؤ قيل لهم لا تستعجلوا ولا تستهزؤا ويوم منصوب بلا ينفع وقيل انهم منتظرون العذاب وهذا حكمهم وإن كانوا لا يشعرون.
[33 - سورة الأحزاب]
[33.1-18]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * يأيها النبي اتق الله } الآية هذه السورة مدنية * وسبب نزولها روي أنه لما قدم المدينة وكان يحب إسلام اليهود فبايعه ناس منهم على النفاق وكان يلين لهم جانبه وكانوا يظهرون النصائح في طرق المخادعة ولخلقه الكريم وحرصه على ائتلافهم ربما كان يسمع منهم فنزلت تحذيرا له منهم وتنبيها على عداوتهم * ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها واضحة وهو أنه حكى أنهم يستعجلون الفتح وهو الفصل بينهم وأخبر أنه يوم الفتح لا ينفعهم إيمانهم فأمره في أول هذه السورة بتقوى الله تعالى ونهاه عن طاعة الكفار والمنافقين فيما أرادوا به.
{ إن الله كان عليما } بالصواب من الخطأ والمصلحة من المفسدة.
{ حكيما } لا يضع الأشياء إلا في مواضعها منوطة بالحكمة.
{ ما جعل الله لرجل من قلبين } روي أنه كان في بني فهر رجل منهم يقال له أبو معمر جميل بن أسد يدعي أن له قلبين ويقال له ذو القلبين وكان يقول: أنا أذكى من محمد وأفهم فلما بلغته هزيمة بدر طاش لبه وحدث أبا سفيان بن حرب بحديث كالمختل فنزلت.
{ وما جعل أزواجكم } لم يجعل تعالى الزوجة المظاهر منها اما لأن الأم محترمة مخفوض لها جناح الذل والزوجة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوك وهما حالتان متنافيتان وقرىء: اللائي واللائي واللاء واللاي وقرىء: تظاهرون بالتاء للخطاب وفي المجادلة بالياء للغيبة مضارع ظاهر وبشد الظاء والهاء وشد الظاء وألف بعدها.
{ وما جعل أدعيآءكم أبنآءكم } كانوا في الجاهلية وصدرا من الإسلام إذا تبنى الرجل ولد غيره صار يرثه وأدعياء جمع دعى ودعي بمعنى مفعول وقياسه أن يجمع على فعلى كقتيل وقتلى لكنهم شبهوه بتقى فجمعوه على افعلاء كتقي وأتقياء.
{ ذلكم } أي دعاؤهم أبناء مجرد قول لا حقيقة لمدلوله إذ لا يواطىء اللفظ الاعتقاد إذ يعلم حقيقة أنه ليس ابنه.
{ والله يقول الحق } أي ما يوافق ظاهرا أو باطنا.
{ وهو يهدي السبيل } أي سبيل الحق وهو قوله: ادعوهم لآبائهم والضمير في هو عائد على المصدر المفهوم من قوله: ادعوهم أي دعاؤهم لآبائهم أقسط عند الله أي أعدل ولما أمر بأن يدعى المتبنى لأبيه ان علم قالوا: زيد بن حارثة ومواليكم ولذلك قالوا سالم مولى أبي حذيفة فإخوانكم خبر مبتدأ محذوف تقديره هم إخوانكم.
{ فيمآ أخطأتم به } أي فيما ليس صوابا وهو تبني من ليس ابنا له وما عطف بقوله ولكن ما أخطأتم وقيل ما موصولة في موضع رفع بالابتداء والخبر محذوف تقديره فيه الجناح والتعمد هنا نسبة الولد إلى الشخص بعد النهي عن ذلك.
{ النبي أولى بالمؤمنين } كونه صلى الله عليه وسلم أولى بهم أي أرأف بهم وأعطف عليهم إذ هو يدعوهم إلى النجاة وأنفسهم تدعوهم إلى الهلاك ومنه قوله عليه السلام:
" أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش ".
{ وأزواجه أمهاتهم } أي مثل أمهاتهم في التوقير والإحترام وفي بعض الأحكام من تحريم نكاحهن وغير ذلك مما جرين فيه مجرى الأجانب وظاهر قوله وأزواجه كل من أطلق عليها أنها زوجة عليه السلام من طلقها ومن لم يطلقها ومن دخل بها ومن لم يدخل بها وقيل لا يثبت هذا الحكم لمطلقته وقيل من دخل بها تثبت حرمتها قطعا وهم عمر رضي الله عنه برجم إمرأة فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ونكحت بعده فقالت له: ولم هذا وما ضرب علي حجابا ولا سميت للمسلمين أما فكف عنها * كان أولا بالمدينة توارث باخوة الإسلام وبالهجرة، ثم حكم تعالى بأن أولي الأرحام أحق في التوارث من الأخ في الإسلام أو بالهجرة.
{ في كتاب الله } أي في اللوح المحفوظ أو في القرآن من المؤمنين والمهاجرين أي ولى من المؤمنين الذين كانوا يتوارثون بمجرد الإيمان ومن المهاجرين الذين كانوا يتوارثون بالهجرة وهذا هو الظاهر فيكون من هي كهي في زيد أفضل عمرو والظاهر عموم قوله: إلى أوليائكم فيشمل جميع أقسامه من قريب وأجنبي من المؤمنين يحسن إليه ويصله في حياته ويوصي له إذا مات وهذا الاستثناء في قوله إلا أن تفعلوا هو ما يفهم من الكلام أي وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في النفع بالميراث وغيره وعدي بإلى لأن المعنى إلى أن يوصلوا إلى أوليائكم.
{ كان ذلك } إشارة إلى ما في الآيتين.
{ مسطورا } أي مثبتا بالاسطار هذه الجملة مستأنفة كالخاتمة لما ذكر من الأحكام ولما كان ما سبق أحكام عن الله تعالى وكان فيها أشياء مما كانت في الجاهلية وأشياء في الإسلام نسخت أتبعه بقوله: وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم أي في تبليغ الشرائع والدعاء إلى الله تعالى فلست بدعا في تبليغك الرسالة عن الله تعالى وخص هؤلاء الخمسة بالذكر بعد دخولهم في جملة النبيين قيل هم أولو العزم لشرفهم وفضلهم على غيرهم وقدم محمد صلى الله عليه وسلم فيهم لكونه أفضلهم وأكثرهم تابعا وقدم نوح عليه السلام في آية الشورى في قوله:
شرع لكم من الدين
[الشورى: 13] الآية لأن إيراده على خلاف الإيراد هنا أورده على طريق وصف دين الإسلام بالأصالة فكأنه قال: شرع الدين الأصيل الذي بعث عليه نوح في العهد القديم وبعث عليه محمد خاتم الأنبياء في العهد الحديث وبعث عليه من توسط بينهما من الأنبياء المشاهير والميثاق الثاني هو الأول وكرر لأجل صفته والغلظ من صفة الأجسام واستعير للمعنى مبالغة في حرمته وعظمته وثقل تحمله.
{ ليسأل الصادقين } أي المؤمنين التابعين الرسل وفيه التفات من ضمير المتكلم إلى ضمير الغائب في ليسأل وفي واعد واللام هي لام كي.
{ عن صدقهم } أي عن إيمانهم واتباعهم الرسل.
{ يأيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم } ذكرهم نعمته عليهم في غزوة الخندق وما اتصل بها في أمر بني قريظة وقد استوفى ذلك أهل السير ونذكر منها ما له تعلق بالآيات التي نفسرها وإذ معمولة لنعمة أي انعامه عليكم وقت مجيء الجنود والجنود كانوا عشرة آلاف قريش ومن تابعهم من الأحابيش في أربعة آلاف يقودهم أبو سفيان وبنو أسد يقودهم طليحة وغطفان يقودهم عيينة وبنو عامر يقودهم عامر بن الطفيل وسليم يقودهم أبو الأعور واليهود النضير يقودهم رؤساؤهم حي بن أخطب وابنا أبي الحقيق وبنو قريظة سيدهم كعب بن أسد وكان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فنبذه بسعي حي لبني أخطب قيل فاجتمعوا خمسة عشر ألفا وهم الأحزاب ونزلوا المدينة فحفر الخندق بإشارة سلمان وهو من عمل الفرس وظهرت للرسول صلى الله عليه وسلم به تلك المعجزة العظيمة من كسر الصخرة التي أعوزت الصحابة ثلاث فرق ظهرت مع كل فرقة برقة أراه الله تعالى منها مدائن كسرى وما حولها ومدائن قيصر وما حولها ومدائن الحبشة وما حولها وبشر بفتح ذلك وأقام الذراري والنساء بالآطام وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون في ثلاث آلاف فنزلوا بظهر سلع والخندق بينهم وبين المشركين وكان ذلك في شوال سنة خمس قاله ابن إسحق: وقال مالك سنة أربع قيل وبعث الله تعالى الصبا لنصرة نبيه صلى الله عليه وسلم فأضرت بهم هدمت عليهم بيوتهم وأطفأت نيرانهم وقطعت حبالهم وأكفأت قدورهم ولم يمكنهم معها قرار وبعث الله تعالى مع الصبا ملائكة تشدد الريح وتفعل نحو فعلهما.
{ من فوقكم } من أعلى الوادي من قبل المشرق غطفان.
{ ومن أسفل منكم } من أسفل الوادي من قبل المغرب وتخربوا وقالوا نكون جملة حتى نستأصل محمدا فنصره الله عليهم * وزيغ الأبصار ميلها عن مستوى نظرها فعل الواله الجزع.
{ وبلغت القلوب الحناجر } قيل إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع والغضب أو الغم الشديد ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة ومن ثم قيل للجبان انتفخ سحره * والظنون جمع لما اختلفت متعلقاته جمع وإن كان لا ينقاس عند سيبويه جمع المصدر إذا اختلفت متعلقاته وينقاس عند غيره وقد جاء الظنون جمعا في أشعارهم أنشد أبو عمرو في كتاب الألحان إذا الجوزاء أردفت الثريا * ظننت بآل فاطمة الظنونا، وهنالك ظرف مكان للعبيد هذا أصله فيحمل عليه إذ في ذلك الذي وقع فيه الحصار والقتال ابتلى المؤمنون والعامل فيه ابتلى وقيل زلزلوا فثبتوا وصبروا حتى نصروا وحركوا إلى الفتنة فعصموا.
{ وإذ يقول المنافقون } وهم المظهرون الإيمان المبطنون الكفر * والذين في قلوبهم مرض هم ضعفاء الإيمان الذين لم يتمكن الإيمان في قلوبهم فهم على حرف والعطف دال على التغاير نبه عليهم على جهة الذم لما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم الصخرة وبرقت تلك البوارق وبشر بفتح فارس والروم واليمن والحبشة قال معتب بن قشير يعدنا محمد أن يفتتح كنوز كسرى وقيصر ومكة ونحن الآن لا يقدر أحدنا أن يذهب إلى الغائط ما يعدنا إلا غرورا أي أمرا يغمرنا به ويوقعنا فيه بشىء لا طاقة لنا به وقولهم ما وعدنا الله ورسوله هو على سبيل الهزء إذ لو اعتقدوا أنه رسوله حقيقة ما قالوا هذه المقالة فالمعنى ورسوله على زعمكم وزعمهم وفي معتب ونظرائه نزلت هذه الآية.
{ وإذ قالت طآئفة منهم } أي من المنافقين.
{ لا مقام لكم } أي في حومة القتال والممانعة.
{ فارجعوا } إلى بيوتكم ومنازلكم أمروهم بالهروب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل فارجعوا كفارا إلى دينكم الأول وأسلموه إلى أعدائه.
{ ويستأذن فريق منهم النبي } هو أوس بن قبظي استأذن في الدخول إلى المدينة عن إتفاق من عشيرته.
{ يقولون } حال أي قائلين.
{ إن بيوتنا عورة } أي منكشفة للعدو وقيل خالية السراق أعور المنزل انكشف وقال ابن عباس الفريق بنو حارثة وهم كانوا عاهدوا الله أن لا يولوا الأدبار اعتذروا بأن بيوتهم عورة معرضة للعدو ممكنة للسراق لأنها غير محرزة ولا محصنة فاستأذنوه ليحصنوها ويرجعوا إليه فأكذبهم الله تعالى بأنهم لا يخافون ذلك وإنما يريدن الفراز وقرىء لا مقام بضم الميم أي لا موضع إقامة وبفتح الميم أي موضع قيام وثبوت والضمير في دخلت الظاهر عودة على البيوت لأنها أقرب مذكور رأى ولو دخلها الأحزاب الذين يفرون خوفا منهم والثالث على أهاليهم وأولادهم.
{ ثم سئلوا الفتنة } أي الردة والرجوع إلى إظهار الكفر ومقاتلة المسلمين لآتوها أي لجأوا إليها وقرىء لأتوها بالقصر معناه لجاؤوها وبالمد لأعطوها.
{ وما تلبثوا بهآ إلا يسيرا } قدر ما يكون السؤال والجواد من غير توقف * وعاهدوا أجرى مجرى اليمين ولذلك يتلقى بقوله لا يولون الادبار وجواب هذا القسم على الغيبة عنهم على المعنى ولو جاء كما لفظوا به لكان التركيب لا نولي الأدبار والذين عاهدوا هم بنو حارثة وبنو سلمة وهما الطائفتان اللتان هما بالفشل يوم أحد ثم تابوا وعاهدوا أن لا يفروا فوقع يوم الخندق من بين حارثة ذلك الاستئذان.
{ قل لن ينفعكم الفرار } خطاب توبيخ وإعلام أن الفرار لا ينجي من القدر وأنه تنقطع أعمارهم في يسير من المدة وجواب الشرط محذوف لدلالة ما قبله عليه أي إن فررتم من الموت أو القتل. لا ينفعكم الفرار لأن مجيء الأجل لا بد منه وإذا هنا يليها حرف عطف فلا يتحتم أعمالها بل الفصيح أن لا تنصب ومن ذا استفهام ركبت ذا مع من وفيه معنى النفي أي لا أحد يعصمكم من الله.
{ والقآئلين لإخوانهم } كانوا أي المنافقون يثبطون إخوانهم من ساكني المدينة عن نصر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون ما محمد وأصحابه إلا أكلة رأس ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه فخلوهم وقال أبو زيد انصرف رجل من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب فوجد شقيقه عنده شواء ونبيذ فقال له أنت ها هنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرماح والسيوف فصاح هلم فقد أحيط بك وبصاحبك والذي يحلف به لا يستقبلها محمد أبدا فقال كذبت والذي يحلف به ولأخبرته بأمرك فذهب ليخبره فوجد جبريل عليه السلام قد نزل بهذه الآية وهلم تقدم الكلام عليه في الأنعام قال الزمخشري: وهلموا إلينا أي قربوا أنفسكم إلينا قال: وهو صوت سمي به فعل متعد مثل أحضر وقرب انتهى * الذي عليه النحويون في هلم ان هلم ليس صوتا وإنما هو مركب من ها التي للتنبيه والميم وهو مذهب البصريين وقيل من هل وأم والكلام في ترجيح المختار منهما مذكور في النحو وأما قوله: سمي به فعل متعد ولذلك قدر هلم إلينا أي قربوا أنفسكم إلينا فالنحويون يقولون انه متعد ولازم فالمتعدي كقوله: قل هلم شهداءكم أي أحضروا شهداءاكم واللازم كقوله: هلم إلينا أي اقبلوا إلينا.
[33.19-33]
{ أشحة } جمع شحيح وهو البخيل وهو جمع لا ينقاس وقياسه في الصفة المضعفة العين واللام أفعلاء نحو خليل وأخلاء فالقياس أشحاء وهو مسموع أيضا والصواب أن يعم شحهم بكل ما فيه منفعة للمؤمنين فإذا جاء الخوف من العدو وتوقع أن يستأصل أهل المدينة لاذ هؤلاء المنافقون بك * ينظرون نظر الهلوع المختلط النظر الذي يغشى عليه من الموت * وتدور في موضع الحال أي دائرة أعينهم.
{ كالذي } في موضع الصفة لمصدر محذوف وهو مصدر مشبه أي دورانا كدوران عين الذي يغشى عليه فبعد الكاف محذوفان وهما دوران وعين.
{ سلقوكم } أي بسطوا ألسنتهم فيكم.
{ أشحة على الخير } إشارة إلى ما حصل للمؤمنين من الظفر والغنيمة.
{ أولئك لم يؤمنوا } إشارة إلى المنافقين أي لم يكن لهم قط إيمان والإحباط عدم قبول إيمانهم فكأنها محيطة قال الزمخشري: فإن قلت هل ثبت للمنافق عمل حتى يرد عليه الإحباط قلت لا ولكنه تعليم لمن عسى يظن أن الإيمان إلخ " انتهى " وفي كلامه عسى صلة لمن وهو لا يجوز.
{ يحسبون الأحزاب لم يذهبوا } جملة في موضع المفعول الثاني ليحسبون أي هم من الجزع بحيث هزم الله الأحزاب فرحلوا وهم يحسبون أنهم لم يرحلوا.
{ وإن يأت الأحزاب } كرة ثانية تمنوا لخوفهم بما منوا به هذه الكرة أنهم مقيمون في البدو مع الأعراب وهم أهل العمود يرحلون من قطر إلى قطر.
{ يسألون } من قدم من المدينة عما جرى عليكم من قتال الأحزاب يتعرفون أحوالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة فرقا وجبنا وغرضهم من البداوة أن يكونوا سالمين من القتال ولو كانوا فيكم ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال لم يقاتلوا إلا قليلا لعله رياء وسمعة.
{ لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة } الظاهر من قوله لكم عموم الخطاب للمؤمن ولمن يظهر الإيمان والأسوة القدوة وقرىء بضم الهمزة وكسرها ولمن بدل من قوله لكم بدل بعض من كل فكما نصركم ووازركم حتى قاتل بنفسه عدوكم يجب عليكم أن تنصروه وتوازروه ولا ترغبوا بأنفسكم عن نفسه ولا عن مكان هو فيه قال الزمخشري: لمن كان يرجو بدل من لكم كقوله: للذين استضعفوا لمن آمن " انتهى " ولا يجوز على مذهب جمهور البصريين أن يبدل من ضمير المتكلم ولا من ضمير المخاطب إسم ظاهر في بدل الشىء من الشىء وهما لعين واحدة وأجاز ذلك الكوفيون والأخفش ويدل عليه قول الشاعر
بكم قريش كفينا كل معضلة
وأم نهج الهدى من كان ضليلا
ولما بين تعالى حال المنافقين وقولهم:
ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا
[الأحزاب: 12] بين حال المؤمنين وقولهم: صفة ما قال المنافقون وعن ابن عباس، قال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه
" ان الأحزاب سائرون إليكم تسعا أو عشرا أي في آخر تسع ليال أو عشر فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك ".
{ قضى نحبه } قال ابن عباس: نحبه موته ومشهور اللغة أن قولهم قضى نحبه كناية عن الموت كما قال ابن عباس وقال الشاعر:
فوجدي بسلمى مثل وجد مرقش
باسما إذ لا يستفيق عواذله
قضى نحبه وجدا عليها مرقش
وعلقت من سلمى خيالا أماطله
{ ورد الله الذين كفروا } أي الأحزاب عن المدينة والمؤمنين إلى بلادهم.
{ بغيظهم } أي مغيظين فهو حال والباء للمصاحبة ولم ينالوا حال ثانية أو من الضمير في بغيظهم فيكون حالا متداخلة.
{ وكفى الله المؤمنين القتال } بإرسال الريح والجنود وهم الملائكة فلم يكن قتال بين المؤمنين والكفار وكفى هنا بمعنى وفي تتعدى لاثنين وإذا كانت بمعنى حسب فالأكثر في لسان العرب أن يكون الفاعل مصحوبا بالباء الزائدة نحو كفى بالله والقليل حذف هذه الباء كما قال عميرة:
ودع إن تجهزت غاديا
كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا
{ وأنزل الذين ظاهروهم } أي أعانوا قريشا ومن معهم من الأحزاب.
{ من أهل الكتاب } هم يهود بني قريظة وقيل وبنو النضير ومن أهل الكتاب بيان لقوله: الذين ظاهروهم * ومن صياصهم متعلق بقوله: وأنزل من صياصهم أي من حصونهم واحدها صيصة وهي كل ما يمتنع به والصياصي أيضا شوك الحاكة ويتخذ من حديد وقذف الرعب سبب لإنزالهم ولكنه قدم المسبب لما كان المرور بإنزالهم أكثر والاخبار به أهم قدم وقال رجل:
" يا رسول الله مر بنا دحية الكلبي على بغلة بيضاء عليها قطيفة ديباج فقال: ذلك جبريل عليه السلام بعث إلى بني قريظة يزلزل بهم حصونهم ويقذف الرعب في قلوبهم ولما رجعت الأحزاب جاء جبريل عليه السلام وقت الظهر فقال إن الله يأمركم بالخروج إلى بني قريظة فنادى في الناس لا يصلين أحد الظهر إلا في بني قريظة فخرجوا إليها فمصل في الطريق وراء ان ذلك خرج مخرج التأكيد والاستعجال ومصل بعد العشاء وكل مصيب فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة فنزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوس رضي الله عنه لحلف كان بينهم رجوا بذلك حنوه عليهم فحكم أن تقتل المقاتلة وتسبى الذرية والعيال والأموال وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار فقالت له الأنصار في ذلك فقال أردت أن تكون لهم أموال كما لكم أموال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة وقدمهم فضرب أعناقهم وهم بين ثمانمائة إلى سبعمائة وقيل كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير وجيء بحي بن أخطب النضيري وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عندهم وفاء لهم فنزل فيمن نزل على حكم سعد فلما قرب وعليه حلتان تفاحيتان مجموعة يداه إلى عنقه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: يا محمد والله ما لمت نفسي في عداوتك ولكن من يخذل الله يخذل ثم قال: أيها الناس انه لا بأس أمر الله وقدره وحكمته كتبت على بني إسرائيل ثم قدم فضربت عنقه ".
{ يأيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا } سبب نزولها أن أزواجه صلى الله عليه وسلم تغايرن وأردن زيادة في كسوة ونفقة فنزلت ولما نصر الله نبيه عليه الصلاة والسلام وصرف عنه الأحزاب وفتح عليه قريظة والنضير ظن أزواجه أنه اختص بنفائس اليهود وذخائرهم فقعدن حوله وقلن يا رسول الله بنات كسرى وقيصر في الحلي والحلل والإماء والخول ونحن على ما تراه من الفاقة والضيق وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال وأن يعاملهن بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم فأمره الله تعالى أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهن وأزواجه إذ ذاك تسعة عائشة بنت أبي بكر وحفصة بنت عمر وأم حبيبة بنت أبي سفيان وسودة بنت زمعة وأم سلمة بنت أبي أمية وهؤلاء من قريش ومن غير قريش ميمونة بنت الحارث الهلالية وزينب بنت جحش الأسدية وجويرية بنت الحارث المصطلقية وصفية بنت حي بن أخطب الخيبرية فقال أبو القاسم الصيرفي: لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ملك الدنيا ونعيم الآخرة واختار الآخرة وأمر بتخيير نسائه ليظهر صدق موافقتهن وكان تحته عشر نساء زاد الحميرية فاخترن الله ورسوله إلا الحميرية وروي
" أنه قال لعائشة وبدأ بها كانت أحبهن إليه إني ذاكرا لك أمرا ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك ثم قرأ عليها القرآن فقالت رضي الله عنها أو في هذا استأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة تخبر أزواجك أني اخترتك فقال إنما بعثني الله مبلغا ولم يبعثني متعنتا والظاهر أنهن لو اخترن الحياة الدنيا وزينتها متعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم وطلقهن وأنه ليس باختيارهن ذلك يقع الفراق دون أن يوقعه هو صلى الله عليه وسلم ثم نادى نساء النبي ليجعلن بالهن مما يخاطبن به إذا كان أمرا يجعل البال له ".
{ بفاحشة مبينة } كبيرة من المعاصي ولا يتوهم أنها الزنا لعصمة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولأنه تعالى وصفها بالتبيين والزنا مما يتستر به وينبغي أن تحمل الفاحشة على عقوق الزوج وفساد عشرته ولما كان مكانهن مهبط الوحي من الأوامر والنواهي لزمهن بسبب ذلك وكونهن تحت الرسول عليه السلام أكثر مما يلزم غيرهن فضوعف لهن الأجر والعذاب وقرىء نضعف مبنيا للفاعل العذاب نصب ونضعف مبنيا للمفعول العذاب رفع ومعنى ضعفين أي مرتين.
{ ومن يقنت } أي يطع ويخضع بالعبودية لله تعالى وبالموافقة لرسوله صلى الله عليه وسلم وقرىء: يقنت بياء المذكر ويعمل حملا على لفظ من.
{ لستن كأحد من النسآء } أي ليس كل واحدة منكن كشخص واحد من النساء أي من نساء عصركن فكما أنه عليه السلام ليس كأحد من الرجال كما قال عليه الصلاة والسلام لست كأحدكم كذلك زوجاته اللاتي تشرفن بقربه قال الزمخشري: أحد في الأصل بمعنى واحد وهو الواحد ثم وضع في النفي العام مستويا فيه المذكر والمؤنس والواحد ما وراءه والمعنى لستن كجماعة واحدة من جماعات النساء أي إذا تقصيت أمة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن في الفضل والسابقة ومنه قوله تعالى:
والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم
[النساء: 152] يريد بين جماعة واحدة منهم تسوية بين جميعهم بأنهم على الحق المبين " انتهى " أما قوله: أحد في الأصل بمعنى وحد وهو الواحد فصحيح وأما قوله ثم وضع إلى قوله وما وراءه فليس بصحيح لأن الذي يستعمل في النفي العام مدلوله غير مدلول واحد لأن واحدا ينطلق على كل شىء اتصف بالوحدة وأحد المستعمل في النفي العام مخصوص بمن يعقل وذكر النحويون ان مادته همزة وحاء ودال ومادة أحد بمعنى واحد أصله واو وحاء ودال فقد اختلفا مادة ومدلولا.
{ إن اتقيتن } الظاهر أنه محمول على أن معناه إن استقبلتن أحدا فلا تخضعن واتقى بمعنى استقبل معروف في اللغة قال النابغة الجعدي:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
أي استقبلتنا باليد ويكون هذا المعنى أبلغ في مدحهن إذ لم يعلق فضيلتهن على التقوى ولا على نهيهن عن الخضوع إذ هن متقيات لله تعالى في أنفسهن والتعليق ظاهره يقتضي أنهن لسن متحليات بالتقوى.
{ وقلن قولا معروفا } وهو الذي لا تنكره الشريعة ولا العقول.
{ وقرن في بيوتكن } قرىء: وقرن بكسر القاف يقول: وقريقر إذا سكن فهو أمر مثل قولك عدن من وعد وقرن بفتح القاف وتقدم لنا أنه يقال: قررت في المكان على وزن فعلت فيكون مضارعه يقررن والأمر أصله أقررن نقلت حركة الراء إلى القاف وانحذفت همزة الوصل ثم حذفت لام الكلمة وهي الراء كما حذفت في ظللت فقيل قرن كما قيل ظلن أمرهن تعالى بملازمة بيوتهن فنهاهن عن التبرج وأعلم تعالى أنه فعل الجاهلية الأولى قال الليث: تبرجت أبدت محاسنها من وجهها وجسدها ويرى مع ذلك من عينها حسن نظر.
{ يريد الله ليذهب } تقدم نظيره في قوله: يريد الله ليبين لكم في النساء والرجس الإثم واستعار الرجس للذنوب والطهر للتقوى لأن عرض المقترف للمعاصي يتدنس بها وأما الطاعات فالعرض منها نقي مصون كالثوب الطاهر وانتصب أهل على النداء أو على المدح أو على الاختصاص وهو قليل في المخاطب ومنه بك الله نرجو الفضل وأكثر ما يكون في المتكلم نحو قوله:
نحن بنات طارق
نمشي على النمارق
ولما كان أهل البيت يشمله وإياهن غلب المذكر على المؤنث في الخطاب في عنكم ويطهركم.
[33.34-54]
{ واذكرن } أما بمعنى احفظن وتذكرن وإما اذكرنه لغيركن واروينه حتى ينقل.
{ من آيات الله } هو القرآن.
{ والحكمة } هي ما كان من حديثه وسنته عليه السلام وفي قوله: لطيفا تليين وفي خبيرا تحذير ما وروي أن نساءه عليه السلام قلن يا رسول الله ذكر الله الرجال في القرآن ولم يذكرنا وقيل السائلة أم سلمة وقيل لما نزل في نسائه ما نزل في نسائه ما نزل قالت نساء المسلمين فما نزل فينا شىء فنزلت إن المسلمين الآية وهذه الأوصاف العشرة تقدم شرحها بدأ أولا بالانقياد الظاهر ثم بالتصديق ثم الأوصاف التي بعدها تندرج في الإسلام وهو الإنقياد وفي الإيمان وهو التصديق ثم ختمها بخلة المراقبة وهي ذكر الله كثيرا ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقا إلا في قوله: والحافظين فروجهم والذاكرين الله نص على متعلق الحفظ لكونه مزلة العقلاء ومركب الشهوة الغالبة على متعلق الذكر بالاسم الأعظم وهو لفظ الله إذ هو العلم المحتوي على جميع أوصافه ليذكر المسلم من يذكره وهو الله تعالى وحذف من الحافظات والذاكرات المفعول لدلالة ما تقدم والتقدير والحافظاتها والذاكراته.
{ أعد الله لهم } غلب الذكور فجمع الإناث معهم وأدرجهم في الضمير ولم يأت التركيب لهم ولهن.
{ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة } الآية قال الجمهور خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد زينب بنت جحش فأبت وقالت: لست بناكحته فقال: بلى فانكحيه فقد رضيته لك فأبت فنزلت وذكر أنها وأخاها عبد الله كرها ذلك فلما نزلت الآية رضيا بذلك* ومناسبة هذه الآية لما قبلها لما ذكر تلك الأوصاف السابقة من الإسلام فما بعده عقب ذلك بما صدر من بعض المسلمين إذ أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمر ووقع منهم الاباء له فأنكر عليهم وقال الزمخشري: كان من حق الضمير أن يوحد كما تقول ما جاءني من رجل ولا إمرأة إلا كان من شأنه كذا " انتهى " ليس كما ذكر لأن هذا عطف بالواو ولا يجوز إفراد الضمير إلا على تأويل الحذف أي ما جاءني من رجل إلا كان من شأنه كذا وتقول ما زيد وعمرو إلا ضربا خالدا ولا يجوز إلا ضرب إلا على الحذف كما قلنا * والخيرة مصدر من تخير على غير قياس كالطيرة من تطير.
{ وإذ تقول } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ للذي أنعم الله عليه } بالإسلام وهو أجل النعم وهو زيد بن حارثة الذي كان عليه السلام تبناه.
{ وأنعمت عليه } وهو عتقه وقال علي بن الحسين كان قد أوحى الله تعالى إلى رسوله أن زيدا سيطلقها وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها فما شكا زيد خلقها وأنها لا تطيعه وأعلمه بأنه يريد طلاقها قال له أمسك عليك زوجك واتق الله على طريق الأدب والوصية وهو يعلم أنه سيطلقها وهذا هو الذي أخفى في نفسه ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم من أنه سيطلقها وخشي صلى الله عليه وسلم أن يلحقه قول من الناس في أن يتزوج زينب بعد زيد وهو مولاه وقد أمره بطلاقها فعاتبه الله تعالى على هذا العذر في شىء قد أباحه الله له بأن قال: أمسك مع علمه أنه يطلق وأعلمه بأن الله أحق بالخشية في كل حال وهذا المروي عن علي بن الحسين هو الذي عليه أهل التحقيق من المفسرين كالزهري وبكر بن العلاء والقشيري والقاضي أبي بكر بن العربي وغيرهم وفي قوله: أمسك عليك تعدى الفعل الرافع لضمير المخاطب إلى ضمير الجر بوساطة علي ونظيره قول الشاعر
هون عليك فإن الأمور
بكف الإله مقاديرها
وفي قوله: زوجناكها تعدى فعل زوج إلى مفعولين وقد جاء الثاني بحرف الجر في قوله تعالى:
وزوجناهم بحور عين
[الدخان: 54، الطور: 20] ولما نفى الحرج عن المؤمنين فيما ذكر واندرج الرسول عليه السلام فيهم إذ هو سيد المؤمنين نفى عنه الحرج بخضوعه وذلك على سبيل التكريم والتشريف ونفى عنه الحرج مرتين إحداهما بالاندراج في العموم والأخرى بالخصوص.
{ فيما فرض الله له } أي من الزيادة على الأربع وكانت اليهود عابوه بكثرة النكاح وكثرة الأزواج فرد الله عليهم بقوله: سنة الله أي في الأنبياء بكثرة النساء حتى كان لسليمان عليه السلام ثلاثمائة حرة وسبعمائة سرية وكان لداود عليه السلام مائة إمراة وثلاثمائة سرية وانتصب سنة على أنه اسم موضوع موضع المصدر * قال ابن عطية وانتصب سنة الله على الإغراء كأنه قال فعليه سنة الله " انتهى " قوله على الإغراء ليس بجيد لأن عامل الإسم في الإغراء لا يجوز حذفه وأيضا فتقديره فعليه سنة الله بضمير الغائب لا يجوز ذلك في الإغراء لأنه لا يغري غائب وما جاء من قولهم عليه رجلا ليسنى له تأويل ومع ذلك فهو نادر.
{ في الذين خلوا } الأنبياء بدليل وصفهم بعد قوله: الذين يبلغون رسالات الله وهي جملة اعتراض بين الصفة والموصوف والذين مجرور صفة للذين خلوا ثم نفى تعالى كون رسوله أبا أحد من الرجال فلا يثبت بينه وبين من تبناه من حرمة المصاهرة والنكاح ما يثبت بين الأب وولده * وقرأ الجمهور ولكن رسول بتخفيف لكن ونصب رسول على إضمار كان لدلالة كان المتقدمة عليه قبل أو على العطف على أبا أحد * وقرأ عبد الوارث عن أبي عمرو بالتشديد والنصب على أنه إسم لكن والخبر محذوف تقديره ولكن رسول الله وخاتم النبيين هو أي محمد صلى الله عليه وسلم وحذف خبر لكن وأخواتها جائز إذا دل عليه الدليل فمما جاء في لكن قول الشاعر
فلو كنت ضبيا عرفت قرابتي
ولكن زنجيا عظيم المشافر
أي لا أنت تعرف قرابتي.
{ هو الذي يصلي عليكم وملائكته } معطوف على الضمير المرفوع المستكن في يصلي وأغنى الفصل بالجار والمجرور عن التأكيد وصلاة الله غير صلاة الملائكة فكيف اشتركا في العطف وهما يتخلفان وإنما كان ذلك لأنهما قد اشتركا في قدر مشترك وهو إرادة وصول الخير إليهم فالله تعالى يريد برحمته إياهم إيصال الخير إليهم وملائكته يريدون بالاستغفار.
{ ولا تطع الكافرين } نهى له عليه السلام عن السماع منهم في أشياء كانوا يطلبونها مما لا يجب وفي أشياء ينتصحون بها وهي غش.
{ ودع أذاهم } الظاهر إضافته إلى المفعول لما نهى عن طاعتهم أمر بتركه إذايتهم وعقوبتهم ونسخ منه ما يخص الكافرين بآية السيف.
{ وتوكل على الله } فإنه ينصرك ويخذلهم ويجوز أن يكون مضافا للفاعل أي ودع إذايتهم إياك أي مجازاة الإذاية من عقاب وغيره حتى تؤمر وهذا تأويل مجاهد.
{ يأيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات } معنى نكحتم عقدتم عليهن وسمي العقد نكاحا لأنه سبب إليه كما سميت الخمر إنما لأنها سبب له ولفظ النكاح في كتاب الله لم يرد إلا في العقد وهو من آداب القرآن * وقال ابن عطية روي أبي برزة عن ابن كثير بتخفيف الدال من العدوان كأنه قال: فما لكم عدة تلزمونها عدوانا وظلما لهن والقراءة الأولى أشهر عن ابن كثير وتخفيف الدال وهم من أبي بزرة " انتهى " * ليس بوهم إذ قد نقلها عن ابن كثير ابن خالويه وأبو الفضل الرازق في كتاب اللوامح في شذاذ القراآت والظاهر في:
{ فمتعوهن } أنه للوجوب وقيل للندب وتقدم الكلام عليه في البقرة.
والسراج الجميل هو كلمة طيبة دون أذى ولا منع واجب وقيل أن لا يطالبها بما آتاها ولما بين تعالى بعض أحكام أنكحة المؤمنين أتبعه بذكر طرف من نساء النبي صلى الله عليه وسلم والأجور المهور لأنه أجر على الاستمتاع بالبضع وغيره مما يجوز به الاستمتاع وفي وصفهن باللاتي آتيت أجورهن تنبيه على أن الله تعالى اختار لنبيه صلى الله عليه وسلم الأفضل والأولى لأن إيتاء المهر أولى من تأخيره لنقضي الزوج عن عهدة الدين وشغل ذمته به ولأن تأخيره يقتضي أن يستمتع بها مجانا دون عوض تستلمه والتعجيل كان سنة السلف لا يعرف منهم غيره ألا ترى إلى قوله عليه السلام لبعض الصحابة حين شكا حالة التزوج فأين درعك الحطيمة ولذلك تخصص ما ملكت يمينه بقوله مما أفاء الله عليك لأنها إذا كانت مسبية مالكها مما غنموا لله تعالى من أهل دار الحرب كانت أحل وأطيب مما يشتري من الجلب فيما سبى من دار الحرب قيل فيه سبى طيبة وممن له عهد قيل فيه سبي خبيثة وفيء الله لا يطلق إلا على الطيب دون الخبيث والظاهر أن قوله انا أحللنا لك أزواجك بمن كانت في عصمته كعائشة وحفصة ومن تزوجها بمهر.
و { اللاتي هاجرن معك } صفة للبنات.
{ وبنات عمك } قالت أم هانىء بنت أبي طالب خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ثم نزلت هذه الآية فحرمتني عليه لأني لم أهاجر معه وإنما كنت من الطلقاء والتخصيص باللاتي هاجرن معك لأن من هاجرن معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات.
{ وامرأة مؤمنة } قال ابن عباس: هي ميمونة بنت الحارث وقيل غير ذلك وتقدم الخطاب له عليه السلام وانتقل منه للإسم الغالب وهو للنبي.
{ إن أراد النبي } والضمير الغائب في أن يستنكحها ثم إلى ضمير الخطاب في قوله: خالصة لك * قال الزمخشري والفاعل والفاعلة في باب المصادر غير عزيزين كالخارج والقاعد والعاقبة والكاذبة " انتهى " ليس كما ذكر بل هما عزيزان وتمثيله كالخارج يسير إلى قول الفرزدق * ولا خارجا من في زور كلام * والقاعد إلى أحد التأويلين في قولهم أقاعد وقد سار الركب والكاذبة إلى قوله تعالى:
ليس لوقعتها كاذبة
[الواقعة: 2] وقد تتأول هذه على أنها ليست مصادر والظاهر أن قوله: خالصة لك من صفة الواهبة لك نفسها أي هبة النساء أنفسهن مختص بك لا يجوز أن تهب المرأة نفسها لغيرك وأجمعوا على أن ذلك غير جائز لغيره عليه السلام.
{ ترجي من تشآء } تقدم الكلام عليه في براءة والظاهر أن الضمير في منهن عائد على أزواجه عليه السلام والإرجاء قال ابن عباس في طلاق من تشاء ممن حصل في عصمتك وإمساك من تشاء ومن ابتغيت أي من طلبتها من المؤخرات وهن المعزولات فلا جناح عليك في ردها وإيوائها إليك.
{ ذلك أدنى } أي التفويض إلى مشيئتك أي قرة عيونهن ووجود رضاهن إذ علمن أن ذلك التفويض هو من عند الله تعالى فحالة كل منهن كحالة الأخرى في ذلك وكلهن تأكيد لنون يرضين واتفقت الروايات على أنه عليه السلام كان يعدل بينهن في القسمة حتى مات ولم يستعمل شيئا مما أبيح له ضبطا لنفسه وأخذا بالفضل غير ما جرى لسودة.
{ لا يحل لك النسآء من بعد } الآية الظاهر أنها محكمة. ومن بعد المحذوف منه مختلف فيه * قال ابن عباس: من بعد التسع لأن التسع نصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأزواج كما أن الأربع نصاب أمته منهن قيل لما خيرن فاخترن الله ورسوله جازاهن الله ان حظر عليه النساء غيرهن وتبديلهن ونسخ بذلك ما أباحه قبل له من التوسعة في جميع النساء.
{ يأيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي } الآية في الصحيحين عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا فلما رأوا ذلك قام وقام من القوم من قام وقعد ثلاثة فجاء فدخل فإذا القوم جلوس فرجع وانهم قاموا وانطلقوا وجئت فأخبرته أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل وذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه وأنزل الله عليه هذه الآية * وقرىء: غير بالنصب على الحال والعامل فيه محذوف تقديره ادخلوا بالاذن غير ناظرين وقرىء بالكسر صفة لطعام ثم أمر بالانتشار إذا طعموا * قال الزمخشري:
{ إلا أن يؤذن } في معنى الظرف تقديره وقت أن يؤذن لكم وغير ناظرين حال من لا تدخلوا وقع الاستثناء على الوقت والحال معا كأنه قيل لا تدخلوا بيوت النبي إلا وقت الاذن ولا تدخلوها إلا غير ناظرين اناه " انتهى " اما أن يؤذن لكم في معنى الظرف وتقديره وقت أن يؤذن لكم وأنه أوقع الاستثناء على الوقت فليس بصحيح وقد نصوا على أن المصدرية لا تكون في معنى الظرف تقول أجيئك صياح الديك وقدوم الحاج ولا يجوز أجيئك أن يصيح الديك ولا أن يقدم الحاج وأما أن الاستثناء وقع على الوقت والحال معا فلا يجوز على مذهب الجمهور ولا يقع بعد إلا في الاستثناء إلا المستثنى منه أو صفة المستثنى منه وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال أجاز ما مذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا فيجوز ما قاله الزمخشري في الحال وأما قوله: إلا أن يؤذن فلا يتعين أن يكون ظرفا لأنه يكون التقدير إلا بأن يؤذن لكم فيكون الباء للسبب كقوله:
فأخرجنا به من كل الثمرات
[الأعراف: 57] أو للحال أي مصحوبين بالإذن.
{ ولا مستأنسين } معطوف على غير فهو منصوب أي لا تدخلوها لا ناظرين ولا مستأنسين.
{ ذلكم } إشارة إلى السؤال من وراء الحجاب.
{ أطهر } يريد من الخواطر التي تخطر للرجال في أمر النساء والنساء في أمر الرجال إذ الرؤية سبب التعلق والفتنة ألا ترى قول الشاعر
والمرء ما دام ذاعين يقلبها
في أعين العين موقوف على الخطر
يسر مقلته ما ساء مهجته
لا مرحبا بانتفاع جاء بالضرر
{ إن تبدوا شيئا أو تخفوه } وعيد لمن تقدم التعريض به في الآية ممن أشير إليه بقوله: ذلك أطهر ومن أشير إليه.
{ وما كان لكم أن تؤذوا } فقيل ان تبدوا شيئا على ألسنتكم أو تخفوه في صدوركم مما يقع عليه العقاب فالله يعلمه فيجازي عليه روي أنه لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب: أو نحن يا رسول الله أيضا نكلمهن من وراء حجاب فنزل لا جناح عليهن أي لا إثم عليهن والظاهر من قوله أو ما ملكت أيمانهن دخول العبيد والإماء دون ما ملك غيرهن وقيل مخصوص بالإماء وقيل جميع العبيد ممن في ملكهن أو في ملك غيرهن وقال النخعي: يباح لعبدها النظر إلى ما لا يواريه الدرع من ظاهر بدنها.
[33.55-73]
{ واتقين الله } أمر بالتقوى وخروج من الغيبة إلى الخطاب أي واتقين الله فيما أمرتن به من الاحتجاب وأنزل فيه الوحي من الاستتار كان في الكلام جملة حذفت تقديره اقتصرن على هذا واتقين الله فيه أن تتعدينه إلى غيره ثم توعد بقوله:
{ إن الله كان على كل شيء } أي من السر والعلن وظاهر الحجاب وباطنه وغير ذلك.
{ شهيدا } لا تتفاوت الأحوال في علمه.
{ إن الله وملائكته } روي أنه لما نزلت هذه الآية
" قال قوم من الصحابة هذا السلام عليك يا رسول الله عرفناه فكيف نصلي عليك قال: قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وارحم محمدا وآل محمدا كما رحمت وباركت على إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ".
{ يأيها النبي قل لأزواجك وبناتك } كان دأب الجاهلية أن تخرج الحرة والأمة مكشوفتي الوجه في درع وخمار وكان الزناة يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء الحوائج في النخيل والغيطان للإماء وربما تعرضوا للحرة بعلة الأمة يقولون حسبناها أمة فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الأردية والملاحف وستر الرؤوس والوجوه ليحتشمن ويهبن ولا يطمع فيهن طامع والجلابيب الأردية التي تستر من فوق إلى أسفل وقيل غير ذلك.
{ وكان الله غفورا رحيما } تأنيس للنساء في ترك الاستتار قبل أن يؤمرن بذلك ولما ذكر حال المشرك الذي يؤذي الله ورسوله والمجاهر الذي يؤذي المؤمنين ذكر حال المسر الذي يظهر الحق ويضمر الباطل وهو المنافق ولما كان المؤذون ثلاثة باعتبار إذايتهم لله ولرسوله وللمؤمنين كان المشركون ثلاثة منافق ومن في قلبه مرض ومرجف فالمنافق يؤذي سرا والثاني يؤذي المؤمن باتباع نسائه والثالث يرجف بالرسول يقول غلب سيخرج من المدينة سيؤخذ هزمت سراياه وظاهر العطف التغاير بالشخص فيكون المعنى لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم والفسقة عن فجورهم والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء ويشيعونه.
{ لنغرينك بهم } أي لنسلطنك عليهم.
{ ثم لا يجاورونك فيهآ } أي في المدينة وثم لا يجاورونك معطوف على لنغرينك ولم يكن العطف بالفاء لأنه لم يقصد أنه متسبب عن الإغراء بل كونه جوابا للقسم أبلغ وكان العطف بثم لأن الجلاء عن الوطن كان أعظم عليهم من جميع ما أصيبوا به فتراخت حالة الجلاء عن حالة الإغراء.
{ إلا قليلا } أي إلا جوارا قليلا وانتصب.
{ ملعونين } على الذم ومعنى ثقفوا حصروا وظفر بهم أخذوا أسروا والأخيذ الأسير.
{ سنة الله } مصدر مؤكد أي سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا حيث ما ظفر بهم.
{ يسألك الناس } أي المشركون عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزء واليهود على سبيل الإمتحان إذ كانت معمي وقتها في التوراة فنزلت الآية بأن يرد فيها العلم إلى الله إذ لم يطلع عليها ملكا ولا نبيا ولما ذكر حالهم في الدنيا أنهم ملعونون مهانون مقتولون بين حالهم في الآخرة.
{ وما يدريك } ما إستفهام في موضع رفع بالابتداء أي وأي شىء يدريك بها ومعناه النفي أي ما يدريك بها أحد.
{ لعل الساعة تكون قريبا } بين قرب الساعة وفي ذلك تبكيت للممتحن وتهديد للمستعجل وانتصب قريبا على الظرف أي في زمان قريب إذ استعماله ظرفا كثير.
{ يوم تقلب وجوههم في النار } يجوز أن ينتصب يوم بقوله: لا يجدون ويكون يقولون استئناف اخبار عنهم أو تم الكلام عند قوله ولا نصيرا وينتصب يوم بقوله يقولون والوجه أشرف ما في الإنسان فإذا قلب في النار كان تقليب ما سواه أولى أو عبر بالوجه عن الجملة وتمنيهم حيث لا ينفع وتشكيهم من كبرائهم لا يجدي وقرىء ساداتنا وسادتنا على الجمع ولما لم يبد تمنيهم الإيمان وطاعة الله ورسوله ولا قام لهم عذر في تشكيهم ممن أضلهم دعوا على ساداتهم بقولهم ربنا آتهم ضعفين من العذاب ضعفا على ضلالهم في أنفسهم وضعفا على إضلال من أضلوا.
{ كالذين آذوا موسى } قيل نزلت في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من مقالة بعض الناس وقيل المراد حديث الإفك قيل ما أوذي نبي مثل ما أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القسمة فصبر وقال رحم الله أخي موسى لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر وان إذاية موسى عليه السلام قولهم فيه: انه آدر وقيل غير ذلك.
{ إنا عرضنا الأمانة } لما أرشد المؤمنين إلى ما أرشد من ترك الأذى واتقاء الله وسداد القول ورتب على الطاعة ما رتب تبين أن ما كلفه الإنسان أمر عظيم فقال إنا عرضنا الأمانة تعظيما لأمر التكليف والأمانة الظاهر أنها كل ما يؤمن عليه من أمر ونهي وشأن دين ودنيا فالشرع كله أمانة والظاهر عرض الأمانة على هذه المخلوقات العظام وهي الأوامر والنواهي فتثاب إن أحسنت وتعاقب إن أساءت فأبت وأشفقت ويكون ذلك بإدراك خلقه الله تعالى فيها وهذا غير مستحيل إذ قد سبح الحصى في كفه عليه السلام وحن الجذع إليه وكلمته الذراع فيكون هذا العرض والإباء حقيقة قال ابن عباس: أعطيت الجمادات فهما وتمييزا فخيرت في الحمل وذكر الجبال مع أنها من الأرض لزيادة قوتها وصلابتها تعظيما للأمر.
{ إنه كان ظلوما } وصفه بالظلم تاركا لأداء الأمانة وبالجهل لأخطائه ما يسعده * واللام في:
{ ليعذب } لام الصيرورة لأنه لم يحملها لأن يعذب لكنه حملها فآل الأمر إلى أن يعذب من نافق وأشرك ويتوب على من آمن.
[34 - سورة سبإ]
[34.1-14]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله الذي له ما في السموت وما في الأرض } الآية هذه السورة مكية وقيل فيها غير مكي وسبب نزولها أن أبا سفيان قال لكفار قريش لما سمعوا ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات محمد يتوعدنا بالعذاب بعد أن نموت ويخوفنا بالبعث واللات والعزى لا تأتينا الساعة أبدا ولا نبعث فقال الله تعالى قل يا محمد بلى وربي لتبعثن وباقي السورة تهديد لهم وتخويف * ومن ذكر هذا السبب ظهرت المناسبة بين هذه السورة والتي قبلها والحمد لله مستغرق لجميع المحامد كلها.
{ وله الحمد في الآخرة } ظاهره الاستغراق ولما كانت نعم الآخرة مخبر أنها غير مرئية لنا في الدنيا ذكرها لتقاس نعمها بنعم الدنيا قياس الغائب على الشاهد وإن اختلفتا في الفضيلة والديمومة.
{ يعلم ما يلج في الأرض } أي من المياه.
{ وما يخرج منها } أي من النبات.
{ وما ينزل من السمآء } أي من المطر وغير ذلك.
{ وما يعرج فيها } من أعمال الخلق وبلى جواب للنفي السابق من قولهم لا تأتينا الساعة أي بلى لتأتينكم واتبع القسم بقوله: عالم الغيب وما بعده ليعلم أن إتيانها من الغيب الذي انفرد به تعالى وجاء القول بقوله: وروي مضافا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليدل على شدة القسم إذا لم يأت به في الإسم المشترك بينه وبين من أنكر الساعة وهو لفظ الله تعالى:
{ وقال الذين كفروا } هم قريش قال بعضهم لبعض على سبيل التعجيب والاستهزاء كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه هل أدلك على قصة غريبة نادرة لما كان البعث عندهم من المحال جعلوا من يخبر عن وقوعه في حيز من يتعجب منه وأتوا باسمه عليه السلام نكرة في قولهم هل ندلكم على رجل واسمه أشهر علم في قريش في الدنيا واخباره بالبعث أشهر خبر لأنهم أخرجوا ذلك مخرج الاستهزاء والتحلي ببعض الأحاجي المعمولة للتلهي والتعمية فلذلك نكروا اسمه وإذا الشرطية مختلف في العامل فيها وقد بيناه في شرح التسهيل فإن الصحيح أن يعمل فيها فعل الشرط كسائر أدوات الشرط والجملة الشرطية يحتمل أن تكون معمولة لينبئكم لأنه في معنى يقول لكم إذا مزقتم كل ممزق ثم أكد ذلك بقوله: إنكم لفي خلق جديد ويحتمل أن يكون انكم لفي خلق جديد معمولا لينبئكم وينبئكم معلق ولولا اللام في خبر ان لكانت مفتوحة والجملة سدت مسد المفعولين والجملة الشرطية على هذا التقدير اعتراض وقد منع قوم التعليق في باب أعلم والصحيح جوازه وقال الشاعر:
حذار فقد نبئت أنك للذي
ستجزى بما تسعى فتسعد أو تشقى
وممزق مصدر جاء على زنة اسم المفعول على القياس في إسم المصدر من كل فعل زائد على الثلاثة والظاهر أن قوله افترى من قول بعضهم لبعض أي أهو مفتر على الله كذبا فيما ينسب إليه من أمر البعث أم به جنون يوهم ذلك ويلقيه على لسانه عادلوا بين الافتراء والجنون لأن هذا القول عندهم إنما يصدر عن أحد هذين لأنه إن كان يعتقد خلاف ما أنبأ به فهو مفتر وإن كان لا يعتقده فهو مجنون فأضرب تعالى عن مقالتهم والمعنى ليس الرسول صلى الله عليه وسلم كما نسبتم إليه بل أنتم في عذاب النار أو في عذاب الدنيا بما تكابدونه من إبطال الشرع وهو بحق وإطفاء نور الله وهو يتم * ولما كان الكلام في البعث قال: بل الذين لا يؤمنون بالآخرة فرتب العذاب على إنكار البعث وتقدم الكلام في وصف الضلال بالبعد وهو من أوصاف المحال استعير للمعنى ومعنى بعده أنه لا يقتضي خبره الملتبس به.
{ أفلم يروا } أي هؤلاء الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة.
{ إلى ما بين أيديهم } أي حيث ما تصرفوا فالسماء والأرض قد أحاطتا بهم لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما ولا يخرجوا عن ملكوت الله فيهما.
{ إن نشأ نخسف بهم الأرض } كما فعلنا بقارون.
{ أو نسقط عليهم كسفا من السمآء } كما فعلنا بأصحاب الظلة.
{ إن في ذلك } أي في النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما يدلان عليه من قدرة الله تعالى.
{ لآية } لعلامة ودلالة.
{ لكل عبد منيب } راجع إلى ربه مطيع له لأن المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله تعالى على أنه قادر على كل شىء من البعث ومن عقاب من يكفر به.
{ ولقد آتينا داوود منا فضلا } مناسبة قصة داود وسليمان لما قبلهما هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته عندهم فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره إذ طفحت ببعضه أخبارهم ونطقت به شعراؤهم على ما يأتي ذكره من تأويب الجبال والطير مع داود والإنة الحديد وهو الجرم المستعصي وتسخير الريح لسليمان واسالة النحاس له كما ألان الحديد لأبيه وتسخير الجن في ما شاء من الأعمال الشاقة وغير ذلك * أوبي معه أي سبحي قاله ابن عباس وقرىء: والطير بالنصب عطفا على موضع يا جبال وبالرفع عطفا على لفظ يا جبال * والانة الحديد قال ابن عباس: حتى صار كالشمع وروي أن داود عليه السلام كان يتنكر فيسأل الناس عن حاله فعرض له ملك في صورة إنسان فسأله فقال: نعم العبد لولا خلة فيه فقال: وما هي قال: يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يده لنمت فضائله فدعا الله تعالى أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه فعلمه صنعة الدروع الان له الحديد فاثرى وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين.
{ وقدر في السرد } قال ابن زيد هو في قدر الحلقة أي لا تعملها صغيرة فتضعف فلا يقوى الدرع على الدفاع ولا كبيرة فينال لابسها من خلالها.
{ ولسليمان الريح } أبدله الله تعالى من الخيل الريح تجري بأمره.
{ وأسلنا له عين القطر } الظاهر أنه جعله أي النحاس له عليه السلام في معدنه عينا تسيل كعيون الماء دلالة على نبوته يستعملها فيما يريد وعن ابن عباس أجريت له ثلاثة أيام بلياليهن وكانت بأرض اليمن قال مجاهد: سالت من صنعاء ولم يذب النحاس فيما روي لأحد قبله وكان لا يذوب.
{ بإذن ربه } أي بأمر ربه لقوله:
{ ومن يزغ منهم عن أمرنا } أي ومن يعدل عن أمرنا الذي أمرناه به من طاعة سليمان وقرىء: يزغ مضارع زاغ وقرىء: بالضم من أزاغ أي ومن يمل وعذاب السعير عذاب الآخرة قاله ابن عباس * والمحاريب قال مجاهد المساجد والتماثيل الصور والجفان جمع جفنة وهي معروفة والجوابي الحياض العظام واحدها جابية لأنه يجبى فيها الماء أي يجتمع قال الأعشى * نفي الذم عن آل المحلق جفنة كجابية المسيح العراقي تفهق * والراسيات الثابتات على الأثافي فلا تنقل ولا تحمل لعظمها وقدمت المحاريب على التماثيل لأن النفوس تكون في الأبنية وقدم الجفان على القدور مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل والطبخ قبل الأكل لما بين الأبنية الملكية أراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيها والقدور لا يكون فيها ولا تحضر هناك ولهذا قال راسيات ولما بين حال الجفان سرى الذهن إلى عظمة ما يطبخ فيها فذكر القدور للمناسبة وذكر في حق داود اشتغاله بآلة الحرب لاحتياجه إلى قتال أعدائه وفي حق سليمان من المحاريب في التماثيل لأنه كان ملكا ابن ملك قد وطد له أبوه الملك أي مهده له فكانت حاله حالة سلم إذ لم يكن أحد يقدر على محاربته وقال عقب أن أعمل سابغات اعملوا صالحا وعقب ما يعمله الجن.
{ اعملوا آل داوود شكرا } عقب كل جملة بما يناسبها وروي أن مصلى داود عليه السلام لم يخل قط من قائم يصلي ليلا أو نهارا وكانوا يتناوبونه وكان سليمان عليه السلام يأكل الشعير ويطعم أهله الخشكار والمساكين الدرمك وما شبع قط وقيل له في ذلك فقال: إني أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع والشكور صيغة مبالغة وأريد به من الجنس.
{ فلما قضينا عليه الموت } أي أنفذنا عليه ما قضينا في الأزل من الموت وأخرجناه إلى حيز الوجود والضمير في دلهم عائد على الجن الذين كانوا يعملون له وكان سليمان قد أمر الجن ببناء صرح فبنوه ودخل فيه تخليا ليصفو له يوم واحد من الدهر من الكدر فدخل عليه شاب فقال له: كيف دخلت من غير استئذان فقال: إنما دخلت بإذن قال: ومن أذن لك؟ قال: رب هذا الصرح فعلم سليمان عليه السلام أنه ملك الموت أتى لقبض روحه، فقال سليمان: سبحان الله هذا اليوم الذي طلبت فيه الصفاء، فقال له: طلبت ما لم يخلق فاستوثق من الإتكاء على العصا فقبض روحه وبقيت الجن تعمل على عادتها وكان سليمان قصد تعمية موته لأنه كان قد بقي من تمام بناء المسجد عمل سنة فسأل الله تعالى تمامها على يد الإنس والجن وكان يخلو بنفسه الشهرين والثلاثة فكانوا يقولون: يتحنث أي يتعبد وقيل ان ملك الموت أعلمه أنه بقي من حياته ساعة فدعا الجن فبنوا الصرح وقام يصلي متكئا على عصاه فقبض روحه وهو متكىء عليها وكانت الشياطين تجتمع حول محرابه فلا ينظر أحد منهم إليه في صلاته إلا احترق فخر واحد منهم فلم يسمع صوته ثم رجع فلم يعلم فنظر فإذا هو خر ميتا وكان عمره ثلاثا وخمسين سنة ملك بعد موت أبيه وهو ابن ثلاث عشرة سنة وكان أبوه قد أسس بنيان المسجد موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل أن يتمه ووصى به إلى ابنه فأمر الشياطين بإتمامه ومات قبل تمامه ودابة الأرض هي سوسة الخشب وهي الأرضة وقيل غير ذلك والمنسأة العصا وكانت فيما رووا من خرنوب وذلك أنه كان يتعبد في بيت المقدس فتنبت له في محرابه كل سنة شجرة تخبره بمنافعها فيأمر فتقلع وتصرف في منافعها وتغرس لتتناسل فلما قرب موته نبتت له شجرة وسألها فقالت انا الخرنوب خرجت لخراب ملكك فعرف أنه حضر أجله فاستعد واتخذ منها عصا واستدعى بزاد سنة والجن تتوهم أنه يتغذى بالليل.
{ منسأته } على وزن مفعلة كمطرقة وهي العصا سميت بذلك لأنها ينسأ بها الأشياء أي تؤخر وقرىء: منسأته على وزن مفعلة بهمزة مفتوحة بعد السين وبإبدالها ألفا على غير قياس وبإسكانها على غير قياس والأصل فتحها لأنها لام الكلمة.
{ فلما خر } الضمير عائد على سليمان عليه السلام أي سقط عن العصا ميتا وقرىء تبينت مبنيا للفاعل ومبنيا للمفعول وإن هي المخففة من الثقيلة وينسبك منها مصدر أي تبينت الجن جهلها أي جهل الخبر والمعنى أن الجن لو كانت تعلم الغيب ما خفي عليها موت سليمان وقد ظهر أنه خفي عليها بدوامها في الخدمة والصنعة.
[34.15-22]
{ لقد كان لسبإ في مسكنهم آية } لما ذكر تعالى حال الشاكرين لنعمه بذكر داود وسليمان بين حال الكافرين بأنعمه بقصة سبأ موعظة لقريش وتحذيرا وتنبيها على ما جرى لمن كفر أنعم الله تعالى وتقدم الكلام في سبأ في النمل ولما ملكت بلقيس اقتتل قومها على ماء واديهم فتركت ملكها وسكنت قصرها وراودوها على أن ترجع فأبت فقالوا: لترجعن أو لنقتلنك فقالت لهم لا عقول لكم مسير ثلاث أيام فأمرت به فسد ما بين الجبلين بمساءة بالصخر والقار وحبست الماء من وراء السد وجعلت له أبوابا بعضها فوق بعض وبقيت من دونه بركة فيها اثنا عشر مخرجا على عدة أنهارهم وكان الماء يخرج لهم بالسوية إلى أن كان من شأنها مع سليمان عليه السلام ما سبق ذكره في النمل.
وقرىء: مساكنهم ومفردا بفتح الكاف وكسرها آية أي علامة دالة على الله تعالى وعلى قدرته ووجوب شكره وخبر كان لسبأ وآية اسمها وفي مساكنهم متعلق بما تعلق به لسبأ والتقدير لقد كانت آية كائنة في مساكنهم جنتان خبر مبتدأ محذوف تقديره هي جنتان.
قال ابن عطية: جنتان مبتدأ وخبره عن يمين وشمال " انتهى " لا يظهر ذلك لأنه نكرة لا مسوغ للابتداء بها إلا ان اعتقد أن ثم صفة محذوفة أي جنتان لهم أو عظيمتان عن يمين وشمال وعلى ذلك يبقى الكلام مفلتا مما قبله وجنتان جماعتان من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة. قال ابن زيد: لا يوجد فيها برغوث ولا بعوض ولا عقرب ولا تقمل ثيابهم ولا تعيادوا بهم وكانت المراة تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها المكتل فيمتلىء ثمرا من غير أن تتناول بيدها شيئا كلوا من رزق ربكم قول الله لهم على السنة الأنبياء المبعوثين إليهم وفيه إشارة إلى تكميل النعمة عليهم حيث لم يمنعهم من أكل ثمارها خوف ولا مرض.
{ واشكروا له } على ما أنعم به عليكم.
{ بلدة طيبة } أي كريمة التربة حسنة الهواء سليمة من الهوام والمضار.
{ ورب غفور } لا عقاب على التمتع بنعمه في الدنيا ولا عذاب في الآخرة فأعرضوا عما جاء به إليهم أنبياؤهم وكانوا ثلاثة عشر نبيا دعوهم إلى الله وذكروهم نعمه فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله نعمة فسلط الله تعالى عليهم الجرذ فارا أعمى توالد فيه ويسمى الخلد فخرقه شيئا بعد شىء وأرسل سيلا في ذلك الوادي فحمل ذلك السد.
فروي أنه كان من العظم وكثرة الماء بحيث ملأ ما بين الجبلين وحمل الجناب وكثيرا من الناس ممن لم يمكنهم الفرار وروي أنه لما خرق السد كان ذلك سبب يبس الجنات فهلكت بهذا وقال ابن عباس: العرم الشديد فاحتمل أن يكون صفة للسيل أضيف الموصوف إلى صفته التقدير السيل العرم أو صفة لموصوف محذوف أي سيل المطر الشديد الذي كان عنه السيل أو سيل الجرذ العرم فالعرم صفة للجرذ وقيل العرم اسم الجرذ بنفسه وأضيف السيل إليه لكونه كان السبب في خراب السد الذي حمله السيل والإضافة تكون بأدنى ملابسة ولما غرق من غرق ونجا من نجا تفرقوا وتمزقوا حتى ضربت العرب المثل بهم فقالوا: تفرقوا أيدي سبأ وأيادي سبأ قيل والأوس والخزرج منهم وعن ابن عباس: كان سيل ذلك الوادي يصل إلى مكة وينتفع به وكان سيل العرم في ملك ذي الاذعار بن حسان في الفترة التي بين عيسى عليه السلام وبين نبينا صلى الله عليه وسلم ودخلت الباء في بجنتهم على الزائل وانتصب ما كان بدلا وهو قوله: جنتين على المعهود في لسان العرب ويسمى هذا المعوض جنتين على سبيل للقابلة لأن ما كان فيه خمط وأثل وسدر لا يسمى جنة لأنها أشجار لا يكاد ينتفع بها وجاءت تثنية ذات على الأفصح في رد عينها في التثنية فقال ذواتي أكل كما جاء ذواتا أفنان وقرىء: أكل خمط فالإضافة على حذف مضاف أي عثر خط وقرىء: بالتنوين وخمط بدلا من أكل وقرىء: بالنصف خمطا ونصب ما بعدها بدلا من قوله: جنتين قال أبو عبيدة: الخمط كل شجرة مرة ذات شوك والاثل شجر وهو ضرب من الطرفاء والسدر.
قال الفراء: هو السمر.
وقال الأزهري: السدر سدر أن سدر لا ينتفع به ولا يصلح ورقه للغسول وله ثمرة عفصة لا تؤكل وهو الذي يسمى الضال وسدر ينبت على الماء وثمرة النبق وورقه الغسول يشبه شجر العناب.
{ ذلك } إشارة إلى إرسال السيل وتبديل الجنتين وما مصدرية والباء سببية.
{ وهل نجزي } أي بذلك الجزاء.
{ إلا الكفور * وجعلنا بينهم } الآية جاءت هذه الجملة بعد قوله: وبدلناهم وذلك أنه لما ذكر ما أنعم به عليهم من جنتيهم وذكر تبديلها بالخمط والاثل والسدر ذكر ما أنعم به عليهم من اتصال قراهم وذكر تبديلها بالمفاوز والبراري وصف تعالى حالهم قبل مجيء السيل وهي أنه مع ما كان منحهم من الجنتين والنعمة الخاصة بهم كان قد أصلح لهم البلاد المتصلة بهم وعمرها وجعلهم أربابها وقدر السير بأن قرب بعضها من بعض.
قال ابن عطية: حتى كان المسافر من مأرب إلى الشام يبيت في قرية ويقيل في أخرى ولا يحتاج إلى حمل زاد والقرى المدن.
قال الزمخشري: ولا قول ولكنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه فكأنهم أمروا بذلك وأذن لهم فيه " انتهى ". ودخول الفاء في قوله: فكأنهم لا يجوز والصواب كأنهم لأنه خبر لكنهم وقرىء: ربنا على الندراء باعد فعل أمر من باعد وبعد فعل أمر من بعد وقرىء: ربنا بالرفع على الابتداء باعد فعلا ماضيا في موضع الخبر.
{ وظلموا أنفسهم } بتكذيب الرسل.
{ فجعلناهم أحاديث } أي عظات وعبرا يتحدث ويتمثل.
{ ومزقناهم كل ممزق } أي تفريقا اتخذه الناس مثلا مضروبا قال كثير:
عزة أيادي سبأ يا عزما كنت بعدكم
فلم يحل للعين بعدك منظر
{ إن في ذلك لآيات } أي من قصص هؤلاء لآيات أي علامات.
{ لكل صبار } عن المعاصي وعلى الطاعات.
{ شكور } للنعم والظاهر أن الضمير في عليهم عائد على من قبله من أهل سبأ وقيل هو لبني آدم وقرىء: صدق بشد الدال وانتصب ظنه على أنه مفعول به لصدق والمعنى وجد ظنه صادقا أي ظن شيئا فوقع ما ظن.
{ وما كان له } أي لإبليس.
{ عليهم من سلطان } أي من تسلط واستيلاء بالوسوسة والاستغواء وعلل التسلط بالعلم والمراد ما تعلق به العلم وهي تميز المؤمن بالآخرة من الشاك فيها.
{ قل ادعوا الذين زعمتم } قل أمر لمحمد صلى الله عليه وسلم أي قل للمشركين ادعوا الذين زعمتم وهي معبوداتهم من الملائكة والأصنام وهو أمر بدعاء هو تعجيز وإقامة حجة وروي أن ذلك نزل عند الجوع الذي أصاب قريشا أي ادعوهم ليكشفوا عنكم ما حل بكم والتجؤا إليهم فيما يعن لكم وزعم من الأفعال التي تتعدى إلى اثنين إذا كانت اعتقادية والمفعول الأول هو الضمير المحذوف العائد على الذين والثاني محذوف أيضا لدلالة المعنى عليه ونابت صفته منابه التقدير الذين زعمتموهم آلهة من دونه لا يملكون ملك أحقر الأشياء وهو مثقال ذرة ثم نفى الشركة ثم نفى الإعانة بقوله: من ظهير وهو المعين ولما كان من العرب من يعبد الملائكة لتشفع له نفى أن شفاعتهم تنفع والنفي منسحب على الشفاعة أي لا شفاعة لهم فتنفع.
[34.23-34]
{ إلا لمن أذن له } استثناء مفرغ فالمستثنى منه محذوف تقديره ولا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له حتى إذا فزع عن قلوبهم.
قال ابن عطية: تظاهرت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قوله حتى إذا فرغ إنما هي في الملائكة إذا سمعت الوحي إلى جبريل عليه السلام وبالأمر يأمر الله تعالى به سمعت كجر سلسلة الحديد على الصفوان فتفزع عند ذلك تعظيما وهيبة.
{ قل من يرزقكم } الآية خطاب للكفار وسؤال لهم عمن يرزقهم وأمره تعالى أن يجيب عاملا بقوله: { قل الله } إذا قد يصدر منهم العناد فلا يقولون الله ولا يمكن أن يقولوا آلهتهم.
قوله:
وأنا الضمير عائد للمؤمنين أو إياكم ضمير الكفار لعلى هدى راجع للمؤمنين أو في ضلال راجع للكفار وأورد ذلك باوالتي تقتضي الترديد بين شيئين وإن كان في العقل التمييز بين الشيئين ومعلوم أن المؤمن لا يتساوى مع الكافر ومما يشبه هذا قول الشاعر:
فأين ما وأيك كان شرا
فسيق إلى المقادة في هو ان فردد بينه وبين مخاطبه في الشر ومعلوم عنده أن صاحبه هو الشر.
{ قل لا تسألون عمآ أجرمنا } أطلق على عمل المؤمن إجراما باعتقاد الكافر فيه ذلك.
{ قل يجمع بيننا ربنا } أي يوم القيامة.
{ ثم يفتح } أي يحكم بالحق بالعدل فيدخل المؤمنين الجنة والكفار النار والفتاح والعليم صيغتا مبالغة وهذا فيه تهديد وتوبيخ.
{ إلا كآفة } قيل هو حال من الضمير في أرسلناك والهاء للمبالغة كقولهم علامة للرجل كثير العلم والمعنى إلا جامعا للناس في الإبلاغ وقيل فيه تقديم وتأخير والتقدير إلا للناس كافة ومعناها جميعا فيكون حالا من الناس ومعناها التوكيد كأنه قيل للناس كلهم قال الزمخشري: إلا كافة للناس أي إلا إرساله عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم قال: ومن جعله حالا من المجرور متقدما عليه فقد أخطأ لأن تقدم حال المجرور عليه في الإحاطة بمنزلة تقدم المجرور على الجر ولم ترني من مرتكب هذا الخطأ ثم لا ينتفع به حتى يضم إليه أن يجعل اللام بمعنى إلى لأنه لا يستوي له الخطأ الأول إلا بالخطأ الثاني فلا بد له من ارتكاب الخطأين " انتهى ".
أما قوله كافة بمعنى عامة والمنقول عن النحويين أنها لا تكون إلا حالا ولم يتصرف فيها بغير ذلك فجعلها صفة لمصدر محذوف خروج عما فعلوا ولا يحفظ أيضا استعمالها صفة لموصوف محذوف.
وأما قول الزمخشري: ومن جعله حالا إلخ...
فذلك مختلف فيه ذهب الأكثرون إلى أن ذلك لا يجوز وذهب أبو علي وابن كيسان وابن برهان ومن معاصرينا ابن مالك إلى أنه يجوز وهو الصحيح ومن أمثلة أبي علي زيد خير ما يكون خير منك التقدير زيد خير منك خير ما يكون فجعل خير ما يكون حالا من الكاف في منك وقدمها عليه وقال الشاعر:
إذا المرء أعيته المروءة ناشئا
فمطلبها كهلا عليه شديد
أي فمطلها عليه كهلا شديد.
وقال آخر:
تسليت طرا عنكم بعد بينكم
بذكراكم حتى كأنكم عندي
أي تسليت عنكم طرا أي جميعا وقد جاء تقدم الحال على صاحبه المجرور على ما يتعلق به ومن ذلك قول الشاعر:
مشغوفة بك قد شغفت وإنما
حتم الفراق فيما إليك سبيل
وقال آخر:
غافلا تعرض المنية للمر
فيدعي ولات حين أباء
أي شغفت بك مشغوفة وتعرض المنية للمرء غافلا وإذا جاز تقديمها على المجرور والعامل فتقديمها عليه دون العامل أجوز.
وقول الزمخشري: وكم ترى ممن يرتكب هذا الخطأ إلخ... تشنيع لأن قائل ذلك لا يحتاج أن يتأول اللام بمعنى إلى وأرسل تتعدى باللام كقوله:
وأرسلناك للناس رسولا
[النساء: 79] ولو تأول اللام بمعنى إلى لم يبن ذلك خطأ لأن اللام قد جاءت بمعنى إلى أو إلى جاءت بمعنى اللام وأرسل مما جاء متعديا بهما إلى المجرور والظاهر أن الميعاد إسم على وزن مفعال استعمل بمعنى المصدر أي قل لكم وقوع يوم ونحوه.
{ وقال الذين كفروا } هم مشركوا قريش ومن جرى مجراهم والمشهور أن الذي بين يديه التوراة والإنجيل وما تقدم من الكتب الإلهية.
{ ولو ترى إذ الظالمون } أخبر عن حالهم في صيغة منها وترى في معنى رأيت لأعمالها في الظرف الماضي ومفعول ترى محذوف أي حال الظالمين إذ هم موقوفون وجواب لو محذوف أي لرأيت لهم حالة منكرة من ذلهم وتحاورهم وتجادلهم حيث لا ينفعهم شىء من ذلك ثم فسر ذلك الرجوع والجدل بأن الاتباع وهم الذين استضعفوا قالوا لرؤسائهم على جهة التذنيب والتوبيخ ورد الأئمة عليهم: لولا أنتم لكنا مؤمنين أي أنتم أغويتمونا وأمرتمونا بالكفر فقال لهم رؤساؤهم: أنحن صددناكم فأتوا بالاسم بعد أداة الاستفهام إنكارا لأن يكونوا هم الذين صدورهم من قبل أنفسكم وباختياركم فكأنهم قالوا: أنحن أجبرناكم وحلنا بينكم وبين الذكر بعد أن صممتم على الدخول في الإيمان بل أنتم منعتم أنفسكم حظها وآثرتم الضلال على الهدى فكنتم مجرمين كافرين باختياركم لا بقولنا وتسويلنا ولما أنكر رؤساؤهم أنهم السبب في كفرهم وأثبتوا بقولهم: بل كنتم مجرمين ان كفرهم هو من قبل أنفسهم قابلوا إضرابا بإضراب فقال: الاتباع بل مكر الليل والنهار أي ما كان إجرامنا من جهتنا بل مكركم لنا دائما بمخادعتكم لنا ليلا ونهارا إذ تأمروننا ونحن أتباع لا نقدر على مخالفتكم مطيعون لكم باستيلائكم علينا بالكفر بالله واتخاذا لأنداد وأضيف المكر إلى الليل والنهار واتسع في الظرفين فهما في موضع نصب على المفعول به على السعة وفي موضع رفع على الإسناد المجازى كما قالوا: ليل نائم والأولى أن يرتفع مكر على الفاعلية أي بل صدنا مكركم بالليل والنهار إذ معمول لمكر.
{ وأسروا } الضمير عائد للجميع وهم الظالمون الموقوفون وأسروا تقدم الكلام عليه والذين كفروا هم الذين سبقت منهم المحاورة وجعل الأغلال إشارة إلى كيفية العذاب قطعوا بأنهم واقعون في فيه.
{ هل يجزون } إستفهام معناه النفي ولذلك دخلت إلا بعد النفي.
{ ومآ أرسلنا في قرية من نذير } هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما مني به من قومه قريش من الكافر والافتخار بالأموال والأولاد وان ما ذكروا من ذلك هو عادة المترفين مع أنبيائهم فلا يهمك أمرهم ومن نذير عام أن ينذرهم بعذاب الله تعالى إن لم يوحدوه.
و { قال مترفوهآ } جملة حالية ونص على المترفين لأنهم أول المكذبين للرسل لما شغلوا به من زخرف الدنيا بخلاف الفقراء فإنهم خالون من مستلذات الدنيا.
و { بمآ } معلق بكافرين.
و { به } متعلق بأرسلتم وما عامة فيما جاءت به النذر من طلب الإيمان بالله تعالى وأفرده بالعبادة والاخبار بأنهم رسله إليهم والبعث والجزاء على الأعمال والظاهر أن الضمير في قالوا عائد على المترفين وقيل عائد على قريش ويدل عليه ما بعده من الخطاب في قوله:
بالتي تقربكم
[سبأ: 37] والظاهر أن هذا الموصول أريد به الأموال والأولاد.
[34.35-54]
{ إلا من آمن } الظاهر أنه استثناء منقطع وهو منصوب على الاستثناء أي لكن من آمن وعمل صالحا فإيمانه وعمله يقربانه.
وقال الزجاج: إلا من آمن هو بدل من الكاف والميم في تقربكم، وقال النحاس: هذا غلط لأن الكاف والميم للمخاطب فلا يجوز البدل ولو جاز هذا لجاز رأيتك زيدا وقول أبي إسحق هذا هو قول الفراء " إنتهى ".
ومذهب الأخفش والكوفيين أنه يجوز أن يبدل ضمير المخاطب والمتكلم لكن البدل في الآية لا يصح الا نرى أنه لا يصح تفريغ الفعل الواقع صلة لما بعد إلا لو قلت ما زيد بالذي يضرب إلا خالدا لم يصح وتخيل الزجاج أن الصلة وإن كانت من حيث المعنى منفية أنه يجوز البدل وليس بجائز إلا فيما يصح التفريع. قال الزمخشري: إلا من استثناء من كم في تقربكم والمعنى أن الأموال لا تقرب أحدا إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله والأولاد لا تقرب أحدا إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة " انتهى ".
اتبع الزجاج في ذلك وهو لا يجوز كما ذكرنا لا يجوز ما زيد بالذي يخرج إلا أخوه وما زيد بالذي يضرب إلا عمرا ولا ما زيد بالذي يمر إلا ببكر ولتركيب الذي ركبه الزمخشري من قوله: لا تقرب أحدا إلا المؤمن غير موافق للتركيب القرآني ففي الذي ركبه يجوز ما قال وفي لفظ القرآن لا يجوز.
وأجاز الفراء أن يكون من في موضع رفع وتقدير الكلام عنده ما هذا المقرب إلا من آمن " انتهى ".
وقوله: كلام لا يتحصل منه معنى كأنه كان نائما حين قال ذلك وقرىء: جزاء مضافا إلى الضعف ومعناه يجزيهم الله الضعف أي يضاعف لهم الحسنات وقرىء جزاء منونا الضعف بالرفع فالضعف بدل.
{ وهم في الغرفات } أي في العلالي ولما ذكر جزاء من آمن ذكر عقاب من كفر ليظهر تفاوت ما بين الشيئين.
{ والذين يسعون } تقدم الكلام عليه ومعنى فهو يخلفه أي يأتي بالخلف والعوض منه وكان لفظ من عباده مشعرا بالمؤمنين وكذلك الخطاب في وما أنفقتم يقصد هنا رزق المؤمنين فليس مساق قل: إن ربي يبسط الرزق مساق ما قيل للكفار بل مساق الوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على النفقة في طاعة الله تعالى واختلاف ما أنفق اما منجزا في الدنيا وإما مؤجلا في الآخرة وهو مشروط بقصد وجه الله تعالى.
{ ويوم يحشرهم جميعا } أي المكذبين من تقدم ومن تأخر وخطاب الملائكة تقريع للكفار وقد علم تعالى أن الملائكة منزهون برآء مما وجه عليهم من السؤال وإنما ذلك على طريق توقيف الكفار على سوء ما ارتكبوه من عبادة غير الله تعالى وإن من عبدوه مفترى منهم وهؤلاء مبتدأ وخبره كانوا يعبدون.
و { إياكم } مفعول يعبدون لما تقدم انفصل وإنما قدم لأنه أبلغ في الخطاب ولكون يعبدون فاصلة فلو أتى بالضمير متصلا كان التركيب يعبدونكم ولم يكن فاصلة واستدل بتقديم هذا المعمول على جواز تقديم خبر كان عليها إذا كان جملة ولما أجابوا الله تعالى بدؤا بتنزيهه وبراءته من كل سوء كما قال عيسى عليه السلام ثم انتسبوا إلى موالاته دون أولئك الكفرة أي أنت ولينا إذ لا موالاة بيننا وبينهم وفي قولهم بل كانوا يعبدون الجن اشعار أنهم ما عبدوهم وان لم يصرح به ولكن الإضراب ببدل يدل عليه وذلك لأن المعبود إذا لم يكن راضيا بعبادة عابده مريدا لها لم يكن ذلك العابد عابدا له حقيقة فلذلك قالوا: بل كانوا يعبدون الجن لأن أفعالهم القبيحة هي من وساوس الشياطين واغوائهم ومراداتهم فهم عابدون لهم حقيقة إذ الشياطين راضون بتلك الأفعال والإشارة بقوله: ما هذا إلا رجل إلى تالي الآيات المفهوم من قوله: وإذا تتلى وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم وحكى تعالى مطاعتهم عند تلاوة القرآن عليهم فبدؤا بالطعن في التالي بأنه يقدح في معبودات آلهتكم ثم ثانيا: فيما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن بأنه كذب مختلق من عنده وليس من عند الله تعالى. وثالثا: بأن ما جاء به سحر واضح لما اشتمل على ما يوجب الاستمالة وتأثير النفوس له وإجابته فطعنوا في الرسول عليه السلام وفيما جاء به وفي وصفه واحتمل أن يكون صدر من مجموعهم واحتمل أن يكون كل جملة منها قالها قوم غير من قال الجملة الأخرى وفي قوله: { لما جآءهم }. دليل على أنه حين جاءهم لم ينكروا فيه بل بادهوه بالإنكار ونسبته إلى السحر ولم يكتفوا بقولهم انه سحر حتى وصفوه بأنه واضح لمن يتأمله وقيل إنكار القرآن والمعجزة كان متفقا عليه من المشركين وأهل الكتاب فقال تعالى: { وقال الذين كفروا للحق } على وجه العموم.
{ ومآ آتيناهم من كتب } أي أهل مكة من كتب من عندنا فيعلموا بدراستها بطلان ما جئت به ومعنى قبلك أي ما أرسلنا من نذير شافههم ولا باشر أهل عصرهم ولا من قرب من آبائهم وقد كانت النذارة في العالم وفي العرب مع شعيب وغيره ودعوة الله تعالى قائمة لا تخلو الأرض من داع إليه.
{ وكذب الذين من قبلهم } عدلهم بمن تقدمهم من الأمم السالفة وما آل إليه أمرهم وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عادتهم في التكذيب عادة الأمم السابقة وسيحل بهم ما حل بأولئك والظاهر أن الضميرين في بلغوا وفي آتيناهم عائدان على الذين من قبلهم ليتناسق مع قوله: فكذبوا أي ما بلغوا في شكر النعمة وجزاء المنة معشار ما آتيناهم من النعم والإحسان إليهم وحين كذبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من القوة والمعشار مفعال من الشر ولم يبن على هذا الوزن من ألفاظ العدد وغيره وغير المرباع ومعناهما العشر والربع وقال قوم المعشار عشر العشر.
{ قل إنمآ أعظكم بواحدة } قال السدي: هي لا إله إلا الله وقيل غير ذلك والمعنى إنما أعظكم بواحدة فيها إصابتكم الحق وخلاصتكم وهي أن تقوموا لوجه الله تعالى متفرقين اثنين وواحدا واحدا.
قال الزمخشري: بواحدة بخصلة واحدة وهو فسرها بقوله ان تقوموا على أنه عطف بيان لما انتهى.
وهذا لا يجوز لأن بواحدة نكرة وان تقوموا معرفة لتقدير قيامكم لله وعطف البيان فيما مذهبان أحدهما أنه يشترط فيه أن يكون معرفة من معرفة وهو مذهب البصريين والثاني أن يتبع ما قبله في التعريف والتنكير وهو مذهب الكوفيين وأما التخالف فلم يذهب إليه ذاهب إنما هو وهم من قائله وقد رد النحويون على الزمخشري في قوله: إن مقام إبراهيم عطف بيان من قوله: آيات بينات وذلك لأجل التخالف فكذلك هذا.
{ ثم تتفكروا } أي في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به وإنما قال مثنى وفرادى لأن الجماعة يكون مع اجتماعها تشويش الخاطر والمنع من الفكر وتخليط الكلام والتعصب للمذاهب وانتصب مثنى وفرادى على الحال وقدم مثنى لأن الطلب الحقائق من متعاضدين في النظر أجدى من نكرة واحدة فإذا انقدح الحق بين الاثنين فكر كل واحد بعد ذلك فيزيد بصيرة.
قال الشاعر:
إذا اجتمعوا جاؤا بكل غريبة
فيزداد بعض القول من بعضهم علما
ثم تتفكروا عطف على أن تقوموا والفكرة هنا في حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيما نسبوه إليه فإن الفكرة تهتدي غالبا إلى الصواب والوقف عند أبي حاتم عند قوله: ثم تتفكروا وما بصاحبكم من جنة نفي مستأنف والذي يظهر أن الفعل معلق على الجملة المنفية فهو في موضع نصب على إسقاط في:
{ قل ما سألتكم من أجر } فيه التبري من طلب الدنيا وطلب الأجر على النور الذي أتى به والتوكل على الله والأجر عند واحتملت قل إن تكون موصولة مبتدأ والعائد من الصلة محذوف تقديره سألتكموه وفهو لكم الخبر ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط واحتملت أن تكون ما شرطية مفعولة بسألتكم وفهو لكم جملة هي جواب الشرط والظاهر أن بالحق هو المفعول فالحق هو المقذوف به. قال الزمخشري: رفع علام محمول على محل أن واسمها أو على المستكن في يقذف أو هو خبر مبتدأ محذوف " انتهى ". أما الحمل على محل ان واسمها فهو غير مذهب سيبويه وليس بصحيح عند أصحابنا على ما قررناه في كتب النحو وأما قوله: على المستكن في يقذف فلم يبين وجه حمله وكأنه يريد أنه بدل من ضمير ولما ذكر أنه تعالى يقذف بالحق بصيغة المضارع أخبر أن الحق قد جاء وهو القرآن والوحي وبطل ما سواه من الأديان فلم يبق لغير الإسلام ثبات لا في بدر ولا في عاقبة فلا يخاف على الإسلام ما يبطله.
{ وإن اهتديت } ثم محذوف تقديره فاهتد أي وهو مبتدأ خبره يوحى إلي ربي أي كائن بما يوحي وما مصدرية أي بإيحاء ربي أو موصولة بمعنى الذي ويوحي صلته والضمير محذوف تقديره يوحيه والظاهر أن قوله:
{ ولو ترى إذ فزعوا } أنه وقت البعث وقيام الساعة وعبر بفزعوا وأخذوا وقالوا وحيل بلفظ الماضي لتحقق وقوعه بالخبر الصادق.
وقال ابن عباس والضحاك: هذا في عذاب الدنيا ومفعول قرىء: محذوف أي لو ترى الكفار إذ نزعوا.
{ فلا فوت } أي لا يفوتون الله تعالى ولا مهرب لهم عما يرده بهم.
{ وأخذوا من مكان قريب } أي من مساكنهم والضمير في
{ به } عائد على الله تعالى.
{ وأنى لهم التناوش } قال ابن عباس: الرجوع إلى الدنيا وهذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا مثل حالهم بحال من يريد أن يتناول الشىء من بعد كما يتناوله الآخر من قرب وقرىء: التناوش بالواو وبهمزة بدلها.
{ وقد كفروا } به الضمير في به عائد على ما عاد عليه آمنا به والجملة حالية.
و { من قبل } أي من قبل نزول القرآن وقرىء:
{ ويقذفون } مبنيا للفاعل حكاية حال متقدمة. قال الحسن قولهم: لا جنة ولا نار.
{ بعيد } أي من جهة بعيدة لأن نسبته إلى شىء من ذلك أبعد الأشياء وقرأ مجاهد وأبو حيوة ومحبوب عن أبي عمرو ويقذفون مبنيا للمفعول معناه يؤمنون بالغيب من حيث لا يعلمون ومعناه يجازون على سوء أعمالهم.
{ وحيل } هو مبني للمفعول وقبل البناء كان حالا وهو فعل لا يتعدى وقال الشاعر:
وقد حال مما دون ذلك شاغل
مكان شغاف تبتغيه الأصابع
فعلى هذا يكون المقام مقام الفاعل ضمير المصدر المفهوم من قوله: حيل كأنه قيل: وحيل هو أي الحول والذي يشتهون الرجوع إلى الدنيا قاله ابن عباس.
{ كما فعل بأشياعهم } أي بأشباههم من كفرة الأمم أي حيل بينهم وبين مشتهياتهم ومن قبل يصح أن يكون متعلقا بأشياعهم أي من اتصف بصفاتهم من قبل أي في الزمان الأول ويترجح بأن ما يفعل بجميعهم إنما هو في وقت واحد ويصح أن يكون متعلقا بفعل إذا كانت الحيلولة في الدنيا " والله أعلم ".
[35 - سورة فاطر]
[35.1-28]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * الحمد لله فاطر السموت والأرض } هذه السورة مكية بلا خلاف ولما ذكر تعالى في آخر السورة التي قبلها هلاك المشركين وأنزلهم منازل العذاب تعين على المؤمنين حمده تعالى وشكره لنعمائه ومعنى رسلا بالوحي وغيره من أوامره ولا يريد جمع الملائكة لأنهم ليسوا كلهم رسلا فمن الرسل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام والملائكة المتعاقبون والملائكة المسددون حكام العدل وغيرهم كالملك الذي أرسله الله تعالى إلى الأعمى والأبرص والأقرع وأجنحة جمع جناح وتقدم الكلام على مثنى وثلاث ورباع في النساء.
{ يزيد في الخلق ما يشآء } تقرير لما يقع في النفوس من التعجب والاستغراب من خبر الملائكة أولي الأجنحة أي ليس هذا ببدع في قدرة الله تعالى فإنه يزيد في خلقه ما يشاء.
{ ما يفتح الله } الفتح والإرسال استعارة للإطلاق.
{ فلا مرسل له } مكان لا فاتح له والمعين أي شىء يطلق الله من رحمته أي من نعمه رزق أو مطر أو غير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحاط بعددها والعموم مفهوم من إسم الشرط ومن رحمة لبيان ذلك العام من أي صنف هو وهو مما اجتزىء فيه بالكرة المفردة على الجمع المعرف المطابق في العموم لإسم الشرط وتقديره من الرحمات ومن في موضع الحال أي كائنا من الرحمات ولا يكون في موضع الصفة لأن إسم الشرط لا يوصف والظاهر أن قوله: وما يمسك عام في الرحمة وفي غيرها لأنه لم يذكر له تبين فهو باق على العموم في كل ما يمسك فإن كان تفسيره من رحمة وحذفت لدلالة الأول عليه فيكون تذكير الضمير في فلا مرسل له من بعده حملا على لفظ ما وأنث في فلا ممسك لها حملا على معنى ما لأن معناها الرحمة وقرىء: فلا مرسل لها بتأنيث العجز وهو دليل على أن التفسير هو من رحمة وحذف لدلالة ما قبله عليه.
{ يأيها الناس } خطاب لقريش وهو متجه لكل مؤمن وكافر ثم استفهم على جهة التقرير.
{ هل من خالق غير الله } أي فلا إله إلا الخالق لا ما تعبدون أنتم من الأصنام وقرىء: غير بالخفض نعتا على اللفظ وغير بالرفع نعتا على الموضع ومن زائدة. وخالق مبتدأ وخبره محذوف لدلالة المعنى تقديره لكم.
{ وإن يكذبوك } تقدم الكلام عليه.
{ إن وعد الله حق } شامل لجميع ما وعد من ثواب وعقاب وغير ذلك.
{ فلا تغرنكم } تقدم الكلام عليه في لقمان.
{ إن الشيطان لكم عدو } عداوته سبقت لأبينا آدم عليه السلام.
و { ليكونوا من أصحاب السعير } اللام فيه للتعليل فدعاؤه حزبه ليشتركوا معه في النار ولتظهر ثمرة إغوائه ثم اتبع حزبه بما أعد لهم من العذاب وذكر بعد ذلك ما أعد لأهل الإيمان ليظهر التباين بين الفريقين.
{ أفمن زين له } من مبتدأ موصول بمعنى الذي وخبره محذوف تقديره كمن لم يزين له سوء عمله.
{ فإن الله يضل من يشآء } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات } الحسرة هم النفس على فوات أمر وانتصب حسرات على أنه مفعول من أجله أي فلا تهلك نفسك للحسرات وعليهم متعلق بتذهب كما تقول هلك عليه حبا ومات عليه حزنا وهو بيان للمتحسر عليه ولا يتعلق بحسرات لأنه مصدر فلا يتقدم عليه.
{ والله الذي أرسل الرياح } الآية لما ذكر أشياء من الأمور السماوية وإرسال الملائكة ذكر أشياء من الأمور الأرضية الرياح وإرسالها وفي هذا احتجاج على منكري البعث ودلهم على المثال الذي يعاينوه وهو وإحياء الموتى سيان وفي الحديث
" أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه فقال: هل مررت بوادي أهلك محلا ثم مررت به يهتز خضرا فقالوا: نعم فقال: كذلك يحيي الله الموتى وتلك آيته في خلقه "
والكلم الطيب التوحيد والتحميد وذكر الله ونحو ذلك وصعود الكلم إليه تعالى مجاز في الفاعل وفي المنتهى إليه لأنه تعالى ليس في جهة ولأن الكلم ألفاظ لا توصف بالصعود لأن الصعود إنما يكون من الإجرام وإنما ذلك كناية عن القبول ووصفه بالكمال كما يقال علا كعبه وارتفع شأنه ومنه ترافعوا إلى الحاكم ورفع الأمر إليه وليس هناك علو في الجهة ومكر لازم والسيئات نعت لمصدر محذوف أي المكرات السيئات أو لمضاف إلى المصدر أي أصناف المكر السيئات أو ضمن يمكرون معنى يكتسبون فنصب السيئآت مفعولا به وإذا كانت السيئات نعتا لمصدر أو لمضاف للمصدر فالظاهر أنه عني به مكرات قريش في دار الندوة إذ تذاكروا إحدى ثلاث مكرات وهي المذكورة في الأنفال إثباته أو قتله أو إخراجه.
و { أولئك } إشارة إلى الذين مكروا تلك المكرات.
{ يبور } أي يفسد ويهلك ويكسدون مكر الله تعالى بهم إذ أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم جميعا وحقق فيهم قوله:
ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين
[الأنفال: 30] ومن في من معمر زائدة وسماه بما يؤل إليه وهو الطويل العمر والظاهر أن الضمير في من عمره عائد على معمر لفظا ومعنى.
قال الزمخشري: ويجوز في حكم الإعراب إيقاع إسم الله صفة لإسم الإشارة أو عطف بيان. وربكم خبر لولا أن المعنى يأباه " انتهى ".
أما كونه صفة فلا يجوز لأن الله علم والعلم لا يوصف به وليس إسم جنس كرجل فتتخيل فيه الصفة وأما قوله لولا أن المعنى يأباه المعنى لأنه يكون قد أخبر بأن المشار إليه بتلك الصفات والأفعال المذكورة ربكم أي مالككم ومصلحكم وهذا معنى لائق سائغ والقطمير هو القمع الذي في رأس التمرة وقال مجاهد: لناقة النواة وقيل غير ذلك.
{ ولا ينبئك مثل خبير } الخبير هنا أراد به تعالى نفسه فهو الخبير الصادق الخبر بنا بهذا فلا شك في وقوعه.
{ يأيها الناس أنتم الفقرآء إلى الله } هذه آية موعظة وتذكير وإن جميع الناس محتاجون إلى إحسان الله تعالى وإنعامه في جميع أحوالهم.
{ إن يشأ يذهبكم } تقدم الكلام عليه وعلى ولا تزر وازرة.
{ وإن تدع مثقلة } أي نفس مثقلة يحملها.
{ إلى حملها } أي إلى حمل حملها.
{ لا يحمل منه شيء } أي لا غياث يومئذ لمن استغاث ولا إعانة حتى أن نفسا قد أثقلتها الأوزار لو دعت أن يخفف عنها بعض وزرها لم تجب لذلك وإن كان المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ فالآية قبلها في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه وأنه لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها وهذه في نفي الإغاثة والحمل ما كان على الظهر من الإجرام فاستعير للمعاني كالذنوب ونحوها فيجعل كل محمول متصلا بالظهر كقوله تعالى:
وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم
[الأنعام: 31] كما جعل كل اكتساب منسوبا إلى اليد واسم كان ضمير يعود على المدعو والمفهوم: من قوله: وان تدع.
{ وما يستوي الأعمى والبصير } الآية قال أبو عبد الله الرازي: وترتيب هذه المنفي عنها الإستواء في غاية الفصاحة ذكر الأعمى والبصير مثلا للمؤمن والكافر ثم البصير ولو كان حديد النظر لا يبصر إلا في ضوء فذكر ما هو فيه الكافر من ظلمة الكفر وما هو فيه المؤمن من نور الإيمان ثم ذكر مآلها وهو أن المؤمن بإيمانه في ظل وراحة والكافر بكفره في حر وتعب ثم ذكر مثلا آخر في حق المؤمن والكافر وذلك أن حال المؤمن والكافر فوق حال الأعمى والبصير إذ الأعمى قد يشارك البصير في إدراك ما والكافر غير مدرك إدراكا نافعا فهو كالميت ولذلك أعاد الفعل فقال: وما يستوي الأحياء ولا الأموات كان جعله مقام سؤال وكرر لا فيما كرر لتأكيد المنافاة فالظلمات تنافي النور وتضاده والظل والحرور كذلك والأعمى والبصير ليسا كذلك لأن الشخص الواحد قد يكون بصيرا ثم يعرض له العمى فلا منافاة إلا من حيث الوصف والمنافاة بين الظل والحرور دائمة لأن المراد من الظل عدم الحر والبرد فلما كانت المنافاة أتم أكد بالتكرار وأما الأحياء والأموات من حيث أن الجسم الواحد يكون محلا للحياة فيصير للموت فالمنافاة بينهما إثم من المنافاة بين الأعمى والبصير لأن هذين قد يشتركان في إدراك ما ولا كذلك الحي والميت فالميت يخالف الحي في الحقيقة لا في الوصف على ما تبين في الحكمة الإلهية وقدم الأشرف في مثلين وهو الظل والحي وآخر في مثلين وهما البصير والنور فلا يقال لأجل السجع لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ بل فيه وفي المعنى ثم لا ذكر المثال والمرجع قدم ما يتعلق بالرحمة على ما يتعلق بالغضب كما جاء سبقت رحمتي غضبي فقدم الظل على الحرور ثم ان الكافر المصر بعد البعثة صار أضل من الأعمى وشابه الأموات في عدم إدراك الحق فقال: وما يستوي الأحياء وهم الذين آمنوا أي بما أنزل الله ولا الأموات الذين تليت عليهم الآيات البينات ولم ينتفعوا بها وهؤلاء كانوا بعد إيمان من آمن فأخرهم لوجود حياة المؤمنين قبل ممات الكافرين وأفرد الأعمى والبصير لأنه قابل الجنس بالجنس إذ قد يوجد في أفراد العميان ما يساوي به بعض أفراد البصراء كأعمى عنده من الذكاء ما يساوي به البصير البليد فالتفاوت بين الجنسين مقطوع به لا بين الأفراد وجمعت الظلمات لأن طرق الكفر متعددة وأفرد النور لأن التوحيد والحق واحد والتفاوت بين كل فرد من تلك الأفراد وبين هذا الواحد فقال: الظلمات كلها لا تجد فيهما ما يساوي هذا النور وأما الأحياء والأموات فالتفاوت بينهما أكبر إذ ما ميت يساوي في الإدراك حيا فذكر أن الأحياء لا يساوون الأموات سواء قابلت الجنس بالجنس أم قابلت الفرد بالفرد إنتهى كلامه ثم سلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله:
{ إن الله يسمع من يشآء } أي إسماع هؤلاء منوط بمشيئتنا وكني بالاسماع عن الذي تكون عنده الإجابة للإيمان ولما ذكر أنه ما يستوي الأحياء ولا الأموات قال:
{ ومآ أنت بمسمع من في القبور } أي هؤلاء من عدم إصغائهم إلى سماع الحق بمنزلة من قد ماتوا وأقاموا في قبورهم فكما ان من مات لا يمكن أن يقبل منه قول الحق فكذلك هؤلاء لأنهم أموات القلوب.
{ وإن من أمة } المعنى ان الدعاء إلى الله تعالى لم ينقطع عن كل أمة اما بمباشرة من أنبيائهم وإما بنقل إلى وقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم.
{ وإن يكذبوك } مسلاة له عليه السلام وتقدم الكلام عليه.
{ فكيف كان نكير } توعد لقريش بما جرى لمكذبي رسلهم.
{ ألم تر أن الله أنزل من السمآء مآء } الآية لما قرر تعالى وحدانيته بأدلة قربها وأمثال ضربها أتبعها بأدلة سماوية وأرضية فقال: { ألم تر }. وجدد جمع جدة كدرة ودرر وهو الطريق الواضح المبين وضعه موضع الطرائق والخطوط الواضحة المنفصل بعضها بعضا من بعض. وقال مختلف ألوانها لأن البياض والحمرة تتفاوت بالشدة والضعف فأبيض لا يشبه أبيض وأحمر لا يشبه أحمر وإن اشتركا في القدر المشترك لكنه مشكك والظاهر عطف وغرابيب على حمر عطف ذي لون والظاهر أنه لما ذكر الغربيب وهو الشديد السواد لم يذكر فيه مختلف ألوانه لأنه من حيث جعله شديد السواد وهو البالغ في غاية السواد لم يكن له ألوان بل هذا لون واحد بخلاف البيض والحمر فإنها تختلف والظاهر أن قوله: بيض وحمر ليسا مجموعين في جدة واحدة بل المعنى جدد بيض وجدد حمر وجدد غرابيب ويقال أسود حلكوك وأسود غربيب وسود توكيد الغرابيب.
{ ومن الناس والدوآب } عموم بعد خصوص.
{ والأنعام } خصوص بعد عموم.
{ كذلك } أي كاختلاف الثمرات والجبال فهذا التشبيه من تمام الكلام قبله والوقف عليه حسن.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون من الكلام الثاني يخرج مخرج السبب كأنه قال: كما جاءت القدرة في هذا كله.
{ إنما يخشى الله من عباده العلماء } أي المخلصون لهذه العبر الناظرون فيها " انتهى ".
وهذا الاحتمال لا يصح لأن ما بعد إنما لا يمكن أن يتعلق به المجرور قبلها ولو خرج مخرج السبب لكان التركيب كذلك يخشى الله من عباده أي كذلك الاعتبار والنظر في مخلوقات الله واختلاف ألوانها يخشى الله ولكن التركيب جاء بإنما وهي تقطع هذا المجرور عما بعدها.
[35.29-45]
{ إن الذين يتلون } ظاهره يقرؤون كتاب الله أي يداومون تلاوته ولما ذكر تعالى وصفهم بالخشية وهي عمل القلب ذكر أنهم يتلون كتاب الله وهو عمل اللسان ويقيمون الصلاة وهي عمل الجوارح وينفقون وهو العمل المالي.
{ يرجون } خبر ان وهذا إشارة إلى الإخلاص أي يفعلون تلك الأفعال يقصدون بذلك وجه الله تعالى لا للرياء والسمعة.
{ لن تبور } ولن تكسد ولا يتعذر الربح فيها بل ينفق عند الله تعالى.
{ ليوفيهم } متعلق بيرجون.
{ ثم أورثنا } وثم للمهلة في الاخبار لا في الزمان.
قال ابن عباس: هم هذه الأمة أورثت أمة محمد صلى الله عليه وسلم كل كتاب أنزله الله تعالى.
{ فمنهم ظالم لنفسه } وهو العاصي المسرف والمقتصد متقي الكبائر والسابق المتقي على الإطلاق والظاهر أن الإشارة بذلك إلى إيراث الكتاب واصطفاء هذه الأمة وجنات على هذا مبتدأ ويدخلونها الخبر والظاهر أن الضمير المرفوع في يدخلونها عائد على الأصناف الثلاثة وقرأ عمر رضي الله عنه هذه الآية ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
" سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له والحزن جمع الأحزان من أحزان الدنيا والدين حتى هذا ".
{ إن ربنا لغفور } فيه إشارة إلى دخول الظالم لنفسه الجنة وشكور فيه إشارة إلى السابق وأنه كثير الحسنات والمقامة في الإقامة أي الجنة لأنها دار إقامة دائما لا يرحل عنها.
{ من فضله } من عطائه.
{ لا يمسنا فيها نصب } أي تعب بدن.
{ ولا يمسنا فيها لغوب } أي تعب نفس وهو لازم عن تعب البدن.
{ والذين كفروا لهم نار جهنم } لما ذكر حال المؤمنين ومقرهم ذكر حال الكافرين.
{ لا يقضى عليهم } أي لا يجهز عليهم فيموتوا لأنهم لو ماتوا لبطلت حواسهم فاستراحوا وهو في جواب النفي وهو على أحد معنى النصب فالمعنى انتفاء القضاء عليهم فانتفى مسببه لا يقضي عليهم ولا يموتون.
{ وهم يصطرخون } بني من الصراخ يفتعل وأبدلت من التاء طاء.
{ ربنآ أخرجنا } أي قائلين ربنا أخرجنا منها أي من النار وردنا إلى الدنيا نعمل صالحا قال ابن عباس: نقل لا إله إلا الله.
{ غير الذي كنا نعمل } أي من الشرك.
{ أولم نعمركم } هو استفهام توبيخ وتوقيف وتقرير وما مصدرية ظرفية أي مدة تذكره.
{ خلائف في الأرض } تقدم الكلام عليه والمقت أشد الاحتقار والبغض والغضب والخسار خسار العمر.
{ قل أرأيتم } تقدم الكلام عليه قال الزمخشري: أروني بدل من أرأيتم لأن معنى أرأيتم أخبروني كأنه قال: أخبروني عن هؤلاء الشركاء عن ما استحقوا به الإلهية والشركة أروي أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله أم لهم مع الله تعالى شركة في خلق السماوات أو معهم كتاب من عند الله ينطق بأنهم شركاؤه فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب أو يكون الضمير في آتيناهم للمشركين كقوله:
أم أنزلنا عليهم سلطانا
[الزخرف: 21].
أم آتيناهم كتابا من قبله
[الروم: 35].
{ بل إن يعد الظالمون بعضهم } وهم الرؤساء.
{ بعضا } وهم الأتباع.
{ إلا غرورا } وهو قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله " انتهى " أما قوله: ان أروني بدل من أرأيتم فلا يصح لأنه إذا أبدل مما دخل عليه الاستفهام فلا بد من دخول الأداة على البدل وأيضا فإبدال الجملة من الجملة لم يعهد في لسانهم ثم البدل على نية تكرار العامل ولا يتأتى ذلك هنا لأنه عامل في أرأيتم فيستحيل دخوله على أروني والذي أذهب إليه هنا ان أرأيتم بمعنى أخبروني وهي تطلب مفعولين أحدهما منصوب والآخر مشتمل على الاستفهام كقول العرب أرأيت زيدا ما صنع فالأول هنا شركاءكم. والثاني: ماذا خلقوا، وأروني جملة اعتراضية فيها تأكيد للكلام وتسديد ويحتمل أن يكون ذلك من باب الأعمال لأنه توارد على ماذا خلقوا أرأيتم وأروني لأن أروني قد تعلق عن مفعولها الثاني كما علقت رأي التي لم تدخل عليها همزة النقل عن مفعولها في قولهم: أما ترى أي فرق ها هنا ويكون قد أعمل الثاني على المختار عند البصريين ولما بين تعالى فساد أمر الأصنام ووقف على الحجة في بطلانها عقب بذكر عظمته وقدرته ليبين الشىء بضده وتتأكد حقارة الأصنام بذكر عظمة الله فقال: { إن الله يمسك السموت والأرض أن تزولا } والظاهر أن معناه أن تنتقلا عن أماكنهما وتسقط السماوات عن علوها. وقال الزمخشري: وإن أمسكهما جواب القسم في ولئن زالتا سد مسد الجوابين " انتهى ". يعني أنه دل على الجواب المحذوف وان أخذ كلامه على ظاهره لم يصح لأنه لو سد مسدهما لكان له موضع من الإعراب باعتبار جواب الشرط ولا موضع له من الإعراب باعتبار جواب القسم والشىء الواحد لا يكون معمولا غير معمول ومن في من أحد لتأكيد الاستغراق وفي من بعده لابتداء الغاية أي من ترك إمساكه وان نافية في جواب القسم المحذوف.
{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم } الضمير في وأقسموا لقريش ولما بين إنكارهم للتوحيد بين تكذيبهم للرسل قيل وكانوا يلعنون اليهود والنصارى حيث كذبوا رسلهم وقالوا: لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم فلما بعث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كذبوه.
{ لئن جآءهم } حكاية لمعنى كلامهم لا لفظهم إذ لو كان اللفظ لكان التركيب لئن جاءنا نذير من إحدى الأمم أي من واحدة مهترية من الأمم أو من الأمة التي يقال فيها إحدى الأمم تفضيلا لها على غيرها كما قالوا هو أحد الأحدين وهي إحدى الأحد يريدون التفضيل في الدهاء والعقل بحيث لا نظير له.
{ فلما جآءهم نذير } هو محمد صلى الله عليه وسلم.
{ ما زادهم } أي مجيئه.
{ إلا نفورا } بعدا من الحق وهربا منه وإسناد الزيادة إليه مجاز لأنه هو السبب وإن زادوا أنفسهم نفورا والظاهر أن استكبارا مفعول من أجله أي سبب النفور هو الاستكبار ومكر السيىء معطوف على استكبارا فهو مفعول من أجله أيضا من الحامل لهم على الابتعاد من الحق هو الاستكبار والمكر السيىء هو الخداع الذي يرومونه بالرسول صلى الله عليه وسلم والكيد له واستكبارا بدل من نفورا ومكر السيىء من إضافة الموصوف إلى صفته ولذلك جاء على الأصل.
{ ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } وقرأ حمزة السيىء بإسكان الهمزة أجرى الوصل مجرى الوقف.
{ وما كان الله ليعجزه } أي ليفوته من شىء ومن الاستغراق الأشياء.
{ إنه كان عليما قديرا } فبعلمه تعالى يعلم جميع الأشياء فلا يغيب عن علمه شىء وبقدرته لا يتعذر عليه شىء ثم ذكر تعالى حلمه عن عباده في تعجيل العقوبة فقال:
{ ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا } أي من الشرك وتكذيب الرسل وهو المعنى في الآية التي في النحل وهو قوله بظلمهم وتقدم الكلام عليها في النحل وهناك عليها وهنا على ظهرها والضمير عائد على الأرض إلا أن هناك يدل عليه بسياق الكلام وهنا يمكن أن يعود على ملفوظ به وهو قوله في السماوات ولا في الأرض ولما كانت حاملة لمن عليها استعير لها الظهر كالدابة الحاملة للأثقال ولأنه أيضا هو الظاهر بخلاف باطنها.
{ فإن الله كان بعباده بصيرا } توعد للمكذبين أي فيجازيهم بأعمالهم.
[36 - سورة يس]
[36.1-24]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * يس * والقرآن الحكيم } الآية هذه السورة مكية وقرىء: تنزيل بالنصب على المصدر وبالرفع خبر مبتدأ محذوف أي هو تنزيل.
{ لتنذر } متعلق بتنزيل والظاهر أن قوله أغلالا هي الحقيقة لا استعارة لما أخبر تعالى أنهم لا يؤمنون أخبر عن شىء من أحوالهم في الآخرة إذ دخلوا النار والظاهر عود الضمير في فهي إلى الأغلال لأنها هي المذكورة والمحدث عنها أي هي عريضة تبلغ بحرفها الأذقان والذقن مجتمع اللحيين فيضطر المغلول إلى رفع وجهه إلى السماء وذلك هو الاقماح وقال الفراء: القمح الذي يغض بصره بعد رفع رأسه. وقال الزجاج: يقال أقمح البصير رأسه عن ري وقمح هو وقال أبو عبيدة قمح قموحا رفع رأسه عن الحوض ولم يشرب والجمع قماح. ومنه قول بشر يصف سفينة أخذهم الميد فيها:
ونحن على جوانبها قعود
نغض الطرف كالإبل القماح
{ من بين أيديهم سدا } مبالغة في عدم إيصال الخير إليهم والسد تقدم شرحه وقرىء بضم السين وفتحها فيهما.
{ فأغشيناهم } أي أغشينا أبصارهم جعلنا عليها غشاوة.
{ وسوآء عليهم } تقدم الكلام عليه ولما ذكر تعالى أمر الرسالة وهي أحد الأصول الثلاثة التي يصير بها المكلف مؤمنا ذكر الحشر وهو أحد الأصول الثلاثة والثالث هو التوحيد فقال:
{ إنا نحن نحيي الموتى } أي بعد إماتتهم.
{ ونكتب ما قدموا } كناية عن المجازاة أي ونحصر فعبر عن إحاطة علمه بأعمالهم بالكتابة التي تضبط بها الأشياء.
{ وآثارهم } أي خطاهم إلى المساجد والسير الحسنة والسيئة وما قدموا من النيات الصالحة.
{ وكل شيء } نصب على الاشتغال والإمام المبين اللوح المحفوظ.
{ واضرب لهم مثلا أصحاب القرية } تقدم الكلام على أضرب مع المثل في البقرة والقرية أنطاكية بلا خلاف أي قصة أصحاب القرية.
{ إذ جآءها المرسلون } هم ثلاثة جمعهم في المجيء وإن اختلفوا في زمان المجيء.
{ إذ أرسلنآ إليهم اثنين } الظاهر من أرسلنا أنهم أنبياء أرسلهم الله تعالى ويدل عليه قول المرسل إليهم.
{ مآ أنتم إلا بشر مثلنا } وهذه المحاورة لا تكون إلا مع من أرسله الله تعالى وهو قول ابن عباس وكعب.
{ فكذبوهما } أي دعواهم إلى الله تعالى وأخبرا أنهما رسولا الله فكذبوهما.
{ فعززنا بثالث } أي قوينا وشددنا ويقال تعزز لحم الناقة إذا صلب ويقال للأرض الصلبة العزاز.
{ قالوا إنا تطيرنا بكم } أي تشاء منا بكم قال مقاتل: احتبس عليهم المطر وقيل أسرع فيهم الجذام عند تكذيبهم الرسل.
{ لنرجمنكم } أي بالحجارة.
و { عذاب أليم } هو الحريق.
{ قالوا طائركم معكم } أي حظكم وما صار لكم من خير أو شر معكم أي من أفعالكم أي ليس هو من أجلنا بل بكفركم.
{ أئن ذكرتم } ثم محذوف تقديره تطيرتم.
{ وجآء من أقصى المدينة رجل يسعى } إسمه حبيب قاله ابن عباس قيل وهو ابن إسرائيل وكان قصارا وقيل غير ذلك ومن أقصى المدينة أي من أبعد مواضعها وقيل كان مجذوما عبد الأصنام سبعين سنة يدعوهم لكشف ضره فلما دعاه الرسل إلى عبادة الله تعالى قال هل من آية قال: نعم ندعو ربنا القادر يفرج عنك ما بك فقال: إن هذا لعجيب سبعون سنة ادعوا هذه الآلهة فلم تستطع يفرجه ربكم في غداة واحدة قالوا: نعم ربنا على ما يشاء قدير وهذه لا تنفع شيئا ولا تضر فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به كأن لم يكن به بأس فأقبل على التكسب فإذا أمسى تصدق بكسبه نصف لعياله ونصف يطعمه فلما هم قومه بقتل الرسل جاءهم فقال: يا قوم اتبعوا المرسلين وحبيب هذا ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم وبينهما ستمائة سنة كما آمن به تبع الأكبر وورقة بن نوفل وغيرهما ولم يؤمن بنبي غيره أحد إلا بعد ظهوره ومعنى يسعى يمشي على قدميه.
{ قال يقوم اتبعوا المرسلين } الظاهر أنه لا يقول ذلك إلا بعد تقدم إيمانه كما سبق في قصته وقيل جاء يسعى وسمع قولهم وفهمه فلما فهمه روي أنه تعقب أمرهم وسبره بأن قال لهم أتطلبون أجرا على دعوتكم هذه قالوا: لا فدعا عند ذلك قومه إلى اتباعهم والإيمان بهم واحتج عليم بقوله:
{ اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون } أي وهم على هدى من الله تعالى أمرهم أولا باتباع المرسلين أي هم رسل الله إليكم فاتبعوهم ثم أمرهم ثانيا بجملة جامعة في الترغيب في كونهم لا ينقص منهم من حطام الدنيا شىء وفي كونهم يهتدون بهداهم فيشتملون على خير الدنيا وخير الآخرة وقد أجاز بعض النحويين في من ان تكون بدلا من المرسلين ظهر فيه العامل كما ظهر إذا كان حرف جر كقوله تعالى:
لجعلنا لمن يكفر بالرحمن
[الزخرف: 33] والجمهور لا يعربون ما صرح فيه بالعامل الرافع والناصب بدلا بل يجعلون ذلك مخصوصا بحرف الجر وإذا ذكر الرافع والناصب سموا ذلك بالتتبيع لا بالبدل.
{ وما لي لا أعبد الذي فطرني } موضع وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ولذلك قال:
{ وإليه ترجعون } ولولا أنه قصد ذلك لقال وإليه أرجع ثم أتبع الكلام كذلك مخاطبا لنفسه فقال:
{ أأتخذ من دونه آلهة } قاصرة عن كل شىء لا تشفع ولا تضر ولا تنفع فإن أرداكم الله بضر وشفعت لكم لم تنفع.
{ شفاعتهم } ولم يقدروا على إنقاذكم فبدأ أولا بانتفاء الجاه في كون شفاعتهم لا تنفع ثم ثانيا بانتفاء الإنقاذ عنه إذ هو نتيجة ثم صرح بإيمانه وصدع بالحق فقال مخاطبا لقومه.
[36.25-70]
{ إني آمنت بربكم فاسمعون قيل ادخل الجنة قال يليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين ومآ أنزلنا على قومه من بعده من جند من السمآء وما كنا منزلين إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون يحسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون وإن كل لما جميع لدينا محضرون وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون وآية لهم اليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لهآ أن تدرك القمر ولا اليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون وخلقنا لهم من مثله ما يركبون }.
{ إني آمنت بربكم } أي الذي كفرتم به.
{ فاسمعون } أي اسمعوا قولي وأطيعون. والظاهر أن الخطاب هو لقومه والأمر على جهة والمبالغة والتنبيه.
{ قيل ادخل الجنة } ظاهره أنه أمر حقيقي بدخول الجنة وقت البعث.
{ ومآ أنزلنا على قومه من بعده } الآية أخبر تعالى بإهلاك قوم حبيب بصيحة واحدة صاح بهم جبريل عليه السلام وأخبر تعالى أنه لم ينزل عليهم لإهلاكهم.
{ جند من السمآء } كالحجارة والريح وغير ذلك وقوله من بعده يدل على ابتداء الغاية أي لم يرسل إليهم رسولا ولا عابتهم بعد بقتله بل عاجلهم بالهلاك والظاهر أن ما في قوله:
{ وما كنا منزلين } نافية فالمعنى قريب من معنى الجملة قبلها أي وما كان يصح في حكمنا أن ننزل في إهلاكنا جندا من السماء.
{ صيحة واحدة } كان ناقصة واسمها مضمر أي إن كانت الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة.
{ فإذا هم خامدون } أي فاجأهم الخمود أثر الصيحة لم يتأخر وكني بالخمود عن سكونهم بعد حياتهم كنار خمدت بعد توقد ونداء الحسرة على معنى هذا وقت حضورك وظهورك هذا تقدير نداء مثل هذا عند سيبويه وهو منادى منكور قال ابن عطية: وكم هنا خبرية وانهم بدل منها والرؤية رؤية البصر " انتهى ".
هذا لا يصح لأنها إذا كانت خبرية فهي في موضع نصب بأهلكنا ولا يسوغ فيها إلا ذلك وإذا كان كذلك امتنع أن تكون بدلا منها لأن البدل على نية تكرار العامل ولو سلطت أهلكنا على أنهم لم يصح ألا ترى أنك لو قلت أهلكنا انتفاء رجوعهم أو أهلكنا كونهم لا يرجعون لم يكن كلاما لكن ابن عطية توهم أن يروا مفعوله كم نتوهم أن يروا مفعوله كم فتوهم ان قوله انهم لا يرجعون بدل لأنه يسوغ أن يتسلط عليه فيقول الم يروا أنهم لا يرجعون هذا وأمثاله دليل على ضعفه في علم العربية وقرىء: لما بالتشديد والتخفيف فمن شدد جعلها بمعنى الا وان نافية أي ما كل أي كلهم إلا.
{ جميع لدينا محضرون } أي محشور ولا تستعمل لما بمعنى إلا في الأماكن المسموعة عن العرب فلا تقع في الاستثناء لا تقول قام القوم لما زيدا بمعنى إلا زيدا لأن هذا التركيب لم يسمع من العرب ومن خفف لما جعل أن المخففة من الثقيلة وكل مبتدأ وما زائدة واللام في لما هي الفارقة بين ان المخففة من الشديدة وبين ان النافية وجميع خبر عن كل هذا على مذهب البصريين وأما الكوفيون فإن عندهم نافية واللام بمعنى إلا وما زائدة والضمير في لهم عائد على كفار قريش ومن يجري مجراهم في إنكار الحشر.
و { أحييناها } إستئناف بيان لكون الأرض الميتة آية وكذلك نسلخ قال الزمخشري: ويجوز أن توصف الأرض والليل بالفعل لأنه أريد بهما الجنسان مطلقين لا أرض وليل بأعيانهما فعوملا معاملة النكرات في وصفهما بالأفعال ونحوه.
(ولقد أمر على اللئيم يسبني) انتهى هذا مدم لما استقر عند أئمة النحو من أن النكرة لا تنعت إلا بالنكرة والمعرفة لا تنعت إلا بالمعرفة ولا دليل لمن ذهب إلى ذلك واما يسبني فحال أي سابا وقد تبع الزمخشري ابن مالك على ذلك في التسهيل من تأليفه والضمير في من ثمره عائد على الماء لدلالة العيون عليه أو على حذف مضاف أي من ماء العيون.
{ وما عملته أيديهم } ان كانت موصولة فتكون معطوفة على ثمره تقديره ومن الذي والضمير في عملت محذوف يعود على تقديره عملته وإن كانت ما نافية فالضمير يعود على الثمر.
{ الأزواج } الأنواع من جميع الأشياء.
{ مما تنبت الأرض } وكل صنف زوج مختلف لونا وطعما وشكلا.
{ ومما لا يعلمون } أي أنواعا مما لا يعلمون أعلموا بوجوده أو لم يعلموا ولما ذكر تعالى الإستدلال بأحوال الأرض وهي المكان الكلي ذكر الإستدلال بالليل والنهار وهو الزمان الكلي وبينهما مناسبة لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر والزمان لا تستغني عنه الاعراض ونسلخ معناه نكشط ونقشر وهو استعارة لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل ومظلمون داخلون في الظلام ومستقر الشمس بين يدي العرش تسجد فيه كل ليلة بعد غروبها كما جاء في حديث أبي ذر
" يقال لها اطلعي من حيث طلعت فإذا كان يوم طلوعها من مغربها يقال لها اطلعي من حيث غربت فلذلك حين لا ينفع نفسا ايمانها "
وقرىء:
{ والقمر } بالرفع على الابتداء وبالنصب على الاشتغال.
و { قدرناه } على حذف مضاف أي قدرنا سيره.
و { منازل } ظرف أي في منازل وهذه المنازل معروفة عند العرب وهي ثمانية وعشرون منزلا ينزل القمر كل ليلة في واحد منها لا يتخطاه ولا يتقاصر عنه على تقدير مستو لا يتفاوت يسير فيها من ليلة المستهل إلى الثامنة والعشرين ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذ نقص الشهر وهذه المنازل هي مواقع النجوم التي نسبت إليها العرب الإنواء المستمطرة وهي السرطان إلخ.
فإذا كان في آخر منازلة دق واستقوس وأصفر فيشبه العرجون القديم.
{ لا الشمس ينبغي لهآ أن تدرك القمر } ينبغي هنا مستعملة فيما لا يمكن خلافه أي لم يجعل لها قدرة على ذلك وهذا الإدراك المنفي هو أن الله تعالى جعل لكل واحد من الليل والنهار وآيتيهما قسما من الزمان وضرب له حدا معلوما ودبر أمرهما على التعاقب قال ابن عباس: إذا طلعت الشمس لم يكن للقمر ضوء وإذا طلع القمر لم يكن للشمس ضوء شىء واحد فالمعنى أنه تعالى حمل ذريات هؤلاء وهم آباؤهم الأقدمون في سفينة نوح عليه السلام.
{ المشحون } المملوء.
{ وخلقنا لهم من مثله ما يركبون } يعني الإبل والخيل والبغال والحمير والممثالة في أنه مركوب مبلغ للأوطان فقط والظاهر أن قوله:
{ وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشآء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون قالوا يويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون هم وأزواجهم في ظلال على الأرآئك متكئون لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون سلام قولا من رب رحيم وامتازوا اليوم أيها المجرمون ألم أعهد إليكم يبني ءادم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون هذه جهنم التي كنتم توعدون اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون اليوم نختم على أفواههم وتكلمنآ أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون ولو نشآء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون ولو نشآء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين }.
{ فلا صريخ لهم } أي لا مغيث لهؤلاء الذين شاء الله إغراقهم قال الزمخشري: فلا صريخ لهم أي فلا إغاثة " انتهى ". كأنه جعله مصدرا من أفعل ويحتاج إلى نقل أن صريخا يكون مصدرا بمعنى إصراخ.
{ ولا هم ينقذون } أي ينجون من الموت بالغرق نفي ولا الصريخ وهو خاص ثم نفى ثانيا إنقاذهم بصريخ أو غيره وانتصب رحمة على الاستثناء المفرع للمفعول من أجله أي لرحمة منا والظاهر أن رحمة ومتاعا إلى حين تكون للذين ينقدون فلا يفيد الدوام بل ينقذه الله رحمة له ويمتعه إلى حين ثم يميته.
{ وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم } الآية الضمير في لهم لقريش وما بين أيديكم أي من عذاب الأمم قبلكم وما خلفكم عذاب الآخرة.
{ وما تأتيهم من آية } أي من دأبهم الاعراض عن كل آية تأتيهم.
{ وإذا قيل لهم أنفقوا } لما أسلم حواشي الكفار من أقربائهم ومواليهم من المستضعفين قطعوا عنهم ما كانوا يواسونهم به وكان ذلك بمكة اولا قبل نزول آيات القتال فندبهم المؤمنون إلى صلة قراباتهم فقالوا:
{ أنطعم من لو يشآء الله أطعمه } وجواب لو قوله أطعمه وورود الموجب بغير لام فصيح ومنه أن لو نشاء أصبناهم لو نشاء جعلناه أجاجا والأكثر مجيئه باللام والتصريح بالوصفين من الكفر والإيمان دليل على أن المقول لهم هم الكافرون والقائل لهم هم المؤمنون وإن كل وصف حامل صاحبه على ما صدر منه:
إذ كل إناء بالذي فيه يرشح
ولما كانت هذه الصيحة لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها وهذه هي النفخة الأولى تأخذهم فيهلكون وهم يتخاصمون في معاملاتهم وأسواقهم في أماكنهم من غير إمهال لتوصية ولا رجوع إلى أهل وقرىء: يخصمون بكسر الخاء وشد الصاد.
وقرئ: يخصمون اتباعا لحركة الخاء ويخصمون بفتح الخاء وكسر الصاد وفي هذه القراءات هو مضارع خصم وكان أصله اختصم وقرئ: بإسكان الخاء وتحفيف الصاد وهو مضارع خصم.
و { من الأجداث } أي من القبور.
{ إلى ربهم } إلى جزاء ربهم.
{ ينسلون } أي يسرعون.
{ قالوا يويلنا } الظاهر أن هذا ابتداء كلام فقيل من الله تعالى على سبيل التوبيخ والتوقيف على إنكارهم لما رأوا البعث الذي كانوا يكذبون به في الدنيا قالوا ذلك والاستفهام بمن سؤال عن الذي بعثهم وتضمن قوله:
{ هذا ما وعد الرحمن } ذكر الباعث أي الرحمن الذي وعدكموه وما يجوز أن تكون مصدرية على تسمية الموعود المصدوق فيه بالوعد والصدق وبمعنى الذي أي هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون.
{ إن أصحاب الجنة } الآية، لما ذكر أهوال يوم القيامة أعقب ذلك بحال السعداء والأشقياء والظاهر أن الشغل هو النعيم الذي قد شغلهم عن كل ما يخطر بالبال.
{ هم } مبتدأ.
{ وأزواجهم } معطوف عليه.
و { في ظلال } الخبر ويجوز أن يكون هم تأكيدا للضمير المستكن في فاكهون وأزواجهم معطوف عليه وفي ظلال في موضع الحال.
{ على الأرآئك } أي الأسرة.
{ متكئون } صفة لفاكهون وعلى الأرائك متعلق به والأرائك جمع أريكة وهي الأسرة ويدعون مضارع ادعى وهو افتعل من دعا ومعناه ولهم ما يتمنون.
قال أبو عبيدة العرب: تقول ادع على ما شئت بمعنى تمن على.
{ سلام } قال ابن عباس: الملائكة يدخلون عليهم بالتحية من رب العالمين.
{ وامتازوا اليوم } أي انفردوا عن المؤمنين لأن المحشر جمع البر والفاجر فأمر المجرمون أن يكونوا على حدة من المؤمنين والظاهر أن ثم قولا محذوفا لما ذكر ما يقال للمؤمنين في قوله سلام قيل للمجرمين امتازوا ولما امتثلوا ما أمروا به قال لهم على جهة التوبيخ والتقريع.
{ ألم أعهد إليكم } وقفهم على عهده إليهم ومخالفتهم إياه وقرىء: جبلا بكسرتين وتخفيف اللام وقرىء: بكسر الجيم والباء وتشديد اللام وقرىء: جبلا بضم الجيم وإسكان الباء وقرىء: بكسر الجيم وفتح الباء وتخفيف اللام والجبل الأمة العظيمة.
وقال الضحاك: أقله عشرة آلاف خاطب تعالى الكفار بما فعل معهم الشيطان تقريعا لهم.
{ اليوم نختم على أفواههم } في الحديث
" يقول العبد يوم القيامة إني لا أجيز علي إلا شاهدا من نفسي فيختم علي فيه ويقال لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل "
وقال ابن عباس: أراد أعين البصائر والمعنى ولو نشاء لختمنا عليهم بالكفر فلا يهتدي منهم أحدا أبدا والطمس إذهاب الشىء وأثره جملة متى كأنه لم يوجد فإن أريد بألا تخفي الحقيقة فالظاهر أنه يطمس بمعنى يمسخ حقيقة وقرأ عيسى فاستبقوا على الأمر وهو على إضمار القول أي فيقال لهم استبقوا الصراط وهو أمر على سبيل التعجيز إذ لا يمكنهم الاستباق مع طمس الأعين.
{ فأنى يبصرون } أي كيف يبصر من طمس على عينه ولما ذكر تعالى الطمس والمسخ على تقدير المشيئة ذكر تعالى دليلا على باهر قدرته في تنكيس المعمر وإن ذلك لا يفعله إلا هو تعالى وتنكيسه قبله وجعله على عكس ما خلقه أولا وهو أنه خلقه على ضعف في جسد وخلو من عقل وعلم ثم جعله يتزايد وينتقل من حال إلى حال إلى أن بلغ أشده فإذا انتهى نكسه في الخلق فتناقص في حال شيخوخته إلى الحال الأول وهي المنشأة.
{ وما علمناه الشعر } الضمير في علمناه للرسول عليه السلام كانوا يقولون فيه شاعر وكان صلى الله عليه وسلم لا يقول الشعر وإذا أنشد بيتا أحرز المعنى دون الوزن.
{ وما ينبغي له } أي ولا يمكن له ولا يصح ولا يناسب لأنه صلى الله عليه وسلم في طريق جد محض والشعر أكثره في طريق هزل وتحسين.
[36.71-83]
{ أولم يروا أنا خلقنا } لما كانت الأشياء المصنوعة لا يباشرها البشر إلا باليد عبر لهم بما يقرب من إفهامهم بقوله: مما عملته أيدينا أي مما تولينا عمله ولا يمكن لغيرنا أن يعمله فبقدرتنا وإرادتنا برزت هذه الأشياء لم يشركنا فيها أحد والباري سبحانه وتعالى منزه عن اليد التي هي الجارحة وعن كل ما اقتضى التشبيه بالمحدثات. ثم عنفهم واستجهلهم في اتخاذهم آلهة لطلب الاستنصار.
{ لا يستطيعون } أي الآلهة نصر فتخذيهم وهذا هو الظاهر كما اتخذوهم آلهة للاستنصار بهم رد تعالى عليهم بأنهم ليست لهم قدرة على نصرهم والظاهر أن الضمير في وهم عائد على ما هو الظاهر في لا يستطيعون أي والآلهة للكفار جند محضرون في الآخرة عن الحساب على جهة التوبيخ والنقمة وسماهم جندا إذ هم معدون للنقمة من عابديهم وللتوبيخ ثم آنس نبيه عليه السلام بقوله:
{ فلا يحزنك قولهم } أي لا يهمنك تكذيبهم واذاهم وجفاؤهم وتوعد الكفار بقوله:
{ إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون } فنجازيهم على ذلك.
{ أولم ير الإنسان } قبح تعالى إنكار الكفرة البعث حيث قرر أن عنصره الذي خلقه منه هو نطفة من ماء مهين خارج من مخرج النجاسة أفضى به مهانة أصله إلى أن تطور تطورا وصار ذا تمييز ينكر قدرة الله تعالى ويقول من يحيي الميت بعدما رم مع علمه أنه منشأ من موات وقائل ذلك العاصي بن وائل وقيل غيره
" وقد كان لأبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مراجعات ومقامات جاء بالعظم الرميم بمكة ففتته في وجهه الكريم وقال من يحيي هذا يا محمد فقال عليه السلام الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم ثم نزلت الآية وأبي هذا قتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده الكريمة بالحربة فخرجت من عنقه فمات بها ".
{ الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا } ذكر ما هو أغرب من خلق الإنسان من نطفة وهو إبراز الشىء من ضده وذلك أبدع شىء وهو انقداح النار من الشجر الأخضر ألا ترى أن الماء يطفىء النار ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء والإعراب توري النار من الشجر الأخضر وأكثرها من المرخ والعفار وفي أمثالهم في كل شجر نار واستحجر المرخ والعفار يقطع الرجل منها غصنين مثل السواكين وهما أخضران يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهو أنثى فتنقدح النار بإذن الله تعالى. وعن ابن عباس ليس شجر إلا وفيه نار إلا العناب ثم ذكر ما هو أبدع وأغرب من خلق الإنسان من نطفة ومن إعادة الموتى وهو إنشاء هذه المخلوقات العظيمة الغريبة من صرف العدم إلى الوجود فقال:
{ أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم } قال الزمخشري: مثلهم يحتمل معنيين أن يخلق مثلهم في الصغر والغماءة بالإضافة إلى السماوات والأرض أو أن يعيدهم لأن المعاد مثل المبتدأ أو ليس به " انتهى " الذي نقوله ان المعاد هو عين المبتدأ أو لو كان مثله لم يسم ذلك إعادة بل يكون إنشاء مستأنفا.
{ إنمآ أمره } تقدم الكلام عليه.
{ فسبحان } تنزيه عام له تعالى عن جميع النقائص والمعنى أنه متصرف فيه على ما أراد وقضى.
{ ملكوت } ملك.
{ كل شيء وإليه ترجعون } أي إلى جزائه ترجعون.
[37 - سورة الصافات]
[37.1-34]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والصافات صفا } الآية هذه السورة مكية ومناسبة أولها لآخر يس أنه تعالى لما ذكر المعاد وقدرته على إحياء الموتى وأنه هو منشئهم وإذا تعلقت إرادته بشىء كان ذكر تعالى وحدانيته إذ لا يتم ما تعلقت به الإرادة وجودا وعدما إلا بكون المريد واحدا وأقسم تعالى بأشياء من مخلوقاته والصافات.
قال ابن مسعود: هم الملائكة تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفا.
{ فالزاجرات } قال مجاهد: الملائكة تزجر السحاب وغيرها من مخلوقات الله تعالى.
{ فالتليت } القارئات قال مجاهد: الملائكة تتلو ذكره وذكر المشارق لأنها مطالع الأنوار والأبصار بها أللف وذكرها يغني عن ذكر المغارب إذ ذاك مفهوم من المشارق والمشارق ثلاثمائة وستون مشرقا وكذلك المغارب تشرق الشمس كل يوم في مشرق منها وتغرب في مغرب ولا تطلع ولا تفرق في واحد يومين وقرأ الجمهور بزينة الكواكب بالإضافة فاحتمل المصدر مضافا للفاعل أي بأن زانت السماء الكواكب أو مضافا للمفعول أي بأن زين الله الكواكب وقرىء: بزينة منونا الكواكب بالخفض بدلا من زينة وقرىء: بزينة منونا الكواكب بالنصب فاحتمل أن تكون بزينة مصدرا والكواكب مفعولا به واحتمل أن تكون الكواكب بدلا من السماء أي زينا كواكب السماء.
{ وحفظا } مصدر منصوب بإضمار فعل تقديره وحفظناها حفظا.
{ مارد } إسم فاعل وفي النساء مريدا للمبالغة وموافقة الفواصل هناك.
{ لا يسمعون إلى الملإ الأعلى } كلام منقطع اقتصاصا لما عليه حال المسترقة للسمع وأنهم لا يقدرون أن يتسمعوا أو يسمعون وهم مقذوفون بالشهب مبعدون عن ذلك إلا من أمهل حتى خطف الخطفة واسترق استراقة فعندها تعاجله الملائكة بالشهاب الثاقب وقرىء: لا يسمعون مضارع سمع وتعدى بإلى ضمن معنى لا ينتهون بالسمع إلى الملأ وقرىء: يسمعون مضارع تسمع أرادوا إدغام التاء في السين وسكنوا التاء وأبدلوها سينا كما أبدلوها في الناس فقالوا النات واجتلبوا همزة الوصل لأنه لا يمكن الإدغام إلا بسكون التاء فصار إسمع وصار المضارع يسمع بإدغام التاء في السين.
{ ويقذفون } يرجمون.
{ من كل جانب } جهة يصعدون إلى السماء منها والمرجوم بها هي التي يراها الناس تنقض وليست بالكواكب الجارية في السماء لأن تلك لا ترى حركتها وهذه الراجمة ترى حركتها لقربها ودحورا مصدر في موضع الحال أي مطرودين والواصب الدائم والثاقب هو النافذ بضوئه وشعاعه المنير.
{ فاستفتهم أهم أشد خلقا } الاستفتاء نوع من السؤال والهمزة في أهم وإن خرجت إلى معنى التقرير فهي في الأصل لمعنى الاستفهام أي فاستخبرهم والضمير لمشركي مكة وقيل نزلت في أبي الأشد بن كلدة وكني بذلك لشدة بطشه وقوته وعادل في هذا الاستفهام التقريري في الأشدية بينهم وبين ما خلق من غيرهم من الأمم من الجن والملائكة والأفلاك والأرضين.
{ من طين لازب } اللازب اللازم ما جاوره واللاصق به.
{ بل عجبت } خطاب للرسول عليه الصلاة والسلام وقرىء: عجبت وعجبت والظاهر أن ضمير المتكلم هو لله تعالى والعجب لا يجوز على الله تعالى.
{ ويسخرون }
" روي أن ركانة رجلا من المشركين من أهل مكة لقيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبل خال يرعى غنما له وكان من أقوى الناس فقال له: يا ركانة أرأيت أن صرعتك أتؤمن بالله. قال: نعم فصرعه صلى الله عليه وسلم ثلاثا ثم عرض عليه آيات من دعاء شجرة وإقبالها فلم يؤمن وجاء إلى أهل مكة فقال يا بني هاشم ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فنزلت فيه وفي نظرائه ".
{ وإذا رأوا آية } الآية، قال الزمخشري: أو آباؤنا معطوف على محل ان واسمها أو على الضمير في مبعوثون والذي جوز العطف عليه الفصل بهمزة الاستفهام والمعنى أيبعث أيضا آباؤنا على زيادة الاستبعاد يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد وأبطل " انتهى ".
أما قوله معطوف على محل ان واسمها فمذهب سيبويه خلافه لأن قولك أن زيدا قائم وعمرو مرفوع على الابتداء وخبره محذوف وأما قوله أو على الضمير في مبعوثون الخ فلا يجوز عطفه على الضمير لأن همزة الاستفهام لا تدخل إلا على الجمل لا على المفرد لأنه إذا عطف على المفرد كان الفعل عاملا في المفرد بوساطة حرف العطف وهمزة الاستفهام لا يعمل ما قبلها فيما بعدها وقوله أو آباؤنا مبتدأ خبره محذوف تقديره مبعوثون ويدل عليه ما قبله فإذا قلت أقام زيد أو عمر وفعمر ومبتدأ محذوف الخبر واستفهامهم تضمن إنكارا واستبعادا فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم بنعم.
{ وأنتم داخرون } أي صاغرون وهي جملة حالية العامل فيها محذوف تقديره نعم تبعثون وزادهم في الجواب ان بعثهم وهم ملتبسون بالصغار والذل وهي كناية عن البعثة أي فإنما بعثتهم زجرة أي صيحة وهي النفخة الثانية لما كانت بعثتهم ناشئة عن الزجرة جعلت إياها مجازا.
{ فإذا هم ينظرون } أي ينظرون ما يفعل بهم وما يؤمرون به والظاهر أن قوله وقالوا: يا ويلنا من كلام بعض الكفار لبعض إلى آخر الجملتين أقروا بأنه يوم الجزاء وأنه يوم الفصل وخاطب به بعضهم بعضا ويوم الدين يوم الجزاء والمعاوضة ويوم الفصل يوم الفرق بين فرق الهدى وفرق الضلال.
{ الذي كنتم به تكذبون } توبيخ لهم وتقريع.
{ احشروا الذين ظلموا وأزواجهم } الآية، هو خطاب من الله للملائكة أو خطاب الملائكة بعضهم لبعض أي اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات قاله ابن عباس: فاهدوهم أي عرفوهم وقودوهم إلى طريق النار حتى يسلكوها والجحيم طبقة من طبقات جهنم.
{ وقفوهم } وقوف توبيخ لهم.
{ إنهم مسئولون } قال الجمهور عن أعمالهم وفي الحديث
" لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن خمس شبابه فيما أبلاه وعمره فيما أفناه وعن ماله كيف اكتسبه وفيما أنفقه وعن ما عمل فيما علم ".
{ ما لكم لا تناصرون } جواب أبي جهل حين قال في بدر نحن جميع منتصر.
{ بل هم اليوم مستسلمون } أي قد أسلم بعضهم بعضا وخذله عن عجز فكل واحد مستسلم غير منتصر.
{ وأقبل بعضهم على بعض } هم جن وإنس وتساؤلهم على معنى التقريع والندم والسخط.
{ قالوا } أي قالت الإنس للجن أو ضعفة الإنس الكفرة لكبرائهم وقادتهم واليمين الجارحة وليست مرادة هنا فقيل استعيرت لجهة الخير أو للشدة والقوة.
{ فحق علينا قول ربنآ } أي لزمنا قول ربنا أي وعيده لنا بالعذاب والظاهر أن قوله: إنا لذائقون اخبار منهم انهم ذائقون العذاب جميعهم الرؤساء والأتباع.
{ فأغويناكم } دعوناكم إلى الغي وكانت فيكم قابلية له فغويتم.
{ إنا كنا غاوين } فأردنا أن تشاركونا في الغي.
{ فإنهم يومئذ } أي يوم إذ يتساءلون ويتراجعون في القول وهذا اخبار منه تعالى أنهم كما اشتركوا في الغي اشتركوا فيما ترتب عليه من العذاب.
{ إنا كذلك } أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بكل مجرم فيترتب على إجرامه عذابه ثم أخبر عنهم بأكبر إجرامهم وهو الشرك بالله تعالى واستكبارهم عن توحيده وإفراده بالألوهية ثم ذكر عنهم ما قدحوا به في الرسول صلى الله عليه وسلم وهو نسبته إلى الشعر وغير ذلك ثم أضرب تعالى عن كلامهم وأخبر بأنه عليه السلام جاء بالحق وهو الثابت الذي لا يلحقه إضمحلال فليس ما جاء به شعرا بل هو الحق الذي لا شك فيه ثم أخبر أنه صدق من تقدمه من المرسلين إذ هو عليه السلام وهم على طريقة واحدة في دعوى الأمم الضالة إلى التوحيد وترك عبادة غير الله تعالى.
[37.35-77]
{ إلا عباد الله المخلصين } إستثناء منقطع لما ذكر شيئا من أحوال الكفار وعذابهم ذكر شيئا من أحوال المؤمنين ونعيمهم والمخلصين صفة مدح ووصف رزق بمعلوم أي عندهم.
{ فواكه } بدل من رزق وهو ما يتلذذ به ولا يتقوت لحفظ الصحة ذكر أولا الرزق وهو ما تتلذذ به الأجسام وثانيا الاكرام وهو ما تتلذذ به النفوس ثم ذكر المحل الذي هم فيه وهو جنات النعيم ثم أشرف المحل وهو السرر ثم لذة التآنس بأن بعضهم يقابل بعضا وهو أتم السرور وآنسه ثم المشروب وانهم لا يتناولون ذلك بأنفسهم.
{ يطاف عليهم } بالكؤوس ثم وصف ما يطاف عليهم به من الطيب وانتفاء المفاسد ثم ذكر تمام اللذة الجسمانية وختم بها كما بدأ باللذة الجسمانية من الرزق وهي أبلغ الملاذ وهو التآنس بالنساء والتقابل ان لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض وفي الحديث
" أنه في أحيان ترفع عنهم الستور فينظر بعضهم إلى بعض "
والكأس ما كان من الزجاج فيه خمر أو نحوه من الأنبذة ولا يسمى كاسا إلا وفيه خمر وقد يسمى الخمر كأسا تسمية للشىء بمحله قال الشاعر:
وكأس شربت على لذة
وأخرى تداويت منها بها
وقال ابن عباس: كل كأس في القرآن فهو خمر.
{ من معين } من شراب معين أي من نهر معين وهو الجاري على وجه الأرض كما يجري الماء ومعين إسم فاعل من معن بضم العين كشريف من شرف.
{ بيضآء } للكاس أو للخمر وقال الحسن: خمر الجنة أشد بياضا من اللبن ولذة صفة بالمصدر على سبيل المبالغة أو على حذف أي ذات لذة أو على تأنيث لذ بمعنى لذيذ.
{ لا فيها غول } قال ابن عباس وغيره: هو صداع الرأس.
{ ولا هم عنها ينزفون } يقال نزفت الشارب الخمر وأنزف هو أي ذهب عقله من السكر فهو نزيف ومنزوف وقرىء: ينزفون بفتح الزاي من نزفته الخمر وبكسر الزاي وضم الياء مضارع أنزف.
قال أبو حيان: قال سيدي ووالدي: قرأت على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير رحمه الله في قصيدة علقمة بن عبدة قوله:
تشفى الصداع ولا يؤذيك طالبها
ولا يخالطها في الرأس تدويم
فقال لي هذه صفة خمر الجنة لا خمر الدنيا.
{ قاصرات الطرف } قصرن الطرف على أزواجهن لا يمتد طرفهن إلى أجنبي كقوله تعالى
عربا أترابا
[الواقعة: 37] وقال الشاعر:
من القاصرات الطرف لو دب محول
من الذر فوق الاتب منها لأثرا
والمحول النملة التي مضى عليها من السنين حول والأتب القميص والعين جمع عيناء وهي الواسعة العين في جمال:
{ كأنهن بيض مكنون } شبههن ببيض النعام المكنون في عشه وهو الأدحية ولونها بياض به صفرة حسنة وبها تشبه النساء فيقال فيهن بيضات الخدور.
ومنه قول امرىء القيس:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها
تمتعت من لهو بها غير معجل
كبكر مغاناة البياض بصفرة
غذاها نمير الماء غير المحلل
وتساؤلهم في الجنة تساؤل راحة وتنعم يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا والإيمان وثمرته.
{ فأقبل } معطوف على يطاف عليهم والمعنى يشربون فيتحدثون على الشراب كعادة الشرب في الدنيا قال الشاعر:
وما بقيت من اللذات إلا
أحاديث الكرام على المدام
وجيء به ماضيا لصدق الاخبار به فكأنه قد وقع ثم حكى تعالى عن بعضهم ما حكى يتذكر بذلك نعمه عليهم حيث هداه إلى الإيمان واعتقاد وقوع البعث والثواب والعقاب وهو مثال للتحفظ من قرناء السوء والبعد عنهم قال ابن عباس: هذا القائل وقرينه من البشر قال فراث بن ثعلبة البهراني كانا شريكين بثمانية آلاف درهم أحدهما يعبد الله ويقصر من التجارة والنظر والآخر كافر مقبل على ماله فانفصل من شريكه لتقصيره فكلما اشترى دارا أو جارية أو بستانا عرضه على المؤمن وفخر به عليه فيتصدق المؤمن بنحو ذلك ليشتري به في الجنة فكان من أمرهما في الآخرة ما قصه لله تعالى.
{ أءنا لمدينون } قال ابن عباس: لمجازون محاسبون والضمير في:
{ قال هل أنتم } عائد على قائل في قوله: قال قائل والخطاب في هل أنتم لرفقائه في الجنة الذين كان هو وإياهم يتساءلون وهذا هو الظاهر لما كان قرينه ينكر البعث علم أنه في النار.
{ فاطلع فرآه في سوآء الجحيم } أي وسطها.
و { تالله } قسم فيه التعجب من سلامته منه.
{ لتردين } أي لتهلكين بإغوائك.
{ ولولا نعمة ربي } وهي توثيقه للإيمان والبعد من قرين السوء.
{ لكنت من المحضرين } للعذاب كما أحضرته أنت.
{ أفما نحن بميتين } الظاهر أنه من كلام القائل يسمع قرينه على جهة التوبيخ أي لسنا أهل الجنة بميتين لكن الموتة الأولى كانت لنا في الدنيا بخلاف أهل النار فإنهم في كل ساعة يتمنون الموت.
{ وما نحن بمعذبين } كحال أهل النار بل نحن منعمون دائما ويكون خطابه في ذلك منكلا به مقرعا له بما أنعم الله عليه من دخول الجنة.
{ إن هذا } أي الأمر الذي نحن فيه من النعم والنجاة من النار.
{ أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم } لما انقضت قصة المؤمن وقرينه وكان ذلك على سبيل الاستطراد من شيء عاد إلى ذكر الجنة والرزق الذي أعد الله تعالى فيها لأهلها فقال أذلك خير نزلا وعادل بين ذلك الرزق وبين شجرة الزقوم ولاستواء الرزق المعلوم تحصل به اللذة والسرور وشجرة الزقوم يحصل بها الألم والغم.
{ إنا جعلناها } أي الشجرة.
{ فتنة } قال قتادة: قال أبو جهل ونظراؤه: لما نزلت للكفار محمد يخبر عن النار أنها تنبت الأشجار وهي تأكلها وتذهبها ففتنوا بذلك أنفسهم وقال أبو جهل: إنما الزقوم الثمر بالزبد ونحن نتزقمه واستعير الطلع وهو للنخلة لما تحمل هذه الشجرة وشبه طلعها بثمر شجرة معروفة يقال لثمرها رؤوس الشياطين وهي بناحية اليمين يقال لها الاستن ذكرها النابغة في قوله:
تحيد من أستن سود أسافله
مشي الاماء الغوادي تحمل الحزما
وهو شجر مر منكر الصورة سمت العرب ثمره بذلك تشبيها برؤوس الشياطين ثم صار أصلا يشبه به والضمير في منها عائد على الشجرة.
{ ثم إن مرجعهم لإلى الجحيم } أي لإلى النار ثم ذكر تعالى حالهم في تقليد آبائهم والضمير لقريش أي وجدوا آباءهم ضالين فاتبعوهم على ضلالتهم أكثر من تقدم من الأمم وفي قوله فانظر ما يقتضي إهلاكهم وسوء عاقبتهم واستثني المخلصين من عباده وهم الأقل المقابل لقوله أكثر الأولين والمعنى إلا عباد الله فإنهم نجوا ولما ذكر ضلال الأولين ذكر أولهم شهرة وهم قوم نوح عليه السلام ونداؤه عليه السلام تضمن أشياء منها الدعاء على قومه وسؤاله النجاة وطلب النصرة واللام في فلنعم جواب القسم كقول الشاعر:
يمينا النعم السيدان وجدتما
والمخصوص بالمدح محذوف تقديره فلنعم المجيبون نحن والكرب العظيم الغرق وركوب الماء وهوله.
[37.78-124]
{ وتركنا عليه في الآخرين } أي في الباقين غابر الدهر ومفعول تركنا محذوف تقديره ثناء حسنا جميلا إلى آخر الدهر قاله ابن عباس وسلام رفع بالابتداء مستأنف سلم الله تعالى عليه ليقتدي بذلك البشر فلا يذكره أحد من العالمين بسوء وقيل جملة في موضع نصب بتركنا وهذا هو المتروك عليه فكأنه قال: وتركنا على نوح تسليما يسلم به عليه إلى يوم القيامة.
{ وإن من شيعته لإبراهيم } الظاهر عود الضمير في من شيعته على نوح عليه السلام أي ممن شايعه في أصول الدين والتوحيد وإن اختلفت شرائعها إذا اتفق أكثرها قال الزمخشري: فإن قلت: بم تعلق الظرف قلت: بما في الشيعة من معنى المشايعة يعني وإن ممن شايعه على دينه وتقواه حين جاء ربه بقلب سليم لإبراهيم أو بمحذوف وهو أذكر " انتهى ". أما التخريج الأول فلا يجوز لأن فيه الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي وهو قوله لإبراهيم لأنه أجنبي من شيعته ومن إذ وزاد المنع إذ قدرته ممن شايعه حين جاء ربه لإبراهيم لأنه يقدر ممن شايعه فجعل العامل صلة الموصول وفصل بينه وبين إذ بأجنبي وهو قوله لإبراهيم وأيضا فلام التأكيد تمنع أن يعمل ما قبلها فيما بعدها لو قلت أن ضاربا لقادم علينا زيدا لم يجز وأما تقديره أذكر فهو المعهود عند المعربين وأجازوا في نصف أئفكا وجوها.
أحدهما أن يكون مفعولا بتريدون وآلهة بدلا منه هو استفهام تقرير ولم يذكر ابن عطية غير هذا الوجه وذكر الزمخشري فقال فسر الإفك بقوله: آلهة من دون الله على أنها أفك في أنفسها والثاني أن يكون مفعولا من أجله أي أتريدون آلهة من دون الله إفكا وآلهة مفعول به وقدمه عناية وقدم المفعول له على المفعول به لأنه كان الأهم عنده أن يكافحهم بأنهم على إفك وباطل في شركهم وبدأ بهذا الوجه الزمخشري والثالث: أن يكون حالا أي أتريدون آلهة من دون الله أفكين قاله الزمخشري وجعل المصدر حالا لا يطرد إلا مع اما نحو اما علما فعالم.
{ فما ظنكم } استفهام توبيخ وتحذير وتوعد أي أي شىء ظنكم بمن هو مستحق لأن تعبدون إذ هو رب العالمين حتى تركتم عابدته وعدلتم به الأصنام.
{ فنظر نظرة في النجوم } الظاهر أنه أراد علم الكواكب وما يعزي إليها من التأثيرات التي جعلها الله تعالى لها والظاهر أن نظره كان فيها أي في علمها قيل وكانوا يعانون ذلك فأتاهم من الجهة التي يعانونها وأوهمهم به لأنه استدل بإمارات في علم النجوم أنه سقيم وقيل وهو الطاعون قيل وكان أغلب الاسقام عليهم إذ ذاك وخافوا العدوى فهربوا منه إلى عيدهم ولذلك قال:
{ فتولوا عنه مدبرين * فراغ إلى آلهتهم } أي أصنامهم التي هي في زعمهم آلهة وعرض الأكل عليها واستفهامها عن النطق هو على سبيل الهزء لأنها منحطة عن رتبة عابديها إذ هم يأكلون وينطقون وروي أنهم كانوا يضعون عندها طعاما ويعتقدون أنها تصيب منه شيئا وإنما يأكله خدمتها.
{ فراغ عليهم ضربا باليمين } أي أقبل عليهم مستخفيا ضاربا باليمين وقرىء يزفون من زف أي أسرع وقرىء: يزفون بضم الياء وبين قوله فراغ عليهم وبين قوله: فأقبلوا إليه جمل محذوفة مذكورة في سورة الأنبياء.
{ قال أتعبدون } إستفهام توبيخ وإنكار عليهم كيف هم يعبدون صورا صوروها بأيديهم وشكلوها على ما يريدون من الأشكال.
{ والله خلقكم وما تعملون } الظاهر أن ما موصولة بمعنى الذي معطوفة على الضمير في خلقكم أي أنشأ ذواتكم وذوات ما تعملون من الأصنام والعمل هنا التصوير والتشكيل كما تقول عمل الصائغ الخلخال وقيل ما مصدرية أي خلقكم وعملكم.
{ قالوا ابنوا له بنيانا } أي في موضع إيقاد النار.
{ فأرادوا به كيدا } فأبطل الله مكرهم وجعلهم الأذلين الأسفلين.
{ وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين } الآية، لما سلمه الله تعالى منهم ومن النار التي ألقوه فيها عزم على ما مفارقتهم وعبر بالذهاب عن هجرته إلى أرض الشام فهاجر من أرض بابل من مملكة نمروذ إلى أرض الشام سيهدين يوفقني إلى ما فيه صلاحي هب لي أي ولدا يكون من عداد الصالحين ولفظ الهبة غلب في الولد.
{ فلما بلغ معه السعي } بين هذه الجملة والتي قبلها محذوف تقديره ولد له وشب.
{ فلما بلغ معه } أي بلغ أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه وكان إذ ذاك ابن ثلاث عشرة سنة.
{ قال يبني } نداء شفقة وترحم.
{ إني أرى في المنام أني أذبحك } أي بأمر من الله تعالى ويدل عليه افعل ما تؤمر ورؤيا الأنبياء عليهم السلام وحي كاليقظة وذكره له الرؤيا تجسيرا على احتمال تلك البلية العظيمة وشاوره بقوله: فانظر ماذا ترى وإن كان حتما من الله تعالى ليعلم ما عنده من تلقي هذا الامتحان العظيم ويصبره إن جزع قيل حين بشرته الملائكة بغلام حليم قال: هو إذن ذبيح الله تعالى فلما بلغ حد السعي معه قيل له أوف بنذرك وقيل رأى ليلة التروية قائلا يقول له: إن الله يأمرك بذبح ابنك هذا فلما أصبح روي في ذلك من الصباح إلى الرواح أمن الله تعالى هذا الحلم فمن ثم سمي يوم التروية فلما أمسى رأى مثل ذلك فعرف أنه من الله فمن ثم سمى يوم عرفة ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فمن ثم سمى يوم النحر وانظر معلقة وماذا استفهام فإن كانت ذا موصولة بمعنى الذي فما مبتدأ والفعل بعد ذا صلة وإن كانت ماذا مركبة ففي موضع نصب بالفعل بعدها والجملة واسم الاستفهام الذي هو معمول للفعل بعده في موضع نصب لا نظر ولما كان خطاب الأب يا بني على سبيل الترحم قال هو:
{ يأبت } على سبيل التعظيم والتوقير.
{ افعل ما تؤمر } أي ما تؤمره حذفه وهو منصوب وأصله ما تؤمر به فحذف الحرف واتصل الضمير منصوبا فجاز حذفه لوجود شرائط الحذف فيه.
{ ستجدني إن شآء الله من الصابرين } كلام من أوتي الحلم والصبر والامتثال لأمر الله تعالى والرضا بما أمر.
{ فلما أسلما } أي لأمر الله تعالى انقادا له وخضعا.
{ وتله للجبين } يقال تل الرجل الرجل إذا صرعه على شقه وقيل وضعه بقوة أوقعه على أحد جنبيه في الأرض تواضعا مباشرا الأمر بصبر وذلك عند الصخرة التي بمنى وعن الحسن في الموضع المشرف على مسجد منى وعن الضحاك في المنحر الذي ينحر فيه اليوم وجواب لما محذوف مقدر بعد وتله للجبين أي أجز لنا أجرهما.
{ وفديناه بذبح عظيم } قال الجمهور كبش أبيض أقرن أعين ووصف بالعظم لأنه متقبل يقينا وقال عمرو بن عبيد لأنه جرت به السنة وصار دينا باقيا إلى آخر الدهر والذبح بمعنى المذبوح كالطحن بمعنى المطحون. قال ابن عباس وابن جبير عظمه كونه من كباش الجنة رعى فيها أربعين خريفا وفي قوله: وفديناه دليل على أن إبراهيم عليه السلام لم يذبح ابنه إذ قد فدى.
{ وبشرناه بإسحاق } الظاهر أن هذه بشارة غير تلك البشارة وأن الغلام الحليم المبشر به إبراهيم هو إسماعيل وانه هو الذبيح لا إسحق واستدل بظاهر هذه الآية وبقوله صلى الله عليه وسلم:
" أنا ابن الذبيحين "
وقول الأعرابي له يا ابن الذبيحين فتبسم عليه السلام يعني إسماعيل وأباه عبد الله وكان عبد المطلب نذر ذبح أحد ولده فخرج السهم على عبد الله فمنعه أخواله وقالوا: أفد ولدك بمائة من الإبل فداه بها قيل وكان قرنا الكبش منوطين في الكعبة في أيدي بني إسماعيل إلى أن احترق البيت قال الشعبي: رأيتهما معلقين في الكعبة.
{ ولقد مننا على موسى وهارون } الآية، الكرب العظيم تعبد القبط لهم ثم خوفهم من جيش فرعون ثم البحر وبعد ذلك والضمير في ونصرناهم عائد على موسى وهرون وقومهما وهم يجوز أن يكون فصلا وتوكيدا وبدلا والكتاب المستبين التوراة والصراط المستقيم هو الإسلام وشرع الله تعالى.
{ وآتيناهما } الضمير عائد على موسى وهرون والكتاب وإن كان نازلا على موسى وحده فهرون كان مقتديا به إذ كان قومهما قد عبدوا العجل فجمع مع موسى عليه السلام في الضمير لأجل الاقتداء به.
[37.125-159]
{ أتدعون بعلا } أي أتعبدون بعلا وثم محذوف تقديره إلها وبعل علم لصنم لهم قيل وكان من ذهب طوله عشرون ذراعا وله أربعة أوجه فتنوا به وعظموه حتى أخدموه أربعمائة سادن وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلال والسدنة يحفظونها ويعلمونها الناس وهم أهل بعلبك من بلاد الشام وبه سميت مدينتهم بعلبك.
وقرىء: الله ربكم بالرفع ورفع ما بعده وهو خبر مبتدأ محذوف تقديره هو الله وقرىء بالنصب ونصب ما بعده وهو بدل من قوله: أحسن الخالقين أو عطف بيان وقرىء: آل ياسين مفصولة اللام فيكون ياسين والياس اسمين لهذا النبي وقرىء: الياسين بهمزة مكسورة أي إلياسين جمع المنسوبين إلى إلياس معه كما قالوا في جمع أشعري الأشعرين بحذف ياء النسب.
{ مصبحين } حال أي داخلين في الصباح والخطاب في وإنكم لقريش وكانت متاجرهم إلى الشام على موانىء قوم لوط.
{ أفلا تعقلون } فتعتبرون بما جرى على من كذب الرسل.
{ وإن يونس لمن المرسلين } هو يونس بن متى من بني إسرائيل روي أنه نبىء وهو ابن ثمان وعشرين سنة بعثه الله قومه فدعاهم مرة فخالفوه فوعدهم بالعذاب وأعلمه الله تعالى بيومه فحدده يونس لهم ثم ان قدمه لما رأوا مخايل العذاب قبل أن يباشرهم تابوا وآمنوا فتاب الله عليهم وصرف العذاب عنهم قيل ولحقت يونس غضبة فابق إلى ركوب السفينة فرارا من قومه وعبر عن الهرب إذ هو عبد الله تعالى خرج فارا من قومه وروي أنه لما بعدت السفينة في البحر ويونس فيها ركدت فقال أهلها إن فيها لمن يحبس الله السفينة بسببه فلنقترع فأخذوا لكل سهما على أن من طفا سهمه فهو الذي يرمى به ومن عزت سهمه فليس إياه فطفا سهم يونس ففعلوا ذلك مرات تقع ثلاث القرعة فيها عليه فأزمعوا على أن يطرحوه في الماء فجاء إلى ركن منها ليقع منه فإذا بدابة من دواب البحر ترقبه وترصد له فانتقل إلى الركن الآخر فوجدها حتى استدار بالمركب كلها وهي لا تفارقه فعلم أن ذلك من عند الله تعالى فترامى إليها فالتقمته وفي قصة يونس عليه السلام هنا جمل محذوفة مقدرة قبل ذكر فراره إلى الفلك كما في الأنبياء وبمجموع القصص يتبين ما حذف في كل قصة منها.
{ فساهم فكان من المدحضين } أي من المغلوبين وحقيقته من المزلقين عن مقام الظفر في الاستفهام.
{ وهو مليم } أتى بما يلام عليه واللوم العتب.
{ من المسبحين } من الذاكرين الله بالتسبيح والتقديس.
{ للبث في بطنه إلى يوم يبعثون } أي بطن الحوت روي أنه كان يرفع لحم الحوت بيديه ويقول لأبنين لك مسجدا حيث لم يبنه أحد قبلي وروي أن الحوت مشى به البحار كلها حتى قذفه في نصيبين من ناحية الموصل.
وروي أن الحوت سائر مع السفينة رافعا رأسه يتنفس ويونس يسبح ولم يفارقهم حتى انتهوا إلى البر فلفظه سالما لم يتغير منه شىء فأسلموا والظاهر أن قوله للبث في بطنه يريد حيا إلى يوم البعث.
{ بالعرآء } المكان الخالي.
{ وهو سقيم } روي أنه عاد بدنه كبدن الصبي حين يولد واليقطين القرع خاصة قيل وهي التي كانت انبتها الله تعالى عليه وتجمع خصالا هي برد الظل ونعومة الملمس وغطم الورق وإن الذباب لا يقربها وماء ورقه إذا رش به مكان لم يقربه ذباب أصلا.
{ وأرسلناه إلى مئة ألف أو يزيدون } قال الجمهور رسالته هذه هي الأولى التي أبق بعدها ذكرها في آخر القصة تنبيها على رسالته ويدل عليه فآمنوا فمتعناهم إلى حين وتمتيع تلك الأمة هو الذي أغضب يونس عليه السلام واو للإبهام على المخاطب لا للشك والضمير في فاستفهم لقريش كما في قوله أول السورة فاستفهم والاستفتاء هنا سؤال على جهة التوبيخ والتقريع على قولهم البهتان على الله حيث جعلوا الله الإناث في قولهم الملائكة بنات الله بالأجسام وتفضيل أنفسهم حيث جعلوا أرفع الجنسين لهم وغيره لله تعالى واستهانتهم بمن هو مكرم عند الله تعالى حيث انثوهم وهم الملائكة بدأوا أولا بتوبيخهم على تفضيل أنفسهم بقوله:
{ ألربك البنات } وعدل عن قولهم الربكم لما في ترك الإضافة إليهم من تخسيسهم وشرب نبيه عليه السلام بالإضافة إليه وثنى بأن نسبة الأنوثة إلى الملائكة تقتضي المشاهدة فأنكر عليهم بقوله:
{ أم خلقنا الملائكة إناثا وهم شاهدون } أي خلقناهم وهم لا يشهدون شيئا من حالهم ثم أخبر عنهم ثالثا بأعظم الكفر وهو إدعاؤهم أنه تعالى قد ولد فبلغ افكهم إلى نسبة الوليد إليه تعالى وتقدس ولما كان هذا أفحش قال:
{ وإنهم لكاذبون } واحتمل أن تخص هذه الجملة بقولهم: ولد الله ويكون تأكيدا لقوله: من إفكهم وقرىء: اصطفى بهمزة الإستفهام على طريقة الإنكار والاستبعاد وسقطت همزة الوصل ولا تمد.
{ ما لكم كيف تحكمون } تقرير وتوبيخ واستفهام عن البرهان والحجة.
{ أم لكم سلطان } أي حجة نزلت عليكم من السماء وخبر بأن الملائكة بنات الله.
{ فأتوا بكتابكم } الذي أنزل عليكم.
{ وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا } الجنة الظاهر أنهم الشياطين وعن الكفار في ذلك مقالات شنيعة منها أنه تعالى صاهر سروات الجن فولد منهم الملائكة وهم فرقة من بني مدلج وشافه بذلك بعضهم أبا بكر الصديق.
{ ولقد علمت الجنة } أي الشياطين أنها محصرة أمر الله تعالى من ثواب وعقاب ثم نزه تعالى نفسه عن الوصف الذي لا يليق به.
[37.160-182]
{ إلا عباد الله } إستثناء منقطع قالوا: إما من يصفون أي إلا عباد الله فإنهم ناجون من العذاب وتكون جملة التنزيه اعتراضا وعلى كلا القولين فالاستثناء منقطع والظاهر أن الواو وما تعبدون للعطف عطفت ما تعبدون على الضمير في إنكم وإن الضمير في عليه عائد على ما والمعنى قل لهم يا محمد إنكم وما تعبدون من الأصنام ما أنتم وهم غلب الخطاب كما تقول أنت وزيد تخرجان عليه أي على عبادة معبودكم بفاتنين أي بحاملين بالفتنة على عبادته إلا من قدر الله تعالى في سابق علمه أنه من أهل النار وقرىء: صال بغير واو فمن أثبت الواو فهو جمع سلامة سقطت النون للإضافة حمل أولا على لفظ من فأفرد ثم ثانيا على معناها فجمع.
{ وما منآ إلا له مقام معلوم } هو من قول الملائكة قال الزمخشري: وما منا أحد إلا له مقام معلوم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه كقوله:
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
بكفي كان من أرمى البشر
انتهى وليس هذا من حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لأنه أحدا المحذوف مبتدأ وإلا له مقام معلوم خبره ولأنه لا ينعقد كلام من قوله: وما منا أحد فقوله: إلا له مقام معلوم هو محط الفائدة وإن تخيل أن الاله مقام في موضع الصفة فقد نصوا على أن إلا لا تكون صفة إذا حذف موصوفها وأنها فارقت غيرا إذا كانت صفة في ذلك لتمكن غير في الوصف وقلة تمكن إلا فيه وجعل نظير ذلك قوله: أنا ابن رجلا أي أنا ابن رجل جلا ويكفي كان أي يكفي رجل كان وهذا عند النحويين من أقبح الضرورات حيث حذفت الموصوف وأقام الجملة مقامه ولم يتقدمه من:
{ وإنا لنحن الصآفون } أي أقدامنا في الصلاة أو أجنحتنا في الهواء.
{ وإنا لنحن المسبحون } أي المنزهون الله تعالى عما نسبت إليه الكفرة والضمير في ليقولن لكفار قريش.
{ لو أن عندنا ذكرا } أي كتابا من كتب الأولين الذي نزل عليهم التوراة والإنجيل لأخلصنا العبادة لله تعالى ولم نكذب كما كذبوا.
{ فكفروا به } أي بما جاءهم من الذكر الذي كانوا يتمنونه وهو أشرف الأذكار لإعجازه من بين الكتب.
{ فسوف يعلمون } عاقبة كفرهم وما يحل بهم من الانتقام وأكدوا قولهم بأن المخففة وباللام لكونهم كانوا جادين في ذلك ثم ظهر منهم التكذيب والنفور البليغ.
{ فتول عنهم } أي أعرض عنهم.
{ حتى حين } أي إلى مدة يسيرة وهي مدة الكف عن القتال.
{ وأبصرهم } أي أنظر إلى عاقبة أمرهم.
{ فسوف يبصرون } ما يحل بهم من العذاب والأسر والقتل وأمره بابصارهم إشارة إلى الحالة المنتظرة الكائنة لا محالة وأنها قريبة كأنها بين ناظريه هو يبصرها وفي ذلك تسلية وتنفيس عنه عليه السلام.
{ أفبعذابنا يستعجلون } إستفهام توبيخ.
{ فإذا نزل } هو أي العذاب مثل العذاب النازل بهم.
{ فسآء صباح المنذرين } المخصوص بالذم محذوف تقديره فساء صباح المنذرين صباحهم.
{ وتول عنهم } كرر الأمر بالتولي تأنيسا له عليه السلام وتأكيدا الوقوع الميعاد ولم يقيد أمره بالابصار كما قيده في الأول إما لاكتفاءه في الأول فحذفه اختصارا وإما لما في ترك التقييد من جولان الذهن فيما يتعلق به الأبصار من صنوف المسرات والابصار منهم من صنوف المساءآت.
وختم تعالى هذه السورة بتنزيهه عما يصفه به المشركون وأضاف الرب إلى نبيه عليه السلام تشريفا له بإضافته وخطابه ثم إلى العزة وهي العزة المخلوقة الكائنة للأنبياء عليهم السلام وللمؤمنين.
[38 - سورة ص]
[38.1-46]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * ص والقرآن ذي الذكر } الآية هذه السورة مكية بلا خلاف ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه لما ذكر عن الكفار أنهم كانوا يقولون لو أن عندنا ذكرا من الأولين لأخلصنا العبادة لله تعالى وأخبر أنهم أتاهم الذكر فكفروا به فبدأ في هذه السورة بالقسم بالقرآن ذي الذكر الذي جاءهم وأخبر عنهم أنهم كافرون به وأنهم في تعزز ومشاقة للرسول الذي جاء به ثم ذكر من أهلك من القرون التي شاقت الرسل ليتعظوا بذلك وروي
" أنه لما مرض أبو طالب جاءت قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند رأس أبي طالب مجلس رجل فقام أبو جهل كي يمنعه منه وشكوه إلى أبي طالب فقال يا ابن أخي ما تريد من قومك فقال: يا عم إنما أريد منهم كلمة تذل بها لهم العرب وتؤدي إليهم الجزية بها العجم فقال وما الكلمة قال: كلمة واحدة قال وما هي قال: لا إله إلا الله قال: فقاموا وقالوا: أجعل الآلهة إلها واحدا قال: فنزل فيهم القرآن ص والقرآن ذي الذكر حتى بلغ ان هذا الا اختلاف "
وجواب القسم فيه أقوال ضعيفة ذكرت في البحر وينبغي أن يقدر هنا ما أثبت جوابا للقرآن حين أقسم به وذلك في قوله تعالى
يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين
[يس: 1-3] فيكون التقدير هنا ص والقرآن ذي الذكر إنك لمن المرسلين ويقوي هذا التقدير ذكر النذارة هنا في قوله: وعجبوا ان جاءهم منذر منهم فقال هناك لتنذر قوما فالرسالة تتضمن النذارة والبشارة وبل للانتقال من هذا القسم والمقسم عليه إلى حال يعزز الكفار ومشاقتهم في قبول رسالتك وامثتال ما جئت به واعتراف بالحق وكم خبرية مفعولة بأهلكنا أي كثيرا أهلكنا.
{ فنادوا } أي استغاثوا ونادوا بالتوبة ورفعوا أصواتهم يقال: فلان أبدى صوتا أرفع وذلك بعد معاينة العذاب فلم يك وقت نفع ولات حين على قول سيبويه عملت عمل ليس واسمها محذوف تقديره ولات الحين حين قوت ولا قرار وعلى قول الأخفش تكون حين إسم لات عملت عمل إن نصبت الإسم ورفعت الخبر والخبر محذوف تقديره حين مناص لهم أي كائن لهم والمناص المنجا والفوت يقال ناصه ينوصه إذا فاته وقال الفراء: النوص التأخر يقال ناص عن قرينه ينوص نوصا ومناصا إذا فر وراغ والضمير في وعجبوا عائد على الكفار أي استغربوا مجيء رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنفسهم وعجاب بناء مبالغة كرجل طوال وسراع في طويل وسريع والذي قالوا أجعل الآلهة إلها واحدا قال ابن عباس صناديد قريش وهم ستة وعشرون رجلا.
{ وانطلق الملأ منهم } الظاهر إنطلاقهم عن مجلس أبي طالب حين اجتمعوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم عنده وشكوه على ما تقدم في سبب النزول ويكون ثم محذوف تقديره يتحاورون.
{ أن امشوا } وتكون ان مفسرة لذلك المحذوف وامشوا أمر بالمشي وهو نقل الأقدام عن ذلك المجلس.
{ واصبروا } أمر بالصبر على الآلهة أي على عبادتها والتمسك بها والإشارة بقوله:
{ إن هذا } ظهور محمد صلى الله عليه وسلم وعلوه بالنبوة.
{ لشيء يراد } أي يراد { ما سمعنا بهذا } أي بتوحيد المعبود وهو الله تعالى مثل الانقياد إليه أو يريده الله تعالى ويحكم بإمضائه فليس فيه إلا الصبر.
{ فى الملة الآخرة } قال ابن عباس: ملة النصارى لأن فيها التثليث ولا توحد.
{ إن هذا إلا اختلاق } أي افتعال وكذب.
{ أءنزل عليه الذكر من بيننا } أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم وينزل عليه الكتاب من بينهم وهذا الإنكار هو ناشىء عن حسد عظيم انطوت عليه صدورهم ونطقت به ألسنتهم.
{ بل هم في شك من ذكري } أي من القرآن الذي أنزلته على رسولي يرتابون فيه والأخبار بأنهم في شك يقتضي كذبهم في قولهم إن هذا إلا اختلاف.
{ بل لما يذوقوا عذاب } أي بعد فإذا ذاقوه عرفوا أن ما جاء به حق وزال عنهم الشك ونفى الذوق بلما وهي تقتضي النفي إلى زمان الأخبار وعذابي مضاف لياء المتكلم وحذفت وتحذف كثيرا في الفواصل كقوله: أهانن وأكرمن.
{ أم عندهم خزآئن رحمة ربك } أي ليسوا متصرفين في خزائن الرحمة فيعطوا ما شاؤا لمن شاؤا ويمنعوا من شاؤا ويصطفوا للرسالة من أرادوا وإنما يملكها ويتصرف فيها.
{ العزيز } الذي لا يغالب.
{ الوهاب } ما شاء لما استفهم استفهام إنكار في قوله أم عندهم خزائن رحمة ربك وكان ذلك دليلا على انتفاء تصرفهم في خزائن رحمة الله تعالى أتى الإنكار والتوبيخ بانتفاء ما هو أعم فقال:
{ أم لهم ملك السموت والأرض } أي ليس لهم شىء من ذلك.
{ فليرتقوا } أي ألهم شىء من ذلك فليصعدوا.
{ فى الأسباب } الموصلة إلى السماء والمعارج التي يتوصل بها إلى تدبير العالم فيضعون الرسالة فيمن اختاروا ثم صغرهم وحقرهم وأخبر بما يؤول إليه أمرهم من الهزيمة والخيبة فقال:
{ جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب } قيل ما زائدة ويجوز أن تكون صفة أريد به التعظيم على سبيل الهزء بهم أو التحقير لأن ما الصفة تشتمل على هذين المعنيين وهنالك ظرف مكان يشار به للبعيد والظاهر أنه يشار به للمكان الذي تفاوضوا فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الكلمات السابقة وهو مكة فيكون ذلك إخبارا بالغيب عن هزيمتهم بمكة وهو يوم الفتح فالمعنى أنهم يصيرون مهزومين بمكة يوم الفتح وذوا الأوتاد أي صاحب الأوتاد وأصله من ثبات البيت المطنب بأوتاده. قال الأفوه الأودي:
والبيت لا يبنى إلا على عمد
ولا عمادا إذا لم ترس أوتاد
فاستعير لثبات العز والملك واستقامة الأمر.
{ وما ينظر هؤلآء إلا صيحة واحدة } أي ما ينظر هؤلاء إشارة إلى كفار قريش ومن جرى مجراهم والصيحة ما نالهم من قتل وأسر وغلبة كما تقول صاح فيهم الدهر.
والفواق بضم الفاء وفتحها الزمان الذي ما بين حلبتي الحالب ورضعتي الراضع والمعنى من زمان يسير قدر ما بين الحلبتين يستريحون فيه من العذاب.
{ عجل لنا قطنا } قال أبو عبيدة والكسائي القط الكتاب بالجوائزة. وقال ابن عباس قطنا نصيبنا من الجنة لنتنعم به في الدنيا ومعنى قبل يوم الحساب أي الذي تزعمون أنه واقع في العالم إذ هم كفرة لا يؤمنون بالبعث ولما كانت مقالتهم تقتضي الاستخفاف أمر تعالى نبيه عليه السلام بالصبر على أذاهم وذكر قصصا للأنبياء عليهم السلام داود وسليمان وأيوب وغيرهم وما عرض لهم فصبروا حتى فرج الله عنهم وصارت عاقبتهم أحسن عاقبة فكذلك أنت تصبر ويؤول أمرك إلى أحسن مآل.
{ ذا الأيد } أي ذا القوة في الدين والشرع وفي ذلك تأنيس له صلى الله عليه وسلم بالظفر بأعدائه كما أظفر داود بالأعداء وقتل جالوت. والأواب الرجاع إلى طاعة الله تعالى. والاشراق مصدر أشرق أي صفت وأضاءت وشرقت بمعنى طلعت.
{ وشددنا ملكه } تقدم الكلام عليه.
{ وفصل الخطاب } قال ابن عباس القضاء بين الناس بالحق وإصابته وفهمه.
{ وهل أتاك نبؤا الخصم } مجيء مثل هذا الاستفهام إنما يكون لغرابة ما يجيء معه من القصص كقوله:
وهل أتاك حديث موسى
[طه: 9] فيتهيأ المخاطب بهذا الاستفهام لما يأتي بعده ويصغي لذلك والخصم مصدر ينطلق على الواحد والجمع.
{ إذ تسوروا المحراب } روي أن الله تعالى بعث إليه ملكين في صورة إنسانين وطلبا أن يدخلا عليه فوجداه في يوم عبادته فمنعهما الحراس فتسوروا عليه المحراب فلم يشعر إلا وهما بين يديه جالسان تسور الحائط والسور وتسنمه والبعير علا أعلاه قال ابن عباس: كان عليه السلام جزأ أيامه أربعة أجزاء يوما للعبادة ويوما للقضاء ويوما للاشتغال بخواص أمره ويوما لجميع بني إسرائيل فيعظهم ويبكيهم فجاؤوه في غير يوم القضاء ففزع منهم لأنهم نزلوا عليه من فوق وفي يوم الاحتجاب والحرس حول لا يتركون من يدخل عليه فخاف أن يؤذوه ذلك ليلا وكان كل واحد منهما آخذا برأس صاحبه ولما أدركوا منه الفزع.
{ قالوا لا تخف } أي لسنا ممن جاء إلا لأجل التحاكم.
{ خصمان } يحتمل أن يكون هذا موصولا بقولهما لا تخف بادرا بأخبار ما جاآ إليه ويحتمل أن يكون سألهم ما أمركم فقالوا خصمان أي نحن خصمان.
{ بغى } أي جار بعضنا على بعض كما قال الشاعر:
ولكن الفتى حمل بن بدر
بغي والبغي مرتعه وخيم
وفي أمرهما له ونهيهما له بعض فظاظة على الحكم حمل على ذلك ما هما فيه من التخاصم والتشاجر فاستدعيا عدله من غير ارتياب بأنه يحكم بالعدل .
{ ولا تشطط } من أشط رباعيا وسواء الصراط وسط طريق الحق لا ميل فيه من هنا ولا هنا والظاهر أنهم كانوا جماعة فلذلك أتى بضمير الجمع فإن كان المتحاكمان اثنين فيكون قد جاء معهما غيرهما على جهة المعاضدة والمؤانسة وأخي بدل والأخوة هنا مستعارة إذ هما ملكان لما ظهرا في صورة إنسانين تكلما بالأخوة ومجازها أنها أخوة في الدين والإيمان.
{ تسع وتسعون نعجة } وكني بالنعجة عن الزوجة والعرب تذكر ذلك كثيرا في شعرها قال:
أغادي الصبوح عند هر وفرتنا
وليدا وهل أفنى شبابي سوى هي
هما نعجتان من نعاج تبالة
لدى جؤذرين أو كبعض دمى هكر
هو علم لامرأة وفرتنا كذلك وتبالة مكان فيه النعاج الحسان ودمى جميع دمية وهي صور الرخام وهكر موضع فيه هذه الصور.
{ فقال أكفلنيها } أي ردها في كفالتي وقال ابن كيسان اجعلها كفلى أي نصيبي وكفل يتعدى لواحد ولاثنين بالتضعيف والهمزة فمن التضعيف قراءة من قرأ وكفلها زكريا بالتشديد ونصب زكريا وبالهمزة كقوله: أكفلنيها فالنون للوقاية والياء المفعول الأول وها المفعول الثاني والفصيح إتصاله ولو كان في غير القرآن لجاز أن يجيء منفصلا فكان يكون أكفلني إياها والأحسن الإتصال.
{ وعزني } أي غلبني ومضارعه يعز بضم العين وروي أن داود عليه السلام لما سمع كلام الشاكي قال للآخر: ما تقول فأقر فقال له لئن لم ترجع إلى الحق لأكسرن الذي فيه عيناك وقال الثاني: لقد ظلمك فتبسما عند ذلك وذهبا ولم يرهما لحينه.
وسؤال مصدر أضيف إلى المفعول وهو على حذف مضاف والتقدير بسؤال ضم نعجتك إلى نعاجه.
{ وإن كثيرا من الخلطآء } الظاهر أنه من كلام داود عليه السلام والخلطاء جمع خليط وهو الرفيف قال الشاعر:
ان الخليط أجد البين فانفرقا
وعلق القلب من أسماء ما علقا
{ وقليل } خبر مقدم وما زائدة تفيد معنى التعظيم والتعجيب وهم مبتدأ.
{ وظن داوود } لما كان الظن الغالب يقارب العلم استعير له ومعناه وعلم داود وأيقن أنا ابتليناه بمحاكمة الخصمين.
{ فاستغفر ربه وخر راكعا } حال والخرور الهوى إلى الأرض فإما أنه عبر بالركوع عن السجود وإما أنه ذكر أول أحوال الخرور أي راكعا ليسجد وخر ساجدا ورجع إلى الله تعالى وأنه تعالى غفر له ذلك الظن ولذلك أشار بقوله:
{ فغفرنا له ذلك } ولم يتقدم سوى قوله: وظن داود إنما فتناه.
{ يداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض } الآية فيضلك منصوب بإضمار ان بعد الفاء في جواب النهي والفاعل في فيضلك ضمير الهوى أو ضمير المصدر المفهوم من قوله ولا تتبع بما نسوا ما مصدرية تقديره بنسيانهم ثم ذكر ما بين المؤمن عامل الصالحات والمفسد من التباين وأنهما ليساسيين وقابل الصلاح بالفساد والتقوى بالفجور والاستفهام بأم في الموضعي استفهام إنكار والمعنى أنه لا يستوي عند الله من أصلح ومن أفسد ولا من أتقى ومن فجر ولما انتفت التسوية بين ما تصلح به لمتبعه السعادة الأبدية وهو كتاب الله فقال: كتاب أنزلناه.
وارتفاعه على إضمار مبتدأ أي هذا كتاب وقرىء: مباركا على الحال اللازمة لأن البركة لا تفارقه واللام في ليدبر ولام كي وأسند التدبر إلى الجميع وهو التفكر في الآيات والتأمل الذي يفضي بصاحبه إلى النظر في عواقب الأشياء وأسند التذكر إلى أولي العقول لأن ذا العقل ما يهديه إلى الحق وهو عقله فلا يحتاج إلا إلى ما يذكره فيتذكر.
{ نعم العبد } المخصوص بالمدح محذوف تقديره نعم العبد هو أي سليمان عليه السلام.
{ إذ عرض عليه بالعشي } قال الجمهور عرضت عليه الخيل تركها أبوه له فأجريت بين يديه عشيا فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها عن ذكر له فقال: ردوها علي فطفق يضرب أعناقها وعراقيبها بالسيف لما كانت سبب الذهول عن ذلك الذكر فأبدله الله تعالى أسرع منها الريح والصافن من الخيل الذي يرفع إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه وقد يفعل ذلك برجله وهي علامة الفراهة. وأنشد الزجاج:
ألف الصفون فلا يزال كأنه
مما يقر على الثلاث كسيرا
وقال أبو عبيدة الصافن الذي يجمع يديه ويسويهما وأما الذي يقف على طرف السنبك فهو المتخيم والجياد جمع جواد وهو الفرس وانتصب حب الخير على أنه مفعول به لتضمن أحببت معنى آثرت والظاهر أن الضمير في توارث للشمس وإن لم يجر لها ذكر لدلالة العشي عليها وحتى غاية لما قبلها فالمعنى داومت حب الخير ذاهلا عن ذكر ربي وطفق من أفعال المقاربة للشروع في الفعل وحذف خبرها لدلالة المصدر عليه أي فطفق يمسح مسحا يمسح اعرافها وسوقها محبة لها وقال ابن عباس: مسحة بالسوق والأعناق لم يكن بالسيف بل بيديه تكريما لها ومحبة والباء في وبالسوق زائدة في قوله: فامسحوا برؤوسكم وحكى سيبويه مسحت برأسه ورأسه بمعنى واحد وقرىء: بالسوق على وزن فعل وهو جمع ساق وقرىء: بهمزة بعدها واد بالسؤوق على وزن فعول.
{ ولقد فتنا } أي ابتلينا.
{ سليمان } ذكر المفسرون أشياء لا يصح نقلها وأقرب ما قيل فيه أن المراد بالفتنة كونه لم يستثن في الحديث الذي قال فيه
" لأطوفن الليلة على سبعين امرأة كل واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله ولم يقل ان شاء الله فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة وجاءت بشق رجل قال رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون "
والمراد بقوله: ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا هو هذا والجسد الملقى هو المولود شق رجل.
{ ثم أناب } أي بعد امتحاننا إياه دوام الإنابة والرجوع.
{ قال رب اغفر لي } هذا دأب الأنبياء والصالحين من طلب المغفرة من الله تعالى هضما للنفس وإظهارا للذلة والخشوع وطلبا للترقي في المقامات والظاهر أنه طلب ملكا زائد على الممالك زيادة خارقة للعادة بالغة حد الإعجاز ليكون ذلك دليلا على نبوته عليه السلام ولما بالغ في صفة هذا الملك الذي طلبه أتى في صفته تعالى باللفظ الدال على المبالغة فقال:
{ إنك أنت الوهاب } أي الكثير الهبات لا تتعاظم عنده هبة ولما طلب الهبة التي اختص بها وهبه تعالى وأعطاه ما ذكر من قوله:
{ فسخرنا له الريح تجري } جملة حالية أي جارية.
{ رخآء } أي لينة مشتقة من الرخاوة حيث أصاب أي حيث قصد وأراد.
{ والشياطين } معطوف على الريح وكل بناء وغواص بدل وأتى ببنية المبالغة كما قال يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل الآية وقال النابغة:
إلا سليمان إذ قال إلاله له
قم في البرية فاحددها عن الفند
وجيش الجن أنى قد أذنت لهم
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
والمعطوف على العام عام فالتقدير وكل غواص أي في البحر يستخرجون له الحلية وهو أول من استخرج الدر.
{ وآخرين } عطف على كل فهو داخل في البدل إذ هو بدل كل من كل بدل التفصيل أي من الجن وهم المردة أي سخرهم له حتى قرنهم في الأصفاد لكفرهم وقال النابغة في ذلك:
فمن أطاعك فأنفعه بطاعته
كما أطاعك وادلله على الرشد
ومن عصاك فعاقبه معاقبة
تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد
ومقرنين تقدم الكلام عليه في سورة إبراهيم.
{ هذا عطآؤنا } إشارة لما أعطاه الله تعالى من الملك الضخم وتسخير الإنس والجن والطير وأمره بأن يمن على من يشاء ويمسك على من يشاء وقفه على قدر النعمة ثم أباح له التصرف فيها بمشيئته وهو تعالى قد علم أنه لا يتصرف إلا بطاعة الله تعالى وبغير حساب في موضع الحال من عطاؤنا تقديره كائنا بغير حساب.
{ واذكر عبدنآ أيوب إذ نادى ربه } الآية، وأيوب عطف بيان أو بدل من عبدنا. النصب والنصب كالرشد والرشد وهو التعب والمشقة والعذاب الألم والظاهر أنه تعالى ابتلى أيوب عليه السلام في جسده وأهله وماله على ما روي في الأخبار وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم
" أن أيوب عليه السلام بقي في محنته ثماني عشرة سنة "
ولم يبين لنا تعالى السبب المقتضى لعلته وأما إسناده المس إلى الشيطان فسبب ذلك أنه كان يعوده ثلاثة من المؤمنين فارتد أحدهم فسأل عنه فقيل ألقي إليه الشيطان أن الله تعالى لا يبتلي الأنبياء والصالحين فحينئذ قال مسني الشيطان نزل عليه السلام لشفقته على المؤمنين مس الشيطان ذلك المؤمن حتى ارتد منزلة مسه لنفسه لأن المؤمن الخير يتألم برجوع المؤمن الخير إلى الكفر وفي الكلام حذف تقديره فاستجبنا له وقلنا له اركض برجلك فركض فنبعت عين فقلنا له هذا مغتسل بارد وشراب فيه شفاؤك فاغتسل فبرأ ووهبنا له ويدل على هذه المحذوفات معنى الكلام وسياقه.
{ ووهبنا له أهله } قيل وهبه من كان حيا منهم وعافاه من الأسقام وأرغد لهم العيش فتناسلوا حتى تضاعف عددهم وصار مثلهم ورحمة وذكرى مفعولان لهما أي أن الهبة كانت لرحمتنا إياه وليتذكر أرباب العقول ما يحصل للصابر من الخير وما يؤول إليه من الأجر وفي الكلام حذف تقديره وكان حلف ليضربن امرأته مائة ضربة لسبب جرى منها وكانت محسنة له فجعلنا له خلاصا من يمينه بقولنا وخذ بيدك ضغثا قال ابن عباس الضغط عثكال النخل ومحصول أقوالهم هو ان الشيطان تمثل لها في صورة ناصح أو مداو وعرض لها بشفاء أيوب على يديه على شرط لا يمكن وقوعه فذكرت ذلك له فعلم أن الذي عرض لها هو الشيطان وغضب لعرضها ذلك عليه فحلف فحلل الله تعالى يمينه بأهون شىء عليه وعليها لحسن خدمتها إياه ورضاه عنها وقرىء عبادنا وعبدنا.
{ أولي الأيدي } لما كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلبت فقيل في كل عمل هذا مما عملت أيديهم والأبصار عبارة عن البصائر التي يبصرون بها الحقائق وينظرون بنور الله تعالى.
{ إنآ أخلصناهم } أي جعلناهم لنا خالصين وقرىء بخالصة بالتنوين وبغير تنوين على الإضافة والدار دار الآخرة.
[38.49-88]
{ هذا ذكر } الآية، لما كان ما ذكر نوعا من أنواع التنزيل قال: هذا ذكر كأنه فصل بين ما قبله وما بعده ألا ترى أنه لما ذكر أهل الجنة وأعقبه بذكر أهل النار قال: هذا وإن للطاغين وقال الزمخشري: جنات معرفة لقوله:
جنات عدن التي وعد الرحمن
[مريم: 61] وانتصابها على أنها عطف بيان لحسن مآب ومفتحة حال والعامل فيها ما في المتقين من معنى الفعل وفي مفتحة ضمير الجنات والأبواب بدل من الضمير تقديره مفتحة هي الأبواب كقولهم: ضرب زيد اليد والرجل وهو من بدل الاشتمال " انتهى ". ولا يتعين أن يكون جنات عدن التي معرفة بالدليل الذي استدل به وهو قوله: جنات عدن لأنه اعتقد أن التي صفة لجنات عدن ولا يتعين ما ذكره إذ يجوز أن يكون التي بدلا من جنات عدن ألا ترى أن الذي والتي وجموعهما تستعمل استعمال الأسماء فتلي العوامل فلا يلزم أن تكون صفة وأما انتصابها على أنها عطف بيان فلا يجوز لأن النحويين في ذلك على مذهبين أحدهما أن ذلك لا يكون إلا في المعارف فلا يكون عطف البيان إلا تابعا لمعرفة وهو مذهب البصريين والثاني أنه يجوز أن يكون في النكرات فيكون عطف البيان تابعا لنكرة كما تكون المعرفة فيه تابعة لمعرفة وهذا مذهب الكوفيين وتبعهم الفارسي وأما تخالفهما في التنكير والتعريف فلم يذهب إليه أحد سوى هذا المصنف وقد أجاز ذلك في قوله تعالى:
مقام إبراهيم
[البقرة: 125] فاعربه عطف بيان تابعا لنكرة وهو آياته بينات ومقام إبراهيم معرفة وقد رددنا عليه ذلك في موضعه في آل عمران وأما قوله: وهي مفتحة ضمير الجنات فجمهور النحويين أعربوا الأبواب مفعولا لم يسم فاعله مرفوعا بمفتحة وجاء أبو علي فقال: إذا كان ذلك لم يكن في ذلك ضمير يعود على جنات عدن من الحال أن أعرب مفتحة حال أو من النعت ان اعرب نعتا لجنات عدن فقال في مفتحة ضمير يعود على الجنات حتى يرتبط المال بصاحبها أو النعت بمنعوته والأبواب بذل وقال من أعرب الأبواب مفعولا لا لم يسم فاعله العائد على الجنات محذوف تقديره الأبواب منها والزم أبو علي أن البدل في مثل هذا لا بد فيه من الضمير إما ملفوظا به أو مقدرا وإذا كان الكلام عليه محتاجا إلى تقدير واحد كان أولى مما يحتاج إلى تقديرين وأما الكوفيون فالرابط عندهم هوال لقيامه مقام الضمير فكأنه قال مفتحة لهم أبوابها وأما قوله وهو بدل الاشتمال فإن عنى بقوله: وهو قوله اليد والرجل فهو وهم وإنما هو بدل بعض من كل وإن عنى الأبواب فقد يصح لأن أبواب الجنات ليست بعضا من الجنات وأما تشبيهه ما قدره من قوله: مفتحة هي الأبوب بقولهم: ضرب زيد اليد والرجل فوجهه أن الأبواب بدل من ذلك الضمير المستكن كما أن إليه والرجل بدل من الظاهر الذي هو زيد أبو إسحاق وتبعه ابن عطية مفتحة نعت لجنات عدن وقال الحوفي: مفتحة حال والعامل فيها محذوف بدل عليه المعنى تقديره يدخلونها.
{ أتراب } أي أمثال على سن واحد هذا مبتدأ وحميم خبره وفليذوقوه جملة اعتراض وقرىء: وغساق بتخفيف السين وتشديدها فإن كانت صفة فتكون مما حذف موصوفها وإن كانت إسما ففعال قليل في الأسماء كالفناد وهو ذكر اليوم وقرىء وآخر على الأفراد وآخر على الجمع.
و { من شكله } أي من شكل العذاب.
{ أزواج } أي أصناف والظاهر أن قوله هذا فوج مقتحم معكم من قول رؤسائهم بعضهم لبعض والفوج الجمع الكثير.
{ مقتحم معكم } أي في النار وهم الأتباع ثم دعوا عليهم بقولهم لا مرحبا بهم لأن الرئيس إذا رأى الخسيس قد قرن معه في العذاب ساءه ذلك حيث وقع التساوي في العذاب ولم يكن هو السالم من العذاب واتباعه من العذاب ومرحبا معناه أتيت رحبا وسعة لا ضيقا.
{ قالوا } أي الفوج.
{ لا مرحبا بهم } رد على الرؤساء فدعوا عليهم به ثم ذكروا أن ما وقعوا فيه من العذاب وصلي النار إنما هو بما ألقيتم إلينا وزينتموه من الكفر فكأنكم قدمتم لنا العذاب والصلي.
{ وقالوا ما لنا لا نرى رجالا } الآية، روي أن القائلين من كفار عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وهم أبو جهل وأمية بن خلف وأصحاب القليب والذين لم يروهم عمار وصهيب وسلمان ومن جرى مجراهم وقرىء اتخذناهم بهمزة الاستفهام لتقرير أنفسهم على هذا على جهة التوبيخ لها والأسف أي اتخذناهم سخريا وقرىء: بوصل الهمزة على أنه خبر ثم اضربوا عن هذا واستفهموا فقالوا بل أزاغت عنهم أبصارنا وهم فيها فنفوا أولا ما يدل على كونهم ليسوا معهم ثم جوزوا أن يكونوا معهم ولكن أبصارهم لم ترهم.
{ إن ذلك } أي التفاوض الذي حكيناه عنهم.
{ لحق } أي ثابت واقع لا بد أن يجري بينهم وتخاصم بدل من لحق.
{ قل إنمآ أنا منذر } أي قل يا محمد إنما أنا منذر المشركين بعذاب الله وأنه لا إله إلا الله لا ند له ولا شريك له وهو
{ الواحد القهار } لكل شىء وأنه مالك العالم علوه وسفله.
{ العزيز } الذي لا يغالب.
{ الغفار } لمن تاب وآمن به واتبع دينه.
{ قل هو نبأ عظيم } وهو ما قصه الله تعالى من مناظرة أهل النار ومقاولات الاتباع مع السادات لأنه من أحوال البعث وقريش كانت تنكر البعث والحساب والعقاب وهم يعرضون عن ذلك.
{ ما كان لي من علم } أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول ما كان لي من علم باختصام الملأ الأعلى واختصامهم هو في آدم وذريته في جعلهم في الأرض ثم قال:
{ إن يوحى إلي } إلخ فنفى أن يكون علم ذلك في غير جهة الوحي الإلهي.
{ إذ قال ربك للملائكة } تقدم الكلام عليه والبشر هو آدم عليه السلام وذكر هنا أنه خلقه من طين وفي آل عمران من تراب وفي الحجر من صلصال وفي الأنبياء من عجل ولا منافاة ذكر المادة البعيدة وهو التراب ثم ما يليه وهو الطين ثم ما يليه وهو الحمأ المسنون ثم المادة الأخيرة تلي الحمأ وهو الصلصال والاستثناء في جميع هذه الأيات يدل على أنه لم يسجد فتارة أكد بالنفي المحض وتارة ذكر إبايته عن السجود وهي الإنفة من ذلك وتارة نص على أن ذلك الامتناع كان سببه الاستكبار.
{ أم كنت من العالين } أي ممن علوت وفقت فأجاب بأنه من العالين حيث قال: أنا خير منه قال ابن عطية: وذكر كثير من النحويين أن أم لا تكون معادلة للألف مع اختلاف الفعلين وإنما تكون معادلة إذا دخلتا على فعل واحد كقولك أزيد قام أم عمرو وقولك أقام زيد أم عمرو فإذا اختلف الفعلان كهذه الآية فليست معادلة ومعنى الآية أحدث لك الاستكبار الآن أم كنت قديما ممن لا يليق أن يكلف مثل هذا لعلو مكانك وهذا على جهة التوبيخ " انتهى ". هذا الذي ذكره عن كثير من النحويين مذهب غير صحيح قال سيبويه: وتقول أضربت زيدا أم قتلته فالبدء هنا بالفعل أحسن لأنك إنما تسأل عن أحدهما لا تدري أيها كان ولا تسأل عن موضع أحدهما كأنك قلت أي ذلك كان " انتهى " فعادل بأم الألف مع اختلاف الفعلين.
{ قال فالحق } قرىء بالنصب وبالرفع وهو قسم جوابه لأملأن.
{ والحق أقول } جملة اعتراض بين القسم وجوابه والمعنى وأقول الحق وإذا رفعنا فالحق مبتدأ خبره محذوف تقديره فالحق يميني وإذا نصبنا فعلى إسقاط حرف الجر تقديره أقسم بالحق قال ابن عطية: أما الأول فرفع على الابتداء وخبره في قوله: لأملأن لأن المعنى ان املأ " انتهى ". هذا ليس بشىء لأن لأملأن جواب قسم ويجب أن يكون جملة فلا يتقدر بمفرد وأيضا ليس مصدرا مقدرا بحرف مصدري والفعل حتى ينحل إليهما ولكنه لما صح له إسناد ما قدر إلى المبتدأ حكم أنه خبر عنه ومنهم بدل من في قوله من تبعك وأجمعين تأكيد للمتبع عليه أي على القرآن.
{ ومآ أنآ من المتكلفين } أي المتصنعين المتحلين بما ليسوا من أهله.
{ إن هو } أي القرآن إلا ذكر أي من الله تعالى للعالين الثقلين الإنس والجن.
{ ولتعلمن نبأه } أي عاقبة خبره وما نرتب عليه لمن آمن به ومن أعرض عنه.
{ بعد حين } قال ابن عباس هو يوم القيامة.
[39 - سورة الزمر]
[39.1-17]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } هذه السورة مكية إلا قوله الله نزل أحسن الحديث وقل يا عبادي قاله ابن عباس.
{ والذين اتخذوا } مبتدأ وهم المشركون والخبر محذوف وهو قالوا المحكي به قوله ما نعبدهم أي والمشركون المتخذون من دون الله أولياء قالوا: ما نعبد تلك الأولياء إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
{ إن الله لا يهدي من هو كاذب } في دعواه إن الله تعالى شريكا.
{ كفار } لأنعم الله حيث جعل مكان الشكر الكفر والمعنى لا يهدي من ختم عليه بالوفاة على الكفر فهو عام والمعنى على الخصوص منكم قد هدى من سبق منه الكذب والكفر ولما كان من كذبهم دعوى بعضهم أن الملائكة بنات الله وعبدوها عقبه بقوله:
{ لو أراد الله أن يتخذ ولدا } تشريفا له وتبيينا إذ يستحيل ذلك أن يكون ذلك في حقه تعالى بالتوالد المعروف.
{ لاصطفى } أي اختار من مخلوقاته.
{ ما يشآء } ولدا على سبيل التبني ولكنه تعالى لم يشأ ذلك لقوله:
وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا
[مريم: 92] وهو عام في اتخاذ النسل واتخاذ الاصطفاء ويدل على أن الاتخاذ هو التبني والاصطفاء. قوله: مما يخلق أي من الخلائق التي أنشأها واخترعها ثم نزه تعالى نفسه تنزيها مطلقا فقال:
{ سبحانه } ثم وصف نفسه بالوحدانية وبالقهر وهما الصفتان الدالتان على إنفراده بالألوهية والقهر لجميع العالم كلهم.
{ يكور الليل على النهار } يطوي كلا منهما على الآخر فكان الآخر صار عليه جزء منه ووصف الانعام بالإنزال مجاز والإنعام الإبل والبقر والضان والمعز.
{ ثمانية أزواج } لأن من كل منها ذكرا وأنثى والزوج ما كان معه آخر من جنسة فإذا انفرد فهو فرد ووتر قال تعالى:
فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى
[القيامة: 39] ومعنى خلقا رتبها خلقا من بعد خلق على المضغة والعلقة وغير ذلك والظلمات الثلاث البطن والرحم والمشيمة.
{ ذلكم } إشارة إلى المتصف بتلك الأوصاف السابقة من خلق السماوات والأرض وما بعد ذلك من الأفعال.
{ فأنى تصرفون } أي كيف تعدلون عن عبادته إلى عبادة غيره.
{ إن تكفروا } قال ابن عباس: خطاب للكفار الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم وعباده هم المؤمنون ويؤيده قبل فأنى تصرفون وهذا للكفار فجاء أن تكفروا خطابا لهم.
{ فإن الله غني عنكم } وعن عبادتكم إذ لا يرجع إليه تعالى منفعة بكم ولا بعبادتكم إذ هو الغني المطلق. وقال الزمخشري ولقد تمحل بعض الغواة ليثبت لله تعالى ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفار فقال: هذا من العام الذي أريد به الخاص وما أراد إلا عباده الذين عناهم في قوله إن عبادي ليس لك عليهم سلطان يريد المعصومين كقوله:
عينا يشرب بها عباد الله
[الإنسان: 6] تعالى الله عما يقول الظالمون " انتهى ".
فسمى عبد الله بن عباس ترجمان القرآن وأعلام أهل السنة بعض الغواة وأطلق عليهم إسم الظالمين وذلك من سفهه وجرأته كما قلت في القصيدة التي ذكرت فيها ما ينقد عليه:
ويشتم أعلام الأئمة ضلة
ولا سيما ان أولجوه المضايقا
{ وإن تشكروا يرضه لكم } قال ابن عباس يضاعف لكم وكأنه يريد ثواب الشكر وقرىء يرضه بصلة الهبا بواو وباختلاس الحركة وإسكان الهاء قال أبو حاتم: السكون غلط لا يجوز " انتهى ". وليس بغلط بل ذلك لغة لبني كلاب وبني عقيل.
{ وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه } الآية، الظاهر أن الإنسان هنا جنس الكافر وقيل معين كعتبة بن ربيعة نسى أي ترك والظاهر أن ما بمعنى الذي أي نسى الضر الذي كان يدعو الله إلى كشفه وجعل الله اندادا أي أمثالا لا يضاد بعضها بعضا ويعارض قل تمتع أتى بصيغة امر فقال: تمتع بكفرك أي تلذذ به واصنع ما شئت قليلا أي عمرا قليلا والخطاب للكافر جاعل الأنداد لله تعالى إنك من أصحاب النار أي من سكانها المخلدين فيها ولما شرح تعالى شيئا من أحوال الضالين المشركين أردفه بشرح أحوال المهتدين الموحدين فقال:
{ أمن هو قانت } والقانت المطيع والظاهر أن الهمزة لاستفهام التقرير ومقابله محذوف لفهم المعنى والتقدير أهذا القانت خير أم الكافر المخاطب بقوله: تمتع بكفرك ويدل عليه قل هل يستوي الذي يعلمون والذين لا يعلمون ومن حذف المقابل قول الشاعر:
دعاني إليها القلب إني لأمرها
سميع فما أدري أرشد طلابها
تقديره أم غن.
{ قل يعباد } روي أنها نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة وعدهم تعالى فقال: { للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة } والظاهر تعلق في هذه بأحسنوا وان المحسنين في الدنيا لهم في الآخرة حسنة أي حسنة عظيمة وهي الجنة والصفة محذوفة يدل عليها المعنى لأن من أحسن في الدنيا لا يوعد أن يكون له في الآخرة مطلق حسنة ثم حض على الهجرة فقال:
{ وأرض الله واسعة } أي لا عذر للمفرطين البتة حتى ان اعتلوا بأوطانهم وانهم لا يتمكنون فيها من أعمال الطاعات قيل لهم ان بلاد الله كثيرة واسعة فتحولوا إلى الأماكن التي يمكنكم فيها الطاعات.
{ فاعبدوا ما شئتم } صيغة أمر على جهة التهديد كقوله تعالى: { قل تمتع بكفرك }.
{ قل إن الخاسرين } أي هم.
{ الذين خسروا أنفسهم } حيث صاروا من أهل النار.
{ وأهليهم } حيث كانوا معهم في النار ولما ذكر خسرانهم أنفسهم وأهليهم ذكر حالهم في جهنم وأنهم من فوتهم ظلل ومن تحتهم ظلل فيظهر أن النار تغشاهم من فوقهم ومن تحتهم وسمي ما تحتهم ظللا لمقابلة ما فوقهم كما قال تعالى:
يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم
[العنكبوت: 55] والإشارة بذلك إلى العذاب أي ذلك العذاب يخوف الله به عباده ليعلموا ما يخلصهم منه ثم ناداهم وأمرهم فقال: يا عباد فاتقون أي اتقوا عذابي.
{ والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها } قال ابن زيد: نزلت في زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان وأبي ذر وقال إسحق: الإشارة بها إلى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير وذلك أنه لما أسلم أبو بكر رضي الله عنه جاؤوه وقالوا له أسلمت قال: نعم وذكرهم بالله تعالى فآمنوا به أجمعهم فنزلت فيهم وهي محكمة في الناس إلى يوم القيامة والطاغوت تقدم الكلام عليه.
{ أن يعبدوها } أي عبادتها وهو بدل اشتمال.
{ لهم البشرى } أي من الله تعالى بالثواب.
{ فبشر عباد } هم المجتنبون الطاغوت المنيبون إلى الله تعالى وضع الظاهر موضع المعتمر ليدل على أنهم هم وليرتب على الظاهر الوصف وهو الذين يستمعون القول وهو عام في جميع الأقوال.
[39.18-65]
{ فيتبعون أحسنه } ثناء عليهم بنفوذ بصائرهم وتمييزهم والذين مبتدأ خبره أولئك وما بعده.
{ أفمن حق عليه كلمة العذاب } قيل نزلت في أبي جهل أي نفذ عليه الوعيد بالعذاب والظاهر أنها جملة مستقلة ومن موصولة مبتدأ والخبر محذوف تقديره يتأسف عليه ولما ذكر حال الكفار في النار وان الخاسرين لهم ظلل ذكر حال المؤمنين وناسب الاستدراك هنا إذ هو واقع بين الكافرين فقال لكن الذين اتقوا وفي ذلك حض على التقوى لهم علالي مرتفعة فوقها علالي مبنية أي بناء المنازل التي سويت على الأرض والضمير في من تحتها عائد على الجمعين أي من تحت الغرف السفلى والغرف العليا لا تفاوت بين أعلاها وأسفلها وانتصب وعد الله على المصدر المؤكد لمضمون الجملة قبله إذ تضمنت معنى الوعد.
{ ألم تر } خطاب للسامع وتوقيف.
{ فسلكه ينابيع } أي أدخله مسالك وعيونا والظاهر أن ماء العيون هو من ماء المطر تحبسه الأرض ويخرجه شيئا فشيئا.
{ ثم يخرج به زرعا } ذكر منته تعالى علينا بما تقوم به معيشتنا.
{ مختلفا ألوانه } من أحمر وأصفر وأخضر وأبيض وشمل لفظ الزرع جميع ما يزرع من مقتات وغيره.
{ ثم يهيج } يقارب التمام.
{ فتراه مصفرا } أي زالت خضرته ونضارته.
{ إن في ذلك } أي فيما ذكر من إنزال المطر وإخراج الزرع به وانقلابه إلى حال الحطامية.
{ لذكرى } أي لتذكيرا وتنبيها على حكمة فاعل ذلك وقدرته.
{ أفمن شرح الله صدره للإسلام } نزلت في حمزة وعلي رضي الله عنهما ومن مبتدأ وخبره محذوف يدل عليه فويل للقاسية تقديره كالقاسي المعرض عن الإسلام وأبو لهب وابنه كانا من القاسية قلوبهم وشرح الصدر استعارة عن قبوله للإيمان والخير والنور الهداية وفي الحديث
" كيف انشراح الصدر قال: إذا دخل النور القلب انشرح وانفسح قلنا ما علامة ذلك قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي في دار الغرور والتأهب للموت قبل الموت ".
{ فويل للقاسية قلوبهم } إذا ذكر الله عندهم قست قلوبهم.
{ أولئك } أي القاسية قلوبهم.
{ في ضلال مبين } أي في حيرة واضحة لا تخفى.
{ الله نزل أحسن الحديث } عن ابن عباس أن قوما من الصحابة قالوا: يا رسول الله حدثنا بأحاديث حسان وأخبار الدهر فنزل الله نزل أحسن الحديث ومتشابها مطلق في مشابهة بعضه بعضا فمعانيه متشابهة لا تناقض فيها ولا تعارض وألفاظه في غاية الفصاحة والبلاغة والتناسب بحيث أعجزت الفصحاء والبلغاء ومثاني جمع مثنى ومعناه موضع تثنية القصص والأحكام والعقائد والوعد والوعيد والظاهر حمل القشعريرة على الحقيقة إذ هو موجود عند الخشية محسوس يدركه الإنسان من نفسه وهو حاصل من التأثر القلبي والمعنى أنه حين يسمعونه يتلى ما فيه من آيات الوعيد تعتريهم خشية تنقبض منها جلودهم ثم إذا ذكروا الله تعالى ورحمته لانت جلودهم أي زال عنها ذلك التقبض الناشىء عنه خشية القلوب بزوال الخشية عنه وضمن تلين معنى تطمئن جلودهم لينة غير منقبضة وقلوبهم راجية أي غير خاشية ولذلك عاداه بإلى وكان في ذكر القلوب في هذه الجملة دليل على تأثرها عند السماع فاكتفى بقشعريرة الجلود عن ذكر خشية القلوب لقيام المسبب مقام السبب فلما ذكر اللين ذكرهما وفي ذكر اللين ذكرهما وفي ذكر اللين دليل على المحذوف الذي هو رحمة الله وقال ابن عباس بن عبد المطلب قال النبي صلى الله عليه وسلم:
" من أقشعر جلده من خشية الله تحاثت عنه ذنوبه كما يتحاث عن الشجرة اليابسة ورقها ".
{ أفمن يتقي } أي يستقبل والظاهر حمل بوجهه على الحقيقة لما كان يلقى في النار مغلولة يداه إلى رجليه مع عنقه لم يكن له ما يتقي به النار إلا وجهه قيل يجر على وجهه في النار ويجوز أن يعبر بالوجه عن الجملة وفي قوله: { أفمن شرح الله } حذف المذموم وهو القاسي القلب وهنا حذف الممدوح المنعم في الجنة، ولما ذكر تعالى أنه ضرب في القرآن من كل مثل أي محتاج إليه ضرب هنا مثلا لعابد آلهة كثيرة ومن يعبد الله وحده ومثل برجل مملوك اشترك فيه ملاك سيئوا الأخلاق فهو لا يقدر أن يوفي كل واحد منهم مقصوده إذ لا يتعاض بعضهم لبعض بمشاحتهم وطلب كل منهم أن يقضي حاجته على التمام والكمال فلا يزال في عناء وتعب ولوم من كل منهم ورجل آخر مملوك جميعه لرجل واحد فهو معني بشغله لا يشغله عنه شىء ومالكه راض عنه إذ قد خلص لخدمته وبذل جهده في قضاء حوائجه فلا يلقى من سيده إلا إحسانا وتقدم الكلام عليه في ضرب المثل وما بعده.
{ إنك ميت } خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ويدخل معه أمته في ذلك.
{ وإنهم } عائد على الكفار ثم قال:
{ ثم إنكم } خطاب للجميع.
{ تختصمون } بين يديه يوم القيامة وهو الحكم العدل فيتميز المحق من المبطل.
{ فمن أظلم ممن كذب على الله } الآية هذا تفسير وبيان للذين يكون بينهم الخصومة وهذا يدل على أن الإختصام السابق يكون بين المؤمنين والكافرين والمعنى لا أحد في المكذبين أظلم ممن افترى على الله الكذب فنسب إليه الولد والصاحبة والشريك وحرم وحلل من غير أمر الله تعالى.
{ وكذب بالصدق } وهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء اي وقت مجيئه فاجأه بالتكذيب من غير فكر ولا ارتياء ولا نظر بل وقت مجيئه كذب به ثم توعدهم توعدا فيه احتقارهم على جهة التوقيف وللكافرين مما قام فيه الظاهر مقام المضمر أي مثوى لهم وفيه تنبيه على علة كذبهم وتكذيبهم وهو الكفر.
{ والذي جآء بالصدق } معادل لقوله فمن أظلم.
{ وصدق به } مقابل لقوله وكذب بالصدق والذي جنس كأنه قال: والفريق الذي جاء بالصدق ويدل عليه أولئك هم المتقون فجمع كما أن المراد بقوله: فمن أظلم يريد به جمع ولذلك قال: مثوى للكافرين.
{ أليس الله بكاف عبده } قالت قريش لئن لم ينته محمد عن تعييب آلهتنا لنسلطها عليه فتصيبه بخبل أو تعتريه بسوء فأنزل تعالى: { أليس الله بكاف عبده } أي شر من يريد بشر والهمزة الداخلة على النفي للتقرير أي هو كاف عبده وفي إضافته إليه تشريف عظيم لنبيه صلى الله عليه وسلم.
{ ويخوفونك بالذين من دونه } وهي الأصنام ولما بعث خالدا إلى كسر العزى قال له سادنها إني أخاف عليك منها فلها قوة لا يقوم لها شىء فأخذ خالد الفاس فهشم وجهها ثم انصرف.
وفي قوله: { ويخوفونك } تهكم بهم لأنهم خوفوه ما لا يقدر على نفع ولا ضرر.
وقرىء: بكافي عبده على الإضافة ويكافي عباده مضارع كما في ونصب عباده فاحتمل أن يكون مفاعلة من الكفاية كقولك: يجازي في يجزي وهو أبلغ من كفر لبنائه على لفظ المبالغة وهو الظاهر لكثرة تردد هذا المعنى في القرآن كقوله:
فسيكفيكهم الله
[البقرة: 137] ويحتمل أن يكون مهزوما من المكافأة وهي المجازاة أي يجزهم أجرهم ولما كان تعالى كافي عبده كان التخويف بغيره عبثا باطلا ولما اشتملت الآية على مهتدين وضالين أخبر أن ذلك كله هو فاعله ثم قال:
{ أليس الله بعزيز } أي غالب منيع.
{ ذي انتقام } وفيه وعيد لقريش ووعد المؤمنين ولما أقروا بالصانع وهو الله تعالى أخبرهم أنه تعالى هو المتصرف في نبيه بما أراد وأن تلك الأصنام التي يدعونها آلهة من دونه لا تكشف ضرا ولا تمسك رحمة أي صحة واسعة في الرزق ونحو ذلك وأرأيتم هنا جارية على وصفها تعدت إلى مفعولها الأول وهو ما يدعون وجاء المفعول الثاني جملة استفهامية وفيها العائد على ما وهو لفظ من وأنث تحقيرا لها وتعجيزا وتضعيفا وكان فيها من سمى تسمية الإناث كالعزى ومنات اللات وأضاف إرادته الضر أي نفسه والرحمة إليها لأنهم خوفوه معرتها واستسلف منهم الإقرار بأن خالق العالم هو الله ثم استخبرهم عن أصنامهم هل تدفع شرا أو تجلب خيرا وقرىء: كاشفات وممسكات على الإضافة وعلى الأعمال ولما تقرر أنه تعالى كافيه وأن أصنامهم لا تضر ولا تنفع أمره تعالى أن يعلم أنه هو حسبه أي كافيه والجواب في هذا الاستخبار محذوف والتقدير فإنهم سيقولون لا تقرر على شيء من ذلك.
{ قل يقوم } تقدم الكلام عليه.
{ الله يتوفى الأنفس حين موتها } لما ذكر تعالى أنه أنزل الله الكتاب على رسوله بالحق للناس نبه على آية من آياته تدل على وحدانيته لا يشركه في ذلك صنم ولا غيره فقال الله يتوفى الأنفس والأنفس هي الأرواح.
قال ابن عباس: الروح لها تدبير عالم الحياة والنفس لها تدبير عالم الإحساس ومعنى يتوفى الأنفس يميتها.
{ والتي } أي والأنفس التي.
{ لم تمت في منامها } أي يتوافاها حين تنام تشبيها للنوم بالأموات ومنه هو الذي يتوفاكم بالليل فبين الميت والنائم قدر مشترك وهو كونهما لا بميزان ولا يتصرفان فيمسك من قضى عليها الموت الحقيقي فلا يردها في وقتها حية ويرسل النائمة لجسدها إلى أجل ضربة لموتها.
{ قل لله الشفاعة جميعا } فهو مالكها يأذن فيها لمن يشاء ثم أتى بعام وهو له ملك السماوات والأرض فاندرج فيه ملك الشفاعة ولما كانت الشفاعة من غيره موقوفة على اذنه كانت الشفاعات كلها له تعالى.
{ وإذا ذكر الله وحده } أي مفردا بالذكر ولم يذكر معه آلهتهم وقيل إذا قيل لا إله إلا الله.
{ وإذا ذكر الذين من دونه } وهي الأصنام والاشمئزاز والاستبشار متقابلان غاية لأن الاشمئزاز امتلاء القلب غما وغيظا فيظهر أثره وهو الانقباض في الوجه والاستبشار امتلاؤه سرورا فيظهر أثره وهو الإنبساط والتهلل في الوجه.
قال الزمخشري: فإن قلت العامل في وإذا قلت العامل في إذا الفجائية تقديره وقت ذكر الذين من دونه فاجاؤوا وقت الاستبشار " انتهى " ما قاله الزمخشري لا أعلمه من قول من ينتمي للنحو وهو أن الظرفين معمولان لفاجاؤوا ثم إذا الأولى تنتصب على الظرف والثانية على المفعول به.
{ ولو أن للذين ظلموا } تقدم الكلام عليه.
{ وبدا لهم من الله } أي كانت ظنونهم في الدنيا متفرقة على حسب ضلالاتهم وتخيلاتهم فيما يعتقدونه فإذا عاينوا العذاب يوم القيامة ظهر لهم خلاف ما كانوا يظنون وما كان في حسابهم.
{ وحاق بهم ما كانوا } أي جزاء ما كانوا وما فيما كسبوا يحتمل أن تكون بمعنى الذي أي سيئات أعمالهم وأن تكون مصدرية أي سيئات كسبهم والسيئات أنواع العذاب سميت سيئات كما قال
وجزآء سيئة سيئة مثلها
[الشورى: 40].
{ فإذا مس الإنسان ضر دعانا } الآية، تقدم في غير آية كون الإنسان إذا مسه الضر التجأ إلى الله تعالى مع اعتقادهم الأوثان وعبادتها فإذا أصابتهم شدة نبذوها ودعوا رب السماوات والأرض وهذا يدل على تناقض آرائهم وشدة اضطرابها.
{ والذين ظلموا من هؤلاء } إشارة إلى مشركي قريش.
{ سيصيبهم سيئات ما كسبوا } جاء بسين التي هي أقل تنفيسا في الزمان من سوف وهو خبر غيب أبرزه الوجود في يوم بدر وغيره قتل رؤساؤهم حبس عنهم الرزق فلم يمطروا سبع سنين ثم بسط لهم فمطروا سبع سنين فقيل لهم أو لم يعلموا أنه لا قابض ولا باسط إلا الله وحده لا شريك له.
{ قل يعبادي الذين أسرفوا } نزلت في وحشي قاتل حمزة أو في قوم آمنوا عياش بن أبي ربيعة والوليد بن الوليد ونفر معهما ففتنتهم قريش فاقتنعوا وظنوا أن لا توبة لهم فكتب عمر بهذه الآية ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما شدد على الكفار وذكر ما أعد لهم من العذاب وأنهم لو كان لأحدهم ما في الأرض ومثله معه لافتدى به من عذاب الله ذكر ما في إحسانه من غفران الذنوب إذا آمن العبد ورجع إلى الله تعالى وكثيرا تأتي آيات الرحمة مع آيات النقمة ليرجو العبد ويخاف وهذه الآية عامة في كل كافر يتوب ومؤمن عاص يتوب تمحو التوبة ذنبه وقال عبد الله وغيره هذه أرجى آية في كتاب الله تعالى.
{ إن الله يغفر الذنوب جميعا } عام يراد به ما سوى الشرك وفي قوله: يا عبادي بإضافتهم إليه وندائهم إقبال وتشريف وأسرفوا على أنفسهم أي بالمعاصي والمعنى أن ضرر تلك الذنوب إنما هو عائد عليهم والنهي عن القنوط يقتضي الأمر بالرجاء وإضافة الرحمة إلى الله تعالى التفات من ضمير التكلم إلى الإسم الغائب لأن في إضافتها إليه سعة الرحمة إذا أضيفت إلى الله تعالى الذي هو أعظم الأسماء لأنه العالم المحتوي على معاني جميع الأسماء ثم أعاد الإسم الأعظم وأكد الجملة بأن مبالغة في الوعد بالغفران ثم وصف نفسه بما سبق في الجملتين من الرحمة والغفران بصفتي المبالغة وأكد بلفظ هو المقتضي عند بعضهم الحصر ولما كانت هذه الآية فيها فسحة عظيمة للمسرف أتبعها بأن الإنابة وهي الربوع مطلوبة مأمور بها ثم توعد من لم يتب بالعذاب حتى لا يبقى المرء كالمهمل من الطاعة والمتكل على الغفران دون إنابة.
{ أن تقول نفس يحسرتا } المؤلف منقلبة عن ياء المتكلم وأصله يا حسرتي كما قالوا في يا غلامي يا غلاما فقلبوا الياء ألفا والجنب الجانب ومستحيل على الله تعالى الجارحة فإضافة الجنب إليه مجاز.
{ لمن الساخرين } لم يكفه أن ضيع طاعة الله تعالى حتى سخر من أهلها ولما كان قوله: لو أن الله هداني وجوابه متضمنا نفى الهداية كأنه قال: ما هداني فقيل له بلى قد جاءتك آياتي مرشدة لك فكذبت.
{ فأكون } يجوز أن يكون جواب وقد أشربت معنى التمني كأنه قيل تمنيت أن لي كرة فأكون من المحسنين ويجوز أن يكون معطوفا على كرة كأنه قيل فلو أن لي كرة فكونا من المحسنين ويكون جواب لو محذوف تقديره لنجوت.
قال ابن عطية وحق بلى أن تجيء بعد نفي عليه تقرير وقوله بلى جواب لنفي مقدر كان النفس قالت فعمري في الدنيا لم يتسع للنظر أو قالت: فإن لم يتبين لي الأمر في الدنيا ونحو هذا انتهى.
ليس حق بلى ما ذكر بل حقها ان تكون جواب نفي ثم حمل التقرير على النفي ولذلك لم يحمله عليه بعض العرب وأجابه بنعم سيبويه نفسه إن أجاب التقرير بنعم اتباعا لبعض العرب وكذبهم على الله تعالى نسبتهم إليه الباب والصاحبة والولد وشرعهم ما لم يأذن به الله والظاهر أنه عام في الكاذبين على الله تعالى والرؤية هنا من رؤية البصر ووجوههم مسودة جملة في موضع الحال وفيها رد على الزمخشري إذ زعم أن حذف الواو من الجملة الإسمية المشتملة على ضمير ذي الحال شاذ وتبع في ذلك الفراء وقد أعرب هو هذه الجملة حالا فكأنه رجع عن مذهبه ذلك وقرىء: وجوههم مسودة بنصبهما فهو بدل من الذين ومسودة حال كأنه قيل وقرىء وجوه الذين كذبوا على الله في حال اسودادها وقرىء: بمفازتهم على الافراد وبمفازاتهم على الجمع والذين كفروا معطوف على قوله وينجي وإن كانت تلك الجملة إسمية وينجي جملة فعلية إذ صار المعنى وينجي مع ما بعده ويحشر من كفر بآيات الله.
{ قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون } أفغير منصوب بقوله: أعبد وتأمروني جملة اعتراضية بين الفعل ومعمولة كأنه قيل أعبد غير الله تأمروني بذلك وقرىء تأمروني بإدغام نون الرفع في نون الوقاية قال ابن عطية: وهذا على حذف النون الواحدة وهي الموطئة لياء المتكلم يعني في قراءة من قرأ بحذف النون قال: ولا يجوز حذف النون الأولى وهو لحن لأنها علامة رفع الفعل " انتهى ".
في المسئلة خلاف منهم من يقول المحذوفة نون الرفع ومنهم من يقول الوقاية وليس بلحن لأن التركيب متفق عليه والخلاف جرى في أيهما حذف وتختار أنها نون الرفع ويجوز أن يكون تأمروني في موضع الحال أنكر عليهم أن يعبد غير الله آمريه بذلك ولما كان الإشراك مستحيلا على من عصمه الله تعالى وجب تأويل قوله: لئن أشركت على حمله على ضمير السامع دون الموحى إليه أي أوحى إلى الرسول عليه السلام لئن أشركت أيها السامع ومضى الخطاب على هذا التأويل ويدل على هذا التأويل وأنه ليس يراجع الخطاب للرسول عليه السلام افراد الخطاب في لئن اشركت إذ لو كان هو المخاطب لكان التركيب لئن أشركتم فيشتمل ضميره وضمير الذين من قبله ويغلب الخطاب.
[39.66-75]
{ بل الله فاعبد } خطاب للسامع أمره تعالى بالعبادة والشكر. قال الزمخشري: فاعبد رد لما أمروه من استلام بعض آلهتهم كأنه قال لا تعبد ما أمروك بعبادته بل إن كنت عاقلا فاعبد الله فحذف الشرط وجعل تقدم المفعول عوضا منه " انتهى ".
لا يكون تقدم المفعول عوضا من الشرط لجواز أن يجيء زيد فعمرا أضرب فلو كان عوضا لم يجز الجمع بينهما.
{ وما قدروا الله حق قدره } تقدم الكلام عليه في الانعام ولما أخبر أنهم ما عرفوه حق معرفته نبههم على عظمته وجلاله على طريق التصوير والتخيل فقال:
{ والأرض جميعا قبضته يوم القيمة والسموت مطويات بيمينه } والدليل العقلي قائم على امتناع ثبوت الأعضاء والجوارح لله تعالى فوجب الحمل على المجاز ولما قرر كمال عظمته بما سبق أيضا أردفه بما يناسب من ذلك إذ كان فيما تقدم ذكر حال الأرض والسماوات يوم القيامة فقال:
{ ونفخ في الصور } وقرىء:
{ وأشرقت } مبنيا للفاعل أي أضاءت وقرىء: مبنيا للمفعول من شرقت بالضوء تشرق إذا امتلأت به واغتصت وأشرقها الله تعالى كما يقول ملأ ارض عدلا وطبقها عدلا.
{ وجيء بالنبيين } ليشهدوا على أممهم.
{ ووفيت كل نفس } أي جوزيت مكملا.
{ وهو أعلم بما يفعلون } فلا يحتاج إلى كاتب ولا شاهد وفي ذلك وعيد وزيادة تهديد.
{ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا } لما ذكر شيئا من أحوال يوم القيامة على سبيل الاجمال بين بعد كيفية أحوال الفريقين وما أفضى إليه كل واحد منهما فقال وسيق السوق يقتضي الحث على المسير بعنف وهو الغالب فيه وجواب إذا افتتحت أبوابها ودل ذلك على أنها لا تفتح إلا إذا جاءت كسائر أبواب السجون فإنها لا تزال مغلقة حتى يأتي أصحاب الجرائم الذين يسجنون فيها فتفتح ثم تغلق عليهم.
{ وقال لهم خزنتهآ } على سبيل التقريع والتوبيخ.
{ ألم يأتكم رسل منكم } أي من جنسكم يقصون ما ينبئونكم به وتسهل عليكم مراجعتهم.
{ يتلون عليكم آيات ربكم } أي الكتب المنزلة للتبشير والنذارة.
{ وينذرونكم لقآء يومكم هذا } وهو يوم القيامة وما يلقى فيه المسيء من العذاب.
{ قالوا بلى } أي قد جاءتنا وتلوا عليها وأنذروا وهذا اعتراف بقيام الحجة عليهم.
{ ولكن حقت كلمة العذاب } أي قوله تعالى لأملأن جهنم الآية.
{ على الكافرين } وضع الظاهر موضع المضمر أي علينا صرحوا بالوصف الموجب لهم العقاب ولما فرغت محاورتهم مع الملائكة أمروا بدخول النار.
{ وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا } عبر عن الإسراع إلى الجنة مكرمين بالسوق وإذا شرطية وجوابها قال الكوفيون: وفتحت والواو زائدة وقال غيرهم محذوف تقديره لسروا بذلك.
{ وقالوا } أي الداخلون الجنة.
{ الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض } وهي أرض الجنة أي ملكناها نتصرف فيها كيف نشاء.
{ فنعم أجر العاملين } أي المخصوص بالمدح محذوف تقديره أجرنا.
{ وترى الملائكة } خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم.
{ حآفين } حال والحفوف الاحداق بالشىء من جميع جهاته أي حافين.
{ من حول العرش يسبحون } حال.
{ وقيل الحمد لله رب العالمين } ختم الأمر وقول جزم عند فصل القضاء أي أن هذا الحاكم العدل ينبغي أن يحمد عند نفوذ حكمه وإكمال قضائه ومن هذه الآية جعلت الحمد لله رب العالمين خاتمة المجالس والمجتمعات في العلم.
[40 - سورة غافر]
[40.1-27]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم } سبع الحواميم مكيات قالوا بإجماع وفي الحديث
" أن الحواميم ديباج القرآن وفيه من أراد أن يرتع في رياض مونقة من الجنة فليقرأ الحواميم وفيه مثل الحراميم في القرآن مثل الحبرات في الثياب "
وهذه الحواميم مقصورة على المواعظ والزجر وطرق وهي قصار لا تلحق منها سآمة.
ومناسبة أول هذه السورة لآخر الزمر أنه تعالى لما ذكر ما يؤول إليه حال الكافر وحال المؤمن ذكر تعالى هنا أنه غافر الذنب وقابل التوب ليكون ذلك استدعاء للكافر إلى الإيمان والإقلاع عما هو فيه وإن باب التوبة مفتوح وذكر شدة عقابه وصيرورة العالم كلهم إليه ليرتدع عما هو فيه وإن مرجعه إلى ربه فيجازيه بما عمل من خير أو شر.
{ شديد العقاب } بدل لأنه من باب الصفة المشبهة ولا يتعرف بالإضافة إلى المعرفة ووقع في كلام الزمخشري في قوله شديد العقاب ما نصه والوجه أن يقال لما صودف بين هؤلاء المعارف هذه النكرة الواحدة فقد آذنت وهذا تركيب غير عربي لأنه جعل فقد آذنت جواب لما وليس من كلامهم لما جاء زيد فقد قام عمرو.
{ ذي الطول } قال ابن عباس الطول السعة والغنى.
{ ما يجادل } جدالهم فيها قولهم مرة سحر ومرة شعر ومرة كهانة ومرة أساطير الأولين ومرة إنما يعلمه بشر فهو جدال بالباطل ولما كان جدال الكفار ناشئا عن تكذيب ما جاء به الرسول عليه السلام من آيات الله ذكر من كذب قبلهم من الأمم السالفة وما صار إليه حالهم من حلول نقمات الله تعالى بهم ليرتدع بهم كفار من بعث الرسول إليهم فبدأ بقوم نوح عليه السلام إذ كان عليه السلام أول رسول في الأرض وعطف على قومه الأحزاب وهم الذين تخربوا على الرسل ولم يقبلوا منهم ما جاؤوا به من عند الله تعالى ومنهم عاد وثمود وفرعون وأتباعه وقدم الهم بالأخذ على الجدال بالباطل لأن الرسل عليهم السلام لما عصمهم الله تعالى منهم أن يقتلوهم رجعوا إلى الجدال بالباطل.
{ فكيف } إستفهام في موضع خبر كان وعقاب إسم لكان حذفت منه ياء الإضافة لكونه فاصلة.
{ وكذلك حقت } الكاف للتشبيه أي مثل ذلك الوجوب من عقابهم وجب على الكفرة كونهم من أصحاب النار وأنهم مع ما بعده يتقدر بالمصدر أي كونهم وهو بدل من قوله كلمة.
{ الذين يحملون العرش } الآية، لما ذكر جدال الكفار ذكر طاعة هؤلاء لمصطفين من خلقه وهم حملة العرش ومن حوله وهم الحافون به من الملائكة والذين مبتدأ ومن معطوف عليه ويسبحون الخبر ويؤمنون به فائدته شرف الإيمان وفضله وشرف من تحلى به.
{ ويستغفرون للذين آمنوا } يدل على شرف المؤمنين حيث جعل استغفارهم معطوفا على إيمان الملائكة معطوفا تقديره وسعت رحمتك وعلمك كل شىء ولما سألوا إزالة العقاب سألوا إيصال الثواب وكرروا الدعاء بربنا فقالوا ربنا وأدخلهم جنات عدن.
{ وقهم السيئات } أي امنعهم من الوقوع فيها حتى لا يترتب عليها جزاؤها ومن شرطية مفعول أول تبق تقديره أي شخص والسيئات مفعول ثان.
{ فقد رحمته } جواب الشرط ونداؤهم قيل في النار والمنادون لهم الزبانية على جهة التوبيخ والتقريع واللام في لمقت لام الإبتداء أو لام القسم ومقت مصدر مضاف إلى الفاعل والتقدير لمقت الله إياكم أو لمقت الله أنفسكم وحذف المفعول لدلالة ما بعده عليه في قوله: أكبر من مقتكم أنفسكم والظاهر أن مقت الله إياهم هو في الدنيا ويضعف أن يكون في الآخرة كما قال بعضهم لبقاء إذ تدعون فعلتا من الكلام لكونه ليس له عامل تقدم ولا مفسر لعامل فإذا كان المقت السابق في الدنيا أمكن أن يضمر له عامل تقديره مقتكم إذ تدعون.
وقال الزمخشري: وإذ تدعون منصوب بالمقت الأول والمعنى أنه يقال لهم يوم القيامة ان الله مقت أنفسكم الأمارة بالسوء والكفر حيث كان الأنبياء يدعونكم إلى الإيمان فتأتون قبوله وتختارون عليه الكفر أشد مما اليوم وأنتم في النار وإذا وقعتم فيها باتباعكم هواهن " انتهى ". وفيه دسيسة الاعتزال وأخطأ في قوله: وإذ تدعون منصوب بالمقت الأول لأن المقت مصدر ومعموله من صلته ولا يجوز أن يخبر عنه إلا بعد استيفائه صلته وقد أخبر عنه بقوله: أكبر من مقتكم أنفسكم وهذا من ظواهر علم النحو التي لا تكاد تخفى على المبتدئين فضلا عمن تدعي العجم أنه في العربية شيخ العرب والعاجم وليس كذلك.
{ قالوا ربنآ أمتنا اثنتين } وجه اتصال هداه بما قبلها انهم كانوا ينكرون البعث وعظم مقتهم أنفسهم هذا الإنكار فلما مقتوا أنفسهم ورأوا حزنا طويلا رجعوا إلى الإقرار بالبعث فأقروا أنه تعالى أماتهم اثنتين وأحياهم اثنتين وتعظيما لقدرته وتوسلا إلى رضاه ثم أطعموا أنفسهم بالاعتراف بالذنوب أن يردوا إلى الدنيا أي أن رجعنا إلى الدنيا ودعينا إلى الإيمان بادرنا إليه وتقدم الكلام في الاماتة والإحياء في البقرة.
{ ذلكم } الظاهر أن الخطاب للكفار في الآخرة والإشارة إلى العذاب الذي هم فيه وذلكم مبتدأ خبره بأنكم لأنه ينسبك ما بعد الباء بمصدر فيكون التقدير عذابكم كائن بسبب كفركم وإشرائككم المذكورين والضمير في بأنه ضمير الشأن.
{ إذا دعي الله وحده } إي إذا أفرد بالألوهية ونفيت عن سواه.
{ كفرتم وإن يشرك به } أي ذكرت اللات والعزى وأمثالهما من الأصنام صدقتم بألوهيتها وسكنت نفوسكم إليها.
{ فالحكم } بعذابكم اليوم.
{ لله } تعالى لا لتلك الأصنام التي أشركتموها مع الله تعالى.
{ العلي } عن الشريك.
{ الكبير } العظيم الكبرياء.
{ فادعوا الله مخلصين له الدين } الآية، الأمر للنبيين ورفيع الدرجات خبر مبتدأ محذوف والروح النبوة وقال جبريل عليه السلام يرسله لمن يشاء والأولى الوحي استعار له الروح لحياة المرضية به وسمي يوم التلاق لإلتقاء الخلائق فيه قاله ابن عباس: يوم هم بارزون أي ظاهرون من قبورهم لا يسترهم شىء حفاة عراة ويوم بدل من يوم التلاق وكلاهما ظرف مستقبل والظرف المستقبل عند سيبويه لا يجوز إضافته إلى الجملة الإسمية لا يجوز أجيئك يوم زيد ذاهب إجراء له مجرى إذا فكما لا يجوز ان تقول أجيئك إذا زيد ذاهب فكذلك لا يجوز هذا وذهب أبو الحسن إلى جواز ذلك.
قال ابن عباس: إذا هلك من في السماوات ومن في الأرض فلم يبق إلا الله تعالى قال لمن الملك اليوم فلا يجيبه أحد فيرد على نفسه لله الواحد القهار ويوم الآزفة هو يوم القيامة.
{ لدى الحناجر } تقدم الكلام عليه في الأحزاب.
{ خآئنة الأعين } الظاهر أنه من إضافة الصفة إلى موصوفة أي الأعين الخائنة وخيانتها من كسر جفن وغمز ونظر ويفهم منه ما يراد.
{ ولقد أرسلنا موسى بآياتنا } الآية، ابتدأ تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعيدا لقريش أن يحل بهم ما حل بفرعون وقومه من نقمات الله تعالى بآياتنا أشهرها العصا واليد وقرىء: أو أن وقرىء: يظهر مضارع ظهر والفساد فاعل وقرئ: يظهر مضارع أظهر والفساد مفعول به والفاعل ضمير موسى.
[40.28-75]
{ وقال رجل مؤمن } قيل كان قبطيا وهو ابن عم فرعون وقيل كان إسرائيليا واسمه سمعان وقيل غير ذلك.
{ من آل فرعون } في موضع الصفة ورد قول من علق من آل فرعون بيكتم فإنه لا يقال كتمت من فلان كذا إنما يقال كتمت فلانا قال تعالى ولا يكتمون الله حديثا وقال الشاعر:
كتمتك ليلا بالجمومين ساهرا
{ أتقتلون رجلا } هذا إنكار منه عظيم وتبكيت لهم كأنه قال أترتكبون الفعلة الشنعاء التي هي قتل نفس محرمة وما لكم علة في ارتكابها إلا كلمة الحق التي نطق بها وهي قوله ربي الله مع أنه قد جاءكم بالبينات من ربكم أي من عند من نسب إليه الربوبية وهو ربكم لا ربه وحده وهذا استدراج إلى استدراج إلى الاعتراف بالبينات بالدلائل على التوحيد وهي التي ذكرها في طه والشعراء حالة محاورة له في سؤاله عن ربه تعالى ولما صرح بالإنكار عليهم غالطهم بعد في أن قسم أمره إلى كذب وصدق وأبدى ذلك في صورة احتمال ونصيحة وبدأ في التقسيم بقوله:
{ وإن يك كاذبا فعليه كذبه } مداراة منه وسلوكا لطريق الإنصاف في القول وخوفا إذا أنكر عليهم قتله أنه ممن يعاضده وينصره فأوهمهم بهذا التقسيم والبداءة بحالة الكذب حتى يسلم من شره ويكون ذلك أدنى إلى تسليمهم ومعنى فعليه كذبه أنه لا يتخطاه ضرره.
{ وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم } هو يعتقد أنه نبي قطعا لكنه أتى بلفظ بعض لإلزام الحجة بأيسر ما في الأمر وليس فيه نفي أن يصيبهم كل ما يعدهم.
{ إن الله لا يهدي } فيه إشارة إلى علو شأن موسى عليه السلام وان من اصطفاه الله تعالى للنبوة لا يمكن أن يقع منه إسراف ولا كذب وفيه تعريض بفرعون إذ هو في غاية الإسراف على نفسه بقتل أبناء المؤمنين وفي غاية الكذب إذا دعى الإلهية والربوبية ومن هذا شأنه لا يهديه الله أبدا وفي الحديث
" الصديقون ثلاثة حبيب النجار مؤمن آل ياسين ومؤمن آل فرعون وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم "
وفي الحديث
" أنه عليه السلام طاف بالبيت فحين فرغ أخذوا بمجامع ردائه فقالوا له: أنت الذي تنهانا عما كان يعبد آباؤنا فقال أنا ذلك فقام أبو بكر رضي الله عنه فالتزمه من ورائه وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم رافعا صوته بذلك وعيناه تسفحان بالدموع حتى أرسلوه "
ثم قال:
{ يقوم } نداء متلطف في موعظتهم.
{ لكم الملك اليوم ظاهرين } أي غالبين عالين.
{ في الأرض } أرض مصر قد غلبتم بني إسرائيل فيها وقهرتموهم واستعبدتموهم وبدأهم بالملك الذي هو أعظم مراتب الدنيا وأجلها وهو من جملة شهواتهم وانتصب ظاهرين على الحال والعامل فيها هو العامل في الجار والمجرور وذو الحال هو ضمير لكم ثم حذرهم أن يفسدوا على أنفسهم بأنه إن جاءهم بأس الله لم يجدوا لهم دافعا ولا ناصرا وأدرج نفسه في ينصرنا وجاءنا لأنه منهم في القرابة وليعلمهم أن الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه وأقوال هذا المؤمن هذه تدل على زوال هيبة فرعون من قلبه ولذلك استكان فرعون وقال:
{ مآ أريكم إلا مآ أرى } أي ما أشير عليكم إلا بقتله ولا أستصوب إلا ذلك وهذا قول من لا تحكم له وأتى بما وإلا للحصر والتأكيد.
{ ومآ أهديكم إلا سبيل الرشاد } لا ما تقولونه من ترك قتله وقد كذب بل كان خائفا وجلا وقد علم أن ما جاء به موسى عليه السلام حق ولكنه كان يتجلد ويرى ظاهره خلاف ما أبطن.
{ وقال الذي آمن } الآية الجمهور ان على هذا المؤمن هو الرجل القائل أتقتلون رجلا قص الله تعالى أقاويله إلى آخر الآيات لما رأى ما لحق فرعون من الخور والخوف التي بنوع آخر من التهديد وخوفهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السالف من استصال الهلاك حين كذبوا رسلهم وقويت نفسه متى سرد عليهم ما سرد ولم يهب فرعون ويوم التناد هو يوم الحشر والتنادي مصدر تنادى القوم أي نادى بعضهم بعضا قال الشاعر:
تنادوا فقالوا أردت الخيل فارسا
فقلت أعند الله ذلكم الردى
وسمي يوم التناد أما النداء بعضهم بالويل والثبور وأما لتنادي أهل الجنة وأهل النار على ما ذكر في الأعراف وفي الحديث
" ان للناس جولة يوم القيامة يندون يظنون أنهم يجدون مهربا ثم تلا يوم تولون مدبرين مالكم من الله من عاصم في فراركم حتى تطفى في النار ولما يئس المؤمن من قبولهم قوله قال: ومن يضلل الله فما له من هاد ".
قال الزمخشري: ويحتمل أن يكون ان الذين يجادلون مبتدأ وبغير سلطان أتاهم خبرا وفاعل كبر قوله: كذلك أي كبر مقتا مثل ذلك الجدال ويطبع الله كلام مستأنف ومن قال كبر مقتا عند الله جدالهم فقد حذف الفاعل والفاعل لا يصح حذفه " انتهى ". وهذا الذي أجازه لا يجوز أن يكون مثله في كلام فصيح في كلام الله تعالى لأن فيه تفكيك الكلام بعضه من بعض وارتكاب مذهب الصحيح خلافه أما تفكيك الكلام فالظاهر أن بغير سلطان. متعلق بيجادلون ولا يتعقل جعله خبرا للذين لأنه جار ومجرور فيصير التقدير الذين يجادلون في آيات الله كائنون أو مستقرون بغير سلطان أي في غير سلطان لأن الباء إذ ذاك ظرفية خبر عن الجثة وكذلك في قوله: يطبع انه مستأنف فيه تفكيك الكلام لأن ما جاء في القرآن من كذلك يطبع أو نطبع إنما جاء مربوطا بعضه ببعض فكذلك هنا وأما ارتكاب مذهب الصحيح خلافه فجعل الكاف اسما فاعلا بكبر وذلك لا يجوز على مذهب البصريين إلا الأخفش ولم يثبت في كلام العرب أعني نثرها جاءني كزيد تريد مثل زيد فلم تثبت إسميتها فتكون فاعلة وأما قوله ومن قال: إلخ فإن قائل ذلك هو الحوفي والظن به أنه فسر ولم يرد الإعراب وإنما تفسير الإعراب أن الفاعل بكبر ضمير يعود على الجدال المفهوم من يجادلون كما قالوا من كذب كان شرا له أي كان هو أي الكذب المفهوم من كذب والأولى في إعراب هذا الكلام أن يكون الذين مبتدأ وخبره كبر والفاعل ضمير المصدر المفهوم من يجادلون وهذه الصفة موجودة في فرعون وقومه ويكون الواعظ لهم قد عدل عن مخاطبتهم إلى الإسم الغائب لحسن محاورته لهم واستجلاب قلوبهم وإبراز ذلك في صورة تذكيرهم ولا يفاجأهم بالخطاب وفي قوله: كبر مقتا ضرب من التعجب والاستعظام بجدالهم والشهادة على خروجه عن احد أشكاله من الكبائر.
{ كذلك } أي مثل ذلك الطبع على قلوب المجادلين.
{ يطبع الله } أي يختم بالضلال ويحجب عن الهدى وقرىء: قلب كل بالإضافة وبالتنوين فمتكبر صفة له.
{ وقال فرعون يهامان } أقول فرعون ذروني اقتل موسى ما أريكم إلا ما أرى يا هامان ابن لي صرحا حيدة عن محاجة موسى عليه السلام ورجوع إلى أشياء لا تصح وذلك كله لما خامره من الجزع والخوف وعدم المقاومة والتعرف بأن هلاكه وهلاك قومه على يدي موسى وأن قدرته عجزت عن التأثير في موسى هذا على كثرة سفكه الدماء وتقدم الكلام على الصرح وقرىء: فأطلع بالرفع عطفا على أبلغ وقرىء بالنصب.
قال الزمخشري: على جواب الترجي تشبيها للترجي بالتمني " انتهى ".
فالترجي لا يكون إلا في الممكن وبلوغ أسباب السماوات غير ممكن لأن فرعون أبرز ما لا يمكن في صورة الممكن تمويها على سامعيه وأما النصب بعد الفاء في جواب الترجي فشىء أجازه الكوفيون ومنعه البصريون واحتج الكوفيون بهذه القراءة وقرىء: وصد مبنيا للفاعل وصد مبنيا للمفعول.
{ ويقوم ما لي أدعوكم إلى النجاة } بدأ المؤمن بذكر المتسبب عن دعوته وأبدى التفاضل بينهما ولما ذكر المسببين ذكر سببهما وهو دعاؤهم إياه إلى الكفر والشرك ودعاؤه إياهم إلى الإيمان والتوحيد وأتى بصفة العزيز وهو الذي لا نظير له الغفار لذنوب من رجع إليه وآمن به وأوصل سبب دعائهم بمسببه وهو الكفر والنار وآخر سبب مسببه ليكون افتتاح كلامه واختتامه بما يدعو إلى الخير وبدأ أولا بجملة إسمية وهو الاستفهام المتضمن التعجب من حالتهم وختم أيضا بجملة إسمية ليكون أبلغ في توكيد الأخبار وجاء في حقهم وتدعونني بالجملة الفعلية التي لا تقتضي التوكيد إذ دعوتهم باطلة لا ثبوت لها فتؤكد وما ليس لي به علم هي الأوثان أي لم يتعلق علمي بها إذ ليس لها مدخل في الألوهية ولا لفرعون وتقدم الكلام على لا جرم ولما ذكر انتفاء دعوة ما عبد من دون الله ذكر أن مرد الجميع إلى الله أي إلى جزائه.
{ فوقاه الله سيئات ما مكروا } قال مقاتل لما قال هذه الكلمات قصدوا قتله هرب هذا المؤمن إلى الجبل فلم يقدروا عليه فوقاه الله سيئات ما مكروا أي شدائد مكرهم التي تسوؤه وما هموا به من أنواع العذاب لمن خالفهم.
{ وحاق بآل فرعون سوء العذاب } قال ابن عباس هو ما حاق بالألف بعثهم فرعون في طلب المؤمن من أكل السباع والموت بالعطش والقتل والصلب كما تقدم والظاهر أن العرض خلاف الإحراق وقرىء كل بالرفع مبتدأ خبره فيها والجملة في موضع خبر انا وقرىء بالنصب وخرجه الزمخشري وابن عطية على التوكيد قال الزمخشري لاسم ان وهو معرفة والتنوين عوض من المضاف إليه يريد انا كلنا فيها انتهى. وخبر ان هو فيها ومن رفع كلا فعلى الابتداء وخبره فيها والجملة خبر ان وقال ابن مالك في تصنيفه وقد تكلم على كل ولا يستغنى بنية إضافته خلافا للفراء والزمخشري انتهى وهذا المذهب منقول عن الكوفيين وقال الزمخشري وأيضا (فإن قلت) هل يجوز أن يكون كلا حالا قد عمل فيها (قلت) لا لأن الظرف لا يعمل في الحال متقدمة كما يعمل في الظرف متقدما تقول كل يوم لك ثوب ولا تقول قائما في الدار زيد انتهى هذا الذي منعه أجازه الأخفش إذا توسطت الحال نحو زيد قائما في الدار أو زيد قائما عندك والتمثيل الذي ذكره ليس مطابقا لما في الآية لأن الآية تقدم فيها المسند إليه الحكم وهو إسم وإن توسطت الحال إذا قلنا أنها حال وتأخر العامل فيها وأما تمثيله بقوله ولا نقول قائما في الدار زيد فتأخر فيه المسند والمسند إليه وقد ذكر بعضهم أن المنع في ذلك إجماع من النحاة والذي اختاره في تخريج هذه القراءة أن كلا بدل من إسم أن لأن كلا يتصرف فيها بالابتداء ونواسخه وغير ذلك فكأنه قال ان كلا فيها وإذا كانوا قد تأولوا حولا أكتعا ويوما أجمعا على البدل مع أنهما لا يليان العوامل فإن يدعي في كل البدل أولى وأيضا فتنكير كل ونصبه حالا في غاية الشذوذ والمشهور أن كلا معرفة إذا قطعت عن الإضافة حكى مررت بكل قائما وببعض جالسا في الفصيح الكثير في كلامهم وقد شذ نصب كل على الحال في قولهم مررت بهم كلا أي جميعا. (فإن قلت) كيف تجعله بدلا وهو بدل كل من كل من ضمير المتكلم وهو لا يجوز على مذهب جمهور البصريين (قلت) مذهب الأخفش والكوفيين هو الفصيح على أن هذا ليس مما وقع فيه الخلاف بل إذا كان البدل يفيد الإحاطة جاز أن يبدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب لا نعلم خلافا في ذلك كقوله تعالى
تكون لنا عيدا لأولنا وآخرنا
[المائدة: 114] وكذلك مررت بكم صغيركم وكبيركم معناه مررت بكم كلكم وتكون لنا عيدا كلنا فإذا جاز ذلك فيما هو بمعنى الإحاطة فجوازه فيما دل على الإحاطة وهو كل أولى ولا التفات لمنع المبرد البدل فيه لأنه بدل من ضمير المتكلم لأنه لم يتحقق مناط الخلاف ولما أجاب الضعفاء الم تكبرون قالوا جميعا لخزنة جهنم وأبرز ما أضيف إليه الخزنة ولم يأت ضميرا فكان يكون التركيب لخزنتها لما في ذكر جهنم من التهويل فراجعتهم الخزنة على سبيل التوبيخ والتقريع.
{ أولم تك تأتيكم رسلكم } فأجابوهم بأنهم أتتهم قالوا لهم فادعوا أنتم على سبيل الهزء بهم فإنا لا نجترىء على ذلك.
{ ولقد آتينا موسى الهدى } أي الدلائل التي أوردها على فرعون وقومه والكتاب التوراة توارثوها خلف عن سلف ثم أمره تعالى بتنزيهه في هذين الوقتين اللذين الناس مشغولون فيهما بمصالحهم المهمة ثم نبه تعالى على أنه لا ينبغي أن يجادل في آيات الله ولا يتكبر الإنسان بقوله تعالى:
{ لخلق السموت والأرض أكبر من خلق الناس } أي مخلوقاته أكبر وأجل من خلق البشر فما لأحدهم يجادل ويتكبر على خالقه.
{ ادعوني } أي اعبدوني.
{ أستجب لكم } أي أثبكم على العبادة وكثيرا جاء الدعاء في القرآن بمعنى العبادة ويقوي هذا التأويل قوله:
{ إن الذين يستكبرون عن عبادتي } وما روى النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
" الدعاء هو العبادة وقرأ هذه الآية { إن الذين يستكبرون عن عبادتي } "
أي يتعاظمون عن توحيدي وقرىء:
{ سيدخلون } مبنيا للفاعل والمفعول.
{ كذلك } أي مثل ذلك الصرف صرف الله قلوب الجاحدين بآيات الله من الأمم عن طريق الهدى والطيبات المستلذات طعما ولبسا ومعنى يسجرون يطرحون في النار فيكونون وقودا لها وقيل يحرثون ثم أخبروا تعالى أنهم يوقفون يوم القيامة على جهة التوبيخ والتقريع فيقال لهم أين الأصنام التي كنتم تعبدون في الدنيا فيقولون ضلوا عنا أي تلفوا منا وغابوا واضمحلوا ثم تضطرب أقوالهم ويفزعون إلى الكذب فيقولون بل لم نكن نعبد شيئا وهذا ومن أشد الاختلاط في الذهن والنظر.
{ ذلكم } أي الإضلال بسبب ما كان لكم من الفرح والمرح بغير الحق وهو الشرك وعبادة الأوثان وفي الحديث
" ان الله يبغض المرحين الفرحين ويحب كل قلب حزين "
وتفرحون وتمرحون من باب تجنيس التحريف المذكور في علم البديع وهو أن يكون الحرف فرقا بين الكلمتين.
[40.76-85]
{ ادخلوا } الظاهر أنهم قيل لهم ادخلوا بعد المحاورة السابقة وهم قد كانوا في النار ولكن هذ أمر مقيد بالخلود وهو الثواء الذي لا ينقطع فليس أمرا بمطلق الدخول إذ بعد الدخول فيها أمروا أن يدخلوا سبعة الأبواب التي لكل باب منها جزء مقسوم من الكفار فكان ذلك أمرا بالدخول بقيد التجزئة لكل باب وخالدين حال مقدرة ودلت على الثواء الدائم فجاء التركيب.
{ فبئس مثوى المتكبرين } ولم يجىء التركيب فبئس مدخل المتكبرين لأن نفس الدخول لا يدوم فلم يبالغ في ذمه بخلاف الثواء الدائم الذي لا ينقطع فإنه بولغ في ذمه.
{ فاصبر إن وعد الله حق } أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ما وعده به من نصره وإعلاء حق ثابت لا بد من وقوعه.
{ منهم من قصصنا عليك } أي من أخبرناك به في القرآن وهم ثمانية عشر نبيا.
{ ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول } أي ليس ذلك راجعا إليهم لما اقترحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" ليس ذلك إلى لا تأتي آية إلا إن شاء الله فإذا جاء أمر الله ردو وعيد باقتراحهم الآيات وأمر الله القيامة والمبطلون المعاندون مقترحو الآيات ومتى أتتهم الآيات فأنكروها وسموها سحرا "
ثم ذكر تعالى آيات اعتبار وتعداد نعم فقال:
{ الله الذي جعل لكم الأنعام } وهي ثمانية أزواج.
{ لتركبوا منها } وهي الإبل إذ لم يعهد ركوب غيرها.
{ ومنها تأكلون } عام في ثمانية الأزواج ولما كان المركوب منها وهي الإبل أعظم منفعة إذ فيه منفعة الأكل والركوب وذكر أيضا أن في الجميع منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك أكل منفعة الركوب بقوله:
{ ولتبلغوا عليها حاجة في صدوركم } من بلوغ الأسفار الطويلة وحمل الأثقال إلى البلاد الشاسعة وما أشبه ذلك من المنافع الدنيوية والدينية ولما كان الركوب وبلوغ الحاجة المترتب عليه قد يتوصل به إلى الانتقال لأمر واجب أو مندوب كالحج وغيره دخل حرف القليل على الركوب وعلى المترتب عليه من بلوغ الحاجات فجعل ذلك علة لجعل الأنعام لنا ولما كان الأكل وإصابة المنافع من جنس المباحات لم يجعل ذلك علة في الجعل بل ذكر أن منها نأكل ولنا فيها منافع من شرب لبن واتخاذ دثار وغير ذلك كما أدخل لام التعليل في لتركبوا ولم يدخلها على الزينة في قوله والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ولما ذكر ما امتن به من منة الركوب للإبل في البر ذكر ما امتن به من نعمة الركوب في البحر فقال:
{ وعليها وعلى الفلك تحملون * ويريكم آياته } أي حججه وأدلته على وحدانيته.
{ فأي آيات الله تنكرون } أي أنها كثيرة فأيها ينكر أي لا يمكن إنكار شىء منها في العقول وأي آيات الله منصوب بتنكرون قال الزمخشري: فأي آيات الله جاءت على اللغة المستفيضة وقوله: فأية آيات الله قليل لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث في الأسماء غير الصفات نحو حمار وحمارة غريب وهي في أي أغرب لإبهامه " انتهى ".
ومن قلة تأنيث أي قوله:
بأي كتاب أم بأية سنة
ترى حبهم عارا علي وتحسب
وقوله: وهي في أي أغرب ان عنى أيا على الإطلاق فليس بصحيح لأن المستفيض في النداء أن تؤنث في نداء المؤنث كقوله تعالى:
يأيتها النفس المطمئنة
[الفجر: 27] ولا يعلم من يذكرها فيه فيقول يا أيها المرأة إلا صاحب كتاب البديع في النحو وإن عنى غير المناداة فكلامه صحيح يقل تأنيثها في الاستفهام وموصولة وشرطية وما في قوله: فما أغنى نافية أو استفهامية في معنى النفي والضمير في جاءتهم عائد على الذين من قبلهم وجاء بقوله: من العلم على جهة التهكم بهم أي في الحقيقة لا علم لهم وإنما لهم خيالات واستبعادات لما جاءت به الرسل وكانوا يدفعون ما جاءت به الرسل بنحو قولهم ولئن رددت إلى ربي أو اعتقدوا أن عندهم علما يستغنون به عن علم الأنبياء عليهم السلام كما تزعم الفلاسفة والدهريون كانوا إذا سمعوا بوحي الله تعالى دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علمهم ولما سمع سقراط لعنه الله بموسى عليه السلام قيل له لو هاجرت إليه فقال نحن قوم مهذبون فلا حاجة بنا إلى من يهذبنا وعلى هذين القولين تكون الضمائر متناسقة عائدة على مدلول واحد.
{ بأسنا } أي عذابنا الشديد حكي حال من آمن بعد تلبس العذاب به وإن ذلك لم يكن نافعا وفي ذلك حض على المبادرة إلى الإيمان وتخويف من التأني وإيمانهم رفع بيك إسما لها أو فاعل ينفعهم وفي يك ضمير الشأن على الخلاف الذي في كان يقوم زيد ودخل حرف النفي على الكون لا على النفع لأنه يؤدي إلى نفي الصحة أي لم يصح ولم يستقم كقوله تعالى:
ما كان لله أن يتخذ من ولد
[مريم: 35] وترادف هذه الفاآت أما في فما أغنى عنهم فلأنه كان نتيجة قوله: كانوا أكثر منهم ولما جاءتهم رسلهم جار مجرى البيان والتفسير لقوله: { فمآ أغنى } وفلما رأوا بأسنا تابع لقوله فلما جاءتهم كأنه قال فكفروا به فلما رأوا بأسنا آمنوا وفلم يك ينفعهم إيمانهم تابع لإيمانهم لما رأوا بأسنا وانتصب سنة على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة أي ان ما فعل بهم هي سنة الله التي قد مضت وسبقت في عباده من إرسال الرسل والاعذار بهم وتعذيب من كذبهم واستئصالهم بالهلاك وعدم الانتفاع بالإيمان حالة تلبس العذاب بهم وهنالك ظرف مكان استعير للزمان أي وخسر في ذلك الوقت الكافرون.
[41 - سورة فصلت]
[41.1-28]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تنزيل من الرحمن الرحيم } هذه السورة مكية بلا خلاف ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال أفلم يسيروا إلخ فتضمن وعيدا وتهديدا وتقريعا لقريش فاتبع ذلك التقريع والتوبيخ والتهديد بتوبيخ آخر فذكر أنه نزل كتابا مفصلا آياته بشيرا لمن اتبعه نذيرا لمن أعرض عنه وأن أكثر قريش أعرضوا عنه ثم ذكر قدرة الإله تعالى على إيجاد العالم العلوي والسفلي ثم قال: فإن أعرضوا وهذا كله مناسب لآخر سورة المؤمن تنزيل مبتدأ خبره كتاب فصلت أي بينت وفسرت معانيه فصل بين حرامه وحلاله وزجره وأمره ونهيه ووعده ووعيده وانتصب بشيرا ونذيرا على النعت لقرآنا عربيا.
{ فأعرض أكثرهم } أي أكثر أولئك القوم أي كانوا من أهل العلم ولكن لم ينظروا النظر التام بل أعرضوا.
{ فهم لا يسمعون } لإعراضهم مما احتوى عليه من الحجج والبراهين روي
" أن عتبة بن ربيعة ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعظم عليه أمر مخالفته لقومه وليقبح عليه فيما بينه وبينه وليبعد ما جاء به فلما تكلم عتبة قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم حم ومر من صدرها حتى انتهى إلى قوله: فإن أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة فأرعد الشيخ ووقف شعره وأمسك على فم رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده بالرحم أن يمسك وقال حين فارقه والله لقد سمعت شيئا ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة ولقد ظننت أن صاعقة العذاب على رأسي ".
{ وفي آذاننا وقر } تقدم الكلام عليه قال الزمخشري: فإن قلت هلا قيل على قلوبنا أكنة كما قيل وفي آذاننا وقر ليكون الكلام على نمط واحد قلت هو على نمط واحد لأنه لا فرق في المعنى بين قولك قلوبنا في أكنة وعلى قلوبنا أكنة والدليل على ذلك قوله تعالى:
إنا جعلنا على قلوبهم أكنة
[الكهف: 57] ولو قيل انا جعلنا قلوبهم في أكنة لم يختلف المعنى وترى المطابيع منهم لا يراعون الطباق والملاحظة إلا في المعاني " انتهى " تقول ان في أبلغ في هذا الموضع من على لأنهم قصدوا إفراط عدم القبول لحصول قلوبهم في أكنة احتوت عليها احتواء الظرف على المظروف فلا يمكن أن يصل إليها شىء كما تقول المال في الكيس بخلاف قولك على المال كيس فإنه لا يدل على الحصر وعدم الحصول دلالة الوعاء واما في قوله: انا جعلنا فهو من اخبار الله تعالى لا يحتاج إلى مبالغة بخلاف قولهم وقول الزمخشري وترى المطابيع منهم يعني من العرب وشعرائهم ولذلك تكلم الناس في شعر حبيب ولم يستحسن بعضهم كثرة صنعة البديع فيه قالوا وأحسنه ما جاء من غير تكلف.
والحجاب الستر المانع من الإجابة وهو خلاف في الدين لأنه يعبد الله وهم يعبدون الأصنام وروي أن أبا جهل استغشى على رأسه ثوبا وقال يا محمد بيننا وبينك حجاب استهزاء منه.
{ فاعمل } قال مقاتل: اعمل لإلهك الذي أرسلك فإننا عاملون لآلهتنا التي نعبدها وضمن استقيموا معنى التوجه فلذلك تعدى بإلى أي وجهوا استقامتكم ولما كان العقل ناطقا بأن السعادة مربوطة بأمرين التعظيم لله تعالى والشفقة على خلقه ذكر أن الويل والثبور والخزي للمشركين الذين لم يعظموا الله بتوحيده ونفي الشريك عنه ولم يشفقوا على خلقه بإيصال الخير إليهم وأضافوا إلى ذلك إنكار البعث.
{ إن الذين آمنوا } قال السدي: نزلت في المرضى والزمنى إذا عجزوا عن إكمال الطاعات كتب لهم من الأجر كأصح ما كانوا يعملون والممنون المنقوص قاله ابن عباس: قل أئنكم تقدم الكلام عليه.
ومعنى في يومين أي في مقدار يومين وبارك فيها أكثر من خيرها، وقدر فيها أقواتها أي أرزاق ساكنيها ومعائشهم في أربعة أيام أي في تمام أربعة أيام باليومين المتقدمين. وقرىء: سواء بالجر صفة لأربعة وبالنصب على الحال وبالرفع خبر مبتدأ محذوف تقديره هي سواء.
{ ثم استوى إلى السمآء } أي قصد إليها والظاهر أن المادة التي خلقت منها السماء كانت دخانا وفي أول الكتاب الذي تزعم اليهود أنه التوراة أن عرشه تعالى كان على الماء قبل خلق السماوات والأرض فأحدث الله تعالى في ذلك سخونة فارتفع زبد ودخان أما الزبد فبقي على وجه الماء فخلق الله تعالى منه اليبوسة وأحدث منه الأرض وأما الدخان فارتفع وعلا وخلق الله منه السماوات وفيه أيضا أنه خلق السماوات من أجزاء مظلمة " انتهى ".
{ فقال لها وللأرض } هذا القول مجاز وهو كناية عن انفعال هذه الأجرام العظيمة لما يريد الله تعالى منها ونحوه قول القائل:
قال الجدار للوتد لم تشقني
قال الوتد سل من يدقني
قال ابن عطية: وقوله: قالتا أراد الفرقتين جعل السماوات سماء والأرضين أرضا وهذا نحو قول الشاعر:
ألم يحزنك ان حبال قومي
وقومك قد تباينتا انقطاعا
جعلها الفرقين وعبر عنها بتباينتا " انتهى ".
وهذا ليس كما ذكر لأنه إنما تقدم ذكر الأرض مفردة والسماء مفردة فحسن التعبير عنها بالتثنية والبيت هو من وضع الجمع موضع التثنية كأنه قال: ألم يحزنك أن حبلى قومي قومك فلذلك ثنى في قوله قد تباينتا وأنث على معنى الحبل لأنه لا يريد الحبل حقيقة إنما عني به الذمة والمودة التي كانت بين قوميهما.
{ فقضهن سبع سموت } أي صنعهن وأوجدهن قال الشاعر:
وعليهما مسرودتان قضاهما
داود أو صنع السوابغ تبع
وعلى هذا انتصب سبع على الحال وحفصا أي حفظناها حفظا من المسترقة بالثواقب.
ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر أي أوجده بقدرته وعزه وعلمه.
{ فإن أعرضوا } التفات خرج من ضمير الخطاب في قوله: أئنكم لتكفرون إلى ضمير الغيبة إعراضا من خطابهم إذ كانوا قد ذكروا بما يقتضي إقبالهم وإيمانهم من الحجج الدالة على الوحدانية والقدرة الباهرة.
{ فقل أنذرتكم } أي أعلمتكم.
{ صاعقة } أي حلول صاعقة قالوا أو ضمير غيبة انتقل منه إلى ضمير الخطاب في قوله: انا وما في قوله بما موصولة بمعنى الذي والعائد عليه قوله به وبما متعلق بكافرون قال الزمخشري: ومفعول شاء محذوف تقديره لو شاء ربها إرسال الرسل لأنزل ملائكة " انتهى ".
تتبعت ما جاء في القرآن وكلام العرب من هذا التركيب فوجدته لا يكون محذوفا إلا من جنس الجواب نحو قوله تعالى:
ولو شآء الله لجمعهم على الهدى
[الأنعام: 35] أي لو شاء جمعهم على الهدى لجمعهم عليه وكذلك لو نشاء لجعلناه حطاما لو نشاء جعلناه أجاجا ولو شاء ربك ما فعلوه ولو شاء الله ما عبدنا من دونه شىء
فلو شاء ربي كنت قيس بن خالد
ولو شاء ربي كنت عمرو ابن مرثد
وقال الراجز واللذ لو شاء لكنت صخرا أو جبلا أشم مشمخرا. فعلى هذا الذي تقرر لا يكون تقدير المحذوف ما قاله الزمخشري وإنما التقدير لو شاء ربنا إنزال الملائكة بالرسالة منه إلى الإنس لأنزلهم بها إليهم وهذا أبلغ في الامتناع من إرسال البشر إذ علقوا ذلك بإنزال الملائكة وهو لم يشأ فكيف يشاء ذلك في البشر.
{ وأما ثمود فهديناهم } أي بينا لهم وأرشدناهم.
{ فاستحبوا العمى على الهدى } أي اختاروا الدخول في الضلالة على الدخول في الرشد والهون الهوان وصف العذاب بالمصدر أو أبدل منه ثم ذكر قريشا بنجاة من آمن واتقى قيل وكان من نجا من المؤمنين ممن استجاب لهود وصالح مائة وعشرة أنفس.
{ ويوم يحشر أعدآء الله إلى النار } يوم منصوب باذكر منهم يوزعون تقدم الكلام عليه وحتى غاية ليحشر وأعداء الله هم الكفار من الأولين والآخرين وما بعد إذا زائدة للتأكيد والظاهر أن الجلود هي المعروفة وقيل كني به عن الفروج وعليه أكثر المفسرين منهم ابن عباس ثم سألوا جلودهم عن سبب شهادتها عليهم فلم تذكر سببا غير أن الله تعالى أنطقها ولما صدر منها ما صدر من العقلاء وهي الشهادة خاطبوها بقولهم لم شهدتم مخاطبة العقلاء والظاهر أن قوله: وما كنتم تستترون من كلام الله تعالى توبيخا لهم.
{ ولكن ظننتم أن الله لا يعلم } الخفيات من أعمالكم.
{ وذلكم } إشارة إلى ظنهم أن الله تعالى لا يعلم كثيرا من أعمالهم وهو مبتدأ خبره أرادكم وظنكم بدل من ذلكم وقال الزمخشري: وظنكم وأرادكم خبر أن وقال ابن عطية: أرداكم يصلح أن يكون خبرا بعد خبر " انتهى ".
ولا يصح أن يكون ظنكم الذي ظننتم بربكم خبرا لأن قوله: وذلكم إشارة إلى ظنهم فيصير التقدير وظنهم بأن ربكم لا يعلم ظنكم بربكم فاستفيد من الخبر ما استفيد من المبتدأ وهو لا يجوز وصار نظير ما منعه النحاة من قولك سيد الجارية مالكها.
{ وإن يستعتبوا } أي يتعذروا فما هم من المعذورين ولما ذكر الوعيد الشديد في الدنيا والآخرة على كفر أولئك الكفرة أردفه بذكر السبب الذي أوقعهم في الكفر فقال:
{ وقيضنا لهم قرنآء } أي سببنا لهم من حيث لم يحتسبوا وقرناء جمع قرين أي قرناء سوء من غواة الجن والإنس.
{ فزينوا لهم } أي حسنوا وقرروا في أنفسهم.
{ ما بين أيديهم } قال ابن عباس من أمر الآخرة أنه لا جنة ولا نار ولا بعث.
{ وما خلفهم } من أمر الدنيا من الضلالة والكفر ولذات الدنيا.
{ وحق عليهم القول } أي كلمة العذاب وهو القضاء المحتم أنهم معذبون.
{ في أمم } أي في جملة أمم.
{ وقال الذين كفروا لا تسمعوا } أي لا تصغوا لهذا القرآن وألغوا فيه قيل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ في المسجد أصغى إليه الناس من مؤمن وكافر فخشي الكفار استمالته القلوب بذلك فقالوا حتى قرأ محمد فلنغلط نحن بالمكاء والصفير والصياح وشاد الشعر والارجاز حتى يخفى صوته وهذا الفعل هو اللغو.
{ لعلكم تغلبون } بتشويشكم عليه على قراءته فلا يصغى إليها.
{ ذلك } خبر مبتدأ محذوف أي الأحرف ذلك وجزاء مبتدأ والنار خبره.
{ لهم فيها دار الخلد } أي موضع البقاء الدائم الذي لا ينقطع والنار هي دار الخلد فكيف قيل فيها ثم محذوف تقديره في عذابها.
[41.29-47]
{ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا } الآية قال ابن عباس: نزلت في الصديق قال المشركون: ربنا الله والملائكة بناته وهؤلاء شفعاؤنا عنده واليهود قالوا: ربنا الله وعزير ابنه ومحمد ليس نبي فلم يستقيما والصديق قال: ربنا الله وحده لا شريك له ومحمد عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم فاستقام ولما أطنب تعالى في وعيد الكفار أردفه بوعد المؤمنين وليس المراد التلفظ بالقول فقط بل لا بد من الاعتقاد المطابق للقول اللساني وبدأ أولا بالذي هو أمكن في الإسلام وهو العالم بربوبية الله تعالى ثم اتبعه بالعمل الصالح وهو الاستقامة وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال:
" قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أخبرني بأمر أعتصم به قال: قل ربي الله ثم استقم قال: قلت ما أخوف ما تخاف علي فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان نفسه وقال؛ هذا "
وقال ابن عطية: نزلا نصب على المصدر والمحفوظ أن مصدر نزل نزولا لا نزلا ولما تقدم قوله تعالى: { إن الذين قالوا ربنا الله } ذكر من دعا إلى ذلك فقال:
{ ومن أحسن } أي لا أحد أحسن قولا ممن يدعوا إلى توحيد الله ويعمل العمل الصالح ويصرح أنه من المسلمين المنقادين له ذكر أنه يجوز أن يكون ثم محذوف تقديره قولا وعملا حتى يكون مقابله العمل والقول: ويجوز أن لا يكون ثم محذوف ويكون قوله وعمل صالحا جملة حالية أي لا أحد أحسن قولا ممن دعا إلى الله وقد عمل صالحا ولما تفاوتت الحسنة والسيئة أمر أن يدفعوا السيئة بالأحسن وذلك مبالغة ولم يقل ادفع الحسنة بالسيئة لأن من هان عليه الدفع بالأحسن هان عليه الدفع بالأحسن أي فإذا فعلت ذلك إذا الذي بينك وبينه عداوة صار لك كالولي الصديق الخالص الصداقة ولا في قوله ولا السيئة زائدة للتوكيد كهي في قوله
ولا الظل ولا الحرور
[فاطر: 21] لأن استوى لا يكتفي بمفرد واحد فإن أخذت الحسنة والسيئة جنسا لم تك زيادتها كزيادتها في الوجه الذي قبل هذا إذ يصير المعنى ولا تستوي الحسنات إذ هي متفاوتة في أنفسها ولا السيئات لتفاوتها أيضا.
{ وما يلقاهآ } الضمير عائد على الفعلة والسجية التي هي الدفع بالأحسن وكرر وما يلقاها تأكيد لهذه الفعلة الجميلة الجليلة وذو حظ عظيم هو ثواب الآخرة.
{ وإما ينزغنك } تقدم الكلام عليه.
{ فإن استكبروا } فيه انتقال من خطاب في قوله لا تسجدوا واسجدوا إلى ضمير الغائب في قوله: فإن استكبروا ومعنى عند ربك يعني الملائكة وعند ظرف مكان وهو مجاز.
{ وهم لا يسئمون } أي لا يملكون ذلك ولما ذكر شيئا من الدلائل العلوية ذكر شيئا من الدلائل السفلية فقال:
{ ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعة } أي غير دراسة.
{ إن الذين يلحدون } تقدم الكلام عليه وذكر تعالى أنهم لا يخفون عليه وفي ذلك تهديد لهم.
{ اعملوا ما شئتم } وعيد وتهديد بصيغة الأمر ولذا جاء أنه بما تعملون بصير فيجازيكم بأعمالكم.
{ إن الذين كفروا } هم قريش ومن تابعهم من الكفار غيرهم والذكر القرآن هنا بإجماع وخبر أن اختلفوا فيه أمذكور هو أم محذوف؟ فقيل مذكور وهو قوله: أولئك ينادون وهو قول أبي عمرو بن العلاء في حكاية جرت بينه وبين بلال بن أبي بردة سئل بلال في مجلسه عن هذا فقال: لم أجدو لها نفاذا فقال له أبو عمرو انه منك لقريب أولئك ينادون وقاله الحوفي ويرد على ذلك القول كثرة الفصل وإنه ذكر هناك من تكون الإشارة إليهم وهو قوله: { والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون }. وقيل محذوف وخبر أن يحذف لفهم المعنى وسأل عيسى بن عمر عمرو بن عبيد عن ذلك فقال عمرو معناه في التفسير أن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم كفروا به وانه لكتاب فقال له عيسى: أجدت يا أبا عثمان وقال قوم تقديره معاندون أو هالكون وقال الكسائي قد سد مسده ما تقدم من الكلام قيل ان وهو قوله أفمن يلقى في النار " انتهى ".
كأنه يريد دل عليه ما قبله فيمكن أن يقدر مخلدون في النار ويجوز أن يكون خبر أن قوله لا يأتيه الباطل تكون الألف واللام نابت عن الضمير أي لا يأتيه باطلهم ولما ذكر تعالى الملحدين في آياته وأنهم لا يخفون عليه والكافرين بالقرآن ذكر ما دل على تعنتهم وما ظهر من تكذبهم وقولهم هلا نزل بلغة العجم فقال:
{ ولو جعلناه قرآنا أعجميا } أي لا يفصح ولا تبين معانيه لهم لكونه بلغة العجم أو بلغة غير العرب لم يتركوا الاعتراض والتعنت ولقالوا لولا فصلت آياته أي بينت لنا وأوضحت حتى نفهمها وقرىء: أعجمي بهمزة الاستفهام بعدها مدة هي همزة أعجمي وقرىء: أعجمي على الخبر وهما بدل من قوله: آياته.
{ قل هو } أي القرآن.
{ هدى } أي إرشاد إلى الحق وشفاء لما في الصدور من الظن والشك وظاهر أن والذين لا يؤمنون مبتدأ وفي آذانهم وقر في موضع الخبر وهو عليهم عمى خبر ثان والظاهر * أن الضمير في وهو عائد على القرآن وقيل يعود على الوقر:
{ أولئك } إشارة للذين لا يؤمنون.
{ إليه يرد علم الساعة } لما ذكر تعالى من عمل صالحا ما كان في ذلك دلالة على الجزاء يوم القيامة فكأن سائلا قال: متى ذلك فقيل لا يعلمها إلا الله تعالى وما تخرج ما نافية ومن ثمرات من زائدة وثمرات فاعل من أكمامها في موضع الصفة إلا بعلمه استثناء بعد النفي وبعلمه في موضع الحال أي لا تخرج ولا تحمل ولا تضع إلا ملتبسا ذلك بعلمه فالباء في بعلمه للحال.
[41.48-54]
{ وظنوا } أي أيقنوا.
{ ما لهم من محيص } أي من حيدة ورواغ عن العذاب.
{ لا يسأم الإنسان } هذه الآيات نزلت في كفار قريش قيل في الوليد بن المغيرة وقيل في عتبة بن ربيعة.
{ وإن مسه الشر } أي الفقر والضيقة.
{ فيئوس } أي فهو يؤس.
{ قنوط } وأتى بهما صيغتي مبالغة واليأس من صفة القلب وهو أن يقطع رجاءه من الخير والقنوت أن تظهر عليه آثار اليأس فيتضاءل وينكسر وبدأ بصفة القلب لأنها هي المؤثرة فيما يظهر على الصورة من الإنكسار.
{ ولئن أذقناه رحمة منا } سمى النعمة رحمة إذ هي من آثار رحمة الله تعالى.
{ من بعد ضرآء } أي ضر.
{ مسته ليقولن هذا لي } أي بسعي واجتهادي.
{ ولئن رجعت إلى ربي } أي ولئن كان كما أخبرت الرسل.
{ إن لي عنده } أي عند الله تعالى.
{ للحسنى } أي الحالة الحسنى من الكرامة والنعمة كما أنعم الله علي في الدنيا وأكدوا ذلك باليمين وبتقديم لي وعنده على اسم أن وبدخول لام التأكيد عليه أيضا وبصيغة الحسنى ومؤنث الأحسن الذي هو فعل التفضيل ولم يقولوا للحسنة أي للحالة الحسنة.
{ وإذآ أنعمنا } تقدم الكلام عليه في سبحان إلا أن في آخر تلك كان يؤسا وآخر هذه فذو دعاء عريض أي فهو ذو دعاء بإزالة الشر عنه وكشف ضره والعرب تكني بالطول والعرض عن الكثرة يقال أطال فلان في الكلام وأعرض في الدعاء إذا أكثر أي مد وتضرع واستغاث وذكر تعالى في هذه الآية نوعا من طغيان الإنسان إذا أصابه الله بنعمته أبطرته النعمة وإذا مسه الشر ابتهل إلى الله تعالى وتضرع.
{ قل أرأيتم إن كان } أي القرآن.
{ من عند الله } أبرزه في خبره والمعنى لا أحد أضل وهو من موضع المفعول النافي لأرأيتم ثم توعدهم بما هو كائن لا محالة فقال.
{ سنريهم آياتنا في الآفاق } فقيل هو وعيد للكفار بما يفتحه الله على رسوله من الأقطار حول مكة وفي غير ذلك من الأرض كخيبر.
{ وفي أنفسهم } أراد به فتح مكة وتضمن ذلك الاخبار بالغيب ووقع كما أخبر وبربك الباء زائدة التقدير أو لم يكفك أو يكفهم ربك.
و { أنه على كل شيء شهيد } بدل من ربك أما حالة كونه مجرورا بالباء فيكون بدلا على اللفظ وأما حالة مراعاة الموضع فيكون بدلا على الموضع.
{ في مرية } أي في شك وقرىء بضم الميم وكسرها وإحاطته تعالى بالأشياء علمه بها جملة وتفصيلا فهو يجازيهم على كفرهم.
[42 - سورة الشورى]
[42.1-20]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * حم * عسق } الآية، قال ابن عباس هذه السورة مكية إلا أربع آيات من قوله: لا أسألكم إلى آخر الأربع الآيات ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال: قل أرأيتم وكان في ذلك الحكم عليهم بالضلال لما كفروا به قال هنا.
{ كذلك } أي مثل الإيحاء السابق في القرآن الذي كفر به هؤلاء.
{ يوحي إليك } أي أن وحيه تعالى إليك متصل غير منقطع يتعهدك به وقتا بعد وقت وقرىء: يوحى مبنيا للفاعل والجلالة فاعل وقرىء: يوحى مبنيا للمفعول والجار والمجرور في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله والجلالة فاعل بفعل محذوف تقديره بوحي الله.
{ والذين اتخذوا من دونه أوليآء } أي أصناما وأوثانا.
{ الله حفيظ عليهم } أعمالهم فيجازيهم عليها.
{ ومآ أنت عليهم بوكيل } أي بمفوض إليك أمرهم ولا قائما وما في هذا من الموادعة منسوخ بآية السيف.
{ وكذلك } أي مثل هذا الإيحاء والقضاء إنك لست بوكيل عليهم.
{ أوحينآ إليك قرآنا عربيا } والظاهر أن قرآنا مفعول أوحينا. وقال الزمخشري: الكاف مفعول به لأوحينا وقرآنا عربيا حال من المفعول به أي أوحيناه إليك وهو قرآن عربي لا ليس فيه عليك إذ نزل بلسانك " انتهى ".
فاستعمل الكاف إسما في الكلام وهو مذهب الأخفش لتنذر أم القرى أي سبب إيحائنا إليك هو الإنذار ولا تكلف غيره وأم القرى مكة ولذلك عطف عليها ومن حولها والمفعول الثاني محذوف.
{ ومن حولها } هم العرب.
{ وتنذر يوم الجمع } والمفعول الأول محذوف والثاني هو يوم الجمع أي اجتماع الخلائق والمنذر به هو ما يقع في يوم الجمع من الجزاء وانقسام الجمع إلى الفريقين واجتماع الأرواح والأجساد وأهل الأرض بأهل السماء والناس بأعمالهم.
{ يذرؤكم } يقال ذرأ الله الخلق أي بثهم وكثرهم. وقال ابن عباس يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها والضمير في فيه عائد على الجعل أي يخلقكم ويكثركم في الجعل.
{ ليس كمثله شيء } تقول العرب مثلك لا يفعل هذا بمعنى أنت لا تفعل هذا فيكون المعنى في الآية ليس كهو أي كالله شىء وخرج على أن الكاف زائدة فكأنه قيل ليس شىء مماثل الله تعالى ويجوز أن يكون مثل بمعنى الصفة فتكون الكاف باقية على تشبيهها ليس كصفته شىء من الصفات.
{ شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا } الآية لما كان نوح عليه السلام أول الرسل وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم قال ما وصى به نوحا والذين أوحينا إليك ثم اتبع ذلك ما وصى به إبراهيم إذ كان أبا العرب وفي ذلك هز لهم وبعث على اتباع طريقته وموسى وعيسى صلوات الله عليهم أجمعين لأنهما اللذان كان اتباعهما موجودين في زمان بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم والشرائع متفقة في العقائد وفي كثير من الأحكام كتحريم الزنى والقتل بغير حق والشرائع مجتملة على عقائد وأحكام ويقال ان نوحا عليه السلام أول من أتى بتحريم البنات والأمهات وذوات المحارم ومعنى شرع اختار ويحتمل أن تكون مفسرة لأن ما قبلها هو بمعنى القول فلا موضع لها من الإعراب وان تكون مصدرية فتكون في موضع نصب على البدل من ما وما عطف عليها ثم نهى عن التفرق فيه لأن الفرق سبب الهلاك والاجتماع والألفة سبب لنجاة.
{ كبر على المشركين } أي عظم وشق وما فاعل بكبر.
{ وما تفرقوا } قال ابن عباس: يعني قريشا والعلم محمد صلى الله عليه وسلم وكانوا يتمنون أن يبعث إليهم نبي كما قال:
وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جآءهم نذير
[فاطر: 42] يريدون نبيا وقيل الضمير يعود على أمم الأنبياء جاءهم العلم فطال عليهم الأحد فآمن قوم وكفر قوم.
{ ولولا كلمة } أي عدة التأخير إلى يوم القيامة فحينئذ يقع الجزاء.
{ لقضي بينهم } أي لجوزوا بأعمالم في الدنيا.
{ وإن الذين أورثوا الكتاب } هم بقية أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ من بعدهم } أي من بعد أسلافهم أو هم المشركون أورثوا القرآن من بعد ما أورث أهل الكتاب التوراة والإنجيل.
{ وأمرت لأعدل بينكم } في إيصال ما أمرت به إليكم لا أخص شخصا بشىء دون شخص الشريعة واحدة والأحكام مشترك فيها.
{ لا حجة بيننا وبينكم } أي قد وضحت الحجج وقامت البراهين وأنتم محجوجون فلا حاجة إلى إظهار حجة بعد ذلك.
{ الله يجمع بيننا } أي يوم القيامة فيفصل بيننا وما يظهر في هذه الآية من الموادعة منسوخ بآية السيف.
{ والذين يحآجون في الله } أي يخاصمون في دينهم قال ابن عباس ومجاهد نزلت في طائفة من بني إسرائيل همت برد الناس عن الإسلام واضلالهم ومحاجتهم بأن قالوا كتابنا قبل كتابكم ونبينا قبل نبيكم فديننا أفضل فنزلت الآية في ذلك.
{ حجتهم داحضة } أي باطلة لا ثبوت لها ولما ذكر تعالى الرزق ذكر حديث الكسب ولما كان الحرث في الأرض أصلا من أصول المكاسب استعير لكل مكسب أريد به النماء والفائدة في قوله:
{ من كان يريد حرث الآخرة } أي من كان يريد عمل الآخرة ويسعى لها سعيها.
{ نزد له في حرثه } أي من في جزاء حرثه من تضعيف الحسنات.
{ ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها وما له في الآخرة من نصيب } لأنه لم يعمل للآخرة شيئا فالجملة الأولى وعد منجز والثانية مقيدة بمشيئته تعالى لمن يشاء وجاء فعل الشرط ماضيا والجواب مجزوما كقوله:
من كان يريد الحياة الدنيا
[هود: 15]. ولا نعلم خلافا في جواز الجزم وإنه فصيح المختار إلا ما ذكره صاحب كتاب الاعراب وهو أبو الحكم بن عذرة عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلام الفصيح وإنما يجيء مع ما كان لأنها أصل الأفعال ولا يجيء مع غيرها من الأفعال ونص كلام سيبويه والجماعة أنه لا يختص ذلك بكان بل سائر الأفعال في ذلك مثلها وأنشد سيبويه قول الفرزدق:
دست رسولا بأن القوم ان قدروا
عليك يشفوا صدورا ذات توغير
[42.21-26]
{ أم لهم شركاء } استفهام تقرير وتوبيخ لما ذكر تعالى أنه شرع للناس ما وصى به نوحا أخذ ينكر ما شرع غيره والضمير في شرعوا عائد على الشركاء وفي لهم عائد على الكفار المعاصرين للرسول عليه السلام.
{ ولولا كلمة الفصل } أي الفصل يكون في الآخرة.
{ لقضي بينهم } في الدنيا.
{ ذلك } إشارة إلى ما أعد لهم من الكرامة وهو مبتدأ خبره الموصول والعائد عليه محذوف أي يبشر الله عباده به حذف حرف الجر فانتصب الضمير ثم حذفه قال الزمخشري: أو ذلك التبشير الذي يبشره الله عباده " انتهى ".
لا يظهر هذا الوجه إذ لم يتقدم في هذه السورة لفظ البشرى ولا ما يدل عليها من تبشير وشبهه ومن النحويين من جعل الذي مصدرية حكاه ابن مالك عن يونس وتأول عليه هذه الآية أي ذلك تبشير الله عباده وليس بشىء لأنه إثبات للإشتراك بين مختلفي الحد بغير دليل وقد ثبتت إسمية الذي فلا يعدل عن ذلك بشىء لا يقوم به دليل بل ولا شبهة.
{ قل لا أسألكم عليه أجرا } روي أن الأنصار أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال جمعوه وقالوا يا رسول الله قد هدانا الله تعالى بك وأنت ابن أختنا وتعروك حقوق ومالك سعة فاستعن بهذا على ما ينوبك فنزلت الآية فرده إليهم والظاهر أن قوله إلا المودة استثناء منقطع لأن المودة ليست أجرا أن تدعوا حق قرابتي وتصدقوني بما جئتكم به وتمسكوا عن أذيتي وأذية من اتبعني.
{ أم يقولون افترى على الله كذبا } أضرب عن الكلام المتقدم من غير إبطال واستفهم استفهام إنكار وتوبيخ على هذه المقالة أي مثله لا ينسب إليه الكذب على الله تعالى مع اعترافكم له قبل بالصدق والأمانة.
{ فإن يشإ الله يختم على قلبك } قال مجاهد: يربط على قلبك بالصبر على أذاهم حتى لا يشق عليك قولهم انه مفر.
{ ويمح الله الباطل } إستئناف اخبار.
[42.27-42]
{ ولو بسط الله الرزق } قال عمرو بن حريث طلب قوم أهل الصفة من النبي صلى الله عليه وسلم أن يغنيهم الله ويبسط لهم الأموال والأرزاق فنزلت أعلم تعالى أن الرزق لو جاء على اقتراح البشر لكان سبب بغيهم وإفسادهم ولكنه تعالى أعلم بالمصلحة فرب إنسان لا يصلح ويكتفي شره إلا بالفقر وآخر بالغنى.
{ ولكن ينزل بقدر ما يشآء } أي يقدر لهم ما هو أصلح لهم.
{ وينشر رحمته } وهو ما يظهر من آثار الغيب من المنافع والخصب وغير ذلك وقرىء: بما كسبت بغير فاء فما موصولة بمعنى الذي مبتدأة والخبر محذوف تقديره كائن بما كسبت والباء للسببية وما مصدرية تقديره بكسب أيديكم ويجوز أن تكون موصولة بمعنى الذي وكسبت صلة والضمير محذوف تقديره كسبته وقرىء: فبما بالفاء فالأحسن أن تكون ما شرطية والفاء جواب الشرط وبعد الفاء محذوف تقديره فهو أي فإصابتها بما كسبت أيديكم وفي الحديث
" لا يصيب ابن آدم خدش عود أو عثرة قدم ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر ".
{ ومن آياته الجوار } هي السفن جمع جارية وهي صفة جرت مجرى الأسماء فوليت العوامل والاعلام هي الجبال واحدها علم وقالت الخنساء ترثي أخاها
وان صخر التأتم الهداة به
كأنه علم في رأسه نار
{ فيظللن } أي يقمن قال الزمخشري: من ظل يظل ويظلل نحو ضل يضل ويضل " انتهى ".
ليس كما ذكر لأن يضل بفتح العين من ضللت بكسرها في الماضي ويصل بكسرها من ضللت بفتحها في الماضي وكلاهما مقيس.
{ رواكد } أي ثوابت.
{ على ظهره } أي ظهر البحر.
{ لكل صبار } على بلائه.
{ شكور } لنعمائه.
{ أو يوبقهن } يهلكهن أي الجواري وهو عطف على يسكن. قال الزمخشري: فإن قلت علام عطف يوبقهن. (قلت) على يسكن لأن المعنى إن يشأ يسكن الريح فيركدن أو يعصفها فيغرقن بعصفها " انتهى ".
لا يتعين أن يكون التقدير أو يعصفها فيغرقن لأن أهلاك السفن لا يتعين أن يكون بعصف الريح بل قد يهلكها الله تعالى بسبب غير الريح كنزول سطحها بكثرة الثقل أو إنكسار لوح يكون سببا لإهلاكها أو يعرض لها عدو يهلك أهلها والضمير في كسبوا عائد على ركاب السفن أي بذنوبهم أخبر تعالى أنه يعفو عن كثير أي لا يؤاخذ بجميع ما اكتسب الإنسان وقرأ نافع وجماعة ويعلم بالرفع عطفا على ويعفو وقرأ الجمهور بالنصب فقال الكوفيون: هو منصوب بالواو التي تسمى واو الصرف وهو أن تصرف عطفه على ما قبله من المرفوع وقال ابن عطية: في قراءة النصب وهذه الواو ونحوها التي يسميها الكوفيون واو الصرف لأن حقيقة واو الصرف التي يريدونها عطف فعل على إسم بتقدير ان لتكون مع الفعل بتأويل المصدر فيحسن عطفه على الإسم " انتهى ".
وليس قوله لأن تعليلا لقولهم واو الصرف وإنما هو تقرير لمذهب البصريين وأما الكوفيون فإن واو الصرف ناصبة بنفسها لا بإضمار ان بعدها وخرج الزمخشري في النصب على أنه معطوف على تعليل محذوف قال تقديره لينتقم منهم ويعلم الذين يجادلون ونحوه في العطف على التعليل المحذوف غير عزيز في القرآن ومنه قوله تعالى:
ولنجعله آية للناس
[مريم: 21] وقوله:
وخلق الله السموت والأرض بالحق ولتجزى
[الجاثية: 22] " انتهى ".
ويبعد تقديره لينتقم منهم لأنه ترتب على الشرط إهلاك قوم ونجاة قوم فلا يحسن لينتقم منهم وأما الآيتان فيمكن أن تكون اللام متعلقة بفعل محذوف أي ولنجعله آية للناس فعلتا ذلك ولتجزى كل نفس بما كسبت فعلنا ذلك وهو كثيرا يقدر هذا الفعل محذوفا قبل لام العلة إذا لم يكن فعل ظاهر متعلق به ومذهب البصريين في قراءة النصب انه بإضمار ان فينسبك منها والفعل بعدها مصدر معطوف على مصدر موهم وتقديره فاظلالهن أو إيباقهن وعلم الذين يجادلون ونظيره قراءة من قرأ فيغفر لمن يشاء بالنصب ينسبك منه مصدر معطوف على مصدر متوهم تقديره في تلك الآية يكن حساب فمغفرة.
{ ما لهم من محيص } جملة منفية في موضع نصب علق عنها قوله: ويعلم ومن محيص من زائدة ومحيص مبتدأ خبره في الذي قبله وعن علي رضي الله عنه اجتمع لأبي بكر الصديق رضي الله عنه مال فتصدق به كله في سبيل الله والخير فلامه المسلمون وخطأه الكافرون فنزلت:
{ فمآ أوتيتم من شيء } والظاهر أنه خطاب للناس وقيل: للمشركين وما شرطية مفعول ثان لأوتيتم ومن شىء تبيين لما والمعنى من شىء من رياش الدنيا ومالها والسعة فيها والفاء جواب الشرط أي فهو متاع أي يستمع به في الحياة.
{ وما عند الله } أي من ثوابه وما أعد لأوليائه.
{ خير وأبقى } مما أوتيتم لأنه لا انقطاع له والعامل في إذا يغفرون وهي جملة من مبتدأ وخبر معطوفة على يجتنبون ويجوز أن يكون هم توكيدا للفاعل في غضبوا فيكون يغفرون جواب إذا وقال أبو البقاء هم مبتدأ ويغفرون الخبر والجملة جواب إذا انتهى وهذا لا يجوز لأن الجملة لو كانت جواب إذا لكانت بالفاء تقول إذا جاء زيد فعمرو منطلق ولا يجوز حذف الفاء إلا ان ورد في شعر والشورى مصدر كالفتيا بمعنى التشاور على حذف مضاف أي وأمرهم ذو شورى بينهم والذين صلته هم ينتصرون وإذا معمولة لقوله ينتصرون.
[42.43-53]
{ إن ذلك } الإشارة بذلك إلى ما يفهم مصدر صبر وغفر والعائد على الموصولة المبتدأ من الخبر محذوف أي أن ذلك منه لدلالة المعنى عليه.
{ لمن عزم الأمور } إن كان ذلك إشارة إلى المصدر المفهوم من قوله: ولمن صبر وغفر لم يكن في عزم الأمور حذف وإن كان ذلك إشارة إلى المبتدأ كان هو الرابط ولا يحتاج إلى تقدير منه وكان في عزم الأمور حذف أي لأنه لمن ذوي عزم الأمور.
{ وتراهم يعرضون عليها } أي على النار دل عليها ذكر العذاب.
{ خاشعين } متضائلين صاغرين بما يلحقهم من الذل والصغار.
{ من طرف خفي } قال ابن عباس: دليل.
{ وقال الذين آمنوا } الظاهر أن وقال ماض لفظا ومعنى أي وقال الذين آمنوا في الحياة الدنيا ويكون يوم القيامة معمولا لخسروا وقدم تعالى هبة الإناث تأنيسا بهن وتشريفا لهن ليهتم بصونهن والإحسان إليهن وفي الحديث
" من ابتلي بشىء من هذه البنات فأحسن إليهن كن له سترا من النار "
ولما كان العقم ليس بمحمود قال:
{ ويجعل من يشآء عقيما } وهو قسيم لمن يولد له ولما كان الخنثى يحزن بوجوده لم يذكره تعالى قالوا وكانت الحلقة مستمرة ذكرا وأنثى إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى فسئل فارض العرب ومعمرها عامر بن الظرب عن ميراثه فلم يدر ما يقول فيه وأرجأهم فلما جن عليه الليل جعل يتقلب وتذهب به الأفكار وأنكرت خادمه عليه الحالة التي هو فيها فسألته فقال لها سهرت لأمر لا أدري ما أقول فيه فقالت له: ما هو فقال شخص له ذكر وفرج كيف حاله في الميراث قالت له الأمة ورثه من حيث يبول فعقلها وأصبح يعرضها عليهم فرضوا بها وجاء الإسلام على ذلك وقضى بذلك علي كرم الله وجهه.
{ إنه عليم } أي بمصالح العباد.
{ قدير } على تكوين ما يشاء.
{ وما كان لبشر أن يكلمه الله } أي ما ينبغي ولا يمكن إلا بأن يوحى إليه أحد وجوه الوحي من الإلهام قال مجاهد: أو النفث في القلب وقال النقاش أو وحي في المنام وقال النخعي: كان في الأنبياء من يخط له في الأرض أو بأن يسمعه كلامه دون أن يعرف هو للمتكلم جهة ولا حيزا كموسى عليه السلام وهذا معنى من وراء حجاب أي من خفاء عن المتكلم لا يحده ولا يتصور بذهنه عليه وليس كالحجاب في المشاهد أو بأن يرسل إليه ملكا يشافهه بوحي الله تعالى.
{ إنه علي } عن صفات المخلوقين { حكيم } تجري أفعاله على ما تقتضيه الحكمة يكلم بواسطة وبغير واسطة.
{ وكذلك أوحينآ } أي مثل ذلك الإيحاء المفصل أوحينا إليك إذ كان عليه السلام اجتمعت له الطرق الثلاث النفث في الردع والمنام وتكليم الله له حقيقة ليلة الإسراء وإرسال رسول الله وهو جبريل عليه السلام.
{ ما كنت تدري } قبل الوحي أن تقرأ القرآن ولا كيف تدعوا الخلق إلى الإيمان.
{ ولكن جعلناه نورا } يحتمل أن يعود إلى قوله روحا وإلى الكتاب وإلى الإيمان وهو أقرب مذكور.
{ ألا إلى الله تصير الأمور } أخبر بالمضارع والمراد به الديمومة كقولك زيد يعطي ويمنع أي من شأنه ذلك ولا يراد به حقيقة المستقبل إذ جميع الأمور صائرة إليه على الدوام.
[43 - سورة الزخرف]
[43.1-33]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * حم * والكتاب المبين } هذه السورة مكية.
{ إنا جعلناه } أي صيرناه وهو جواب القسم وهو من الأقسام الحسنة لتناسب القسم والمقسم عليه وكونهما من واد واحد والكتاب القرآن وأم الكتاب اللوح المحفوظ وهذا فيه تشريف للقرآن وترفيع بكونه لديه عليا على جميع الكتب وعاليا عن وجوده الفساد حكيما أي حاكما على سائر الكتب.
وقرىء: اما بكسر الهمزة.
{ أفنضرب } قال ابن عباس المعنى أفنترك تذكيركم وتخويفكم عفوا عنكم وعفوا عن إجرامكم.
{ أن كنتم } لما ذكر خطابا لقريش فنضرب عنكم الذكر وكان هذا الإنكار دليلا على تكذيبهم للرسول عليه السلام وإنكار الماء جاء به آنسه الله تعالى بأن عادتهم عادة الأمم السابقة في استهزائهم بالرسل وأنه تعالى أهلك من كان أشد منهم بطشا أي أكثر عددا وعددا وجلدا.
{ ومضى مثل الأولين } أي فليحذر قريش أن يحل بهم مثل ما حل بالأولين مكذبي الرسل من العقوبة.
{ ولئن سألتهم } إحتجاج على قريش بما يوجب التناقض وهو إقرارهم بأن موجد العالم العلوي والسفلي هو الله تعالى ثم هم يتخذون أصناما آلهة من دون الله تعالى يعبدونها والظاهر أن خلقهن العزيز العليم هو نفس المحكي من كلامهم ولا بدل كونهم ذكروا في مكان خلقهن الله أن لا يقولوا في سؤال آخر خلقهن العزيز العليم.
و { الذي جعل لكم } هو من كلام الله تعالى خطابا لهم بتذكير نعمه السابقة وكرر الفعل في الجواب في قولهم خلقهن العزيز العليم مبالغة في التوكيد وفي غير ما سؤال اقتصروا على ذكر إسم الله تعالى إذ هو العلم الجامع للصفات العلا وجاء الجواب مطابقا للسؤال من حيث المعنى لا من حيث اللفظ لأن من مبتدأ فلو طابق في اللفظ كان بالاسم مبتدأ ولم يكن بالفعل.
{ لعلكم تهتدون } أي إلى مقاصدكم في السفر.
{ فأنشرنا } أي أحيينا.
{ به بلدة ميتا } ذكر على معنى القطر وبلدة إسم جنس.
{ لتستووا على ظهوره } تقدم قوله ما تركبون وهي موصولة ويراعى فيها اللفظ والمعنى فمراعاة المعنى في قوله ظهور حيث جمع ومراعاة اللفظ حيث أضاف الظهور إلى ضمير المفرد وكذا فيما بعد ذلك في قوله عليه وفي الإشارة في قوله: هذا وجاء في الحديث
" أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا وضع رجله في الركاب قال: بسم الله فإذا استوى على الدابة قال الحمد لله على كل حال سبحان الذي سخر لنا هذا إلى قوله: لمنقلبون وكبر ثلاثا وهل ثلاثا "
والمقرن الغالب الضابط المطيق للشىء يقال أقرن الشىء إذا أطاقه والقرن الحبل الذي يقرن به.
{ وجعلوا له } أي كفار قريش والعرب له أي لله تعالى.
{ من عباده } أي ممن هم عبيده.
{ جزءا } أي نصيبا وهو قولهم الملائكة بنات الله.
{ أم اتخذ } استفهام إنكار وتوبيخ لقلة عقولهم كيف زعموا أنه تعالى اتخذ لنفسه ما أنتم تكرهونه.
{ وأصفاكم } جعل لكم صفوة ما هو محبوب لكم وذلك هو وقوله مما يخلق تنبيه على استحالة الولد ذكرا كان أو أنثى.
{ وإذا بشر } تقدم الكلام عليه.
{ أومن ينشأ في الحلية } أي ينتقل في عمره حالا فحالا في الحلية وهو الحلي الذي لا يليق إلا بالإناث دون الرجال لتزينهن بذلك لأوزاجهن وهو أن خاصم لا يبين لضعف العقل ونقص التدبر والتأمل أظهر بهذا تحقيرهن وشغوف البنين عليهن وكان في ذلك إشارة إلى أن الرجل لا يناسب له التزين كما للمرأة وأن يكون مخشوشنا.
{ وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا } لم يكفهم ان جعلوا لله تعالى ولدا حتى جعلوه أنثى وجعلوهم من الملائكة وهذا من جهلهم بالله تعالى وصفاته واستخفافهم بالملائكة حيث نسبوا إليهم الأنوثة وقرىء: عند الرحمن ظرفا وهذا الاستفهام فيه تهكم بهم والمعنى إظهار فساد عقولهم وان دعاويهم مجردة من الحجة.
{ لو شآء الرحمن } تقدم الكلام عليه ولما نفى عنهم علم ترك عقابهم على عبادة غير الله أي ليس يدل على ذلك عقل نفي أيضا أن يدل على ذلك سمع فقال:
{ أم آتيناهم كتابا } من قبل نزول القرآن أو من قبل إنذار الرسول عليه السلام يدل على تجويز عبادتهم غير الله وأنه لا يترتب على ذلك عقاب إذ هو وفق المشيئة.
{ فهم به } أي بذلك الكتاب.
{ مستمسكون } في عبادة غير الله وانتفاء الإثم على ذلك ثم أخبر تعالى أنهم مقلدون في ذلك لآبائهم ولا دليل لهم من عقل ولا نقل ومعنى على أمة أي على طريقة ودين وعادة فقد سلكنا مسلكهم ونحن مهتدون في اتباع آثارهم والظاهر أن الضمير في قال أو في قل للرسول عليه السلام أي قل يا محمد لقومك أتتبعون آباءكم ولو جئتكم بدين أهدى من الدين الذي وجدتم عليه آباءكم وهذا تجهيل لهم حيث يقلدون ولا ينظرون في الدلائل.
{ قالوا إنا بمآ أرسلتم } أي أنت والرسل قبلك غلب الخطاب على العتبة.
{ فانتقمنا منهم } بالقحط والقتل والسبي والجلاء.
{ فانظر كيف كان عاقبة } من كذبك.
{ وإذ قال إبراهيم } ذكر العرب بحال جدهم الأعلى ونهيه عن عبادة غير الله وإفراده بالتوحيد والعبادة هزأ لهم ليكون لهم رجوع إلى دين جدهم إذ كان أشرف آبائهم والمجمع على محبته وأنه عليه السلام لم يقلد أباه في عبادة الأصنام فينبغي أن تقتدوا به في ترك تقليد آبائكم الأقربين وترجعوا إلى النظر واتباع الحق وقرأ الجمهور براء وهو مصدر يستوي فيه المفرد والمذكر ومقابلهما يقال نحن البراء منك وقرىء بضم الباء وقرىء: بفتح الباء وكسر الراء.
{ إلا الذي فطرني } إستثناء منقطع إذ كانوا لا يعبدون الله تعالى مع أصنامهم.
وأجاز الزمخشري أن يكون الذي مجرورا بدلا من المجرور بمن كأنه قال إنني براء مما تعبدون إلا من الذي وان تكون إلا صفة بمعنى غير على ان ما في ما تعبدون نكرة موصوفة تقديره إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي فطرني فهو قوله تعالى:
لو كان فيهمآ آلهة إلا الله لفسدتا
[الأنبياء: 22] " انتهى ". فوجه البدل لا يجوز لأنه إنما يكون في غير الموجب من النفي والنهي والاستفهام ألا ترى أنه يصلح ما بعد إلا لتفريغ العامل له وإنني براء جملة موجبة فلا يصح أن يفرغ العامل فيها الذي هو براء لما بعد إلا، وغر الزمخشري كون براء فيه معنى الانتفاء ومع ذلك فهو موجب لا يجوز أن يفرغ لما بعد إلا وأما تقديره ما نكرة موصوفة ولم يبقها موصولة لاعتقاده أن إلا لا تكون صفة إلا لنكرة وهذه المسألة فيها خلاف من النحويين من قال توصف بها النكرة والمعرفة فعلى هذا تبقى ما موصولة وتكون إلا في موضع الصفة للمعرفة.
{ الذي فطرني } تنبيه على أن لا يستحق العبادة ولا يعبد إلا الخالق.
{ فإنه سيهدين } أي يديم هدايتي والضمير في جعلها المرفوع عائد على إبراهيم وقيل على الله تعالى والضمير المنصوب عائد على كلمة التوحيد التي تكلم بها وهي قوله: إنني براءة مما تعبدون إلا الذي فطرني والإشارة بهؤلاء لقريش ومن كان من عقب إبراهيم عليه السلام من العرب لما قال في عقبه قال تعالى: لكن متعت هؤلاء وأنعمت عليهم على كفرهم فليسوا ممن بقيت كلمة التوحيد فيهم.
{ حتى جآءهم الحق } وهو القرآن.
{ ورسول مبين } هو محمد صلى الله عليه وسلم والضمير المرفوع في وقالوا لقريش كانوا قد استبعدوا أن يرسل الله رسولا من البشر واستفاض عندهم أمر إبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام وغيرهم من الرسل صلوات الله عليهم فلما لم يكن لهم في ذلك مدفع ناقضوا فيما يخص محمدا صلى الله عليه وسلم فقالوا لم كان محمدا ولم يكن القرآن نزل على رجل من القريتين عظيم أشاروا إلى من عظم قدره بالسن والقدم والجاه وكثرة المال أي من إحدى القريتين وهما مكة والطائف قال ابن عباس: والذي من مكة الوليد بن المغيرة المخزومي ومن الطائف حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي وكان الوليد بن المغيرة يسمى ريحانة قريش وكان يقول لو كان ما يقول محمد حقا لنزل علي.
{ أهم يقسمون رحمت ربك } فيه توبيخ وتعجيب من جهلهم كأنه قيل أعلى اختيارهم وإرادتهم تقسم الفضائل من النبوة وغيرها ثم في إضافته في قوله رحمة ربك تشريف له صلى الله عليه وسلم وان هذه الرحمة التي حصلت لك ليست إلا من ربك المصلح لحالك ثم أخبر تعالى أنه هو الذي قسم المعيشة بينهم فلم يحصل لأحد إلا ما قسمه الله تعالى له وإذا كان تعالى هو الذي تولى ذلك وفارق بينهم وذلك في الأمر الثاني فكيف لا يتولى ذلك في الأمر الخطير وهو إرسال من يشاء وتنبي من يشاء فليس لكم أن تتخيروا من يصلح لذلك بل أنتم عاجزون عن تدبير أموركم وفي قوله: نحن قسمنا بينهم تزهيد في الانكباب على طلب الدنيا وعون على التوكل على الله تعالى وقال مقاتل: فأضلنا بينهم فمن رئيس ومرؤوس وأنشد الشافعي رضي الله عنه:
ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيس وطيب عيش الأحمق
{ رحمت ربك } قيل الجنة وقيل غير ذلك خير مما يجمع هؤلاء من حطام الدنيا وفي هذا اللفظ تحقير للدنيا وما جمع فيها من متاعها.
{ ولولا أن يكون الناس أمة واحدة } أي ولولا أن يرغب الناس في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة ويصيروا أمة واحدة في الكفر قاله ابن عباس وغيره لأعطيناهم من زينة الدنيا كذا وكذا ولكنه تعالى اقتضت حكمته أن يغني ويفقر الكافر والمؤمن. وقال ابن عطية: واللام في لمن يكفر لام الملك وفي لبيوتهم لام تخصيص كما تقول هذا الكساء لزيد لدابته أي هو لدابته حلس ولزيد ملك " انتهى ". ولا يصح ما قاله لأن لبيوتهم بدل اشتمال أعيد معه العامل فلا يمكن من حيث هو بدل أن تكون اللام الثانية إلا بمعنى اللام الأولى أما أن يختلف المدلول فلا واللام في كليهما للتخصيص وقرىء:
{ سقفا } على الجمع كرهن ورهن وعلى الإفراد.
{ ومعارج } جمع معرج وهي المصاعد إلى العلالي.
{ عليها يظهرون } أي يعلون السطوح.
وقال الزمخشري: سقوفا ومصاعد وأبوابا وسررا كلها من فضة " انتهى ".
كأنه يرى اشتراك المعاطيف في وصف ما عطفت عليه ولا يتعين أن توصف المعاطيف بكونها من فضة والزخرف هنا الذهب. قاله ابن عباس: وفي الحديث
" إياكم والحمرة فإنها من أحب الزينة إلى الشيطان "
وقال الشاعر:
وصبغت درعك من دماء كماتهم
لما رأيت الحسن يلبس أحمرا
[43.34-50]
{ وإن كل } فإن مخففة من الثقيلة واللام الفارقة بين الإيجاب والنفي وما زائدة.
{ متاع } خبر كل وقرىء: لما بمعنى الأفان نافية.
{ والآخرة عند ربك للمتقين } أي ونعيم الآخرة وفيه تحريض على التقوى.
{ ومن يعش } أي يعم.
{ عن ذكر الرحمن } وهو القرآن كقوله:
صم بكم عمي
[البقرة: 18، 171].
{ نقيض } أي نهيىء ونيسر وهذا عقاب على الكفر بالحتم وعدم الفلاح والظاهر أن ضمير النصب في وانهم ليصدونهم عائد على من على المعنى أعاد أولا على اللفظ في إفراد الضمير ثم أعاد على المعنى والضمير في يصدونهم عائد على شيطان وإن كان مفردا لأنه مبهم في جنسه ولكل عاش شيطان قرين فجاز أن يعود الضمير مجموعا وقرىء: جاآنا على التثنية أي العاش والقرين أعاد على لفظ من ولفظ الشيطان القرين وإن كان من حيث المعنى صالحا للجمع وقرىء: جاءنا على الإفراد والضمير عائد على لفظ من أعاد أولا على اللفظ ثم جمع على المعنى ثم أفرد على اللفظ.
{ قال } أي الكافر للشيطان.
{ يليت بيني وبينك بعد المشرقين } تمنى لو كان ذلك في الدنيا حتى لا يصده عن سبيل الله أو تمنى ذلك في الآخرة وهو الظاهر لأنه جواب إذا التي للإستقبال أي مشرقي الشمس مشرقها في أقصر يوم من السنة ومشرقها في أطول يوم من السنة.
{ فبئس القرين } مبالغة منه في ذم قرينه إذ كان سبب إيراده النار والمخصوص بالذم محذوف تقديره فبئس القرين أنت.
{ ولن ينفعكم اليوم } حكاية حال يقال لهم يوم القيامة وهي مقالة موحشة حرمتهم روح التأسي لأنه وقفهم بها على أنه لا ينفعهم التأسي لعظم المصيبة وطول العذاب واستمر مدته إذ التأسي راحة كل مصاب في الدنيا في الأغلب. قال الزمخشري: وإذا بدل من اليوم " انتهى ".
وحمل إذ ظلمتم على معنى إذ نبين ووضح ظلمكم ولم يبق لأحد ولا لكم شبهة في أنكم كنتم ظالمين ونظيره قوله:
إذا ما انتسبنا لم تلدني
أي يتبين أني ولد كريمة " انتهى ".
ولا يجوز فيه البدل على بقاء إذ على موضوعها من كونها ظرفا لما مضى من الزمان فإن جعلت لمطلق الوقت جاز وتخريجها على البدل أخذه الزمخشري من ابني أخذه الزمخشري من ابني جنى قال الزمخشري: من ابن جنى قال في مساءلته ابا على راجعته مرارا فيها وآخر ما حصل منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه فتكون إذ بدلا من اليوم حتى كأنها مستقبلة أو كان اليوم ماض وقيل التقدير بعد إذ ظلمتم فحذف المضاف للعلم به وفاعل ينفعكم الاشتراك ولما كانت حواسهم لم ينتفعوا بها أعاد الضمير عليهم في قوله:
{ فإما نذهبن بك } ولم يجر لهم ذكر إلا في قوله: أفأنت تسمع الصم والمعنى إن قبضناك قبل نصرك فإنا منهم منتقمون في الآخرة.
{ فإنا عليهم مقتدرون } أي هم في قبضتنا لا يفوتونا ولما رد تعالى بين حياته وموته صلى الله عليه وسلم أمره بأن يستمسك بما أوحاه إليه.
{ وإنه } أي وإن ما أوحينا إليك.
{ لذكر لك ولقومك } أي شرف حيث نزل عليهم وبلسانهم وجعل سائر الناس تبعا لهم والقوم على هذا قريش ثم العرب.
{ وسئل من أرسلنا } الظاهر أنه خطاب للسامع الذي يريد أن يفحص عن الديانات فقيل له اسأل أيها الناظر اتباع الرسل جاءتهم الرسل بعبادة غير الله فإنهم يخبرونك ان ذلك لم يقع ولا يمكن أن يأتوا به قبلك أي قبل بعثة رسولك أيها السامع وعلق واسأل فارتفع من وهو اسم استفهام على الابتداء وأرسلنا خبره والجملة في موضع نصب باسأل بعد إسقاط الخافض كان سؤاله من أرسلت يا رب قبلي من رسلك أجعلت في رسالته آلهة تعبد ثم سألهم السؤال فحكى المعنى فرد الخطاب إلى محمد في قوله من قبلك.
{ ولقد أرسلنا موسى بآيتنآ } الآية.
{ فلما جآءهم بآياتنآ } قبله كلام محذوف تقديره فطالبوه بما يدل على صحة دعواه الرسالة من الله تعالى فلما جاءهم بآياتنا.
{ إذا هم منها يضحكون } أي فاجأهم الضحك بحيث لم يفكروا ولم يتأملوا بل بنفس ما رأوا ذلك ضحكوا سخرية واستهزاء كما كانت قريش تضحك قال الزمخشري: فإن قلت كيف جاز أن تجاب لما باذا المفاجأة قلت: لأن فعل المفاجأة معها مقدر وهو عامل النصب في محلها كأنه قيل فلما جاءهم فاجأوا وقت ضحكم " انتهى ".
ولا نعلم غويا ذهب إلى ما ذهب إليه هذا الرجل من أن الفجائية تكون منصوبة بفعل مقدر تقديره فاجأ بل المذاهب فيها ثلاثة مذهب انها حرف فلا تحتاج إلى عامل ومذهب انها ظرف مكان فإن صرح بعد الاسم بعدها بخبر له كان ذلك الخبر عاملا فيها نحو خرجت فإذا زيد قائم فقائم ناصب لا اذا كأن التقدير خرجت ففي المكان الذي خرجت فيه زيد قائم ومذهب انها ظرف زمان والعامل فيه الخبر أيضا كأنه قال: ففي الزمان الذي خرجت فيه زيد قائم وإن لم يذكر بعد الاسم خبر أو ذكر اسم منصوب على الحال كانت إذا خبرا للمبتدأ فإن كان المبتدأ جثة وقلنا إذا ظرف مكان كان الأمر واضحا وإن قلنا ظرف زمان كان الكلام على حذف أي ففي الزمان حضور زيد وما ادعاه الزمخشري من إضمار فعل المفاجأة لم ينطق به ولا في موضع واحد ثم المفاجأة التي ادعاها لا يدل المعنى على أنها تكون من الكلام السابق بل المعنى يدل على أن المفاجأة تكون من الكلام الذي فيه إذا تقول خرجت فإذا الأسد فالمعنى ففاجأني الأسد وليس المعنى ففاجأت الأسد.
{ وما نريهم من آية } كانت آياته من كبار الآيات وكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها فعلى هذا يكون ثم صفة محذوفة أي من أختها السابقة عليها ولا يبقى في الكلام تعارض ولا يكون ذلك الحكم في الآية الأولى لأنه لا يسبقها شىء فتكون أكبر منه وقيل الأولى تقتضي علما والثانية تقتضي علما منضما إلى علم الأولى فيزداد الرجوح ومعنى أختها مناسبتها تقول هذه الدرة أخت هذه أي مناسبتها.
{ وقالوا يأيه الساحر } خطاب استهزاء وانتقاص ويكون قولهم بما عهد عندك أي زعمك وقولك.
{ إننا لمهتدون } إخبار غير مطابق معلق على شرط دعائه وكشف العذاب عنهم وعهد معزوم على نكثه ألا ترى إلى قوله إذا هم ينكثون قوله بما عهد عندك يحتمل أن يكون من أن دعوتك مستجابة.
[43.51-89]
{ ونادى فرعون في قومه } جعل القوم محلا للنداء والظاهر أنه نادى عظماء القبط في محله الذي هو وهم يجتمعون فيه فرفع صوته فيما بينهم لتنتشر مقالته في جميع القبط وسبب ندائه ذلك أنه لما رأى إجابة الله دعوة موسى عليه السلام ورفع العذاب عنهم خاف ميل القوم إليه فنادى.
{ قال يقوم أليس لي ملك مصر } أراد أن يبين فضله على موسى عليه السلام بملك مصر وهي من اسكندرية إلى أسوان.
{ وهذه الأنهار } أي الخلجان التي تخرج من النيل وأعظمها نهر الملك ونهر طولون ونهر قنيس ونهر دمياط واو في وهذه الأنهار واو الحال وتجري خبر وهذه والأنهار صفة أو عطف بيان.
{ أفلا تبصرون } عظمتي وقدرتي وعجز موسى.
{ أم أنآ خير } الظاهر أنها أم المنقطعة المقدرة ببل والهمزة أي بل انا خير وهو إذا استفهم أو خير ممن هو ضعيف.
{ ولا يكاد } يفصح عن مقصوده إذا تكلم وهو الملك المتحكم فيهم قالوا له بلا شك أنت خير.
{ فلولا ألقي عليه أسورة من ذهب } قال مجاهد كانوا إذا سودوا رجلا سوروه بسوارين وطوقوه من ذهب علامة لسودده فقال فرعون هلا ألقى رب موسى عليه أساورة من ذهب إن كان صادقا فكان ذلك دليلا على إلقاء مقاليد الملك إليه لما وصف نفسه بالملك والعزة وصفة بالضعف والاعضاد اعترض فقال إن كان صادقا فهلا ملكه ربه وسوره وجعل الملائكة أنصاره وقرىء: أسورة.
{ فاستخف قومه } أي استجهلهم لقلة أحلامهم.
{ فلمآ آسفونا } هو على حذف مضاف قال ابن عباس: احزنوا أولياءنا المؤمنين.
{ فجعلناهم سلفا } قال ابن عباس: متقدمين إلى النار.
{ ومثلا للآخرين } أي حديثا عجيب الشأن سائرا مسير المثل يحدث به الآخرون من الكفار يقال لهم مثلكم مثل قوم فرعون.
{ ولما ضرب ابن مريم مثلا } الآية لما ذكر طرفا من قصة موسى عليه السلام ذكر طرفا من قصة عيسى عليه السلام وعن ابن عباس وغيره لما نزل ان مثل عيسى عند الله كمثل آدم ونزل كيف خلق من غير فحل قالت قريش: وما أراد محمد من ذكر عيسى إلا أن نعبده نحن كما عبدت النصارى عيسى فهذا كان صدودهم من ضربه مثلا.
{ وقالوا ءأ لهتنا خير } هذا استفهام يتضمن أن آلهتهم خير من عيسى عليه السلام .
{ ما ضربوه لك إلا جدلا } أي ما مثلوا هذا التمثيل إلا لأجل الجدل والغلبة والمغالطة لا لتمييز الحق واتباعه وانتصب جدلا على أنه مفعول من أجله وقيل مصدر في موضع الحال.
{ خصمون } شديد والخصومة واللجاج والظاهر أن الضمير في أم هو لعيسى لتناسق الضمائر في قوله: إن هو إلا عبد أنعمنا عليه.
{ ولو نشآء لجعلنا } قال بعض النحويين من تكون للبدل أي لجعلنا بدلكم ملائكة وجعل من ذلك قوله تعالى:
أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة
[التوبة: 38] أي بدل الآخرة ومنه قول الشاعر:
أخذوا المخاض من الفصيل علية
ظلما ويكتب للأمير أفلا أي بدل الفصيل ويجوز أن تكون من هنا للتعليل على حذف مضاف تقديره من أجلكم.
{ يخلفون } أي يكونون خلفاءكم وقيل يخلف بعضهم بعضا والظاهر أن الضمير في وانه لعلم للساعة يعود على عيسى عليه السلام إذ الظاهر في الضمائر السابقة أنها عائدة عليه وقرأ ابن عباس وجماعة لعلم أي لعلامة للساعة يدل على قرب ميقاتها إذ خروجه شرط من إشراطها وهو نزوله من السماء في آخر الزمان.
{ واتبعون } أي هداي.
{ بالبينات } أي المعجزات أو بآيات الإنجيل الواضحات.
{ بالحكمة } أي بما تقتضيه الحكمة الإلهية من الشرائع بالحكمة.
{ ولأبين } متعلق بجئتكم.
{ بعض الذي تختلفون فيه } من أمر الديانات والضمير في من بينهم عائد على من خاطبهم عيسى عليه السلام في قوله: قد جئتكم بالحكمة وهم قومه المبعوث إليهم.
{ فاختلف الأحزاب } تقدم الكلام عليه.
{ هل ينظرون } الضمير لقريش وان تأتيهم بدل من الساعة أي إتيانها إياهم.
{ الأخلاء يومئذ } قيل نزلت في أبي بن خلف بن أبي معيط والتنوين في يومئذ عوض من الجملة المحذوفة أي يوم إذ تأتيهم الساعة والذين آمنوا صفة ليا عبادي.
{ تحبرون } تسرون سرورا يظهر حباره أي أثره على وجوههم والضمير في وفيها عائد على الجنة.
{ ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين } هذا حصر لأنواع النعيم لأنها اما مشتهاة في القلب وإما مستلذة في العيون.
{ وتلك الجنة } مبتدأ وخبر.
{ أورثتموها } حال ويجوز أن تكون الجنة بدلا من تلكم وأورثتموها الخبر .
و { بما كنتم } متعلق بأورثتموها ولما ذكر ما تضمن الأكل والشرب ذكر الفاكهة.
{ منها تأكلون } من للتبعيض إذ لا يأكلون إلا بعضها.
{ إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون } لما ذكر تعالى حال أهل الجنة أعقبه بذكر حال الكفرة.
{ ونادوا يمالك } تقدم أنهم مبلسون أي ساكنون وهذه أحوال لهم في أزمان متطاولة فلا تعارض بين سكوتهم وندائهم واللام في ليقض لام الطلب والرغبة والمعنى ليمتنا مرة حتى لا يتكرر عذابنا.
{ قال } أي مالك.
{ إنكم ماكثون } أي مقيمون في النار لا تبرحون وقال ابن عباس يجيبهم بعد مضي ألف سنة.
{ لقد جئناكم بالحق } الظاهر أنه من كلام الله تعالى لهم.
{ أم أبرموا } الضمير لقريش أي بل أحكموا أمرا من كيدهم للرسول ومكرهم.
{ فإنا مبرمون } كيدنا كما أبرموا كيدهم وكانوا يتناجون ويتسارون في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى:
{ أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم } وهو ما يحدث به الرجل نفسه أو غيره في مكان خال.
{ ونجواهم } وهو ما تكلموا به فيما بينهم.
{ بلى } أي نسمعها.
{ ورسلنا } وهم الحفظة.
{ قل إن كان للرحمن ولد } التعليق بأن لا يقتضي جواز الشىء بل قد يتعلق بها الممتنع ويجاب بالممتنع ونظيره ما تقدم من قوله تعالى:
فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السمآء فتأتيهم بآية
[الأنعام: 35] وجوابه محذوف تقديره فافعل وهو عليه السلام لا يستطيع إلا النفق وله السلم ويجوز أن يكون المعنى إن كان للرحمن ولد فيما تدعون وتزعمون.
{ فأنا أول } الآنفين المنكرين لذلك تقول العرب عبد الرجل يعبد بمعنى أنف يأنف ومعنى إله معبود وبه يتعلق الجار والمجرور والمعنى أنه هو معبود في السماء ومعبود في الأرض والعائد على الموصول محذوف تقديره وهو إله وقرىء: وقيله منصوب على إضمار فعل أي ويعلم قيله وبالخفض فقيل معطوف على الساعة وقيل هي واو القسم والجواب محذوف تقديره لينصرن أو لأفعلن بهم ما أشاء وبالرفع معطوف على علم الساعة تقديره وعلم قيله فحذف وعلم وأقيم المضاف إليه مقامه فرفع والضمير المجرور عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم بدلالة قوله:
{ فاصفح عنهم } أي أعرض عنهم وتاركهم.
{ وقل سلام } أي الأمر سلام.
{ فسوف يعلمون } وعيد لهم وتهديد وموادعة وهي منسوخة بآية السيف.
[44 - سورة الدخان]
[44.1-29]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * حم * والكتاب المبين }. هذه السورة مكية قيل إلا قوله: انا كاشفوا العذاب ومناسبة هذه السورة أنه ذكر في أواخر ما قبلها فذرهم يخوضوا ويلعبوا فذكر تعالى يوما غير معين ولا موصوف فبين في أوائل هذه السورة ذلك اليوم بوصف وصفه فقال فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين وإن العذاب يأتيهم من قبلك.
{ والكتاب المبين } هو القرآن أقسم به تعالى والضمير في أنزلناه يكون عائدا عليه والليلة المباركة ليلة القدر قالوا: كتب الله كلها إنما أنزلت في رمضان.
{ منذرين } أي مخوفين.
{ فيها } أي في الليلة المباركة.
{ يفرق } يفصل من غيره ويخلص ووصف أمر بحكيم أي أمر ذي حكمة وقد أبهم تعالى هذا الأمر فقال ابن عباس: في ليلة القدر يفصل كل ما في العام المقبل من الأقدار والأرزاق. والآجال وغير ذلك ويكتب لهم ذلك إلى مثلها من العام المقبل وأمرا مفعول بمنذرين.
{ رحمة من ربك } مفعول من أجله والعامل فيه مرسلين.
{ فارتقب يوم تأتي السمآء بدخان مبين } قال ابن مسعود وغيره هو الدخان الذي رأته قريش قيل لعبد الله ان قاصا عند أبواب كندة يقول انه دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأنفاس الناس فقال من علم علما فليقل به ومن لم يعلم فليقل الله أعلم به وسأحدثكم
" ان قريشا لما استعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: اللهم اشدد وطأتك على مضر "
ما جعلها عليهم سنين كسني يوسف فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف والعلهز والعلهز هو الصوف يقع فيه الفراد فيشوى الصوف بدم القراد ويؤكل وأكلوا العظام أيضا وكان الرجل يرى بين السماء والأرض الدخان وكان الرجل يحدث الرجل فيسمع الكلام ولا يرى المتكلم من الدخان فمشى إليه أبو سفيان ونفر معه فناشدوه الله والرحم وواعدوه ان دعا لهم وكشف عنهم أن يؤمنوا فلما كشف عنهم رجعوا إلى شركهم وفيه فرحمهم النبي صلى الله عليه وسلم وبعث إليهم بصدقة ومال وفيه فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالتهم فأنزل الله تعالى.
{ يوم نبطش البطشة الكبرى إنا منتقمون } يعني يوم بدر وقال عبد الرحمن: خمس قد مضين الدخان واللزام والبطشة والقمر والروم.
{ ولقد فتنا قبلهم } هذا كالمثال لقريش ذكرت قصة من أرسل إليهم موسى عليه السلام فكذبوه فأهلكهم الله تعالى.
{ وجآءهم رسول كريم } أي كريم عند الله تعالى وعند المؤمنين.
{ أن أدوا } يحتمل أن تكون ان تفسيرية لأنه تقدم ما يدل على معنى القول وهو رسول كريم وان تكون مخففة من الثقيلة والناصبة للمضارع فإنها توصل بالأمر طلب منهم أن يؤدوا إليه بني إسرائيل.
و { رسول أمين } أي بحجة واضحة في نفسها.
{ وإني عذت } أي استجرت.
{ بربي وربكم أن ترجمون } كانوا قد توعدوه بالقتل فاستعاذ من ذلك.
{ وإن لم تؤمنوا لي } أي تصدقوا.
{ فاعتزلون } أي كونوا بمعزل مني وهذه متاركة حسنة.
{ فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون } إن هؤلاء لفظ تحقير لهم.
{ فأسر بعبادي } في الكلام حذف أي فانتقم منهم فقال له الله تعالى: أسر بعبادي هم بنو إسرائيل ومن آمن من القبط.
{ إنكم متبعون } أي يتبعكم فرعون وجنوده فتنجون ويغرق المتبعون.
{ واترك البحر رهوا } قال ابن عباس: ساكنا كما جزته.
{ قوما آخرين } هم بنو إسرائيل.
{ فما بكت عليهم السمآء والأرض } إستعارة لتحقير أمرهم وانه لم يتغير عن هلاكهم شىء.
{ وما كانوا منظرين } أي مؤخرين عن العذاب.
[44.31-59]
{ من فرعون } بدل من قوله من العذاب المهين أعيد معه حرف الجر كما أعيد في قوله منها من غم.
{ ولقد اخترناهم } أي اصطفيناهم وشرفناهم.
{ على علم على العالمين } أي عالمي زمانهم.
{ إن هؤلاء } يعني قريشا وأشار بهؤلاء إلى تحقيرهم كانوا يقولون ليس لنا إلا موتة واحدة ولا ننشر بعدها لحساب.
{ فأتوا بآبآئنا } خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين الذين كانوا يعدونهم بالبعث أي إن صدقتم فيما تعدوننا فأحيوا لنا من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم حين يكون ذلك دليلا على البعث في الآخرة.
{ أهم } أي قريش.
{ خير أم قوم تبع } وتبع تقدم الكلام عليه.
{ وما بينهما } أي من الجنسين.
{ لعبين } أي عابثين.
{ ما خلقناهمآ إلا بالحق } أي بالعدل يجازي المحسن والمسيء بما أراد تعالى من ثواب وعقاب.
{ لا يعلمون } أنه تعالى خلق ذلك لذلك فهم لا يخافون عقابا ولا يرجون ثوابا.
{ كالمهل } دردي الزيت وقيل غير ذلك.
{ خذوه } يقال للزبانية خذوه.
{ فاعتلوه } أي سوقوه بعنف وجذب.
{ إلى سوآء الجحيم } أي وسطه.
{ ثم صبوا } المصبوب في الحقيقة هو الحميم فتارة اعتبرت الحقيقة وتارة اعتبرت الاستعارة لأنه إذا صب الحميم فقد صب ما تولد عنه من الألم والعذاب فعبر بالمسبب عن السبب لأن العذاب هو المسبب عن الحميم ولفظة العذاب أهول وأهيب.
{ ذق } أي العذاب.
{ إنك أنت العزيز الكريم } وهذا على سبيل التهكم بهم والهزء بمن كان يتعزز ويتكرم على قومه.
{ إن هذا } أي الأمر.
{ ما كنتم به تمترون } أي تشكون ولما ذكر حال الكفار أعقب بحال المؤمنين فقال:
{ إن المتقين } الآية.
{ إلا الموتة الأولى } إستثناء منقطع أي لكن الموتة الأولى ذاقوها في الدنيا وفي ذلك تنبيه على ما أنعم به عليهم من الخلود السرمدي وتذكير لهم بمفارقة الدنيا الفانية إلى هذه الدار الباقية والضمير في يسرناه عائد على القرآن.
{ بلسانك } أي بلغتك وهي لغة العرب.
{ فارتقب } أي انتصر الذي وعدناك.
{ إنهم مرتقبون } فيما يظنون الدوائر عليها وفيها وعد له صلى الله عليه وسلم ووعيد لهم ومتاركة منسوخة بآية السيف.
[45 - سورة الجاثية]
[45.1-20]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم * إن في السموت والأرض لأيت } هذه السورة مكية وقيل إلا قوله: { قل للذين آمنوا } لآية. فمدني ومناسبة أولها لآخر ما قبلها في غاية الوضوح قال تعالى:
فإنما يسرناه بلسانك
[الدخان: 58] وقال: { حم * تنزيل الكتاب... إن في السموت والأرض } ذكر تعالى في البقرة ثمانية دلائل وهنا ستة ثم لم يذكر الفلك والسحاب والسبب في ذلك أن مدار الحركة الفلك والسحاب على الرياح المختلفة بذكر الرياح وهناك جعل مقطع الثمانية واحدا وهنا رتبها على مقاطع ثلاثة يؤمنون يوقنون يعقلون وأظن سبب هذا الترتيب إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإن لم تكونوا مؤمنين ولا موقنين فلا أقل ان تكونوا من العاقلين فاجتهدوا وقال: هناك ان في خلق السماوات وهنا في السماوات فدل على أن الخلق غير المخلوق وهو الصحيح ولا تفاوت بين أن يقال ان في السماوات أو في خلق السماوات.
قال الزمخشري: أقيمت الواو مقامها فعملت الجر في واختلاف الليل والنهار والنصب في آيات وإذا رفعت فالعاملان الابتداء وفي عملت الرفع في وآيات والجر في واختلاف " انتهى ". فنسبة عمل الجر والنصب والجر والرفع للواو ليس بصحيح لأن الصحيح من المذاهب أن حروف العطف لا تعمل ومن منع العطف على مذهب الأخفش أضمر حرف الجر بعد وفي اختلاف فالعمل للحرف مضمر أو نابت الواو ومناسب عامل واحد ويدل على أن في مقدرة قراءة عبد الله وفي اختلاف مصرحا بفي وحسن حذف في تقدمها في قوله: وفي خلقكم.
{ تلك ءايت الله } أي تلك الآيات وهي الدلائل المذكورة.
{ نتلوها } أي نسردها عليك ملتبسة بالحق ونتلوها في موضع الحال أي متلوة.
قال الزمخشري: والعامل ما دل عليه تلك من معنى الإشارة ونحوه وهذا بعلى شيخنا " انتهى ".
ليس نحوه لأن في وهذا حرف تنبيه وقيل العامل في الحال ما دل عليه حرف التنبيه أي تنبه وأما تلك فليس فيها حرف التنبيه فإذا كان حرف التنبيه عاملا بما فيه من معنى التنبيه لأن الحرف قد يعمل في الحال فالمعنى تنبه لزيد في حال شيخه أو في حال قيامه وقيل العامل في مثل هذا التركيب فعل محذوف يدل عليه المعنى أي أنظر إليه في حال شيخه فلا يكون إسم الإشارة عاملا ولا حرف التنبيه إن كان هناك. قال الزمخشري: بعد الله وآياته أي بعد آيات الله كقولهم أعجبني زيد وكرمه يريدون أعجبني كرم زيد " انتهى ".
ليس هذا بشىء لأن فيه من حيث المعنى اقتحام الأسماء من غير ضرورة والعطف والمراد غير العطف من إخراجه إلى باب البدل لأن تقدير كرم زيد إنما يكون في أعجبني زيد كرمه بغير واو على البدل وهذا قلب لحقائق النحو وإنما المعنى في أعجبني زيد وكرمه إن ذات زيد أعجبته وأعجبه كرمه فهما إعجابان لا إعجاب واحد وقد رددنا عليه مثل هذا فيما تقدم.
{ ويل لكل أفاك أثيم } قيل نزلت في النصر بن الحارث وغيره وما كان يشتري من أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن والآية عامة في كل من كان مضار الدين الله تعالى وأفاك أثيم صفتا مبالغة وألفاظ هذه الآية تقدم الكلام عليها والإشارة بأولئك إلى كل أفاك لشموله الأفاكين حمل أولا على لفظ كل فأفرد ثم على المعنى فجمع كقوله:
كل حزب بما لديهم فرحون
[المؤمنون: 53].
{ من ورآئهم جهنم } أي من مقدامهم والوراء ما توارى من خلف وإمام.
{ ولا يغني عنهم ما كسبوا } من الأموال في متاجرهم.
{ ولا ما اتخذوا من دون الله } من الأوثان.
{ هذا } أي القرآن.
{ هدى } أي بالغ في الهداية كقولك هذا رجل أي كامل في الرجولية.
{ الله الذي سخر } هذه آية اعتبار. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون يعني منه خبر مبتدأ محذوف تقديره هي جميعا وأن يكون وما في الأرض مبتدأ ومنه خبره " انتهى ".
لا يجوز هذان الوجهان إلا على قول الأخفش لأن جميعا إذا ذاك حال والعامل فيها معنوي وهو الجار والمجرور فهو نظير زيد قائما في الدار لا يجوز على مذهب الجمهور وقرىء: ليجزي مبنيا للفاعل أي ليجزي الله وترى: بالنون أي لنجزي نحن وبالياء بنيا للمفعول والأحسن أن يكون المفعول الذي لم يسم فاعله ضمير المصدر أي ليجزي هو أي الجزاء وينتصب قوما بإضمار فعل يدل عليه ما قبله تقديره يجزي قوما.
{ فما اختلفوا } تقدم الكلام عليه.
{ ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها } الآية لما ذكر تعالى انعامه على بني إسرائيل واختلافهم بعد ذلك ذكر حال نبيه صلى الله عليه وسلم وما من به عليه من اصطفائه فقال: ثم جعلناك على شريعة من الأمر قيل الشريعة هي الأمر والنهي والحدود والفرائض.
{ هذا بصائر } أي هذا القرآن جعل ما فيه من معالم الدين بصائر للقلوب كما جعل روحا وحياة وقرىء: هذه أي هذه الآيات.
[45.21-37]
{ أم حسب } أم منقطعة تتقدر ببل والهمزة وهو استفهام إنكار قال الكلبي: نزلت في علي وحمزة وعبيدة بن الحرث. قال شيبة والوليد بن عتبة وعتبة قالوا للمؤمنين والله ما أنتم على شىء ولئن كان ما تقولون حقا لحالنا أفضل من حالكم في الآخرة كما هو أفضل في الدنيا واجترحوا اكتسبوا والسيئات هنا سيئات الكفر ونجعلهم نصيرهم والمفعول الثاني هو كالذين وبه تمام المعنى واحتمل الضمير في محياهم ومماتهم أن يعود على الذين اجترحوا أخبر ان حالهم في الزمانين سواء وأن يعود على المجترحين والصالحين بمعنى أن محيا المؤمنين ومماتهم سواء في الكرامة عند الله تعالى ومحيا المجترحين ومماتهم سواء في إهانتهم عند الله تعالى وعدم كرامتهم عليه ويكون اللفظ قد لف هذا المعنى وذهن السامع يفصله إذ قد تقدم ابعاد الله أن يجعل هؤلاء كهؤلاء.
قال الزمخشري: والجملة التي هي سواء محياهم ومماتهم بدل من الكاف لأن الجملة تقع مفعولا ثانيا فكانت في حكم المفرد ألا تراك لو قلت أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم كان سديدا كما تقول ظننت زيدا أبوه منطلق " انتهى ".
هذا الذي ذهب إليه الزمخشري من إبدال الجملة من المفرد قد أجازه أبو الفتح واختاره ابن مالك وأما تجويزه أن نجعلهم سواء محياهم ومماتهم فيظهر لي أنه لا يجوز لأنها بمعنى التصيير ولا يجوز صيرت زيدا غلامه منطلق ولا صيرت زيدا غلامه منطلق، ولا صيرت زيدا أبوه قائم لأن التصيير انتقال من ذات إلى ذات ومن وصف في الذات إلى وصف فيها وتلك الجملة الواقعة بعد مفعول صيرت المقدرة مفعولا ثانيا ليس فيها انتقال مما ذكرنا فلا يجوز والذي يظهر لي أنا إذا قلنا يتشبث هذه الجملة بما قبلها أن تكون الجملة في موضع الحال والتقدير أم حسب الكفار ان نصيرهم مثل المؤمنين في حال استواء محياهم ومماتهم ليسوا كذلك بل هم يفترون أي افتراق في الحالين وتكون هذه الحال مبينة ما نبهم في المثلية الدالة عليها الكاف.
{ أفرأيت } قال مقاتل: نزلت في الحرث بن قيس وأفرأيت هي بمعنى أخبرني والمفعول الأول من هو اتخذوا الثاني محذوف تقديره بعد الصلاة التي لمن أي أيهتدى ويدل عليه قوله: بعد فمن يهديه من بعد الله أي لا أحد يهديه من بعد إضلال الله إياه.
{ من اتخذ إلهه هواه } أي هو مطاوع لهوى نفسه يتبع ما تدعوه إليه فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه.
{ وأضله الله على علم } أي من الله تعالى سابق أو على علم من هذا الضال بأن الحق هو الدين ويعرض عنه عنادا فيكون كقوله
وجحدوا بها واستيقنتهآ أنفسهم
[النمل: 14] والظاهر أن قولهم غوت وتحيا حكم على النوع بجملته من غير اعتبار تقديم ولا تأخير أي تموت طائفة وتحيا طائفة وان المراد بالموت مفارقة الروح للجسد وجواب إذا ما كان حجتهم لأن إذا للاستقبال وخالفت أدوات الشرط بأن جوابها إذا كان منفيا بما لم تدخل الفاء بخلاف أدوات الشرط فلا بد من الفاء تقول إن تزرنا فما جفوتنا أي فما تجفونا وفي كون الجواب منفيا بما دليل على ما اخترناه من أن جواب إذ لا يعمل فيها لأن ما بعد ما النافية لا يعمل فيما قبلها.
{ ولله ملك السماوات والأرض } الآية العامل في ويوم يخسر ويومئذ بدل من يوم نقوم والمبطلون الداخلون في الباطل.
{ جاثية } باركة على الركب مستوفزة وهي هيئة المذنب الخائف وقرىء: جاذية بالذال والجذ وأشد استيفازا من الجثو لأن الجاذي الذي يجلس على أطراف أصابعه وعن ابن عباس جاثية أي مجتمعة وقرىء: كل أمة تدعي بنصب كل على البدل بدل النكرة الموصوفة من النكرة والظاهر عموم كل أمة من مؤمن وكافر.
{ تدعى إلى كتابها } المنزل عليها فتحاكم إليه هل وافقته أو خالفته وأفرد كتابها اكتفاء بإسم الجنس كقوله ووضع الكتاب.
{ اليوم تجزون } أي يقال لهم اليوم تجزون.
{ هذا كتابنا } هو الذي دعيت إليه كل أمة وصحت إضافته إليه تعالى لأنه مالكه والآمر بكتبه وإليهم لأن أعمالهم مثبتة فيه والإضافة تكون بأدنى ملابسة فلذلك صحت إضافته إليهم وإليه تعالى.
{ ينطق عليكم } أي يشهد.
{ بالحق } من غير زيادة ولا نقصان.
{ إنا كنا نستنسخ } أي الملائكة أي نجعلها تنسخ أي تكتب وحقيقة النسخ نقل خط من أصل ينظم فيه فأعمال العباد كأنها الأصل.
وقرىء: والساعة بالرفع على الإبتداء وبالنصب عطفا على وعد الله.
{ إلا ظنا } أي ظنا ضعيفا وقال الأعشى:
وجد به الشيب أثقاله
وما اغتره الشيب إلا اغترارا
اغترارا بينا.
وقال الزمخشري: فإن قلت ما معنى أن نظن إلا ظنا قلت: أصله نظن ظنا ومعناه إثبات الظن فحسب وأدخل حرف النفي والإستثناء ليفاد إثبات الظن مع نفي ما سواه وزيد نفي ما سوى الظن توكيدا بقوله: وما نحن بمستيقنين " انتهى ". وهذا كلام من لا شعور له بالقاعدة النحوية من أن التفريغ يكون في جميع المعمولات من فاعل ومفعول وغيره إلا المصدر المؤكد فإنه لا يكون فيه وقولهم: أن نظن دليل على أن الكفار قد أخبروا بأنهم ظنوا البعث واقعا ودل قولهم قبل ان هي إلا حياتنا الدنيا على أنهم منكرون البعث فهم والله أعلم فرقتان.
{ وبدا لهم } أي قبائح أعمالهم.
{ وحاق بهم } أي أحاط بهم ولا تستعمل حاق إلا في المكروه ننساكم نترككم في العذاب كالشىء المنسي الملقى غير المبالى به.
{ كما نسيتم } أي لقاء جزاء الله على أعمالكم وأضاف اللقاء لليوم توسعا.
{ منها } أي من النار.
{ ولا هم يستعتبون } أي تطلب منهم مراجعة إلى عمل صالح وتقدم الكلام عليه في الاستعتاب.
[46 - سورة الأحقاف]
[46.1-21]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم }. هذه السورة مكية قال ابن عباس: إلا قل أرأيتم وفاصبر كما الآيتين فإنهما مدنيتان. ومناسبة أولها لآخر ما قبلها أن في آخرها ذلكم بأنكم اتخذتم وقلتم أنه عليه السلام اختلقها فقال تعالى: { حم * تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم } وهاتان الصفتان هما آخر تلك وهما أول هذه وأجل مسمى أي موعد لفساد هذه البنية.
قال ابن عباس: هو يوم القيامة.
{ عمآ أنذروا } يحتمل أن يكون ما مصدرية وأن تكون بمعنى الذي.
{ قل أرأيتم ما تدعون } معناه أخبروني عن الذين تدعون من دون الله وهي الأصنام.
{ أروني ماذا خلقوا } إستفهام توبيخ ومفعول أرأيتم الأول هو ما تدعون وماذا خلقوا جملة استفهامية يطلبها أرأيتم لأن مفعولها الثاني يكون استفهاما ويطلبها أروني على سبيل التعليق فهذا من باب الأعمال أعمل الثاني وحذف مفعول أرأيتم الثاني ومن الأرض تفسير للمهم فيما خلقوا والظاهر أنه يريد من أجزاء الأرض أي خلق ذلك إنما هو الله تعالى.
قال ابن عطية: يحتمل أرأيتم وجهين أحدهما أن تكون متعدية وما مفعولة بها ويحتمل أن تكون منبهة لا تتعدى وتكون ما استفهاما على معنى التوبيخ وتدعون معناه تعبدون " انتهى ".
كون أرأيتم لا تتعدى وانها منبهة شىء قاله الأخفش في قوله: قال أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة والذي يظهر ما قلناه ثم وقفهم على غباوتهم فقال: أم لهم أي بل الهم شرك إئتوني بكتاب من قبل هذا أو إثارة من علم وهو القرآن فإنه ناطق بالتوحيد فطلب منهم أن يأتوا بكتاب واحد يشهد بصحة ما هم عليه.
{ أو أثارة من علم } أي بقية من علم من علوم الأولين.
وقال ابن عباس: المراد بالإثارة الخط في التراب لك شىء كانت العرب تفعله وتتكهن به وتزجر.
{ وهم } أي الأصنام عن دعاء الكفار.
{ غافلون } أي ليس لهم عقل يفهمون به دعاء الكفار والضمير في افتراه عائد على الحق والمراد به الآيات.
{ قل إن افتريته } على سبيل الفرض فالله حسبي في ذلك.
{ فلا تملكون لي من الله } أي من رد عقوبة الله لي شيئا.
{ بما تفيضون } أي تندفعون فيه من الباطل ومراده الحق وتسميته تارة سحرا وتارة فرية والضمير في فيه يعود على ما وعلى القرآن.
{ شهيدا } لي بالتبليغ وشهيدا عليكم بالتكذيب.
{ وهو الغفور } عدة لهم بالغفران إن رجعوا عن الكفر.
{ قل ما كنت بدعا من الرسل } أي جاء قبلي غيري والبدع والبديع في الأشياء ما لم ير مثله والظاهر أن ما استفهامية وأدري معلقة فجملة الاستفهام في موضع المفعول وما مبتدأ ويفعل الخبر " انتهى ".
وقال الزمخشري: يجوز أن تكون موصولة منصوبة " انتهى ". الفصيح المشهور ان دري تتعدى بالباء ولذلك حين عدى بهمزة النقل تعدى بالباء نحو قوله ولا أدراكم به فجعل ما استفهامية هو الأولى وكثيرا ما علقت في القرآن نحو وإن أدرى أقريب أم بعيد ما توعدون ويفعل مثبت غير منفي لكنه قد انسحب عليه النفي لاشتماله على ما ويفعل فلذلك قال: ولا بكم ولولا اعتبار النفي لكان التركيب ما يفعل بي وبكم.
{ إن أتبع إلا ما يوحى إلي } إستسلام من علم المغيبات ووقوف مع النذارة من عذاب الله تعالى.
{ وشهد شاهد } هو عبد الله بن سلام قاله الجمهور والآية مدنية وعن عبد الله بن سلام نزلت في آيات من كتاب الله تعالى وعد منها وشهد شاهد.
وقال الزمخشري: جواب الشرط محذوف تقديره إن كان هذا القرآن من عند الله. وكفرتم به ألستم ظالمين ويدل على هذا المحذوف قوله: { إن الله لا يهدي القوم الظالمين } انتهى جملة الإستفهام لا تكون جوابا للشرط إلا بالفاء فإن كانت الاداة الهمزة تقدمت الفاء نحو ان تزرنا أفما نحسن إليك أو غيرها تقدمت الفاء نحو إن تزرنا فهل ترى إلا خيرا فقول الزمخشري ألستم ظالمين بغير فاء. لا يجوز أن يكون جواب الشرط.
{ وقال الذين كفروا للذين آمنوا } الآية قال مقاتل: هي مقالة كفار قريش للذين آمنوا أي لأجل الذين آمنوا واللام للتبليغ ثم انتقلوا إلى الغيبة في قولهم ما سبقونا ولو لم ينتقلوا لكان الكلام ما سبقتم إليه والعامل في إذ محذوف أي وإذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم وقوله فسيقولون مسبب في ذلك الجواب المحذوف لأن هذا القول ناشىء عن العناد ويمتنع أن يعمل في إذ سيقولون لحيلولة الفاء وقدمه بمرور الأعصار عليه ولما طعنوا في صحة القرآن قيل لهم أنه أنزل الله من قبله التوراة على موسى عليه السلام أئنتم لا تنازعون في ذلك إماما أي يهتدي به إذ فيه البشارة بمبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وإرساله فيلزم اتباعه والإيمان به وانتصب إماما على الحال والعامل فيه العامل في ومن قبله أي وكتاب موسى كائن من قبل القرآن في حال كونه إماما ولما عبر عن الكفار بالذين ظلموا عبر عن المؤمنين بالمحسنين ليقابل بلفظ الإحسان لفظ الظلم وبشرى في موضع جر معطوف على المصدر المنسبك في قوله: لتنذر.
{ إن الذين قالوا ربنا الله } تقدم الكلام عليه ولما ذكر جزاء بما كانوا يعملون قال: ووصينا الإنسان إذ كان بر الوالدين ثاني أفضل الأعمال إذ في الصحيح
" أي الأعمال أفضل فقال الصلاة على ميقاتها قال: ثم أي قال بر الوالدين "
وإذ كان عقوقهما ثاني أكبر الكبائر إذ قال عليه السلام:
" ألا أنبئكم الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين "
والوارد في برهما كثير.
قال ابن عطية: ونصب هذا يعني إحسانا على المصدر الصريح والمفعول الثاني في المجرور والباء متعلقة بوحينا أو بقوله إحسانا " انتهى ".
لا يصح أن يتعلق بإحسانا لأنه مصدر مقدر بحرف مصدري والفعل فلا يتقدم معموله عليه ولأن أحسن لا يتعدى بالباء إنما يتعدى باللام تقول أحسنت لزيد ولا تقول أحسنت بزيد على معنى أن الإحسان يصل إليه.
{ حملته أمه كرها } ليس الكره في أول علوقها به بل في ثاني استمرار الحمل حتى تتوقع حوادثه وحمله وفصاله أي ومدة حمله وفصاله وهذا لا يكون إلا بأن يكون أحد الطرفين ناقصا إما بأن تلد المرأة لستة أشهر وترضع عامين وإما بأن تلد لتسعة أشهر على العرف وترضع عامين غير ربع عام فإن زادت مدة الحمل نقصت مدة الرضاع وبالعكس فترتب من هذا أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وأقل لمدة الرضاع عام وتسعة أشهر وإكمال العامين لمن أراد أن يتم الرضاعة وتقدم الكلام على بلغ أشده وبلغ أربعين سنة.
{ قال } أي قال المحسن منهم.
{ رب أوزعني } ولذلك إشارة بقوله: أولئك بصيغة الجمع وقرىء: يتقبل ويتجاوز مبنيا للمفعول ورفع أحسن وقرىء: بالنون فيهما ونصب أحسن .
{ في أصحاب الجنة } قيل في بمعنى مع وقيل هو نحو قولك أكرمني الأمير في ناس من أصحابه تريد في جملة من أكرم منهم محله النصب على الحال على معنى كاثنين في أصحاب الجنة وانتصب وعد الله على أنه مصدر مؤكد لمضمون الجملة السابقة والمراد بالذي الجنس ولذلك جاء الخبر مجموعا في قوله: { أولئك }.
{ أف } تقدم الكلام عليه وإن أخرج أي أبعث بعد الموت.
{ من قبلي } ولم يبعث أحد بعد موته.
{ وهما يستغثيان } جملة حالية واستغاث يتعدى بنفسه وبالباء.
{ ويلك } دعاء عليه بالثبور والمراد به الحث والتحريض على الإيمان لا حقيقة الهلاك.
{ آمن } أمر منهما له الإيمان.
{ إن وعد الله حق } هو البعث بعد الموت.
{ ولكل } أي من المحسن والمسيء.
{ درجت } لأن الجنة درجات غلب درجات والنار دركات.
{ وليوفيهم } بعثناهم وقرىء: أذهبتم على الخبر وأأذهبتم بهمزتين على الاستفهام وهو إستفهام توبيخ وإنكار فاليوم هو يوم القيامة.
{ واذكر أخا عاد } هو هود عليه السلام والاحقاف قال ابن عباس: واد بين عمان ومهرة.
{ وقد خلت النذر من بين يديه } هم الرسل الذين تقدموا أزمانه.
{ ومن خلفه } الرسل الذين كانوا في زمانه وقد خلت جملة حالية وأن لا تعبدوا متعلق بالنذر.
[46.22-35]
{ قالوا أجئتنا } إستفهام تقرير وتوبيخ فيما أنذره إياهم من العذاب العظيم على ترك أفراد الله تعالى بالعبادة.
{ لتأفكنا } أي لتصرفنا.
{ عن آلهتنا } بالإفك وهو الكذب.
{ فأتنا } إستعجال منهم لحلول ما وعدهم به من العذاب العظيم والضمير في رأوه الظاهر أنه عائد على ما في قوله بما تعدنا وهو العذاب وانتصب عارضا على الحال من المفعول. وقال الزمخشري: فلما رأوه في الضمير وجهان ان يرجع إلى ما تعدنا وأن يكون مبهما وقد وضح أمره بقوله عارضا إما تمييزا وإما حالا وهذا الوجه أعرب وأفصح " انتهى ". هذا الذي ذكر أنه أعرب وأفصح ليس جاريا على ما ذكره النحاة لأن المبهم الذي يفسره ويوضحه التمييز لا يكون إلا في باب رب نحو ربه رجلا لقيته وفي باب نعم وبئس على مذهب البصريين نحو نعم رجلا زيد وبئس غلاما عمرو وأما ان الحال توضح المبهم وتفسره فلا نعلم ان أحدا ذهب إليه وقد حصر النحاة الذي يفسره ما بعد فلم يذكروا فيه مفعول رأى إذا كان ضميرا ولا ان الحال تفسر الضمير وتوضحه والعارض المعترض في الجو من السحاب الممطر وأودية جمع واد وهو جمع شاذ في القياس إذ فاعل الإسم لا يجمع على أفعلة.
{ بل هو } بل حرف إضراب وهو مبتدأ وما خبره وريح بدل من ما.
{ تدمر كل شيء } هو عام مخصوص بتدمير ما أمرت به وقرىء: ترى بالتاء مبنيا للمفعول مساكنهم رفع ولما أخبر بهلاك قوم عاد خاطب قريشا على سبيل الموعظة فقال:
{ ولقد مكناهم } وان نافية أي في الذي ما مكناكم فيه من القوة والغنى والبسط في الأجسام والأموال ولم يكن النفي بلفظ ما كراهة لتكرير اللفظ وإن اختلف المعنى.
{ ولقد أهلكنا ما حولكم من القرى } خطاب لقريش على جهة التمثيل لهم والذي حولهم من القرى ما رب وحجر ثمود وسدوم.
{ وصرفنا الآيات } أي الحجج والدلائل.
{ فلولا نصرهم } أي فهلا نصرهم حين جاءهم الهلاك.
{ الذين اتخذوا } أي اتخذوهم من دون الله قربانا أي في حال التقرب وجعلهم شفعاء.
{ آلهة } وهو المفعول الثاني لاتخذوا والأول الضمير المحذوف العائد على الموصول.
وقال الزمخشري: وقربانا حال ولا يصح أن يكون قربانا مفعولا ثانيا وآلهة بدل لفساد المعنى " انتهى ".
لم يبين الزمخشري كيف يفسر المعنى ويظهر أن المعنى صحيح على ذلك الإعراب.
{ وإذ صرفنآ إليك نفرا من الجن } قضية الجن كانت مرتين: الأولى يأتي ذكرها. والثانية:
" ان الله تعالى أمره عليه السلام أن ينذر الجن ويقرأ عليهم القرآن فقال: إني أمرت أن أقرأ على الجن فمن يتبعني قالها ثلاثا فأطرقوا إلا عبد الله بن مسعود قال: لم يحضره أحد ليلة الجن غيري فانطلقنا حتى إذا كنا في شعب الحجون خط لي خطا وقال لا تخرج منه حتى أعود إليك ثم افتتح القرآن وسمعت لغطا شديدا حتى خفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ثم انقطعوا كقطع السحاب فقال لي هل رأيت شيئا قلت: نعم رجالا سودا مستثفري ثياب بيض فقال: أولئك من نصيبين وكانوا اثني عشر ألفا والسورة التي قرأها عليهم: { اقرأ باسم ربك } [العلق: 1] وفي آخر هذا الحديث قلت: يا رسول الله سمعت لهم لغطا فقال: إنهم تدارؤا في قتيل لهم فحكمت بالحق ".
{ فلما حضروه } أي القرآن.
{ قالوا أنصتوا } أي اسكتوا للإستماع وفيه تأدب مع العلم وكيف يتعلم.
{ فلما قضي } أي القرآن.
{ ولوا إلى قومهم منذرين } تفرقوا على البلاد ينذرون الجن قال قتادة: ما أسرع ما عقل القوم وعند ذلك وقعت قصة سواد بن فارب وخنافر وأمثالهما حين جاءهما ربياهما من الجن وكان سبب إسلامهما.
{ من بعد موسى } أي بعد كتاب موسى قال عطاء: كانوا على ملة اليهود.
{ أجيبوا داعي الله } هو الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا به يعود على الله.
{ يغفر لكم من ذنوبكم } من للتبعيض.
{ ويجركم من عذاب أليم } وهذا كله وظواهر القرآن يدل على أن الجن مكلفون ولم ينص هنا على ثوابهم إذ أطاعوا وعمومات القرآن تدل على الثواب وكذا قال ابن عباس: لهم ثواب وعليهم عقاب يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها.
{ فليس بمعجز } أي بفائت من عقابه إذ لا منجا ولا مهرب منه.
قال الزمخشري: ويجوز أن يراد عرض النار عليهم من قولهم: عرضت الناقة على الحوض يريدون عرض الحوض عليها فقلبوا ويدل عليه تفسير ابن عباس يجاء بهم إليها فيكشف لهم عنها " انتهى ".
لا ينبغي حمل القرآن على القلب إذ الصحيح في القلب أنه مما يضطر إليه في الشعر وإذا كان المعنى صحيحا واضحا مع عدم القلب فأي ضرورة تدعو إليه وليس في قولهم عرضت الناقة على الحوض ولا في تفسير ابن عباس ما يدل على القلب لأن عرض الناقة على الحوض وعرض الحوض على الناقة كل منهما كل منهما صحيح أو العرض أمر نسبي يصح إسناده لكل واحد من الحوض والناقة.
{ أليس هذا بالحق } أي يقال لهم والإشارة بهذا إلى العذاب.
{ قالوا بلى وربنا } تصديق حيث لا ينفع فيقول لهم المجاوب من الملائكة عند ذلك فذوقوا العذاب.
{ فاصبر } الفاء عاطفة هذه الجملة على الجملة من إخبار الكفار في الآخرة والمعنى بينهما مرتبط أي هذه حالهم مع الله تعالى فلا تستعجل أنت واصبر ولا تخف إلا الله تعالى وأولوا العزم أي الجد من الرسل.
{ ولا تستعجل لهم } أي لكفار قريش بالعذاب أي لا تدع بتعجيله لهم فإنه نازل بهم لا محالة وإن تأخر وإنهم مستقصرون حينئذ مدة لبثهم في الدنيا كأنهم لم يلبثوا فيها إلا ساعة من نهار بلاغ يعني به القرآن والشرع أي هذا بلاغ أي تبليغ وإنذار وبلاغ مبتدأ خبره لهم.
{ فهل يهلك إلا القوم الفاسقون } في هذه الآية وعيد وإنذار.
[47 - سورة محمد]
[47.1-21]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعملهم } قال ابن عباس: هذه السورة مدنية إلا آية منها نزلت بمكة بعد حجة الوداع حين خرج من مكة وجعل ينظر إلى البيت وهي وكائن من قرية الآية، ومناسبتها أولها لآخر ما قبلها واضحة جدا وصدوا عن سبيل الله أي أعرضوا عن الدخول في الإسلام أو صدوا غيرهم عنه وهم أهل مكة الذين أخرجوا رسول الله.
قال ابن عباس: وهم المطعمون يوم بدر أضل أعمالهم أي أتلفها حيث لم ينشأ عنها خير ولا نفع بل ضرر محض.
{ والذين آمنوا } هم الأنصار واللفظ عام يشمل كل مؤمن وكافر.
{ وآمنوا بما نزل على محمد } تخصيصه من بين ما يجب الإيمان به تعظيم لشأنه صلى الله عليه وسلم وإعلام أنه لا يصح الإيمان ولا يتم إلا به وأكد ذلك بالجملة الاعتراضية التي هي وهو الحق من ربهم كفر عنهم سيئاتهم خبر الذين.
{ وأصلح بالهم } أي شأنهم.
{ ذلك } إشارة إلى ما فعل بالكفار من إضلال أعمالهم وبالمؤمنين من تكفير سيئاتهم وإصلاح بالهم وذلك مبتدأ وما بعده خبر أي كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل وهؤلاء الحق.
{ كذلك } أي مثل ذلك.
{ يضرب الله للناس أمثالهم } والضمير راجع إلى الناس أو إلى المذكورين من الفريقين على معنى أنه يضرب أمثالهم لأجل الناس ليعتبروا بهم.
{ فإذا لقيتم الذين كفروا } أي في أي زمان لقيتموهم فاقتلوهم وفي قوله:
فاقتلوا المشركين
[التوبة: 5]. أي في أي مكان فعم في الزمان وفي المكان.
{ فضرب الرقاب } هذا من المصدر النائب فناب فعل الأمر وهو مطرد فيه وضرب الرقاب عبارة عن القتل ولما كان القتل للإنسان أكثر ما يكون بضرب رقبته عبر بذلك عن القتل ولا يراد خصوصية الرقاب فإنه لا يكاد يتأتى حالة الحرب ان تضرب الرقاب وإنما يتأتى القتل في أي موضع كان من الأعضاء.
{ حتى إذآ أثخنتموهم فشدوا الوثاق } أكثرتم القتل فيهم وهذه غاية للضرب فإذا وقع الاثخان وتمكنوا من أخذ من لم يقتل وشدوا وثاق الاسراء.
{ فإما منا } بالإطلاق.
{ وإما فدآء } فالنصب على إضمار فعل تقديره فاما تمنون منا واما تفادون فداء.
{ حتى تضع الحرب أوزارها } وحتى غاية لما تقدم أي أثقالها وآلاتها ومنه قول عمرو بن معدي كرب. وأعددت للحرب أوزارها رماحا طوالا وخيلا ذكورا والظاهر أن ضرب الرقاب وهو القتل معنيا بشد الوثاق وقت حصول الاثخان وأن قوله: { فإما منا بعد } أي بعد الشد وأما فداء حالتان لمأسور أما أن يمن عليه بالإطلاق كما من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن اثال الحنفي بإطلاقه واما أن يفدي كما روي عنه عليه السلام أنه فودي منه رجلان من الكفار برجل واحد مسلم.
قال الزمخشري: كما من على أبي عروة الحجبي وعلي بن أثال الحنفي " انتهى ".
صوابه على ثمامة وعلي أبي عروة الحجبي فغير الكنية والإسم ولعل ذلك من الناسخ لا في أصل التصنيف وهذه الآية ظاهرها معارض لقوله تعالى:
فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم
[التوبة: 5] فذهب ابن عباس وجماعة إلى أنها منسوخة بقوله:
فاقتلوا المشركين
[التوبة: 5] الآية وان الأسر والمن والفداء مرتفع فإن وقع أسير قتل ولا بد إلا أن أسلم وروي نحوه عن أبي بكر الصديق وذهب جماعة إلى أن هذه مخصصة لعموم تلك والمن والفداء ثابت.
{ ذلك } أي الأمر ذلك.
{ لانتصر منهم } أي لأنتقم منهم ببعض أسباب الهلاك من خسف وغير ذلك.
{ ولكن ليبلوا } أي ليختبركم.
{ سيهديهم } أي إلى طريق الجنة.
{ عرفها لهم } أي بينها لهم من التعريف أو علاها من الاعراف وهي الجبال أو طيبها من العرف وهو الطيب.
{ إن تنصروا الله } أي دينه.
{ ينصركم } على أعدائكم.
{ ويثبت أقدامكم } أي في مواطن الحرب.
{ فتعسا لهم } قال ابن عباس: بعدا لهم والذين مبتدأ ضمن معنى الشرط والخبر فتعسا لهم وهو على إضمار فعل أي فأتعسهم تعسا.
{ كرهوا مآ أنزل الله } عام في كل ما نزل.
{ فأحبط أعملهم } أي جعلها من الأعمال التي لا تزكوا لا يعتد بها.
{ دمر الله عليهم } أي أفسد عليهم ما اختصوا به من أنفسهم وأولادهم أي أمثال تلك التدمير والإشارة بذلك إلى الهلاك.
{ إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات } الآية والكاف في كما في موضع نعت لمصدر محذوف تقديره أكلا كما تأكل الانعام يتمتعون أي ينتفعون بمتاع الدنيا أياما قلائل ويأكلون غافلين غير مفكرين في العاقبة كما تأكل الانعام في مسارحها ومعالفها غافلة عما هي بصدده من النحر والذبح.
{ والنار مثوى لهم } أي موضع إقامة.
{ وكأين من قرية } على حذف مضاف تقديره من أهل قرية ولذلك عاد الضمير في أهلكناهم على ذلك المحذوف.
{ من قريتك } هي مكة.
{ التي أخرجتك } أخرجك أهلها نسب الإخراج إليها مجازا.
قال ابن عطية: ونسب الإخراج إلى القرية حملا على اللفظ وقال أهلكناهم حملا على المعنى انتهى ظاهر هذا الكلام لا يصح لأن الضمير في أهلكناهم ليس عائدا على المضاف إلى القرية التي أسند إليها الإخراج بل إلى أهل القرية في قوله وكأين من قرية فإن كان أراد بقوله حملا على المعنى أي معنى القرية في قوله وكأين من قرية فهو صحيح لكن ظاهر قوله حملا على اللفظ وحملا على المعنى أن يكون في مدلول واحد وعلى هذا يبقى كأين فولتا غير محدث عنه بشىء إلا أن تخيل إن هي أشد خبر عن كأين والظاهر أنه في موضع الصفة.
{ أفمن كان على بينة من ربه } إستفهام توقيف وتقرير على شىء متفق عليه وهي معادلة بين هذين الفريقين والإشارة إلى الرسول عليه السلام وإلى كفار قريش واللفظ عام لأهل الصنفين ومعنى على بينة أي على حجة واضحة وهو القرآن.
{ كمن زين له سوء عمله } وهو الشرك.
{ واتبعوا أهواءهم } أي شهوات أنفسهم والضمير في واتبعوا عائد على معنى من لا على لفظه.
{ مثل الجنة } أي صفة الجنة وهو مرفوع بالابتداء قال النضر بن شميل: كأنه قال صفة الجنة ما تسمعون " انتهى ".
فما تسمعون هو الخبر وفيها أنهار تفسير لتلك الصفات فهو استئناف أخبار عن تلك الصفة.
وقال سيبويه فيما يتلى عليكم مثل الجنة يقدر الخبر المحذوف متقدما ثم فسر ذلك الذي يتلى.
{ غير آسن } أي غير متغير يقال أسن الماء إذا تغير.
{ لم يتغير طعمه } نفي لجميع وجوه الفساد في اللبن.
{ لذة } جمعت طيب المطعم وزوال الآفات من الصداع وغيره ولذة تأنيث لذا وهو اللذيذ أو مصدر نعت به فالجمهور بالجر على أنه صفة لخمر وبالرفع صفة لأنهار وبالنصب أي لأجل لذة فهو مفعول له.
{ من عسل مصفى } قال ابن عباس: لم يخرج من بطون النحل فيخالطه الشمع وغيره ووصفه بمصفى لأن الغالب على العسل التذكير وهو مما يذكر ويؤنث وبدىء من هذه الأنهار بالماء وهو الذي لا يستغني عنه في المشروبات ثم باللبن إذا كان يجري مجرى المطعوم في كثير من أقوات العرب وغيرهم ثم بالخمر لأنه إذا حصل الري والمطعوم تشوقت النفس إلى ما تلتذ به ثم بالعسل لأن فيه الشفاء في الدنيا مما يعرض من المشروب والمطعوم فهو تأخر في الرتبة.
{ ولهم فيها من كل الثمرات } لما ذكر المشروب وذكر من المأكول ما يتفكه به قيل ومن زائدة أي ولهم فيها كل الثمرات وقيل المبتدأ محذوف أي أنواع من كل الثمرات.
{ ومغفرة من ربهم } هو معطوف على ما قبله لا يقيد فيها أي ولهم مغفرة من ربهم لأن المغفرة قبل دخول الجنة أو على حذف أي تنعيم مغفرة لأن المغفرة سبب التنعيم.
{ وسقوا } عائد على معنى من وكمن قبله محذوف يقابله تقديره أهؤلاء المنعمون كمن هو خالد في النار جاء هو خالد على اللفظ وكذلك خرجوا عاد على معنى من يستمع كان المنافقون يحضرون عند الرسول صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه وتلاوته فإذا خرجوا قالوا للذين أوتوا العلم وهم السامعون كلام الرسول حقيقة الواعون له ماذا قال آنفا أي الساعة وذلك على سبيل الهزء والاستخفاف أي لم نفهم ما يقول ولا ندري ما نفع ذلك وممن سألوه ابن مسعود وآنفا حال أي مبتدأ أي ما القول الذي ائتنفه الآن قبل انفصالنا عنه.
قال الزمخشري: وآنفا نصب على الظرف " انتهى ".
قال ذلك لأنه فسره بالساعة. وقال الزمخشري والمفسرون يقولون آنفا معناه الساعة الماضية القريبة منا وهذا تفسير بالمعنى " انتهى ".
الصحيح أنه ليس بظرف ولا نعلم أحدا من النحاة عده في الظروف.
{ فقد جآء أشراطها } أي علاماتها واحدها شرط بفتح الراء وجزمها فينبغي الاستعداد ومن أشراطها مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ هو خاتم الأنبياء روي عنه عليه السلام أنه قال
" انا من اشراط الساعة "
وقال
" بعثت أنا والساعة كفرسي رهان ".
{ فأنى لهم } الظاهر أن المعنى فكيف لهم الذكرى أي والعمل بها إذا جاءتهم الساعة أي قد فاتهم ذلك ثم أضرب عن ذكر المنافقين وقال.
{ فاعلم أنه لا إله إلا الله } والمعنى دم على عملك بتوحيد الله تعالى واستغفاره عليه السلام لأهل الإيمان رحمة لهم.
{ وللمؤمنين } أي ولذنوب المؤمنين وأحواله صلى الله عليه وسلم ثلاثة مع الله بالتوحيد ومع نفسه بالاستغفار ومع غيره بالاستغفار لهم.
{ متقلبكم ومثواكم } هو على العموم في كل متقلب وفي كل إقامة.
{ ويقول الذين آمنوا لولا نزلت سورة } الآية مدح الله تعالى المؤمنين بطلبهم إنزال سورة والمعنى تتضمن أمرنا بمجاهدة العدو وفضح أمر المنافقين والظاهر أن طالبي ذلك هم خلص في إيمانهم ولذلك قال. بعد رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك أي تشخص أبصارهم جبنا وهلعا.
{ نظر المغشي عليه من الموت } أي نظرا كما ينظر من اصابته الغشية من أجل حلول الموت.
{ فأولى لهم } قال الجوهري: تقول العرب أولى لك تهديد ووعيد واختلفوا أهو إسم أو فعل فذهب الأصمعي إلى أنه فعل بمعنى قاربه ما يهلكه أي نزل به فعلى قوله: انه اسم يكون مبتدأ والخبر لهم وقيل أولى مبتدأ ولهم من صلته وطاعة خبر وكان اللام بمعنى الباء كأنه قيل بهم طاعة.
{ فإذا عزم الأمر } أي جد والعزم الجد وهؤلاء أصحاب الأمور واستعير للأمر كما قال تعالى
لمن عزم الأمور
[الشورى: 43] وقال الراجز قد جرت الحرب بكم فجدوا.
والظاهر أن جواب إذا قوله فلو صدقوا كما تقول إذا جاء الشتاء فلو جئتني لكسوتك.
{ فلو صدقوا الله } أي فيما زعموا من حرصهم على الجهاد.
[47.22-38]
{ فهل عسيتم } التفات للذين في قلوبهم مرض أقبل بالخطاب إليهم على سبيل التوبيخ لهم وتوقيفهم على سوء مرتكبهم وعسى تقدم الخلاف في لغتها وفصل بين عسى وخبرها بالشرط وهو.
{ إن توليتم أن تفسدوا في الأرض } لعدم معونة أهل الإسلام على أعدائهم.
{ وتقطعوا أرحامكم } تقطعوا ما بينكم وبينهم من صلة الرحم.
{ أولئك } إشارة إلى مرض القلوب.
{ فأصمهم } عن استماع الموعظة.
{ وأعمى أبصارهم } عن طريق الهدى.
{ أفلا يتدبرون القرآن } أي يتصفحونه وما فيه من المواعظ والزواجر ووعيد العصاة وهو استفهام توبيخ وتوقيف على مخازيهم.
{ أم على قلوب أقفالهآ } إستعارة للذين منعهم الإيمان وأم منقطعة بمعنى بل والهمزة للتقرير والتسجيل عليهم بأن قلوبهم مقفلة لا يصل إليها ذكر.
{ إن الذين ارتدوا على أدبارهم } قال ابن عباس وغيره نزلت في منافقين كانوا أسلموا ثم نافقت قلوبهم والآية تتناول كل من دخل في لفظها.
{ سول لهم } تقدم الكلام عليه في يوسف وسول لهم ركوب العظائم من السول وهو الاسترخاء.
قال الزمخشري: وقد اشتقه من السؤل من لا علم له بالتصريف والاشتقاق جميعا " انتهى ".
وهذا ليس بجيد لأنه توهم أن السول أصله الهمز فاختلفت المادتان إذ عين سول واد وعين السؤل همزة والسول له مادتان أحدهما الهمز من سأل يسأل والثانية: الواو من سال يسال فإذا كان هكذا فسول يجوز أن يكون من ذوات الواو لا من ذوات الهمز.
{ ذلك بأنهم قالوا } روي أن قوما من قريظة والنضير كانوا يعدون المنافقين في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والخلاف عليه بنصرة ومؤازرة وذلك قولهم سنطيعهم في بعض الأمر أي في بعض ما تأمرون به أو في بعض الأمر الذي يهمكم.
{ والله يعلم إسرارهم } قالوا ذلك سرا فيما بينهم فأفشاه الله تعالى عليهم.
{ فكيف إذا توفتهم الملائكة } الضمير على من تقدم ذكره من الكفار كيف استفهام وبعده مبتدأ محذوف وكيف خبره تقديره كيف حالهم إذا توفتهم والظاهر أن وقت التوفي هو عند الموت. وقال ابن عباس: لا يتوفى واحد على معصية إلا بضرب من الملائكة في وجهه وفي دبره والملائكة ملك الموت والمصرفون معه ويضربون حال من الملائكة.
{ أم حسب الذين في قلوبهم مرض } الآية إخراج أضغانهم وهو حقودهم إبرازها للرسول وللمؤمنين والظاهر أنها من رؤية البصر لعطف العرفان عليه وهو معرفة القلب وفي هاتين الجملتين تقريب لشهرتهم لكنه لم يعينهم بأسمائهم إبقاء عليهم وعلى قراباتهم.
{ ولتعرفنهم في لحن القول } كانوا يصطلحون فيما بينهم على ألفاظ يخاطبون بها الرسول عليه السلام مما ظاهره حسن ويعنون به القبيح كقولهم: راعنا.
{ أعمالكم } خطاب عام يشمل المؤمن والكافر.
{ إن الذين كفروا } ناس من بني إسرائيل.
{ من بعد ما تبين لهم الهدى } وتبين هداهم معرفتهم بالرسول عليه السلام من التوراة.
{ يأيها الذين آمنوا } قيل نزلت في بني أسد أسلموا وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد آثرناك وجئناك بأنفسنا وأهلنا كأنهم منوا عليه بذلك فنزلت فيهم هذه الآية وقوله تعالى:
يمنون عليك أن أسلموا
[الحجرات: 17] فعلى هذا يكون لا تبطلوا أعمالكم بالمن بالإسلام والرياء والسمعة والشرك والنفاق.
و { ماتوا وهم كفار } عام والموجب لانتفاء الغفران وفاتهم على الكفر وقيل نزلت
" بسبب عدي بن حاتم رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه قال: وكانت له افعال بر فما حاله فقال: في النار فبكى عدي وولي فدعاه فقال له أبي وأبوك وأبو إبراهيم خليل الرحمن في النار "
فنزلت.
{ فلا تهنوا } أي تضعفوا.
{ وتدعوا إلى السلم } وهو الصلح.
{ وأنتم الأعلون } أي الأغلبون.
{ ولن يتركم } أي يعريكم من ثواب أعمالكم.
{ إنما الحيوة الدنيا } تحقير لأمر الدنيا أي فلا تهنوا في الجهاد وأخبر عنها بذلك.
{ يؤتكم أجوركم } أي ثواب أعمالكم من الإيمان والتقوى.
{ ولا يسألكم أمولكم } أي كثير من أموالكم إنما يسألكم ربع العشر فطيبوا أنفسكم.
{ إن يسألكموها } أي جميعها.
{ ها أنتم هؤلاء } كررها التنبيه توكيدا.
{ ومن يبخل } أي بالصدقة وما أوجب الله عليه.
{ فإنما يبخل عن نفسه } أي لا يتعدى ضرره لغيره.
{ والله الغني } مطلقا.
{ وأنتم الفقرآء } مطلقا لافتقاركم إلى ما تحتاجون إليه في الدنيا.
{ وإن تتولوا } عطف على تؤمنوا وتتقوا أي وان تتولوا عن الإيمان والتقوى.
{ يستبدل قوما غيركم } أي يخلق قوما سواكم راغبين في الإيمان والتقوى غير متولين عنهما.
{ ثم لا يكونوا أمثالكم } أي في الخلاف والتولي والبخل.
[48 - سورة الفتح]
[48.1-18]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * إنا فتحنا لك فتحا مبينا } هذه السورة مدنية فعن ابن عباس أنها نزلت بالمدينة والصحيح أنها نزلت بالطريق منصرفه من الحديبية سنة ست من الهجرة فهي تعد من المدني، ومناسبتها لما قبلها أنه تقدم وإن تتولوا وهو خطاب لكفار قريش أخبر رسوله صلى الله عليه وسلم بالفتح العظيم ولما قال: وأنتم الأعلون ناسب ذلك علو الإسلام بهذ الفتح العظيم وعلل المغفرة باجتماع ما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة وإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم والنصر العزيز كأنه قيل يسرنا فتح مكة ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين وإغراض العاجل والآجل والسكينة هي الطمأنينة والسكون فقيل بسبب الصلح والأمن ليعرفوا فضل الله عليهم بتيسير الأمن بعد الخوف والهدنة بعد القتال فيزدادوا يقينا إلى يقينهم والظاهر أن اللام في ليدخل تتعلق بمحذوف يدل عليه الكلام وذلك أنه قال ولله جنود السماوات والأرض فكان في ذلك دليل على أنه تعالى يبتلي بتلك الجنود من يشاء فيقبل الخير من قضى له بالخير والشر من قضى له بالشر ليدخل المؤمنين جنات ويعذب الكافرين فاللام تتعلق بيبتلي هذه قرىء: لتؤمنوا وعطف عليه ما بعد بتاء الخطاب وبياء الغيبة والضمير في وتعززوه وتوقروه عائد للرسول عليه السلام وفي تسبحوه عائد لله تعالى وتقدم لفظ التعزير.
{ إن الذين يبايعونك } هي بيعة الرضوان وبيعة الشجرة حين أخذ الرسول عليه السلام الأهبة لقتال قريش حين أرجف بقتل عثمان بن عفان وقد بعثه إلى قريش يعلمهم أنه جاء معتمرا لا محاربا وذلك قبل أن ينصرف من الحديبية بايعهم صلى الله عليه وسلم على الصبر المتناهي في قتال العدو إلى أقصى الجهد ولذلك قال سلمة بن الأكوع وغيره: بايعنا على الموت وقال ابن عمر وجابر على أن لا نفر.
وقال الزمخشري: لما قال إنما يبايعون الله أكده تأكيدا على طريقة التخييل فقال: يد الله فوق أيديهم يريد أن يد رسول الله صلى الله عليه وسلم التي تعلو أيدي المبايعين هي يد الله والله تعالى منزه عن الجوارح وعن صفات الأجسام وإنما المعنى تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع الله تعالى من غير تفاوت بينهما كقوله:
من يطع الرسول فقد أطاع الله
[النساء: 80] ومن نكث فإنما ينكث على نفسه فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه " انتهى ".
{ سيقول لك المخلفون من الأعراب } المخلفون قبائل من العرب مذكورون في البحر.
{ شغلتنآ أموالنا } هذا اعتلال مهم من تخلفهم أي لم يكن لهم من يقول بحفظ أموالهم وأهليهم غيرهم فبدؤوا بذكر الأموال لأن بها قوام العيش وعطفوا الأهل عليها لأنهم كانوا يحافظون على حفظ الأهل أكثر من حفظ المال وكان الرسول صلى الله عليه وسلم استنفرهم حين أراد المسير إلى مكة فتحللوا بهذا الاعتلال.
{ يقولون بألسنتهم } الظاهر أنه راجع إلى الجملتين من الشغل وطالب الاستغفار لأن قولهم شغلتنا كذب وطلب الاستغفار خبث منهم وإظهار أنهم مؤمنون عاصون.
{ قل فمن يملك } أي من يمنعكم من قضاء الله.
{ إن أراد بكم ضرا } من قتل أو هزيمة.
{ أو أراد بكم نفعا } من ظفر وغنيمة إذ هو تعالى المتصرف فيكم ولما أخبر تعالى أنهم قوم بور ذكر ما دل على أنهم ليسوا بمؤمنين فقال ومن لم يؤمن ثم ذكر جزاءهم وهو السعير.
{ يريدون أن يبدلوا كلام الله } معناه أن يغيروا وعده لأهل الحديبية لغنيمة خيبر وذلك أنه وعدهم أن يعوضهم من مغانم مكة مغانم خيبر إذا قفلوا موادعين لا يصيبون منهم شيئا وأمره تعالى أن يقول لهم لن تتبعونا وأتى بصيغة لن وهي للمبالغة في النفي أي لا يتم لكم ذلك ان وقد وعد تعالى أن ذلك لا يحضرها إلا أهل الحديبية فقط.
{ كذلكم قال الله من قبل } يريد وعده قبل اختصاصهم بها.
{ بل تحسدوننا } أي يعز عليكم أن نصيب مغنما معكم وذلك على سبيل الحسد ان نقاسمكم فيما تغنمون ثم رد تعالى عليهم كلامهم هذا فقال:
{ بل كانوا لا يفقهون } أي لا يفهمون.
{ إلا قليلا } من أمور الدنيا.
{ قل للمخلفين من الأعراب } أمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم ذلك ودل على أنهم كانوا يظهرون الإسلام ولو لم يكن الأمر كذلك لم يكونوا أهلا لهذا الأمر وأبهم تعالى في قوله:
{ إلى قوم أولي بأس شديد } قال ابن عباس: هم الفرس وقيل غير ذلك والظاهر أن هؤلاء المقاتلين ليسوا ممن تؤخذ منهم الجزية إذ لم يذكر هنا إلا القتال أو الإسلام.
قال الزمخشري: وفي هذا دليل على إمامة أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنهم لم يدعوا إلى حرب في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن بعد وفاته " انتهى ".
وهذا ليس بصحيح قد حضر كثير منهم مع جعفر في موته وحضروا حرب هوازن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحضروا معه في سفرة تبوك ولا يتم قول الزمخشري إلا على قول من عين أنهم من أهل الردة.
{ فإن تطيعوا } أي فيما تدعون إليه.
{ كما توليتم من قبل } أي في الخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم في زمان الحديبية.
{ يعذبكم } يحتمل أن يكون في الدنيا وأن يكون في الآخرة.
{ ليس على الأعمى حرج } تقدم الكلام عليه.
{ لقد رضي الله عن المؤمنين } الآية لما ذكر حال من تخلف عن السفر مع الرسول ذكر حال المؤمنين الخلص الذين سافروا معه والآية دالة على رضا الله تعالى عنهم ولذا سميت بيعة الرضوان والعامل في إذ رضي والرضا بمعنى إظهار النعم عليهم فهو صفة فعل لا صفة ذات لتقييده بالزمان وتحت يحتمل أن يكون معمولا ليبايعونك أو حال من المفعول لأنه عليه السلام كان تحتها جالسا في أصلها وكانت الشجرة سمرة.
{ فعلم ما في قلوبهم } من الإيمان واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
{ وأثابهم فتحا قريبا } قيل هو فتح خيبر وكان عقب انصرافهم من مكة.
[48.19-29]
{ ومغانم كثيرة } هذه المغانم المدعو بها هي المغانم التي كانت بعد هذه وتكون إلى يوم القيامة.
{ فعجل لكم هذه } الإشارة بهذه إلى البيعة والتخلص من أمر قريش بالصلح قاله ابن عباس.
{ وكف أيدي الناس عنكم } أي أهل مكة بالصلح.
{ وأخرى لم تقدروا عليها } قال ابن عباس بلاد فارس والروم وما فتحه المسلمون.
{ وهو الذي كف أيديهم عنكم } أي قضى بينكم المكافئة والمحاجزة بعدما خولكم الظفر عليهم والغلبة وروي في سببها أن قريشا جمعت جماعة من فتيانها وجعلوهم مع عكرمة بن أبي جهل وخرجوا يطلبون عزة في عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أحس بها المسلمون بعث عليه السلام خالد بن الوليد وسماه حينئذ سيف الله في جملة من المسلمين ففروا أمامهم حتى أدخلوهم بيوت مكة وأسروا منهم جملة وسيقوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فمن عليهم وأطلقهم.
{ هم الذين كفروا } أي أهل مكة ومعكوفا حال أي محبوسا.
{ ولولا رجال مؤمنون } كان بمكة قوم من المسلمين مختلطون بالمشركين غير متميزين منهم ولا معروفي الأماكن. فقال تعالى: { ولولا } أي ولولا كراهة أن تهلكوا أناسا مؤمنين بين ظهراني المشركين وأنتم غير عارفين بهم.
{ فتصيبكم } بإهلاكهم مكروه ومشقة ما كف أيديكم عنهم وحذف جواب لولا لدلالة الكلام عليه.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون لو تزيلوا كالتكرير للولا رجال مؤمنون لمرجعهما إلى معنى واحد ويكون لعذبنا هو الجواب انتهى قوله لمرجعهما إلى معنى واحد ليس بصحيح لأن ما تعلق به لولا الأولى غير ما تعلق به الثانية فالمعنى في الأولى ولولا وطء قوم مؤمنين والمعنى في الثانية لو تميزوا من الكفار وهذا المعنى مغاير للأول مغايرة ظاهرة.
{ حمية الجاهلية } قال الزهري: حميتهم أنفتهم من الاقرار للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة والاستفتاح ببسم الله الرحمن الرحيم والذي امتنع من ذلك هو سهيل بن عمرو والسكينة الوقار والاطمئنان فتوقروا وحلموا وكلمة التقوى لا إله إلا الله روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم والظاهر أن الضمير في وكانوا عائد على المؤمنين والمفضل عليهم محذوف أي أحق بها من كفار مكة لأن الله تعالى اختارهم لدينه وصحبة نبيه عليه السلام.
{ لقد صدق الله رسوله الرءيا بالحق } الآية رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه قبل خروجه من الحديبية.
وقال مجاهد: كانت الرؤيا بالحديبية أنه وأصحابه دخلوا مكة آمنين وقد حلقوا وقصروا فقص الرؤيا على أصحابه ففرحوا واستبشروا وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم وقالوا: ان رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم حق فلما تأخر ذلك قال عبد الله بن أبي وناس معه: والله ما حلقنا ولا قصرنا ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت ولما نزلت هذه الآية علم المسلمون أنهم يدخلونها فيما استأنف واطمأنت قلوبهم ودخلوها معه عليه السلام في ذي القعدة سنة سبع وذلك ثلاثة أيام هو وأصحابه وصدقت رؤياه عليه السلام.
{ فعلم ما لم تعلموا } أي ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه وما كان أيضا بمكة من المؤمنين الذين دفع الله بهم.
قال الزمخشري: فعلم ما لم تعلموا من الحكمة من الحكمة والصواب في تأخر فتح مكة إلى العام القابل " انتهى ".
لم يكن فتح مكة في العام القابل إنما كان بعد ذلك بأكثر من عام لأن الفتح كان سنة ثمان من الهجرة وكان خروجه من المدينة عام الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة.
{ والذين معه } من شهد الحديبية.
{ أشدآء } جمع شديد.
{ ركعا سجدا } دليل على كثرة ذلك منهم وهذه السيما قال مالك بن أنس: كانت جباههم منيرة من كثرة السجود في التراب.
{ مثلهم } هذا التوراة ومثلهم هذا مبتدأ وكزرع خبره.
وقال قتادة: مثل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإنجيل مكتوب أنه سيخرج من أمة محمد قوم ينبتون نباتا كالزرع يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. شطأ الزرع واشطا إذا خرج فراخه وهو في الحنطة والشعير والضمير المنصوب في آزره عائد على الزرع لأن الزرع أول ما يطلع رقيق الأصل فإذا خرجت فراخه غلظ أصله وتقوى وكذلك أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم وكانوا أقلة ضعفاء فلما كثروا وتقووا قاتلوا المشركين.
{ فاستغلظ } أي صار من الرقة إلى الغلظ.
{ فاستوى } أي تم نباته.
{ على سوقه } جمع ساق كناية عن أصوله.
{ يعجب الزراع } جملة في موضع الحال وإذا عجب الزراع فهو أحرى أن يعجب غيرهم لأنه لا عيب فيه إذ قد أعجب العارفين بعيوب الزرع ولو كان معيبا لم يعجبهم وهنا تم المثل وليغيظ متعلق بمحذوف يدل عليه الكلام قبله تقديره جعلهم الله بهذه الصفة ليغيظ بهم الكفار والأجر العظيم الجنة.
[49 - سورة الحجرات]
[49.1-12]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * يأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله } هذه السورة مدنية ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة لأنه تعالى ذكر الرسول وأصحابه ثم قال وعد الله فربما صدر من المؤمن بعض شىء مما ينبغي أن ينهى عنه وقال ابن عباس: نهو أن يتكلموا بين يدي كلامه وقرىء لا تقدموا بفتح التاء وأصلها لا تتقدموا فحذف التاء الثانية.
{ أن تحبط } هو على حذف مضاف تقديره مخافة أن تحبط.
{ إن الذين يغضون أصواتهم } قيل نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولما كان منهما من غض الصوت.
{ امتحن الله قلوبهم } أي جربها ودربها للتقوى.
{ إن الذين ينادونك } نزلت في وفد بني تميم الأقرع بن جابس والزبرقان بن بدر وعمرو بن الأهثم وغيرهم ونووا ودخلوا المسجد وقت الظهيرة والنبي عليه السلام راقد فجعلوا ينادونه بجملتهم يا محمد اخرج إلينا فاستيقظ فخرج لهم وقصتهم وشاعرهم وخطيبهم وشاعره عليه السلام وخطيبه مذكور في البحر.
{ من ورآء الحجرات } الوراء الجهة التي يواريها عنك الشخص من خلف أو قدام.
{ يأيها الذين آمنوا إن جآءكم فاسق بنبإ } الآية سبب نزولها أن الحرث بن صوار أسلم وراح إلى قومه فجمع زكاتهم ووجه الرسول صلى الله عليه وسلم الوليد لقبض الزكاة فخاف الوليد ورجع فأخبر الرسول أن الحرث منع الزكاة فقدم الحرث بعد ذلك وأقسم أن الوليد ما جاء ولا رآه وجاء بزكاة قومه في قصة فيها طول ذكرت في البحر وفاسق وبنبأ مطلقان يتناول اللفظ كل واحد على جهة البدل.
وقرىء: فتبينوا وفتثبتوا أخبر تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم لو أطاعكم في كثير من الأمر الذي يؤدي إليه اجتهادكم وتقدمكم بين يديه لعنتم أي لشق عليكم.
{ وإن طآئفتان من المؤمنين اقتتلوا } الآية سبب نزولها ما جرى بين الأوس والخزرج حين أساء الأدب عبد الله بن أبي بن سلول على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوجه إلى زيارة سعد بن عبادة في مرضه وتعصب بعضهم لعبد الله ورد عبد الله بن رواحة على ابن أبي فتجالد الحيان قيل بالحديد وقيل بالجريد والنعال والأيدي فنزلت فقرأها عليهم فاصطلحوا وقرىء بين أخويكم بالتثنية وأخوتكم بالجمع.
{ يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم } قيل سبب نزولها أن عكرمة ابن أبي جهل كان يمشي بالمدينة وقد أسلم فقال له قوم هذا ابن فرعون هذه الأمة فعز عليه ذلك وشكاهم فنزلت.
قال الزمخشري: وهو في الأصل جمع قائم كصوم وزور. " انتهى ".
وفعل ليس من أبنية الجموع إلا على مذهب أبي الحسن في قوله ان ركبا جمع راكب.
{ عسى أن يكونوا } يعني أن يكون المسخور منهم خيرا من الساخرين بهم عسى أن يكن أي يكون المسخور منهن خيرا من الساخرات بهم.
{ ولا تلمزوا أنفسكم } أي تعيبوا بعضكم بعضا.
{ ولا تنابزوا بالألقاب } أي القبيحة كقولهم سعيد بطه وأما الألقاب الحسنة فهي كالصديق في أبي بكر رضي الله عنه والفاروق في عمر.
{ بئس الاسم الفسوق } أي بئس إسم تكتسبونه بعصيانكم ونبزكم بالألقاب فتكونون فساقا بالمعصية بعد إيمانكم.
{ اجتنبوا كثيرا من الظن } أي لا تعملوا على حسبه وأمر تعالى باجتنابه لئلا يجترىء أحد على ظن إلا بعد نظر تأول وتمييز بين حقه وباطله والمأمور باجتنابه هو بعض الظن المحكوم عليه. قال الزمخشري: والهمزة فيه بدل عن الواو وكأنه يثم الأعمال أي يكسرها بإحباطه " انتهى ".
ليس هذا بشىء لأن تصريف هذه الكلمة مستعمل فيه الهمز تقول ألم يأثم فهو آثم والإثم والآثام فالهمزة أصل ليست بدلا عن واو وأما يثم فأصله يوثم وهي من مادة أخرى.
{ ولا تجسسوا } أي لا تتبعوا عورات المسلمين ومعايبهم. والاستكشاف عما ستروه.
{ ولا يغتب بعضكم بعضا } يقال غابه واغتابه كغاله واغتاله والغيبة هي من الاغتياب وهي ذكر الرجل بما يكره أن يسمع بما هو فيه وفي الحديث
" سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما الغيبة فقال: ان تذكر من المرء ما يكره أن يسمع فقيل: يا رسول الله وإن كان حقا فقال عليه السلام: إذا قلت باطلا فذلك البهتان "
وقال ابن عباس الغيبة ادام كلاب الناس.
{ أن يأكل لحم أخيه ميتا } روي في الحديث
" ما صام من أكل لحوم الناس "
وقال أبو زيد السهيلي: ضرب المثل لآخذه العرض بأكل اللحم لأن اللحم ستر على العظم والشاتم لأخيه كأنه يقشر ويكشف ما عليه من ستر الله. قال الزمخشري: ميتا نصب على الحال من الأخ " انتهى ".
هذا ضعيف لأن المجرور بالإضافة لا يجيء الحال منه إلا إذا كان له موضع من الأعراب نحو أعجبني ركوب الفرس مسرجا وقيام زيد مسرعا فالفرس في موضع نصب وزيد في موضع رفع.
[49.13-18]
{ يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى } الآية قيل غضب الحرث بن هشام وعتاب بن أسيد حين أذن بلال يوم فتح مكة على الكعبة فنزلت ومن ذكر وأنثى أي من آدم وحواء.
{ وجعلناكم شعوبا وقبآئل } قيل الشعوب في العجم والقبائل في العرب والأسباط في بني إسرائيل.
{ لتعارفوا } أي جعلكم ما ذكر كي يعرف بعضكم بعضا في النسب فلا ينتمي إلى غير آبائه للتفاخر بالآباء والأجداد ودعوى التفاضل في الأنساب ثم بين تعالى الخلطة التي يحصل بها التفاضل وهي التقوى وفي خطبته صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة إنما الناس رجلان مؤمن تقي كريم على الله تعالى وفاجر شقي هين على الله تعالى ثم قرأ هذه الآية.
{ قالت الأعراب آمنا } قال مجاهد نزلت في بني أسد بن خزيمة قبيلة تجاور المدينة أظهروا الإسلام وقلوبهم دخلة إنما يحبون المغانم وعرض الدنيا فرد الله عليهم بقوله: { قل لم تؤمنوا } كذبهم الله تعالى في دعوى الإيمان ولم يصرح بأكذابهم بلفظه بل بما دل عليه من انتقاء إيمانهم وهذا في أعراب مخصوصين.
{ ولكن قولوا أسلمنا } فهو اللفظ الصادق من أقوالكم وهو الإنقياد والاستسلام ظاهرا فلذلك قال الله تعالى: { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم } وجاء النفي بلما الدالة على انتفاء الشىء إلى زمان الأخبار به.
{ وإن تطيعوا الله ورسوله } بالإيمان والأعمال وهذا فتح لباب التوبة وقرىء: لأيلتكم من لات يليت وهي لغة الحجاز وقرىء يألتكم من ألت وهي لغة غطفان وأسد.
{ قل أتعلمون الله بدينكم } هي منقولة من علمت به أي شعرت به ولذلك تعدت إلى واحد بنفسها وإلى الآخر بحرف الجر لما ثقلت بالتضعيف وفي ذلك تجهيل لهم حيث ظنوا أن ذلك يخفى على الله تعالى ثم ذكر تعالى إحاطته بما في السماوات والأرض.
{ يمنون عليك } أي يعتدون عليك.
{ أن أسلموا } فإن أسلموا في موضع المفعول ولذلك تعدى إليه في قوله قل لا تمنوا عليك إسلامكم الآية.
[50 - سورة ق]
[50.1-26]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * ق والقرآن المجيد } الآية هذه السورة مكية.
قال ابن عباس: الآية وهي قوله:
ولقد خلقنا السموت والأرض
[ق: 38] ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه تعالى أخبر أن أولئك الذين قالوا: آمنا لم يكن إيمانهم حقا وانتفاء إيمانهم دليل على إنكار نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم وعدم الإنذار أيضا يدل على إنكار البعث فلذلك أعقبه بق والقرآن مقسم به والمجيد صفة وهو الشريف على غيره من الكتب والجواب محذوف يدل عليه ما بعده تقديره أنك جئتهم منذرا بالبعث فلم يقبلوا بل عجبوا والضمير في بل عجبوا عائد على الكفار والإشارة بقولهم هذا شىء عجيب الظاهر أنها إلى مجيء منذر من البشر والإشارة بقوله ذلك إلى البعث.
{ رجع بعيد } أي مستبعد في الأوهام والفكر.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الرجع بمعنى المرجوع وهو الجواب ويكون من كلام الله تعالى استبعادا لإنكارهم ما أنذروا به في البعث والوقف قبله على هذا التفسير حسن. فإن قلت ما ناصب الظرف إذا كان الرجع بمعنى المرجوع قلت: ما دل عليه المنذر من المنذر به وهو البعث " انتهى ".
وكون ذلك رجع بعيد بمعنى مرجوع وأنه من كلام الله لا من كلامهم على ما شرحه مفهوم عجيب. ينبو عن إدراكه فهم العرب.
{ بل كذبوا } أي ما أجادوا النظر بل كذبوا والحق القرآن.
{ في أمر مريج } قال الضحاك مختلط مرة ساحر ومرة شاعر ومرة كاهن.
{ أفلم ينظروا } حين كفروا بالبعث وبما جاء الرسول إلى آثار قدرة الله تعالى في العالم العلوي والسفلي.
{ كيف بنيناها } مرتفعة من غير عمد.
{ وزيناها } بالنيرين وبالنجوم.
{ وما لها من فروج } أي من فتوق وشقوق بل هي سليمة من كل خلل.
{ رواسي } أي جبالا ثوابت تمنعها من التكفؤ.
{ من كل زوج } أي نوع.
{ بهيج } أي حسن المنظر يسر من نظر إليه وتبصرة مفعول من أجله.
{ لكل عبد منيب } أي راجع إلى ربه مفكر في بدائع صنعه.
{ مآء مبركا } أي كثير المنافع.
{ وحب الحصيد } أي الحب الحصيد فهو من إضافة الموصوف إلى صفته والحصيد كل ما يحصد مما له حب كالبر والشعير.
{ باسقات } أي طوالا في العلو وهو منصوب على الحال وهي حال مقدرة لأنها حالة الانبات لم تكن طوالا وباسقات جمع والنخل اسم جنس فيجوز أن يذكر نحو قوله
نخل منقعر
[القمر: 20] وأن يؤنث كقوله:
نخل خاوية
[الحاقة: 7] وأن يجمع باعتبار أفراده ومنه باسقات وقوله:
وينشىء السحاب الثقال
[الرعد: 12].
{ لها طلع } تقدم شرحه عند ومن طلعها قنوان دانية.
{ نضيد } أي منضود بعضه فوق بعض يريد كثرة الطلع وتراكمه أو كثرة ما فيه من الثمر وأول ظهور الثمر في الكفرى وهو أبيض منضد كحب الرمان فهو نضيد فإن خرج من الكفرى فما دام ملتصقا بعضه ببعض تفرق فليس بنضيد ورزقا نصب على المصدر لأن معنى وأنبتنا رزقنا أو على أنه مفعول له والإشارة في كذلك إلى الاحياء أي الخروج من الأرض أحياء بعد موتكم مثل ذلك الحياة للبلدة الميتة وهذه كلها أمثلة وأدلة على البعث وذكر تعالى في السماء ثلاثة البناء والتزيين ونفي الفروج وفي الأرض ثلاثة المد وإلقاء الرواسي والإنبات قابل المد بالبناء لأن المد وضع والبناء رقع والقاء الرواسي بالتزين بالكواكب لارتكاب كل واحد منهما والانبات المترتب على الشق بانتفاء الفروج فلا شق فيها ونبه تعلق به الانبات على ما يقطف كل سنة ويبقى أصله وما يزرع كل سنة أو سنتين ويقطف كل سنة وعلى ما اختلط من جنسين فبعض الثمار فاكهة لا قوت وأكثر الزرع قوت والتمر فاكهة وقوت ولما ذكر قوله تعالى: { بل كذبوا بالحق } ذكر من كذب الأنبياء عليهم السلام تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتقدم الكلام على مفردات هذه الآية وقصص من ذكر فيها.
{ أفعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد } الخلق الأول هو إنشاء الإنسان من نطفة على التدريج وتقدم تفسير علمي عند ولم يعي بخلقهن والمعنى أعجزنا عن الخلق الأول فنعجز عن الخلق الثاني وهذا توقيف للكفار وتوبيخ وإقامة الحجة الواضحة عليهم بل هم في لبس أي خلط وشبهة وحيرة.
{ ولقد خلقنا الإنسان } هذه آيات فيها إقامة حجج على الكفار في إنكارهم البعث والإنسان إسم جنس وقيل آدم.
{ ونحن أقرب إليه } قرب علم به وبأحواله لا يخفى عليه شىء من خفياته وحبل الوريد مثل في قرط القرب كقول العرب هو مني مقعد القابلة ومقعد الأزار والحبل العرق شبه بواحد الحبال وإضافته إلى الوريد للبيان كقولهم بعير سانية أو يراد حبل العاتق فيضاف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتق لاجتماعهما في عضو واحد والعامل في إذ أقرب إليه لأنه أخبر خبرا مجردا بالخلق والعلم بخطوات الأنفس والقرب بالقدرة والملك فلما تم الاخبار أخبر بذكر الأحوال التي تصدق هذا الخبر وتعين وروده عند السامع فمنها إذ يتلقى المتلقيان ومنها مجيء سكرة الموت ومنها النفخ في الصور ومنها مجيء كل نفس معها سائق وشهيد والمتلقيان الملكان الموكلان بكل إنسان ملك اليمين يكتب الحسنات وملك الشمال يكتب السيئات.
وقال الحسن: الحفظة أربعة إثنان بالنهار واثنان بالليل وقعيد مفرد فاحتمل أن يكون معناه مقاعد كما تقول جليس وخليط أي مجالس ومخالط وأن يكون عدل من فاعل إلى فعيل للمبالغة كعليم.
قال الكوفيون: مفرد أقيم مقام اثنين والأجود أن يكون حذف من الأول لدلالة الثاني عليه أي عن اليمين قعيد وظاهر ما يلفظ العموم.
قال مجاهد: يكتب عليه كل شىء حتى أنينه في مرضه.
{ رقيب } ملك يرقب. { عتيد } حاضر.
{ وجاءت سكرة الموت } معطوف على إذ يتلقى وسكرة الموت ما يعتري الإنسان عند نزاعه والباء في بالحق للتعدية أي جاءت سكرة الموت الحق وهو الأمر الذي نطقت به كتب الله تعالى وبعث به رسله من سعادة الميت وشقاوته أو للحال أي ملتبسة بالحق.
{ ما كنت منه تحيد } أي تميل يقول أعيش كذا وأعيش كذا فمتى فكر في قرب الموت حاد بذهنه عنه وأمله إلى مسافة طويلة بعيدة من الزمان ومن الحيد الحذر من الموت وظاهر تحيد أنه خطاب للإنسان الذي جاءته سكرة الموت.
{ سآئق } حاث على السير.
{ وشهيد } يشهد عليه قال الزمخشري: ومحل معها سائق النصب على الحال من كل لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في محكم المعرفة " إنتهى ".
لا ضرورة تدعو إلى الحال بل الجملة في موضع الصفة إن أعربت معها سائق مبتدأ وخبرا وإلا فسائق فاعل بالظرف قبل لأنه قد اعتمد فالظرف في موضع الصفة وأما قوله لتعرفه بالإضافة إلى ما هو في حكم المعرفة فكلام ساقط لا يصدر عن مبتدىء في النحو لأنه لو نعت كل نفس ما نعت إلا بنكرة فهو نكرة.
{ لقد كنت في غفلة من هذا } أي من عاقبة الكفر فلما كشف الغطاء عنك احتد بصرك أي بصيرتك وهذا كما تقول فلان حديد الذهن وكني بالغطاء عن الغفلة كأنها غطت جميعه أو عينيه فهو لا يبصر فإذا كان في القيامة زالت عنه الغفلة فأبصر ما لم يكن يبصره من الحق.
{ وقال قرينه } هو الشيطان الذي قيض له في قوله
نقيض له شيطانا فهو له قرين
[الزخرف: 36]، يشهد له قوله تعالى قال قرينه ربنا ما أطغينا.
{ هذا ما لدي عتيد } هذا شىء لدى ومن ملكتي عتيد لجهنم والمعنى أن ملكا يسوقه وآخر يشهد عليه وشيطانا مقرونا به يقول قد أعدته لجهنم وهيأته لها بإغوائي وإضلالي.
{ ألقيا في جهنم } الخطاب من الله للملكين السائق والشهيد.
{ كل كفار } مبالغة أي يكفر النعمة والمنعم.
{ عنيد } منحرف عن الطاعة.
{ مناع للخير } أي الزكاة.
{ مريب } شاك في الله تعالى أو في البعث وقيل متهم.
{ الذي جعل مع الله إلها آخر } الظاهر تعلقه بما قبله على جهة البدل ويكون فألقياه توكيدا.
[50.27-45]
{ قال قرينه } لم تأت هذه الجملة بالواو بخلاف وقال قرينه قبله لأن هذه استؤنفت كما استؤنفت الجمل في حكاية التقاول في مقاولة موسى وفرعون فجرت مقاولة بين الكافر وقرينه فكان الكافر قال: رب هو أطغاني قال قرينه: ربنا ما أطغيته واما وقال قرينه فعطف للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها في الحصول أعنى مجيء كل نفس مع الملكين وقول قرينه ما قال له ومعنى ما أطغيته تنزيه لنفسه من أنه أثر فيه.
{ ولكن كان في ضلال بعيد } أي من نفسه لا مني فهو الذي استحب العمى على الهدى وكذب القرين بل أطغاه بوسوسته وتزينه.
{ قال لا تختصموا لدي } استئناف أيضا مثل ما قال قرينه كان قائلا قال ما قال الله تعالى فقيل قال لا تختصموا لدي أي في دار الجزاء وموقف الحساب.
{ وقد قدمت إليكم بالوعيد } لمن عصاني فلم أترك لكم حجة.
{ ما يبدل القول لدي } أي عندي فما أمضيته لا يمكن تبديله.
{ ومآ أنا بظلام } تقدم الكلام عليه والمعنى لا أعذب من لا يستحق العذاب وانتصاب يوم بظلام.
قال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب بنفخ كأنه قيل ونفخ في الصور يوم يقول: وعلى هذا يشار بذلك إلى يقوم يقول " انتهى ".
هذا بعيد جدا قد فصل على هذا القول بين العامل والمعمول بجمل كثيرة ولا يناسب هذا القول فصاحة القرآن وبلاغته وهل امتلأت تقرير وتوقيف لا سؤال استفهام حقيقة لأنه تعالى عالم بأحوال جهنم وقيل السؤال والجواب من باب التصوير الذي يثبت المعنى أي حالها حال بين لو نطق الجواب لسائله لقال كذا وهذا القول يظهر أنها إذ ذاك لم تكن ملأى فقولها هل من مزيد سؤال ورغبة في الزيادة والاستكثار من الداخلين.
{ هذا ما توعدون } خطاب للمؤمنين ولكل أواب هو البدل من المتقين.
{ من خشي } بدل بعد بدل تابع لكل قال الزمخشري: ولا يجوز أن يكون في حكم أواب وحفيظ لأن من لا يوصف به ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي " انتهى ".
يعني بقوله في حكم أواب وحفظ أن يجعل من صفته وهذا حكم صحيح وأما قوله: ولا يوصف من بين الموصولات إلا بالذي فالحصر فيه ليس بصحيح قد وصفت العرب بما فيه أل وهو موصول نحو القائم والمضروب ووصفت بذو الطائية وذات في المؤنث ومن كلامهم بالفضل ذو فضلكم الله به والكرامة ذات أكرمكم الله بها يريدون بالفضل الذي فضلكم والكرامة التي أكرمكم ولا يريد الزمخشري خصوصية الذي بل فروعه من المؤنث المثنى والمجموع على اختلاف لغات ذلك " انتهى ". وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون نعتا " انتهى ".
لا يجوز لأن من لا ينعت بها وبالغيب حال من المفعول أي وهو غائب عنه وإنما أدركه بالعلم الضروري إذ كل مصنوع لا بد له من صانع.
{ ادخلوها بسلام } أي سالمين من العذاب أو مسلما عليكم من الله تعالى وملائكته.
{ ذلك يوم الخلود } أي يوم تقدر الخلود.
{ لهم ما يشآءون فيها } أي ما تعلقت به مشيئتهم من أنواع الملاذ والكرامات.
{ ولدينا مزيد } زيادة أو شىء مزيد على ما يشاؤون عند ربهم ونحوه ومزيد مبهم فقيل مضاعفة الحسنة بعشر أمثالها وقيل تجلى الله تعالى لهم حتى يرونه.
{ وكم أهلكنا قبلهم من قرن } الآية أي كثيرا أهلكنا قبلهم أي قبل قريش هم أشد منهم بطشا لكثرة قوتهم وأموالهم والظاهر أن الضمير في فنقبوا عائد على كم أي دخلوا البلاد من أنقابها والمعنى طوفوا في البلاد وقيل نقروا وبحثوا والتنقيب التنقير والبحث نقبوا في البلاد من حذر الموت وجالوا في الأرض كل مجال وفنقبوا متسبب عن شدة بطشهم فهي التي أقدرتهم على التنقيب وقوتهم عليه ويجوز أن يعود الضمير في فنقبوا على قريش أي فنقبوا في أسفارهم في بلاد القرون فهل رأوا محيصا حتى يؤملوه لأنفسهم ويدل على عود الضمير على أهل مكة قراءة ابن عباس وغيره فنقبوا بكسر القاف مشددة على الأمر لأهل مكة أي فسيحوا في البلاد وابحثوا.
{ إن في ذلك } أي في إهلاك تلك القرون.
{ لذكرى } لتذكرة واتعاضا لمن كان له قلب أي واع والمعنى لمن كان له عقل وعبر عنه بمحله ومن له قلب لا يعي كمن لا قلب له وقرأ الجمهور ألقى السمع مبنيا للفاعل والسمع نصب به أي أو أصغى بسمعه لهذه الأنباء الواعظة.
{ وهو شهيد } أي حاضر الذهن متفطن لما أصغى إليه سمعه مفكر فيه فشهيد من المشاهدة وهو الحضور.
{ ولقد خلقنا السموت والأرض } نزلت في اليهود تكذيبا لهم في قولهم انه تعالى استراح من خلق السماوات والأرض في ستة أيام يوم السبت واستلقى على العرش.
{ وما مسنا من لغوب } احتمل أن تكون جملة حالية واحتمل أن تكون استئنافا واللغوب الإعياء.
{ فاصبر } قيل منسوخ بآية السيف.
{ على ما يقولون } أي اليهود وغيرهم من الكفار قريش وغيرهم.
{ وسبح بحمد ربك } أي فصل.
{ قبل طلوع الشمس } هي صلاة الصبح.
{ وقبل الغروب } هي صلاة العصر وقيل غير ذلك.
{ واستمع } أمر بالاستماع والظاهر أنه أريد به حقيقة الاستماع والمستمع له محذوف تقديره واستمع لما أخبر به من حال يوم القيامة وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به كما قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ
" يا معاذ إسمع ما أقول لك ثم حدثه بعد ذلك وانتصب يوم بما دل عليه ذلك يوم الخروج "
أي يوم ينادي المنادي يخرجون من القبور وقيل مفعول استمع محذوف تقديره نداء المنادى وقيل تقديره نداء الكافر بالويل والثبور وقيل لا يحتاج إلى مفعول إذ حذف اقتصارا والمعنى كن مستمعا ولا تكن غافلا معرضا وانتظر الخطاب لكل سامع وفي الحديث
" أن ملكا ينادي من السماء أيتها الأجسام الهامدة والعظام البالية والرمم الذاهبة هلموا إلى الحشر والوقوف بين يدي الله تعالى ".
{ من مكان قريب } وصفه بالقرب من حيث يسمع جميع الخلق قيل والمنادي إسرافيل عليه السلام بنفخ في الصور وينادى والمكان القريب هي صخرة بيت المقدس لقربها من السماء بثمانية عشر ميلا.
{ يوم يسمعون } بدل من يوم ينادي والصيحة صيحة المنادى قيل يسمعون من تحت أقدامهم وقيل من تحت شعورهم وهي النفخة الثانية بالحق متعلق بالصيحة والمراد به البعث والحشر.
{ ذلك } أي يوم النداء والسماع.
{ يوم الخروج } من القبور وقيل الإشارة بذلك إلى النداء أي ذلك النداء واتسع في الظرف فجعل خبرا عن المصدر ويوم بدل من اليوم الثاني وانتصب سراعا على الحال من الضمير في عنهم والعامل تشقق.
{ ذلك حشر علينا يسير } فصل بين الموصوف وصفته بمعمول الصفة وهو علينا أي يسير علينا وحسن ذلك لأجل كون الصفة فاصلة.
{ نحن أعلم بما يقولون } هذا وعيد محض للكفار وتهديد لهم وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم.
{ ومآ أنت عليهم بجبار } أي بمتسلط حتى تجبرهم على الإيمان.
{ فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } لأن من لا يخاف الوعيد لكونه غير مصدق بوقوعه لا يذكر إذ لا تنفع فيه الذكرى كما قال تعالى:
وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين
[الذاريات: 55] وختمت بقوله: { فذكر بالقرآن } كما افتتحت ب
ق والقرآن المجيد
[ق: 1].
[51 - سورة الذاريات]
[51.1-37]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والذاريات ذروا } الآية هذه السورة مكية ومناسبتها لآخر ما قبلها أنه قال: فذكر بالقرآن من يخاف وعيد وقال: أول هذه بعد القسم أن ما توعدون لصادق وأن الدين لواقع والذاريات الرياح والحاملات السحاب والجاريات الفلك والمقسمات الملائكة هذا تفسير علي كرم الله وجهه على المنبر وقد سأله ابن الكوا وقاله ابن عباس والظاهر أن الآية في الكفار وأنه وعيد محض.
{ وإن الدين } الجزاء.
{ لوقع } أي صادر حقيقة على المكلفين من الإنس والجن والظاهر في والسماء أنه جنس أريد به جميع السماوات.
{ ذات الحبك } أي ذات الخلق المستوى الجيد وقيل ذات الطرائق يعني المجرة التي في السماء وجواب القسم انكم لفي قول مختلف والظاهر أنه خطاب عام للمسلم والكافر كما أنه جواب القسم السابق يشملهما واختلافهم كونهم مؤمنا بالرسول وكتابه وكافرا به.
{ يؤفك } أي يصرف.
{ عنه } أي عن القرآن أو الرسول.
{ من أفك } أي من صرف الصرف الذي لا صرف أشد منه وأعظم.
{ قتل الخراصون } دعاء عليهم وهم أصحاب القول المختلف مكذبوا الرسول عليه السلام.
{ في غمرة } في جهل يغمرهم.
{ ساهون } غافلون عما أمروا به.
{ أيان يوم الدين } أي متى وقت الجزاء سؤال تكذيب واستهزاء.
{ يوم هم } خبر مبتدأ محذوف تقديره هو أي الجزاء.
{ يفتنون } أي يعذبون في النار.
{ ذوقوا فتنتكم } أي يقال لهم ذوقوا.
{ هذا الذي } مبتدأ وخبر واستعجالهم قولهم أيان يوم الدين ولما ذكر حال الكفار ذكر حال المؤمنين وانتصب.
{ آخذين } على الحال أي قابليه راضين به وذلك في الجنة والظاهر أن.
{ قليلا } ظرف وهو في الأصل صفة أي كانوا في قليل.
{ من الليل } ويجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف تقديره كانوا يهجعون هجوعا قليلا وما زائدة في كلا الاعرابين.
{ وبالأسحار هم يستغفرون } فيه ظهور على أن تهجدهم يتصل بالأسحار فيأخذون في الاستغفار مما يمكن أن يقع فيه تقصير والأسحار فطنة الاستغفار والحق هنا هو الزكاة المفروضة والسائل الذي يستعطي والمحروم الممنوع من الشىء.
{ وفي الأرض آيات } تدل على الصانع وقدرته وتدبيره من حيث هي كالبساط لما فوقها وفيها الفجاج للسلاك وهي متجزئة من سهل ووعر وبحر وبر وقطع متجاورات من صلبة ورخوة ومنبتة وسبخة وتلقح بأنواع النبات وفيها العيون والمعادن والدواب المنبتة في بحرها وبرها المختلفة الأشكال.
{ للموقنين } وهم الذين نظروا النظر الصحيح وأداهم ذلك إلى إيقان ما جاءت الرسل فأيقنوا به ولم يدخلهم في ذلك ريب.
{ وفي أنفسكم } في حال ابتدائها وانتقالها من حال إلى حال وما أودع في شكل الإنسان من لطائف الحواس وما ترتب على العقل الذي أوتيه من بدائع العلوم وغرائب الصنائع وغير ذلك مما لا ينحصر.
{ وفي السمآء رزقكم } وهو المطر والثلج لأنه سبب الأقوات وكل عين دائمة هي من الثلج.
{ وما توعدون } هي الجنة والضمير في أنه عائد على الأخبار السابق من الله تعالى فيما تقدم في هذه السورة من صدق الموعود ووقوع الجزاء وكونهم في قول مختلف وقتل الخراصين وكينونة المتقين في الجنة على ما وصف وذكر أوصافهم وما ذكر بعد ذلك ولذلك شبهه في الحقيقة بما يصدر من نطق الإنسان بجامع ما اشتركا فيه من الكلام.
وقرىء مثل بالرفع صفة للحق وقرىء بالفتح هي حركة بتاء لما أضيق إلى مبنى بني وينسبك ما بعده مصدر تقديره مثل نطقكم أي لحق مثل حق نطقكم.
{ هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين } الآية، هل أتاك تقرير لتجتمع نفس المخاطب كما تبدأ المرء إذا أردت أن تحدثه بعجيب فتقرره هل سمع ذلك فكأنك تقتضي أن يقول لا ويستطعمك الحديث وبدأ بقصة إبراهيم عليه السلام وإن كانت متأخرة عن قصة عاد هذا للعرب إذ كان أباهم الأعلى ولكون الرسل الذين وفدوا عليه جاؤوا بإهلاك قوم لوط إذ كذبوه ففيه ووعيد للعرب وتهديد واتعاظ وتسلية للرسول عليه السلام عما يجري عليه من قومه ووصفهم بالمكرمين لكرامتهم عند الله تعالى وتقدم ذكر عددهم في سورة هود وإذ معمولة لقوله: حديث وضيف الجماعة والواحد فيه سواء والظاهر أنهم دخلوا عليه بغير استئذان منه لهم وانتصب سلاما على إضمار فعل تقديره سلمنا سلاما وفي ذلك دليل على أن الوارد على قوم يبدأهم بالسلام ويردون عليه وارتفع سلام على إضمار تقديره عليكم سلام.
{ قوم منكرون } الذي يناسب حال إبراهيم عليه السلام أنه لا يخاطبهم بذلك إذ فيه من عدم الإنس ما لا يخفى بل يظهر أنه يكون التقدير هؤلاء قوم منكرون وقال ذلك مع نفسه أو لمن كان من اتباعه وعلمائه بحيث لا يسمع ذلك الأضياف والظاهر ان أنتم خطاب للضيف والمعنى انكم قوم لم يتقدم لنا علم بكم فأخبروه أنهم رسل الله.
{ فراغ إلى أهله } أي مضى إلى أهله فجاء بعجل سمين فيه دليل على المبادرة لإكرام الضيف وتقديم أحسن ما يقدم للضيف.
{ فقربه إليهم } فيه أدب للضيف من تقريب القرا لمن يأكل وفيه العرض على الأكل فإن في ذلك تأنيسا للآكل وثم صفة محذوفة تقديره سمين محنوذ أي مشوي.
{ فأوجس منهم خيفة } أي فلما استمروا على الامتناع من الأكل أوجس منهم خيفة وذلك أن أكل الضيف أمنه ودليل على انبساط نفسه وللطعام حرمة وذمام والامتناع منه وحشة فخشي إبراهيم عليه السلام أن يكون امتناعهم من أكل طعامه إنما هو لشر يريدونه.
{ قالوا لا تخف } وعرفوه أنهم ملائكة الله تعالى.
{ وبشروه بغلام } وقعت البشارة بعد التأنيس والجلوس وكانت البشارة بذكر لأنه أسر للنفس وأبهج ووصفه بعليم لأنها الصفة التي يختص بها الإنسان الكامل وفيه تبشير بحياته حتى يكون من العلماء.
{ فأقبلت امرأته في صرة } أي إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم وتسمع كلامهم والصرة الصيحة وقيل الجماعة من النسوة.
{ فصكت وجهها } أي لطمته وهو فعل النساء إذا تعجبن من شىء.
{ وقالت عجوز عقيم } أي أنا قد اجتمع في أني عجوز وذلك مانع من الولادة وإني عقيم لم ألد قط فكيف ألد تعجبت.
{ قالوا كذلك } أي مثل ذلك القول الذي أخبرناك به.
{ قال ربك } وهو القادر على إيجاد ما يستعبد ولما علم إبراهيم عليه السلام أنهم ملائكة وأنهم لا ينزلون إلا بإذن الله رسلا.
{ قال فما خطبكم } والخطب الأمر الذي فيه غرابة وفي قوله:
{ أيها المرسلون } دليل على أنه عرفهم أنهم رسل الله تعالى جاؤوا بأمر عظيم.
{ إلى قوم مجرمين } أي ذوي جرائم وهي كبار المعاصي من كفر وغيره وأتى بقوم نكرة وقد صرح في آية أخرى إنا أرسلنا إلى قوم لوط.
{ لنرسل عليهم حجارة من طين } أي لنهلكهم بها وهو السجيل طين يطبخ كما يطبخ الآجر حتى يصير في صلابة الحجر.
{ مسومة } معلمة على كل حجر منها إسم صاحبه.
{ للمسرفين } وهم المجاوزون الحد في الكفر وغيره.
{ فأخرجنا } هو من كلام الله تعالى.
{ من كان فيها } أي في القربة التي حل العذاب بأهلها.
{ غير بيت } هو بيت لوط وهو لوط عليه السلام وابنتاه فقط وقيل ثلاثة عشر نفسا.
{ وتركنا فيهآ } أي في القرية.
{ آية } علامة قال ابن جريج: حجرا كبيرا جدا منضودا وقيل ماء أسود منتن ويجوز أن يكون فيها عائدا على الأهلاكة التي أهلكوها فإنها من أعاجيب الاهلاك بجعل أعالي القرية أسافل وإمطار الحجارة والظاهر أن قوله في موسى معطوف على وتركنا فيها أي وفي قصة موسى.
قال الزمخشري وابن عطية: يكون عطفا على وفي الأرض آيات للموقنين وفي موسى وهذا بعيد جدا ينزه القرآن عن مثله.
[51.38-60]
{ بسلطان مبين } هو البرهان الذي ظهر على يديه من قلب العصا واليد البيضاء وغير ذلك.
{ فتولى بركنه } أي أعرض وازور كما قال ونأى بجانبه.
{ وقال ساحر أو مجنون } تردد في كذبه.
{ فنبذناهم في اليم } أي رميناهم في البحر كما يرمي الحصا.
{ وهو مليم } أي أتى من المعاصي بما يلام عليه من دعواه الإلهية وغير ذلك والعقيم والتي لا خير منها من إنساء مطر أو إلقاح شجر.
{ ما تذر من شيء أتت عليه } أي سلطت عليه.
{ إلا جعلته كالرميم } جملة حالية والرميم تقدم تفسيرة في يس.
{ تمتعوا حتى حين } قال الحسن: هذا كان حين بعث إليهم صالح أمروا بالإيمان بما جاء به والتمتع إلى أن تأتي آجالهم ثم أنهم عتوا بعد ذلك ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عن ما أمروا به فهو مطابق لفظا ووجودا والصاعقة الصيحة.
{ وهم ينظرون } أي فجأة وهم ينظرون بعيونهم وكانت نهارا أو هم ينظرون ينتظرون ذلك في تلك الآيام الثلاثة التي أعلموا فيها ورأوا علاماته في قلوبهم وانتظار العذاب أشد من العذاب.
{ فما استطاعوا من قيام } كقوله فأصبحوا في دارهم جاثمين ونفي الاستطاعة أبلغ من نفي القدرة.
{ وما كانوا منتصرين } أبلغ من نفي الإنتصار أي فما قدروا على الهرب ولا كانوا ممن ينتصر لنفسه فيدفع ما حل به.
وقرىء وقوم نوح بالجر عطفا على المجرور قبل ذلك وبالنصب على إضمار فعل تقديره وأهلكنا قوم نوح.
{ والسمآء بنيناها بأييد } أي وبنينا السماء فهو من باب الاشتغال وكذا والأرض فرشناها وبأيد أي بقوة قاله ابن عباس.
{ وإنا لموسعون } أي بناءها فالجملة حالية أي بنيناها بتوسيعها كقوله: جاء زيد وإنه لمسرع أي مسرعا فهي بحيث أن الأرض وما يحيط بها من الماء والهواء كالنقطة في وسط الدائرة.
{ فنعم الماهدون } المخصوص بالمدح محذوف تقديره نحن.
{ ومن كل شيء خلقنا زوجين } أي من الحيوان خلقنا زوجين ذكرا وأنثى.
{ لعلكم تذكرون } عظيم قدرنا.
{ ففروا إلى الله } أمر بالدخول في الإيمان وطاعة الله تعالى وجعل الأمر بذلك بلفظ الفرار لينبه على أن وراء الناس عقابا وعذابا دامرا حقه أن يفر منه فجمعت لفظ ففروا بين التحذير والاستدعاء وينظر إلى هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم:
" لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ".
{ إني لكم منه } أي من العذاب.
{ نذير مبين * ولا تجعلوا مع الله إلها آخر } نهى عن جعل شريك له تعالى وكرر أني لكم منه نذير على سبيل التوكيد.
{ كذلك } أي أمر الأمم السابقة عند مجيء الرسل إليهم مثل الأمر من الكفار الذين بعثت إليهم وهو التكذيب.
{ ساحر أو مجنون } أو للتفصيل أي قال بعض: ساحر وقال بعض: مجنون وقال بعض: كلاهما ألا ترى أن قوم نوح عليه السلام لم يقولوا عنه ساحر بل قالوا به جنة فجمعوا في الضمير ودلت أو على التفصيل.
{ أتواصوا به } أي بذلك القول وهو توقيف وتعجيب من توارد نفوس الكفرة على تكذيب الأنبياء مع افتراق أزمانهم.
{ بل هم قوم طاغون } أي لم يتواصوا به لأنهم لم يكونوا في زمان واحد بل جمعتهم علة واحدة وهي كونهم طغاة فهم مستعلون في الأرض مفسدون فيها عاتون.
{ فتول عنهم } أعرض عن الذين كررت عليهم الدعوة فلم يجيبوا.
{ فمآ أنت بملوم } إذ قد بلغت ونصحت.
{ وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين } تؤثر فيهم وفيمن قدر الله أن يؤمن وما دل عليه الظاهر من الموادعة منسوخ بآية السيف وعن علي رضي الله عنه لما نزل فتول عنهم فما أنت بملوم حزن المسلمون وظنوا أنه أمر بالتولي عن الجميع وأن الوحي قد انقطع حتى نزلت وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين فسروا بذلك.
{ إلا ليعبدون } أي معدين ليعبدون وكأن الآية تعديد نعم أي خلقت لهم حواس وعقولا وأجساما منقادة نحو العبادة كما تقول هذا مخلوق لكذا وإن لم يصدر منه الذي خلق له كما تقول القلم مبري لأن يكتب به وقد لا يكتب به.
{ مآ أريد منهم من رزق } أي أن يرزقوا أنفسهم ولا غيرهم.
{ ومآ أريد أن يطعمون } أي أن يطعموا خلقي وهو على حذف مضاف بالإضافة إلى الضمير تجوز قاله ابن عباس.
{ المتين } الشديد القوة العظيمها.
{ فإن للذين ظلموا } هم أهل مكة وغيرهم من الكفار الذين كذبوا الرسول عليه السلام.
{ ذنوبا } أي حظا ونصيبا.
{ مثل ذنوب أصحابهم } من الأمم السابقة التي كذبت الرسل في الإهلاك والعذاب ويجمع في القلة على أذنبة وفي الكثرة على ذنابيب وقال علقمة بن عبدة:
وفي كل حي قد خبطت بنعمة
فحق لشاس من نداك ذنوب
{ فويل للذين كفروا من يومهم } قيل يوم بدر وقيل يوم القيامة.
{ الذي يوعدون } أي به أو يوعدونه.
[52 - سورة الطور]
[52.1-32]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والطور * وكتاب مسطور } هذه السورة مكية ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة إذ في آخرها فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم وقال هنا ان عذاب ربك لواقع الطور الجبل والظاهر أنه إسم جنس لا جبل معين وفي الشام جبل يسمى الطور وهو طور سيناء وقال نوف البكالي انه الذي أقسم الله تعالى به لفضله على الجبال قيل وهو الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام والكتاب المسطور القرآن والكتب الإلهية.
{ في رق منشور } أي مبسوط وقيل مفتوح لا ختم عليه.
{ والبيت المعمور } قال علي كرم الله وجهه وابن عباس: هو بيت في السماء مسامت للكعبة يقال له الضراح والضريح أيضا وهو الذي ذكر في حديث الإسراء قال جبريل عليه السلام:
" هذا البيت يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم ".
{ والسقف المرفوع } السماء وقال ابن عباس: هو العرش وهو سقف الجنة.
{ والبحر المسجور } قال مجاهد وشمر بن عطية: هو البحر الموقد نار أو روي أن البحر هو جهنم والواو الأولى واو القسم وما بعدها للعطف والجملة المقسم عليها هي قوله إن عذاب ربك لواقع في إضافة العذاب لقوله: ربك لطيفة إذ هو المالك والناظر في مصلحة العبد فبالإضافة إلى الرب وإضافة لكاف الخطاب أمان له عليه السلام وأن العذاب الواقع هو بمن كذبه ولواقع يدل على الشدة وهو أول عليها من لكائن ألا ترى إلى قوله
إذا وقعت الواقعة
[الواقعة: 1] قوله
وهو واقع بهم
[الشورى: 22] كأنه مهيأ في مكان مرتفع فيقع على من حل به وعن جبير بن مطعم قال: قدمت المدينة لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فوافيته يقرأ في صلاة المغرب والطور إلى قوله: إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع فكأنما صرع قلبي فأسلمت خوفا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع العذاب وانتصب يوم بدافع ويجوز أن ينتصب بقوله: لواقع والجملة بعدها اعتراض بين العامل والمعمول.
{ يوم تمور } قال ابن عباس: تضطرب.
{ وتسير الجبال } هذا في أول الأمر ثم تنسف حتى تصير آخرا كالعهن المنفوش.
{ فويل } عطف جملة على جملة تتضمن ربط المعنى وتأكيده والخوض التخبط في الباطل وغلب باستعماله في الاندفاع في الباطل.
{ يوم يدعون } وذلك أن خزنة جهنم يغسلون أيدي الكفار إلى أعناقهم ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم وزجا في أقفيتهم يقال لهم هذه النار التي كنتم بها تكذبون ثم قيل لهم على قطع رجائهم.
{ اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سوآء عليكم } عذابكم حتم فسواء صبركم وجزعكم لا بد من جزاء أعمالكم.
{ إن المتقين } لما ذكر حال الكفار ذكر حال المؤمنين ليقع الترهيب والترغيب وهو اخبار عما يؤول إليه حال المؤمنين أخبروا بذلك خبران.
{ في جنات ونعيم } وانتصب فاكهين على الحال والعامل فيها العامل في الجار والمجرور.
{ فاكهين } مسرورين فرحين وقيل من التفكه وما في قوله بما موصولة بمعنى الذي والعائد عليها محذوف تقديره آتاهموه أن تكون مصدرية ومفعول آتاهم محذوف أي بإيتائهم ربهم الجنة.
{ هنيئا } تقدم الكلام عليه في النساء والمعنى هنا هنأكم النعيم بسبب عملكم وانتصب.
{ متكئين } على الحال.
{ على سرر } متعلق به.
{ وزوجناهم } قرناهم والتزويج كناية عن ذلك لما قال تعالى
ولهم فيهآ أزوج مطهرة
[البقرة: 25] وقال الزمخشري:
{ والذين آمنوا } معطوف على حور عين أي قرناهم بالحور العين وبالذين آمنوا أي بالرفقاء بالجلساء منهم كقوله
إخونا على سرر متقبلين
[الحجر: 47] فيتمتعون تارة بملاعبة الحور وتارة بمؤانسة الإخوان المؤمنين وأتبعناهم ذريتهم ثم ذكر حديث ابن عباس ثم قال: فيجمع الله لهم أنواع السرور بسعادتهم في أنفسهم وبمزاوجة الحور العين وباجتماع أولادهم ونسلهم بهم ثم قال: بإيمان ألحقنا بهم ذرياتهم أي بسبب إيمان عظيم رفيع المحل وهو إيمان الآباء ألحقنا بدرجاتهم ذريتهم وإن كانوا لا يستأهلونها تفضلا عليهم وعلى آبائهم لنتم سرورهم ونكمل نعيمهم فإن قلت: ما معنى تنكير الإيمان قلت: معناه الدلالة على أنه إيمان خاص عظيم المنزلة ويجوز أن يراد إيمان الذرية الداني المحل كأنه قال بشىء من الإيمان لا يؤهلهم لدرجة الآباء ألحقنا بهم " انتهى ".
ولا يتخيل أحد أن والذين آمنوا معطوف على بحور عين غير هذا الرجل وهو تخيل أعجمي مخالف لفهم العربي القح ابن عباس وغيره والأحسن من هذه الأقوال قول ابن عباس ويعضده الحديث الذي رواه لأن الآيات كلها في صفة إحسان الله تعالى إلى أهل الجنة فذكر من جملة إحسانه أنه يرعى المحسن في المسيء ولفظة ألحقنا تقتضي أن للملحق بعض التقصير في الأعمال فيكون إعراب والذين مبتدأ وأتبعناهم معطوف على آمنوا وبإيمان متعلق بقوله: واتبعناهم ونكره اكتفاء بحصول الإيمان وإن كان الإنسان مقصرا في العمل وميز والذين قوله ألحقنا بهم.
{ ومآ ألتناهم } أي نقصناهم والظاهر أن الضمير التناهم عائد على المؤمنين والمعنى أنه تعالى يلحق المقصر بالمحسن ولا ينقص المحسن من أجره شيئا وهذا تأويل ابن عباس.
{ بما كسب } متعلق برهين.
{ وأمددناهم } أي يسرنا لهم شيئا فشيئا حتى يكثر ولا ينقطع.
{ يتنازعون فيها } أي يتعاطون فيها والتنازع التجاذب ملاعبة إذ أهل الدنيا لهم في ذلك لذة فكذلك في الجنة.
{ لا لغو فيها ولا تأثيم } قرىء برفعهما واللغو السقط من الكلام كما يجري بين شراب الخمر في الدنيا والتأثيم الإثم الذي يلحق شارب الخمر في الدنيا.
{ غلمان لهم } أي مماليك.
{ مكنون } أي من الصدف لم تنله إلا يرى وهو إذ ذاك رطب فهو أحسن وأصفى والظاهر أن التساؤل هو في الجنة إذ هذه كلها معاطيف بعضها على بعض أي يتساءلون عن أحوالهم وما نال كل واحد منهم ويدل عليه فمن الله علينا أي بهذا النعيم الذي نحن فيه.
{ مشفقين } أي رقيقي القلوب خاشعين لله تعالى والسموم هنا النار، وقال الحسن إسم من أسماء جهنم.
{ من قبل } أي من قبل لقاء الله تعالى والمصير إليه.
{ ندعوه } نعبده ونسأله الوقاية من عذابه.
{ إنه هو البر } المحسن.
{ الرحيم } الكثير الرحمة إذا عبد أثاب وإذا سئل أجاب.
{ فذكر } الآية أمره بالتذكير إنذارا للكفار وتبشير للمؤمن ونفي عنه ما كان الكفار ينسبونه إليه من الكهانة والجنون إذ كانا طريقين للإخبار ببعض المغيبات وكان للجن بهما ملابسة للإنسان وممن كان ينسبه إلى الكهانة شيبة بن ربيعة وممن كان ينسبه إلى الجنون عقبة بن أبي معيط والمعنى أن عليه السلام انتفت عنه صفات النقص من الكهانة والجنون بسبب ما أنعم الله به عليه من النبوة والرسالة.
{ أم يقولون شاعر } روي أن قريشا اجتمعت في دار الندوة وكثر آراؤهم فيه صلى الله عليه وسلم حتى قال قائل منهم وهم بنو عبد الدار قاله الضحاك.
{ نتربص به ريب المنون } فإنه شاعر سيهلك كما هلك زهير والنابغة والأعشى فافترقوا على هذه المقالة فنزلت الآية في ذلك.
{ أم تأمرهم أحلامهم } أي عقولهم بهذا أي بقولهم كاهن وشاعر ومجنون وهو قول متناقض وكانت قريش تدعى أهل الأحلام والنهي وقيل لعمرو بن العاص ما بال قومك لم يؤمنوا وقد وصفهم الله بالعقل فقال: تلك عقول كادها الله تعالى أي لم يصحبها التوفيق والهمزة في أم تأمرهم قيل أم بمعنى الهمزة أي أتأمرهم وقدرها مجاهد ببل والصحيح أنها تقدر ببل والهمزة.
{ أم هم قوم طاغون } أي مجاوزون الحد في العناد مع ظهور الحق لهم.
[52.33-49]
{ تقوله } اختلقه من قبل نفسه كما قال ولو تقول علينا بعض الأقاويل.
{ بل لا يؤمنون } أي لكفرهم وعنادهم ثم عجزهم بقوله: فليأتوا بحديث مثله أي مماثل للقرآن في نظمه ورصفه ووصفه من البلاغة وصحة المعاني والاخبار بقصص الأمم السالفة والمغيبات والحكم.
و { إن كانوا صادقين } في أنه تقوله فليتقولوا هم مثله إذ هو واحد منهم فإن كانوا صادقين فليكونوا مثله في التقول.
{ أم خلقوا من غير شيء } وقفهم على جهة التوبيخ على أنفسهم أهم الذين خلقوا الأشياء فهم لذلك يتكبرون ثم خصص من تلك الأشياء السماوات والأرض لعظمها وشرفها في المخلوقات ثم حكم عليهم بأنهم لا يوقنون ولا ينظرون نظرا يؤديهم إلى اليقين.
{ أم عندهم خزآئن ربك } أي خزائن الرزق حتى يرزقوا النبوة من شاؤوا أو أعندهم خزائن علمه حتى يختاروا لها من اختياره حكمة ومصلحة.
{ أم هم المصيطرون } الأرباب الغالبون حتى يدمروا أمر النبوة ويبنوا الأمر على إرادتهم.
{ أم لهم سلم } منصوب إلى السماء.
{ يستمعون فيه } أي عليه أو منه إذ حروف الجر قد يسد بعضها مسد بعض.
{ بسلطان مبين } أي بحجة واضحة تصدق استماع مستمعهم.
{ أم تسألهم أجرا } على الإيمان بالله تعالى وتوحيده واتباع شرعه فهم من ذلك المغرم الثقيل اللازم مثقلون فاقتضى زهدهم في اتباعك.
{ أم عندهم الغيب } أي اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه حتى يقولوا لا نبعث وإن بعثنا لا نعذب.
{ أم يريدون كيدا } أي بك وبشرعك وهو كيدهم به في دار الندوة.
{ فالذين كفروا } أي فهم وأبرز الظاهر تنبيها على العلة أو الذين كفروا عام فيندرجون فيه.
{ هم المكيدون } أي الذين يعود عليهم وبال كيدهم ويحيق بهم مكرهم وذلك أنهم قتلوا يوم بدر وسمي غلبتهم كيدا إذ كانت عقوبة الكيد.
{ أم لهم إله غير الله } يعصمهم ويدفع في صدر أهلاكهم ثم نزه تعالى نفسه عما يشركون به الأصنام والأوثان.
{ وإن يروا كسفا } كانت قريش قد اقترحت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما اقترحت قولهم أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفا فأخبر تعالى أنهم لو رأوا ذلك عيانا حسب اقتراحهم لبلغ بهم عتوهم وجهلهم أن يغالطوا أنفسهم فيما عاينوه وقالوا هو سحاب تراكم بعضه على بعض يمطرنا وليس بكسف ساقط للعذاب.
{ فذرهم } أمر موادعة منسوخ بآية السيف.
{ حتى يلقوا يومهم } أي يوم موتهم واحدا واحدا والصعق العذاب.
{ وإن للذين ظلموا } أي لهؤلاء الظلمة.
{ عذابا دون ذلك } أي دون يوم القيامة وقبله وهو يوم بدر والفتح قاله ابن عباس.
{ فإنك بأعيننا } عبارة عن الحفظ والكلأة وجمع لأنه أضيف إلى ضمير الجماعة وحين كان الضمير مفردا أفرد العين قال تعالى:
ولتصنع على عيني
[طه: 39].
{ وسبح بحمد ربك } وهو قول سبحان الله عند كل قيام.
{ ومن الليل } فسبح قيل صلاة المغرب والعشاء.
{ وإدبار النجوم } صلاة الصبح.
[53 - سورة النجم]
[53.1-25]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى } هذه السورة مكية ومناسبتها لآخر ما قبلها ظاهرة لأنه قال أم يقولون تقوله أي اختلق القرآن ونسبوه إلى الشعر وقالوا: هو كاهن هو مجنون فأقسم تعالى أنه عليه السلام ما ضل وأن ما يأتي به هو وحي من الله تعالى وهي أول سورة أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقراءتها في الحرم والمشركون يسمعون وفيها سجد وسجد معه المؤمنون والمشركون والجن والإنس غير أبي لهب فإنه رفع حفنة من التراب إلى جبهته وقال: يكفي هذا وسبب نزولها قول المشركين ان محمدا يختلق القرآن وأقسم تعالى بالنجم وهو هنا إسم جنس والمراد النجوم إذا هوت أي غربت وقيل النجم معين وهو الثريا وهويها سقوطها مع الفجر وهو علم عليها بالغلبة ولا تقول العرب النجم مطلقا إلا للثريا وإذا ظرف زمان والعامل فيه محذوف تقديره كائنا إذا هوى وكائنا منصوب على الحال أقسم تعالى بالنجم في حال هويه.
{ ما ضل } جواب القسم.
و { صاحبكم } هو محمد صلى الله عليه وسلم.
{ وما ينطق } أي الرسول عليه السلام.
{ عن الهوى } أي عن هوى نفسه.
{ إن هو إلا وحي } من عند الله.
{ يوحى } إليه.
{ علمه } الضمير عائد على الرسول عليه السلام فالمفعول الثاني محذوف أي علمه الوحي أو على القرآن فالمفعول الأول محذوف أي علمه الرسول.
{ شديد القوى } هو جبريل عليه السلام وهو مناسب للأوصاف التي بعده.
{ ذو مرة } أي ذو قوة ومنه لا تحل الصدقة لغنى ولا لذي مرة سوي.
{ فاستوى } أي جبريل في الجو.
{ وهو بالأفق الأعلى } إذ رآه الرسول عليه السلام بحراء قد سد الأفق له ستمائة جناح وحينئذ دنا من محمد صلى الله عليه وسلم حتى كان قاب قوسين وكذلك هو المرئي في النزلة الأخرى له ستمائة جناح عند سدرة المنتهى.
{ ثم دنا } من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{ فتدلى } فتعلق عليه في الهواء.
{ فكان } مقدار مسافة قربه منه مثل.
{ قاب قوسين } أي قدر قوسين فحذفت هذه المضافات والظاهر أن الدنو والتدلي كان بين جبريل عليه السلام ومحمد صلى الله عليه وسلم ويدل على ذلك قوله:
{ ولقد رآه نزلة أخرى } وسدرة المنتهى قيل هي شجرة نبق في السماء السابعة ثمرها كتلال هجر وورقها كآذان الفيلة تنبع من أصلها التي تذكرها الله تعالى في كتابه يسير الراكب في ظلها سبعين عاما لا يقطعها والمنتهى موضع الانتهاء كأنه ينتهي إليها علم كل عالم ولا يعلم ما وراءها صعدا إلى الله تعالى.
وقال الشاعر في وصفه صلى الله عليه وسلم:
إلى السدرة العليا تسامى حقيقة
فكان به المجد المؤثل للسدر
{ عندها } الضمير عائد على السدرة.
{ إذ يغشى السدرة ما يغشى } فيه إبهام الموصول وصلته لتعظيم الغاشي وتكثير الذي يغشاها إذ ذاك أشياء لا يعلم وصفها إلا الله تعالى.
{ ما زاغ البصر } أي ما مال لا هكذا ولا هكذا.
{ وما طغى } أي ما جاوز المرئي إلى غيره بل وقع عليه وقوعا صحيحا وهذا تحقيق للأمر ونفي للريب عنه.
{ لقد رأى من آيات ربه الكبرى } قيل الكبرى مفعول رأى أي رأى الآيات الكبرى والعظمى التي هي بعض آيات ربه أي حين رقي إلى السماء رأى عجائب الملكوت وتلك بعض آيات الله تعالى وقيل من آيات هو في موضع المفعول والكبرى صفة لآيات ربه ومثل هذا الجمع يوصف بوصف الواحدة وحسن ذلك هنا كونها فاصلة.
{ أفرأيتم } خطاب لقريش ولما قرر الرسالة أولا واتبعه بما اتبعه من ذكر عظمة الله تعالى وقدرته الباهرة بدأ بذكر التوحيد والمنع عن الإشراك بالله تعالى فوقفهم على حقارة معبوداتهم وهي الأوثان وأنها ليست لها قدرة واللات صنم كانت العرب تعظمه.
قال قتادة: كان بالطائف. وقرىء اللات، قال ابن عباس: كان هذا رجلا بسوق عكاظ يلت السمن والسويق عند صخرة وقيل كان ذلك الرجل من بهزيلت السويق للحاج على حجر فلما مات عبدوا الحجر الذي كان عنده إجلالا لذلك الرجل وسموه باسمه.
{ والعزى } صنم وقيل صخرة كانت بغطفان وأصلها تأنيث الأعز بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقطعها وخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها داعية ويلها واضعة يديها على رأسها فجعل يضربها بالسيف حتى قتلها وهو يقول:
يا عز كفرانك لا سبحانك
إني رأيت الله قد أهانك
ورجع فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام:
" تلك العزى ولن تعبد أبدا ".
{ ومناة } قيل صخرة كانت لهذيل وخزاعة وقيل غير ذلك والذي يظهر أنها كانت ثلاثتها في الكعبة لأن المخاطب بذلك قوله: " أفرأيتم هم قريش " والظاهر أن.
{ الثالثة الأخرى } صفتان لمناة وهما يفيدان التوكيد قيل ولما كانت مناة هي أعظم هذه الأوثان أكدت بهذين الوصفين كما تقول: أرأيت فلانا وفلانا ثم تذكر ثالثا أجل منهما فتقول وفلانا الآخر الذي من أمره وشأنه ولفظة آخر وأخرى يوصف به الثالث من المعدودات وذلك نص في الآيات: " واللات والعزى " ومناة منصوبة بقوله: " أفرأيتم " وهي بمعنى أخبرني والمفعول الثاني الذي لها هو قوله:
{ ألكم الذكر وله الأنثى } على حد ما تقرر في متعلق أرأيت إذا كانت بمعن أخبرني ولم يعد ضمير من جملة الاستفهام على اللات والعزى ومناة لأن قوله وله الأنثى هو في معنى وله هذه الإناث فأغنى عن الضمير وكانوا يقولون في هذه الأصنام هي بنات الله تعالى فالمعنى ألكم النوع المستحسن المحبوب الموجود فيكم وله النوع المذموم بزعمكم وهو المستثقل وحسن إيراد الأنثى كونه نصا في اعتقادهم أنهن إناث وأنهن بناته تعالى وإن كان في لحاق تاء التأنيث في اللات وفي مناة وألف التأنيث في العزى ما يشعر بالتأنيث لكنه قد يسمى المذكر بالمؤنث في قوله الأنثى.
نص على اعتقاد التأنيث فيها وحسن ذلك أيضا كونه جاء فاصلة إذ لو أتى ضميرا فكان التركيب ألكم الذكر وله هن لم تقع فاصلة عندكم والإشارة بتلك إلى قسمتهم وتقريرهم أن لهم الذكران ولله البنات وكانوا يقولون ان هذه الأصنام والملائكة بنات الله تعالى.
و { ضيزى } أي جائرة يقال ضاز يضوزه ويضيزه وضأزه يضأزه وقرىء ضيزى بغير همز وبالهمز ووزنها فعلى والألف فيها للتأنيث.
{ إلا الظن } هو ترجيح أحد الجائزين.
{ وما تهوى الأنفس } أي تميل إليه بلذة وإنما تهوى أبدا ما هو غير الأفضل لأنها مجبولة على حب الملاذ وإنما يسوقها إلى حسن العاقبة والعقل.
{ ولقد جآءهم } توبيخ لهم فالذي هم عليه فاصل واعتراض بين الجملتين أي يفعلون هذه القبائح والهدى قد جاءهم فكانوا أولى من يقبله ويترك عبادة من لا تجدي عبادته شيئا.
{ أم للإنسان } هو متصل بقوله: { وما تهوى الأنفس } أي بل للإنسان والمراد به الجنس.
{ ما تمنى } ما تعلقت به أمانيه أي ليست الأشياء والشهوات تحصل بالأماني بل الأمر لله تعالى فقولكم ان آلهتكم تشفع وتقرب زلفى ليس لكم ذلك.
{ فلله الآخرة والأولى } أي هو مالكها فيعطي منها من يشاء ويمنع من يشاء وليس لأحد أن يبلغ منها إلا ما شاء الله تعالى له وقدم الآخرة في الذكر لشرفها وديمومتها وآخر الأولى لتأخيرها في ذلك ولكونها فاصلة فلم يراع الترتيب الوجودي كقوله:
وإن لنا للآخرة والأولى
[الليل: 13].
[53.26-62]
{ وكم من ملك في السموت } الآية كم خبرية ومعناها هنا التكثير وهي في موضع رفع الابتداء والخبر لا تغني والغنى جلب النفع ودفع الضر بحسب الأمر الذي يكون فيه الغنى وكم لفظها مفرد ومعناها جمع ولذلك جاء.
{ لا تغني شفاعتهم } ومعنى.
{ تسمية الأنثى } كونهم يقولون انهم بنات الله تعالى.
{ إن الذين لا يؤمنون } بالآخرة هم العرب منكروا البعث.
{ وإن الظن لا يغني } ما مدركه العلم لا ينفع فيه الظن وإنما يدرك بالعلم والتيقن.
{ فأعرض عن من تولى } موادعة منسوخة بآية السيف.
{ ولم يرد } أي لم تتعلق إرادته بغيرها فليس له فكر في سواها.
{ ذلك } إشارة إلى تعلقهم بالدنيا وتحصيلها.
{ مبلغهم } غايتهم منتهاهم.
{ من العلم } وهو ما تعلقت به علومهم من مكاسب الدنيا كالعلاقة والصنائع كقوله تعالى:
يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا
[الروم: 7] ولما ذكر ما هم عليه أخبر تعالى أنه عالم بالضال والمهتدي هو مجازيهما واللام في
{ ليجزي } متعلقة بما دل عليه معنى الملك أي يضل ويهدي ليجزي بما عملوا أي بعقاب ما عملوا والحسنة الجنة والكبائر تقدم الكلام عليها.
{ إلا اللمم } استثناء منقطع لأنه لم يدخل تحت ما قبله وهو صغار الذنوب كالنظرة والقبلة وغير ذلك.
{ إن ربك واسع المغفرة } حيث يكفر الصغائر باجتناب الكبائر.
{ هو أعلم بكم } الظاهر أنه خطاب عام وأعلم على بابها من التفضيل والظاهر أن المراد بإنشائكم أنشأ أصلكم وهو آدم عليه السلام من الأرض.
{ فلا تزكوا أنفسكم } فلا تنسبوها إلى زكاء العمل والطهارة من المعاصي ولا تنثوا عليها واهضموها فقد علم الله منكم الزكي والتقي والجنين ما كان في البطن فإذا خرج سمي ولدا أو سقطا وقوله في بطون أمهاتكم تنبيه على كمال العلم والقدرة فإن بطن الأم في غاية الظلمة ومن علم حاله وهو مجن لا يخفى عليه حاله وهو ظاهر.
{ بمن اتقى } قيل الشرك وقال علي كرم الله وجهه عمل حسنة وارعوى عن معصية.
{ أفرأيت الذي تولى } الآية، قال مقاتل وغيره: نزلت في الوليد بن المغيرة كان قد سمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنه جلس إليه ووعظه فقرب من الإسلام وطمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أنه عاتبه رجل من المشركين وقال: أتترك ملة آبائك إرجع إلى دينك واثبت عليه وأنا أتحمل عنك بكل شىء تخافه في الآخرة لكن على أن تعطيني كذا وكذا من المال فوافقه الوليد على ذلك ورجع عما هم به من الإسلام وضل ضلالا بعيدا وأعطى بعض ذلك المال لذلك الرجل ثم أمسك عنه وشح. أكدى أصله من الكدية يقال لمن حفر بئرا ثم وصل إلى حجر لا يتهيأ له فيه حفر قد أكدى ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم ولمن طلب شيئا فلم يبلغ آخره وأفرأيت هنا بمعنى أخبرني ومفعولها الأول موصول والثاني الجملة الاستفهامية وهي أعنده علم الغيب وتتولى أعرض عن الإسلام.
{ أعنده } إستفهام فيه تهكم إذ ليس عنده شىء من علم الغيب.
{ فهو يرى } أي الأجزاء.
{ أم لم ينبأ } أي بل ألم يخبر.
{ بما في صحف موسى } وهي التوراة.
{ وإبراهيم } أي وفي صحف إبراهيم التي نزلت عليه وخص هذين النبيين عليهما السلام قيل لأنه ما بين نوح وإبراهيم كانوا يأخذون الرجل بابنه وأبيه وعمه وخاله والزوج بامرأته والعبد بسيده فأول من خالفهم إبراهيم عليه السلام ومن شريعته عليه السلام إلى شريعة موسى كانوا لا يأخذون الرجل بجريرة غيره وإبراهيم.
{ الذي وفى } بتبليغ الرسالة والاستقلال بأعبائها والصبر على ذبح ولده وعلى فراق إسماعيل وأمه وعلى نار نمرود وقيامه بإكرام أضيافه وخدمته إياهم بنفسه وكان يمشي كل يوم فرسخا يرتاد ضيفا فإن وافقه أكرمه وإلا نوى الصوم وإن هي المخففة من الثقيلة وهي بدل من ما في قوله بما في صحف.
{ وأن ليس للإنسان } الظاهر ان الإنسان يشمل المؤمن والكافر وان الحصر في السعي فليس له سعي غيره وسأل والي خراسان عبد الله بن طاهر الحسين بن الفضل عن هذه الآية مع قوله والله يضاعف لمن يشاء فقال ليس له بالعدل إلا ما سعى وله بالفضل ما شاء الله فقبل عبد الله رأى الحسين والسعي التكسب ويرى مبني للمفعول أي سوف يراه حاضرا يوم القيامة وفي عرض الأعمال تشريف للمحسنين وتوبيخ للمسيئين والضمير المرفوع في يجزاه عائد على الإنسان والمنصوب عائد على السعي والجزاء مصدر.
قال الزمخشري: ويجوز أن يكون الضمير للجزاء ثم فسره بقوله: الجزاء الأوفى أو أبدله من كقوله:
وأسروا النجوى الذين ظلموا
[الأنبياء: 3] " انتهى ".
وقوله: ثم فسره بقوله الجزاء وإذا كان تفسيرا للضمير المنصوب في يجزاه فعلى ماذا انتصابه وأما إذا كان بدلا فهو من باب بدل الظاهر من المضمر الذي يفسره الظاهر وهي مسألة خلاف والصحيح المنع.
{ وأن إلى ربك } أي إلى أجزاء ربك.
{ المنتهى * وأنه هو أضحك وأبكى } الظاهر حقيقة الضحك والبكاء.
{ وأنه خلق الزوجين } أي المصطحبين من رجل وامرأة وغيرهما من الحيوان.
{ من نطفة إذا تمنى } أي إذا تدفق وهو المني يقال أمنى الرجل ومني.
{ وأن عليه النشأة الأخرى } أي إعادة الأجسام إلى الحشر بعد البلى وجاء بلفظ عليه المشعرة بالتحتم لوجود الشىء لما كانت هذه النشأة ينكرها الكفار بولغ بقوله عليه بوجودها لا محالة وكأنه تعالى أوجب ذلك على نفسه.
{ وأنه هو أغنى وأقنى } أي أكسب الغنية يقال: قنيت المال أي كسبته وأقنيته إياه أي أكسبته إياه ولم يذكر متعلق أغنى وأقنى لأن المقصود نسبة هذين الفعلين له تعالى والشعري التي عبدت هي العبور قال السدي: كانت تعبدها حمير وخزاعة وهي تقطع السماء طولا والنجوم كلها تقطعها عرضا.
{ وأنه أهلك عادا الأولى } جاء بين أن وخبرها لفظ هو وذلك في قوله : وأنه هو أضحك وأنه هو أمات وأنه هو أغنى وأنه هو رب الشعرى ففي الثلاثة الأول لما كان قد يدعي ذلك بعض الناس كقول نمروذ أنا أحيي وأميت احتيج إلى تأكيد في أن ذلك هو الله لا غيره فهو الذي يضحك ويبكي وهو المميت المحيي والمغني والمقني حقيقة ان أدعى ذلك أحد فلا حقيقة له وأما وأنه هو رب الشعرى فلأنها لما عبدت من دون الله تعالى نص على أنه تعالى هو ربها وموجدها ولما كان خلق الزوجين والإنشاء الأخير وإهلاك عاد ومن ذكر لا يمكن أن يدعي ذلك أحد لم يحتج إلى تأكيد ولا تنصيص أنه تعالى هو فاعل ذلك وعاد الأولى هم قوم هود وعاد الأخرى إرم.
{ وقوم نوح } أي كانوا أكفر من قريش.
{ وأطغى } وفي ذلك تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يجوز أن يكون تأكيدا للضمير المنصوب ويجوز أن يكون فصلا لأنه واقع بين معرفة وافعل التفضيل وحذف المفضول بعد الواقع خبرا لكن لأنه جار مجرى خبر المبتدأ وحذفه فصيح فيه فكذلك في خبر كان.
{ والمؤتفكة أهوى } هي مدائن قوم لوط بإجماع من المفسرين. وسميت بذلك لأنها انقلبت ومنه الأفك لأنه قلب الحق كذبا أفكه فائتفك والظاهر أن أهوى ناصب للمؤتفكة وأخر العامل لكونه فاصلة.
{ فغشاها ما غشى } فيه تهويل للعذاب الذي حل بهم لما قبلها جبريل عليه السلام اتبعت حجارة غشيتهم والتضعيف في غشاها للتعدية فتكون ما مفعولة والفاعل ضمير عائد على الله تعالى.
{ فبأي آلاء ربك } الباء ظرفية والخطاب للسامع.
و { تتمارى } تتشكك وهو استفهام في معنى الإنكار أي آلاؤه وهي النعم لا يتشكك فيها سامع وقد سبق ذكر نعم ونقم وأطلق عليها كلها آلاء لما في النقم من الزجر والوعظ لمن اعتبر.
وقرأ يعقوب: ربك تمارى بتاء واحدة مشددة.
{ هذا نذير } الاشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح أول السورة به واختتم آخرها به ولما ذكر إهلاك من تقدم ذكره وذكر قوله هذا نذير ذكر أن الذي أنذر به قريب الوقوع فقال:
{ أزفت الآزفة } أي قربت الموصوفة بالقرب في قوله اقتربت الساعة وهي القيامة.
{ ليس لها من دون الله كاشفة } أي نفس كاشفة تكشف وقتها وتعلمه لا يعلم ذلك إلا الله تعالى.
{ أفمن هذا الحديث } هو القرآن تعجبون فتنكرون وتضحكون مستهزئين { ولا تبكون } جزعا من وعيده.
{ وأنتم سامدون } أي لاهون روي أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ضاحكا بعد نزولها.
{ فاسجدوا لله } أي صلوا له.
{ واعبدوا } أفردوه بالعبادة ولا تعبدوا اللات والعزى ومناة والشعرى وغيرها من الأصنام.
[54 - سورة القمر]
[54.1-28]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * اقتربت الساعة وانشق القمر } هذه السورة مكية وقيل غير ذلك ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها ظاهرة قال: آزفة وقال: اقتربت الساعة. وسبب نزولها
" أن مشركي قريش قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم إن كنت صادقا فشق لنا القمر فرقتين ووعدوه بالإيمان إن فعل وكانت ليلة بدر فسأل ربه فانشق القمر نصفين نصف على الصفا ونصف على قيقعان فقال أهل مكة آية سماوية لا يعمل فيها السحر فقال أبو جهل: اصبروا حتى يأتينا أهل البوادي فإن أخبروا فشقاقه فهو صحيح وإلا فقد سحر محمد أعيننا فجاء أهل البوادي وأخبروا بانشقاق القمر فأعرض أبو جهل وقال سحر مستمر ".
{ وكذبوا } أي بالآيات وبمن جاء بها أي قالوا هذا سحر مستمر سحرنا محمد.
{ واتبعوا أهوآءهم } أي شهوات أنفسهم وما يهوون.
{ وكل أمر مستقر } أي له غاية ينتهي إليها.
{ ولقد جآءهم من الأنبآء } أي من الأخبار الواردة في القرآن في إهلاك من كذب الأنبياء عليهم السلام وما يؤولون إليه في الآخرة.
{ ما فيه مزدجر } أي ازدجار رادع لهم عن ما هم فيه.
و { حكمة } بدل من مزدجر ووصفت الحكمة ببالغة لأنها تبلغ من مقصد الوعظ والبيان لمن له عقل ما لا يبلغ غيرها.
{ فما تغن النذر } يجوز أن تكون ما نافية وأن تكون استفهاما يراد به التقرير أي فأي شىء تغني النذر مع هؤلاء الكفرة ثم سلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:
{ فتول عنهم } أي أعرض عنهم فإن الإنذار لا يجدي فيهم ثم ذكر شيئا من أحوال الآخرة وما يؤولون إليه إذ ذاك متعلق باقتراب الساعة فقال:
{ يوم يدع الداع } والناصب ليوم اذكر مضمرة وانتصب خشعا وخاشعة وخاشعا على الحال من ضمير يخرجون والعامل فيه يخرجون لأنه فعل متصرف وفي هذا دليل على بطلان مذهب الجرمي أنه لا يجوز تقدم الحال على الفعل وإن كان متصرفا وقد قالت العرب شتى تؤوب الحبلة فشتى حال وقد تقدمت على عاملها وهو تؤوب لأنه فعل متصرف.
{ من الأجداث } أي من القبور.
{ كأنهم جراد منتشر } جملة حالية شبههم بالجراد في الكثرة والتموج.
{ مهطعين } قال أبو عبيدة: مسرعين.
{ يوم عسر } لما يشاهدون من مخايل هوله وما يرتقبون من سوء منقلبهم فيه.
{ كذبت قبلهم } أي قبل قريش.
{ قوم نوح } وفيه وعيد لقريش وضرب مثل لهم ومفعول كذبت محذوف أي كذبت الرسل فكذبوا نوحا لما كانوا مكذبين بالرسل جاحدين للنبوة رأسا كذبوا نوحا لأنه عليه السلام من جملة الرسل وفي لفظ عبدنا تشريف وخصوصية بالعبودية كقوله:
ومآ أنزلنا على عبدنا
[الأنفال: 41].
{ وقالوا مجنون } أي هو مجنون لما رأوا الآيات الدالة على صدقه قالوا: هو مصاب الجن لم يقنعوا بتكذيبه حتى نسبوه إلى الجنون والظاهر أن قوله وازدجر إخبار من الله تعالى أي انتهروه وازدجروه بالسبب والتخويف.
{ أني مغلوب } أي غلبتي قومي فلم يسمعوا مني ويئست من إجابتهم لي.
{ فانتصر } أي فانتقم بعذاب تبعثه عليهم وإنما دعا عليهم بعدما يئس منهم وتفاقم أمرهم.
{ ففتحنآ } بيان أن الله تعالى انتصر فيهم وانتقم ومن العجب أنهم كانوا يطلبون المطر سنين فأهلكهم الله تعالى بمطلوبهم.
{ أبواب السمآء } جعل الماء كأنه آلة يفتح بها.
{ بماء منهمر } أي غزير شديد وانتصب عيونا على التمييز جعلت الأرض كلها كأنها عيون تنفجر وهو أبلغ من وفجرنا عيون الأرض.
{ على أمر قد قدر } في اللوح المحفوظ أنه يكون وهو هلاك قوم نوح بالطوفان ولذلك ذكر نجاة نوح عليه السلام بعدها في قوله:
{ وحملناه على ذات ألواح ودسر } والدسر المسامير التي تشد بها السفينة وذات الألواح هي السفينة.
{ بأعيننا } أي بمرأى منا.
{ جزآء لمن كان كفر } أي لنوح عليه السلام إذ كان نعمة أهداها الله تعالى إلى قومه لأن يؤمنوا فكفروها المعنى أن حمله في السفينة ومن آمن معه كان جزاء له على صبره على قومه المسيئين من السنين ومن كناية عن نوح عليه السلام ومعنى لمن كفر لمن جحدت نبوته والضمير في تركناها عائد على الفعلة والقصة.
{ فكيف كان عذابي ونذر } تهويل لما حل بقوم نوح من العذاب وإعظام له إذ قد استأصل جميعهم وقطع دابرهم فلم ينسل منهم أحد أي فكيف كان عاقبة إنذاري والنذر جمع نذير وهو الإنذار وفيه توقيف لقريش على ما حل بالمكذبين أمثالهم.
{ ولقد يسرنا } أي سهلنا.
{ القرآن للذكر } أي للاذكار والاتعاظ لما تضمنه من المواعظ والوعد والوعيد.
{ فهل من مدكر } أي من متعظ.
{ كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر } الآية الصرصر الريح الشديدة الصوت البارة.
{ تنزع الناس } يجوز أن تكون صفة للريح وأن تكون حالا منها لأنها وصفت فقربت من المعرفة وأن تكون مستأنفة وجاء الظاهر مكان المضمر ليشمل ذكورهم وإناثهم والجملة التشبيهية حال من الناس وهي حال مقدرة شبههم بإعجاز النخل المنقعر إذ تساقطوا على الأرض أمواتا وهم جثة عظام طوال والأعجاز الأصول بلا فروع قد انقلعت من مغارسها وقيل كانت الريح تقطع رؤوسهم فتبقي أجساما بلا رؤوس فأشبهت أعجاز النخل التي انقلعت من مغرسها وقرىء أبشرا بنصب بشرا على الاشتغال ونصب واحدا صفة له تقديره انتبع بشرا.
{ إنآ إذا } أي أن اتبعناه فنحن في ضلال أي بعد عن الصواب وحيرة.
{ وسعر } أي عذاب ثم زادوا عليه في الإنكار والاستبعاد.
فقالوا { أءلقي } أي أأنزل قيل وكأنه يتضمن العجلة في الفعل والعرب تستعمل هذا الفعل في العجلة والذكر هنا الوحي والرسالة وما جاء بهم من الحكمة والموعظة ثم قالوا ليس الأمر كما يزعم.
{ بل هو كذاب أشر } أي بطر يريد العلو علينا وفي قوله:
{ سيعلمون غدا } تهديد ووعيد ببيان انكشاف الأمر والمعنى أنهم هم الكاذبون الأشرون وأورد ذلك مورد الابهام والاحتمال وإن كانوا هم المعنيون.
{ إنا مرسلوا الناقة فتنة لهم } أي ابتلاء واختبارا وآنس بذلك صالحا ولما هددهم بقوله: سيعلمون غدا وكانوا قد ادعوا أنه كاذب قالوا ما الدليل على صدقك. قال الله تعالى: { إنا مرسلوا الناقة } ، أي مخرجوها من الهضبة التي سألوها.
{ فارتقبهم } أي فانتظرهم وتبصر ما هم فاعلون.
{ واصطبر } على أذاهم ولا تعجل حتى يأتي أمر الله تعالى.
{ ونبئهم أن المآء } أي ماء البئر التي لهم.
{ قسمة } لهم أي بين ثمود والناقة.
{ كل شرب محتضر } أي محضر لهم وللناقة.
[54.29-55]
{ فنادوا صاحبهم } وهو قدار بن سالف.
{ فتعاطى } هو مطاوع عاطى وكأن هذه الفعلة تدافعها الناس وعاطاها بعضهم بعضا فتعاطاها قدار وتناول العقر بيده ولما كانوا راضين نسب إليهم ذلك في قوله:
فعقروا الناقة
[الأعراف: 77] والصيحة التي أرسلت عليهم يروى أن جبريل عليه السلام وصاح في طرف منازلهم فتفتتوا وهمروا وصاروا.
{ كهشيم المحتظر } وهو ما تفتت من الشجر وتهشم والمحتظر الذي يعمل الحظيرة فإنه تفتت منه حالة العمل وتتساقط أجزاء مما يعمل به.
{ كذبت قوم لوط بالنذر } الآية تقدمت قصة لوط عليه السلام والحاصب من الحصباء وهو المعني بقوله
وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل
[الحجر: 74] وبسحر هو بكرة فلذلك صرف وانتصب نعمة على أنه مفعول من أجله أي أنجيناهم لإنعامنا عليهم.
{ كذلك نجزي } أي مثل ذلك الانعام والتزجية نجزي.
{ من شكر } أنعامنا وآمن وأطاع.
{ ولقد أنذرهم بطشتنا } أي أخذتنا لهم بالعذاب.
{ فتماروا } أي تشككوا وتعاطوا ذلك.
{ بالنذر } أي بالإنذار.
{ فطمسنآ } الطمس حقيقة جر جبريل عليه السلام جناحه على { أعينهم } فاستوت مع وجوههم.
{ فذوقوا } أي فقلت لهم على ألسنة الملائكة ذوقوا.
{ ولقد صبحهم } أي أول النهار وباكره كقوله تعالى:
مشرقين
[الحجر: 73] و
مصبحين
[الحجر: 83].
{ كذبوا بئاياتنا } هي التسع والتوكيد هناك في قوله:
ولقد أريناه آياتنا
[طه: 56]. والظاهر أن الضمير في كذبوا وفي فأخذناهم عائد على آل فرعون.
{ فأخذناهم أخذ عزيز } لا يغالب.
{ مقتدر } لا يعجزه شىء وهو كناية عنه تعالى.
{ أكفاركم } خطاب لأهل مكة.
{ خير من أولئكم } وقفهم على توبيخهم أي ليس كفاركم خيرا من أولئكم بل هم مثلهم أو شر منهم.
{ أم لكم برآءة في الزبر } أي ألكم في الكتب الإلهية برءاة من عذاب الله.
{ أم يقولون } الآية، أي بجماعتنا واثقون متنصرون بقوتنا.
{ سيهزم الجمع } خطاب للرسول عليه السلام والدبر هنا إسم جنس وحسن اسم جنس هنا كونه فاصلة.
{ بل الساعة موعدهم } انتقل من تلك الأقوال إلى أمر الساعة التي عذابهم أشد عليهم من كل هزيمة وقتال.
{ والساعة أدهى وأمر } أي أفظع وأشد والداهية الأمر المنكسر الذي لا يهتدي لدفعه وهي الرزية العظمى التي تحل بالشخص وأمر من المرارة استعارة لصعوبة الشىء على النفس.
{ إن المجرمين في ضلال } أي في حيرة وتحبط في الدنيا { وسعر } أي احتراق في الآخرة جعلوا فيه من حيث أن مصيرهم إليه { يوم يسحبون } يجرون.
{ في النار على وجوههم ذوقوا } أي ميولا لهم ذوقوا { مس سقر } وسقر لا ينصرف للتأنيث المجازى والعلمية وهو اسم من أسماء جهنم.
{ كل شيء } منصوب على الاشتغال أي خلقنا كل شىء بقدر أي مقدور لله تعالى كما جاء في الحديث
" أن تؤمن بالقدر خيره وشره ".
{ ومآ أمرنآ } إلا كلمة.
{ واحدة } وهي كن.
{ كلمح بالبصر } تشبيه بأعجل ما يحس.
{ ولقد أهلكنآ أشياعكم } أي الفرق المتشائعة في مذهب ودين.
{ وكل شيء فعلوه } أي فعلته الأمم المكذبة محفوظ عليهم إلى يوم القيامة.
قاله ابن عباس: ومعنى في الزبر في دواوين الحفظة.
{ وكل صغير وكبير } من الأعمال ومن كل ما هو كائن.
{ مستطر } أي مسطور في اللوح يقال سطرت واستطرت بمعنى واحد. وقرىء: ونهر على الأفراد والمراد به الجنس وحسنه كونه جاء فاصلة وقرىء في مقعد على الأفراد ويراد به إسم الجنس وقرىء في مقاعد على الجمع وعند تدل على تقريب المكانة منه تعالى.
[55 - سورة الرحمن]
[55.1-39]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * الرحمن * علم القرآن } هذه السورة مكية في قول الجمهور وسبب نزولها أنه لما نزل وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا: ما نعرف الرحمن، فنزلت ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر مقر المجرمين في ضلال وسعر ومقر المتقين في جنات ونهر ذكر شيئا من آثار الملك والقدرة ثم ذكر مقر الفريقين على جهة الإسهاب إذا كان في آخر السورة ذكره على جهة الاختصار والإيجاز ولما ذكر قوله
عند مليك مقتدر
[القمر: 55] فأبرز هاتين الصفتين بصورة التنكير فكأنه قيل من المتصف بذلك فقال: " الرحمن علم القرآن " فذكر ما نشأ عن صفة الرحمة وهو تعليم القرآن الذي هو شفاء للقلوب والظاهر أن الرحمن مرفوع على الابتداء وعلم القرآن خبره ولما ذكر تعليم القرآن ولم يذكر المعلم ذكره بعد في قوله: { خلق الإنسان } ليعلم أنه هو المقصود بالتعليم ولما كان خلقه من أجل الدين وتعليمه القرآن كان كالسبب في خلقه فقدم على خلقه ثم ذكر تعالى الوصف الذي يتميز به الإنسان من المنطق المفصح عن الضمير والذي به يمكن قبول التعليم وهو البيان ألا ترى أن الأخرس لا يمكن أن يتعلم شيئا مما يدرك بالنطق المفصح عن الضمير والذي به يمكن قبول التعليم وهو الباري ولما ذكر تعالى ما أنعم به الإنسان من تعلميه البيان ذكر ما امتن به وجود الشمس والقمر وما فيها من المنافع العظيمة للإنسان إذ هما يجريان على حساب معلوم وتقدير سوي في بروجهما ومنازلهما والحسبان مصدر كالغفران وهو بمعنى الحساب وارتفع الشمس على الابتداء وخبره بحسبان فاما على حذف أي جري الشمس والقمر كائن بحسبان ولما ذكر ما به حياة الأرواح من تعليم القرآن ذكر ما به حياة الأشباح من النبات الذي لا ساق له والنبات الذي له ساق وكان تقديم النجم وهو ما لا ساق له لأنه أصل القوت والذي له ساق ثمره يتفكه به غالبا ولما أوردت هذه الجمل مورد تعديد النعم رد الكلام إلى العطف في وصل ما يناسب وصله والتناسب الذي بين هاتين الجملتين ظاهر لأن الشمس والقمر علويان والنجم والشجر سفليان.
{ والسمآء رفعها } أي خلقها مرفوعة حيث جعلها مصدر قضاياه ومسكن ملائكته الذين ينزلون بالوحي على أنبيائه عليهم السلام ونبه بذلك على عظم شأنه وملكه والسماء نصب على الاشتغال روعي مشاكلة الجملة التي تليه وهي يسجدان.
{ ووضع الميزان } الظاهر أن كل ما توزن به الأشياء ويعرف مقاديرها وان اختلفت أشكال الآلات بدأ أولا بالعلم فذكر ما فيه أشرف أنواع العلوم وهو القرآن ثم ذكر ما به التعديل في الأمور وهو الميزان لقوله:
وأنزلنا معهم الكتاب والميزان
[الحديد: 25].
{ ألا تطغوا في الميزان } أي لأن لا تطغوا فتطغوا منصوب بأن وقال الزمخشري: أو هي أن المفسرة وقال ابن عطية ويحتمل أن تكون أن مفسرة فيكون تطغوا جزما بالنهي " انتهى ". ولا يجوز ما قالاه من أن مفسرة لأنه فات أحد شرطيها وهو أن يكون ما قبلها جملة فيها معنى القول ووضع الميزان ليس جملة فيها معنى القول والطغيان في الميزان هو أن يكون بالتعمد واما ما لا يقدر عليه من التحرير بالميزان فمعفو عنه ولما كانت التسوية مطلوبة جدا أمر تعالى فقال:
{ وأقيموا الوزن بالقسط } وقرأ الجمهور ولا تخسروا من أخسر أي أفسد ونقص كقوله تعالى:
وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون
[المطففين: 3]. أي ينقصون وكرر لفظ الميزان تشديدا للتوصية به وتقوية للأمر باستعماله والحث عليه ولما ذكر السماء ذكر مقابلها فقال:
{ والأرض وضعها للأنام } أي خفضها مدحوة على الماء لينتفع بها والأنام الخلق.
{ فيها فاكهة } ضروب مما يتفكه به وبدأ بقوله فاكهة إذ هو من باب الابتداء بالأدنى والترقي إلى الأعلى ونكر لفظها لأن الإنتفاع بها دون الانتفاع بما يذكر بعدها ثم ثنى بالنخل فذكر الأصل ولم يذكر ثمرها وهو الثمر لكثرة الانتفاع بها من ليف وسعف وجريد وجذوع وجمار وثمر، ثم أتى ثالثا بالحب الذي هو قوام عيش الإنسان في أكثر الأقاليم وهو البر والشعير وكل ما له سنبل وأوراق مشعبة على ساقه ووصفه بقوله: ذو العصف تنبيها على انعامه عليهم بما يقوتهم به من الحب ويقوت بهائمهم من ورقه وهو التبن وبدأ بالفاكهة وختم بالمشموم وبينهما النخل والحب وليحصل ما به يتفكه وما به يتقوت وما به تقع اللذاذة من الرائحة الطيبة وذكر النخل باسمها والفاكهة دون شجرها لعظم المنفعة بالنخل من جهات متعددة وشجرة الفاكهة بالنسبة إلى ثمرتها حقيرة فنص على ما يعظم به الانتفاع من شجرة النخل ومن الفاكهة دون شجرها.
{ فبأي آلاء ربكما } خطاب للثقلين والآلاء النعم ولما خاطب الثقلين ذكر أصلهما فقال: { خلق الإنسان }.
{ من صلصال } وهو آدم عليه السلام.
{ وخلق الجآن } وهو إبليس والمارج المختلط ومن الأولى لابتداء الغاية والثانية في من نار للتبعيض.
{ رب المشرقين } خبر مبتدأ محذوف تقديره هو رب وعن ابن عباس للشمس مشرق في الصيف مصعد ومشرق في الشتاء منحدر تنتقل فيهما مصعدة ومنحدرة والمغربان مغرب الشفق ومغرب الشمس.
{ مرج البحرين } تقدم في الفرقان والظاهر التقاؤهما أي يتجاوران بلا فصل بينهما في رؤية العين.
{ بينهما برزخ } أي حاجز من قدرة الله تعالى.
{ لا يبغيان } لا يتجاوزان حديهما ولا يبغي أحدهما على الآخر بالمماجره.
{ يخرج منهما } قال الجمهور: إنما يخرج من الاجاج في المواضع التي تقع فيها الأنهار والمياه العذبة فناسب إسناد ذلك إليهما وهذا مشهور عند الغواصين وقال ابن عباس وعكرمة: تكون هذه الأشياء في البحر بنزول المطر لأن الصدف وغيرها تفتح أفواهها للمطر فلذلك قال منهما اللؤلؤ وقيل هما بحران يخرج من أحدهما اللؤلؤ ومن الآخر المرجان واللؤلؤ كبار الجوهر والمرجان إسم أعجمي معرب والجواري السفن.
{ كالأعلام } كالجبال شبهها بالجبال وعبر بمن في قوله.
{ كل من عليها فان } تغليبا لمن يعقل والضمير في عليها قيل عائد على الأرض وقد تقدم ذكرها والغناء عبارة عن إعدام جميع الموجودات من حيوان وغيره والوجه يعبر به عن حقيقة الشىء، والجارحة منفية عن الله تعالى والظاهر أن الخطاب في قوله: وجه ربك للرسول عليه السلام وفيه تشريف عظيم له عليه السلام فمعنى ذو الجلال الذي يجله الموحدون عن التشبيه بخلقه وعن أفعالهم والاكرام للمخلصين من عباده.
{ يسأله من في السموت والأرض } حوائجهم وما يتعلق بمن في السماوات من أمر الدين وما استعبدوا به ومن في الأرض من أمر دينهم ودنياهم والظاهر أن قوله يسأله استئناف أخبار.
{ كل يوم } أي كل ساعة ولحظة وذكر اليوم لأن الساعات واللحظات في ضمنه.
{ هو في شأن } قال ابن عباس: في شان يمضيه من الخلق والرزق والاحياء والاماتة وانتصب كل يوم على الظرف والعامل فيه العامل في قوله في شأن وهو مستقر المحذوف نحو يوم الجمعة زيد قائم.
{ سنفرغ لكم أيه الثقلان } أي ننظر في أموركم يوم القيامة لا أنه تعالى كان له شغل فهو يفرغ منه وجرى هذا على كلام العرب في أن المعنى سنقصد لحسابكم فهو استعارة من قول الرجل لمن يتهدده سأفرغ لك أي سأتجرد للإيقاع بك من كل ما يشغلني عنه حتى لا يكون لي شغل سواه والمراد التوفر على الانتقام منه والظاهر أن قوله يا معشر الآية خطاب من الله تعالى إياهم يوم القيامة وقوله:
{ يمعشر } كالترجمة لقوله ايه الثقلان.
{ إن استطعتم } أن تهربوا من قضائي وتخرجوا عن ملكوتي ومن سمائي وأرضي فافعلوا ثم قال لا تقدرون على النفوذ.
{ إلا بسلطان } يغني بقوة وغلبة وأنى لكم ذلك ونحوه وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وفانفذوا أمر تعجيز.
{ يرسل عليكما } قال ابن عباس: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر والشواظ لهب النار والنحاس الصفر المعروف.
{ فإذا انشقت السمآء } جواب إذا محذوف تقديره فما أعظم الهول وانشقاقها انفطارها يوم القيامة.
{ فكانت وردة } أي محمرة كالوردة وقال ابن عباس: كالدهان كالأديم الأحمر.
{ فيومئذ } التنوين فيه للعوض من الجملة المحذوفة والتقدير فيوم إذا انشقت والناصب ليومئذ لا يسأل ودل هذا على انتفاء السؤال ووقفوهم أنهم مسؤولون وغيرها من الآيات على وقوع السؤال وقيل هي مواطن يسأل في بعضها وسيماهم سواد الوجوه وزرقة العيون والبكم والعمى والصم.
[55.40-78]
{ فيؤخذ بالنواصي والأقدام } قال ابن عباس: يؤخذ بناصيته وقدميه فيطوى ويجمع كالحطب ويلقى كذلك في النار ويؤخذ مبني للمفعول والجار والمجرور في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله.
{ هذه جهنم } أي يقال لهم ذلك على طريق التوبيخ والتقريع.
{ يطوفون بينها } أي يترددون بين نارها وبين ما غلا منها من مائع عذابها وآن أي منتهى الحر والنضج فيعاقب بينهم بين تصلية النار وبين شرب الحميم.
{ ولمن خاف مقام ربه جنتان } مقام مصدر فاحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل أي قيام ربه عليه والظاهر أن لكل فرد من الخائفين جنتان.
{ ذواتآ أفنان } أي صاحبتا أغصان وهي الغصون التي تتشعب من فروع الشجرة لأنها هي التي تورق وتثمر فمنها تمتد الظلال ومنها تحبى الثمار وذات مؤنث ذا بمعنى صاحب فكان القياس أن يقال ذاتا أفنان فردت عين الكلمة وهي الواو فقيل ذواتا أفنان وهو أفصح من ذاتا.
{ فيهما عينان تجريان } قيل بالماء الزلال أحدهما التسنيم والأخرى السلسبيل.
{ من كل فاكهة زوجان } قال ابن عباس: ما في الدنيا من شجرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة حتى شجر الحنظل إلا أنه حلو.
{ متكئين } نصب على الحال والعامل فيه محذوف تقديره يتنعمون والاتكاء من صفات المتنعم الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب والمعنى متكئين في منازلهم.
{ على فرش } واستبرق تقدم الكلام عليه.
{ وجنى الجنتين دان } قال ابن عباس يجتنيه قائما وقاعدا ومضطجعا لا يرد يده بعد ولا شوك والضمير في فيهن عائد على الجنان الدال عليهن جنتان إذ كل فرد له جنتان فصح أنها جنان كثيرة والظاهر أن قاصرات الطرف هي اللواتي يقصرن أنفسهن وأعينهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم.
{ لم يطمثهن } قال ابن عباس: أي لم يفتضهن قبل أزواجهن أحد والضمير في قبلهم عائد على ما دل عليه الضمير في متكئين.
{ كأنهن الياقوت والمرجان } وهي من الأشياء التي برع حسنها فشبههن بهما فيما يحسن التشبيه به فالياقوت في أملاسه وشغوفه والمرجان في املاسه وجمال منظره وسمت العرب بذلك.
{ ومن دونهما } أي من دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر.
{ جنتان } لأصحاب اليمين والأوليان هما للسابقين والأخريان للتابعين.
{ مدهآمتان } أي كثيرة الاخضرار ولكثرة ذلك أشبهتا الدهمة وهي السواد.
{ نضاختان } أي يسيلان قليلا قليلا بخلاف الجري.
{ فيهما فاكهة } تشتمل سائر الفواكه وهي نكرة في سياق الاثبات لا يراد بها واحدة من الفواكه.
{ ونخل ورمان } تجريد من الفاكهة لشرفهما كما قال تعالى:
وملائكته ورسله وجبريل وميكل
[البقرة: 98].
{ فيهن خيرات حسان } جمع خيرة وهي المنتهية في الخير.
{ حور } جمع حوراء والحور شدة سواد العين وشدة البياض فيه.
و { مقصورات } ممتنعات غير مبتذلة.
{ في الخيام } جمع خيمة وهي بيوت اللؤلؤ في الجنة.
{ على رفرف } قال ابن عباس وغيره: فضول المجلس والبسط.
{ وعبقري } قال الحسن بسط حسان: فيها صور وغير ذلك تصنع بعبقر بلده ولما ختم تعالى نعم الدنيا بقوله:
ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام
[الرحمن: 27]. ختم نعم الآخرة بقوله تبارك: { اسم ربك ذي الجلال والإكرام }. وناسب هنالك ذكر البقاء والديمومة له تعالى إذ ذكر فناء العالم وناسب هنا ذكر ما اشتق من البركة وهي النمو والزيادة إذ جاء ذلك عقب ما امتن به على المؤمنين وما آتاهم في دار كرامته من الخير وزيادته وديمومته ويا ذا الجلال والإكرام من الصفات التي جاء في الحديث: أن يدعي الله تعالى بها قال صلى الله عليه وسلم:
" ألظوا بياذ الجلال والإكرام ".
وقرىء: ذو الجلال صفة لإسم وذي الجلال صفة لربك.
[56 - سورة الواقعة]
[56.1-56]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * إذا وقعت الواقعة } الآية هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر ما آل إليه الثقلان من عذاب ونعيم ذكر ذلك هنا مفصلا للسابقين المقربين وأصحاب اليمين والمكذبين الضالين والواقعة والأزقة والطامة من أسماء الساعة فقوله وقعت الواقعة أي وقعت التي لا بد من وقوعها كما تقول حدثت الحادثة وكانت الكائنة ووقوع الأمر نزوله يقال وقع ما كنت أتوقعه أي نزل ما كنت أترقب نزوله والعامل في إذا الفعل بعدها على ما قررناه في كتب النحو فهي في موضع نصب بوقعت كسائر أسماء الشرط.
قال الزمخشري: فإن قلت بم انتصب إذا قلت بليس كقولك يوم الجمعة ليس لي شغل أو بمحذوف يعني إذا وقعت كان كيت وكيت أو بإضمار أذكر " انتهى ".
أما نصبها بليس فلا يذهب نحوي ولا من شد أشيأ من صناعة الاعراب إلى مثل هذا لأن ليس في النفي كما وما لا تعمل فكذلك ليس وذلك أن ليس مسلوبة الدلالة على الحدث والزمن والقول بأنها فعل هو على سبيل المجاز لأن حد الفعل لا ينطبق عليها والعامل في الظرف إنما هو ما يقع فيه من الحدث فإذا قلت يوم الجمعة أقوم فالقيام في يوم الجمعة واقع ليس لأحدث لها فكيف يكون لها عمل في الظرف والمثال الذي شبه به وهو يوم الجمعة ليس لي شغل لا يدل على أن يوم الجمعة منصوب بالعامل في خبر ليس والجار والمجرور فهو من تقديم معمول الخبر على ليس وتقديم ذلك مبني على جواز تقدم الخبر الذي لليس عليها وهو مختلف فيه ولم يسمع من العرب قائما ليس زيد وليس إنما تدل على نفي الحكم الخبري عن المحكوم عليه فقط فهي كما لكنه لما اتصلت بها ضمائر الرفع جعلها ناس فعلا وهي في الحقيقة حرف نفي كما النافية ويظهر من تمثيل الزمخشري إذا بقوله يوم الجمعة أنه سلبها الدلالة على الشرط الذي هو غالب فيها ولو كانت شرطا وكان الجواب الجملة المصدرة بليس لزمت الفاء لأن أن حذفت في شعر أن ورد ذلك فتقول إذا أحسن إليك زيد فلست تترك مكافأته ولا يجوز لست بغير فاء إلى أن اضطر إلى ذلك وأما تقديره إذا وقعت كان كيت كيت فيدل على أن عنده شرطية ولذلك قدر لها جوابا عاملا فيها وأما قوله أو بإضمار أذكر فإنه سلبها الظرفية وجعلها مفعولا بها منصوبة باذكر.
و { كاذبة } ظاهره أنها إسم فاعل من كذب وهو صفة لمحذوف فقدره الزمخشري نفس كاذبة والذي يظهر أنها جملة اعتراض بين الشرط وجوابه وقرىء.
{ خافضة رافعة } برفعهما على تقدير هي ونصبهما على الحال.
{ إذا رجت } قال ابن عباس زلزلت وحركت بعنف.
{ وبست } فتتت وإذا رجت بدل من إذا وقعت وجواب الشرط عندي ملفوظ به وهو قوله: فأصحاب الميمنة والمعنى إذا كان كذا فأصحاب الميمنة ما أسعدهم وما أعظم ما يجازون به أي إن سعادتهم وعظم رتبتهم عند الله تعالى تظهر في ذلك الوقت الشديد الصعب وعلى العالم.
وقال الزمخشري: ويجوز أن ينتصب بخافضة رافعة أن تخفض وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال لأنه عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع ويرتفع ما هو منخفض " انتهى ".
ولا يجوز أن ينصب بها معا بل بأحدهما لأنه لا يجمع مؤثران على أثر واحد وقال ابن جني وأبو الفضل الرازي إذا رجت في موضع رفع على أنه خبر للمبتدأ الذي هو إذا وقعت وليست واحدة منهما شرطية بل جعلت بمعنى وقت وما بعد إذا أحوال ثلاثة والمعنى وقت وقوع الواقعة صادقة الوقوع خافضة قوم رافعة آخرين وقت رج الأرض وهكذا ادعى ابن مالك أن إذا تكون مبتدأ واستدل بهذا وقواه وقد ذكرتا في شرح التسهيل ما تبقى به إذا على مدلولها من الشرط.
{ وكنتم } خطاب للعالم.
{ أزواجا } أصنافا.
{ ثلاثة } وهذه رتب الناس يوم القيامة.
{ فأصحاب } مبتدأ وما مبتدأ ثان استفهام في معنى التعظيم وأصحاب الميمنة خبر عن ما وما بعدها خبر عن أصحاب وربط الجملة هنا بالمبتدأ تكرار المبتدأ بلفظه وأكثر ما يكون ذلك في موضع التهويل والتعظيم واعراب أصحاب المشأمة كذلك.
{ والسابقون } في أعمال الخيرات.
{ السابقون } إلى الجنة والجملة مبتدأ وخبر ويجوز أن يكون السابقون توكيدا للأول ويكون خبر المبتدأ الجملة التي هي إسم إشارة وما بعدها وهو قوله:
{ أولئك المقربون } والثلة الجماعات قلت أو كثرت والمراد بها في الآية الجماعة الكثيرة لمقابلها في قوله.
{ وقليل من الآخرين } وارتفع ثلة على اخمارهم وفي الحديث
" الفرقتان في أمتي فسابق في أول الأمة ثلة وسابق سائرها إلى يوم القيامة قليل ".
{ موضونة } والموضونة المنسوجة بتركيب بعض أجزائها على بعض كحلق الدرع وقال عكرمة مشبكة بالدر والياقوت.
{ متكئين عليها } أي على السرر ومتكئين حال من الضمير المستكن في على سرر.
{ متقابلين } ينظر بعضهم إلى بعض وصفوا بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق وصفاء بواطنهم.
{ ولدان } صغار الخدم.
{ مخلدون } وصفوا بالخلد وهو البقاء على حالهم من الصغر لا يكبرون وقيل مقرطون بالخلدات وهي ضروب من الاقراط.
{ معين } قال ابن عباس من خمر سائلة جارية معينة.
{ لا يصدعون عنها } لا يلحق رؤوسهم الصداع الذي يلحق من خمر الدنيا.
{ ولا ينزفون } أي لا يفزع خمرهم من نزف البئر استفرغ ماءها وقرىء.
{ وحور } بالرفع على تقدير ولهم حور وبالجر عطفا على المجرورات قبله والمعنى أن الولدان يطوفون عليهم بالحور العين ووصف اللؤلؤ بالمكنون لأنه أصفى وأبعد من التغير وفي الحديث
" صفاؤهن كصفاء الدر الذي لا تمسه الأيدي ".
{ بما كانوا يعملون } روي أن المنازل تقسم في الجنة على قدر الأعمال ونفس دخول الجنة هو بفضل الله ورحمته لا بعمل عامل وفي النص الصحيح الصريح
" لا يدخل أحد الجنة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله قال: " ولا أنا إلا أن يتغمدني منه بفضل ورحمة " ".
واللغو سقط القول وفحشه والتأثيم ما يؤثم به أن لا يؤثم فيها أحد والظاهر أن الا قيلا سلاما استثناء منقطع لأنه لم يندرج في اللغو ولا التأثيم.
{ في سدر } في الجنة شجرة على خلقة السدر له ثمر كقلال هجر طيب، الطعم والريح.
{ مخضود } عار من الشوك.
{ وطلح } قال مجاهد هو الموز والمنضود الذي نضد من أسفله إلى أعلاه فليست له ساق تظهر.
{ وظل ممدود } أي منبسط لا يتقلص ولا ينسخه شىء.
{ ومآء مسكوب } جار في غير أخاديد.
{ لا مقطوعة } أي هي دائمة لا تنقطع في بعض الأوقات كفاكهة الدنيا.
{ ولا ممنوعة } أي لا تمنع من تناولها بوجه ولا يحظر عليها كالتي في الدنيا.
{ وفرش } جمع فرش.
{ مرفوعة } نضرت حتى ارتفعت أو رفعت على الأسرة والظاهر أن الفراش هو ما يفرش للجلوس عليه والنوم والضمير في أنشأنا عائد على الفرش في قول أبي عبيدة إذ هن النساء عنده وعلى ما دل عليه الفرش إذا كان المراد بالفرش ظاهر ما يدل عليه من الملابس التي نفترش ويضطجع عليها أي ابتدأنا خلقهن ابتداءا جديدا من غير ولادة والظاهر أن الإنشاء هو الاختراع الذي لم يسبق بخلق مثله ويكون ذلك مخصوصا بالحور اللاتي لسن من نسل آدم عليه السلام.
{ أبكارا } قيل دائمات البكارة كلما وطئن وجدن أبكارا والعروب قال ابن عباس: المتحببة إلى زوجها.
{ أترابا } في الشكل والقد والسن.
{ ثلة من الأولين } أي من الأمم الماضية.
{ وثلة من الآخرين } أي من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ولا تنافي بين قوله وثلة من الآخرين وقوله قبل وقليل من الآخرين لأن قوله وقليل من الآخرين هو في السابقين وقوله وثلة من الآخرين هو في أصحاب اليمين.
{ وأصحاب الشمال مآ أصحاب الشمال } في هذا الاستفهام تعظيم مصابهم.
{ في سموم } في أشد حر.
{ وحميم } ماء شديد السخونة.
{ وظل من يحموم } اليحموم الأسود البهيم.
{ لا بارد ولا كريم } صفتان للظل نفيتا سمي ظلا وإن كان ليس كالظلال ونفى عنه برد الظل ونفعه لمن يأوى إليه.
{ ولا كريم } تتميم لنفي صفة المدح عنه وتمحيق لما يتوهم في الظل من الاسترواح إليه عنده شدة الحر أو نفيا لكرامة من يستروح إليه.
{ ثم إنكم } خطاب لكفار قريش.
{ أيها الضآلون } عن الهدى.
{ المكذبون } للبعث.
{ لأكلون } من الأولى لابتداء الغاية أو للتبغيص والثانية ان كان من زقوم بدلا فمن تحتمل الوجهين وإن لم يكن بدلا فهي لبيان الجنس أي من شجر الذي هو زقوم.
{ فمالئون } الضمير في.
{ منها } عائد على شجر إذ هو إسم جنس يؤنث ويذكر.
{ فشاربون عليه } ذكر على لفظ الشجر كما أنث على المعنى في منها.
{ الهيم } جمع أهيم وهيماء والهيام داء معطش يصيب الإبل تشرب حتى تموت أو تسقم سقما شديدا؟
{ يوم الدين } أي يوم الجزاء.
[56.57-96]
{ نحن خلقناكم } حض على التصديق أشار إلى النشأة الأولى وهي خلقهم ثم قال:
{ فلولا تصدقون } بالإعادة وتقرون بها كما أقررتم بالنشأة الأولى.
{ أفرأيتم ما تمنون } هو من المنى الذي يخرج من الإنسان إذ ليس له في خلقه عمل ولا إرادة ولا قدرة ومفعول أرأيتم هو ما يليه والثاني جملة الاستفهام بعده وأم معادلة للهمزة وكان ما جاء من الخبر بعد نحن جيء به على سبيل التوكيد إذ لو قال أم نحن لوقع الاكتفاء به دون ذكر الخبر ونظير ذلك الجواب من قال من في الدار زيد في الدار أو زيد فيها ولو اقتصر في الجواب على زيد لا أكتفي به.
{ نحن قدرنا } أي قضيتنا وأثبتنا أو ربتنا في التقدم والتأخر فليس موت العالم دفعة واحدة بل بترتيب لا يتعدى.
{ بمسبوقين } يقال سبقته على الشىء أعجزته عنه وغلبته عليه.
{ وننشئكم في ما لا تعلمون } من الصفات أي نحن قادرون على أن نعدمكم وننشىء أمثالكم وعلى تغيير أوصافكم مما لا يحيط به فكركم ولقد علمتم أنه هو الذي أنشأكم أولا إنسانا وأنه خلق آدم عليه السلام من طين ولا ينكرها أحد من ولده.
{ فلولا تذكرون } حض على التذكر المؤدي إلى الإيمان والإقرار بالنشأة الآخرة.
{ أفرأيتم ما تحرثون } ما تذرونه وتبذرونه في الأرض.
{ ءأنتم تزرعونه } أي زرعا يتم وينبت حتى ينتفع به والحطام اليابس المفتت الذي لم يكن له حب ينتفع به.
{ فظلتم } أصله فظلتم حذفت عين الكلمة.
{ تفكهون } قال ابن عباس: معناه تعجبون.
{ لمغرمون } أي معذبون من الغرام الذي هو أشد العذاب.
{ بل نحن محرومون } أي محدودون لا حظ لنا في الخير.
{ المآء الذي تشربون } هذا الوصف يغني عن وصفه بالعذب ألا ترى مقابله هو الاجاج ودخلت اللام في لجعلناه حطاما. وسقطت في جعلناه أجاجا وكلاهما فصيح والظاهر أن قوله:
{ شجرتهآ } المراد منه الشجر الذي يقدح منه النار كما قال تعالى:
الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا
[يس: 80] الآية.
{ تذكرة } أي لنار جهنم.
{ ومتاعا للمقوين } أي النازلين الأرض القوا وهي القفر وقدم من فوائد النار ما هو أهم وآكد من تذكيرها بنار جهنم ثم اتبعه بفائدتها في الدنيا وهي الأربعة التي ذكرها الله تعالى ووقفهم عليها من أمر خلقهم وما به قوام عيشهم من المطعوم والمشروب والنار من أعظم الدلائل على البعث إذ فيها انتقال من شىء إلى شىء وإحداث شىء من شىء ولذلك أمر في آخرها بتنزيهه تعالى عما يقول الكافرون ووصف تعالى نفسه بالعظم إذ من هذه أفعاله تدل على عظمته وكبريائه وانفراده بالخلق والإنشاء.
{ فلا أقسم بمواقع النجوم } قرأ الجمهور فلا أقسم فقيل لا زائدة مؤكدة مثلها في قوله لئلا يعلم أهل الكتاب والمعنى فأقسم وقيل المنفي محذوف أي فلا صحة لما يقول الكفار ثم ابتدأ أقسم بمواقع النجوم قال ابن عباس هي نجوم القرآن التي أنزلت على الرسول عليه السلام ويؤيد هذا القول انه لقرآن فعاد الضمير على ما يفهم من قوله: { بمواقع النجوم } أي نجوم القرآن وفي إقسامه تعالى بمواقع النجوم سر في تعظيم ذلك لا نعلمه نحن وقد أعظمه تعالى فقال:
{ وإنه لقسم لو تعلمون عظيم } والجملة المقسم عليها قوله:
{ إنه لقرآن كريم } وفصل بين القسم وجوابه فالظاهر أنه اعتراض بينهما وفيه اعتراض بين الصفة والموصوف بقوله: { لو تعلمون } وكريم وصف مدح ينفي عنه ما لا يليق والظاهر أن قوله:
{ لا يمسه إلا المطهرون } صفة لقرآن كريم فالمطهرون هم الملائكة وقيل لا يمسه صفة لكتاب مكنون فإن كان الكتاب الذي هو في السماء فالمطهرون هم الملائكة أيضا أي لا يطلع عليه من سواهم والإشارة في.
{ أفبهذا الحديث } للقرآن.
و { أنتم } خطاب للكفار.
{ مدهنون } قال ابن عباس مهاودون فيما لا يحل.
{ وتجعلون رزقكم } أي شكر ما رزقكم أي شكر ما رزقكم الله تعالى من إنزال القرآن عليكم تكذيبكم به أي تضعون مكان الشكر التكذيب.
{ فلولا إذا بلغت الحلقوم } ترتيب الآية فلولا ترجعونها إذا بلغت الحلقوم إن كنتم غير مدينين وفلولا الثانية مكررة للتوكيد والضمير في ترجعونها للنفس.
{ فأمآ إن كان } أي المتوفى.
{ من المقربين } وهم السابقون.
{ فروح } وهو الراحة والرحمة والريحان الرزق.
{ فسلام لك } يا صاحب اليمين من إخوانك أصحاب اليمين أي يسلمون عليك.
{ فنزل } النزل ما يعد للضيف والفاء في المواضع الثلاثة جواب لا ما وأغنى عن جواب الشرط الذي هو ان وإذا اجتمع شرطان فالجواب للأول ويغني عن جواب الثاني ولما انقضى الإخبار بتقسيم أحوالهم وما آل إليه كل قسم منهم أكد ذلك بقوله:
{ إن هذا } أي أن هذا الخبر المذكور في هذه السورة.
{ لهو حق اليقين } فقيل هو من إضافة المترادفين على سبيل المبالغة كما تقول هذا يقين اليقين وصواب الصواب بمعنى أنه نهاية في ذلك فهما بمعنى واحد أضيف على سبيل المبالغة ولما تقدم ذكر الأقسام الثلاثة مسهبا الكلام فيهم أمره تعالى بتنزيهه عما لا يليق به من الصفات ولما أعاد التقسيم موجزا الكلام فيه أمره أيضا بتنزيهه والإقبال على عبادة ربه والإعراض عن أقوال الكفرة المنكرين للبعث والحساب والجزاء ويظهر أن سبح يتعدى بنفسه تارة كقوله:
سبح اسم ربك الأعلى
[الأعلى: 1] وتسبحوه وتارة بحرف الجر كقوله: { فسبح باسم ربك } والعظيم يجوز أن يكون صفة لربك.
[57 - سورة الحديد]
[57.1-16]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * سبح لله ما في السموت والأرض } الآية هذه السورة مدنية بإجماع المفسرين قاله النقاش وقال غيره كالزمخشري هي مكية ومناسبتها لآخر ما قبلها واضحة لأنه تعالى أمر بالتسبيح ثم أخبر أن التسبيح المأمور به قد فعله والتزمه كل من في السماوات والأرض وأتى سبح بلفظ الماضي ويسبح بلفظ المضارع وكله يدل على الديمومة والاستمرار.
{ آمنوا بالله ورسوله } لما ذكر تعالى تسبيح العالم له وما احتوى عليه من الملك والتصرف وما وصف به نفسه من الصفات العلا وختمها بالعلم بخفيات الصدور أمر تعالى عباده المؤمنين بالثبات على الإيمان وإدامته والنفقة في سبيل الله تعالى، قال الضحاك: نزلت في غزوة العمرة غزوة تبوك.
{ مستخلفين فيه } أي ليست لكم بالحقيقة وإنما انتقلت إليكم من غيركم وكما وصلت إليكم تتركونها لغيركم وفيه تزهيد فيما بيد الإنسان إذ مصيره إلى غيره وليس له منه إلا ما في الحديث
" يقول ابن آدم: مالي، مالي وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأبقيت "
وفي لفظ فأمضيت.
{ وما لكم } استفهام على سبيل التأنيث والإنكار وهو مبتدأ ولكم الخبر.
{ لا تؤمنون } جملة حالية والواو في والرسول واو الحال وفي وقد أخذوا والحال وقرىء أخذ مبنيا للفاعل والمفعول والمعنى أن من اتصف بهذه الأحوال يجب أن يؤمن ويديم الإيمان والميثاق الذي أخذ قيل انه أخذه الله تعالى حين استخرج من ظهر آدم عليه السلام ذريته وأشهدهم على أنفسهم وجواب إن كنتم محذوف أي فدوموا على الإيمان .
{ وما لكم ألا تنفقوا } إستفهام ثان على معنى الإنكار وإن لا تنفقوا مصدر على إسقاط حرف الجر تقديره في عدم الإنفاق والواو في ولله واو الحال ومقابل قوله لا يستوي منكم من أنفق محذوف يدل عليه ما بعده تقديره ومن أنفق من بعده الفتح وقاتل ثم أثنى على من فعل ذلك قبل الفتح ثم قال:
{ وكلا وعد الله الحسنى } أي كلا من المنفقين وهو منصوب على أنه مفعول أول بقوله: " وعد والحسنى " مفعول ثان وهي قراءة الجمهور بالنصب وقرأ ابن عامر: وكل بالرفع على أنه مبتدأ وخبره الجملة بعده حذف منه المفعول وهو الضمير العائد على كل تقديره وعده الله تعالى ونظير ذلك قول الشاعر:
وخالد تحمد ساداتنا
بالحق لا تحمد بالباطل
تقديره تحمده سادتنا فحذف الضمير العائد على المبتدأ والظاهر أن قوله: { وله أجر كريم } هو زيادة على التضعيف المترتب على القرض أي وله مع الضعيف أجر كريم.
{ يوم ترى المؤمنين والمؤمنات } الآية العامل في يوم ما عمل في لهم التقدير ومستقر لهم أجر كريم يوم ترى أو اذكر يوم ترى إعظاما لذلك اليوم والرؤية هنا رؤية العين والنور حقيقة والظاهر أن النور يتقدم لهم بين أيديهم ويكون أيضا بإيمانهم فيظهر أنهما نوران نور ساع بين أيديهم ونور بإيمانهم فلذلك تضيء الجهة التي يؤمونها وبهذا يضيء ما حواليهم من الجهات.
{ بشراكم اليوم جنات } جملة معمولة لقول محذوف تقديره تقول لهم الملائكة الذين يتلقونهم جنات أي دخول جنات.
{ يوم يقول } بدل من يوم ترى ومثل معمول لا ذكر. قال ابن عطية: ويظهر لي أن العامل فيه ذلك هو الفوز العظيم ويجيء معنى الفور أفخم كأنه يقول: إن المؤمنين يفوزون بالرحمة يوم يعتري المنافقين كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه ومضاده أبدع وأفخم " انتهى ".
فظاهر كلامه وتقديره أن يوم منصوب بالفوز وهو لا يجوز لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته فلا يجوز عماله فلا وأعمل وصفه وهو العظيم لجاز أي الفوز الذي عظم أي قدره يوم يقول:
{ انظرونا } أي انتظرونا لأنهم لما سبقوهم إلى المرور على الصراط وقد طفئت أنوارهم قالوا ذلك، وقرىء: أنظرونا من أنظر رباعيا أي أخرونا أي اجعلونا في آخركم ولا تسبقونا. وقرىء: أنظرونا أمر من نظر بمعنى انتظر. قال امرؤ القيس:
وإنكما إن تنظراني ساعة من الدهر
تنفعني لدا أم جندب
{ نقتبس } جواب للأمر أي نصب منه حتى نستضيء به يقال اقتبس الرجل واستقبس أخذ من نار غيره قبسا.
{ قيل ارجعوا ورآءكم } القائل المؤمنون أو الملائكة وراءكم منصوب بإرجعوا وارجعوا أو توبيخ وطرد أي ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا النور ثم يعود الضمير منه على الباب لقربه وقيل على السور وباطنه الشق الذي لأهل الجنة وظاهره ما بدا منه.
{ من قبله } أي من جهته.
{ العذاب * ينادونهم } إستئناف أخبار.
{ ألم نكن معكم } أي في الظاهر.
{ قالوا بلى } أي كنتم معنا في الظاهر.
{ ولكنكم فتنتم } أي عرضتم.
{ أنفسكم } للفتنة بنفاقكم.
{ وتربصتم } أي بإيمانكم حتى وافيتم على الكفر.
{ وارتبتم } شككتم في أمر الدين.
{ وغرتكم الأماني } وهي الطماع.
{ حتى جآء أمر الله } وهو الموت على النفاق والغرور الشيطان.
{ ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله } الآية كثر المزاح في شباب الصحابة فنزلت بأن مضارع أني كرمى يرمي كالذين أوتوا الكتاب قيل هم معاصرو موسى عليه السلام من بني إسرائيل حذر المؤمنين أن يكونوا مثلهم في قساوة القلوب إذ كانوا إذا سمعوا التوراة رقوا وخشعوا فطال عليهم الأمد أي انتظار الفتح وانتظار القيامة والأمد الغاية من الزمن فقست قلوبهم أي صلبت بحيث لا تنفعل للطاعات والخير.
[57.17-29]
{ يحيي الأرض بعد موتها } يظهر أنه تمثيل لتليين القلوب بعد قسوتها ولتأثير ذكر الله تعالى فيها كما يؤثر الغيث في الأرض فتعود بعد إجدابها مخصبة كذلك تعود القلوب النافرة مقبلة يظهر فيها أثر الطاعات والخشوع.
قال الزمخشري: فإن قلت علام عطف قوله وأقرضوا قلت على معنى الفعل من المصدقين لأن اللام بمعنى الذين واسم الفاعل بمعنى أصدقوا كأنه قيل أن الذين أصدقوا وأقرضوا " انتهى ". واتبع في ذلك أبا على الفارسي ولا يصح أن يكون معطوفا فأعلى المصدقين لأن المعطوف على الصلة صلة وقد فصل بينهما بمعطوف وهو قوله والمصدقات ولا يصح أيضا أن يكون معطوفا على صلة أل في المصدقات لاختلاف الضمائر إذ ضمير المصدقات مؤنث وضمير وأقرضوا مذكر فيتخرج هذا على حذف الموصول لدلالة ما قبله عليه كأنه قيل والذين أقرضوا فيكون مثل قول الشاعر:
فمن يهجو رسول الله منكم
ويمدحه وينصره سواء
يريدون ومن يمدحه.
{ كمثل } في موضع رفع صفة لما تقدم وصورة المثال أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك فيشب ويقوى ويكسب المال والولد ويغشاه الناس ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط فينشف ويضعف ويسقم وتصيبه النوائب في ماله وذريته ويموت ويضمحل أمره ويصير ماله لغيره فأمره مثل مطر أصاب أرضا عن ذلك الغيث نبات معجب أنيق ثم هاج أي يبس واصفر ثم تحطم ثم تفرق بالرياح واضمحل قيل الكفار الزراع من كفر الحب أي ستره في الأرض وخصوا بالذكر لأنهم أهل البصر بالنبات والفلاحة فلا يعجبهم إلا المعجب حقيقة وقيل من الكفر بالله لأنهم من أشد الناس تعظيما للدنيا وإعجابا بمحاسنها وحطام بناء مبالغة كعجاب وقرىء مصفارا ولما ذكر ما يؤول إليه أمر الدنيا من الفناء ذكر ما هو ثابت دائم من أمر الآخرة من العذاب الشديد ومن رضاه الذي هو سبب النعم.
{ سابقوا إلى مغفرة من ربكم } الآية لما ذكر تعالى ما في الآخرة من المغفرة بالمسابقة إليها والمعنى سابقوا إلى سبب مغفرة وهو الإيمان وعمل الطاعات.
{ عرضها } أي مساحتها في السعة والعرض خلاف الطول فإذا وصف العرض بالبسطة عرف أن الطول أبسط وأمد.
{ أعدت } يدل على أنها مخلوقة وتكرر ذلك في القرآن.
{ فضل الله } عطاؤه.
{ يؤتيه من يشآء } وهم المؤمنون.
{ مآ أصاب من مصيبة } أي مصيبة وذكر فعلها وهو جائز التذكير والتأنيث ومن التأنيث ما تسبق من أمة أجلها ولفظة مصيبة تدل على الشر لأن عرفها ذلك وخصها بالذكر لأنها أهم على البشر والمصيبة في الأرض مثل القحط والزلزلة وعاهة الزرع وفي الأنفس الاسقام والموت.
{ إلا في كتب } هو اللوح المحفوظ أي مكتوبة فيه.
{ من قبل أن نبرأهآ } أي نخلقها ولا خلق والضمير في نبرأها الظاهر أنه يعود على المصيبة لأنها هي المحدث عنها وذكر الأرض والأنفس هو على سبيل ذكر محل المصيبة.
{ على الله يسير } أي سهل وإن كان عسيرا على العباد ثم ذكر تعالى الحكمة في اعلامنا بذلك الذي فعله من تقدير وذلك سبق قضائه به فقال:
{ لكيلا تأسوا } أي تحزنوا على ما فاتكم لأن العبد إذا علم ذلك سلم وعلم أن ما فاته لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه فلذلك لا يحزن على فائت لأنه ليس بصدد أن يناله ويظهر أن المراد بقوله لكيلا تحزنوا أن يلحق الحزن الشديد على ما فات من الخير فيحدث عنه السخط وعدم الرضاء بالمقدور.
{ ولا تفرحوا } الفرح المؤدي إلى البطر المنهي عنه في قوله:
لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين
[القصص: 76]. فإن الحزن ينشأ عنه السخط والفرح قد ينشأ عنه البطر ولذلك ختم بقوله:
{ والله لا يحب كل مختال فخور } فالفرح بما ناله من حطام الدنيا يلحقه في نفسه الخيلاء والافتخار والتكبر على الناس فمثل هذا هو المنهي عنه وأما الحزن على ما فات من طاعة الله تعالى والفرح بنعم الله والشكر عليه والتواضع فهو مندوب إليه.
{ الذين يبخلون } بدل من كل مختال أو على إضمارهم أو إضمار أذم.
{ ومن يتول } أي عن ما أمر إلهه به.
{ لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } أي بالحجج والمعجزات.
{ معهم الكتاب } إسم جنس ومعهم حال مقدرة أي وأنزلنا الكتاب صائرا معهم.
{ من ينصره } قال ابن عباس: يترتب على معنى الآية بأن الله تعالى أخبر بأنه أرسل رسلا وأنزل كتبا وعدلا مشروعا وسلاحا يحارب به من عاند ولم يهتد بهدي الله تعالى فلم يبق عذر وفي الآية على هذا التأويل حض على القتال.
{ ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم } الآية لما ذكر تعالى إرسال الرسل جملة أفرد منهم في هذه الآية نوحا وإبراهيم تشريفا لهما بالذكر والظاهر أن الضمير في منهم عائد على الذرية.
{ ثم قفينا } أي اتبعنا وجعلناهم يقفون من تقدم.
{ على آثارهم } أي آثار الذرية.
{ برسلنا } وهم الذين جاؤوا بعد الذرية.
{ وقفينا بعيسى } ذكره تشريفا له ولانتشار أمته ونسبه لأمه على العادة في الإخبار عنه.
{ وجعلنا } يحتمل أن يكون المعنى وخلقنا ويحتمل أن يكون بمعنى صيرنا فيكون.
{ في قلوب } في موضع المفعول الثاني لجعلنا.
{ ورهبانية } معطوف على ما قبله فهي داخلة في الجعل.
{ ابتدعوها } جملة في موضع الصفة لرهبانية وخصت الرهبانية بالابتداع لأن الرأفة والرحمة في القلب لا تكسب للإنسان فيها بخلاف الرهبانية فإنها أفعال بدن مع شىء في القلب ففيها موضع للتكسب وجعل أبو علي الفارسي ورهبانية منقطعة من العطف ما قبلها من رأفة ورحمة وانتصب عنده ورهبانية على إضمار فعل يفسره ما بعده فهو من باب الاشتغال أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها وتبعه الزمخشري فقال: وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر وتقديره وابتدعوا رهبانية ابتدعوها يعني وأحدثوها من عند أنفسهم " انتهى ".
وهذا إعراب المعتزلة وكان أبو علي الفارسي معتزليا وهم يقولون ما كان مخلوقا لله تعالى لا يكون مخلوقا للعبد فالرأفة والرحمة من خلق الله تعالى والرهبانية من ابتداع الإنسان فهي مخلوقة له وهذا الاعراب الذي لهم ليس بجيد من جهة صناعة العربية لأن مثل هذا هو مما لا يجوز فيه الرفع بالابتداء ولا يجوز الابتداء هنا بقوله: { ورهبانية } لأنها نكرة لا مسوغ لها من المسوغات للابتداء بالنكرة والظاهران.
{ إلا ابتغآء رضوان الله } استثناء متصل ما هو مفعول من أجله وصار المعنى أنه تعالى كتبها عليهم ابتغاء مرضاته والضمير في.
{ رعوها } عائد على ما عاد عليه في ابتدعوها وهو الضمير الذي اتبعوه أي لم يرعوها كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله تعالى لا يحل نكثه.
{ فآتينا الذين آمنوا } وهم أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام.
{ وكثير منهم فاسقون } وهم الذين لا يحافظون على نذورهم.
{ يأيها الذين ءامنوا } نداء لمن آمن من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فمعنى آمنوا: دوموا ، وأثبتوا.
{ يؤتكم كفلين } أي نصيبين في إيمانه بنبيه وإيمانه بمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال
أولئك يؤتون أجرهم مرتين
[القصص: 54].
{ لئلا يعلم } لا زائدة وان واجبة الذكر وإن كانت ناصبة للفعل كراهة اجتماع لام الجر ولا الزائدة وتتعلق اللام بيؤتكم أو على إضمار فعل تقديره فعلنا ذلك أي إيتاء الكفلين وجعل النور والغفران والمعنى ان هذا كله من فضل الله تعالى وان المؤتون ذلك لا يقدرون على ذلك بل ذلك كله من فضل الله تعالى وبيد الله كناية عن القدرة عن ما يؤتيه من الفضل لمن يشاء.
[58 - سورة المجادلة]
[58.1-9]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * قد سمع الله قول التي تجادلك } الآية هذه السورة مكية وقيل غير ذلك والتي تجادلك خولة بنت ثعلبة وقيل غير ذلك وأكثر الرواية على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت ظاهر من امرأته قال أبو قلابة وغيره: كان الظهار في الجاهلية يوجب عندهم فرقة مؤبدة ولما ظاهر أوس بن أسامة قالت زوجته:
" يا رسول الله أكل أوس شبابي ونثرت له بطني فلما كبرت ومات أهلي ظاهر مني فقال لها: ما أراك إلا قد حرمت عليه فقالت: يا رسول الله لا تفعل فإني وحيدة ليس لي أهل سواه فراجعها بمثل مقالته فراجعته فهذا هو جدالها وكانت تقول في خلال ذلك اللهم إن لي منه صبية صغار إن ضممتهم إلي جاعوا وإن ضممتهم إليه ضاعوا فهذا هو اشتكاؤها إلى الله تعالى فنزل الوحي عند جدالها قالت عائشة رضي الله عنها: سبحان من وسع سمعه الأصوات كان بعض كلام خولة يخفى علي وسمع الله جدالها فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خلف أوس وعرض عليه كفارة الظهار العتق فقال: ما أملك والصوم قال: ما أقدر والإطعام فقال لا أجد إلا أن تعينني فأعانه صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعا ودعا له فكفر بالإطعام وأمسك أهله "
وكان عمر يكرم خولة إذا دخلت عليه ويقول قد سمع الله تعالى لها والظهار قول الرجل لامرأته أنت علي كظهر أمي يريد في التحريم وقوله: { منكم } إشارة إلى التوبيخ العرب وتهجين عاداتهم في الظهار لأنه كان من إيمان الجاهلية خاصة دون سائر الأمم والظاهر أن قوله: { من نسآئهم } يشمل المدخول بها وغير المدخول بها من الزوجات لا من ظاهر منها قبل عقد نكاحها.
{ ما هن } أجري مجرى ليس في رفع الإسم ونصب الخبر كما في قوله تعالى:
ما هذا بشرا
[يوسف: 31] وقوله:
فما منكم من أحد عنه حاجزين
[الحاقة: 47] وقرأ المفضل عن عاصم أمهاتهم بالرفع على لغة تميم وابن مسعود بأمهاتهم بزيادة الباء.
قال الزمخشري: في لغة من ينصب " انتهى " ، يعني أنه لا تزاد الباء إلا في لغة تميم وهذا ليس بشىء وقد رد ذلك الزمخشري وزيادة الباء في مثل ما زيد بقائم كثير في لغة تميم والزمخشري تبع في ذلك أبا علي الفارسي ولما كان معنى كظهر أمي أي كأمي التحريم ولا يراد خصوصية الظهر الذي هو من الجسد جاء النفي بقوله: { ما هن أمهاتهم } ثم أكد ذلك بقوله: { إن أمهاتهم } أي حقيقة.
{ إلا اللائي ولدنهم } والحق بهن في التحريم أمهات الرضاع وأمهات المؤمنين أزواج الرسول عليه السلام وان نافية واللائي أحد جموع التي وقول المظاهر منكر من القول تنكره الحقيقة وينكره الشرع وزور كذب وباطل منحرف عن الحق وهو محرم تحريم المكروهات جدا وإذا وقع لزم وقد رجى تعالى بعده بأنه عفو غفور مع الكفارة والظاهر أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها فلو قال: أنت علي كظهر أختي أو ابنتي، لم يكن ظهارا والظاهر أن قوله: { ثم يعودون لما قالوا } أن يعودوا اللفظ الذي سبق منهم وهو قول الرجل ثانيا: أنت علي كظهر أمي فلا تلزم الكفارة بالقول الأول وإنما تلزم بالثاني وهو قول أهل الظاهر.
وروي أيضا عن بكير بن عبد الله بن الأشج وأبي العالية وأبي حنيفة وهو قول الفراء وقال طاوس وقتادة والزهري والحسن ومالك وجماعة لما قالوا: أي للوطء والمعنى لما قالوا انهم لا يعودون إليه فإذا ظاهر ثم وطىء فحينئذ تلزمه الكفارة وإن طلق أو ماتت، وقال أبو حنيفة ومالك أيضا والشافعي وجماعة: معناه يعودون لما قالوا بالعزم على الإمساك والوطء فمتى عزم على ذلك لزمته الكفارة طلق أو ماتت.
وقال الشافعي: العود الموجب للكفارة أن يمسك على طلاقتها بعد الظهار ويمضي بعده زمان يمكن أن يطلقها فيه فلا يطلق.
{ والذين } مبتدأ ضمن معنى إسم الشرط فلذلك دخلت الفاء في خبره وتحرير خبر مبتدأ محذوف تقديره فالواجب تحرير رقبة والظاهر في التماس الحقيقة فلا يجوز تماسهما بقبلة أو مضاجعة أو غيرك ذلك من وجوه الاستمتاع وهو أحد قولي الشافعي وقول مالك وقال الأكثرون هو الوطء فيجوز له الاستمتاع بغيره قبل التكفير. وهو الصحيح من مذهب الشافعي والضمير في يتماسا عائد على ما دل عليه الكلام في المظاهر والمظاهر منها.
{ ذلكم توعظون به } إشارة إلى التحرير.
{ فمن لم يجد } أي الرقبة ولا ثمنها أو وجدها أو ثمنها وكان محتاجا إلى ذلك فقال أبو حنيفة: يلزمه العتق ولو كان محتاجا إلى ذلك ولا ينتقل إلى الصوم وهو الظاهر. وقال الشافعي ينتقل إلى الصوم والظاهر وجوب التتابع.
{ فمن لم يستطع } أي الصوم لزمانة به أو كونه يضعف به ضعفا شديدا والظاهر مطلق الإطعام ويخصصه ما كانت العادة في الإطعام وقت النزول وهو ما يشبع من غير تحديد بحد.
{ ذلك لتؤمنوا } إشارة إلى الرخصة والتسهيل في النقل من التحرير إلى الصوم والإطعام ثم شدد بقوله: { وتلك حدود الله } تعالى أي فالتزموها وقفوا عندها ثم توعد الكافرين بهذا الحكم الشرعي.
{ إن الذين يحآدون } نزلت في مشركي قريش أخذوا يوم الخندق بالهزيمة كما أخزي من قاتل الرسل من قبلهم ولما ذكر المؤمنين الواقفين عند حدوده ذكر المحادين المخالفين لها والمحادة المخالفة والمعاداة في الحدود.
{ كبتوا } أي أخذوا ولعنوا والذين من قبلهم منافقو الأمم وهي بشارة للمؤمنين بالنصر وعبر بالماضي لتحقق وجوده ووقوعه.
{ وقد أنزلنآ آيات بينات } أي على صدق محمد صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به.
{ وللكافرين } أي الذين يحادونه.
{ عذاب مهين } أي يهينهم ويذلهم والناصب ليوم يبعثهم العامل في الكافرين أو مهين أو أذكر أو يكون على أنه جواب لمن سأل متى يكون عذاب هؤلاء فقيل له يوم يبعثهم أي يكون يوم يبعثهم وانتصب جميعا على الحال أي مجتمعين في صعيد واحد.
{ فينبئهم بما عملوا } تخجيلا لهم وتوبيخا.
{ أحصاه الله } تعالى بجميع تفاصيله من كميته وكيفيته وزمانه ومكانه.
{ ونسوه } هم لاستحقارهم إياه واعتقادهم أنه لا يقع عليه حساب.
{ شهيد } لا يخفى عليه شىء.
{ رابعهم } رابع إسم فاعل من ربعت القوم ومعنى رابع ثلاثة الذي صير الثلاثة أربعة وكذلك سادسهم.
{ ولا أدنى من ذلك } إشارة إلى الثلاثة والخمسة والأدنى من الثلاثة الاثنان ومن الخمسة الأربعة.
{ ولا أكثر } يدل على ما يلي الستة فصاعدا.
{ ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى } نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون دون المؤمنين وينظرون إليهم ويتغامزون بأعينهم عليهم موهمين المؤمنين من أقربائهم أنهم أصابهم شر فلا يزالون كذلك حتى تقدم أقرباؤهم فلما كثر ذلك منهم شكا المؤمنون إلى رسول الله صلى الله فأمرهم أن لا يتناجوا دون المؤمنين فلم ينتهوا فنزلت قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
{ بما لم يحيك به الله } كانوا يقولون السام عليك وهو الموت فيرد عليهم وعليكم وتحية الله تعالى لأنبيائه وسلام على عباد الله الذين اصطفى.
{ لولا يعذبنا الله بما نقول } أي إن كان نبيا فما له لا يدعو علينا حتى نعذب بما تقول فقال تعالى:
{ حسبهم جهنم } ثم نهى المؤمنين أن يكون تناجيهم مثل تناجي الكفار وبدأ بالاثم لعمومه ثم بالعدوان لعظمته في النفوس إذ هي ظلامات العباد ثم ترقى إلى ما هو أعظم وهو معصية الرسول عليه السلام وفي هذا طعن على المنافقين إذ كان تناجيهم في ذلك.
[58.10-22]
{ إنما النجوى من الشيطان } أي هو الذي يزينها لهم فكأنها منه.
{ ليحزن الذين آمنوا } كانوا يوهمون المؤمنين أن غزاتهم غلبوا.
{ بضآرهم } أي المؤمنين.
{ إلا بإذن الله } أي بمشيئته فيقضي بالقتل والغلبة ولما نهى تعالى المؤمنين عما هو سبب للتباغض والتنافر أمرهم بما هو سبب للتواد والتقارب فقال:
{ يأيها الذين آمنوا } الآية كانوا يتنافسون في مجلس الرسول عليه السلام فأمروا أن يفسح بعضهم لبعض.
{ وإذا قيل انشزوا } أي انهضوا في المجلس للتفسح لأن مريد التوسعة على الوارد يرتفع إلى فوق أمروا أولا بالتفسح ثم ثانيا بامتثال الأمر فيه إذا أمروا والظاهر أن قوله: { والذين أوتوا العلم }. معطوف على الذين آمنوا والعطف مشعر بالتغاير وهو من عطف الخاص على العام وقيل: { والذين أوتوا } من عطف الصفات والمعنى يرفع الله المؤمنين العلماء درجات فالوصفان لذات واحدة وقال ابن مسعود وغيره: ثم الكلام عند قوله: { منكم } وانتصب { والذين أوتوا العلم } بفعل مضمر تقديره ويخص الذين أوتوا العلم درجات فللمؤمنين رفع وللعلماء درجات.
{ بين يدي نجواكم } إستعارة والمعنى قبل نجواكم وعن ابن عباس أن قوما من المؤمنين واغفالهم كثرت مناجاتهم للرسول عليه السلام في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم وكان صلى الله عليه وسلم سمحا لا يرد أحدا فنزلت مشددة عليهم أمر المناجاة وهذا الحكم قيل نسخ قبل العمل به فقدموا بين يدي نجواكم صدقة قال علي كرم الله وجهه: ما عمل به أحد غيري أردت المناجاة ولي دينار فصرفته بعشرة دراهم وناجيت عشر مرارا أتصدق في كل مرة بدرهم ثم ظهرت مشقة ذلك على الناس فنزلت الرخصة في ترك الصدقة.
{ ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم } الذين تولوا هم المنافقون والقوم المغضوب عليهم هم اليهود.
قال السدي ومقاتل:
" انه عليه السلام قال لأصحابه: يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعيني شيطان فدخل عبد الله بن أبي بن سلول وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية فقال عليه السلام: علام تشتمني أنت وأصحابك فحلف بالله ما فعل فقال له فعلت فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه فنزلت "
والضمير في ما هم عائد على الذين تولوا وهم المنافقون أي ليسوا منكم أيها المؤمنون ولا منهم أي وليسوا من الذين تولوا وهم اليهود وما هم استئناف اخبار بأنهم مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء كما قال عليه السلام
" مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين لأنه مع المؤمنين بقوله ومع الكفار بقلبه ".
{ استحوذ عليهم الشيطان } أي أحاط بهم من كل جهة وغلب على نفوسهم واستولى عليهم.
{ فأنساهم ذكر الله } فهم لا يذكرون لا بقلوبهم ولا بألسنتهم وحزب الشيطان جنده.
{ كتب الله لأغلبن } أي كتب في اللوح المحفوظ.
{ ورسلي } أي من بعث منهم بالحرب ومن بعث منهم بالحجة.
{ إن الله قوي } ينصر حزبه.
{ عزيز } يمنعه من أن يذل وبدأ في قوله:
{ ولو كانوا آبآءهم أو أبنآءهم } أولا بالآباء لأن الواجب على الأولاد طاعتهم فنهاهم عن توادهم ثم ثنى بالأبناء لأنهم أغلق بالقلوب ثم أتى ثالثا بإخوان لأن بهم التعاضد ثم أتى رابعا بالعشيرة لأن بها التناصر وبهم المقاتلة والتغلب والتسرع إذا ما دعوا.
{ وأيدهم بروح منه } تعالى وهو الهدى والنور واللطف والإشارة بأولئك كتب إلى الذين لا يوادون من حاد الله ورسوله قيل والآية فنزلت في حاطب بن أبي بلتعة وقيل وهو الظاهر أنها متصلة بالآي التي قبلها في المنافقين الموالين لليهود وقيل غير ذلك.
[59 - سورة الحشر]
[59.1-11]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * سبح لله ما في السموت } الآية، هذه السورة مدنية ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر حال المنافقين واليهود وتولى بعضهم بعضا ذكر أيضا ما حل باليهود من غضب الله تعالى عليهم وجلائهم وإمكان الله تعالى رسوله ممن حاد الله ورسوله ورام القدر بالرسول وأظهر العداوة بحلفهم مع قريش وقيل نزلت في بني النضير وتعد من المدينة لتدانيها منها وكانوا صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يكونوا عليه ولا له فلما ظهر يوم بدر قالوا هو النبي الذي نعته في التوراة لا رد له راية فلما هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا ونكثوا فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة فحالفوا قريشا عند الكعبة فأخبر جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك فأمر بقتل كعب بن الأشرف فقتله محمد بن مسلمة غيلة وكان أخاه من الرضاع.
{ وقذف في قلوبهم الرعب } وأيسوا من نصر المنافقين إياهم فطلبوا الصلح فأبى عليهم إلا الجلاء على أن يحمل كل ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤوا من المتاع فجلوا إلى الشام إلى اريحاء وأذرعات إلا أهل بيتين منهم ال أبي الحقيق وآل حي بن أحطب فلحقوا بخيبر ولحقت طائفة منهم بالحيرة وقبض أموالهم وسلاحهم فوجد خمسين درعا وخمسين بيضة وثلاثمائة وأربعين سيفا.
{ ما قطعتم من لينة } اللينة قال الأخفش: لون من النخل أي ضرب منه وأصلها لونه وقال أبو عبيدة: اللينة اللينة ما ثمرها لون وهي نوع من الثمر يقال له اللون وقال الأصمعي: هي الذقل وما شرطية منصوبة بقطعتم ومن لينة تبيين لإبهام ما وجواب الشرط.
{ فبإذن الله } أي قطعها أو تركها بإذن الله والضمير في
{ تركتموها } عائد على معنى ما وقرىء قائما اسم فاعل مذكر على لفظ ما وأنث في على أصولها وما في قوله:
{ ومآ أفآء الله } شرطية أو موصولة وأفاء بمعنى يفي ولا يكون ماضيا في اللفظ والمعنى لأن فعل الشرط لا يكون ماضيا في المعنى وكذلك صلة ما الموصولة إذا كانت الفاء في خبرها لأنها إذ ذاك شبهت باسم الشرط فإن كانت الآية نزلت قبل جلائهم كانت مخبرة بغيب فوقع كما أخبرت وإن كانت نزلت بعد حصول أموالهم له صلى الله عليه وسلم كان ذلك بيانا لما يستقبل وحكم الماضي المتقدم حكمه ومن في.
{ من خيل } زائدة لأن المفعول يدل على الاستغراق.
{ ولا ركاب } الإبل سلط الله تعالى رسوله عليهم وعلى ما في أيديهم ولما جلا بنو النضير عن أوطانهم وتركوا رياعهم وأموالهم طلب المسلمون تخميسا كغنائم بدر فنزل وما أفاء الله على رسوله بين أن أموالهم فيء لم يوجف عليها خيل ولا ركاب ولا قطعت مسافة إنما كانوا ميلين من المدينة مشوا مشيا ولم يركب إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عمر بن الخطاب: كانت أموال بني النضير لرسول الله خاصة ينفق منها على أهله نفقة سنة ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع عدة للمسلمين في سبيل الله تعالى.
{ مآ أفآء الله على رسوله من أهل القرى } أهل القرى المذكورون في هذه الآية هم أهل الصفراء وينبع ووادي القرى وما هنالك من قرى العرب التي تسمى قرى عرينة وحكمها مخالف لبني النضير ولم يحبس من هذه رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه شيئا بل أمضاها لغيره وذلك أنها فتحت في ذلك الوقت وقيل الآية الأولى خاصة في بني النضير وهذه الآية عامة والضمير في تكون بالتأنيث عائد على معنى ما إذ المراد به الأموال والمغانم وذلك الضمير هو إسم تكون وكذلك من قرأ بالياء أعاد الضمير على لفظ ما أي يكون الفيء وانتصب.
{ دولة } على الخبر وعن رفع دولة فتكون تامة ودولة فاعل وكيلا يكون تعليل لقوله: { فلله وللرسول } أي فالفيء وحكمه لله وللرسول يقسمه ما أمره الله تعالى.
{ كي لا يكون } أي الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء بلغة يعيشون به متداولا بين الأغنياء يتكاثرون به أو كيلا يكون دولة جاهلية بينهم كما كان رؤساؤهم يستأثرون بالغنائم ويقولون من عزير والمعنى كيلا يكون أخذ غلبة وآثرة جاهلية. روي أن قوما من الأنصار تكلموا في هذه القرى المفتتحة وقالوا لنا فيها سهمنا فنزل:
{ ومآ آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }.
{ للفقرآء المهاجرين } للفقراء بدل من قوله ولذي القربى والمعطوف عليه ومذهب أبي حنيفة لا يستحق ذو القربى الغنى إنما يستحق ذو القربى الفقير فالفقر شرط فيه والشافعي يرى أن الاستحقاق بسبب القرابة فيأخذ ذو القربى الغني بقرابته ثم وصف تعالى المهاجرين بما يقتضي فقرهم ويوجب الإشفاق عليهم.
{ أولئك هم الصادقون } في إيمانهم وجهادهم قولا وفعلا والظاهر أن قوله: { والذين تبوءوا } معطوف على المهاجرين وهم الأنصار فيكون قد وقع منهم الاشتراك فيما يقسم من الأموال وقيل هو مستأنف مرفوع بالابتداء والخبر يحبون أثنى تعالى عليهم بهذه الخصال الجليلة كما أثنى على المهاجرين بقوله: { يبتغون } أنهم والإيمان معطوف على الدار وهي المدينة والإيمان ليس مكانا فيتبوؤوا فقيل هو من عطف الجمل أي واعتقدوا الإيمان وأخلصوا فيه قاله أبو علي وقيل تبوؤوا ضمن معنى آثر وافتقد إلى اثنين.
{ والذين جآءوا من بعدهم } الظاهر أنه معطوف على ما قبله من المعطوف على المهاجرين فقال الفراء: هم الفرقة الثالثة من الصحابة وهي من آمن أو كبر في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم وقيل والذين جاؤوا من بعدهم مقطوع مما قبله معطوف عطف الجمل لا عطف المفردات فإعراب والذين: مبتدأ ندبوا بالدعاء للأولين والثناء عليهم وهم من يجيء بعد الصحابة إلى يوم القيامة والخبر يقولون أخبر تعالى عنهم بأنهم لإيمانهم ومحبة أسلافهم.
{ يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا } وعلى القول الأول يكون يقولون استئناف أخبار قيل أو حال.
{ ألم تر إلى الذين نافقوا } نزلت في عبد الله بن أبي ورفاعة بن التابوت وقوم منافقي الأنصار كانوا بعثوا إلى بني النضير بما تضمنته الجمل المحكية بقوله: يقولون واللام في لإخوانهم للتبليغ والأخوة بينهم الكفر وموالاتهم.
{ ولا نطيع فيكم } أي في قتالكم أحدا من الرسول والمؤمنين واخلاف ما وعدناكم من النصرة.
{ لننصرنكم } جواب قسم محذوف قبل أن الشرطية وجواب إن محذوف والكثير في كلام العرب إثبات اللام المؤذنة بالقسم قبل أداة الشرط وفي حذفها قوله:
وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن
[المائدة: 73]، التقدير ولرى لم ينتهوا لكاذبون أي في مواعيدهم لليهود وفي ذلك دليل على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم لأنه إخبار بالغيب.
[59.12-24]
{ ولئن قوتلوا لا ينصرونهم } قد أخبر أنهم لا ينصرونهم فلا يمكن نصرهم إياهم بعد إخباره تعالى أنه لا يقع وإذا كانت الضمائر متفقة فقال ابن عطية: معناه ولئن حاولوا ذلك فإنهم منهزمون " انتهى ". والظاهر أن الضمير في ليولي الأدبار وفي ثم لا ينصرون عائد على المفروض أنهم ينصرونهم أولا أي ولئن نصرهم المنافقون ليولن المنافقون الأدبار ثم لا ينصر المنافقون ورهبة مصدر رهب المبني للمفعول كأنه قيل أشد مرهوبية فالرهبة واقعة منهم لا من المخاطبين والمخاطبون مرهوبون فالخبر عنه مخوف لا خائف والضمير في صدورهم قيل لليهود والمعنى رهبتهم منكم أشد من رهبتهم من الله.
{ لا يقاتلونكم } أي بنو النضير وجميع اليهود.
{ جميعا } أي مجتمعين متساندين يعضد بعضهم بعضا.
{ إلا في قرى محصنة } لا في صحراء لخوفهم منكم وتحصينها بالزروب والخنادق.
{ أو من ورآء جدر } يتسترون به من أن تصيبوهم.
{ بأسهم بينهم } أي إذا اقتتلوا بعضهم مع بعض كان بأسهم شديدا أما إذا قاتلوكم فلا يبقى لهم بأس لأن من حارب أولياء الله خذل.
{ تحسبهم جميعا } أي مجتمعين ذوي ألفة واتحاد.
{ وقلوبهم شتى } أي وأهواؤهم متفرقة وكذا حال المخذولين لا يستقر أهواؤهم على شىء واحد موجب ذلك الشتات وهو انتفاء عقولهم فهم كالبهائم لا تتفق على حالة.
{ كمثل الذين } كمثل خبر مبتدأ محذوف أي مثل بني النضير مثل الذين من قبلهم قريبا وهم بنو قينقاع أجلاهم الرسول عليه السلام من المدينة قبل بني النضير فكانوا مثلا لهم قاله ابن عباس ذاقوا وبال أمرهم قريبا من عصيانهم أي لم تتأخر عقوبتهم في الدنيا كما لم تتأخر عقوبة هؤلاء.
{ ولهم عذاب أليم } في الآخرة.
{ كمثل الشيطان } لما مثلهم بمن قبلهم ذكر مثل مع المنافقين والمنافقون كالشيطان وبنوا النضير كالإنسان والجمهور على أن الشيطان والإنسان إسما جنس يورطه في المعصية ثم يفر منه كذلك أغوى المنافقون بني النضير وحرضوهم على الثبات ووعدوهم النصر فلما نشب بنو النضير خذلهم المنافقون وتركوهم في أسوأ حال ولما انقضى في هذه السورة وصف المنافقين واليهود وعظ المؤمنين لأن الموعظة بعد المصيبة لها موقع في النفس لرقة القلوب والحذر مما يوجب العقاب وكرر الأمر بالتقوى على سبيل التوكيد أو لاختلاف متعلق التقوى فالأولى في أداء الفرائض لأنه مقترن بالعمل والثانية في ترك المعاصي لأنه مقترن بالتهديد والوعيد ولما كان أمر القيامة واقعا لا محالة عبر عنه بالغدو وهو اليوم الذي يلي يومك على سبيل التقريب.
{ كالذين نسوا الله } هم الكفار تركوا عبادة الله تعالى وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى وهذا تنبيه على فرط غفلتهم واتباع شهواته.
{ فأنساهم أنفسهم } حيث لم يسعوا لها في الخلاص من العذاب وهذا من المجازاة بالذنب على الذنب عوقبوا على نسيان رحمة الله تعالى بأن أنساهم أنفسهم ثم ذكر مباينة الفريقين أصحاب النار في الجحيم وأصحاب الجنة في النعيم.
{ لو أنزلنا هذا القرآن } من باب التخييل والتمثيل كما مر في قوله
إنا عرضنا الأمانة
[الأحزاب: 72] ودل على ذلك وتلك الأمثال نضربها للناس والغرض توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وعدم تأثره لهذا الذي لو أنزل على الجبل لتخشع وتصدع وإذا كان الجبل على عظمته وتصلبه يعرض له الخشوع والتصدع فابن آدم كان أولى بذلك لكنه على حقارته وضعفه لا يتأثر وتقدم شرح المهيمن والجبار القاهر الذي جبر خلقه على ما أراد.
{ المتكبر } البالغ في الكبرياء والعظمة.
{ الخالق } المقدر لما يوجده.
{ البارىء } المميز بعضه من بعض بأشكال مختلفة.
{ المصور } الممثل.
[60 - سورة الممتحنة]
[60.1-13]
{ بسم الله الرحمن الرحيم } { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أوليآء } هذه السورة مدنية ونزلت بسبب حاطب بن أبي بلتعة كان وجه كتابا مع إمرأة إلى أهل مكة يخبرهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم متوجه إليهم لغزوهم فأطلع الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك ووجه إلى المرأة من أخذ الكتاب منها والقصة مشهورة في كتب الحديث والتفسير.
ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر فيما قبلها حالة المنافقين والكفار افتتح هذه بالنهي عن موالاة الكفار والتودد إليهم وأضاف تعالى في قوله: { عدوي } تغليظا لجرمهم وإعلاما بحلول عقاب الله تعالى بهم والعدو ينطلق على الواحد وعلى الجمع وأولياء مفعول ثاني لتتخذوا.
{ تلقون } بيان لموالاتهم فلا موضع لها من الإعراب أو استئناف أخبار.
{ وقد كفروا } جملة حالية وذو الحال الضمير في تلقون أي توادوهم وهذه حالهم وهي الكفر بالله تعالى ولا يناسب الكافر بالله أن يود.
{ وإياكم } معطوف على والرسول.
{ تسرون } استئناف أي تسرون وقد علمتم أني أعلم الإخفاء والإعلان وأطلع الرسول عليه السلام على ذلك والضمير في:
{ ومن يفعله } عائد على أقرب مذكور أي ومن يفعل الاسرار وانتصب سواء على المفعول به على تقدير تعدى ضل أو على الظرف على تقدير اللزوم والسواء الوسط ولما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء وشرح ما به الولاية من القاء بالمودة إليهم وذكر ما صنع الكفار بهم أولا من إخراج الرسول والمؤمنين ذكر صنيعهم آخرا لو قدروا عليه من أنه إن يتمكنوا منكم تظهر عداوتهم لكم ويبسطوا أيديهم بالقتل والتعذيب وألسنتهم بالسب وودوا لو ارتددتهم عن دينكم الذي هو أحب الأشياء إليكم وهو سبب إخراجهم إياكم ولما كان حاطب قد اعتذر بأن له بمكة قرابة فكتب إلى أهلها ما كتب ليرعوه في قرابته قال تعالى:
{ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم } ويوم مفعول لتنفعكم أو ليفصل ولما نهى عن موالاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه السلام وإن من سيرته التبرؤ من الكفار ليقتدوا به في ذلك ويتأسوا به والظاهر أنه مستثنى من مضاف لإبراهيم تقديره أسوة حسنة في مقالات إبراهيم ومحاوراته مع قومه.
{ إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك } فليس فيه أسوة حسنة فيكون على هذا استثناء متصلا واما أن يكون قول إبراهيم مندرجا في أسوة حسنة لأن معنى الأسوة هو الإقتداء والتأسي فالقول ليس مندرجا تحته لكنه مندرج تحت ملاقاة إبراهيم والضمير في فيهم عائد على إبراهيم والذين آمنوا معه وكررت الأسوة توكيدا وأكد ذلك بالقسم أيضا ولمن يرجوا بدل من ضمير الخطاب بدل بعض من كل وروي أنه لما نزلت هذه الآيات عزم المسلمون على إظهار عدوات أقربائهم الكفرة ولحقهم لكونهم لم يؤمنوا حتى يتوادوا فنزل.
{ عسى الله } الآية مؤنسة ومرجئة فأسلم الجميع عام الفتح وصاروا إخوانا.
{ والله قدير } على تقليب القلوب وتيسير العسير.
{ والله غفور } لمن أسلم من المشركين.
{ لا ينهاكم الله } نزلت في قوم بمكة آمنوا ولم يهاجروا فكانوا في رتبة سوء لتركهم فرض الهجرة قيل قدمت على أسماء بنت أبي بكر أمها نفيلة بنت عبد العزى وهي مشركة بهدايا فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول فنزلت الآية فأمرها صلى الله عليه وسلم أن تدخلها وتقبل منها وتكرمها وتحسن إليها وأن تبروهم وأن تولوهم بدلان مما قبلهما بدل اشتمال.
{ يأيها الذين آمنوا إذا جآءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن } سماهن تعالى مؤمنات قبل أن يمتحن وامتحانهن قالت عائشة بآية المبايعة وقيل: بأن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وقال ابن عباس: بالحلف أنها ما خرجت إلا حبا لله ورسوله ورغبة في دين الإسلام.
{ فإن علمتموهن مؤمنات } أطلق العلم على الظن الغالب بالحلف وظهور الإمارات بالخروج من الوطن والحلول في قوم ليسوا من قومها وبين علة انتفاء رجعهن إلى الكفار أزواجهن وذلك هو التحريم بين المسلمة والكافر وانعقد التحريم بهذه الجملة وجاء قوله:
{ ولا هم يحلون لهن } على سبيل التأكيد وتشديد الحرمة لأنه إذا لم تحل المؤمنة للكافر علم أنه لا حل بينهما البتة.
{ وآتوهم مآ أنفقوا } أمر أن يعطي الزوج الكافر ما أنفق على زوجه إذا أسلمت فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية قال ابن عباس: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد امتحانها زوجها الكافر ما أنفق عليها فتزوجها عمر وكان إذا امتحنهن أعطى أزواجهن مهورهن ثم نفى الحرج في نكاح المؤمنين إياهن إذا آتوهن مهورهن ثم أمر تعالى المؤمنين بفراق نسائهم الكوافر عوابد الأوثان.
{ واسألوا مآ أنفقتم } أي واسئلوا الكافرين ما أنفقتم على أزواجكم إذا فروا إليهم.
{ وليسألوا } الكفار.
{ مآ أنفقوا } على أزواجهم إذا فروا إلى المؤمنين ولما تقرر هذا الحكم قالت قريش لا نرضى هذا الحكم ولا تلتزمه ولا ندفع لأحد صداقا فنزلت بسبب ذلك هذه الآية الأخرى.
{ وإن فاتكم } فأمر تعالى المؤمنين أن يدفعوا إلى من فرت زوجته من المسلمين ففلتت بنفسها إلى الكفار وانفلتت من الإسلام ما كان أمهرها.
{ يأيها النبي إذا جآءك المؤمنات يبايعنك }
" كانت بيعة النساء في ثاني يوم الفتح على جبل الصفا بعد ما فرغ من بيعة الرجال وهو على الصفا وعمر أسفل منه يبايعهن بأمره صلى الله عليه وسلم ويبلغهن عنه وما مست يده الكريمة يد امرأة أجنبية قط وقالت أسماء بنت يزيد بن السكن كنت في النسوة المبايعات فقلت يا رسول الله بسط يدك نبايعك فقال لي عليه السلام: إني لا أصافح النساء ولكن آخذ عليهن ما أخذ الله عليهن وكانت هند بن عتبة في النساء فقرأ عليهن الآية فلما قررهن على أن لا يشرك بالله شيئا قالت هند: وكيف تطمع أن يقبل منا ما لم تقبله من الرجال تعني أن هذا بين لزومه فلما وقف على السرقة قالت: والله إني لا أصيب الهنة من مال أبي سفيان لا أدري أيحل إلي ذلك فقال أبو سفيان ما أصبت من شىء فيما مضى وفيما غبر فهو لك حلال فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها فقال لها: إنك لهند بنت عتبة قالت: نعم فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك فقال:
{ ولا يزنين } فقالت: أو تزني الحرة فقال:
{ ولا يقتلن أولادهن } فقالت ربيناهم صغارا وقتلناهم كبارا وكان حنظلة بن أبي سفيان قد قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
{ ولا يأتين ببهتن } فقالت: والله ان البهتان لأمر قبيح ولا تأمرنا إلا بالرشيد ومكارم الأخلاق فقال:
{ ولا يعصينك في معروف } فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شىء والبهتان قال الأكثرون: أن تنسب إلى زوجها ولدا ليس منه وكانت المرأة تلتقط المولود وتقول لزوجها هذا ولدي منك ".
{ بين أيديهن } لأن بطنها الذي تحمله فيه بين اليدين وفرجها الذي تلده منه بين الرجلين والمعروف الذي نهى عن العصيان فيه قال ابن عباس: هو النوح وشق الجيوب ووشم الوجوه ووصل الشعر وغير ذلك من أوامر الشريعة فرضها وندبها روي أن قوما من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فقيل لهم لا تتولوا قوما مغضوبا عليهم.
{ قد يئسوا من الآخرة } قال ابن عباس: من خيرها وثوابها والظاهر أن من في.
{ من أصحاب القبور } لابتداء الغاية أي من لقاء أصحاب القبور فمن الثانية كالأولى في من الآخرة فالمعنى لا يلقونهم في دار الدنيا بعد موتهم ولما افتتح هذه السورة بالنهي عن اتخاذ الكفار أوليا ختمها بمثل ذلك تأكيد الترك موالاتهم وتنفيرا للمسلمين عن توليهم وإلقاء المودة إليهم.
[61 - سورة الصف]
[61.1-14]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * سبح لله ما في السموت } الآية هذه السورة مدنية في قول الجمهور وسبب نزولها قول المنافقين للمؤمنين نحن منكم ومعكم ثم يظهر من أفعالهم خلاف ذلك ومناسبتها لآخر ما قبلها ان ثم
يأيها الذين آمنوا لا تتولوا قوما غضب الله عليهم
[الممتحنة: 13] فاقتضى ذلك إثبات العداوة بينهم فحض تعالى على إثبات إذا لقي المؤمنون في الحرب أعداءهم والنداء بيا أيها إن كان للمؤمنين حقيقة فالاستفهام يراد به التلطف في العتب وإن كان للمنافقين فالمعنى يا أيها الذين آمنوا أي بألسنتهم والاستفهام يراد به الإنكار والتوبيخ وتهكم في إسناد الإيمان إليهم ولم يتعلق بالفعل بعده وإذا وقف عليه فبالهاء أو بسكون الميم ومن سكن في الوصل فلأنه جرى مجرى الوقف والظاهر انتصاب مقتا على التمييز وفاعل كبر أن تقولوا وهو من التمييز المنقول من الفاعل والتقدير كبر مقت قولكم ما لا تفعلون وانتصب صفا على الحال أي صافين أنفسهم أو مصفوفين.
{ كأنهم } في تراصهم من غير فرجة ولا خلل.
{ بنيان مرصوص } بعضه إلى بعض والظاهر تشبيه الذوات في التحام بعضهم ببعض بالبنيان المرصوص ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل وهو راجع إلى الكذب كان ذلك في معنى الاذاية للرسول عليه الصلاة والسلام إذ كان في أتباعه من عانى الكذب فناسب ذكر قصة موسى عليه الصلاة والسلام وقوله لقومه لم تؤذوني واذايتهم له كان في انتقاصه في نفسه وجحود آيات الله تعالى واقتراحهم عليه ما ليس لهم اقتراحه.
{ وقد تعلمون } جملة حالية تقتضي تعظيمه وتكريمه فرتبوا على علمهم أنه رسول الله إليهم ما لا يناسب العلم وهو الإذاية وقد تدل على التحقق في الماضي والتوقع في المستقبل والمضارع هنا معناه المعنى أي وقد علمتم وعبر عنه بالمضارع ليدل على استصحاب الفعل.
{ فلما زاغوا } عن الحق.
{ أزاغ الله قلوبهم } أسند الزيغ إليهم ثم قال أزاغ الله قلوبهم كقوله تعالى:
نسوا الله فأنساهم أنفسهم
[الحشر: 19] وهو من العقوبة على الذنب بالذنب ولما ذكر شيئا من قصة موسى عليه السلام مع بني إسرائيل ذكر شيئا من قصة عيسى عليه السلام وهناك قال: يا قوم لأنه من بني إسرائيل وهنا قال عيسى يا بني إسرائيل من حيث لم يكن له فيهم أب وإن كانت أمه منهم ومصدقا ومبشرا حالان والعامل رسول أي مرسل ويأتي رسمه جملتان في موضع الصفة لرسول أخبر أنه مصدق لما تقدم من الكتب الإلهية ولمن تأخر من النبي المذكور لأن التبشير بأنه رسول تصديق برسالته وروي أن الحواريين قالوا: يا روح الله هل بعدنا من أمة قال: نعم أمة أحمد علماء حكماء أبرار أتقياء كأنهم من الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم بالقلل من العمل.
والله أفرد عيسى بالذكر في هذه المواضع لأنه آخر نبي قبل نبينا عليه السلام فبين ان البشارة به عمت جميع الأنبياء واحدا بعد واحد حتى انتهت إلى عيسى عليه السلام والظاهر أن الضمير المرفوع في جاءهم يعود على عيسى عليه السلام لأنه المحدث عنه وقرأ الجمهور تؤمنون وتجاهرون وقرأ عبد الله آمنوا وجاهدوا أمرين وزيد بن علي بالياء فيهما محذوف النون فيهما فأما قراءة الجمهور فصورتهما صورة الخبر فهما خبران بمعنى الأمر بين ذلك قراءة عبد الله ونظير ذلك قول العرب اتقى الله امرؤ فعل خيرا يثب عليه معناه ليتق الله امرؤ فانجزم قوله يثب على تقدير هذا الأمر فلذلك انجزم يغفر على تقدير آمنوا وجاهدوا وأما قراءة زيد فهو على إضمار اللام تقديره ليؤمنوا ويجاهدوا كما قال محمد تفد نفسك كل نفس إذا ما خفت من شىء تبالا تقديره لتفد.
{ وأخرى } لما تقدم الغفران وإدخال الجنات اتبع ذلك بقوله: { وأخرى } فجاز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر تقديره ولكم نعمة أو مثوبة أخرى وجاز أن يكون منصوبا على إضمار فعل تقديره ويمنحكم أخرى وتحبونها في موضع الصفة على التقديرين ومن قرأ نصرا وما بعده بالرفع فهو بدل من أخرى المقدر رفعها ومن قرأ نصرا وما بعده بالنصب فبدل على تقدير نصب أخرى ولما ذكر تعالى ما يمنحهم من الثواب في الآخرة ذكر ما يسرهم في العاجلة وهي ما يفتح عليهم من البلاد.
{ وبشر المؤمنين } جملة أو عطف على ما قبلها ولا يشترط التناسب في عطف الجمل.
{ كونوا أنصار الله } ندب المؤمنين إلى النصرة ووضع لهم هذا الإسم وإن كان صار عرفا للاوس والخزرج وسماهم الله تعالى به والظاهر أن كما في موضع نصب على إضمار أي قلنا لكم ذلك كما قال عيسى:
{ فأيدنا الذين آمنوا } بعيسى.
{ على عدوهم } وهم الذين كفروا بعيسى.
{ فأصبحوا ظاهرين } أي قاهرين لهم مستولين عليهم.
[62 - سورة الجمعة]
[62.1-11]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * يسبح لله ما في السموت وما في الأرض } الآية هذه السورة مدنية ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر تأييد من آمن على أعدائهم اتبعه بذكر التنزيه لله تعالى وسعة ملكه وتقديسه وذكر ما أنعم به على أمة محمد صلى الله عليه وسلم من بعثته إليه وتلاوته عليهم كتابه وتزكيتهم فصارت أمته غالبة سائر الأمم قاهرة لها منتشرة الدعوى كما انتشرت دعوة الحواريين في زمانهم.
{ وآخرين } الظاهر أنه معطوف على في الأميين أي وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم بعد وسيلحقون وذلك إشارة إلى بعثته عليه السلام.
{ مثل الذين حملوا التوراة } هم اليهود المعاصرون له عليه السلام كلفوا القيام بأوامرها ونواهيها فلم يطيقوا القيام بها حين كذبوا الرسول وهي ناطقة بنبوته عليه السلام شبه صفتهم بصفة الحمار الذي يحمل كتبا فهو لا يدري ما عليه أكتب هي أم صخر أو غير ذلك وإنما يدرك من ذلك ما يلحقه من التعب.
{ بئس مثل القوم } قال الزمخشري: بئس مثلا مثل القوم " انتهى ". فخرجه على أن يكون التمييز محذوفا وفي بئس ضمير يفسره مثلا الذي ادعى حذفه وقد نص سيبويه على أن التمييز الذي يفسر المضمر المستكن في نعم وبئس ما أجرى مجراهما لا يجوز حذفه والمخصوص بالذم محذوف التقدير بئس مثل القوم المكذبين مثلهم روي أنه لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب يهود المدينة ليهود خيبر إن اتبعتموه أطعناكم وإن خالفتموه خالفنا فقالوا لهم نحن أبناء خليل الرحمن ومنا عزيز ابن الله والأنبياء ومتى كانت النبوة في العرب نحن أحق بها من محمد ولا سبيل إلى اتباعه فنزلت: قل يا أيها الذين هادوا وكانوا يقولون نحن أبناء الله وأحبائه. أي إن كان قولكم حقا فتمنوا أن تنقلوا سريعا إلى دار كرامته المعدة لأوليائه وتقدم تفسير بقية الآية في البقرة.
{ إذا نودي } أي أذن وكان الأذان عند قعود الإمام على المنبر وكذلك كان في زمان الرسول عليه السلام كان إذا صعد المنبر أذن على باب المسجد فإذا نزل بعد الخطبة أقيمت الصلاة وكذا كان في زمن أبي بكر وعمر إلى زمن عثمان كثر الناس وتباعدت المنازل فزاد مؤذنا آخر على داره التي تسمى الزوراء فإذا جلس على المنبر أذن الثاني فإذا نزل من المنبر أقيمت الصلاة ولم يعب أحد ذلك على عثمان رضي الله عنه والظاهر وجوب السعي لقوله: { فاسعوا إلى ذكر الله } وانه يكون المشي خفة والظاهر أن الخطاب بالأمر بالسعي للمؤمنين عموما وأنها فرض على الأعيان وعن بعض الشافعية أنها فرض كفاية وعن مالك رواية شاذة أنها سنة وإنما ذكر البيع من بين سائر المحرمات لأنه أكثر ما يشتغل به أصحاب الأسواق إذ يكثر الوافدون الأمصار من القرى ويجتمعون للتجارة إذا تعالى النهار فأمروا بالبدار إلى تجارة الآخرة ونهوا عن تجارة الدنيا ووقت التحريم من الزوال إلى الفراغ من الصلاة والإشارة بذلكم إشارة إلى السعي وترك البيع والأمر بالانتشار والابتغاء أمر إباحة وفضل الله هو ما يهيئه من حالة حسنة كعيادة مريض وصلة صديق واتباع جنازة وأخذ في بيع وشراء وتصرفات دينية ودنيوية وأمر مع ذلك بإكثار ذكر الله تعالى:
{ وإذا رأوا تجارة أو لهوا } الآية روي أنه كان أصحاب أهل المدينة جوع وغلاء سعر فقدم دحية بعير تحمل ميرة قال مجاهد: وكان من عرفهم أن يدخل بالطبل والمعازف والصياح فدخلت بها سرورا بها ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فانفضوا إلى رؤية ذلك وسماعه وتركوه عليه السلام قائما على المنبر في اثني عشر رجلا قال جابر: أنا أحدهم وقال أبو بكر غالب بن عطية هم العشرة المشهود لهم بالجنة فنزلت وإذا رأوا تجارة.
وقال ابن عطية: قال إليها ولم يقل إليهما تهمما بالأهم إذا كانت هي سبب اللهو ولم يكن اللهو سببها وتأمل إن تقدمت التجارة على اللهو في الرؤية لأنها أهم وأخرت مع التفصيل لتقع النفس أولا على الأبين " انتهى ".
وقوله: وقال إليها ولم يقل إليهما ليس بشىء لأن العطف بأولا يثنى فيه الضمير بل يفرد وفي قوله قائما دلالة على مشروعية القيام في الخطبة وأول من استراح في الخطبة عثمان وأول من خطب جالسا معاوية وناسب ختمها بقوله:
{ خير الرازقين } لأنهم كانوا قد مسهم شىء من غلاء الأسعار كما تقدم في سبب النزول وما مبتدأ وخير خبره.
[63 - سورة المنافقون]
[63.1-11]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * إذا جآءك المنافقون } الآية هذه السورة مدنية نزلت في غزوة بني المصطلق وكانت من عبد الله بن أبي بن سلول وأتباعه وسبب نزولها مذكور في قصة طويلة من مضمونها: أن اثنين من الصحابة ازدحما على ماء وذلك في غزوة بني المصطلق فشج أحدهما الآخر فدعا المشجوج بالأنصار والشاج بالمهاجرين فقال عبد الله بن أبي ما حكى الله عنه من قوله: { لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا } وقوله: { لئن رجعنآ إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل } وعني بالأعز نفسه كلاما قبيحا فسمعه زيد بن أرقم فنقل ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلام رسول الله عبد الله فحلف ما قال شيئا من ذلك فاتهم زيد فأنزل الله تعالى: { إذا جآءك المنافقون } إلى قوله: { لا يعلمون } تصديقا لزيد وتكذيبا لعبد الله ومناسبتها لما قبلها أنه لما كان سبب الانفضاض عن سماع الخطبة بما كان حاصلا عن المنافقين واتبعهم ناس من المؤمنين في ذلك وذلك لسرورهم بالعير التي قدمت بالميرة إذ كان وقت مجاعة جاء ذكر المنافقين وما هم عليه من كراهة أهل الإيمان وأتبعه بقبائح أفعالهم وقولهم: " لا تنفقوا " كانوا هم أصحاب أموال والمهاجرين فقراء قد تركوا أموالهم ومتاجرهم وهاجروا لله تعالى.
{ قالوا نشهد } يجري مجرى اليمين ولذلك تلقى بما تلقى به القسم وكذا فعل اليقين والعلم يجري مجرى القسم بقوله: إنك لرسول الله، وأصل الشهادة أن يواطىء اللسان القلب هذا بالنطق وذاك بالاعتقاد فأكذبهم الله تعالى وفضحهم بقوله: { والله يشهد إن المنافقين لكاذبون }. أي لم تواطىء قلوبهم ألسنتهم على تصديقك واعتقادهم أنك غير رسول الله فهم كاذبون عند الله وعند من خبر ما لهم أو كاذبون عند أنفسهم إذ كانوا يعتقدون أن قولهم إنك لرسول الله كذب وجاء بين شهادتهم وتكذيبهم قوله: { والله يعلم إنك لرسوله } إيذانا أن الأمر كما نطقوا به من كونه رسول الله حقا. ولو لم تأت هذه الجملة لتوهم أن قولهم هذا كذب فوسطت الجملة بينهما ليزول ذلك التوهم.
{ اتخذوا أيمانهم } سمي شهاداتهم تلك إيمانا ولما ذكر أنهم كاذبون أتبعه بموجب كذبهم وهو اتخاذ أيمانهم جنة يستترون بها ويذبون بها عن أنفسهم وأموالهم.
{ فصدوا } أي أعرضوا وصدوا اليهود المشركين عن الدخول في الإسلام.
{ ذلك } أي الحلف الكاذب والصد المقتضيان لهم سوء العمل بسبب إيمانهم ثم كفرهم.
{ فطبع } أي ختم على قلوبهم ومعنى آمنوا نطقوا بكلمة الشهادة وفعلوا كما يفعل المسلمون ثم كفروا أي ظهر كفرهم بما نطقوا به بعد
{ تعجبك أجسامهم } الخطاب للرسول أو للسامع أي لحسنها ونضارتها وجمالها وهم رؤساء المنافقين.
{ وإن يقولوا تسمع لقولهم } وذلك لفصاحة ألسنتهم وجهارة أصواتهم فكان منظرهم يروق ومنطقهم يخلب. شبهوا بالخشب لعزوب افهامهم وفراغ قلوبهم من الإيمان والجملة التشبيهية وصف لهم بالجبن والخور ويدل عليه يحسبون كل صيحة عليهم وعليهم في موضع المفعول الثاني ليحسبون أي واقعة عليهم وذلك لجبنهم وما في قلوبهم من الرعب.
{ وإذا قيل لهم تعالوا } لما صدق الله زيد بن أرقم فيما أخبر به عن ابن سلول مقت الناس ابن سلول ولامه المؤمنون من قومه وقال بعضهم أمض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترف بذنبك يستغفر لك فلوى رأسه إنكارا لهذا الرأي وقال لهم لقد أشرتم علي بالإيمان فآمنت وأشرتم علي بأن أعطي زكاة مالي ففعلت ولم يبق لكم إلا أن تأمروني بالسجود لمحمد ويستغفر مجزوم على جواب الأمر ورسول الله يطلبه عاملان أحدهما يستغفر والآخر تعالوا فاعمل الثاني على المختار عند أهل البصرة ولو أعمل الأول لكان التركيب تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله ولى رؤوسهم على سبيل الاستهزاء واستغفار الرسول لهم هو استتابتهم من النفاق فيستغفر لهم إذ كان استغفاره متسببا عن استتابتهم فيتوبون.
{ يصدون وهم } عن المجيء ويصدون جملة حالية وهم مستكبرون جملة حالية أيضا ولما سبق في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون البتة سوى بين استغفاره لهم وعدمه.
{ يقولون لئن رجعنآ إلى المدينة } لما سمع عبد الله ولد عبد الله بن أبي وكان رجلا صالحا هذه الآية جاء إلى أبيه فقال: يا أبت أنت والله الذليل ورسول الله العزيز فلما دنا إلى المدينة جرد السيف عليه ومنعه الدخول حتى يأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان فيما قال له وراءك والله له تدخلها حتى تقول رسول الله الأعز وأنا الأذل فلم يزل حبيسا في يده حتى أذن له الرسول عليه السلام بتخليته وفي هذا الحديث أنه قال له لئن لم تقر لله ولرسوله بالعزة لأضربن عنقك قال: أفاعل أنت قال: نعم. فقال: أشهد أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين.
{ لا تلهكم } لا تشغلكم.
{ أموالكم } بالسعي في نمائها.
{ ولا أولادكم } بالسرور بهم والنظر في مصالحهم في حياتكم وبعد مماتكم.
{ عن ذكر الله } هو عام في الصلاة والثناء على الله بالتسبيح والتحميد وغير ذلك.
{ ومن يفعل ذلك } أي الشغل عن ذكر الله بالمال والولد.
{ فأولئك هم الخاسرون } حيث آثروا العاجل على الآجل والفاني على الباقي.
{ وأنفقوا من ما رزقناكم } المراد الزكاة وقيل عام في كل مفروض ومندوب.
{ لولا أخرتني } أي هلا أخرت موتي إلى زمان قليل.
{ فأصدق } هو منصوب على جواب الرغبة وقرأ الجمهور.
{ وأكن } مجزوما قال الزمخشري : عطفا على محل فاصدق كأنه قيل: إن أخرتني أصدق وأكن. وقال ابن عطية: عطفا على الموضع لأن التقدير ان تؤخرني أصدق وأكن هذا مذهب أبو علي الفارسي وأما ما حكاه سيبويه عن الخليل فهو غير هذا وهو أنه جزم أكن على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني ولا موضع هنا لأن الشرط ليس بظاهر وإنما يعطف على الموضع حيث يظهر الشرط كقوله تعالى:
من يضلل الله فلا هادي له
[الأعراف: 186] ويذرهم فمن قرأ بالجرم عطف على موضع فلا هادي له لأنه لو وقع هنالك فعل كان مجزوما " انتهى ".
والفرق بين العطف على الموضع والعطف على التوهم أن العامل في العطف على الموضع موجود دون مؤثرة والعامل في العطف على التوهم مفقود وأثره موجود.
{ ولن يؤخر الله } فيه تحريض على المبادرة بأعمال الطاعات حذرا أن يجيء الأجل وقد فرط ولم يستعد للقاء الله تعالى وقرأ الجمهور: تعلمون بتاء الخطاب للناس كلهم وأبو بكر بالياء خص الكفار بالوعيد ويحتمل العموم.
[64 - سورة التغابن]
[64.1-18]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * يسبح لله ما في السموت وما في الأرض } الآية هذه السورة مدنية في قول الأكثرين ومناسبتها لما قبلها أن ما قبلها مشتمل على حال المنافقين وفي آخرها خطاب المؤمنين فأتبعه بما يناسبه من قوله هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن وهذا تقسيم في الإيمان والكفر بالنظر إلى الاكتساب عند جماعة من المتأولين.
{ وصوركم } هذ تعديد للنعمة في حسن الخلق لأن أعضاء بني آدم متصرفة بجميع ما يتصرف به أعضاء الحيوان وبزيادات كثيرة فضل بها ثم هو مفضل بحسن الوجه وجمال الجوارح كما قال تعالى:
لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم
[التين: 4] ونبه تعالى بعلمه بما في السماوات والأرض ثم بعلمه بما يسر العباد وما يعلنونه ثم بعلمه بما أكنته الصدور على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شىء لا من الكليات ولا من الجزئيات.
{ ألم يأتكم } الخطاب لقريش ذكروا بما حل بالكفار قبلهم عاد وثمود وقوم إبراهيم وغيرهم ممن صرح بذكرهم في سورة (براءة) وغيرها وقد سمعت قريش أخبارهم.
{ فذاقوا وبال أمرهم } أي مكروهه وما يسؤوهم منه.
{ ذلك } أي الوبال.
{ بأنه } أي بان الشأن والحديث استبعدوا أن يبعث الله تعالى من البشر رسولا كما استبعدت قريش.
{ فقالوا } على سبيل الاستغراب.
{ أبشر يهدوننا } وذلك أنهم يقولون نحن متساوون في البشرية فأنى يكون لهؤلاء تمييز علينا بحيث يصيرون هداة لنا وارتفع أبشر عند الحوفي وابن عطية على الابتداء والخبر يهدوننا والأحسن أن يكون مرفوعا على الفاعلية لأن همزة الاستفهام تطلب الفعل. فالمسألة من باب الاشتغال.
{ فكفروا } والعطف بالفاء يدل على تعقب كفرهم مجيء الرسل بالبينات أي لم ينظروا في تلك البينات ولا تأملوها بل عقبوا مجيئها بالكفر.
{ واستغنى الله } استفعل بمعنى الفعل الجرد وغناه تعالى أزلي فالمعنى أنه ظهر غناه عنهم إذ أهلكهم وليست استفعل هنا للطلب وتقدم تفسير الزعم والذين كفروا أهل مكة بلى إثبات لما بعد حرف النفي.
{ وذلك على الله يسير } أي لا يصرفه عنه صارف.
{ فآمنوا بالله ورسوله } وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
{ والنور الذي أنزلنا } هو القرآن وانتصب يوم بقوله لتنبؤون أو بخبير بما فيه من معنى الوعيد والجزاء أو بأذكر مضمرة.
{ ليوم الجمع } يجمع فيه الأولون والآخرون وذلك أن كل واحد يبعث طامعا في الخلاص ورفع المنزلة.
{ ذلك يوم التغابن } مستعار من تغابن القوم في التجارة وهو أن يغبن بعضهم بعضا لأن السعداء نزلوا منازل الأشقياء وفي الحديث
" ما من عبد يدخل الجنة إلا أرى مقعده من النار لو أساء ليزداد شكرا وما من عبد يدخل النار إلا أرى مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة وذلك معنى يوم التغابن ".
{ ومن يؤمن } من شرطية حمل ما بعدها على اللفظ فأفرد الضمير وخالدين نصبا على الحال على معنى من لا على لفظه.
{ مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله } الظاهر إطلاق المصيبة على الرزية وما يصيب العبد من سوء في نفس ومال وولد وأن جميع الحوادث لا تصيبه إلا بإذن الله ولما قال تعالى: { مآ أصاب من مصيبة إلا بإذن الله } ثم أمر بطاعة الله ورسوله حذر مما يلحق الرجل من زوجه وولده بسبب ما يصدر من أحدهم من العداوة فقال:
{ يأيها الذين آمنوا إن من أزواجكم } الآية عن عطاء بن أبي رباح أن عوف بن مالك الأشجعي أراد الغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم فاجتمع أهله وأولاده مثبطوه وشكوا إليه فراقة فرق فلم يفز ثم أنه ندم وهم بمعاقبتهم فنزلت الآية: ولا أعدى على الرجل من زوجه وولده إذا كانا عدوين وذلك في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فبإذهاب ماله وعرضه وأما في الآخرة فبما يسعى من اكتسابه من الحرام لهما وبما يكسبانه منه بسبب جاهه.
{ إنمآ أموالكم وأولادكم فتنة } أي بلاء ومحنة لأنهم يوقعون في الاثم والعقوبة ولا بلاء أعظم منهما وفي باب العداوة جاء بمن التي تقتضي التبعيض وفي الفتنة حكم بها على الأموال والأولاد لا على بعضها وذلك لغلبة الفتنة لهما وكفى بالمال فتنة قصة ثعلبة بن حاطب أحد من نزل فيه ومنهم من عاهد الله الآية.
{ والله عنده أجر عظيم } تزهيد في الدنيا وترغيب في الآخرة والأجر العظيم الجنة.
{ فاتقوا الله ما استطعتم } أي جهدكم.
{ واسمعوا } ما توعظون به.
{ وأطيعوا } فيما أمرتم به ونهيتم عنه.
{ وأنفقوا } فيما وجب عليكم وخيرا منصوب بفعل محذوف تقديره وأتوا خيرا أو على إضمار يكن فيكون خبرا أو على أنه نعت لمصدر محذوف أي أنفقا خيرا أو على أنه حال أو على أنه مفعول بوأنفقوا خيرا أي ما لا أقوال الأول عن سيبويه ولما أمر بالإنفاق أكده بقوله:
{ إن تقرضوا الله قرضا حسنا } ورتب عليه تضعيف القرض وغفران الذنب وفي لفظ القرض تلطف في الاستدعاء وفي لفظ المضاعفة تأكيد للبذل لوجه الله تعالى ثم اتبع جوابي الشرط بوصفي أحدهما عائد إلى المضاعفة إذ شكره تعالى مقابل للمضاعفة وحلمه مقابل للغفران قيل وهذا الحض هو في الزكاة المفروضة وقيل في المندوب إليه وتقدم الخلاف في القراءة في يوق وفي شح وفي يضاعفه.
[65 - سورة الطلاق]
[65.1-12]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * يأيها النبي إذا طلقتم النسآء } الآية هذه السورة مدنية قيل وسبب نزولها طلاق عبد الله بن عمر وغير ذلك ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر الفتنة بالمال والولد أشار إلى الفتنة بالنساء وأنهن يعرضن الرجال للفتنة حتى لا يجد منها مخلصا إلا بالطلاق ويا أيها النبي نداء للنبي عليه السلام وخطاب على سبيل التكريم والتنبيه إذا طلقتم هو على إضمار القول أي قل لأمتك إذا طلقتم.
وقال الزمخشري: خص النبي صلى الله عليه وسلم بالنداء وعم بالخطاب لأنه إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم يا فلان إفعلوا كيت وكيت إظهار التقدمة واعتبار الترأسة وأنه مدره قومه ولسانهم والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه فكان هو وحده في حكمهم كلهم وسادا مسد جميعهم " انتهى ". وهو كلام حسن ومعنى إذا طلقتم إذا أردتم تطليقهن والنساء يعني المدخول بهن.
{ فطلقوهن } أي أوقعوا الطلاق.
{ لعدتهن } هو على حذف مضاف أي لاستقبال عدتهن واللام للتوقيت نحو كتبته لليلة بقيت من شهر كذا وتقدير الزمخشري هنا ماله محذوفة يدل عليها المعنى يتعلق بها المجرور أي مستقبلات لعدتهن ليس بجيد لأنه قدر عاملا خاصا ولا يحذف العامل في الظرف والجار والمجرور إذا كان خاصا بل إذا كان كونا مطلقا لو قلت زيد عندك أو في الدار تريد ضاحك عندك أو ضاحك في الدار لم يجز فتعليق الكلام بقوله: { فطلقوهن } ويجعل على حذف مضاف هو الصحيح والظاهر أن الخطاب في وأحصوا العدة للأزواج أي اضبطوها بالحفظ وفي الاحصاء فوائد مراعاة الرجعة وزمان النفقة والسكن وتوزيع الطلاق على الاقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثا والعلم بأنها قد بانت فيتزوج بأختها وبأربع سواها ونهى تعالى عن إخراجهن من مساكنهن حتى تنقضي العدة ونهاهن أيضا عن خروجهن وأضاف البيوت إليهن لما كان سكناهن فيها ونهيهن عن الخروج لا يبيحه إذن الزوج إذ لا أثر لأذنه والاسكان على الزوج فإن كان ملكه أو بكراء فذاك أو ملكها فلها عليه أجرته وسواء في ذلك الرجعية والمبتوتة وسنة ذلك أن لا تبيت عن بيتها ولا يخرج عنه نهارا إلا لضرورة وذلك لحفظ النسب والاحتفاظ بالنساء.
{ إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } وهي الزنا.
{ لا تدرى } أي أيها السامع.
{ لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } قال المفسرون: الأمر هنا الرغبة في ارتجاعها أو الميل إليها بعد انحرافه عنها أو ظهور حمل فيراجعها من أجله ونصب لا تدري على جملة الترجي فلا تدري معلقة عن العمل.
{ فإذا بلغن أجلهن } أي أشرفن على انقضاء عدتهن.
{ فأمسكوهن } أي راجعوهن.
{ بمعروف } أي بغير ضرار.
{ أو فارقوهن بمعروف } أي سرحوهن بإحسان والمعنى أتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن والإمساك بمعروف هو حسن العشرة فيما للزوجة على الزوج والمفارقة بمعروف هو أداء المهر والتمتع والحقوق الواجبة والوفاء بالشرط والظاهر وجوب الإشهاد على ما يقع من الإمساك وهو الرجعة أو المفارقة وهي الطلاق وهذا الإشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة كقوله تعالى:
وأشهدوا إذا تبايعتم
[البقرة: 282]، وعند الشافعي واجب في الرجعة مندوب إليه في الفرقة.
{ وأقيموا الشهادة لله } هذا أمر للشهود أي لوجه الله تعالى خالصا لمراعاة مشهود له ولا مشهود عليه لا يلحظ سوى إقامة الحق.
{ ذلكم } إشارة إلى إقامة الشهادة إذ نوازل الأشياء تدور عليها وبها يتميز المبطل من المحق.
{ ومن يتق الله } قال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: هي في معنى الطلاق أي ومن لا يتعدى في طلاق السنة إلى الطلاق الثلاث وغير ذلك يجعل الله له مخرجا.
{ ومن يتوكل على الله } أي يفوض أمره إليه.
{ فهو حسبه } أي كافيه.
{ إن الله بالغ أمره } لا بد من نفوذ أمر الله تعالى توكلت أو لم تتوكل. وقرىء بالغ بالتنوين أمره بالنصب وقرىء بالغ أمره بالإضافة.
{ قد جعل الله لكل شيء قدرا } أي تقديرا وميقاتا لا يتعداه.
{ واللائي يئسن من المحيض } الآية روي أن قوما منهم أبي بن كعب وقلاد بن النعمان لما سمعوا قوله تعالى:
والمطلقات يتربصن بأنفسهن
[البقرة: 228] قالوا يا رسول الله فما عدة من لا قرء لها من صغر أو كبر فنزلت هذه الآية فقال قائل منهم ما عدة الحامل فنزلت.
{ وأولات الأحمال } الآية ومعنى إن ارتبتم في أنها نسيت أم لا لأجل إمكان ظهور حمل وإن كان انقطع دمها فإن ارتبتم هو للمخاطبين أي إن لم تعلموا عدة الآيسة واللائي لم يحضن فالعدة هذه فتلخص في قوله: { إن ارتبتم } قولان: أحدهما أنه على ظاهر مفهوم اللغة فيه وهو حصول الشك والآخران معناه التيقن للإياس والظاهر أن قوله: { واللائي لم يحضن } يشمل من لم تحض لصغر ومن لا يكون لها حيض البتة وهذا موجود في النساء وهو أنها تعيش إلى أن تموت ولا تحيض ومن أتى عليها زمان الحيض وما بلغت ولم تحض وأولات الأحمال عام في المطلقة والمتوفى عنها زوجها ومن في من حيث سكنتهم للتبعيض أي بعض مكان سكناكم ومن وجدكم قال الزمخشري: فإن قلت فقوله: { من وجدكم } قلت هو عطف بيان لقوله: { من حيث سكنتم } وتفسير له كأنه قيل: أسكنوهن مكانا من ساكنكم مما تطيقونه والوجد الطاقة والوسع " انتهى ". ولا يعرف عطف بيان يعاد فيه العامل إنما هذا طريقة البدل مع حرف الجر ولذلك أعربه أبو البقاء بدلا من قوله من حيث سكنتم.
{ ولا تضآروهن } ولا تستعملوا معهن الضرار.
{ لتضيقوا عليهن } في المسكن ببعض الأسباب من أزال من لا يوافقهن أو شغل مكانهن أو غير ذلك حتى تضطروهن إلى الخروج.
{ وإن كن أولات حمل } لا خلاف في وجوب سكناها ونفقتها بتت أو لم تبت فإن كانت متوفى عنها فأكثر العلماء على أنها لا نفقة لها وعن علي وابن مسعود رضي الله عنهما تجب نفقتها في التركة.
{ فإن أرضعن لكم } أي ان ولدن وأرضعن المولود وجب لها النفقة وهي الأجر والكسوة وسائر المؤن على ما قرر في كتب الفقه.
{ وإن تعاسرتم } أي تضايقتم وتشاكستم فلم ترض إلا بما ترضى به الأجنبية وأبى الزوج الزيادة أو أبى الزوج إلا رضاع الا مجانا وأبت هي إلا بعوض.
{ فسترضع له أخرى } أي يستأجر غيرها وليس له إكراهها فإن لم يقبل إلا ثدي أمه أجبرت على الإرضاع بأجرة مثلها ولا يختص هذا الحكم من وجوب أجرة الرضاع بالمطلقة بل المنكوحة في معناها.
{ وكأين من قرية عتت عن أمر ربها } عتت أعرضت عن أمر ربها على سبيل العناد والتكبر والظاهر في فحاسبناها الجمل الأربعة من الحساب والعذاب والذوق والخسران من الآخرة وجيء به على لفظ الماضي لتحقق وقوعه ولما ذكر تعالى ما حل بهذه القرية العاتية أمر المؤمنين بتقوى الله تحذيرا من عقابه ونبه على ما يحض على التقوى وهو إنزال الذكر والظاهر أن الذكر هو القرآن وأن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم ويكون بدلا على حذف مضاف أي ذكر رسول والضمير في ليخرج عائد على الله تعالى.
{ ومن يؤمن } راعى اللفظ أولا في من الشرطية فأفرد الضمير يؤمن يعمل ويدخله ثم راعى المعنى في خالدين فجمع ثم راعى اللفظ في قد أحسن الله له فأفرد واستدل النحويون بهذه الآية على مراعاة اللفظ أولا ثم مراعاة المعنى ثم مراعاة اللفظ.
{ الله الذي خلق سبع سموت } لا خلاف أن السماوات سبع بنص القرآن والحديث والمثلية في العدد أي سبع أرضين.
{ يتنزل الأمر بينهن } من السماوات السبع إلى الأرضين السبع وعلما تمييز منقول من الفاعل تقديره أحاط علمه بكل شيء.
[66 - سورة التحريم]
[66.1-12]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * يأيها النبي لم تحرم مآ أحل الله } الآية هذه السورة مدنية وسبب نزولها لما يأتي ذكره في تفسير أوائلها ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر جملة من أحكام زوجات المؤمنين ذكر هنا ما جرى من بعض زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم ويا أيها النبي نداء إقبال وتشريف وتنبيه بالصفة على عصمته مما يقع فيه من ليس بمعصوم لم تحرم سؤال تلطف ولذلك قدم مثله يا أيها النبي ومعنى تحرم تمنع وليس التحريم المشروع بوحي من الله تعالى وإنما هو إقناع لتطييب خاطر بعض من تحسن معه العشرة.
{ مآ أحل الله } هو مباشرة مارية جاريته وكان ألم بها في بيت بعض نسائه فغارت من ذلك صاحبة البيت فطيب خاطرها بامتناعه منها واستكتمها ذلك فأفشته إلى بعض نسائه وقيل هو عسل كان شربه عند بعض نسائه فكان ينتابها بذلك فغار بعضهن من دخوله بيت التي عندها العسل وتواصين على أن يذكرن له أن رائحة ذلك العسل ليس بطيبة فقال: لا أشره وتبتغي في موضع الحال أو استئناف أخبار.
{ تحلة أيمانكم } مصدر حلل ككرم تكرمه.
{ إلى بعض أزواجه } هي حفصة والحديث هو بسبب مارية.
{ فلما نبأت به } أي أخبرت عائشة وقيل الحديث إنما هو شرب العسل.
{ وأظهره الله } أي أطلعه عليه أي على إفشائه وكان قد تكوتم فيه وذلك بإخبار جبريل عليه السلام وجاءت الكناية هنا عن المفشية والحذف للمفشي إليها بالسر حياطة وصونا عن التصريح بالإسم إذ لا يتعلق بالتصريح بالاسم غرض وقرىء عرف بالتشديد والتخفيف.
{ وأعرض عن بعض } أي تكرما وحياء وحسن عشرة قال الحسن ما استقصى كريم قط.
وقال سفيان ما زال التغافل من فعل الكرام ومفعول عرف المشدد محذوف أي عرفها بعضه أي أعلم ببعض الحديث وقيل المعرف حديث العسل والذي أعرض عنه حديث مارية ولما أفشت حفصة الحديث لعائشة واكتمتها إياه ونبأها الرسول صلى الله عليه وسلم به ظنت حفصة أن عائشة فضحتها فقالت من أنبأك هذا على سبيل التثبت فأخبرها أن الله هو الذي نبأه به فسكنت وسلمت.
{ إن تتوبآ إلى الله } إنتقال من غيبة إلى خطاب ويسمى الإلتفات والخطاب لحفصة وعائشة.
{ فقد صغت } أي مالت على الصواب وأتى بالجمع في قوله:
{ قلوبكما } وحسن ذلك إضافة إلى مشى وهو ضميرها والجمع في مثل هذا أكثر استعمالا من المثنى والتثنية دون الجمع وقرن تظاهرا بالتشديد وأصله تتظاهر أو بالتخفيف والأصل تتظاهر أو المعنى وأن تتعاونا عليه أي في إفشاء سره والإفراط في الغيرة.
{ فإن الله هو مولاه } أي مظاهره ومعينه.
{ وجبريل } مبتدأ وما بعده معطوف عليه والخبر ظهر فيكون ابتداء الجملة بجبريل وهو أمين وحي الله تعالى واختتامه بالملائكة وبدىء بجبريل وأفرد بالذكر تعظيما له وإظهارا لمكانته عند الله تعالى ويكون قد ذكر مرتين مرة بالنص ومرة في العموم واكتنف صالح المؤمنين جبريل والملائكة تشريفا لهم واعتناء بهم إذ جعلهم بين الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون فعلى هذا جبريل داخل في الظهراء لأني الولاية ويختص الرسول بأن الله هو مولاه وفصل بين عسى وخبرها بالشرط وهو إن طلقكن ودل ذلك على أنه عليه السلام لم يقع منه طلاق والمبدل به محذوف تقديره أن يبدله بكن وخيرا صفة وهي أفعل التفضيل ولذلك عديت بمن و.
و { مسلمات } وما بعدها صفة لقوله أزواجا وأبكارا معطوف على ثيبات وهما تقسيم للأزواج ولما وعظ أزواج الرسول موعظة خاصة اتبع ذلك بموعظة عامة للمؤمنين وأهليهم وعطف وأهليكم على أنفسكم لأن رب المنزل وهو مسؤول عن رعيته ومعنى وقايتهم حملهم على الطاقة وإلزامهم أداء ما فرض الله عليهم
" قال عمر: يا رسول الله نقي أنفسنا فكيف لنا بأهلينا قال: تنهونهن عما نهاكم الله عنه وتأمرونهن بما أمركم الله به فيكون ذلك وقاية بينهن وبين النار "
ودخل الأولاد في وأهليكم وانتصب ما أمرهم على البدل أي لا يعصون أمره تعالى كقوله:
أفعصيت أمري
[طه: 93] أو على إسقاط حرف الجر أي فيما أمرهم.
{ ويفعلون ما يؤمرون } قيل كرر المعنى توكيدا.
{ لا تعتذروا اليوم } خطاب لهم عند دخولهم النار أي لأنه لا ينفعكم الإعتذار ولا فائدة فيه.
{ يأيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا } بفتح النون صفة للتوبة وبضمها هو مصدر وصف به التوبة على سبيل المبالغة وروي عن عمر وعبد الله أنها التي لا دعوة بعدها كما لا يعود اللبن للضرع ورافعه معاذ للنبي صلى الله عليه وسلم.
{ يوم لا يخزى } منصوب بيدخلكم ولا يخزى تعريض عن أخزاهم الله تعالى من أهل الكفر والنبي هو محمد صلى الله عليه وسلم وفي الحديث
" أنه عليه السلام تضرع في أمر أمته فأوحى الله تعالى إليه إن شئت جعلت حسابهم إليك فقال يا رب أنت أرحم بهم مني فقال تعالى: (إذا لا أخزيك فيهم) ".
{ ضرب الله مثلا } ضرب تعالى المثل لهم بامرأة نوح وامرأة لوط في أنهم لا ينفعهم مع كفرهم لملة نسب ولا وصلة صهر والكفر قاطع العلائق بين الكافر والمؤمن وإن كان المؤمن في أقصى درجات الصلاح ألا ترى إلى قوله تعالى
إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح
[هود: 46] كما لم ينفع تينك المرأتين مع كونهما زوجتي نبيين وجاءت الكناية عن إسميهما العلمين بقوله:
{ عبدين من عبادنا } لما في ذلك من التشريف بالإضافة إلى الله تعالى ولم يأت التركيب بالضمير عنهما فيكون تحتهما لما قص من ذكر وصفهما بقوله: { صالحين } لأن الصلاح هو الذي يمتاز به من اصطفاه تعالى كقوله في حق إبراهيم عليه السلام
وإنه في الآخرة لمن الصالحين
[البقرة: 130].
{ فخانتاهما } وذلك بكفرهما وقول امرأة نوح عليه السلام هو مجنون ونميمة امرأة لوط عليه السلام بمن ورد عليه من الأضياف قاله ابن عباس وقال: لم تزن امرأة نبي قط ولا ابتلي في نسائه بالزنا.
{ فلم يغنيا } أي لوط ونوح.
{ عنهما } عن امرأتيهما.
{ من الله } أي من عذاب الله تعالى.
{ وقيل ادخلا } أي وقت موتهما أو يوم القيامة.
{ مع الداخلين } الذين لا وصلة بينهم وبين الأنبياء.
{ وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأت فرعون } مثل تعالى حال المؤمنين في أن وصلة الكفار لا تضرهم ولا تنقص من ثوابهم بحال إمرأة فرعون واسمها آسية بنت مزاحم ولم يضرها كونها كانت تحت فرعون بل نجاها منه إيمانها وبحال مريم إذا أوتيت من كرامة الدنيا والآخرة والاصطفاء على نساء العالمين مع أن قومها كانوا كفارا.
{ عندك بيتا في الجنة } هذا يدل على إيمانهم وتصديقها بالبعث قيل كانت عمة موسى عليه السلام وآمنت حين سمعت بتلقف عصاه ما أفك السحر طلب من ربها القرب من رحمته وكان ذلك أهم عندها فقدمت الظرف وهو عندك بيتا ثم بينت مكان القرب فقالت في الجنة.
{ ونجني } قيل دعت بهذه الدعوات فنجاها الله تعالى أحسن نجاة والقوم الضالين هم القبط.
{ ومريم } معطوف على امرأة فرعون وجمع تعالى في التمثيل بين التي لها زوج والتي لا زوج لها تسلية للأرامل وتطييبا لأنفسهن وقرىء كلماته جمعا فاحتمل أن تكون الصحف المنزلة على إدريس عليه السلام وسماها كلمات لقرصا وقرىء وكتبه على الجمع وكتابه على الأفراد والكتاب هو الإنجيل.
{ وكانت من القانتين } غلب الذكورية على التأنيث القانتين شامل للذكور والإناث ومن للتبعيض.
[67 - سورة الملك]
[67.1-15]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * تبارك الذي بيده الملك } الآية هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها أنه لما ضرب للكفار مثلا بتينك المرأتين المحتوم لها بالشقاوة وإن كانتا تحت نبيين ومثلا للمؤمنين بآسية ومريم وهما محتوم لهما بالسعادة وإن كان قومها كافرين كان ذلك تصرفا في ملكه على ما سبق به قضاؤه فقال تعالى: { تبارك } أي تعالى وتعاظم { الذي بيده الملك } وهو كناية عن الإحاطة والقهر وكثيرا ما جاء نسبة اليد إليه تعالى كقوله:
فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء
[يس: 83] والملك هنا هو على الإطلاق لا يبيد ولا يختل ومعنى:
{ الذي خلق الموت والحياة } إيجاد ذلك المصحح وإعدامه والمعنى خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون وسمى علم الواقع منهم باختيارهم بلوى وهي الخبرة استعارة من فعل المختبر وفي الحديث أنه فسر.
{ أيكم أحسن عملا } أي أيكم أحسن عقلا وأشدكم لله خوفا وأحسنكم في أمره ونهيه نظرا وإن كان أقلكم تطوعا وانتصب.
{ طباقا } على الوصف لسبع فإما أن يكون مصدر طابق مطابقة وطباقا كقولهم طابق النعل خصفها طبقا على طبق وصف به على سبيل المبالغة والتفاوت تجاوز الحد الذي يجب له زيادة أو نقصانا والخطاب في ترى لكل مخاطب أو للرسول عليه السلام ولما أخبر تعالى أنه لا تفاوت في خلقه أمر بترديد البصر في الخلق المناسب فقال:
{ فارجع البصر } ففي الفاء معنى التسبب والمعنى أن العيان يطابق الخبر والفطور الشقوق يقال فطر ناب البعير أي شق اللحم وظهر وقرىء: تفاوت وتفوت والحملة من قوله هل ترى من فطور في موضع نصب بفعل معلق محذوف أي فانظر هل ترى أو ضمن فارجع البصر معنى فانظر ببصرك هل ترى فيكون معلقا.
{ ثم ارجع } أي ردده.
{ كرتين } هي تثنية لأشفع الواحد بل يراد به التكرار كأنه قال : كرة بعد كرة أي كرات كثيرة.
{ وهو حسير } أي كليل.
{ السمآء الدنيا } هي التي نشاهدها.
{ بمصبيح } أي بنجوم مضيئة.
{ وجعلنها رجوما } أي جعلنا منها لأن السماء ذاتها ليست الرجوم والظاهر عوده على مصابيح ونسب الرجم إليها لأن الشهاب المتبع للمسترق منفصل من نارها والكوكب باب في فلكه على حاله فالشهاب كقبس يؤخذ من نار والنار باقية لا تنقص والظاهر أن الشياطين هم مسترقو السمع وان الرجم هو حقيقة يرمون بالشهب كما تقدم في الحجر وغيرها والضمير في لهم عائد على الشياطين. وقرىء:
{ عذاب } بالرفع مبتدأ خبره في الجار والمجرور قبله وبالنصب على إضمار أعتدنا.
{ إذآ ألقوا فيها } أي طرحوا كما يطرح الحطب في النار العظيمة ويرمى به ومثله حطب جهنم.
{ سمعوا لها } أي لجهنم.
{ شهيقا } أي صوتا منكرا كصوت الحمار تصوت مثل ذلك لشدة توقعوها وغليانها ويحتمل أن يكون على حذف مضاف أي سمعوا لأهلها كما قال تعالى:
لهم فيها زفير وشهيق
[هود: 106].
{ وهي تفور } تغلي بهم على المرجل.
{ تكاد تميز } أي ينفصل بعضها من بعض لشدة اضطرابها.
{ كلما ألقي فيها فوج } أي فريق من الكفار.
{ سألهم خزنتهآ } سؤال توبيخ وتقريع وهو مما يزيدهم عذابا إلى عذابهم وخزنتها مالك وأعوانه.
{ ألم يأتكم نذير } ينذركم بهذا اليوم.
{ قالوا بلى } إعتراف بمجيء النذر إليهم والظاهر أن قوله إن أنتم من قول الكفار للرسل الذين جاؤوا نذرا لهم أنكروا أولا أن الله تعالى نزل شيئا واستجهلوا ثانيا من أخبر أنه تعالى أرسل إليهم الرسل وإن قاتل ذلك في حيرة عظيمة فإن كان الخطاب في إن أنتم للرسل فنذير أريد به الجنس ولذلك جاء الخطاب بالجمع.
{ وقالوا } أي الخزنة حين حاوروهم.
{ لو كنا نسمع } سماع طالب للحق.
{ أو نعقل } عقل متأمل له لم نستوجب الخلود في النار.
{ فاعترفوا } حين لم ينتفعوا بالاعتراف.
{ بذنبهم } أي بتكذيب الرسل.
{ فسحقا } أي فبعدا لهم وهو دعاء عليهم والسحق البعد وانتصابه على المصدر أي سحقهم الله سحقا.
{ وأسروا قولكم } خطاب لجميع الخلق قال ابن عباس: ان بعض المشركين قالوا لبعض أسروا قولكم لا يسمعكم إله محمدا.
{ ألا يعلم } الهمزة للإستفهام ولا للنفي والظاهر أن من مفعول والمعنى أينتفي علمه بمن خلق وهو الذي لطف علمه ودق وأحاط بخفيات الأمور وجلياتها.
{ هو الذي جعل لكم } منة منه تعالى بذلك والذلول فعول للمبالغة.
{ فامشوا في مناكبها } أمر بالتصرف فيها والاكتساب ومناكبها قال ابن عباس هي الجبال.
{ وإليه النشور } أي البعث فيسألكم عن شكر هذه النعم.
[67.16-30]
{ أءمنتم من في السمآء } هذا مجاز وقد قام البرهان العقلي على أنه تعالى ليس بمتحيز في جهة ومجازه أن ملكوته في السماء لأن في السماء هو صلة من ففيه الضمير الذي كان في العامل فيه وهو استقر أي من في السماء هو أي ملكوته فهو على حذف مضاف وملكوته في كل شىء لكن خص السماء بالذكر لأنها مسكن ملائكته وثم عرشه وكرسيه واللوح المحفوظ ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأمره ونهيه أو جاء هذا على طريق اعتقادهم إذ كانوا مشبهة فيكون المعنى أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو المتعالى عن المكان.
{ أن يخسف بكم الأرض } هو ذهابها سفلى.
{ فإذا هي تمور } أي تموج وتذهب كما يذهب التراب في الريح والنذير والنكير مصدران بمعنى الإنذار والإنكار ولما حذرهم ما يمكن إحلاله بهم من الخسف وإرسال الحاصب نبههم على الاعتبار بالطير وما أحكم من خلقها وعلى عجز آلهتهم عن شىء من ذلك وناسب ذكر الاعتبار بالطير إذ قد تقدمه الحاصب وقد أهلك الله أصحاب الفيل بالطير والحاصب الذي رمتهم به ففيه اذكار قريش بهذه الصفة وأنه لو تعالى لو شاء أهلكهم بحاصب ترمي به الطير كما فعل بأصحاب الفيل.
{ صفت } باسطة أجنحتها صافتها كأنها ساكنة.
{ ويقبضن } يضممن الأجنحة إلى جوانبها وهاتان حالتان للطائر يستريح من إحداهما إلى الأخرى وعطف الفعل على الاسم لما كان في معناه.
{ ما يمسكهن إلا الرحمن } بقدرته.
{ بل لجوا } تمادوا.
{ في عتو } في تكبر وعناد.
{ ونفور } شراد عن الحق لثقله عليهم.
{ مكبا على وجهه } قال قتادة: نزلت مخبرة عن حال القيامة وأن الكفار يمشون على وجوههم والمؤمنون يمشون على استقامة
" وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم كيف يمشي الكافر على وجهه فقال: ان الذي أمشاه في الدنيا على رجليه قادر على أن يمشيه في الآخرة على وجهه "
ومكبا حال من أكب وهو لا يتعدى وكب متعد قال تعالى:
فكبت وجوههم في النار
[النمل: 90] والهمزة فيه للدخول في الشىء أو للصيرورة ومطاوع كب انكب تقول كببته فانكب وانتصب قليلا على أنه نعت لمصدر محذوف وما زائدة وتشكرون مستأنف أو حال مقدرة أي تشكرون شكرا قليلا والحشر البعث والوعد المشار إليه هو وعد يوم رؤيته وجوههم وظهر فيها السوء والكآبة وغشيها السواد كمن يساق إلى القتل.
{ وقيل } لهم أن تقول لهم الزبانية ومن يوبخهم.
{ تدعون } أنه لا جنة ولا نار وقيل تطلبون وتستعجلون وهو من الدعاء روي أن الكفار كانوا يدعون على الرسول عليه السلام وأصحابه بالهلاك.
{ إن أهلكني الله ومن معي أو رحمنا } بالنصر عليكم فمن يحميكم من العذاب الذي سببه كفركم ولما قال: أو رحمنا قال هو الرحمن ثم ذكر ما به النجاة وهو الإيمان والتفويض إلى الله تعالى ولما ذكر العذاب وهو مطلق ذكر فقد ما به حياة الأنفس وهو الماء وهو عذاب مخصوص والفور وتقدم شرحه والمعين تقدم وجواب ان أهلكني فمن يجيب وجواب ان أصبح فمن يأتيكم.
[68 - سورة القلم]
[68.1-52]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * ن والقلم وما يسطرون } هذه السورة مكية ومعظمها نزل في الوليد بن المغيرة وأبي جهل ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى فيما قبلها ذكر أشياء من أحوال السعداء والأشقياء وذكر قدرته الباهرة وعلمه الواسع وأنه تعالى لو شاء لخسف بهم أو لأرسل عليهم حاصبا وكان ما أخبر به هو مما تلقفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوحي وكان الكفار ينسبونه مرة إلى السحر ومرة إلى الشعر ومرة إلى الجنون فبدأ تعالى هذه السورة ببراءته مما كانوا ينسبونه إليه من الجنون وتعظيم أجره على صبره على أذاهم وبالثناء على خلقه.
{ ن } حرف من حروف المعجم نحو، ص، وق وهو غير معرب كبعض الحروف التي جاءت مع غيرها مهملة من العوامل فالحكم على موضعها بالإعراب تخرص والعلم هو المعهود الذي للكتابة وجعل الضمير في يسطرون للناس فجاء القسم على هذا المجموع أمر الكتاب الذي هو قوام للعلوم وأمور الدنيا والآخرة فإن القلم أخو اللسان ومطية الفطنة ونعمة من الله تعالى عامة وجواب القسم.
{ مآ أنت بنعمة ربك } ويظهر أن بنعمة ربك قسم اعترض به بين المحكوم عليه والحكم على سبيل التوكيد والتشديد والمبالغة في انتفاء الوصف الذميم عنه عليه السلام.
{ وإن لك لأجرا } أي على ما تحملت من أثقال النبوة ومن أذاهم بما ينسبون إليك مما أنت لا تلتبس به من المعايب.
{ غير ممنون } أي غير مقطوع مننت الحبل قطعته.
{ وإنك لعلى خلق عظيم } أي دين عظيم وهو من الثناء عليه.
{ بأييكم المفتون } الباء ظرفية تقديره في أيكم والمفتون مصدر على وزن مفعول كالمعقول والمجلود بمعنى العقل والجلد وقيل الباء زائدة وأيكم مبتدأ زيدت الباء فيه كما زادوها في قوله: بحسبك درهم أي حسبك والمفتون في هذا الوجه إسم مفعول والجملة في موضع نصب بالفعل الذي قبله وهو ويبصرون لأنه بمعنى يعلمون.
{ إن ربك } وعيد للضال وهم المجانين على الحقيقة حيث كانت لهم عقول فلم ينتفعوا بها ولا استعملوها في اتباع ما جاءت به الرسل أو يكون أعلم كناية عن جزاء الفريقين.
{ فلا تطع } أي الذين كذبوا ما أنزل الله عليك من الوحي وهذا نهي عن طواعيتهم في شىء مما دعوه إليه من تعظيم آلهتهم.
{ ودوا لو تدهن } لو هنا على رأي بعض النحويين مصدرية بمعنى أن أي ودوا ادهانكم.
{ ولا تطع كل حلاف مهين } تقدم تفسير مهين وما بعده في المفردات وجاءت هذه الصفات صفات مبالغة ونوسب فيها فجاء حلاف وبعده مهين لأن النون فيها مع الميم تواخ ثم جاء هماز مشاء بنميم بصفتي المبالغة ثم جاء مناع للخير فمناع وأثيم صفتا مبالغة والظاهر أن الخير هنا يراد به العموم فيما يطلق عليه خير والزنيم.
قال ابن عباس: الذي له زغة في عنقه كزنمة الغنمة والظاهر أن هذه الأوصاف ليست لمعنى ألا ترى إلى قوله كل حلاف وقوله كل حلاف وقوله انا بلوناهم فإنما وقع النهي عن طواعية من هو بهذه الصفات ولما ذكر قبائح أفعاله وأقواله ذكر ما يفعل به على سبيل التوعد فقال:
{ سنسمه على الخرطوم } والسمة العلامة ولما كان الوجه أشرف ما في الإنسان والأنف أكرم ما في الوجه لتقدمه ولذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأنفة قالوا: حمى الأنف شامخ العرنين وقالوا في الذليل جدع أنفه ورغم أنفه ولما ذكر المتصف بتلك الأوصاف الذميمة وهم كفار قريش أخبر عن ما حل بهم من الإبتلاء بالقحط والجوع بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم
" اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف "
الحديث.
{ كما بلونآ أصحاب الجنة } المعروف من خبرها عندهم أنها كانت بصوران على فراسخ من صنعاء لناس بعد رفع عيسى عليه السلام وكان يترك للمساكين ما أخطأه المنجل وما في أسفل الأكراس وما أخطأه القطاف من العنب وما بقي على البساط تحت النخلة إذا صرمت فكان يجتمع لهم شىء كثير فلما مات قال بنوه إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاف علينا الأمر ونحن أولو عيال فحلفوا ليصرفها مصبحين فبكروا في الغد وخيفة من المساكين ولم يستثنوا في يمينهم بقولهم إن شاء الله والكاف في كما بلونا في موضع نصب وما مصدرية.
{ فطاف عليها طآئف } والطائف الأمر الذي قال الفراء يأتي بالليل ورد عليه بقوله:
إذا مسهم طائف من الشيطان
[الأعراف: 201] فلم يخصص بالليل وطائف وليس في أرض الحجاز بلدة فيها الشجر والماء والعنب وغير ذلك غيرها.
{ فأصبحت كالصريم } قال ابن عباس: كالرماد الأسود بلغة خزيمة.
{ فتنادوا مصبحين } دعا بعضهم بعضا إلى المضي إلى ميعادهم.
{ أن اغدوا على حرثكم } قال الزمخشري: فإن قلت هلا قيل اغدوا إلى حرثكم وما معنى علي قلت لما كان الغدو إليه ليصرموه ويقطعوه كان غدوا عليه كما تقول غدا عليهم العدو ويجوز أن يضمن الغدو معنى الإقبال كقولهم يغدي عليهم بالحفنة ويراح أي فاقبلوا على حرثكم باكرين " انتهى ".
واستسلف الزمخشري أن غدا يتعدى بإلى ويحتاج ذلك إلى نقل بحيث يكثر ذلك فيصير أصلا فيه ويتأول ما خالفه والذي نحفظه أنه معدى بعلى كقول الشاعر:
وقد أغدوا على ثبة كرام
نشاوي واجدين كما نشاء
وكذا عدي مرادفه قال: بكرت عليه غدوة فرأيته قعود الدية بالصريم عواد له.
{ إن كنتم صارمين } هو من صرام النخل.
{ يتخافتون } يخفون كلامهم خوفا من أن يشعر بهم المساكين.
{ أن لا يدخلنها } أي يتخافتون بهذا الكلام.
{ قادرين } أي على قصد وقدرة في أنفسهم يظنون أنهم ملكوا مرادهم والحرد المنع.
{ قال أوسطهم } أي أرجحهم عقلا.
{ ألم أقل لكم لولا تسبحون } أنبهم وبخهم على تركهم ما حضهم عليه وهو تسبيح الله تعالى ولما غفلوا عن ذكر الله وعزوا على منع المساكين ابتلاهم الله تعالى ولما أنبهم رجعوا إلى ذكر الله تعالى واعترفوا على أنفسهم بالظلم وبادروا إلى تسبيح الله تعالى فقالوا:
{ سبحان ربنآ } قال ابن عباس: أي نستغفر الله من ذنبنا ولما أقروا على أنفسهم بظلمهم لام بعضهم بعضا إذ كان منهم من زين ومنهم من قبل ومنهم من أمر بالكف ومنهم من عصى الأمر ومنهم من سكت على رضا منه ثم اعترفوا بأنهم طغوا.
{ عسى ربنآ أن يبدلنا } أي بهذه الجنة.
{ خيرا منهآ إنآ إلى ربنا راغبون } أي طالبون إيصال الخير إلينا منه والظاهر أن أصحاب هذه الجنة كانوا مؤمنين أصابوا معصية وتابوا والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة أي كذلك العذاب الذي ينزل بقريش بغتة ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا.
{ إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم } لأنه لما ذكر تعالى أنه بلا كفار قريش وشبه بلاءهم ببلاء أصحاب الجنة أخبر بحال أضدادهم وهم المتقون فقال ان للمتقين أي الكفر جنات النعيم لأن النعيم لا يفارقها إذ ليس فيها إلا هو ولا يشوبه كدر كما يشوب جنات الدنيا وروي أنه لما نزلت هذه قالت قريش إن كان ثم جنة فلنا فيها أكبر الخط فنزلت.
{ أفنجعل المسلمين كالمجرمين } أي لا يستوي المطيع والعاصي وهو استفهام فيه توقيف على خطأ ما قالوا وتوبيخ ثم التفت إليهم فقال:
{ ما لكم } أي شىء لكم فيما تزعمون وهو استفهام إنكار عليهم ثم قال:
{ كيف تحكمون } وهو استفهام ثالث على سبيل الإنكار عليهم استفهم من هيئة حكمهم ففي قوله ما لكم استفهام عن كينونة مبهمة وفي كيف تحكمون استفهام عن هيئة حكمهم ثم أضرب من هذا اضراب انتقال لشىء آخر لا إبطال لما قبله فقال:
{ أم لكم } أي بل ألكم.
{ كتاب } أي من عند الله.
{ فيه تدرسون } ان ما تختارونه يكون لكم وما في قوله لما موصولة بمعنى الذي وهي إسم ان والجار والمجرور قبله في موضع الخبر.
و { تخيرون } حذفت منه التاء أصله تتخيرون.
{ سلهم أيهم بذلك زعيم } أي ضامن بما يقولونه ويدعونه صحته وسل معلقة عن مطلوبها الثاني لما كان السؤال سببا لحصول العلم جاز تعليقه كالعلم ومطلوبها الثاني أصله أن يعدى بعن أو بالباء كما قال
يسألونك عن الشهر الحرام
[البقرة: 217] ولو كان غير اسم إستفهام لتعدى إليه بعن أو بالباء كما تقول سل زيدا عمن ينظر في كذا لكنه علق سلهم فالجملة في موضع نصب.
{ فليأتوا } المراد الأصنام أو ناس يشاركونهم في قولهم ويوافقونهم فيه أي لا أحد يقول بقولهم كما أنه لا كتاب لهم ولا عهد من الله ولا زعيم بذلك فليأتوا هذا استدعاء وتوقيف قيل في الدنيا أي ليحضروهم حتى ترى هل هم بحال من يضر وينفع أم لا وقيل في الآخرة على أن يأتوا بهم.
{ يوم يكشف عن ساق } كناية عن شدة الأمر وتفاقمه في ذلك اليوم والناصب له محذوف تقديره يكون كيت وكيت من الأمور الصعبة الشاقة.
{ ويدعون إلى السجود } ظاهر أنهم يدعون وتقدم ان ذلك على سبيل التوبيخ لا على سبيل التكليف وخاشعة حال.
{ وقد كانوا يدعون إلى السجود } أي في الدنيا.
{ وهم سلمون } أي الأعضاء قادرين على السجود.
{ ترهقهم } وتغشاهم.
{ ذلة } فذرني المعنى خل بيني وبينه فإني سأجازيه وليس ثم مانع منه وهذا وعيد شديد لمن يكذب بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الآخرة وغيره وكان تعالى قد قدم أشياء من أحوال السعداء والأشقياء ومن في موضع نصب إما عطفا على الضمير في ذرني إما على أنه مفعول معه.
{ سنستدرجهم } تقدم الكلام عليه.
{ أم تسألهم } تقدم أيضا روي أنه عليه السلام أراد أن يدعو على الذين انهزموا بأحد حين اشتد بالمسلمين الأمر وقيل حين أراد أن يدعو على ثقيف فنزلت:
{ فاصبر لحكم ربك } وهو إمهالهم وتأخير نصرك عليهم وامض لما أمرت به من التبليغ واحتمال الأذى.
{ ولا تكن كصاحب الحوت } هو يونس عليه السلام.
{ إذ نادى } أي في بطن الحوت وليس النهي منصبا على الذوات إنما المعنى لا يكن حالك مثل إذ نادى فالعامل في إذ هو المحذوف المضاف أي كحال أو قصة صاحب الحوت إذ نادى.
{ وهو مكظوم } مملوء غيظا على قومه إذ لم يؤمنوا لما دعاهم إلى الإيمان وأحوجوه إلى استعجال مفارقته إياهم.
{ لولا أن تداركه } معناه لولا هذه الحال المرجوة كانت له من نعمة الله تعالى.
{ لنبذ بالعرآء } وجواب لولا لنبذ بالعراء والمعتمد فيه على الحال لا على النبذ لما أمره تعالى بالصبر لما أراده تعالى ونهاه عن ما نهاه فقال:
{ وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك } أي ليزلقون قومك بنظرهم الحال الدال على العداوة المفرطة.
{ لما سمعوا الذكر } أي القرآن.
{ ويقولون إنه لمجنون } تنفيرا عنه وقد علموا أنه صلى الله عليه وسلم أكملهم فضلا وأرجحهم عقلا.
{ وما هو } أي القرآن.
{ إلا ذكر } عظة وعبرة.
{ للعالمين } أي للجن والإنس فكيف ينسبون إلى الجن من جاء به.
[69 - سورة الحاقة]
[69.1-52]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * الحاقة * ما الحآقة } الآية هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر أشياء من أحوال السعداء والأشقياء وقال ذرني ومن يكذب بهذا الحديث ذكر حديث القيامة وما أعد الله فيها لأهل السعادة والشقاوة وأدرج بينهما شيئا من أحوال الذين كفروا وكذبوا الرسل كعاد وثمود وفرعون ليزدجر بذكرهم وما جرى عليهم الكفار الذين عاصروا الرسول عليه السلام وكانت العرب عالمة بهلاك عاد وثمود وفرعون فنص عليهم لذلك والحاقة المراد بها القيامة والبعث قاله ابن عباس والحاقة اسم فاعل من حق الشىء إذا ثبت ولم يشك في صحته والحاقة مبتدأ وما مبتدأ ثان والحاقة خبر عن الحاقة والرابط تكرار المبتدأ بلفظة نحو زيد وما زيد وما استفهام لا يراد به حقيقته بل التعظيم وأكثر ما يربط بتكرار المبتدأ إذا أريد معنى التعظيم والتهويل.
{ ومآ أدراك ما الحاقة } مبالغة في التهويل والمعنى أن فيها ما لم يدر ولم يحط به وصف من أمورها الشاقة وتفصيل أوصافها وما استفهام أيضا مبتدأ وإدراك الخبر والعائد على ما ضمير الرفع في إدراك وما مبتدأ والحاقة خبر والجملة في موضع نصب بإدراك وإدراك معلقة وأصل درى يتعدى بالباء وقد تحذف على قلة فإذا دخلت همزة النقل تعدى إلى واحد بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر فقوله: { ما الحاقة } بعد إدراك في موضع نصب بعد إسقاط حرف الجر والقارعة: من أسماء القيامة لأنها تقرع القلوب بصدمتها والطاغية الصيحة.
{ عاتية } عتت على خزانتها فخرجت بغير مقدار سخرها أي أقامها عليهم وأدامها.
{ سبع ليال } بدت عليهم صبح الأربعاء لثمان بقين من شوال إلى آخر الأربعاء تمام الشهر.
{ حسوما } قال ابن عباس: تباعا لم يتخللها انقطاع.
{ فترى القوم فيها } أي في الليالي والأيام.
{ صرعى } أي هلكى.
{ خاوية } خلت أعجازها بلى وفسادا وقال ابن شجرة كانت تدخل من أفواههم فتخرج ما في أجوافهم من الحشو من أدبارهم فصاروا كالنخل الخاوية.
{ ومن قبله } ظرف زمان أي الأمم الكافرة التي كانت قبله كقوم نوح وقد أشار إلى شىء من حديثه بعد هذا.
{ والمؤتفكات } قرىء قوم لوط.
{ بالخاطئة } أي بالفعلة أو الفعلات.
{ فعصوا رسول ربهم } رسول جنس وهو من جاءهم من عند الله تعالى كموسى ولوط عليهما السلام.
{ رابية } أي نامية.
{ إنا لما طغا المآء } أي زاد وعلا على أعلى جبل في الدنيا خمسة عشر ذراعا. قال ابن جبير: طغى على الخزان كما طغت الريح على خزانها.
{ حملناكم } أي في أصلاب آبائكم أو حملنا آبائكم.
و { في الجارية } هي سفينة نوح عليه السلام.
{ لنجعلها } أي سفينة نوح.
{ لكم تذكرة } بما جرى لقومه الهالكين وقومه الناجين فيها وعظة أدركتها أوائل هذه الأمة.
{ وتعيهآ } أي تحفظ قصتها.
{ أذن } من شأنها أن تعي المواعظ وتعتبر بها يقال وعيت لما حفظ في النفس وأوعيت لما حفظ في غير النفس من الأوعية ثني الضمير في.
{ فدكتا } لأن المراد جملة الأرض وجملة الجبال أي ضرب بعضها ببعض حتى تفتت والدك فيه تفرق الأجزاء والدق فيه اختلاط الأجزاء.
{ فيومئذ } معطوف على فإذا نفخ في الصور وهو منصوب بوقعت كما أن إذا منصوب بنفخ على ما أخبرتاه والتنوين في إذا للعوض من الجملة المحذوفة تقديره فيومئذ نفخ في الصور وجرى كيت وكيت.
{ وانشقت السمآء } أي انفطرت وتميز بعضها من بعض.
{ فهي } يوم إذ انشقت.
{ واهية } ضعيفة لتشققها بعد أن كانت شديدة.
{ والملك على أرجآئهآ } أي على حافاتها حين تنشق والضمير في فوتهم عائد على الملك ضمير جمع على المعنى لأنه يراد به الجنس والظاهر أن التمييز المحذوف في قوله ثمانية أملاك أي ثمانية أشخاص من الملائكة.
{ يومئذ } أي يوم إذ كان ما ذكر.
{ تعرضون } أي للحساب وتعرضون هو جواب قوله فإذا نفخ ويومئذ تعرضون بدل من فيومئذ والخطاب في تعرضون لجميع العالم المحاسبين.
{ خافية } أي سريرة.
{ فأما من أوتي كتبه بيمينه } الآية، هاؤم قال الكسائي وابن السكيت العرب تقول هاء يا رجل وللاثنين رجلين أو امرأتين هاؤما وللرجال هاؤم وللمرأة هاء بهمزة مكسورة بغير ياء وللنساء هاؤن ومعنى هاؤم خذوا وقد ذكرنا في شرح التسهيل فيها لغات وهاؤم ان كان مدلولها خذ فهي متسلطة على كتابيه بغير واسطة وإن كان مدلولها تعالوا فهي متعدية إليه بواسطة وإلى كتابيه يطلبه هاؤم واقرؤوا فالبصريون يعملوا اقرأوا والكوفيون يعملون هاؤم وفي ذلك دليل على جواز التنازع بين إسم الفعل والفعل.
{ إني ظننت } أي أيقنت.
{ راضية } أي ذات رضا.
{ عالية } أي مكانا وقدرا .
{ قطوفها } أي ما يجنى منها.
{ دانية } قريبة التناول يدركها القائم والقاعد.
{ كلوا } أي يقال لهم كلوا وتقدم شرح.
{ هنيئا بمآ أسلفتم } أي قدمتم من العمل الصالح.
{ في الأيام الخالية } يعني أيام الدنيا.
{ يليتني لم أوت كتبيه } لما رأى فيه قبائح أفعاله وما يصير أمره إليه تمنى أنه لم يعطه وتمنى أنه لم يدر حسابه فإنه انجلى عنه حسابه عن ما يسؤوه فيه إذ كان عليه لا له.
{ يليتها } أي الموتة التي متها في الدنيا.
{ كانت القاضية } القاطعة لأمري فلم أبعث ولم أعذب.
{ مآ أغنى عني ماليه } يجوز أن يكون نعتا محضا أخبر بذلك متأسفا على ماله حيث لم ينفعه ويجوز أن يكون استفهاما ما وبخ نفسه به وقررها عليه.
{ هلك عني سلطانيه } أي حجتي.
{ خذوه } أي يقال للزبانية خذوه.
{ فغلوه } أي اجعلوا في عنقه غلا.
{ ثم الجحيم صلوه } الجحيم مفعول ثان لصلوه والمفعول الأول الهاء في صلوه وأخر هذا لأجل الفاصلة.
و { في سلسلة } متعلق بقوله: { فاسلكوه } وذرعها صفة للسلسلة.
{ إنه كان لا يؤمن } بدأ بأقوى أسباب تعذيبه وهو كفره بالله تعالى وأنه تعليل مستأنف كان قائلا قال لم يعذب هذا العذاب البليغ فقيل انه كان لا يؤمن وعطف ولا يحض على لا يؤمن وهو داخل في العلة وذلك يدل على عظم ذنب من لا يحض على إطعام المساكين إذ جعل قرين الكفر وهذا حكم ترك الحض فكيف ترك الإطعام والتقدير على إطعام طعام المساكين وأضاف الطعام إلى المسكين من حيث له نسبة إليه إذ يستحق المسكين حقا في مال الغني الموسر ولو بأدنى يسار.
{ حميم } أي صديق ملاطف.
{ من غسلين } هو صديد أهل النار والخاطئون إسم فاعل من خطىء وهو الذي يفعل ضد الصواب متعمدا لذلك والمخطىء الذي فعله غير متعمد.
{ فلا أقسم بما تبصرون * وما لا تبصرون } عام في جميع مخلوقاته.
{ إنه } أي القرآن.
{ لقول رسول كريم } هو محمد صلى الله عليه وسلم ويؤيده قوله: { وما هو بقول شاعر } وما بعده نسب القول إليه لأنه هو مبلغه والعامل به ونفى تعالى أن يكون قول شاعر لمباينته لضروب الشعر.
{ ولا بقول كاهن } لأنه ورد بسب الشياطين وانتصب.
{ قليلا } على أنه صفة لمصدر محذوف أو لزمان محذوف أي يؤمنون إيمانا قليلا أو زمانا قليلا وكذا التقدير في:
{ قليلا ما تذكرون } والقلة هو إقرارهم إذا سئلوا من خلقهم قالوا الله وقال ابن عطية: ونصب قليلا بفعل مضمر يدل عليه تؤمنون وما تحتمل أن تكون نافية فينتفي إيمانهم البتة ويحتمل أن تكون ما مصدرية ويتصف بالقلة أما الإيمان وأما العود فعلى اتصاف إيمانهم بالقلة فهو الإيمان اللغوي لأنهم قد صدقوا بأشياء يسيرة لا تغني عنهم شيئا إذ كانوا يصدقون أن الخير والصلة والعفاف الذي كان يأمر به الرسول عليه السلام هو حق صواب " انتهى ".
أما قوله: ونصب قليلا بفعل مضمر يدل عليه تؤمنون فلا يصح لأن ذلك الفعل الدال عليه تؤمنون إما أن تكون ما نافية أو مصدرية كما ذهب إليه فإن كانت نافية فكذلك الفعل المضمر الدال عليه تؤمنون المنفي بما يكون منفيا فيكون التقدير ما تؤمنون قليلا ما تؤمنون والفعل المنفي بما لا يجوز حذفه ولا حذف ما لا يجوز زيدا ما أضرب زيدا ما أضربه وإن كانت مصدرية كانت اما في موضع رفع الفاعلية بقليلا أي قليلا إيمانكم ويبقى قليلا لا يتقدمه ما يعتمد عليه حتى يعمل ولا ناصب له وإما في موضع رفع على الابتداء فيكون مبتدأ لا خبر له لأن ما قبله منصوب لا مرفوع.
{ ولو تقول } التقول أن يقول الإنسان عن الآخر أنه قال شيئا لم يقله ولأقاويل جمع أقوال وهو جمع الجمع.
{ باليمين } قيل الباء زائدة والوتين قال ابن عباس: هو نياط القلب والمعنى لو تقول لأذهبنا حياته معجلا والضمير في عنه يجوز أن يعود على الذي تقول والخطاب في منكم للناس والظاهر في { حاجزين } أن يكون خبرا لما على لغة أهل الحجاز لأن حاجزين هو محط الفائدة ويكون منكم لو تأخر لكان صفة لأحد فلما تقدم صار حالا وجمع على المعنى لأنه في معنى الجماعة.
{ وإنه } أي القرآن.
{ وإنا لنعلم } وعيد للمكذبين بالقرآن.
{ وإنه } أي القرآن.
{ لحسرة } من حيث كفروا به ويرون من آمن به ينعم وهم يعذبون.
{ وإنه } أي وان القرآن.
{ لحق اليقين } فسبح تقدم الكلام عليه.
[70 - سورة المعارج]
[70.1-44]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * سأل سآئل } الآية هذه السورة مكية قال الجمهور نزلت في النظر بن الحرث حين قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر وإنا لنعلم أن منكم مكذبين أخبر عن ما صدر عن بعض المكذبين بنعم الله تعالى وإن كان السائل نوحا أو الرسول فناسب تكذيب المكذبين إن دعا عليهم رسولهم.
{ ليس له دافع } جملة اعتراض بين العامل والمعمول وقيل يتعلق بدافع أي من جهته إذا جاء وقته.
{ ذي المعارج } المعارج لغة الدرج وهنا استعارة قال ابن عباس في الرتب والفواضل والصفات الحميدة وقال ابن عباس أيضا: المعارج السماوات تعرج فيها الملائكة من سماء إلى سماء.
{ والروح } هو جبريل عليه السلام خص بالذكر تشريفا والظاهر أن معنى تعرج في يوم من أيامكم هذه ومقدار المسافة أن لو عرجها آدمي خمسون ألف سنة والجملة من قوله تعرج اعتراض ولما كانوا قد سألوا استعجال العذاب وكان السؤال على سبيل الاستهزاء والتكذيب وكانوا قد وعدوا به أمره تعالى بالصبر والضمير في يرونه عائد على العذاب أو على اليوم إذا أريد به يوم القيامة وهذا الاستبعاد هو على سبيل الاستحالة منهم.
{ ونراه قريبا } أي هينا في قدرتنا غير بعيد علينا ولا متعذر وكل ما هو آت قريب والبعد والقرب في الأماكن لا في مسافة.
{ يوم تكون } يوم منصوب بإضمار فعل أي يقع يوم تكون أو يوم تكون السماء كالمهل كان كيت وكيت أو بقريبا أو بدل من ضمير نراه إذا كان عائدا على يوم القيامة والمهل دردي الزيت.
{ كالعهن } الصوف المنفوش الذي طيرته الريح.
{ ولا يسأل حميم حميما } أي لا يسأله نصرة ولا منفعة لعلمه أنه لا يجد ذلك عنده.
{ يبصرونهم } إستئناف كلام قال ابن عباس في المحشر: يبصر الحميم حميمه ثم يفر عنه لشغله بنفسه.
{ يود المجرم } أي الكافر وقد يندرج فيه المؤمن العاصي الذي يعذب.
{ وصاحبته } زوجته.
{ وفصيلته } أقرباؤه الأدنون.
{ تؤويه } تضمه إنتماء إليها.
{ ثم ينجيه } عطف على يفتدى أي ينجيه بالافتداء وكلا ردع لودادتهم الافتداء أو تنبيه على أنه لا ينفع.
{ إنها } الضمير للقصة ولظى نزاعة تفسير لها والشوى جلدة الرأس والشوى القوائم.
{ تدعوا } أي جهنم.
{ من أدبر } عن الحق.
{ وتولى * وجمع } أي جمع المال فأوعاه وكنزه ولم يؤد حق الله تعالى فيه وهذه إشارة إلى كفار أغنياء.
{ إن الإنسان } جنس ولذلك استثنى منه إلا المصلين والإنسان إذا ناله شر أظهر شدة الجزع وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس ولما كان شدة الجزع والمنع متمكنة في الإنسان جعل كأنه خلق مجبولا عليه كقوله:
خلق الإنسان من عجل
[الأنبياء: 37]. والخير المال.
{ إلا المصلين } إستثناء كما قلنا من الإنسان ولذلك وصفهم مما وصفهم به من الصبر على المكاره والصفات الجميلة التي حازوها.
{ فمال الذين كفروا قبلك مهطعين } كان عليه السلام يصلي عند الكعبة يقرأ القرآن فكانوا يحتفون به حلقا حلقا يستمعون ويستهزؤون بكلامه ويقولون ان دخل هؤلاء الجنة كما يقول محمد فلندخلنها قبلهم فنزلت ومعنى قبلك أي في الجهة التي تليك.
{ عن اليمين وعن الشمال } أي عن يمينك وعن شمالك وعزيز جمع عزة وجمع سلامة شذوذا فقيل عزون في الرفع وعزين في النصب والجر وهو منصوب على الحال.
{ إنا خلقناهم } أي أنشأناهم من نطفة مذرة فنحن قادرون على إعادتهم وبعثهم يوم القيامة وعلى الاستبدال بهم خيرا منهم.
{ فذرهم } وعيد وما فيه من المهادنة منسوخ بآية السيف ويوم بدل من يومهم والنصب ما نصب للإنسان فهو يقصده مسرعا إليه من علم أو بناء أو صنم وغلب في الاصنام حتى قيل الأنصاب.
{ يوفضون } يسرعون وقرأ الجمهور (ذلة) منونا (ذلك اليوم) برفع الميم مبتدأ وخبر.
[71 - سورة نوح]
[71.1-28]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * إنآ أرسلنا نوحا إلى قومه } الآية، هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما أقسم على أن يبدل خيرا منهم وكانوا قد سخروا من سخروا من المؤمنين وكذبوا بما وعدوا به من العذاب ذكر قصة نوح وقومه معه وكانوا أشد تمردا من المشركين فأخذهم الله تعالى أخذ استئصال حتى أنه لم يبق لهم على وجه الأرض نسل وكانوا عباد أصنام كمشركي مكة فحذر تعالى قريشا أن يصيبهم عذاب استئصال إن لم يؤمنوا ونوح عليه السلام أول نبي أرسل ويقال له شيخ المرسلين وآدم الثاني.
{ أن أنذر } يجوز أن تكون مصدرية وأن تكون تفسيرية.
{ عذاب أليم } قال ابن عباس: عذاب النار في الآخرة.
{ من ذنوبكم } من للتبعيض لأن الإيمان إنما يجب ما قبله من الذنوب لا ما بعده.
قال ابن عطية: من في من ذنوبكم مزيدة وهو مذهب كوفي وأقول أخفشي لا كوفي لأنهم يشترطون أن يكون بعد من نكرة ولا يبالون بما قبلها من واجب أو غيره وجواب لو محذوف تقديره لو كنتم تعلمون لبادرتم إلى طاعته وتقواه ولما لم يجيبوه وآذوه شكا إلى ربه شكوى من يعلم أن الله تعالى عالم بحاله مع قومه لما أمر بالإنذار فلم يجد فيهم.
{ قال رب إني دعوت قومي } أي جميع الأوقات من غير فتور ولا تعطيل في وقت فلم يزدادوا إلا إعراضا ونفورا عن الحق.
{ وإني كلما دعوتهم } أي ليتوبوا فتغفر لهم ذكر المسبب الذي هو حظهم خالصا ليكون أقبح في إعراضهم عنه.
{ جعلوا أصابعهم في آذانهم } الظاهر أنه حقيقة سدوا مسامعهم حتى لا يسمعوا ما دعاهم إليه وتغطوا بثيابهم حتى لا ينظروا إليه كراهة وبغضا من سماع النصح ورؤية الناصح ويجوز أن يكون ذلك كناية عن المبالغة في إعراضهم عما دعاهم إليه فهم بمنزلة من سد مسمعه ومنع بصره ثم كرره صفة دعائه بيانا وتوكيد لما ذكر دعاءه عموم الأوقات ذكر عموم حالات الدعاء وكلما دعوتهم يدل على تكرر الدعوات فلم يبين حالة دعائه أولا ظاهره أن يكون دعاؤه إسرارا لأنه يكون ألطف بهم ولعلهم يقبلون منه كحال من ينصح في السر فإنه جدير أن يقبل منه فلما لم يجد له الإسرار انتقل إلى أشد منه وهو دعاؤهم جهارا صلتا بالدعاء إلى الله تعالى لا يحاشى أحدا فلما لم يجد عاد إلى الإعلان والإسرار ومدرارا من الدر وهو صفة يستوي فيها المذكر والمؤنث ونصبها على الحال ومعناه كثيرة الدر.
{ لا ترجون } لا تخافون والوقار بمعنى العظمة والسلطان والكلام على هذا وعيد وتخويف.
{ وقد خلقكم أطوارا } جملة حالية تحمل على الإيمان بالله تعالى وإفراده بالعبادة إذ في هذه الجملة الحالية التنبيه على تدريج الإنسان في أطوار لا يمكن أن تكون إلا من خلقه تعالى.
قال ابن عباس: من نطفة والعلقة والمضغة.
{ ألم تروا كيف خلق الله سبع سموت طباقا } الآية، لما نبههم نوح عليه السلام على الفكر في أنفسهم وكيف انتقلوا من حال إلى حال وكانت الأنفس أقرب ما يفكرون فيه منهم أرشدهم إلى الفكر في العالم علوه وسفله وما أودع تعالى في العالم العلوي من هذين النيرين اللذين بهما قوام الوجود والضمير في فيهن عائد على السماوات والانبات استعارة في الانشاء أنشأ آدم من الأرض وصارت ذريته منه فصح نسبتهم كلهم إلى أنهم أنبتوا منها وانتصاب نباتا بأنبتكم مصدرا على حذف الزائد أي إنباتا أو على إضمار فعل أي فنبتم نباتا.
{ ثم يعيدكم } أي يصيركم فيها مقبورين.
{ ويخرجكم إخراجا } أي يوم القيامة وأكده بالمصدر أي ذلك واقع لا محالة.
{ بساطا } تتقلبون عليها كما يتقلب الرجل على بساطه.
{ سبلا } طرقا.
{ فجاجا } متسعة ولما أصروا على العصيان وعاملوه بأقبح الأقوال والأفعال.
{ قال نوح رب إنهم عصوني } الضمير للجميع وكان قد قال لهم وأطيعون وكان عليه السلام أقام فيهم ما نص الله تعالى عليه ألف سنة إلا خمسين عاما وكانوا قد وسع عليهم في الرزق بحيث كانوا يزرعون في الشهر مرتين.
{ واتبعوا } رؤساءهم وكبراءهم وهم الذين كانوا سبب خسارهم في الدنيا والآخرة.
{ ومكروا } يظهر أنه معطوف على صلة من وجمع الضمير في مكروا.
{ وقالوا } على المعنى ومكرهم هو احتيالهم في الدين وتحريش الناس على نوح عليه السلام وكبارا مبالغة في الكبر كطوال وجمال وقالوا أي كبراؤهم لأتباعهم.
{ لا تذرن آلهتكم } أي أصنامكم وهو عام في جميع أصنامهم ثم خصوا بعد أكابر أصنامهم وهو ودوما عطف عليه روي أنها أسماء رجال صالحين كانوا في صدر الزمان ماتوا فصورت أشكالهم لتذكر أفعالهم الصالحة ثم هلك من صورهم وخلق من يعظمها ثم كذلك حتى عبدت قيل ثم انتقلت تلك الأصنام بأعيانها وقيل بل الأسماء فقط إلى قبائل من العرب فكان ود لكلب بدومة الجندل وسواع لهذيل ويغوث لمراد ويعوق لهمدان ونسر لحمير ولذلك سمت العرب بهذه الأسماء قال أبو عثمان: النهدي رأيت يغوث وكان من رصاص يحمل على جمل أجره لا يهيجونه ويسيرون معه حتى يكون هو الذي يبرك فإذا برك نزلوا وقالوا قد رضي لكم المنزل فينزلون حوله ويضربون عليه بناء " انتهى ". ولما أخبر أنهم قد أضلوا كثيرا دعا عليهم بالضلال فقال: ولا تزد وهي معطوفة على وقد أضلوا إذ تقديره وقال قد أضلوا كثيرا فهي لقال المضمرة المحكي قوله وقد أضلوا ولا يشترط التناسب في عطف الجمل بل قد تعطف جملة الإنشاء على جملة الخبر والعكس خلافا لمن يدعي التناسب وقرىء خطيئاتهم جمعا.
{ أغرقوا } قال الضحاك: كانوا يغرقون من جانب ويحرقون بالنار من جانب.
{ فلم يجدوا لهم } تعريض بانتفاء قدرة آلهتهم على نصرهم ودعاء نوح عليه السلام عليهم بعد أن أوحي إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن وديارا من ألفاظ العموم التي تستعمل في النفي وما أشبهه ولما دعا على الكفار استغفر للمؤمنين فبدأ بنفسه ثم بمن وجب بره عليه ثم للمؤمنين فكان هو ووالداه اندرجوا في المؤمنين والمؤمنات وقال ابن عباس لم يكفر لنوح عليه السلام أب ما بينه وبين آدم عليه السلام.
{ ولمن دخل بيتي مؤمنا } قال ابن عباس: مسجدي وقيل شريعتي استعار لها بيتا كما قالوا قبة الإسلام.
{ وللمؤمنين والمؤمنات } دعاء لكل مؤمن ومؤمنة في كل أمة والتبار الهلاك.
[72 - سورة الجن]
[72.1-28]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن } هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها أنه لما حكى تمادي قوم نوح في الكفر وعكوفهم على عبادة الأصنام وكان أول رسول إلى الأرض كما أن محمدا صلى الله عليه وسلم آخر رسول إلى الأرض والعرب الذي هو منهم كانوا عباد أصنام كقوم نوح حتى أنهم عبدوا أصناما مثل أصنام أولئك في الأسماء وكان ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من القرآن هاديا إلى الرشد وقد سمعته العرب وتوقف عن الإيمان به أكثرهم أنزل الله تعالى سورة الجن إثر سورة نوح تبكيتا لقريش والعرب في كونهم تباطؤا عن الإيمان إذ كانت الجن خيرا منهم وأقبل إلى الإيمان هذا وهم من غير جنس الرسول عليه السلام ومع ذلك فبنفس ما سمعوا القرآن استعظموه وآمنوا به للوقت وعرفوا أنه ليس نمط كلام الناس بخلاف العرب فإنه نزل بلسانهم وعرفوا كونه معجزا وهم مع ذلك مكذبون له ولمن جاء به حسدا وبغيا ان ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده وأنه استمع في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله أي استماع نفر من الجن والمشهور أن هذا الاستماع هو المذكور في الاحقاف وهي قصة واحدة وقيل قصتان والجن الذين أتوه بمكة جن نصيبين والذين أتوه بنخلة جن نينوى والسورة التي استمعوها قال عكرمة: سورة اقرأ باسم ربك الأعلى وقيل سورة الرحمن ولم تتعرض الآية لا هنا ولا في الأحقاف إلى أنه رآهم وكلمهم عليه السلام ويظهر من الحديث أن ذلك كان مرتين. إحداهما في مبدأ مبعثه عليه السلام وهو في الوقت الذي أخبره فيه عبد الله بن مسعود أنه لم يكن معه ليلة الجن وقد كانوا فقدوه صلى الله عليه وسلم فالتمسوه في الأودية والشعاب فلم يجدوه فلما أصبح إذا هو جاء من قبل حراء وفيه أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن فانطلق بنا وأرانا آثارهم وآثار نارهم والمرة الأخرى كان معه ابن مسعود وقد انتدب الرسول عليه السلام من يقوم معه إلى أن يتلو القرآن على الجن فلم يقم أحد غير عبد الله بن مسعود فذهب معه إلى الحجون عند الشعب فخط عليه خطا وقال لا تجاوزه فانحدر عليه صلى الله عليه وسلم أمثال الحجل يجرون الحجارة بأقدامهم يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفهم حتى غشوه فلم أره فقمت فأومأ بيده إلى أن أجلس فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع واختفوا في ارض حتى ما أراهم الحديث ويدل على أنهما قصتان اختلافهم في العود فقيل سبعة وقيل تسعة وقيل غير ذلك.
{ فقالوا إنا سمعنا } أي قالوا لقومهم لما رجعوا إليهم ووصفوا.
{ قرآنا } بقولهم.
{ عجبا } وصفا بالمصدر على سبيل المبالغة أي هو عجب في نفسه لفصاحة كلامه وحسن مبانيه ودقة معانيه وغرابة أسلوبه وبلاغة مواعظه وكونه مباينا لسائر الكتب والعجب ما خرج عن حد أشكاله ونظائره.
{ يهدي إلى الرشد } أي يدعو إلى الصواب.
{ فآمنا به } أي بالقرآن ولما كان الإيمان متضمنا الإيمان بالله تعالى وبوحدانيته وبراءته من الشرك قالوا:
{ ولن نشرك بربنآ أحدا } وقرىء: وانه بكسر الهمزة من قوله تعالى وانه تعالى وما بعده وهي اثنتا عشرة آخرها وانا منا المسلمون وباقي السبعة بالفتح فأما الكسر فواضح لأنها معطوفات على قوله إنا سمعنا فهي داخلة في معمول القول وأما الفتح فقال أبو حاتم هو على أوحى فهو كله في موضع رفع على ما لم يسم فاعله " انتهى ". وهذا لا يصح لأن من المعطوف ما لا يصح دخوله تحت أوحى وهو كل ما كان فيه ضمير المتكلم كقوله: { وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع }. ألا ترى أنه لا يلائم أوحى إلى أنا كنا نقعد منها مقاعد وكذلك باقيها وخرجت قراءة الفتح على أن تلك كلها معطوفة على الضمير المجرور في به من قوله: فآمنا به أي وبأنه وكذلك باقيها وهذا جائز على مذهب الكوفيين وهو الصحيح وقد تقدم احتجاجنا على صحة ذلك في قوله:
وكفر به والمسجد الحرام
[البقرة: 217].
{ جد ربنا } أي عظمته وسفيها هو إبليس وقيل هو إسم جنس لكل سفيه وإبليس مقدم السفهاء والشطط التعدي وتجاوز الحد.
{ وأنا ظننآ } أي كنا حسنا الظن بالإنس والجن واعتقدنا أن أحدا لا يجترىء على أن يكذب على الله تعالى فنسب إليه الصاحبة والولد فاعتقدنا صحة ما أغوانا به إبليس ومردته حتى سمعنا القرآن فتبينا كذبهم.
{ وأنه كان رجال } روي الجمهور أن الرجل كان إذا أراد المبيت أو الحلول واد نادى بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي إني أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك فيعتقد بذلك أن الجن الذي بالوادي يمنعه ويحميه فروي أن الجن كانت تقول عند ذلك لا نملك لكم ولا لأنفسنا من الله شيئا.
{ وأنهم } أي كفار الإنس.
{ ظنوا كما ظننتم } أيها الجن يخاطب به بعضهم بعضا وظنوا وظننتم كل منهما يطلب أن لن يبعث فالمسألة من باب الأعمال وإن هي المخففة من الثقيلة وقيل الضمير في وإنهم يعود على الجن والخطاب في ظننتم لقريش وهذه التي قبلها هنا من الموحى به لا من كلام الجن.
{ أن لن يبعث الله أحدا } الظاهر أنه بعثة الرسالة إلى الخلق وهو أنسب لما تقدم من الآي ولما تأخر.
{ وأنا لمسنا السمآء } أصل اللمس المس ثم استعير للتطلب والمعنى طلبنا بلوغ السماء ولاستماع كلام أهلها.
{ فوجدناها ملئت } الظاهر أن وجد هنا بمعنى صادف وأصاب وتعدت إلى واحد والجملة من ملئت في موضع الحال وأجيز أن يكون تعدت إلى اثنين فملئت في موضع المفعول الثاني والظاهر أن المراد بالحرس الملائكة أي حافظين من أن تقربها الشياطين.
{ وشهبا } جمع شهاب وهو ما يرجم به الشياطين إذا استمع وقوله: فوجدناها يدل على أنها كانت قبل ذلك يطرقون السماء ولا يجدونها قد ملئت.
{ مقاعد } جمع مقعد وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم صورة قعود الجن أنهم كانوا واحدا فوق واحد فمتى احترق الأعلى طلع الذي تحته مكانه فكانوا يسترقون الكلمة فيلقونها إلى الكهان ويزيدون معها ثم يزيد الكهان الكلمة مائة كذبة.
{ فمن يستمع الآن } ظرف زمان للحال ويستمع مستقبل فاتسع في الظرف واستعمل للاستقبال.
{ رصدا } أي يرصده فيخرقه هذا لمن استمع وأما السمع فقد انقطع كما قال تعالى:
إنهم عن السمع لمعزولون
[الشعراء: 212] ولما رأوا ما حدث من كثرة الرجم ومنع الاستراق قالوا:
{ وأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض } وهو كفرهم بهذا النبي فينزل بهم الشر.
{ أم أراد بهم ربهم رشدا } فيؤمنون به فيرشدون وحين ذكروا الشر لم يسندوه إلى الله تعالى وحين ذكروا الرشد أسندوه إلى الله تعالى.
{ وأنا منا الصالحون } أخبروا بما هم عليه من الصلاح وغيره.
و { دون ذلك } أي دون صالح وتقع دون في مواضع موقع غير فكأنه قيل ومنا غير صالحين.
{ أن لن نعجز الله } أي لن نعجزه هربا أي من الأرض إلى السماء وفي الأرض وهربا حالان أي فارين أو هاربين.
و { الهدى } هو القرآن.
{ آمنا به } أي بالقرآن.
{ فلا يخاف } أي فهو لا يخاف والبخس قال ابن عباس: نقص الحسنات والرهق زيادة في السيئات.
و { القاسطون } أي الكافرون الحائدون عن الحق والظاهر أن.
{ فمن أسلم } إلى آخر الشرطين من كلام الخبر ومن أسلم مخاطبة من الله تعالى للرسول عليه السلام ويؤيده ما بعده من الآيات.
{ وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم مآء غدقا } هذا من جملة الموحى المندرج تحت أوحي إلي وإن مخففة من الثقيلة والضمير في واستقاموا عائد على القاسطين والمعنى على طريقة الإسلام والحق لأنعمنا عليهم وإن هي المخففة من الثقيلة لأسقيناهم ماء غدقا كناية عن توسعة الرزق لأنه أصل المعاش.
{ لنفتنهم فيه } أي لنختبرهم كيف يشكرون ما أنعم عليهم به.
و { صعدا } مفعول يسلكه وعذابا مفعول من أجله المساجد هي البيوت المعدة للصلاة والعبادة في كل ملة قال ابن جبير نزلت لأن الجن قالت يا رسول الله كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك فنزلت الآية ليخاطبهم بها على معنى أن عبادتكم حيث كنتم مقبولة، وعبد الله هو محمد صلى الله عليه وسلم.
{ يدعوه } أي يدعو الله.
{ كادوا } أي كاد الجن ينقضون عليه لاستماع القرآن.
{ قل إنمآ أدعو ربي } أي أعبده قال للجن عند ازدحامهم متعجبين: ليس ما ترون من عبادة الله تعالى بأمر يتعجب منه إنما يتعجب ممن يعبد غيره.
{ قل } أي قل يا محمد لهؤلاء المزدحمين عليك وهم إما الجن وإما المشركون على اختلاف القولين في ضمير كادوا ثم أمره تعالى أن يقول لهم ما يدل على تبرئه من القدرة على إيصال خير أو شر إليهم وجعل الضر مقابلا للرشد تعبيرا به عن الغنى ثمرته الضر ويمكن أن يكون المعنى ضرا ولا نفعا ولا غيا ولا رشدا فحذف من كل ما يدل مقابله عليه نفى عليه السلام أن يجيره أحد مما يريد الله به ونفى أن يجد ملقوا أي مرجعا من دون الله.
{ إلا بلاغا } استثناء منقطع أي لكن ان بلغت رحمني بذلك وجمع خالدين حملا على معنى من وذلك بعد الحمل على اللفظ في قوله يعصي وفان له.
{ حتى إذا رأوا } حتى هنا حرف ابتداء يصلح أن تجيء بعدها جملة الابتداء والخبر ومع ذلك فيها معنى الغاية.
{ ما يوعدون } من يوم بدر وإظهار الله له عليهم وناصرا وعددا تمييزان.
{ قل إن أدري } قال مكحول: لم ينزل هذا إلا في الجن أسلم في وفق وكفر من خذل كالأنيس قال: وبلغ من بايع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن سبعين ألفا وفزعوا عند انشقاق الفجر ثم أمره تعالى أن يقول لهم انه لا يدري وقت حلول ما عدوا به أهو قريب أم بعيد وأن نافية وأدري فعل قلبي معلق عن جملة الاستفهام وما بعدها فالجملة في موضع نصب. وأم يجعل وما بعده مقابل لقوله: أقريب لأن معناه أم بعيد يجعل له ربي أمدا.
{ علم الغيب } خبر مبتدأ محذوف تقديره هو عالم.
{ فلا يظهر على غيبه } عام وإلا من ارتضى استثناء منقطع كأنه قال فلا يظهر على غيبه المخصوص أحدا إلا من ارتضى من رسول فله حفظه يحفظونه من شر مردة الجن والإنس ولأبي عبد الله الرازي كلام في علم الغيب مذكور هو والرد عليه في البحر قال ما نصه واعلم أنه لا بد من القطع بأنه ليس المراد من هذه الآية أنه لا يطلع على شىء من المبيعات إلا الرسل والذي يدل عليه وجوه أحدها أنه ثبت بالاخبار القريبة من التواتر ان شقا وسطيحا كانا كاهنين يخبران بظهور محمد صلى الله عليه وسلم قبل زمان ظهوره وكانا في العرب مشهورين بهذا النوع من العلم حتى رجع إليهما كسرى في تعرف أخبار رسولنا صلى الله عليه وسلم ثانيها أطباق الأمم على صحة علم التعبير فيخبر المعبر عن ما يأتي في المستقبل ويكون صادقا وثالثها أن الكاهنة البغدادية التي نقلها السلطان سنجر بن ملكشاه من بغداد إلى خراسان سألها عن أشياء في المستقبل فأخبرت بها ووقعت على وفق كلامها وقد رأيت أناسا محققين في علوم الكلام والحكمة حكوا عنها أنها أخبرت عن الأشياء الغائبة على سبيل التفصيل وجاءت كذلك وبالغ أبو البركات صاحب المعتبر في شرح حالها في كتاب التعبير وقال: فحصت عن حالها من ثلاثين سنة حتى تيقنت أنها كانت تخبر عن المغيبات أخبارا مطابقة موافقة.
ورابعها انا نشاهد أصحاب الإلهامات الصادقة وليس هذا مختصا بالأولياء فقد يوجد في السحرة وفي الأحكام النجومية ما يوافق الصدق وإن كان الكذب يقع فيه كثيرا وإذا كان ذلك مشاهدا محسوسا فالقول بأن القرآن يدل على خلافه مما يجر الطعن إلى القرآن وذلك باطل فعلمنا أن التأويل الصحيح ما ذكرناه " انتهى ".
وفيه بعض تلخيص وإنما أوردنا كلام هذا الرجل في هذه المسألة لننظر فيما ذكره من تلك الوجوه أما قصة شق وسطيح فليس فيها شىء من الاخبار بالغيب لأنه مما يخبر به رئى الكاهن من الشياطين مسترقة السمع كما جاء في الحديث أنهم يسمعون الكلمة ويكذبون ويلقون إلى الكهنة ويزيد الكهنة للكلمة مائة كذبة وليس هذا من علم الغيب. إذا تكلمت به الملائكة وتلقفها الجن وتلقفها منه الكاهن فالكاهن لم يعلم الغيب وأما تعبير المنامات فالمعبر غير المعصوم لا يعبر بذلك على سبيل البت والقطع بل على سبيل الحزر والتخمين فقد يقع ما يعبر وقد لا يقع وأما الكاهنة البغدادية وما حكى عنها محسبة أن يستدل بأحوال امرأة لم يشاهدها ولو شاهد ذلك لكان في عقله ما يجوز أنه لبس عليه هذا وهو العالم المنصف الذي طبق ذكره الآفاق وهو الذي شكك في دلائل الفلاسفة وسامهم الخسف وأما نقل الملك سنجر الكاهنة إلى خراسان وإشهارها أنها تعلم الغيب وأنه سألها عن أشياء في المستقبل فأخبرت بها فإن الملوك لهم أذهان لطيفة ومقاصد خفيفة وفكرة دقيقة في تدبير المملكة فاستصحب هذه المرأة ليوهم بذلك أهل مملكته وحاشيته أن عنده من يعلم الغيب وأخبرهم بما رتب معها فيمن عنده من أهل مملكته خائفون دائما أن يظهر عنهم ما يشوش على الملك ولذلك استخدم عقلاء الملوك المنجمين وضراب الرمل وإن كانوا يعتقدون أنهم ليس لهم إطلاع على شىء من الغيب كل ذلك إيهام منهم لأهل مملكتهم فإنهم رعاع همج يصدقون بالمستحيلات وتؤثر فيهم الأوهام وأما حكايته عن صاحب المعتبر فهو يهودي أظهر الإسلام فهو منتحل طريقة الفلاسفة وأما مشاهدته أصحاب الإلهامات الصادقة فعلى من العمر نحو من ثمانين سنة أصحب العلماء وأتردد إلى من ينتمي إلى الصلاح فلم أر أحدا منهم صاحب الهام صادق وأما الكرامات فإني لا أشك في صدور شىء منها لكن على سبيل الندرة وذلك فيمن سلف من صلحاء هذه الأمة وربما قد يكون في أعصارنا من تصدر منه الكرامة ولله تعالى أن يخص من شاء بما شاء.
{ ليعلم أن } الضمير عائد على الرسول عليه السلام إذ قد تقدم ذكره في قوله وإنه لما قام عبد الله أن الملائكة الحفظة إلى حد النازلين بين يدي جبريل عليه السلام وخلفه قد أبلغوا رسالات ربهم.
{ وأحاط } فيه ضمير فاعل عائد على ربهم وكذلك الضمير في أحصى وعددا تمييز.
[73 - سورة المزمل]
[73.1-20]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * يأيها المزمل * قم اليل إلا قليلا } هذه السورة مكية وسبب نزولها
" أنه عليه السلام لما جاءه الملك وهو في غار حراء بما حاوره رجع إلى خديجة رضي الله عنها فقال: زملوني زملوني "
فعلى هذا نزلت يا أيها المزمل قالت عائشة رضي الله عنها: نودي بذلك لأنه كان في وقت نزول الآية متزملا بكساء ومناسبتها لآخر ما قبلها أن في آخر تلك عالم الغيب الآيات فاتبعه بقوله: { يأيها المزمل } إعلاما بأنه عليه السلام ممن ارتضاه من الرسل وخصه بخصائص وكفاه شر أعدائه. قال الزمخشري:
{ نصفه } بدل من الليل.
و { إلا قليلا } إستثناء من نصف كأنه قال: قم أقل من نصف الليل والضمير في منه وعليه عائد على النصف والمعنى التخيير بين أمرين بين أن يقوم أقل من نصف الليل على البت وبين أن يختار أحد الأمرين وهما النقصان من النصف والزيادة عليه " انتهى ". فلم يتنبه للتكرار الذي يلزمه في هذا القول لأنه على تقديره قم أقل من نصف الليل كان قوله: أو انقص من نصف الليل تكرارا وإذا كان نصفه بدلا من قوله: إلا قليلا فالضمير في نصفه إما أن يعود على المبدل منه أو على المستثنى منه وهو الليل لا جائز أن يعود على المبدل منه لأنه يصير استثناء مجهول من مجهول إذ التقدير إلا قليلا نصف الليل وهذا لا يصح له معنى البتة وإن عاد الضمير على الليل فلا فائدة في الاستثناء من الليل إذ كان يكون أحضر وأوضح وأبعد من الإلتباس أن يكون التركيب قم الليل نصفه وقد أبطلنا قول من قال إلا قليلا استثناء من البدل وهو نصفه وأن التقدير قم الليل نصفه إلا قليلا منه أي من النصف وأيضا ففي دعوى أن نصفه بدل من إلا قليلا والضمير في نصفه عائد على الليل إطلاق القليل على النصف ويلزم أيضا أن يصير التقدير إلا نصفه فلا تتمه أو أنقص من النصف الذي لا تقومه أو زاد على النصف الذي لا تقومه وهذا معنى لا يصح وليس المراد من الآية قطعا.
وقال الزمخشري: وإن شئت جعلت نصفه بدلا من قليلا فكان تخييرا بين ثلاث بين قيام النصف بتمامه وبين قيام الناقص منه وبين قيام الزائد عليه وإنما وصف النصف بالقلة بالنسبة إلى الكل فإن شئت قلت لما كان معنى قم الليل إلا قليلا نصفه إذا أبدلت النصف من الليل ثم أقل من نصف الليل رجع الضمير في منه وعليه إلى الأقل من النصف فكأنه قيل قم أقل من نصف الليل أو قم أنقص من ذلك الأقل أو أزيد منه قليلا فيكون التخيير فيما وراء النصف بينه وبين الثلث ويجوز إذا أبدلت نصفه من قليلا وفسرته به أن تجعل قليلا الثاني: بمعنى نصف النصف وهو الربع كأنه قيل أو أنقص منه قليلا نصفه وتجعل المزيد على هذا القليل أعني الربع نصف الربع كأنه قيل أو زد عليه قليلا نصفه ويجوز أن تجعل الزيادة لكونها مطلقة تتمة الثلث فيكون تخييرا بين النصف والثلث والربع " انتهى ".
وما أوسع خيال هذا الرجل فإنه يجوز ما يقرب وما يبعد والقرآن لا ينبغي بل لا يجوز أن يحمل إلا على أحسن الوجوه التي تأتي في كلام العرب وممن نص على جواز أن يكون نصفه بدلا من الليل أو من قليلا الزمخشري كما ذكرنا وابن عطية أورده مورد الاحتمال وأبو البقاء قال أشبه بظاهر الآية أن يكون بدلا من قليلا لأنه قال أو أنقص منه قليلا أو زاد عليه والهاء فيها للنصف فلو كان الاستثناء من النصف لكان التقدير قم نصف الليل إلا قليلا أو أنقص منه قليلا فالقليل المستثنى غير مقدر فالنقصان منه لا يتحصل " إنتهى ".
وأما الحوفي فأجاز أن يكون بدلا من الليل ولم يذكر غيره وقال ابن عطية: وقد يحتمل عندي قوله إلا قليلا أن يكون استثناء من القيام فيجعل الليل إسم جنس ثم قال إلا قليلا أي الليالي التي تحل بقيامها عند العذر البين ونحوه وهذا النظر يحسن مع القول بالندب " انتهى ".
وهذا خلاف الظاهر وقيل المعنى أو نصفه كما تقول أعطه درهما درهمين ثلاثة تريد أو درهمين أو ثلاثة " انتهى ". وفيه حذف حرف العطف من غير دليل عليه وقال التبريزي: الأمر بالقيام والتخيير في الزيادة والنقصان وقع على الثلثين من آخر الليل لأن الثلث الأول وقت العتمة والاستثناء وارد على المأمور به فكأنه قال: قم ثلثي الليل إلا قليلا ثم جعل نصفه بدلا من قليلا فصار القليل مفسرا بالنصف من الثلثين وهو القليل من الكل فقوله أو أنقص منه أي من المأمور به وهو قيام الثلثين إلا قليلا أي ما دون نصفه أو زد عليه أي على الثلثين فكان التخيير في الزيادة والنقصان واقعا على الثلثين وقال أبو عبد الله الرازي قد أكثر الناس في تفسير هذه الآية وعندي فيه وجهان ملخصان وذكر كلاما طويلا ملفقا يوقف عليه في كتابه والذي يظهر أن المأمور به أولا قيام جميع الليل إلا ما ينطلق عليه قليل كساعة أو غيرها ثم قوله: نصفه على إضمار قم ثانيا وجاء بعد ذلك التخيير بين قليل من النصف أو زائد على النصف فالمستثنى أولا غير أحد المخير فيه وهو النقص من النصف فقد اختلفت جهتا القليل الأول بالنسبة إلى جميع الليل والثاني بالنسبة إلى النصف.
{ قولا ثقيلا } هو القرآن وثقله بما اشتمل عليه من التكاليف الشاقة كالجهاد ومداومة الأعمال الصالحة.
{ ناشئة الليل } ساعاته لأنها تنشأ شيئا بعد شىء وقال ابن عباس: ما كان بعد العشاء فهو ناشئة وما كان قبلها فليس بناشئة وقرىء:
{ وطأ } والمعنى أنها أشد مواطأة أي يواطىء القلب فيها اللسان.
{ وأقوم قيلا } أي أشد استقامة على الصواب لأن الأصوات هادئة فلا يضطرب على المصلي ما يقرأه.
{ سبحا } أي تصرفا وتقلبا في المهمات كما يتردد السابح في:
{ واذكر اسم ربك } أي دم على ذكره وهو يتناول كل ذكر من تسبيح وتهليل وغيرهما وانتصب.
{ تبتيلا } على أنه مصدر على غير الصدر وحسن ذلك كونه فاصلة وقرىء رب بالرفع خبر مبتدأ محذوف وبالجر على البدل.
{ فاتخذه وكيلا } لأن من انفرد بالإلهية لم يتخذ وكيلا إلا هو واصبر واهجرهم قيل منسوخ بآية السيف.
{ وذرني والمكذبين } قيل نزلت في صناديد قريش المستهزئين.
{ أولي النعمة } أي حضارة العيش وكثرة المال والولد والنعمة بالفتح التنعم وبالكسر الإنعام وما ينعم به وبالضم المبرة يقال: نعم ونعمة عين.
{ ومهلهم قليلا } وعيد لهم بسرعة الانتقام منهم والقليل موافاة آجالهم وقيل وقعة بدر.
{ إن لدينآ } أي ما يضاد نعمتهم.
{ أنكالا } قيودا في أرجلهم.
{ وجحيما } نارا شديد الاتقاد.
{ وطعاما ذا غصة } قال ابن عباس: شوك من نار يعترض في حلوقهم لا يخرج ولا ينزل.
{ ترجف } تضطرب.
{ كثيبا } أي رملا مجتمعا.
{ مهيلا } أي رخوا لينا ولما هدد المكذبين بأهوال يوم القيامة ذكرهم بحال فرعون وكيف أخذه الله تعالى إذ كذب موسى عليه السلام وإنه إن دام تكذيبهم أهلكهم الله تعالى فقال:
{ إنآ أرسلنآ إليكم } والخطاب عام للأسود والأحمر وقيل لأهل مكة.
{ رسولا شاهدا عليكم } كما قال تعالى:
وجئنا بك شهيدا على هؤلآء
[النحل: 89] والوبيل الرديء العقبى من قولهم كلأ وبيل أي وخم لا يستمر الثقلة أي لا ينزل في المريء.
{ فكيف تتقون إن كفرتم } الآية يوما منصوب بتتقون نصب المفعول به على المجاز أي كيف تستقبلون هذا اليوم العظيم الذي من شأنه كذا وكذا والضمير في يجعل لليوم أسند إليه الجعل لما كان واقعا فيه على سبيل المجاز والجملة من قوله يجعل صفة ليوم والشيب مفعول ثان ليجعل أي يصير الصبيان شيوخا وهو كناية عن شدة هول ذلك اليوم ويقال في اليوم الشديد يوم يشيب نواصي الأطفال والأصل فيه أن الهموم إذا تفاقمت أسرعت بالشيب والظاهر أن الضمير في وعده عائد على اليوم فهو من إضافة المصدر إلى الفاعل وإن لم يجر له ذكر قريبا لأنه معلوم أن الذي هذه مواعيده هو الله تعالى.
{ إن هذه } السورة أو الانكال وما عطف عليه أي والأخذ الوبيل أو آيات القرآن المتضمنة شدة يوم القيامة.
{ تذكرة } أي موعظة.
{ فمن شآء اتخذ } بالتقريب إليه بالطاعة.
{ أنك تقوم } أي تصلي وهذه الآية نزلت تخفيفا لما كان استمرار استعماله في أمر قيام الليل إما على الوجوب وإما على الندب على الخلاف الذي سيق.
{ أدنى من ثلثي اليل } أي زمانا هو أقل من ثلثي الليل واستعير الأدنى وهو الأقرب للأقل لأن المسافة إذا دنت بين الشيئين قل ما بينهما من الإحياز وإذا بعدت كثر ذلك وقرىء نصفه بالنصب والجر فأما قراءة الكسر فمعطوف على ثلثي الليل ومن قرأ بالنصف فمعطوف على أدنى فأما الجر فالمعنى أنه قيام مختلف مرة أدنى من الثلثين ومرة أدنى من النصف ومرة أدنى من الثلث وذلك لتعذر معرفة البشر بمقادير الزمان وتقدير الزمان حقيقة هو لله تعالى.
{ فتاب عليكم } أي رجع بكم من الثقل إلى الخفة وأمركم بقيام ما تيسر وطائفة معطوف على الضمير المستكن في يقوم وحسنه الفصل بينهما وطائفة من الذين معك دليل على أنه لم يكن فرضا على الجميع إذ لو كان فرضا عليهم لكان التركيب والذين معك إلا ان اعتقد أن منهم من كان يقوم في بيته ومنهم من يقوم معه فتمكن إذ ذاك الفرضية في حق الجميع.
{ والله يقدر } أي هو وحده العالم بمقادير الساعات.
{ فاقرءوا ما تيسر } عبر بالقراءة عن الصلاة لأنها بعض أركانها أي فصلوا ما تيسر عليكم من صلاة الليل وإذا كان المراد فاقرؤوا في الصلاة ما تيسر فالظاهر أنه لا يتعين ما يقرأ بل إذا قرأ ما تيسر له وسهل عليه أجزأه وقدره أبو حنيفة بآية.
{ علم أن سيكون } بيان لحكمة النسخ وهو تعذر القيام على المرض والضاربين في الأرض للتجارة والمجاهدين في سبيل الله.
{ فاقرءوا ما تيسر منه } كرر ذلك على سبيل التوكيد ثم أمر بعمودي الإسلام البدني والمالي ثم قال:
{ وأقرضوا الله } العطف يشعر بالتغاير فقوله: وآتوا الزكاة أمر بأداء الواجب وأقرضوا أمر بالصدقات التي يتطوع بها واحتمل هو أن يكون فصلا وأن يكون توكيد الضمير النصب في تجدده.
{ واستغفروا الله } أمر بالاستغفار.
[74 - سورة المدثر]
[74.1-31]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * يأيها المدثر * قم فأنذر } هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها أن فيما قبلها ذرني والمكذبين وفيه أن هذه تذكرة فناسب يا أيها المدثر فأنذر وناسب ذكر يوم القيامة بعد ذكر بعض المكذبين في قوله: { ذرني ومن خلقت وحيدا } قم فأنذر. المعنى: ثم قيام تصميم وجد فأنذر أي حذر عذاب الله تعالى ووقائعه والإنذار عام لجميع الناس وبعثه إلى الخلق.
{ فكبر } أي فعظم كبرياءه.
{ وثيابك فطهر } الظاهر أنه أمر بتطهير الثياب من النجاسات لأن طهارة الثياب شرط في صحة الصلاة.
{ والرجز } العذاب.
{ فاهجر } أي أهجر ما يؤدي إليه وقرىء بضم الراء.
{ ولا تمنن تستكثر } قال ابن عباس لا تعط عطاء لتعطي أكثر منه من قولهم من إذا أعطى وقال الحسن لا تمنن على الله بجدك تستكثر أعمالك ويقع لك بها إعجاب والجملة حالية أي مستكثرا.
{ ولربك } أي لوجه ربك.
{ فاصبر } أمر بالصبر فيتناول الصبر على تكاليف النبوة وعلى أداء طاعات لله تعالى وعلى أذى الكفار.
قال الزمخشري: والفاء في قوله:
{ فإذا نقر } للتسبب كأنه قيل فاصبر على أذاهم فبين أيديهم يوم عسير يلقون فيه عاقبة أذاهم وتلقى فيه عاقبة صبرك عليه والنقر الصوت والناقور فاعول منه كالجاسوس مأخوذ من التجسس.
{ ذرني ومن خلقت وحيدا } لا خلاف أنها نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي فروي أنه كان يلقب بالوحيد أي لا نظير له في ماله وشرفه في بيته والظاهر إنتصاب وحيدا على الحال من الضمير المحذوف العائد على من أي خلقته منفردا ذليلا قليلا لا مال له ولا ولد فآتاه الله المال والولد فكفر نعمته وأشرك به واستهزأ نعمته.
{ وجعلت له مالا ممدودا } قال ابن عباس: كان له بين مكة والطائف إبل وحجور ونعم وجنان وعبيد وجوار.
{ وبنين شهودا } أي حظورا معه بمكة لا يظعنون عنه لغناهم فهو مستأنس بهم منهم خالد وهشام وعمارة وقد أسلموا والوليد والعاصي وقيس وعبد شمس.
{ ومهدت له تمهيدا } أي وطأت له وهيأت وبسطت له بسطا حتى أقام ببلده مطمئنا يرجع إلى رأيه وقال ابن عباس وسعت له ما بين اليمن إلى الشام.
{ ثم يطمع أن أزيد } أي على ما أعطيته من المال والوليد.
{ كلا } قطع لرجائه وردع أي ليس يكون كذلك مع كفره بالنعم.
{ إنه كان لآياتنا عنيدا } تعليل للردع على وجه الاستئناف كان قائلا قال: لم لا يزاد فقال: إنه عاند آيات المنعم وكفر بذلك نعمته والكافر لا يستحق المزيد.
{ سأرهقه } أي سأكلفه وأغشيه بمشقة وعسر.
{ صعودا } عقبة في جهنم كلما وضع عليها شىء من الإنسان ذاب ثم يعود والصعود في اللغة العقبة الشاقة.
{ إنه فكر وقدر } روي أن الوليد حاج أبا جهل وجماعة من قريش في أمر القرآن وقال ان له لحلاوة وان أسفله لمغدق وان فرعه لجناة وانه ليحطم ما تحته وانه ليعلو وما يعلى فخالفوه وقالوا هو شعر فقال: والله ما هو بشعر قد عرفنا الشعر هزجه ورجزه وطويله وبسيطه قالوا فهو كاهن قال: والله ما هو بكاهن لقد رأينا الكهان قالوا: هو مجنون قال: والله ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وخنقه قالوا: هو سحر قال: أما هذا فيشبه أنه سحر.
{ فكر } أي في القرآن وبمن أتى به.
{ وقدر } أي في نفسه ما يقول فيه.
{ فقتل كيف قدر } قيل قتل لعن وقيل غلب وقهر وذل.
{ ثم عبس وبسر } أي قطب وكلح لما ضاقت عليه الحيل ولم يدر ما يقول وناسب العطف بالواو وكان العطف في:
{ فقال } بالفاء دلالة على التعقيب لأنه لما خطر بباله هذا القول بعد تطلبه لم يتمالك أن نطق به من غير تمهل ومعنى يؤثر أي يروي وينقل ومعنى إلا سحر أي يشبه السحر.
{ إن هذآ إلا قول البشر } تأكيد لما قبله أي ملتقط من أقوال الناس.
{ سأصليه سقر } قال الزمخشري بدل من سأرهقه صعودا " انتهى " ويظهر أنهما جملتان اعتقبت كل واحدة منهما على سبيل التوعد للعصيان الذي قبل كل واحد منهما متوعدة على كونه عنيدا لآيات الله بإرهاق صعود على قوله بأن القرآن سحر يؤثر بإصلائه سقر.
{ ومآ أدراك ما سقر } تعظيم لهولها وشدتها.
{ لا تبقي ولا تذر } أي لا تبقي على من ألقي فيها ولا تذر غاية من العذاب إلا أوصلته إليه.
{ لواحة للبشر } قال ابن عباس: معناه مغيرة للبشرات محرقة للجلود مسودة لها والبشر جمع بشرة تقول العرب لاحت النار الشىء إذا أحرقته وسودته.
{ عليها تسعة عشر } التميز محذوف والمتبادر إلى الذهن أنه ملك ألا ترى العرب وهم الفصحاء كيف فهموا منه أن المراد ملك حين سمعوا ذلك فقال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمهاتكم اسمع ابن أبي كبشة يخبركم أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدهم أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا برجل منهم فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان شديد البطش أنا أكفيكم سبعة عشر فاكفوني أنتم اثنين فأنزل الله تعالى: { وما جعلنآ أصحب النار إلا ملئكة } أي وما جعلناهم رجالا من جنسكم يطاقون وأنزل الله تعالى في أبي جهل:
أولى لك فأولى
[القيامة: 34].
{ وما جعلنا عدتهم إلا فتنة } أي سبب فتنة ففتنة مفعول ثان لجعلنا أي جعلنا تلك العدة وهي تسعة عشر سببا لفتنة الكفار فليست فتنة مفعولا من أجله وفتنتهم هو كونهم أظهروا مقاومتهم والطماعية في مغالبتهم وذلك على سبيل الاستهزاء فإنهم مكذبون بالبعث وبالنار وبخزنتها.
{ ليستيقن } هذا مفعول من أجله وهو متعلق بجعلنا لا بفتنة.
و { الذين أوتوا الكتب } هم اليهود والنصارى إذ هم عالمون أن القرآن هو من عند الله إذ هم يجدون ذلك في كتبهم المنزلة ويعلمون أن الرسول عليه السلام لم يقرأها ولا قرأها عليه أحد.
{ ولا يرتاب } توكيد لقوله ليستيقن إذ ثبات اليقين ونفي الارتياب أبلغ وآكد في الوصف لسكون النفس السكون التام.
{ ماذآ أراد الله } لما سمعوا هذا العدد لم يهتدوا وحاروا فاستفهم بعضهم بعضا عن ذلك استبعادا أن يكون هذا من عند الله وسموه مثلا استعارة من المثل المضروب استغرابا منهم لهذا العدد والمعنى أي شىء أراد الله بهذا العدد العجيب ومرادهم إنكر أصله وأنه ليس من عند الله.
{ كذلك يضل الله من يشآء ويهدي من يشآء } الكاف في محل نصب وذلك إشارة إلى ما قبله من معنى الإضلال والهدي أي مثل ذلك المذكور من الإضلال والهدي يضل الكافرين فيشكون فيزيدهم كفرا وضلالا ويهدي المؤمنين فيزيدهم إيمانا.
{ وما يعلم جنود ربك إلا هو } إعلام بأن الأمر فوق ما يتوهم وأن الخبر إنما هو عن بعض القدرة لا عن كلها والسماء عامرة بأنواع من الملائكة وفي الحديث
" أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وملك واضع جبهته لله تعالى ساجد ".
{ وما هي } أي النار.
{ إلا ذكرى للبشر } أي الذين أهلوا للتذكر والاعتبار.
[74.32-56]
{ كلا } قال الزمخشري: كلا إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون " انتهى ".
ليس يسوغ هذا في حق الله تعالى أن يخبر انها ذكرى للبشر ثم ينكر أن تكون لهم ذكرى وإنما قوله للبشر عام مخصوص.
{ والقمر * والليل إذ أدبر } أي ولى ويقال دبر وأدبر بمعنى واحد أقسم تعالى بهذه الأشياء تشريفا لها وتنبيها على ما يظهر بها وفيها من عجائب الله وقدرته وقوام الوجود بإيجادها.
{ إنها لإحدى الكبر } الظاهر أن الضمير في إنها عائد على النار وإحدى الكبر الدواهي الكبر أي لا نظير لها كما تقول هو أحد الرجال وهي إحدى النساء والكبر العظائم من العقوبات.
{ نذيرا للبشر } هو محمد صلى الله عليه وسلم فهو منصوب بفعل مضمر أي ناد أو بلغ أو أعلى والظاهر أن لمن بدل من البشر بإعادة الجار.
{ أن يتقدم } منصوب بشاء والفاعل بشاء ضمير يعود على من وقيل الفاعل ضمير يعود على الله تعالى أي لمن شاء هو أي الله تعالى أن يتقدم من طاعة الله تعالى أو يتأخر عنها والظاهر العموم في كل نفس ورهينة بمعنى مرهونة كالنطيحة بمعنى المنطوحة أنث مراعاة لقوله: { كل نفس } كما ذكر في قوله:
كل امرىء بما كسب رهين
[الطور: 21] مراعاة لامرىء وهو ذكر.
{ إلا أصحاب اليمين } إستثناء منقطع.
{ في جنات } خبر.
{ يتسآءلون } حال.
{ ما سلككم } خطاب للمجرمين أطلع الله المؤمنين على أحوال المجرمين فسألوهم سؤال توبيخ لهم وتحسير والا فهم عالمون ما الذي أدخلهم النار والجواب أنهم لم يكونوا متصفين بخصائل الإسلام من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ثم ارتقوا من ذلك إلى الأعظم وهو الكفر والتكذيب بيوم الجزاء واليقين الموت.
{ فما تنفعهم شفاعة الشافعين } أي لا شفاعة شافعين لهم فتنفعهم من باب، على لاحب لا يهتدي بمناره، أي لا منار له فيهتدي به.
{ فما لهم عن التذكرة } وهي مواعظ القرآن التي تذكر الآخرة.
{ معرضين } أي والحال المنتظرة هذه الموصوفة ثم شبههم بالحمر الوحشية المستنفرة في شدة إعراضهم ونفارهم عن الإيمان وآيات الله تعالى وقرىء بكسر الفاء إسم فاعل وبفتحها إسم مفعول وقال ابن الأعرابي: القسوة أول الليل والمعنى فرت من ظلمة الليل ولا شىء أشد نفارا من حمر الوحش ولذلك شبهت بها العرب الإبل في سرعة مسيرها وخفتها وقيل القسورة الرماة والصيادون وقيل الأسد قاله جماعة من اللغويين.
{ بل يريد كل امرىء منهم } أي من المعرضين عن عظات الله تعالى وآياته.
{ أن يؤتى صحفا منشرة } أي منشورة غير مطوية تقرأ كالكتب التي يتكاتبونها أو كتبت في السماء نزلت بها الملائكة ساعة كتبت رطبة لم تطو بعد وذلك أنهم قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم لن نتبعك حتى يؤتى كل واحد منا بكتب من السماء عنوانها من رب العالمين إلى فلان ابن فلان يؤمر فيها باتباعك فنزلت هذه الآية.
{ كلا } ردع عن إعراضهم عن التذكرة.
{ إنه تذكرة * فمن شآء ذكره } ذكر في أنه وفي ذكره لأن التذكرة ذكر.
{ هو أهل التقوى } أي أهل أن يتقى ويخاف.
{ وأهل } أن يغفر سبحانه وتعالى.
[75 - سورة القيامة]
[75.1-40]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * لا أقسم بيوم القيامة } هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها ان في آخر ما قبلها كلا بل لا يخافون الآخرة وفيها كثير من أحوال القيامة فذكر هنا يوم القيامة وجملا من أحوالها هي التي تلوم صاحبها في ترك الطاعة ونحوه وجواب القسم ما يدل عليه قوله:
{ أيحسب الإنسان } تقديره ليبعثن والإنسان هنا الكافر المكذب بالبعث قيل نزلت في أبي جهل كان يقول أيزعم محمد أن يجمع الله هذه العظام بعد بلاها وتفرقها ويعيدها خلقا جديدا. وإن هي المخففة من الثقيلة سدت مسد مفعولي أيحسب لما ذكر الأخبار بقوله:
{ بلى قادرين } أي نجمعها قادرين انتقل من هذا الأخبار إلى الأخبار عن الإنسان من غير إبطال لمضمون الجملة السابقة وهي نجمعها قادرين ليتبين ما هو عليه الإنسان من عدم الفكر في الآخرة وأنه معني بشهواته ومفعول يريد محذوف يدل عليه التعليل في ليخبر تقديره بلوغ شهواته.
{ يسأل أيان } أي متى.
{ يوم القيامة } سؤال استهزاء وتكذيب وتعنيت ويوم مبتدأ وأيان إسم إستفهام في موضع الخبر والجملة في موضع نصب بيسأل وقرىء:
{ فإذا برق } وبرق معناه شق.
{ وخسف القمر } خسف يكون لازما ومتعديا تقول خسف القمر ذهب نوره وخسفه الله أذهب نوره.
وجمع الشمس والقمر } لم تلحق التاء في جمع لأن تأنيث الشمس مجاز أو لتغليب القمر وهو مذكر وجمعها إلقاؤهما في النار وقيل غير ذلك.
{ أين المفر } مبتدأ وأين ظرف في موضع الخبر والجملة في موضع نصب محكية بيقول والظاهر أن قوله:
{ كلا لا وزر } وهو من كلام الله تعالى لا حكاية عن الإنسان.
{ إلى ربك } أي إلى حكمه.
{ بما قدم } قال ابن عباس: في حياته.
{ وأخر } من سنة يعمل بها بعده.
{ بصيرة } خبر عن الإنسان أي شاهد والهاء للمبالغة وعلى نفسه متعلق به والمعاذير عند الجمهور الإعذار فالمعنى ولو جاء بكل معذرة يتعذر بها عن نفسه فإنه هو الشاهد عليها والحجة البينة عليها وقال الزمخشري: قياس معذرة معاذر فالمعاذير ليس بجمع معذرة إنما هو إسم جمع لها ونحوه المنكر " انتهى ".
وليس هذا البناء من أبنية أسماء الجموع وإنما هو من أبنية جمع التكسير فهو كذاكير وملاقيح وملاميح والمفرد منها لمحة ولقحة وذكر ولم يذهب أحد إلى أنها من أسماء الجموع بل قيل هي جمع للقحة ولمحة وذكر على غير قياس أو هي جمع لمفرد لم ينطق به وهو مذكار وملمحة وملقحة وأجاز النحويون فيما كان على حركات مفاعل أن تلحقها الياء فقالوا في جمع صيرف صياريف وفي جمع سابغة سوابيغ.
{ لا تحرك به لسانك } في صحيح البخاري أنه صلى الله عليه وسلم كان يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفته مخافة أن يذهب عنه ما يوحى إليه لحينه فنزلت والضمير في به للقرآن دل عليه مساق الآية.
{ إن علينا جمعه } أي في صدرك.
{ وقرآنه } أي قراءته أي قراءتك إياه.
{ فإذا قرأناه } أي الملك المبلغ عنا .
{ فاتبع } أي بذهنك وفكرك أي فاستمع قراءته قاله ابن عباس: ويظهر أن المناسبة بين هذه الآية وما قبلها أنه تعالى لما ذكر فكر البعث وقيامة معرضا عن آيات الله تعالى ومعجزاته وأنه ناصر شهواته على الفجور وغير مكترث بما يصدر منه ذكر حال من يثابر على تعلم آيات الله وحفظها وتلقفها والنظر فيها وعرضها على من ينكرها جاء قبوله إياها فظهر بذلك تباين من يرغب في تحصيل آيات الله تعالى ومن يرغب عنها وبضدها تمييز الأشياء ولما كان عليه السلام لمثابرته على ذلك كان يبادر للتحفظ بتحريك لسانه أخبره تعالى أنه يجمعه له ويوضحه له.
{ كلا بل تحبون العاجلة } لما فرغ من خطابه عليه السلام رجع إلى حال الإنسان السابق ذكره المفكر للبعث وأن همه إنما هو في تحصيل حطام الدنيا الفاني لا في تحصيل ثواب الآخرة إذ هو منكر لذلك وقرىء: تحبون وتذرون بتاء الخطاب لكفار قريش وكلا رد عليه وعلى أقوالهم أي ليس كما زعمتم وإنما أنتم قوم غلبت عليكم محبة شهوات الدنيا حبا تتركون معه الآخرة والنظر في أمرهم ولما وبخهم بحب العاجلة وترك الاهتمام بالآخرة تخلص إلى شىء من أحوال الآخرة فقال:
{ وجوه يومئذ ناضرة } وعبر بالوجه عن الجملة وقوله:
{ إلى ربها } جملة هي في موضع خبر ومسألة النظر ورؤية الله تعالى مذكورة في علم أصول الدين.
{ ووجوه يومئذ باسرة } يجوز في وجوه أنه مبتدأ خبره باسرة وتظن خبر بعد خبر وأن تكون باسرة صفة وتظن الخبر.
والفاقرة قال ابن المسيب: قاصمة الظهر وتظن بمعنى توقن.
{ كلا } ردع لهم عن إيثار الدنيا على الآخرة وتذكير بما يؤولون إليه من الموت الذي تنقطع العاجلة عنده وينتقل منها إلى الآجلة والضمير في بلغت عائد على النفس الدال عليها سياق الكلام ذكرهم تعالى بصعوبة الموت وهو أول مراحل الآخرة حين تبلغ الروح.
{ التراقي } والتراقي جمع ترقوة وهي عظام الصدر فلكل إنسان ترقوتان وهو موضع الحشرجة وهو إستفهام إستبعاد وإنكار أي قد بلغ مبلغا لا أحد يرتقيه كما تقول عند اليأس من الذي يقدر أن يرقى هذا المشرف على الموت واحتمل أن يكون القائل الملائكة أي من يرقي بروحه إلى السماء أملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب قاله ابن عباس:
{ وظن } أي المريض.
{ أنه } أي ما نزل به.
{ الفراق } أي فراق الدنيا التي هي محبوبته والظن هنا على بابه وقيل فراق الروح الجسد.
{ والتفت الساق بالساق } قال ابن عباس استعارة لشدة كرب الدنيا في آخر يوم منها وشدة كرب الآخرة في أول يوم منها لأنه في أول الحالين قد اختلطا به وجواب إذا محذوف تقديره وجد ما عمله في الدنيا من خير وشر.
{ إلى ربك يومئذ المساق } إلى موعد ربك المساق والمرجع والمصير والمساق مفعل من السوق فهو إسم مصدر إما إلى جنة وإما إلى نار.
{ فلا صدق ولا صلى } الجمهور أنها نزلت في أبي جهل وكادت أن تصرح به في قوله يتمطى فإنها كانت مشيته ومشية قومه بني مخزوم وكان يكثر منها فلا صدق بالرسول والقرآن ولا صلى نفى عنه الزكاة والصلاة وأثبت له التكذيب وحمل فلا صدق على نفي التصديق بالرسالة يقتضي أن يكون.
{ ولكن كذب } تكرارا ولزم أن يكون لكن استدرا كأبعد ولا صلى لا بعد فلا صدق لأنه كان يتساوى الحكم في فلا وفي كذب ولا يجوز ذلك إذ لا تقع لكن بين متوافقين.
{ وتولى } أعرض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذب بما جاء به.
{ ثم ذهب إلى أهله } أي إلى قومه.
{ يتمطى } يتبختر في مشيته روي
" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل يوما في البطحاء فقال له: إن الله يقول لك أولى لك فأولى "
فنزل القرآن على نحوها وتقدم الكلام على أولى في القتال وتكراره هنا مبالغة في التهديد والوعيد ولما ذكر حاله في الموت وما كان من حاله في الدنيا قرر له أحواله في بدايته ليتأملها فلا ينكر معها البعث من القبور.
{ يمنى } أي النطفة يمنيها الرجل.
{ فخلق } أي الله تعالى منه بشرا مركبا من أشياء مختلفة.
{ فسوى } أي فسواه شخصا مستقلا.
{ فجعل منه الزوجين } أي النوعين أو المزدوجين من البشر.
{ الذكر والأنثى * أليس ذلك } أي الخالق المسوي.
{ بقادر } وفي توقيف وتوبيخ لمنكر البعث بلى قادر.
{ على أن يحيي الموتى }.
[76 - سورة الانسان]
[76.1-31]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * هل أتى على الإنسان } الآية هذه السورة مكية وقيل غير ذلك ومناسبتها لما قبلها ظاهرة وهل حرف استفهام فإن دخل على الجملة الإسمية لم يمكن تأويله بقد لأن قدمن خواص الفعل وإن دخلت على الفعل فالأكثر أن تأتي للاستفهام المحض والإنسان هنا جنس بني آدم والحين الذي مر عليه أما حين عدمه أو حين كونه نطفة وانتقاله من رتبة إلى رتبة حتى حين إمكان خطابه فإنه في تلك المدة لا ذكر له وسمي إنسانا باعتبار ما صار إليه.
{ إنا خلقنا الإنسان } هو جنس بني آدم عليه السلام لم يخلق { من نطفة أمشاج } أخلاط وهو وصف للنطفة قال ابن عباس: هو ماء الرجل وماء المرأة اختلطا في الرحم فخلق الإنسان منهما.
{ نبتليه } نختبره في الدنيا بالتكليف وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين وهما كناية عن التمييز والفهم ولما جعله بهذه المثابة أخبر تعالى أنه هداه السبيل أي أرشده إلى الطريق وعرفه مثال طريق النجاة ومثال طريق الهلاك وانتصب شاكرا وكفورا على الحال من ضمير النصب في هديناه ولما ذكر الفريقين اتبعهما الوعد والوعيد.
{ من كأس } من لابتداء الغاية.
{ كان مزاجها كافورا } يمزج بالكافور ويختم بالمسك. وعينا بدل من كافورا، وعباد الله هنا هم المؤمنون.
{ يفجرونها } أي يثقبونها بعود قصب ونحوه حيث شاؤوا فهي تجري عند كل واحد منهم هكذا ورد في الأثر.
{ يوفون بالنذر } المراد بالنذر ظاهر اما هو المعهود في الشريعة أنه نذر.
{ على حبه } أي على حب الطعام إذ هو محبوب للفاقة والحاجة قاله ابن عباس.
{ مسكينا } وهو الطواف المنكسر في السؤال.
{ ويتيما } هو الصبي الذي لا أب له.
{ وأسيرا } الأسير معروف وهو من الكفار.
{ إنما نطعمكم } هو على إضمار القول.
{ جزآء } أي بالأفعال.
{ ولا شكورا } أي ثناء بالأقوال.
{ يوما عبوسا } نسبة العبوس إلى اليوم مجاز قال ابن عباس يعبس الكافر يومين حتى يسيل من بين عينيه عرق كالقطران.
{ قمطريرا } أي شديدا يقال يوم قمطرير أي شديد العبوسة واقمطر فهو مقمطر إذا كان صعبا شديدا.
{ ولقاهم نضرة } بدل عبوس الكافر.
{ وسرورا } فرحا بدل حزنه.
{ جنة وحريرا } أي بستانا فيه كل مأكل هنيء.
{ وحريرا } فيه ملبس بهي وناسب ذكر الحرير مع الجنة لأنهم أوثروا على صبرهم على الجوع والعرى.
{ لا يرون فيها } أي في الجنة.
{ شمسا } أي حر شمس ولا شدة برد أي لا شمس فيها فترى. فيؤذي حرها ولا زمهرير يرى فيؤذي بشدته أي هي معتدلة الهواء وفي الحديث
" هواء الجنة سجسج لا حر ولا قر ".
{ متكئين } منصوب على الحال والعامل فيه جزاهم ولا يرون حال ثانية، ودانية حال ثالثة وظلالها فاعل بدانية.
{ وذللت قطوفها } قال مجاهد: إن الإنسان قائما تناول الثمر دون كلفة وإن كان قاعدا أو مضطجعا فكذلك فهذا تذليلها لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك.
{ ويطاف عليهم بآنية من فضة } الآية لما وصف تعالى طعامهم وسكناهم وهيئة جلوسهم ذكر شرابهم وقدم ذكر الآنية التي يسقون منها والآنية جمع إناء. القارورة إناء رقيق صاف توضع فيه الأشربة وتكون من زجاج وقرىء قوارير بتنوينهما ويمنع صرفهما بصرف الأول ومنع الصرف في الثاني وكذلك في سلاسل والأصل ان لا يصرف لأنه جمع متناه وصرف للمناسبة إذ بعد سلاسل قوله أغلالا وقبل هذين وبعدهما مصروفات.
{ عينا } بدلا من زنجبيلا وسلسبيل اسمها والسلسبيل والسلسل والسلسال ما كان من الشراب غاية في السلاسة وتقدم شرح مخلدون وتشبيه الولدان باللؤلؤ المنثور في بياضهم وصفاء ألوانهم وانتشارهم في المساكن في خدمة أهل الجنة يجيئون ويذهبون وجواب إذا رأيت رأيت نعيما ومفعول فعل الشرط محذوف حذف اقتصارا والمعنى وإذا رأيت ببصرك هناك وثم ظرف العامل فيه رأيت وقيل التقدير وإذا رأيت ما ثم فحذف كما حذف في قوله:
لقد تقطع بينكم
[الأنعام: 94] أي ما بينكم.
وقرىء: خضر واستبرق برفعهما فخضر صفة لقوله ثياب واستبرق معطوف على ثياب وقرىء: بجرها فحضر صفة لسندس وسندس اسم جنس وصف بالجمع واستبرق معطوف على خضر على حذف مضاف تقديره وثياب استبرق والهمزة فيه للقطع والاستبرق تقدم شرحه.
{ أساور من فضة } وفي موضع آخر من ذهب أي يحلون منهما على التعاقب أو على الجمع بينهما كما يقع للنساء في الدنيا.
{ وسقاهم ربهم شرابا طهورا } طهورا صفة مبالغة في الطهارة وهي فعل لازم وطهارتها لكونها لم يؤمر باجتنابها وليست كخمر الدنيا التي هي في الشرع رجس.
{ كان لكم جزآء } أي لأعمالكم الصالحة.
{ وكان سعيكم مشكورا } أي مقبولا مثابا لقد شكر الله سعيا قليلا ولما ذكر أولا حال الإنسان وقسمه إلى العاصي والطائع وأمعن فيما وعده الله تعالى للطائع ذكر ما شرف به نبيه وحبيبه محمدا صلى الله عليه وسلم فقال:
{ إنا نحن } الآية وأمره بالصبر لحكمه وجاء التوكيد بنحن بعد التوكيد بأن المضمون الخبر ومدلول المخبر عنه وأكد الفعل بالمصدر.
{ ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا } قال قتادة نزلت في أبي جهل قال: ان رأيت محمدا يصلي لأطأن على عنقه فأنزل الله تعالى هذه الآية والنهي عن طاعة كل واحد أبلغ عن النهي عن طاعتهما لأنه يستلزم النهي عن أحدهما ولو قال لا تضرب زيدا وعمرا لجاز أن يكون نهيا عن ضربهما جميعا لا عن ضرب أحدهما والكفور وإن كان إثما فإن فيه مبالغة في الكفر ولما كان من يوصف بالكفور مباينا للموصوف بمجرد الإثم صلح التغاير فحسن العطف وقيل الإثم عتبة والكفور الوليد لأن عتبة كان ركابا للإثم متعاطيا لأنواع الفسوق وكان الوليد غاليا في الكفر شديد الشكيمة في العتو.
{ واذكر اسم ربك بكرة } يعني صلاة الصبح.
{ وأصيلا } الظهر والعصر.
{ ومن الليل } المغرب والعشاء.
{ إن هؤلاء } إشارة إلى الكفرة.
{ يحبون العاجلة } يؤثرونها على الآخرة.
{ ويذرون ورآءهم } أي أمامهم وهو ما يستقبلون من الزمان.
{ يوما ثقيلا } استعير الثقل لليوم لشدته وهوله من ثقل الجرم الذي يتعب به حامله.
{ وإذا شئنا } أي تبديل أمثالهم باهلاكهم.
{ بدلنآ أمثالهم } ممن يطيع.
{ إن هذه } أي السورة أو آيات القرآن أو جملة الشريعة ليس على جهة التحذير من اتخاذ غير سبيل الله.
{ وما تشآءون } مذهب أهل السنة أنه نفي لقدرتهم على الاختراع وإيجاد المعاني في أنفسهم.
{ يدخل من يشآء في رحمته } وهم المؤمنون.
{ والظالمين } منصوب بإضمار فعلى يفسره معنى ما بعده تقدير ويعذب الظالمين.
[77 - سورة المرسلات]
[77.1-50]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والمرسلات عرفا } الآية هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها ظاهرة جدا وهو أنه ذكر أنه تعالى يرحم من يشاء ويعذب الظالمين وهذا وعد منه صادق فأقسم على وقوعه في هذه فقال: إن ما توعدون لواقع ولما كان للمقسم به موصوفات قد حذفت وأقيمت صفاتها مقامها وقع الخلاف في تعيين تلك الموصوفات فقال ابن مسعود: والمرسلات الملائكة أرسلت بالعرف ضد النكر، فالعاصفات قال ابن مسعود الشديدات الهبوب والناشرات قال السدي: الملائكة تنشر صحف العباد بالأعمال. فالفارقات قال ابن مسعود: الملائكة تفرق بين الحق والباطل والحلال والحرام فالملقيات قال ابن عباس: الملائكة تلقي ما حملت من الوحي إلى الأنبياء عليهم السلام والذي يظهر أن المقسم به شيئان ولذلك جاء العطف بالواو في والناشرات والعطف بالواو يشعر بالتغاير بل هو موضوعه في لسان العرب وأما العطف بالفاء إذا كان بالصفات فيدل على أنها رجعة لموصوف واحد كقوله: { والعاديات... فالموريات... فالمغيرات } فإنها راجعة إلى العاديات وهي الخيل وإذا تقرر هذا فالظاهر أنه أقسم أولا بالرياح قال تعالى:
وهو الذي يرسل الرياح
[الأعراف: 57] فهي مرسلاته ويدل عليه عطف الصفة بالفاء كما قلنا وان العصف من صفات الريح في عدة مواضع من القرآن والقسم الثاني في ترق إلى أشرف من المقسم به الأول وهم الملائكة ويكون فالفارقات فالملقيات من صفاتهم كما قلنا في عطف الصفات وإلقاؤهم للذكر وهو ما أنزل الله تعالى يصح إسناده إليهم وما ذكر من اختلاف المفسرين في المراد بهذه الأوصاف ينبغي أن يحمل على التمثيل لا على التعيين وجواب القسم وما عطف عليه قوله: { إنما توعدون } وما موصولة بمعنى الذي.
{ فإذا النجوم طمست } أي أذهب نورها فاستوت مع جرم السماء .
{ وإذا السمآء فرجت } صار فيها فروج بانفطارها.
{ وإذا الجبال نسفت } فرقتها الرياح وذلك بعد التسيير وقيل كونها هباء.
{ وإذا الرسل أقتت } أي بلغت ميقاتها الذي كانت تنتظره وهو يوم القيامة.
{ لأي يوم أجلت } تعظيم لذلك اليوم وتعجيب مما يقع فيه من الهول والشدة والتأجيل من الأجل أي ليوم عظيم أخرت.
{ ليوم الفصل } أي بين الخلائق وهو بدل من لأي يوم.
{ ومآ أدراك ما يوم الفصل } مبالغة في عظم ذلك اليوم من الخلائق وجواب إذا محذوف لدلالة ما قبله عليه تقديره إذا كان كذا وكذا وقع ما توعدون.
{ ألم نهلك الأولين } الأمم التي تقدمت قريشا أجمعها ويكون الآخرين من تأخر من قريش وغيرهم وعلى التشريك يكون الأولين قوم نوح وإبراهيم عليهما السلام ومن كان معهم والآخرين قوم فرعون ومن تأخر وقرب من مدة الرسول صلى الله عليه وسلم والإهلاك هنا إهلاك عذاب ونكال ولذلك جاء كذلك نفعل بالمجرمين فأتى بالصفة المقتضية لإهلاك العذاب وهي الإجرام ولما ذكر أنباء الأولين والآخرين ذكر ووقف على أصل الخلق التي يقتضي النظر فيها تجويز البعث.
{ من مآء مهين } أي ضعيف وهو ماء الرجل والمرأة.
{ في قرار مكين } هو الرحم.
{ إلى قدر معلوم } أي عند الله تعالى وهو وقت الولادة وقرىء:
{ فقدرنا } بالتشديد والتخفيف قال أبو عبيدة: الكفات الوعاء أي تكفت الخلق أحياء على ظهرها وأمواتا في بطنها وانتصب أحياء وأمواتا بفعل يدل عليه ما قبله.
{ رواسي } جبالا ثابتات.
{ شامخات } مرتفعات.
{ وأسقيناكم } جعلناه سقيا لمزارعكم ومنافعكم.
{ انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون } يقال للمكذبين إنطلقوا أي من العذاب.
{ انطلقوا إلى ظل } أمر تكرارا أو بيانا للمنطلق إليه كأنهم لما أمروا امتثلوا فانطلقوا إذ لا يمكنهم التأخير إذ صاروا مضطرين إلى الإنطلاق.
{ ذي ثلاث شعب } قال عطاء: هو دخان جهنم روي أنه يعلو من ثلاثة مواضع يظن الكافر أنه مغن من النار فيهرعون إليه فيجدونه على أسوأ وصف جمع شرارة.
{ لا ظليل } نفي لمحاسن الظل.
{ ولا يغني } أي ولا مغن عنهم من حر اللهب شيئا.
{ إنها ترمي } الضمير في انها لجهنم.
{ بشرر } جمع شرارة.
{ كالقصر } كالدار العظيمة المشيدة وقرىء:
{ جملت } بضم الجيم وكسرها والجمالات قال ابن عباس هي قلوص السفن وهي حبالها العظام إذا جمعت والصفر تشبيه بلون الشرر وقرىء يوم بالرفع مبتدأ وخبر وبالنصب فيكون هذا إشارة إلى الرمي بالشرر ويوم منصوب باسم الإشارة.
{ فيعتذرون } عطف على ولا يؤذن داخل في حيز نفي الاذن أي فلا إذن فاعتذار ولم يجعل الاعتذار متسببا عن الاذن فينصب وقال ابن عطية: ولم ينصب في جواب النفي لتشابه رؤوس الآي والوجهان جائزان " انتهى ".
فنجعل سبب امتناع النصب هو تشابه رؤوس الآي وقال: والوجهان جائزان فيظهر من كلامه استواء الرفع والنصب وان معناهما واحد وليس كذلك لأن الرفع كما ذكرنا لا يكون متسببا بل صريح عطف والنصب يكون فيه متسببا فافترقا.
{ هذا يوم الفصل } خطاب للكفار والأولين قوم نوح عليه السلام وغيرهم من الكفار الذين تقدم زمانهم على زمان المخاطبين أي جمعناكم للفصل بين السعداء والأشقياء.
{ فإن كان لكم كيد } أي في هذا اليوم كما كان لكم في الدنيا ما تكيدون به دين الله وأولياءه.
{ فكيدون } اليوم وهذا تعجيز لهم وتوبيخ.
{ كلوا واشربوا } خطاب للمؤمنين في الآخرة على إضمار القول ويدل عليه بما كنتم تعملون.
{ كلوا وتمتعوا } خطاب للكفار في الدنيا.
{ قليلا } أي زمانا قليلا إذ قصارى أكلكم وتمتعكم الموت وهو خطاب تهديد لمن أجرم من قريش وغيرهم.
{ وإذا قيل لهم اركعوا } من قال انها مكية قال: هي في قريش ومن قال: هي في المنافقين وجاء في هذه السورة بعد كل جملة قوله: { ويل يومئذ للمكذبين } لأن كل جملة منها فيها إخبار الله تعالى عن أشياء وبأشياء من أحوال الآخرة وبتغريرات من أحوال الدنيا فناسب أن يذكر الوعيد عقيب كل جملة منها للمكذب بالويل في يوم الآخرة والضمير في بعده عائد على القرآن والمعنى أن تضمن من الإعجاز والبلاغة والإخبار بالمغيبات وغير ذلك مما احتوى عليه ما لم يتضمنه كتاب إلهي فإذا كانوا مكذبين به فبأي حديث بعده يصدقون به إذ لا يمكن تصديقهم بحديث بعد أن كذبوا بهذه الحديث الذي هو القرآن.
[78 - سورة النبإ]
[78.1-40]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * عم يتسآءلون } الآية هذه السورة مكية روي أنه صلى الله عليه وسلم لما بعث جعل المشركون يتساءلون بينهم فيقولون ما الذي أتى به ويتجادلون فيما بعث به فنزلت ومناسبتها لما قبلها ظاهرة لما قال: فبأي حديث أي بعد هذا الحديث وهو القرآن وكانوا يتجادلون فيه ويتساءلون عنه قال: عم يتساءلون والاستفهام عن هذا فيه تفخيم وتهويل وتقرير وتعجيب كما تقول أي رجل زيد وزيد ما زيد والضمير في يتساءلون لأهل مكة ثم أخبر تعالى أنهم يتساءلون عن النبأ العظيم وهو أمر رسول الله صلى الله وسلم وما جاء به من القرآن العظيم. وعم متعلق بيتساءلون ومن قرأ عمه بالهاء في الوصل أجري الوصل مجرى الوقف وعن النبأ متعلق بمحذوف أي يتساءلون عن النبأ.
{ كلا } ردع للمتسائلين وهذا تكرار توكيد في الوعيد وحذف ما يتعلق به العلم على سبيل التهويل أي سيعلمون ما يحل بهم ثم قررهم تعالى على النظر في آياته الباهرة وغرائب مخلوقاته التي أبدعها من العدم الصرف وان النظر في ذلك يفضي إلى الإيمان بما جاءت به الرسل من البعث والجزاء فقال:
{ ألم نجعل الأرض مهدا } فبدأ بما هم دائما يباشرونه والمهاد الفراش الموطأ.
{ والجبال أوتادا } أي ثبتنا الأرض بالجبال كما يثبت البيت بالأوتاد قال الأفوه الأودي: والبيت لا ينبني إلا له عمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد.
{ أزواجا } أي أنواعا في اللون والصورة واللسان.
{ سباتا } سكوتا وراحة سبت الرجل استراح وترك الشغل.
{ لباسا } أي تستترون به عن العيون فيما لا تحبون أن يظهر عليه.
{ وجعلنا النهار } قابل النوم بالنهار إذ فيه اليقظة.
{ معاشا } وقت عيش وهو الحياة تتصرفون فيه في حوائجكم.
{ سبعا } سماوات.
{ شدادا } محكمة الخلق قوية لا تتأثر بمرور الإعصار إلا إذا أراد الله تعالى.
{ سراجا } هو الشمس.
{ وهاجا } حارا مضطرم الإتقاد قال ابن عباس:
{ المعصرات } الرياح لأنها تعصر السحاب جعل الانزال منها لما كانت فيه سببا .
{ ثجاجا } منصبا بكثرة ومنه أفضل الحج العج والثج أي رفع الصوت بالتلبية وصب دماء الهدى.
{ حبا ونباتا } بدأ بالحب لأنه الذي يتقوت به كالحنطة والشعير وثنى بالنبات فيشمل كل ما ينبت من شجر وحشيش ودخل في الحب.
{ ألفافا } أي ملتفة.
{ إن يوم الفصل } هو يوم القيامة يفصل فيه بين الحق والباطل.
{ كان ميقاتا } أي في تقدير الله تعالى وحكمه حدا تؤقت به في الدنيا وتنتهي عنده.
{ يوم ينفخ } بدل من يوم الفصل.
{ فتأتون } من القبور إلى الموقف.
{ أفواجا } أمما كل أمة بامامها.
{ فكانت أبوابا } أي تنشق حتى يكون فيها فتوح كالأبواب في الجدارات.
{ فكانت سرابا } أي فكانت شيئا كلاشىء.
{ إن جهنم كانت مرصادا } الآية مرصادا مفعال من الرصد يرصد من حقت عليه كلمة العذاب.
{ مآبا } مرجعا لهم ويجوز أن يتعلق للطاغين بمرصادا ويجوز أن يتعلق بمآبا ولابثين حال من للطاغين وأحقابا نصب على الظرف وقال الزمخشري: وفيه وجه آخر وهو أن يكون من حقب عامنا إذا قل مطره وخيره وحقب فلان إذا أخطأ الرزق فهو حقب وجمعه أحقاب فينتصب حالا عنهم يعني لابثين فيها حقبين وقوله: { لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا } تفسير له والاستثناء منقطع يعني لا يذوقون فيها بردا وروحا ينفس عنهم حر النار ولا شرابا فيسكن من عطشهم ولكن يذوقون فيها حميما وغساقا " انتهى " وكان قد قدم قبل هذا الوجه ما نصه ويجوز أن يراد لابثين فيها أحقابا غير ذائقين بردا ولا شرابا إلا حميما وغساقا ثم يبدلون بعد الأعقاب غير الحميم والغساق من جنس آخر من العذاب " انتهى ".
وهذا الذي قاله هو قول للمتقدمين قال ابن عطية: وقال آخرون إنما المعنى لابثين فيها أحقابا غير ذائقين بردا ولا شرابا فبهذه الحال يلبثون ثم يبقى العذاب سرمدا وهم يشربون أشربة جهنم والذي يظهر أن قوله لا يذوقون كلام مستأنف وليس في موضع الحال وإلا حميما استثناء متصل من قوله: { ولا شرابا } وان أحقابا منصوب على الظرف حملا على المشهور من لغة العرب لا منصوب على الحال على تلك اللغة التي ليست مشهورة وقول من قال ان الموصوفين باللبث أحقابا هم عصاة المؤمنين أواخر الآي يدفعه وقول مقاتل ان ذلك منسوخ بقوله: { فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا } فاسد والظاهر أن البرد هو مس الهواء القرأي لا يمسهم منه ما يستلذ ويكثر شدة الحر.
{ وفاقا } أي لأعمالهم وكفرهم وصف الجزاء بالمصدر لوافق أو على حذف مضاف أي ذا وفاق.
{ لا يرجون } لا يخافون والمعنى هنا لا يصدقون بيوم الحساب وانتصب كل شىء على الاشتغال أي أحصينا كل شىء أحصيناه وكل شىء عام مخصوص أي وكل شىء مما يقع عليه الثواب والعقاب وهي جملة معترضة.
{ فذوقوا } مسبب عن كفرهم بالحساب وتكذيبهم بالآيات وفي خطابهم بذلك على طريق الإلتفات توبيخ لهم وشدة غضب عليهم ولما ذكر شيئا من حال أهل النار ذكر ما لأهل الجنة فقال:
{ إن للمتقين مفازا } أي موضع فوز وظفر حيث زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة وحدائق بدل من مفازا أو فوزا فيكون أبدل الجرم من المعنى على حذف أي فوز حدائق أي بها.
{ دهاقا } قال الجمهور: مترعة قال الزمخشري: جزاء مصدر مؤكد منصوب بمعنى قوله إن للمتقين مفازا كأنه قال: جازى المتقين بمفاز وعطاء نصب بجزاء نصب المفعول به أي جزاهم عطاء " انتهى ".
وهذا لا يجوز لأنه جعله مصدرا مؤكدا لمضمون الجملة التي هي ان للمتقين مفازا والمصدر المؤكد لا يعمل لأنه ليس ينحل بحرف مصدري والفعل ولا نعلم في ذلك خلافا.
وقرىء: رب بالرفع على إضمار هو وبالجر بدلا من ربك وقرىء: الرحمن بالجر والرفع والضمير في منه عائد عليه والمعنى أنهم لا يملكون من الله أن يخاطبوه في شىء من الثواب والعقاب وخطابا عام لأنه في سياق النفي والعامل في يوم ما لا يملكون واما لا يتكلمون والظاهر عود الضمير في لا يتكلمون على الروح والملائكة فلا يتكلمون إلا بإذن الله تعالى.
{ ذلك اليوم الحق } أي كيانه ووجوده.
{ فمن شآء } وعيد وتهديد والخطاب في أنذرناكم لمن حضر النبي صلى الله عليه وسلم واندرج فيه من يأتي بعدهم.
{ عذابا } هو عذاب الآخرة.
{ قريبا } لتحقق وقوعه وكل آت قريب.
{ يوم ينظر المرء } عام في المؤمن والكافر.
{ ما قدمت يداه } من خير أو شر لقيام الحجة له وعليه وقال أبو هريرة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما:
" ان الله تعالى يحضر البهائم يوم القيامة فيقتص من بعضها البعض ثم يقول لها بعد ذلك: كوني ترابا فيعود جميعها ترابا فإذا رأى الكافر ذلك تمنى مثله له ".
[79 - سورة النازعات]
[79.1-46]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والنازعات غرقا } الآية هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر فيما قبلها الإنذار بالعذاب يوم القيامة أقسم في هذه على البعث يوم القيامة ولما كانت الموصوفات المقسم بها محذوفات وأقيمت صفاتها مقامها وكان لهذه الصفات متعلقات مختلفة اختلفوا في المراد بها فقال علي وابن عباس: والنازعات الملائكة تنزع نفوس بني آدم وغرقا إغراقا وهي المبالغة في الفعل أو غرقا في جهنم يعني نفوس الكفار.
{ والناشطات } قال ابن عباس ومجاهد الملائكة تنشط النفوس عند الموت أي تحلها وتنشيط بأمر الله إلى حيث كان وقيل غير ذلك.
{ والسابحات } قال علي ومجاهد: الملائكة تتصرف في الآفاق بأمر الله تعالى تجيء وتذهب.
{ فالسابقات } قال ابن مسعود: أنفس المؤمنين تسبق إلى الملائكة الذين يقبضونها وقد عاينت السرور شوقا إلى لقاء الله تعالى.
{ فالمدبرات } قال معاذ هي الكواكب السبعة وأضاف التدبير إليها مجازا أي يظهر تقلب الأحوال عند قرانها وتربيعها وتسديسها وغير ذلك والذي يظهر أن ما عطف بالفاء هو من وصف المقسم به قبل الفاء وان المعطوف بالواو هو مغاير لما قبله كما قررناه في والمرسلات والمختار في جواب القسم أن يكون محذوفا وتقديره ليتحدثن لدلالة ما بعده عليه، والواجفة والرادفة قال ابن عباس: وغيره هما الصيحتان أي النفختان الأولى تميت كل شيء والثانية تحيي كل شىء واجفة مضطربة ووجيف القلب يكون من الفزع ويكون من الإشفاق.
{ أبصارها } أي أبصار أصحاب القلوب.
{ خاشعة } أي ذليلة يقولون حكاية حالهم في الدنيا والمعنى هم الذين يقولون والحافرة قال مجاهد: فاعلة بمعنى مفعولة وقيل على النسب أي ذات حفر والمراد القبور أي لمردودون أحياء في قبورنا وقرىء ناخرة ونخرة نحو طمع وطامع والناخرة المصوتة بالريح المجوفة والنخرة بمعناها.
{ قالوا تلك } أي الردة إلى الحافرة.
{ إذا } أي إن رددنا.
{ كرة خاسرة } أي قالوا ذلك لتكذيبهم بالبعث أي لو كان هذا حقا لكانت ردتنا خاسرة إذ هي إلى النار.
{ فإنما هي زجرة واحدة } لما تقدم يقولون أئنا لمردودون تضمن قولهم استبعاد النشأة الثانية واستصعاب أمرها فجاء قوله: { فإنما } مراعاة لما دل عليه استبعادهم فكأنه قيل ليس بصعب ما تقولون فإنما هي نفخة واحدة فإذا هم منشورون أحياء على وجه الأرض.
والساهرة قال ابن عباس أرض من فضة يخلقها الله تعالى:
{ هل أتاك } توقيف للرسول عليه السلام على جمع النفس لما يلقيه إليه وتقدم إنكارهم البعث وتمردهم على الرسول عليه السلام فقص عليه تعالى قصة موسى وتمرد فرعون على الله تعالى حتى ادعى الإلهية.
{ فقل هل لك إلى أن تزكى } تلطف في الاستدعاء لأن كل عاقل يجيب مثل هذا السؤال بنعم وتزكى تحلى بالفضائل وتطهر من الرذائل والزكاة هنا يندرج فيها الإسلام وتوحيد الله تعالى وقرىء: تزكى بالتشديد والتخفيف وتقول العرب هل لك في كذا وهل لك إلى كذا يحذفون المبتدأ الذي يتعلق به إلى أي هل لك رغبة أو حاجة إلى كذا أو سبيل إلى كذا.
{ فحشر } أي جمع السحرة وأرباب دولته.
{ فنادى } أي قام فيهم خطيبا.
{ فقال أنا ربكم الأعلى } قال ابن عطية نهاية في المنحرفة ونحوها باق في ملوك مصر وأتباعهم " انتهى ".
إنما قال ذلك ابن عطية لأن ملك مصر في زمانه كان إسماعيليا وهو مذهب يعتقدون فيه إلهية ملوكهم وكان أول من ملكها منهم المعز بن المنصور بن القائم بن المهدي عبيد الله تعالى ولاهم العاضد وطهر الله مصر من هذا المذهب الملعون بظهور الملك صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي رحمه الله وجزاه عن الإسلام خيرا وانتصب نكال على المصدر بمعنى التنكيل والناصب له قوله: فأخذه والآخرة والأولى وقال ابن عباس: الآخرة قولته ما علمت لكم من إله غيري والأولى قولته أنا ربكم الأعلى. وكان بين قولتيه أربعون سنة.
{ إن في ذلك } أي فيما جرى لفرعون وأخذه تلك الأخذة.
{ لعبرة } لعظة.
{ ءأنتم أشد خلقا أم السمآء } الخطاب ظاهره أنه عام والمقصود الكفار منكر والبعث وقفهم على قدرته تعالى أشد خلقا أي أصعب إنشاء أم السماء والمسؤول عن هذا يجيب ولا بد بقوله السماء لما يرى من ديمومة بقائها وعدم تأثرها بين تعالى كيفية خلقها.
{ رفع سمكها } أي جعل مقدار ذهابها في العلو مديرا رفيعا مسيرة خمسمائة عام والسمك الارتفاع الذي بين سطح السماء الذي يلينا وسطحها الذي يلي ما فوقها.
{ فسواها } أي جعلها ملساء مستوية ليس فيها مرتفع ولا منخفض أو تممها وأتقن إنشاءها بحيث أنها محكمة الصنعة.
{ وأغطش } أي أظلم.
{ ليلها وأخرج } أي أبرز ضوءها وشمسها والضحى هو نور سراجها.
{ والأرض بعد ذلك } أي بعد خلق السماء وما فعل فيها.
{ دحاها } أي بسطها فخلق الأرض ثم السماء ثم دحا الأرض.
{ أخرج منها } أي من الأرض وأضيق الماء والمرعى إلى الأرض لأنهما يظهران منها أخرج منها لم يدخل صرف العطف عليه لأن معنى دحيها بسطها ومهدها للسكنى ثم فسر التمهيد بما لا بد منه في تأتي سكناها من تسوية أكل وشرب وأمرهما وإمكان القرار عليها وقرىء متاعا بالنصب أي فعل ذلك تمتيعا لكم وبالرفع أي ذلك متاع.
{ فإذا جآءت الطآمة } قال ابن عباس: القيامة وقوله المأوى مذهب البصريين أن الضمير العائد على من محذوف تقديره المأوى له ومذهب الكوفيين أن الألف واللام نابت عن الضمير كأنه قال مأواه.
{ وأما من خاف مقام ربه } أي مقاما بين يدي ربه يوم القيامة للجزاء وفي إضافة المقام إلى الرب تفخيم للمقام وتهويل عظيم واقع من النفوس موقعا عظيما.
{ يسألونك } أي قريش وكانوا يلحون في البحث عن وقت الساعة إذ كان يتوعدهم بها ويكثر ذلك فنزلت هذه الآية.
{ أيان مرسها } متى إقامتها أي متى يقيمها الله ويثبتها ويكونها.
{ فيم أنت من ذكرها } هي ما الاستفهامية وحذفت الفها لدخول حرف الجر عليها كقوله عم وبم لمرجع كأنه قال في أي شىء أنت من تذكرها.
{ إلى ربك } أي إلى علم ربك.
{ منتههآ } أي انتهاؤها.
{ من يخشها } أي يخشى الساعة.
{ كأنهم } أي كان السؤال عنها.
{ لم يلبثوا } لم يقيموا في الحياة الدنيا.
{ إلا عشية أو ضحها } أعاد الأخير في قوله: { أو ضحها } على العشية لأنهما ظرفان للنهار والاضافة تكون بأدنى ملابسة.
[80 - سورة عبس]
[80.1-42]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * عبس وتولى } الآية، هذه السورة مكية وسبب نزولها مجيء ابن أم مكتوم عليه السلام ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر إنما أنت منذر من يخشاها ذكر في هذه الآية من ينفعه الإنذار ومن لم ينفعه الإنذار إن جاء مفعول من أجله أي لأن جاءه وتعلق بتولى على مختار البصريين في الأعمال وبعبس على مختار أهل الكوفة.
{ وما يدريك } الكاف للخطاب انتقل من ضمير الغيبة في عبس إلى ضمير الخطاب وقرىء يزكى بتشديد الزاي أصله يتزكى أدغم التاء في الزاي وقرأ عاصم فتنفعه بنصب العين وتقدم الكلام في نظيره من قوله فاطلع في قراءة حفص.
{ أما من استغنى } ظاهره من كان ذا ثروة وغنى وهم الذين كان الرسول عليه السلام يناجيهم في شأن الإسلام عتبة وربيعة أبو جهل وأبي أمية ويدعوهم إليه وقرىء: تصدى بتخفيف الصاد وقرىء:
{ وما عليك ألا يزكى } ما مبتدأة استفهامية تقديره أي شىء عليك وهذا تحقير لأمر الكافر وحفص على الإعراض عنه وتر الاهتمام به في كونه لا يفرح ولا يتطهر من دنس الكفر.
{ وأما من جآءك يسعى } أي يمشي بسرعة في أمر دينه وهو يخشى أي يخاف الله ويخاف الكفار وأذاهم العثار والسقوط لكونه أعمى وقد جاء بلا قائد يقوده وهي جملة حالية.
{ تلهى } تشتغل يقال لها عن الشيء يلهي إذا اشتغل عنه وقرأ البزي عنه أتلهى بإدغام تاء المضارعة في تاء تفعل وصلة الضمير بواو.
{ كلا إنها تذكرة } أي سور القرآن أو الآيات تذكرة عظمة لمن ينتفع بها.
{ فمن شآء ذكره } أي فمن شاء أن يذكر هذه الموعظة ذكره أتى بالضمير مذكر لأن التذكرة هي الذكر.
{ في صحف } قيل اللوح المحفوظ وقيل صحف الأنبياء المنزلة.
{ مكرمة } عند الله تعالى.
{ مرفوعة } في السماء أو مرفوعة المقدار.
{ بأيدي سفرة } قال ابن عباس هم الملائكة لأنهم كتبة عمل الإنسان.
{ قتل الإنسان }
" قيل نزلت في عتبة بن أبي لهب غاضب أباه فأسلم ثم استصلحه أبوه وأعطاه مالا وجهزه إلى الشام فبعث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كافر برب النجم إذا هوى فروى أن النبي صلى الله عليه سلم قال: " اللهم إبعث عليه كلبك حتى يأكله " فلما انتهى. إلى الغاضرة ذكره النبي صلى الله عليه وسلم فجعل لمن معه ألف دينار أن أصبح حيا فجعلوه في وسط الرفقة والمتاع حوله فأقبل الأسد إلى الرحال ووثب فإذا هو فوقه فمزقه فكان أبوه يندبه ويبكي عليه ويقول ما قال محمد شيئا قط إلا كان "
والآية وإن نزلت من مخصوص فالإنسان يراد به الكافر قتل دعاء عليه والقتل أعظم شدائد الدنيا.
{ مآ أكفره } الظاهر أنه تعجب من إفراط كفره والتعجب بالنسبة للمخلوقين إذ هو مستحيل في حق الله تعالى أي هو ممن يقال فيه ما أكفره.
{ من أي شيء خلقه } إستفهام على معنى التقرير على حقارة ما خلق منه ثم بين ذلك الشىء الذي خلق منه فقال:
{ من نطفة خلقه فقدره } أي فهيأه لما يصلح له.
{ ثم السبيل يسره } أي ثم يسر السبيل أي سهله وهذا من باب الاشتغال.
{ ثم أماته فأقبره } أي جعل له قبرا صيانة لجسده أن يأكله الطير والسباع.
{ ثم إذا شآء } أي أراد إنشاره أنشره والمعنى إذا بلغ الوقت الذي قد شاءه الله تعالى وهو يوم القيامة.
{ كلا } ردع للإنسان.
{ لما يقض } نفي من أول مدة تكليفية إلى حين إقباره.
{ مآ أمره } به الله تعالى فالضمير في يقض عائد على الإنسان.
{ فلينظر الإنسان } لما عدد تعالى نعمه في نفس الإنسان ذكر النعم فيما به قوام حياته وأمره بالنظر إلى طعامه وكيفيات الأحوال التي اعتورت على طعامه حتى صار بصدد أن يطعم والظاهر أن الطعام هو المطعوم وكيف يسره الله تعالى بهذه الوسائط المذكورة.
{ أنا صببنا المآء صبا } أسند تعالى الصب والشق إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب وصب الماء هو المطر.
{ حبا } يشمل كل ما يسمى حبا من حنطة وشعير وذرة وسلت وعلس وغير ذلك.
{ وقضبا } قيل العلف وقيل غير ذلك.
{ غلبا } قال ابن عباس غلاظا وعنه طوالا وقيل ملتفة مجتمعة.
{ وفاكهة } ما يأكله الناس من ثمر الشجر كالخوخ والتين.
{ وأبا } ما تأكله البهائم من العشب.
{ الصآخة } إسم من أسماء القيامة يصم نبأها الاذان تقول العرب صختهم الصاخة.
{ يوم يفر المرء } بدل من إذا وجواب إذا محذوف تقديره اشتغل كل إنسان بنفسه يدل عليه لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه وفراره من شدة هول يوم القيامة.
{ من أخيه } بدأ أولا بالأخ ثم بالأبوين ثم بالصاحبة ثم بالبنين.
{ يغنيه } أي عن النظر في شأن الآخر من الإغناء.
{ مسفرة } نيرة مضيئة من أسفر الصبح أضاء.
{ ترهقها } تغشاها.
{ قترة } أي غبار والأولي هو ما يغشاها من العبوس عنه الهم والثانية من غبار الأرض والقترة ما ارتفع إلى السماء.
[81 - سورة التكوير]
[81.1-29]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * إذا الشمس كورت } الآية، هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها في غاية الظهور كورت قال ابن عباس: أدخلت في العرش وانكدرت قال ابن عباس: تساقطت وسيرت أي في الجو تسيير السحاب. والعشار أنفس ما عند العرب من المال وتعطيلها تركها مسيبة مهملة حشرت أي جمعت من كل ناحية فقال ابن عباس: جمعت بالموت فلا تبعث ولا تحضر يوم القيامة وسجرت تقدم في الطور.
{ وإذا النفوس زوجت } أي المؤمن مع المؤمن والكافر مع الكافر كقوله:
وكنتم أزواجا ثلاثة
[الواقعة: 7]. والمؤودة البنت ووأدها دفنها في التراب كقوله:
أم يدسه في التراب
[النحل: 59].
{ سئلت } هذه السؤال لتوبيخ الفاعلين للوأد لأن سؤالها يؤدي إلى سؤال الفاعلين وجاءت قتلت بناء على أن الكلام إخبار عنها ولو حكى ما خوطبت به حين سئلت لقيل قتلت: والصحف المنشورة صحف الأعمال كانت مطوية على الأعمال فنشرت يوم القيامة ليقرأ كل إنسان كتابه، وكشط السماء طيها كطي السجل.
{ سعرت } أضرمت وأزلفت قربت.
{ علمت نفس مآ أحضرت } من خير تدخل به الجنة أو من شر تدخل به النار، والخنس قال الجمهور: الدراري السبعة الشمس والقمر وزحل وعطارد والمريخ والزهرة والمشتري تجري الخمس مع الشمس والقمر وترجع حتى تخفى مع ضوء الشمس فخنوسها رجوعها وكنوسها اختفاؤها تحت ضوء الشمس.
{ عسعس } أقسم بإقباله وإدباره وتنفسه كونه يجيء معه روح ونسيم فكأنه نفس له على المجاز.
{ إنه } أي القرآن.
{ لقول رسول كريم } الجمهور على أنه جبريل عليه السلام ووصفه بالكريم يقتضي نفي المذام كلها وإثبات صفة المدح اللائقة به.
{ ثم } إشارة إلى عند ذي العرش أنه مطاع في ملائكته المقربين يصدرون عن أمره.
{ أمين } مقبول القول يصدق فيما يقوله مؤتمن على ما يرسل به من وحي وامتثال أمر.
{ وما صاحبكم بمجنون } نفي عنه ما كانوا ينسبون إليه ويهتونه به من الجنون.
{ ولقد رآه } أي رأى الرسول جبريل والأفق الناحية من السماء القريبة.
{ بضنين } من قرأ بالظاء أي بمتهم ومن قرأ بالضاد معناه ببخيل.
{ وما هو بقول شيطان رجيم } أي الذي يتراءى له إنما هو ملك لا مثل الذي يتراءى للكهان.
{ فأين تذهبون } إستضلال لهم حيث نسبوه مرة إلى الجنون ومرة إلى الكهانة ومرة إلى غير ذلك مما هو بريء منه.
{ إن هو } أي القرآن.
{ إلا ذكر } تذكرة وعظة.
{ لمن شآء } بدل من للعالمين ثم عذق مشيئة العبد بمشيئة الله تعالى.
[82 - سورة الإنفطار]
[82.1-19]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * إذا السمآء انفطرت } هذه السورة مكية وتقدم الكلام على الإنفطار.
{ انتثرت } تساقط من مواضعها كالنظام.
و { فجرت } أي من امتلائها فتفجر من أعلاها وتفيض على ما يليها أو من أسفلها فيذهب الله تعالى ماءها حيث أراد.
و { بعثرت } قال ابن عباس: بحثت وتقدم الكلام على ما قدمت وأخرت في القيامة.
{ ما غرك } إستفهام على سبيل الإنكار عليه وغرك بمعنى أدخلك في الغرة وروي أنه عليه السلام قرأ ما غرك بربك الكريم فقال: جهله وقاله عمر وقرأ أنه كان ظلوما جهولا.
{ فسواك } جعلك سويا في أعضائك.
{ فعدلك } صيرك معتدلا متناسب الخلقة من غير تفاوت والظاهر أن قوله في أي صورة يتعلق بركبك أي وضعك في صورة اقتضتها مشيئته من حسن وطول وذكورة وشبه ببعض الأقارب أو مقابل ذلك وما زائدة وشاء في موضع لصورة ولم يعطف ركبك بالفاء كالذي قبله لأنه بيان لعدلك والتركيب التأليف وجمع شىء إلى شىء.
{ كلا } ردع وزجر لما دل عليه ما قبله من اغترارهم بالله تعالى.
{ بل تكذبون } خطاب للكفار.
{ وإن عليكم } إستئناف أخبار أن عليهم من يحفظ أعمالهم ويضبطها ويظهر أنها جملة حالية والواو واو الحال أي تكذبون بيوم الجزاء والكاتبون الحفظة يضبطون أعمالكم لأن تجازوا عليها وفي تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيم لأمر الجزاء.
{ يعلمون ما تفعلون } فيكتبون ما تعلق به الجزاء.
{ وما هم عنها } أي عن الجحيم أي لا يمكنهم الغيبة لما أخبر عن صليهم يوم القيامة أخبر بانتفاء غيبتهم عنها قبل الصلي أي يرون مقاعدهم من النار.
{ ومآ أدراك } تعظيم لهول ذلك اليوم.
{ يوم لا تملك } عام في كل نفس.
{ والأمر يومئذ لله } أي لا يدعي أحد منازعته.
[83 - سورة المطففين]
[83.1-36]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * ويل للمطففين } الآية هذه السورة مكية وقيل مدنية وسبب نزولها أنه كان بالمدينة رجل يكنى أبا جهينة له مكيالان يأخذ بالأوفى ويعطي بالأنقص فنزلت والمناسبة بين السورتين ظاهرة لما ذكر السعداء والأشقياء ويوم الجزاء من شأنه ذكر ما أعد لبعض العصاة وذكر بأخس ما يقع من المعصية وهي التطفيف الذي لا يكاد يجدي شيئا في تثمير المال وتنميته.
{ إذا اكتالوا على الناس } قبضوا منهم.
{ وإذا كالوهم أو وزنوهم } أقبضوهم وكال ووزن مما يتعدى بحرف الجر فتقول كلت لك ووزنت لك.
{ ألا يظن أولئك } توقيف على أمر القيامة وإنكارهم عليهم في فعلهم ذلك.
{ ليوم عظيم } وهو يوم القيامة ويوم ظرف العامل فيه مقدر أي يبعثون يوم يقوم الناس ويجوز أن يعمل فيه مبعوثون ويكون معنى ليوم أي لحساب يوم ووصفه برب العالمين دليل على عظم هذا الذنب وهو التطفيف.
{ كلا } ردع لما كانوا فيه من التطفيف وهذا القيام يختلف الناس فيه بحسب أحوالهم وفي هذا القيام الجام الناس بالعرق وأحوالهم فيه مختلفة كما ورد في الحديث والفجار الكفار.
وكتابهم هو الذي فيه تحصيل أعمالهم، وسجين قال الجمهور: فعيل من السجن كسكير أي في موضع ساجن فجاءت بناء مبالغة فسجين على هذا صفة لموضع المحذوف والظاهر أن سجينا هو كتاب ولذلك أبدل منه كتاب مرقوم.
{ ومآ أدراك ما سجين } أي ليس ذلك مما كنت تعلمه.
{ كتاب مرقوم } أي مثبت بالرقم لا يبلى ولا يمحى.
{ الذين يكذبون } صفة ذم.
{ كل معتد } متجاوز الحد.
{ أثيم } صفة مبالغة.
{ إذا تتلى } قيل نزلت في النضر بن الحرث.
{ بل ران } رأى وغشى كالصد إذ يغشى السيف وقال الشاعر:
وكم ران من ذنب على قلب فاجر
فتاب من الذنب الذي ران فانجلا
والضمير في قوله: انهم الكفار فمن قال بالرؤية وهو قول أهل السنة قال ان هؤلاء لا يرون ربهم فهم محجوبون عنه واحتج بهذه الآية مالك رحمه الله على مسألة الرؤية.
{ ثم يقال } أي يقول لهم خزنة النار.
{ هذا } أي العذاب وصلى النار أو هذا اليوم.
{ الذي كنتم به تكذبون }.
{ كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين } لما ذكر أمر كتاب الفجار عقبه بذكر كتاب ضدهم ليتبين الفرق.
{ عليون } جمع واحده على مشتق من العلو وهو للمبالغة وعليون الملائكة وإعراب لفي عليين وكتاب مرقوم كإعراب لفي سجين والمقربون هنا قال ابن عباس وغيرهم هم الملائكة أهل كل سماء ينظرون إلى ما أعد لهم من الكرامات وقرىء تعرف بتاء الخطاب للرسول عليه السلام والنضرة تقدم شرحها في قوله نضرة وسرورا.
{ مختوم } الظاهر أن الرحيق ختم عليه تهمما وتنظفا بالرائحة المسكية كما فسره ما بعده.
{ ختامه } أي خلطه ومزاجه قاله ابن عباس:
{ من تسنيم } قال ابن عباس هو أشرف شراب الجنة وهو إسم مذكر لماء عين في الجنة.
{ يشرب بها } أي يشربها أو منها روي أن عليا كرم الله وجهه وجماعة من المؤمنين مروا بجمع من كفار مكة فضحكوا منهم واستخفوا بهم عبثا فنزلت ان الذين أجرموا قبل أن يصل علي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكفار مكة هؤلاء قيل أبو جهل والوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والمؤمنون عمار وصهيب وخباب وبلال وغيرهم من فقراء المؤمنين والضمير في رأوهم على المجرمين إذ إذا رأوا المؤمنين ينسبونهم إلى الضلال.
{ ومآ أرسلوا } على المؤمنين حفظة يحفظون عليهم أحوالهم ولما تقدم ذكر يوم القيامة قيل:
{ فاليوم الذين آمنوا } واليوم منصوب بيضحكون أي إن كان قد ضحك الكفار من المؤمنين في وقت ما في الدنيا فالمؤمنون يضحكون منهم في الآخرة وينظرون حال من الضمير في يضحكون أي يضحكون ناظرين إليهم وإلى ما هم فيه من الهوان والعذاب بعد العزة والنعيم.
وقال كعب: لأهل الجنة كوى ينظرون منها إلى أهل النار.
{ هل ثوب } أي هل جوزي يقال ثوبه وأثابه إذا جاز قال الشاعر:
سأجزيك أو يجزيك عني مثوب
وحسبك أن يثنى عليك وتحمد
وهو استفهام بمعنى التقرير للمؤمنين أي هل جوزوا بأفعالهم السيئة أي قد جوزوا بها وفي قوله: ما كانوا حذف تقديره جزاء أو عقاب ما كانوا يفعلون.
[84 - سورة الإنشقاق]
[84.1-25]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * إذا السمآء انشقت } هذه السورة مكية واتصالها بما قبلها ظاهر قال ابن عباس انشقت لنزول الملائكة.
{ وأذنت } أي استمعت وسمعت أمره ونهيه.
{ وحقت } قال ابن عباس وحق لها أن تسمع وهذا الفعل مبني للمفعول والفاعل هو الله تعالى أي وحق الله عليها الاستماع.
{ وإذا الأرض مدت } سويت وقيل بسطت ومنه الحديث
" تمد الأرض مد الأديم العكاطي حتى لا يكون لبشر من الناس إلا موضع قدميه وذلك أن الأديم إذا مد زال ما فيه من تثن وانبسط فتصير الأرض إذ ذاك كما قال تعالى: { قاعا صفصفا * لا ترى فيها عوجا ولا أمتا } ".
{ وألقت ما فيها } ما في بطنها من الأموات.
{ وتخلت } ممن على ظهرها من الأحياء.
{ وأذنت لربها } أي في إلقاء ما في بطنها وتخليها والإنسان يراد به الجنس والتقسيم بعد ذلك يدل عليه وقال مقاتل: المراد به الأسود بن عبد الأسد بن هلال المخزومي جادل أخاه أبو سلمة أي والذي خلقك لتركبن الطبقة ولتوافين العقبة فقال الأسود: فأين الأرض والسماء وما حال الناس في ذلك اليوم.
{ إنك كادح } أي جاهد في عملك من خير وشر.
{ إلى ربك } أي طول حياتك إلى لقاء ربك وهو أجل موتك.
{ فملاقيه } أي ملاقي كدحك أي جزاءه من ثواب وعقاب.
{ حسابا يسيرا } قالت عائشة رضي الله عنها تقدر ذنوبه ثم يتجاوز عنه.
{ وينقلب إلى أهله } أي إلى من أعد الله له في الجنة من نساء المؤمنين ومن الحور العين أو آل عشيرته المؤمنين ليخبرهم بخلاصه وسلامته.
{ ورآء ظهره } روي أن شماله يدخل من صدره حتى يخرج من وراء ظهره فيأخذ كتابه بها والظاهر من الآية أن الإنسان انقسم إلى هذين القسمين.
{ يدعوا ثبورا } يقول واثبوراه الهلاك وهو جامع لأنواع المكاره.
{ إنه كان في أهله مسرورا } أي في الدنيا فرحا بطرا مترفا لا يعرف الله تعالى ولا يفكر عاقبة الأمور.
{ إنه ظن أن لن يحور } أي لن يرجع إلى الله وهذا تكذيب بالبعث.
{ بلى } إيجاب بعد النفي أي بلى ليحورن.
{ إن ربه كان به بصيرا } أي لا يخفى عليه أفعالا فلا بد من حوره ومجازاته.
{ فلا أقسم بالشفق } أقسم تعالى بمخلوقاته تشريفا لها وتعريضا للاعتبار بها والشفق بياض يتلو الحمرة.
{ وما وسق } أي وما ضم من الحيوان وغيره إذ جميع ذلك ينضم ويسكن في ظلمة الليل وقال ابن عباس: وما غطى عليه من الظلمة وقرىء لتركبن بضم الباء معناه أيها الناس وبفتحها أيها الإنسان.
{ طبقا عن طبق } أي حالا بعد حال.
{ فما لهم لا يؤمنون } تعجب من انتفاء إيمانهم وقد وضحت الدلائل.
و { لا يسجدون } لا يتواضعون ويخضعون.
{ بما يوعون } بما يجمعون من الكفر والتكذيب كأنهم يجعلونه في أوعية يقال وعيت العلم وأوعيت المتاع.
{ إلا الذين ءامنوا } أي سبق لهم في علمه أنهم يؤمنون.
{ غير ممنون } غير مقطوع وقال ابن عباس: ممنون معدد عليهم محسوب منقص بالمن.
[85 - سورة البروج]
[85.1-22]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والسمآء ذات البروج } هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها أنه لما ذكر أنه أعلم بما يجمعون للرسول والمؤمنين من المكر والخداع وإذاية من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والصلب والحرق بإحماء الصخر بالشمس ووضع أجساد من يريدون أن يفتنوه عليه ذكر أن هذه الشنشنة كانت فيمن تقدم من الأمم يعذبون بالنار وأن أولئك الذين أعرضوا على النار كان لهم من الثبات في الإيمان ما منعهم أن يرجعوا عن دينهم أو يحرفوا وان أولئك الذين عذبوا عباد الله ملعونون فكذلك الذين عذبوا المؤمنين من كفار قريش ملعونون فهذه السورة عظة لقريش وتثبيت لمن يعذب. ذات البروج قال ابن عباس هي المنازل التي عرفتها العرب وهي اثنا عشر على ما قسمته وهي التي تقطعها الشمس في سنة والقمر في ثمانية وعشرين يوما.
{ واليوم الموعود } هي يوم القيامة أي الموعود به.
{ وشاهد ومشهود } هذان منكران وينبغي حملهما على العموم كقوله:
علمت نفس مآ أحضرت
[التكوير: 14] وجواب القسم قيل محذوف وقيل انبعثن ونحوه وقيل وهذا الذي نختاره وحذفت اللام أي لقتل وحسن حذفها كما حسن في قوله:
والشمس وضحاها
[الشمس: 1] ثم قال:
قد أفلح من زكاها
[الشمس: 9] أي لقد أفلح ويكون الجواب دليلا على لعنة من فعل ذلك وطرده من رحمة الله تعالى وتنبيها لكفار قريش الذين يؤذون المؤمنين ليفتنوهم عن دينهم على أنهم ملعونون بجامع ما اشتركا فيه من تعذيب المؤمنين وذكر المفسرون في أصحاب الأخدود أقوالا كثيرة ومضمنها أن ناسا من الكفار خدوا أخدودا في الأرض وسجروه نارا وعرضوا المؤمنين عليها فمن رجع عن دينه تركوه ومن أصر على الإيمان أحرقوه وأصحاب الأخدود هم المحرقون للمؤمنين وقال الربيع وأبو العالية بعث الله على المؤمنين ريحا فقبضت أرواحهم وخرجت النار فأحرقت الكافرين الذين كانوا على حافتي الأخدود.
{ والله على كل شيء شهيد } وعيد لهم أي أنه علم ما فعلوا فهو مجازيهم والظاهر أن الذين فتنوا عام في كل من ابتلى المؤمنين والمؤمنات بتعذيب وأذى وأن لهم عذابين عذابا لكفرهم وعذابا لفتنتهم.
{ إن الذين آمنوا } المراد به العموم لا المطروحون في النار والبطش الأخذ بقوة.
{ يبدىء ويعيد } قال ابن عباس: عام في جميع الأشياء أي كل ما يبدأ وكل ما يعاد ولما ذكر شدة بطشه ذكر كونه غفورا ساتر الذنوب عباده ودودا لطيفا بهم محسنا إليهم وهاتان صفتا فعل والودود مبالغة في الواد.
{ ذو العرش } خصص العرش بإضافته إلى نفسه تشريفا للعرش وتنبيها على أنه أعظم المخلوقات وقرىء المجيد بالضم صفة لذو وبالخفض صفة للعرش.
{ هل أتاك حديث الجنود } تقرير لحال الكفرة أي قد أتاك حديثهم وما جرى لهم مع أنبيائهم وما حل بهم من العقوبات بسبب تكذيبهم فكذلك يحل بقريش من العذاب مثل ما حل بهم والجنود الجموع المعدة للقتال.
{ فرعون وثمود } بدل من الجنود وكأنه على حذف مضاف أي جنود فرعون.
{ بل الذين كفروا } أي من قومك.
{ في تكذيب } حسدا لك لم يعتبروا بما جرى لمن قبلهم حين كذبوا أنبياءهم.
{ والله من ورآئهم محيط } أي هو قادر على أن ينزل بهم ما أنزل بفرعون وثمود ومن كان محاطا به فهو محصور في غاية لا يستطيع دفعا والمعنى دنو هلاكهم ولما ذكر أنهم في تكذيب وأن التكذيب عمهم حتى صار كالوعاء وكانوا قد كذبوه صلى الله عليه وسلم وكذبوا ما جاء به وهو القرآن أخبر تعالى عن الذي جاء به وكذبوا به فقالوا:
{ بل هو قرآن مجيد } أي بل الذي كذبوا به قرآن مجيد ومجادته شرفه على سائر الكتب بإعجازه في نظمه وصحة معانيه وإخباره بالمغيبات وغير ذلك من محاسنه وقرىء مجيد صفة لقرآن ومحفوظ صفة للوح كما قال تعالى:
وإنا له لحافظون
[الحجر: 9] أي هو محفوظ في القلوب لا يلحقه خطأ ولا تبديل.
[86 - سورة الطارق]
[86.1-17]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والسمآء والطارق } الآية، هذه السورة مكية ولما ذكر فيها قبلها تكذيب الكفار للقرآن نبه هنا على حقارة الإنسان ثم استطرد منه إلى أن هذا القرآن قول فصل جد لا هزل فيه ولا باطل يأتيه ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإمهال أولئك الكفرة المكذبين وهي آية موادعة منسوخة بآية السيف والسماء هي السماء المعروفة والطارق هو الآتي ليلا أي يظهر بالليل أتى بالطارق مقسما به وهي صفة مشتركة بين النجم الثاقب وغيره ثم فسره بقوله النجم الثاقب إظهارا لفخامة ما أقسم به، والنجم الثاقب قال ابن عباس: هو الجدي.
{ إن كل نفس } إن هي المخففة من الثقيلة وما زائدة وحافظ خبر كل وعليها متعلق به وعند الكوفيين ان نافية واللام بمعنى الا وما زائدة وكل حافظ مبتدأ وخبر والظاهر عموم كل نفس ولما ذكر أن كل نفس عليها حافظ أتبع ذلك بوصية الإنسان بالنظر في أول نشأته الأولى حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه فيعمل لذلك ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبته ومم خلق استفهام ومن متعلقة بخلق والجملة في موضع نصب بفلينظر وهي معلقة وجواب الاستفهام وما بعده وهو خلق من ماء دافق وهو مني الرجل والمرأة لما امتزجا في الرحم واتحدا عبر عنهما وهو مفرد ودافق بمعنى مدفوق.
{ يوم تبلى السرآئر } أي تحتبر والسرائر ما أكنته القلوب من العقائد والنيات وما أخفته الجوارح من الأعمال والظاهر عموم السرائر ولما كان الامتناع في الدنيا إما بقوة في الإنسان وإما بناصر خارج عن نفسه نفي عنه تعالى ما يمتنع به وأتى بمن الدالة على العموم في نفي القوة والناصر.
{ والسمآء } أقسم ثانيا بالسماء وهي المظلة.
{ ذات الرجع } قال ابن عباس: الرجع السحاب فيه المطر والصدع ما تنصدع عنه الأرض من النبات والضمير في أنه عائد على الكلام الذي أخبر فيه يبعث الإنسان يوم القيامة وابتلاء سرائره أي أن ذلك لقول جزم مطابق للواقع لا هزل فيه فيكون الضمير قد عاد على مذكور وهو الكلام الذي تضمن الإخبار عن البعث وليس من الإخبار التي فيها هزل بل هو جد كله.
{ إنهم } أي الكافرين.
{ يكيدون } أي من ابطال أمر الله تعالى وإطفاء نور الحق.
{ وأكيد } أي أجازيهم على كيدهم فسمي الجزاء كيدا على سبيل المقابلة نحو قوله:
ومكروا ومكر الله
[آل عمران: 54] ثم أمره عليه السلام فقال:
{ فمهل الكافرين } أي انتظر عقوبتهم ولا تستعجل ذلك ثم أكد أمره فقال:
{ أمهلهم رويدا } مصدر أرود يرود مصغر تصغير الترقيم أذ أصله أروادا وقيل هو تصغير رود من قول الشاعر:
يكاد لا تلثم البطحاء وطأته
كأنه ثمل يمشي على رود
أي على مهل ويستعمل مصدرا نحو رويد عمرو بالإضافة أي إمهال عمرو ونعتا لمصدر نحو ساروا سيرا رويدا وحالا نحو سار القوم رويدا ويكون إسم فعل بمعنى أمهل قال الشاعر:
رويدا بني شيبان بعض وعيدكم
تلاقوا غدا خيلي على سفوان
سفوان موضع ونصب بعض برويد إسم الفعل فسيحيط بهم العذاب كما كان في يوم بدر وغيره لما كرر الأمر توكيدا خالف بين اللفظين على أن الأول مطلق والثاني: مقيد بقوله: رويدا.
[87 - سورة الأعلى]
[87.1-19]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * سبح اسم ربك الأعلى } هذه السورة مكية ولما ذكر فيما قبلها فلينظر الإنسان مم خلق كان قائلا قال من خلقه على هذا المثال فقال: { سبح اسم ربك }. وأيضا لما قال: { الأعلى } إنه لقول فصل قيل سنقرئك أي ذلك القول الفصل وسبح نزه عن النقائص اسم ربك الظاهر أن التنزيه يقع على الإسم أي نزهه عن أن يسمى به صنم أو وثن فيقال له: رب أو إله وإذا كان قد أمر بتنزيه اللفظ ان يطلق على غيره فهو أبلغ وتنزيه الذات أحرى وقيل الإسم هنا بمعنى المسمى قيل
" لما نزل سبح إسم ربك الأعلى قال صلى الله عليه وسلم اجعلوها في سجودكم "
وكانوا يقولون في الركوع اللهم لك ركعت وفي السجود اللهم لك سجدت والأظهران الأعلى صفة لربك.
{ الذي } صفة أيضا.
{ خلق } أي كل شىء.
{ فسوى } أي لم يأت متفاوتا بل متناسبا على إحكام وإتقان دلالة على أنه صادر عن عالم حكيم وهذا عام لجميع الهدايات والمرعى النبات الذي يرعى والغثاء ما يقذف به السيل على جانب الوادي من الحشيش والنبات وغير ذلك ، والأحوى السواد المائل إلى الخضرة ولما تغايرت الصفات وتباينت أتى لكل صلة بموصول وعطف على كل صلة ما يترتب عليها فجاء الموصول الأول الذي خلق فسوى والثاني: الذي قدر فهدى والثالث: الذي أخرج المرعى فجعله غثاء فأحوى حال من المدعي وآخر لكونه فاصلة.
{ سنقرئك فلا تنسى } هذا في معنى لا تحرك به لسانك وعده الله أن يقرئه وأخبره أنه لا ينسى نسيانا لا يكون بعده ذكر إن كان يحرك شفتيه مبادرة خوفا من أن ينسى وهذه آية للرسول صلى الله عليه وسلم في أنه أمي وحفظ الله عليه الوحي وأمنه من نسيانه.
{ إلا ما شآء الله } الظاهر أنه استثناء مقصود معناه مما قضى الله تعالى بنسخه وأن ترتفع تلاوته وحكمه.
و { إنه يعلم الجهر } أي جهرك بالقرآن.
{ وما يخفى } أي في نفسك من خوف التفلت وقد كفاك ذلك بكونه تكفل بإقرائك إياه وإخباره أنك لا تنسى إلا ما استثناه وتضمن ذلك إحاطة علمه تعالى باشياء.
{ ونيسرك } معطوف على سنقرئك وما بينهما من الجملة المؤكدة اعتراض أي نوفقك للطريقة التي هي أيسر وأسهل يعني في حفظ الوحي ولما أخبر أنه يقرئه وييسر أمره بالتذكير إذ ثمرة الاقراء هي انتفاعه في ذاته وانتفاع من أرسل إليهم والظاهر أن الأمر بالتذكير مشروط بنفع الذكرى وهذا الشرط إنما جيء به توبيخا لقريش أي إن نفعت الذكرى في هؤلاء الطغاة العتاة ومعناه استبعاد انتفاعهم بالذكرى.
{ سيذكر من يخشى } أي يتذكر بذاكر من يخاف فإن الخوف حامل على النظر في الذي ينجيه مما يخافه.
{ ويتجنبها } أي الذكرى.
{ الأشقى } أي البالغ في الشقاوة لأن الكافر بالرسول عليه السلام هو أشقى الكفار كما أن المؤمن به وبما جاء به هو أفضل ممن آمن برسول قبله ثم وصف بما يؤول إليه حاله في الآخرة وهو صلى النار ووصفها بالكبرى وهي نار الآخرة والصغرى نار الدنيا.
{ ثم لا يموت فيها } فيستريح.
{ ولا يحيا } حياة هنيئة وجيء بثم المقتضية للتراخي إيذانا بتفاوت مراتب الشدة لأن التردد بين الحياة والموت أشد وأفظع من الصلي.
{ قد أفلح } أي فاز وظفر بالبغية.
{ من تزكى } من تطهر من الشرك وقال لا إله إلا الله قاله ابن عباس.
{ وذكر اسم ربه } أي وحده لم يقرنه بشىء من الأنداد.
{ فصلى } أي الصلاة المفروضة وما أمكنه من النوافل والمعنى أنه لما تذكر من آمن بالله ثم أخبر تعالى عنه أنه أفلح أي من أتى بهاتين العبادتين الصلاة والزكاة وقرىء: يؤثرون بياء الغيبة وبالتاء خطابا للكفار.
{ والآخرة خير وأبقى } لفي الصحف الأولى لم ينسخ إفلاح من تزكى والآخرة خير وأبقى في شرع من الشرائع فهو في الأولى وفي آخر الشرائع وتقدم الكلام على صحف إبراهيم وموسى في سورة النجم.
[88 - سورة الغاشية]
[88.1-26]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * هل أتاك حديث الغاشية } هذه السورة مكية ولما ذكر فيما قبلها فذكر وذكر النار والآخرة قال: { هل أتاك حديث الغاشية } والغاشية الداهية التي تغشى الناس بشدائدها يعني القيامة وهذا استفهام رقيق فائدته تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر.
{ خاشعة } ذليلة.
{ عاملة ناصبة } عاملة في النار ناصبة تعبة فيها لأنها تكبرت عن العمل في الدنيا وعملها في النار جرها السلاسل والأغلال وخوضها في النار كما تخوض الإبل في الوحل.
{ حامية } مستعرة.
{ آنية } قد انتهى حرها كقوله: { حميم } آن والضريع في اللغة يبيس العرفج إذا تحطم. قال ابن عباس: شجر من النار، وقال الزمخشري:
{ لا يسمن } مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع يعني أن طعامهم من شىء ليس من طعام الإنس إنما هو شوك والشوك مما ترعاه الإبل وتتولع به وهذا النوع منه تنفر عنه ولا تقربه به ومنفعتا الغذاء منتفيتان عنه وهما إماطة الجوع وإفادة القوة والسمن في البدن " انتهى ".
فقوله: مرفوع المحل أو مجروره على وصف طعام أو ضريع أما جره على وصفه لضريع فيصح لأنه مثبت منفي عنه السمن والإغناء من الجوع وأما رفعه على وصفه لطعام فلا يصح لأن الطعام منفي ولا يسمن منفي فلا يصح تركيبه إذ يصير التقدير ليس لهم طعام لا يسمن ولا يغني من جوع إلا من ضريع فيصير المعنى أن لهم طعاما يسمن ويغني من جوع من غير الضريع كما تقول ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو فمعناه أن له مالا ينتفع به من غير مال عمرو.
{ وجوه يومئذ ناعمة } صح الابتداء في هذا وفي قوله: { وجوه يومئذ خاشعة } بالنكرة لوجود مسوغ ذلك وهو التفصيل ناعمة لحسنها ونظارتها أو متنعمة.
{ لسعيها راضية } أي لعملها في الدنيا بالطاعة راضية إذ كان ذلك العمل جزاؤه الجنة.
{ في جنة عالية } أي مكانا ومكانة وقرىء.
{ لا تسمع } بتاء التأنيث مبنيا للمفعول.
{ لاغية } رفع أي كلمة لاغية وقرىء لا تسمع بتاء الخطاب عموما لاغية بالنصب.
{ فيها عين جارية } عين اسم جنس أي عيون أو مخصوصة ذكرت تشريفا لها.
{ فيها سرر مرفوعة } من رفعة المنزلة أو رفعة المكان ليرى ما حوله ربه في الملك والنعيم.
{ وأكواب موضوعة } أي باشربتها معدة لا تحتاج إلى مالىء.
{ ونمارق مصفوفة } أي وسائد صف بعضها إلى جنب بعض للاستناد إليها والإتكاء عليها.
{ وزرابي مبثوثة } أي متفرقة هنا وهنا في المجالس والزرابي بسط عراض فاخرة ولما ذكر تعالى أمر القيامة وانقسام أهلها إلى أشقياء وسعداء وعلم أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك إلا بواسطة الصانع الحكيم أتبع ذلك بذكره هذه الدلائل وذكر ما العرب مشاهدوه وملابسوه دائما فقال:
{ أفلا ينظرون إلى الإبل } وهي الجمال فإنه اجتمع فيها ما تفرق من المنافع في غيرها من أكل لحمها وشرب لبنها والحمل عليها والتنقل عليها إلى البلاد الشاسعة وعيشها بأي نبات أكلته وصبرها على العطش حتى أن فيها ما يرد الماء لعشر وطواعيتها لمن يقود ونهضتها وهي باركة بالأحمال الثقال وكثرة حنينها وتأثرها بالصوت الحسن على غلظ أكبادها ولا شىء من الحيوان جمع هذه الخصال غيرها ولكونها أفضل ما عند العرب حتى جعلوها دية القتل وناسب التنبيه بالنظر إليها إلى ما حوت من عجائب الصفات ما ذكراها معها من السماء والجبال والأرض لانتظام هذه الأسماء في نظر العرب في أوديتهم وبواديهم وليدل على أن الاستدلال على إثبات الصانع ليس مختصا بنوع دون نوع بل هو عام في كل موجوداته كما قيل:
وفي كل شىء له آية
تدل على أنه واحد
وكيف خلقت جملة استفهامية في موضع البدل وينظرون تعدى إلى الإبل بواسطة إلى أي إلى كيف خلقت على سبيل التعليق وقد تبدل الجملة وفيها الاستفهام من الاسم الذي قبلها كقولهم عرفت زيدا أبو من هو على الأصح الأقوال على أن العرب قد أدخلت إلى على كيف فحكي أنهم قالوا: أنظر إلى كيف يصنع وكيف سؤال عن حال والعامل فيها خلقت وإذا علق الفعل عن ما فيه الاستفهام لم يبق الاستفهام على حقيقته.
{ سطحت } أي صارت كالمهاد للمتقلب عليها ولما حضهم على النظر أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بتذكيرهم فقال:
{ فذكر } ولا يهمنك كونهم لا ينظرون.
{ إنمآ أنت مذكر } كقوله إن عليك إلا البلاغ.
{ لست عليهم بمصيطر } أي بمسلط كقوله:
ومآ أنت عليهم بجبار
[ق: 45].
{ إلا من تولى وكفر } إلا حرف استثناء فقيل متصل أي فأنت مسيطر عليه وقيل منقطع من فذكر أي فذكر إلا من انقطع طعمك من إيمانه وتولى فاستحق العذاب الأكبر وما بينهما اعتراض وقرأ ابن عباس: إلا حرف تنبيه واستفتاح ومن مبتدأ والعذاب الأكبر هو عذاب جهنم.
{ إن إلينآ إيابهم } أي إلى جزائنا رجوعهم وأتى بلفظ علينا دليلا على تحتم الحساب منه تعالى عليهم.
[89 - سورة الفجر]
[89.1-30]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والفجر * وليال عشر } الآية هذه السورة مكية في قول الجمهور ولما ذكر فيما قبلها: وجوه يومئذ خاشعة ووجوه يومئذ ناعمة اتبعه بذكر الطوائف المكذبين وأشار إلى الصنف الآخر الذين وجوههم ناعمة بقوله: { يأيتها النفس المطمئنة } والظاهر أن الفجر هو المشهور أقسم به كما أقسم بالصبح ويراد به الجنس لا فجر يوم مخصوص، عشر العشر الأواخر من رمضان قاله ابن عباس للحديث المتفق على صحته قالت عائشة:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليلة وأيقظه أهله ".
{ والشفع والوتر } روي أبو أيوب عنه عليه السلام
" الشفع يوم عرفة ويوم الأضحى والوتر ليلة النحر ".
{ واليل إذا يسر } قسم بجنس الليل ويسري يذهب وينقرض كقوله:
والليل إذ أدبر
[المدثر: 33]. وجواب القسم محذوف.
قال الزمخشري: وهو ليعذبن يدل عليه قوله: ألم تر إلى قوله: فصب عليهم ربك سوط عذاب وقال ابن الأنباري: الجواب قوله:
{ إن ربك لبالمرصاد } والذي يظهر أن الجواب محذوف يدل عليه ما قبله من آخر سورة الغاشية وهو قوله:
إن إلينآ إيابهم * ثم إن علينا حسابهم
[الغاشية: 2526] وتقديره لإيابهم إلينا وحسابهم علينا.
{ هل في ذلك قسم } تقرير على عظم هذه الأقسام أي هل فيها مقنع في القسم لذي عقل فيزدجر ويفكر في آيات الله تعالى ثم وقف المخاطب على مصارع الأمم الكافرة الماضية مقصودا بذلك توعد قريش ونصب المثل لها وعادهم قوم هود وإرم تسمية لهم باسم جدهم ولمن بعدهم عاد الأخيرة.
وذكر المفسرون إن ذات العماد مدينة ابتناها شداد بن عاد لما سمع بذكر الجنة على أوصاف بعيد أو مستحيل عادة أن يبني في الأرض مثلها وان الله تعالى بعث عليه وعلى أهله صيحة قبل أن يدخلوها فهلكوا جميعا والضمير في مثلها عائد على المدينة التي هي ذات العماد.
{ في البلاد } أي في بلاد الدنيا.
{ جابوا الصخر } خرقوه ونحتوه فاتخذوا في الحجارة منها بيوتا قيل أول من نحت الجبال والصخور والرخام ثمود وبنوا الفا وسبعمائة مدينة كلها بالحجارة.
{ بالواد } وادي القرى وقيل جابوا واديهم وجلبوا ماءهم في صخر وشقوه فعل ذوي القوة والآمال.
{ ذى الأوتاد } تقدم الكلام عليه في " ص ".
{ الذين } صفة لعاد وثمود وفرعون أو منصوب على الذم أو مرفوع على إضمارهم.
{ فصب عليهم } أنهم هنا وأوضح في الحاقة وفي غيرها يقال صب عليهم السوط وغشاهم وقنعهم واستعمل الصب في السوط لاقتضائه السرعة في النزول على المضروب وخص السوط فاستعير للعذاب لأنه يقتضي من التكرار والترداد ما لا يقتضيه السيف ولا غيره والمرصد المكان الذي يترتب فيه الرصد مفعال من رصده وهذا مثل لإرصاده العصاة بالعقاب وأنهم لا يفوتونه.
{ فأما الإنسان } ذكر تعالى ما كانت قريش تقوله وتستدل به على إكرام الله تعالى وإهانته لعبده فيرون المكرم من عنده الثروة والإنسان إسم جنس ويوجد هذا في كثير من أهل الإسلام وفيقول في الموضعين خبر مبتدأ محذوف تقديره فهو يقول وهو جواب إذ وقرىء أكرمني وأهانني بياء الإضافة وحذفها وقرىء تكرمون بالتاء والياء والمعاطيف عليه وقرىء تحاضون.
{ التراث } التاء بدل من الواو وكانوا لا يورثون النساء ولا صغار الأولاد فيأكلون نصيبهم ويقولون لا يأخذ الميراث إلا من يقاتل ويحمي الحوزة واللم الجمع واللف والجم الكثير.
{ كلا } ردع لهم عن ذلك وإنكار لفعلهم ثم أتى بالوعيد وذكر تحسرهم على ما فرطوا في دار الدنيا.
{ دكا دكا } حال كقولهم بابا بابا أي مكروا عليها الدك.
{ وجآء ربك } هو تمثيل لظهور آيات اقتداره وتبين آثار قدرته وسلطانه.
{ والملك } إسم جنس يشمل الملائكة روي أنه الملائكة كل سماء يكونون صفا حول الأرض في يوم القيامة.
{ صفا صفا } تنزل الملائكة كل سماء فيصطفون صفا بعد صف محدقين بالإنس والجن.
{ وجيء يومئذ بجهنم } كقوله:
وبرزت الجحيم لمن يرى
[النازعات: 36].
{ يومئذ يتذكر } يومئذ بدل من إذ أي يتذكر ما فرط فيه.
{ وأنى له الذكرى } أي منفعة الذكرى لأنه وقت لا ينفع فيه التذكر لو اتعظ في الدنيا نفعه ذلك في الآخرة.
{ لحياتي } الهنية وهي حياة الآخرة وقرىء: لا يعذب ولا يوثق مبنيين للفاعل فأحد فاعل والمعنى أنه لا يعذب أحد مثل عذاب الله في الآخرة للكافر وقرىء: بفتح الثاء والذال فأحذ مفعول لم يسم فاعله. ولما ذكر تعالى شيئا من أحوال من يعذب ذكر شيئا من أحوال المؤمن فقال:
{ يأيتها النفس } وهذا النداء الظاهر أنه على لسان ملك مخبرا عن الله تعالى.
{ المطمئنة } الآمنة التي لم يلحقها خوف ولا حزن.
{ ارجعي } أي ردي.
{ إلى ربك } أي إلى موعد ربك.
{ راضية } بما أوتيته.
{ مرضية } عند الله تعالى.
{ فادخلي في } جملة.
{ عبادي } الصالحين.
{ وادخلي جنتي } معهم.
[90 - سورة البلد]
[90.1-20]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * لا أقسم بهذا البلد } الآية هذه السورة مكية في قول الجمهور ولما ذكر تعالى ابتلاء الإنسان بحالة التنعيم وحالة التقدير وذكر من صفاته الذميمة ما ذكر وما آل إليه حاله وحال المؤمن اتبعه بنوع من ابتلائه ومن حاله السيىء وما آل إليه في الآخرة والإشارة بهذا البلد إلى مكة.
{ وأنت حل } جمل حالية تفيد تعظيم المقسم به أي وأنت مقيم به وهذا هو الظاهر.
{ ووالد وما ولد } لا يراد به معين بل ينطلق على كل ولد وولد وقيل على آدم وجميع ولده.
{ لقد خلقنا } هذه الجملة المقسم عليها والجمهور على أن الإنسان إسم جنس وفي كبد يكابد مشاق الدنيا والآخرة ومشاقه لا تكاد تنحصر من أول قطع سرته إلى ان يستقر في قراره أما إلى جنة فنزول عنه المشقات جميعها وإما إلى نار فتتضاعف مشقاته وشدائده والظاهر أن الضمير في أيحسب عائد على الإنسان أي هو لشدة شكيمته وعزته وقوته يحسب أنه لا يقاومه أحد ولا يقدر عليه لاستعصامه بعدده وعدده.
{ يقول } على سبيل الفخر.
{ أهلكت مالا لبدا } أي كثيرا في المكارم وما يحصل به الثناء.
{ أيحسب } أن أعماله تخفى وأنه لا يراه أحد ولا يطلع عليه في إنفاقه ومقصده مما يبتغيه مما ليس لوجه الله تعالى منه شىء بل عليه حفظة يكتبون ما يصدر عنه من قول وعمل في حياته ويحصونه إلى يوم الجزاء ثم عدد تعالى نعمه على الإنسان فقال:
{ ألم نجعل له عينين } أي يبصر بهما.
{ ولسانا } يفصح عما في باطنه ولم يتعرض للسمع لأنه يلزم من الكلام السمع.
{ وشفتين } يطبقهما على فيه ويستعين بهما على الأكل والشرب والنفخ وغير ذلك.
{ وهديناه النجدين } قال ابن عباس: الخير والشر وقيل الثديان.
{ فلا اقتحم العقبة } أي لم يشكر تلك النعم السابغة ولا نافية والمعنى لم يقتحم والعقبة استعارة لهذا العمل الشاق على النفس من حيث هو بذل مال تشبيه بعقبة الجبل وهو ما صعب منه وكان صعودا فإنه يلحقه مشقة في سلوكها واقتحمها دخلها بسرعة وضغط وشدة والقحمة الشدة والسنة الشديدة يقال قحم في الأمر قحوما رمى نفسه فيه من غير رؤية وقرىء فك فعلا ماضيا رقبة نصبا أو أطعم فعلا ماضيا وقرىء فك مرفوعا خبر مبتدأ محذوف أي هي فك رقبة ورقبة مجرور بالإضافة أو إطعام مصدر منون معطوف على فك وفيه دليل على اعمال المصدر منونا إذ نصب به يتيما ونظيره قول الشاعر:
يضرب بالسيوف رؤوس قوم
أزلناها مهن عن المقيل
ووصف يوم بذي مسغبة على الإتساع والمسغبة المجاعة.
{ ذا مقربة } لتجمع صدقة وصلة.
{ أو مسكينا } أو للتنويع.
{ ذا متربة } هم المطروحون على ظهر الطريق قعودا على التراث لا بيوت لهم.
{ ثم كان من الذين آمنوا } هذا معطوف على قوله: { فلا اقتحم العقبة } ودخلت ثم لتراخي الإيمان في الرتبة والفضيلة لا للتراخي في الزمان لأنه لا بد أن يسبق تلك الأعمال الحسنة الإيمان إذ هو شرط في صحة وقوعها من الطائع.
{ وتواصوا بالصبر } أي أوصى بعضهم بعضا بالصبر على الإيمان والطاعات وعن المعاصي.
{ وتواصوا بالمرحمة } أي بالتعاطف والتراحم أو بما يؤدي إلى رحمة الله تعالى. والميمنة والمشأمة تقدم الكلام عليهما في الواقعة.
{ مؤصدة } قرىء بالهمز وبالواو ويقال أوصدت الباب وأصدته إذا أغلقته وأطبقته قال الشاعر:
تحن إلى أجبال مكة ناقتي
ومن دونها أبواب صنعاء مؤصدة
[91 - سورة الشمس]
[91.1-15]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والشمس وضحاها } هذه السورة مكية ولما تقدم القسم ببعض المواضع الشريفة وما بعدها أقسم هنا بشىء من العالم العلوي والعالم السفلي وبما هو له التفكر في ذلك وهو النفس وكان آخر ما قبلها مختتما بشىء من أحوال الكفار في الآخرة فاختتم آخر هذه بشىء من أحوالهم في الدنيا وفي ذلك مآلهم في الآخرة إلى النار وفي الدنيا إلى الهلاك المستأصل وتقدم الكلام على ضحى في طه.
{ والقمر إذا تلاها } معناه إذا تبعها دأبا في كل وقت لأنه يستضيء منها فهو يتلوها لذلك.
{ والنهار إذا جلاها } الظاهر أن مفعول جلاها وهو الضمير عائد على الشمس لأنه عند انبساط النهار تنجلي الشمس في ذلك الوقت تمام الإنجلاء.
{ والليل إذا يغشاها } أي يغشى الشمس فبدخوله تغيب وتظلم الآفاق ونسبة ذلك إلى الليل مجاز وأتى بالمضارع في يغشاها لأنه الذي يترتب فيه ولد أتى بالماضي كالذي قبله وبعده كان يكون التركيب إذا غشيها فتفوت الفاصلة وهي مقصودة وما في وما بناها وما طحاها وما سواها بمعنى الذي وقيل مصدرية قال الزمخشري: فإن قلت لم نكرت النفس قلت فيه وجهان أحدهما أن يريد نفسا خاصة من النفوس وهي نفس آدم عليه السلام كأنه قال: وواحدة من النفوس " انتهى ".
وهذا فيه بعد للأوصاف المذكورة بعدها فلا تكون إلا للجنس ألا ترى إلى قوله: { قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها } كيف يقتضي التغاير في المزكي والمدسى.
{ فألهمها } قال ابن عباس: عرفها.
{ قد أفلح } جواب للقسم وحذفت اللام لطول المعاطيف على القسم وزكاها طهرها ونماها بالعمل الصالح ودساها أخفاها وحقرها بالمعاصي والتدسية الإخفاء أصله دسس فأبدل من ثالث المضاعف حروف علة والظاهر أن فاعل زكى ودسى ضمير يعود على من ولما ذكر تعالى: خيبة من دس نفسه ذكر فرقة فعلت ذلك وهي ثمود صالح فعلت ذلك ليعتبرهم لأنهم أقرب البلاد إلى الحجاز.
{ بطغواهآ } الباء سببية أي كذبت ثمود نبيها بسبب طغيانها قال ابن عباس: الطغوى هنا العذاب كذبوا به حتى نزل بهم وهو من الطغيان قلبت فيه الواو ياء والياء واو فصلا بين الاسم وبين الصفة.
{ إذ انبعث } أي خرج لعقر الناقة بنشاط وحرص والناصب لاد كذبت، وأشقاها هو قدار بن سالف والضمير في لهم عائد على ثمود رسول الله هو صالح عليه السلام وقرىء:
{ ناقة الله } نصب التاء وهو منصوب على التحذير مما يجب إضمار عامله لأنه قد عطف عليه قصار حكمه بالعطف حكم المكرر كقولك: الأسد الأسد أي احذروا ناقة الله أي عقرها وعاقبة أمرها أو ذروا عقرها.
{ وسقياها } فلا تمنعوها من السقيا.
{ فعقروها } أسند العقر للجميع لكونهم راضين به ومتمالئين عليه.
{ فدمدم عليهم } يقال دمدم عليه القبر أطبقه وقال مؤرج الدمدمة الهلاك باستئصال وفي الصحاح دمدمت الشىء ألصقته بالأرض وطحطحته.
{ فسواها } أي سوى القبيلة في الهلاك عاد عليها بالتأنيث كما عاد في بطغواها وقيل سوى الدمدمة أي سواها بينهم فلم يفلت منهم صغيرا ولا كبيرا والضمير في يخاف عائد على أشقاها أي انبعث بعقرها وهو لا يخاف عقبى فعله لكفره وطغيانه والعقبي خاتمة الشىء وما يجيء من الأمور بعقبه.
[92 - سورة الليل]
[92.1-21]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والليل إذا يغشى } هذه السورة مكية ولما ذكر فيما قبلها:
قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها
[الشمس: 910] ذكر هنا من الأوصاف ما يحصل به الفلاح وما يحصل به الخيبة ومفعول يغشى محذوف فاحتمل أن يكون النهار كقوله:
يغشي اليل النهار
[الأعراف: 54] وأن تكون الشمس كقوله:
والليل إذا يغشاها
[الشمس: 4] وتجلى انكشف وظهرا إما بزوال ظلمة الليل وإما بنور الشمس أقسم بالليل الذي فيه كل حيوان يأوي إلى مأواه وبالنهار الذي ينتشر فيه.
{ وما خلق } ما مصدرية أو بمعنى الذي والظاهر عموم الذكر والأنثى.
{ إن سعيكم } أي مساعيكم.
{ لشتى } أي متفرقة ثم فصل هذا السعي فقال:
{ فأما من أعطى } الآية روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه كان يعتق ضعفة العبيد الذين أسلموا وينفق في رضا رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله وكان الكفار بضده أعطى أي حق الله واتقى الله.
{ وصدق بالحسنى } هي الجنة.
{ فسنيسره لليسرى } أي نهيئه للحالة التي هي أيسر عليه وأهون وذلك في الدنيا والآخرة وهذا من التجنيس المغاير فسنيسره فعل واليسرى إسم وقابل أعطى ببخل وأتقى باستغنى لأنه زهد فيما عند الله تعالى بقوله: { واستغنى } للعسرى وهي الحالة السيئة في الدنيا والآخرة وجاء نيسره للعسرى على سبيل المقابلة لقوله: نيسره لليسرى والعسرى لا تيسير فيها وقد يراد بالتيسير التهيئة وذلك يكون في اليسرى والعسرى.
{ وما يغني } يجوز أن تكون ما نافية واستفهامية أي وأي شىء يغني عنه ماله.
{ إذا تردى } تفعل من الردى أي أهلك.
{ إن علينا للهدى } التعريف بالسبل ومنحهم الإدراك كما قال وعلى الله قصد السبيل.
{ وإن لنا للآخرة والأولى } أي ثواب الدارين.
{ الأشقى } جعل مختصا بالصلى كأن النار لم تخلق إلا له، والأتقى جعل مختصا بالنجاة كأن الجنة لم تخلق إلا له.
{ يتزكى } أي يكون عند الله زاكيا.
{ من نعمة } من زائدة ونعمة مبتدأ، وتجزي صفة لنعمة ونعمة خبر لأحد.
{ إلا ابتغآء } مفعول له لأن معنى ما قبله ما آتى المال إلا ابتغاء وجه ربه.
{ ولسوف يرضى } وعد له بالثواب.
[93 - سورة الضحى]
[93.1-11]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والضحى * والليل إذا سجى } هذه السورة مكية وسبب نزولها قال ابن عباس: أبطأ الوحي مرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة حتى شق ذلك عليه فقالت أم جميل امرأة أبي لهب يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك فنزلت الآية ولما ذكر فيما قبلها وسيجنبها الأتقى وكان سيد الأتقياء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر هنا نعمه تعالى عليه.
{ ما ودعك } أي تركك وقرأ أبو بحرية وابن أبي عبلة بالتخفيف ما ودعك.
{ وما قلى } ما أبغضك واللغة الشهيرة في مضارع قلى يقلي.
{ ولسوف يعطيك ربك فترضى } ذلك في الآخرة وقال ابن عباس: رضاه ان لا يدخل أحد من أهل بيته النار واللام في الآخرة لام الابتداء أكدت مضمون الجملة ولما وعده هذا الموعد الجليل ذكره بنعمه تعالى عليه في حال نشأته.
{ ألم يجدك } يعلمك.
{ يتيما } توفي أبوه عليه السلام وهو جنين قد أتت عليه ستة أشهر وماتت أمه عليه السلام وهو ابن ثماني سنين فكفله عمه أبو طالب وأحسن تربيته وقيل لجعفر الصادق لم يتم النبي صلى الله عليه وسلم من أبويه فقال: لئلا يكون عليه حق لمخلوق.
{ ووجدك ضآلا } قال ابن عباس: هو ضلاله وهو صغير في شعاب مكة رده الله تعالى إلى جده عبد المطلب ورأيت في النوم أني أفكر في هذه الجملة فأقول على الفور ووجدك أي وجد رهطك أي وجد رهطك ضالا فهداه بك.
{ ووجدك عآئلا } أي فقيرا عال الرجل أفتقر وأعال كثر عياله.
{ فأغنى } رضاك بما أعطاك من الرزق ولما عدد عليه هذه النعم الثلاث وصاه بثلاث كأنها مقابلة لها.
{ فلا تقهر } أي فلا تحقره.
{ وأما السآئل } ظاهره المستعطي.
{ فلا تنهر } أي فلا تزجره لكن أعطه أو رده ردا جميلا.
{ وأما بنعمة ربك فحدث } معناه بث القرآن وبلغ ما أرسلت به والظاهر أنه لما تقدم ذكر الامتنان عليه بذكر الثلاثة أمره بثلاثة فذكر اليتيم أولا وهي البداية ثم ثانيا السائل وهو العائل وكان أشرف ما امتن به عليه هي الهداية فترقى من هذين إلى الأشرف وجعله مقطع السورة وإنما وسط ذلك عند ذكر الثلاثة لأنه بعد اليتم هو زمان التكليف وهو صلى الله عليه وسلم معصوم من اقتراف ما لا يرضي الله تعالى في القول والفعل والعقيدة فكان ذكر الامتنان بذلك على حسب الواقع بعد اليتم وحالة التكليف وفي الآخرة ترقى إلى الأشرف فهما مقصدان في الخطاب.
[94 - سورة الشرح]
[94.1-8]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * ألم نشرح لك صدرك } هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها ظاهرة وشرح الصدر تنويره بالحكمة وتوسيعه لتلقي ما يوحى إليه وقيل إشارة إلى شق جبريل عليه السلام صدره في وقت صغره وقرأ أبو جعفر المنصور: ألم نشرح بنصب الحاء وخرجه ابن عطية على أنه ألم نشرحن فأبدل من النون ألفا ثم حذفها تخفيفا وأحسن من هذا التخريج ما ذكره اللحياني في نوادره عن بعض العرب أنهم يجزمون بلن وينصبون بلم.
{ ووضعنا عنك وزرك } كناية عن عصمته من الذنوب وتطهره من الادناس عبر عن ذلك بالحط على سبيل المبالغة في انتفاء ذلك كما تقول العرب رفعت عنك مشقة الزيارة لمن لم تصدر منه زيادة على طريق المبالغة في انتفاء زيارته وقال أهل اللغة: أنقض الحمل ظهر الناقة إذا سمعت له صريرا في شدة الجمل.
{ ورفعنا لك ذكرك } هو أن قرنه بذكره تعالى في كلمة الشهادة والآذان والإقامة والتشهد والخطب وفي غير موضع في القرآن وفي تسميته رسول الله صلى الله عليه وسلم ونبي الله ذكره في كتب الأولين والأخذ على الأنبياء وأمتهم أن يؤمنوا به صلى الله عليه وسلم وقال حسان رضي الله عنه فيه عليه السلام.
أغر عليه للنبوة خاتم
من الله مشهور يلوح ويشهد
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه
إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وتعديد هذه النعم عليه صلى الله عليه وسلم يقتضي أنه تعالى كما أحسن إليك بهذه المراتب فإنه يحسن إليك بظفرك بأعدائك وينصرك عليهم وكان الكفار يعيرون المؤمنين بالفقر فذكره بهذه النعم وقوي رجاءه بقوله:
{ فإن مع العسر يسرا } أي أن مع الضيق فرجا ثم كرر ذلك مبالغة في حصول اليسر.
{ فإذا فرغت } أي من فرضك.
{ فانصب } من التنقل عبادة لربك * وفارغب أمر من رغب ثلاثيا أي أصرف وجه الرغبات إليه تعالى لا إلى سواه.
[95 - سورة التين]
[95.1-8]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والتين والزيتون } هذه السورة مكية ولما ذكر فيما قبلها من كمله الله تعالى خلقا وفضله على سائر العالم ثم ذكر هنا حالة من يعاد به وأنه يرده إلى أسفل السافلين في الدنيا والآخرة وأقسم تعالى بما أقسم به أنه خلقه مهيأ لقبول الحق نقله كما أراد إلى الحالة السافلة والظاهر أن التين والزيتون هما المشهور إذ بهذا الإسم وفي الحديث
" مدح التين وأنه يقطع البواسير وينفع من النقرس "
وقال تعالى:
وشجرة تخرج من طور سينآء تنبت
[المؤمنون: 20] أقسم تعالى بمنابتهما فالتين ينبت كثيرا بدمشق والزيتون بايليا فأقسم بالأرضين وقيل هما جبلان بالشام على أحدهما دمشق على الآخر بيت المقدس ومعنى سينين ذو الشجر.
{ وهذا البلد الأمين } هو مكة وأمين للمبالغة أي آمن من فيه ومن دخله وما فيهن من طير وحيوان ومعنى القسم بهذه الأشياء إبانة شرفها وما ظهر فيها من الخير بسكنى الأنبياء والصالحين. فمنبت التين والزيتون مهاجر إبراهيم عليه السلام ومولد عيسى ومنشأ والطور المكان الذي نودي عليه موسى عليه السلام ومكة مكان مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومبعثه ومكان البيت الذي هو هدى للعالمين.
{ في أحسن تقويم } في أحسن صورته وحواسه والإنسان هنا إسم جنس وأحسن صفة لمحذوف تقديره في تقويم أحسن تقويم.
{ ثم رددناه } أي بالهرم وذهول العقل وتغلب الكبر حتى يصير لا يعلم شيئا أما المؤمن فمرفوع عنه القلم والاستثناء على هذا منقطع وليس المعنى أن كل إنسان يعتريه هذا بل في الجنس من يعتريه ذلك ومن لا يعتريه وفي الحديث وفيه أيضا
" أن المؤمن إذا رد إلى أرذل العمر كتب له خير ما كان يعمل في قوته "
وذلك أجر غير ممنون أي غير مرفوع ولا مقطوع أو محسوب يمن به عليهم والخاب في فما يكذبك للإنسان الكافر أي ما الذي يجعلك مكذبا بالدين تجعل لله تعالى أندادا وتزعم أن لا بعث بعد هذه الدلائل.
{ أليس الله بأحكم الحاكمين } وعيد للكفار وإخبار بعدله تعالى.
[96 - سورة العلق]
[96.1-19]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * اقرأ باسم ربك الذي خلق } هذه السورة مكية وصدرها أول ما نزل من القرآن وذلك في غار حراء على ما ثبت في صحيح البخاري وغيره ولما ذكر تعالى فيما قبلها خلق الإنسان في أحسن تقويم ثم ذكر ما عرض له بعد ذلك هنا منبها على شىء من أطواره وذكر نعمته عليه ثم ذكر طغيانه بعد ذلك وما يؤول إليه حاله في الآخرة والظاهر تعلق الباء بإقرأ وتكون للاستعانة ومفعول إقرأ محذوف تقديره ما يوحى إليك والإنسان هنا إسم جنس والعلق جمع علقة فلذلك جاء من علق وإنما ذكر من خلق من علق لأنهم مقرون به ثم جاء الأمر ثانيا تأنيسا له كأنه قيل إمض لما أمرت به وربك ليس كهذه الأرباب بل هو الأكرم الذي لم يلحقه نقص والأكرم صفة تدل على المبالغة في الكرم.
{ الذى علم بالقلم } دليل على كمال كرمه بأنه علم عباده ما لم يعلموا ونقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم ونبه على فضل علم الكتابة لما فيه من المنافع العظيمة التي لا يحيط بها إلا هو ولا دونت العلوم ولا قيدت الحكم إلا بالكتابة ولولا هي لما استقامت أمور الدنيا والدين.
{ كلا إن الإنسان ليطغى } نزلت بعد مدة في أبي جهل ناصب رسول الله صلى الله عليه وسلم العداوة ونهاه عن الصلاة في المسجد. وروي أنه قال: لئن رأيت محمدا يسجد عند الكعبة لأطأن على عنقه فروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد عليه وانتهره وتوعده فقال أبو جهل: أيتوعدني محمد والله ما بالوادي أعظم ناديا مني أي مجلسا وقيل انه هم أن يمنعه من الصلاة فكف عنه كلا ردع لمن كفر بنعم الله عليه بطغيانه وإن لم يتقدم ذكره لدلالة الكلام عليه إن الإنسان ليطغى أي ليتجاوز الحد.
{ أن رآه استغنى } الفاعل ضمير الإنسان وضمير المفعول عائد عليه أيضا ورأى هنا من رؤية القلب ويجوز أن يتحد فيها الضميران متصلين فتقول رأيتني صديقك وكذلك فقد وعدم بخلاف غيرها فلا يجوز زيد ضربه وهما ضميرا زيد.
{ إن إلى ربك الرجعى } أي الرجوع مصدر على وزن فعلى الألف فيه للتأنيث وفيه وعيد للطاغي المستغني وتحقير لما هو فيه حيث مآله إلى البعث ويحاسب والجزاء على طغيانه.
{ أرأيت الذي ينهى * عبدا إذا صلى } تقدم أنه أبو جهل والخطاب في أرأيت الظاهر أنه للرسول عليه السلام وكذا أرأيت الثاني والثالث والتناسق في الضمائر الذي يقتضيه النظم وقيل أرأيت الثاني خطاب للكافر التفت إلى الكافر فقال أرأيت يا كافر إن كانت صلاته هدى ودعاء إلى الله تعالى وأمر بالتقوى أنهاه مع ذلك والضمير في إن كان وفي إن كذب عائد على الناهي.
{ ألم يعلم بأن الله يرى } ويطلع على أحواله من هداه وضلاله فيجازيه على حسب ذلك وهذا وعيد.
{ كلا } ردع لأبي جهل ومن في طبقته عن نهي عباد الله عن عبادة الله تعالى.
{ لئن لم ينته } أي عن ما هو فيه وعيد شديد.
{ لنسفعا } أي لنأخذن.
{ بالناصية } وعبر بها عن جميع الشخص أي سحبا إلى النار كقوله:
فيؤخذ بالنواصي والأقدام
[الرحمن: 41] واكتفى بتعريف العهد عن الإضافة إذ علم أنها ناصية الناهي.
{ فليدع ناديه } إشارة إلى قول أبي جهل ما بالوادي أكثر ناديا مني والمراد أهل النادي وقرىء سيدعى مبنيا للمفعول الزبانية رفع.
{ كلا } ردع لأبي جهل ورد عليه.
{ لا تطعه } أي لا تلتفت إلى نهيه وكلامه.
{ واسجد } أمر له بالسجود والمعنى دم على صلاتك وعبر عن الصلاة بأفضل الأوصاف التي يكون العبد فيها أقرب إلى الله تعالى.
{ واقترب } وتقرب إلى ربك وثبت في الصحيحين سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم في إذا السماء انشقت وفي هذه السورة وهي من العزائم عند علي رضي الله عنه وكان مالك يسجد فيهما في خاصة نفسه.
[97 - سورة القدر]
[97.1-5]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * إنا أنزلناه في ليلة القدر } هذه السورة مدنية في قول الأكثر ومناسبتها لما قبلها ظاهرة لما قال:
اقرأ باسم ربك
[العلق: 1] فكأنه قال: اقرأ ما أنزلناه عليك من كلامنا إنا أنزلناه في ليلة القدر. والضمير عائد على ما دل عليه المعنى وهو ضمير القرآن قال ابن عباس: أنزله الله تعالى ليلة القدر إلى سماء الدنيا جملة ثم نجمه على محمد صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة.
{ ومآ أدراك ما ليلة القدر } تفخيم لشأنها أي لم تبلغ درايتك غاية فضلها ثم بين له ذلك قيل ما كان في القرآن وما أدراك فقد أعلم الله به وما كان وما يدريك فإنه لم يعلمه والظاهر أن ألف شهر يراد به حقيقة العدد وهي ثمانون سنة وثلاثة أعوام وثلث عام والعمل في ليلة القدر أفضل من العمل في هذه الشهور.
{ تنزل الملائكة والروح } تقدم الكلام عليه.
{ بإذن ربهم } متعلق بتنزل.
{ من كل أمر } متعلق بتنزل ومن للسبب أي تتنزل من أجل كل أمر قضاه الله تعالى لتلك السنة إلى قابل.
{ سلام هي } أي هي سلام جعلها سلاما كثرة السلام فيها قيل لا يلاقون مؤمنا ولا مؤمنة إلا سلموا عليه في تلك الليلة وقرىء مطلع بفتح اللام وكسرها.
[98 - سورة البينة]
[98.1-8]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * لم يكن الذين كفروا } الآية هذه السورة مكية ولما ذكر إنزال القرآن في ليلة القدر في السورة التي قبلها:
اقرأ باسم ربك
[العلق: 1] ذكر هنا أن الكفار لم يكونوا منفكين عن ما هم عليه حتى جاءهم الرسول عليه السلام يتلوا عليهم ما أنزل عليه من الصحف المطهرة التي أمر بقراءتها وقسم الكافرين هنا إلى أهل كتاب وأهل إشراك وأهل الكتاب: اليهود، والنصارى والمشركون، عبدة الأوثان من العرب.
{ منفكين } إسم فاعل من انفك وهي التامة وليست الداخلة على المبتدأ والخبر.
{ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب } أي من المشركين وانفصل بعضهم من بعض فقال كل ما يدل عنده على صحة قوله:
{ إلا من بعد ما جآءتهم البينة } وكان يقتضي مجيء البينة أن يجمعوا على اتباعها.
{ حنفآء } أي مستقيمي الطريقة مائلين عن طرق الضلال إلى طريق الهداية.
{ وذلك دين القيمة } أي الأمة المستقيمة وذكر تعالى مقر الأشقياء وجزاء السعداء والبرية جميع الخلق وحكم على الكفار من الفريقين بأمرين بالخلود في النار وبكونهم شر البرية وبدأ بأهل الكتاب لأنهم كانوا يطعنون في نبوته وجنايتهم أعظم لأنهم أنكروه مع العلم به وشر البرية ظاهره العموم.
[99 - سورة الزلزلة]
[99.1-8]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * إذا زلزلت الأرض زلزالها } هذه السورة مكية ولما ذكر فيما قبلها كون الكفار يكونون في النار وجزاء المؤمنين فكأن قائلا قال متى ذلك فقال: { إذا زلزلت الأرض زلزالها } قيل والعامل فيها مضمر تدل عليه الجمل الآتية تقديره تحشرون وأضيف الزلزال إلى الأرض إذ المعنى زلزالها الذي تستحقه يقتضيه جرمها وعظمها.
{ وأخرجت الأرض أثقالها } جعل ما في بطنها أثقالا.
{ وقال الإنسان ما لها } على معنى التعجب لما يرى من الأهوال والظاهر عموم الإنسان.
{ يومئذ } أي يوم إذا زلزلت وأخرجت.
{ تحدث } والظاهر أنه حديث حقيقة وقيل مجاز عن احداث الله فيها من الأهوال ما يقوم مقام التحديث باللسان، وفي سنن ابن ماجة حديث في آخره تقول الأرض يوم القيامة يا رب هذا ما استودعتني وعن ابن مسعود تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان مالها فتخبر بأن أمر الدنيا قد انقضى وأمر الآخرة قد أتى فيكون ذلك جوابا لهم عن سؤالهم.
{ بأن ربك أوحى لها } أي بسبب إيحاء الله تعالى لها فالباء متعلقة بتحدث.
{ يومئذ يصدر الناس } انتصب يومئذ بيصدر والصدر يكون عن ورد فقال الجمهور هو كونهم في الأرض مدفونين. والصدر قيامهم للبعث وأشتاتا جمع شت أي فرقا مؤمن وكافر ومؤمن عاص سائرون إلى العرض.
{ ليروا أعمالهم } والظاهر تخصيص العامل أي فمن يعمل مثقال ذرة خيرا من السعداء لأن الكافر لا يرى خيرا في الآخرة وتعميم من يعمل مثقال ذرة شرا من الفريقين لأنه تقسيم جاء بعد قوله: { يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم } وقرىء ليروا بضم الياء وفتحها ونبه بقوله: { مثقال ذرة } على أن ما فوق الذرة يراه قليلا كان أو كثيرا وهذا يسمى مفهوم الخطاب وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد بل يكون المسكوت عنه بالأولى في ذلك الحكم والظاهر انتصاب خيرا وشرا على التمييز لأن مثقال ذرة مقدار وقيل بدل من مثقال وقرىء يره بالفتح في الياء فيهما أي يرى جزاءه من ثواب وعقاب.
[100 - سورة العاديات]
[100.1-11]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والعاديات ضبحا } هذه السورة مكية لما ذكر فيما قبلها ما يقتضي تهديدا ووعيدا بيوم القيامة اتبع ذلك بتعنيف لمن لا يستعد لذلك اليوم ومن آثر أمر دنياه على أمر آخرته { والعاديات } الجاريات بسرعة والضبح تصويت جهير عند العدو الشديد ليس بصهيل ولا غراء.
{ فالموريات قدحا } الإيراء إخراج النار أي تقدح بحوافرها الحجارة فيتطاير منها النار لصك بعض الحجارة ببعض.
{ فالمغيرات صبحا } أي تغير على العدو في الصبح وفي هذا دليل على أن هذه الأوصاف لذات واحدة لعطفها بالفاء التي تقتضي التعقيب والضمير في به عائد في الأول على الصبح أي هيجن في ذلك الوقت غبارا وفي به الثاني على الضبح قيل أو النقع أي وسطن النقع الجمع فتكون الباء للتعدية وقيل الضمير في به يعود على المكان الذي يقتضيه المعنى وإن لم يجر له ذكر لدلالة { والعاديات } وما بعدها عليه والظاهر أن المقسم به هو جنس العاديات وليست ال فيه للعهد والمقسم عليه.
{ إن الإنسان لربه لكنود } الذي أكل وحده ويمنع رفده ويضرب عبده والظاهر عود الضمير في:
{ وإنه على ذلك لشهيد } أي لشهيد على كنوده ولا يقدر أن يجحده لظهور أمره.
{ وإنه } أي وان الإنسان.
{ لحب الخير } أي المال.
{ لشديد } أي قوي في حبه وقيل له لبخيل بالمال ضابط.
{ أفلا يعلم } توقيف على ما يؤول إليه الإنسان ومفعول يعلم محذوف وهو العامل في الظرف أي فلا يعلم مآله إذا بعثر ويجوز أن تكون يعلم معلقة والجملة المعلقة قوله: { إن ربهم } كما تقول علمت ان زيدا لقائم فالجملة في موضع نصب { وحصل ما في الصدور } أي جمع.
[101 - سورة القارعة]
[101.1-11]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * القارعة * ما القارعة } هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها ظاهرة لأنه ذكر وقت بعثرة القبور وذلك هو وقت الساعة وقال الجمهور: القارعة القيامة نفسها لأنها تقرع القلوب بهولها ما استفهام فيه معنى الاستعظام والتعجب وهو مبتدأ القارعة وتقدم تقرير ذلك في الحاقة.
{ يوم يكون الناس كالفراش } هو الطير الذي يتساقط في النار، والعهن الصوف وقرن بين الناس والجبال تنبيها على تأثير تلك القارعة في الجبال حتى صارت كالعهن المنفوش فكيف يكون حال الإنسان عند سماعها وتقدم الكلام في الموازين وثقلها في الأعراف وعيشة راضية في الحاقة.
{ فأمه هاوية } قيل دركة من دركات النار وأمه معناه مأواه كما قيل للأرض أم الناس لأنها تؤويهم.
{ ومآ أدراك ما هيه } هي ضمير يعود على هاوية والهاء في ماهية هاء السكت وحذفت في الوصل نار خبر متبدأ محذوف تقديره هي نار.
[102 - سورة التكاثر]
[102.1-8]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * ألهاكم التكاثر } هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها ظاهرة وسبب نزولها فيما روي أنه كان بين بني بن سهم وبني عبد مناف لحاء فتعادوا الاشراف الاحياء أيهم أكثر فكثرهم بنو عبد مناف ثم تعادوا بالأموات فكثرهم بنو سهم لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية وألهاكم شغلكم المعنى أنكم تكاثرتم بالاحياء حتى استوعبتم عددهم وسمع بعض الأعراب { حتى زرتم المقابر } فقال: بعث القوم للقيامة وربع الكعبة فإن الزائر منصرف لا مقيم وقال علي كرم الله وجهه: كلا سوف تعلمون في القبور.
{ ثم كلا سوف تعلمون } في البعث غاير ما بينهما بحسب التعلق وتبقى ثم على بابها من المهلة في الزمان.
{ كلا لو تعلمون } أي ما بين أيديكم مما تقدمون عليه وجواب له محذوف تقديره ما { ألهاكم التكاثر } واللام في لترون جواب قسم محذوف والجملة بعدها تأكيد لها ونص على قوله:
{ علم اليقين } رفعا للمجاز الذي قبله.
{ ثم لتسألن يومئذ عن النعيم } الظاهر العموم في النعيم وهو كل ما يتلذذ به من مطعم ومشرب ومفرش ومركب فالمؤمن يسأل سؤال إكرام وتشريف والكافر يسأل سؤال توبيخ وتقريع.
[103 - سورة العصر]
[103.1-3]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * والعصر * إن الإنسان لفى خسر } هذه السورة مكية لما قال فيما قبلها:
ألهاكم التكاثر
[التكاثر: 1] ووقع التهديد بتكرار كلا سوف تعلمون بين حال المؤمن والكافر { والعصر } قال ابن عباس: هو الدهر، يقال: عصر وعصر وعصر أقسم به تعالى لما في مروره من أصناف العجائب والإنسان إسم جنس والظاهر العموم ولذلك صح الاستثناء منه والخسر الخسران كالكفر والكفران وأي خسران أعظم ممن خسر الدنيا والآخرة.
{ وتواصوا بالحق } أي بالأمر الثابت من الذين عملوا به وتواصوا به.
{ وتواصوا بالصبر } على طاعة الله تعالى وعن المعاصي.
[104 - سورة الهمزة]
[104.1-9]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * ويل لكل همزة لمزة } هذه السورة مكية ولما قال فيما قبلها ان الإنسان لفي خسر بين حال الخاسر فقال: { ويل لكل همزة } ونزلت في الأخنس بن شريق أو العاص بن وائل أو جميل بن معمر ويمكن أن تكون نزلت في الجميع وهي مع ذلك عامة فيمن اتصف بهذه الأوصاف وتقدم الكلام في الهمزة في
ن والقلم
[القلم: 1] وفي: (اللمز) في براءة وفعله من أبنية المبالغة كتومة وعيبة وسخرة وضحكة.
{ الذى } بدل معرفة من نكرة.
{ جمع } المال وضبط عدده.
{ أخلده } أي أبقاه حيا بحسب أن المال تركه خالدا في الدنيا لا يموت.
{ كلا } ردع له عن حسبانه.
{ لينبذن } أي ليرمين.
{ في الحطمة } أصله الوصف من قوله رجل حطمة أي أكول.
{ ومآ أدراك ما الحطمة } وهي النار التي من شأنها أن تحطم كل ما يلقى إليها.
{ نار الله الموقدة } أي هي أي الحطمة.
{ التي تطلع على الأفئدة } ذكرت الأفئدة لأنها ألطف ما في البدن وأشده تألما بأدنى شىء من الأذى وإطلاع النار عليها هو أنها تعلوها وتشمل عليها وهي تعلو الكفار في جميع أبدانها لكن نبه على الأشرف لأنه مقر العقائد.
{ إنها } أي نار الآخرة أو يئسوا من الخروج بإطباق الأبواب عليهم وتمدد العمد كل ذلك إيذانا بالخلود إلى غير نهاية.
[105 - سورة الفيل]
[105.1-5]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } هذه السورة مكية ولما ذكر فيما قبلها عذاب الكفار في الآخرة أخبر هنا بعذاب ناس منهم في الدنيا والظاهر أن الخطاب للرسول عليه السلام بذكر نعمته عليه إذ كان صرف ذلك العدد العظيم عام مولده عليه أفضل الصلاة والسلام وإرهاصا بنبوته إذ مجيء تلك الطيور على الوصف المنقول من خوارق العادات والمعجزات المتقدمة بين أيدي الأنبياء عليهم السلام ومعنى { ألم تر } ألم تعلم قدرة على وجود علمه بذلك إذ هو أمر منقول نقل التواتر فكأنه قيل قد علمت فعل الله ربك بهؤلاء الذين قصدوا حرمه ضلل كيدهم وأهلكهم بأضعف جنوده وهي الطير التي ليست من عادتها أن تقتل وقصة الفيل ذكرها أهل السير مطولة وأصحاب الفيل أبرهة بن الصباح الحبشي ومن كان معه من جنوده والظاهر أنه قيل واحد وكان العسكر ستين ألفا لم يرجع منهم أحد إلا أميرهم في شرذمة قليلة فلما أخبروا بما رأوا أهلكوا وكان الفيل يوجهونه نحو مكة لما كان قريبا منها فيبرك ويوجه نحو الشام واليمن فيسرع، وتر معلقة والجملة التي فيها الإستفهام في موضع نصب بتر وكيف معمولة حفعل وفي خطابه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: { فعل ربك } تشريف له عليه السلام وإشادة من ذكره كأنه قال ربك معبودك هو الذي فعل ذلك لا أصنام قريش أساف ونائلة وغيرهما في تضليل في تضييع وإبطال يقال ضلل كيده إذا جعله ضالا ضائعا وتضييع كيدهم هو بأن أحرق الله تعالى البيت الذي بنوه قاصدين أن يرجع حج العرب إليه وبأن أهلكهم لما قصدوا هدم بيت الله تعالى الكعبة بأن أرسل عليهم طيرا جاءت من جهة البحر ليست نجدية ولا تهامية ولا حجازية سوداء وقيل خضراء على قدر الخطاف والطير إسم جمع يذكر ويؤنث وقيل الضمير عائد على ربك.
{ بحجارة } كان كل طائر في منقاره حجر وفي رجليه حجران كل حجر فوق حبة العدس ودون حبة الحمص مكتوب في كل حجر إسم مرميه ينزل على رأسه ويخرج من دبره ومرض أبرهة فتقطع أنملة أنملة وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه وانفلت أبو مكسوز وزيره وطائر يتبعه حتى وصل إلى النجاشي وأخبره بما جرى للقوم فرماه الطائر بحجره فمات بين يدي الملك.
{ أبابيل } أي جماعات وقال الفراء لا واحد له من لفظه وذكر الرقاشي أنه سمع في واحده ابالة وحكى الفراء ابالة بالتخفيف.
{ سجيل } تقدم شرحه في هود والعصف في الرحمن شبهوا بالعصف الذي أكل أي وقع فيه الاكال والتبن الذي أكلته الدواب وراثته قال ابن إسحق لما رد الله الحبشة عن الكعبة عظمت العرب قريشا وقالوا أهل الله قاتل عنهم وكفاهم مؤمنة عددهم فكان ذلك من الله تعالى نعمة عليهم وقيل هو إجابة لدعاء الخليل عليه السلام.
[106 - سورة قريش]
[106.1-4]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * لإيلاف قريش } هذه السورة مكية ومناسبتها لما قبلها ظاهرة ولا سيما إن جعلت اللام متعلقة بنفس فجعلهم أو بإضمار فعلتا ذلك لإيلاف قريش حتى تطمئن في بلدها فذكر ذلك للامتنان عليهم إذ لو سلط عليهم أصحاب الفيل لتشتتوا في الأقاليم ولم تجتمع لهم كلمة وقال الخليل: اللام تتعلق بقوله: فليعبدوا والمعنى لأن فعل الله بقريش هذا ومكهم من الفهم هذه النعمة.
{ فليعبدوا } أمرهم أن يعبدوه لأجل إيلافهم الرحلة وإلاف الرحلة كانوا أربعة أخوة وهم بنو عبد مناف هاشم كان يؤلف ملك الشام أخذ منه خيلا فآمن به في تجارته إلى الشام وعبد شمس كان يؤلف إلى الحبشة والمطلب إلى اليمن ونوفل إلى فارس فكان هؤلاء يسمعون المجيرين: فيختلف تجر قريش إلى الأمصار بخيل هؤلاء الأخوة فلا يتعرض لهم أحد.
{ رب هذا البيت } هو الكعبة وتمكن هنا هذا اللفظ لتقدم حمايته في السورة التي قبلها ومن هنا للتعليل أي لأجل الجوع كانوا ببلد غير ذي زرع عرضة للجوع والجدب لولا لطف الله تعالى بهم وذلك بدعوة إبراهيم عليه السلام قال تعالى:
يجبى إليه ثمرات كل شيء
[القصص: 57].
{ وآمنهم من خوف } فضلهم على العرب بكونهم يأمنون حيث ما حلوا يقال هؤلاء قطان بيت الله فلا يتعرض إليهم أحد وغيرهم خائفون وقال ابن عباس: وآمنهم من خوف معناه من الجذام فلا ترى بمكة مجذوما.
[107 - سورة الماعون]
[107.1-7]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * أرأيت الذي يكذب بالدين } هذه السورة مكية في قول الجمهور مدنية في قول ابن عباس وقال هبة الله العزيز نزل نصفها بمكة في العاصي بن وائل ونصفها بالمدينة في عبد الله بن أبي المنافق ولما عدد تعالى نعمه على قريش وكانوا لا يؤمنون بالبعث والجزاء اتبع امتنانه عليهم بتهديدهم بالجزاء وتخويفهم من عذابه والظاهر أن أرأيت هي التي بمعنى أخبرني فتتعدى إلى اثنين أحدهما الذي والآخر محذوف تقديره أليس مستحقا عذاب الله.
{ يدع اليتيم } يدفعه عن حقه كان سفيان بن حرب ينحر في كل أسبوع جذورا أفأتاه يتيم فسأله شيئا فقرعه بعصا.
{ ولا يحض } إشارة إلى أنه هو لا يطعم إذا قدر وهذا من باب الأولى لأنه إذا لم يحض غيره بخلا فلأن يترك هو ذلك فعلا أولى وفي إضافة طعام إلى المسكين دليل على أنه مستحقه ولما ذكر أولا عمود الكافر وهو التكذيب وبالدين ذكر ما يترتب على التكذيب من الإيذاء والمنع من النفع وذلك مما يتعلق بالمخلوق ثم ذكر ما يترتب عليه مما يتعلق بالخالق وهو عبادته بالصلاة فقال:
{ فويل للمصلين } والظاهر أن المصلين هم غير المذكور قبل وهو داع اليتيم غير الحاض وإن كان كل من الأوصاف الذميمة ناشئا عن التكذيب بالدين فالمصلون هنا والله أعلم هم المنافقون أثبت لهم الصلاة وهي التي يفعلونها ثم قال:
{ الذين هم عن صلاتهم ساهون } نظرا إلى أنهم لا يوقعونها كما يوقعها المسلم من اعتقاد وجوبها والتقرب بها إلى الله تعالى وفي الحديث
" عن صلاتهم ساهون يؤخرونها عن وقتها تهاونا بها "
وتقدم الكلام في الرياء في البقرة.
{ ويمنعون الماعون } قال ابن عباس وجماعة: ما يتعاطاه الناس بينهم كالفأس والدلو والآنية والمقص وفي الحديث
" سئل عليه السلام عن الشىء الذي لا يحل منعه فقال الماء والملح والنار وفي بعض الطرق والإبرة والخمير ".
[108 - سورة الكوثر]
[108.1-3]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * إنآ أعطيناك الكوثر } هذه السورة مكية ولما ذكر فيما قبلها وصف المنافق بالبخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة قابل في هذه السورة البخل بإنا أعطيناك الكوثر والسهو عن الصلاة بقوله: { فصل } والرياء بقوله: { لربك } ومنع الزكاة بقوله: { وانحر } أراد به التصديق بلحم الأضاحي فقابل أربعا بأربع ونزلت في العاصي ابن وائل كان يسمي الرسول صلى الله عليه وسلم بالأبتر وكان يقول دعوه إنما هو رجل أبتر لا عقب له ولو هلك انقطع ذكره واسترحم منه وذكر الفخر في الكوثر أقوالا كثيرة والصحيح هو ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
" هو نهر في الجنة حافتاه من الذهب ومجراه على الدر والياقوت تربته أطيب من المسك وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج "
قال الترمذي: هذا حديث صحيح وفي صحيح مسلم واقتطعناه منه فقال
" أتدرون ما الكوثر قلنا: الله ورسوله أعلم قال: نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم "
قال ذلك صلى الله عليه وسلم عندما نزلت هذه السورة وقرأها عليهم.
{ إن شانئك } أي مبغضك تقدم أنه العاصي بن وائل وقيل أبو جهل قال ابن عباس: لما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج أبو جهل إلى أصحابه فقال: بتر محمد فأنزل الله تعالى إن شائنك هو الأبتر.
[109 - سورة الكافرون]
[109.1-6]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * قل يأيها الكافرون } الآية هذه السورة مكية وذكروا من أسباب نزولها أنهم قالوا له عليه السلام دع ما أنت عليه ونحن نمولك ونزوجك من شئت من كرائمنا ونملكك علينا وإن لم تفعل هذا فلتعبد آلهتنا ونعبد إلهك حتى نشترك فحيث كان الخير نلناه جميعا ولما كان أكبر شانئيه قريشا وطلبوا منه أن يعبد آلهتهم سنة ويعبدوا إلهه سنة أنزل الله تعالى هذه السورة تبرئا منهم واخبارا لا شك فيه وأن ذلك لا يكون أبدا وفي قوله قل دليل على أنه مأمور بذلك من عند الله تعالى وخطابه لهم بيا أيها الكافرون في ناديهم ومكان بسطة أيديهم مع ما في الوصف من الأرذال لهم دليل على أنه محروس من عند الله تعالى لا يبالي بهم والكافرون ناس مخصوصون وهم الذين قالوا له تلك المقالة الوليد بن المغيرة والعاصي بن وائل والأسود بن المطلب وأمية وأبي ابنا خلف وأبو جهل وابنا الحجاج ونظراؤهم ممن لم يسلم ووافى على الكفر تصديقا للاخبار في قوله ولا أنتم عابدون ما أعبد وللمفسرين في هذه الجملة أقول أحدهما انها للتوكيد فقوله: ولا أنا عابد ما عبدتم توكيد لقوله: لا أعبد ما تعبدون وقوله: ولا أنتم عابدون ما أعبد ثانيا توكيد لقوله: ولا أنتم عابدون ما أعبد أولا والتوكيد في لسان العرب كثير جدا وفائدة هذا التوكيد قطع إجماع الكفار وتحقيق الاخبار بموافاتهم على الكفر وأنهم لا يسلمون أبدا والثاني أنه ليس للتوكيد واختلفوا فقال الأخفش: المعنى لا أعبد الساعة ما تعبدون ولا أنتم عابدون الساعة ما أعبد ولا أنا عابد في المستقبل ما عبدتم ولا أنتم عابدون في المستقبل ما أعبد فزال التوكيد إذ قد تقيدت كل جملة بزمان مغاير وقال أبو مسلم: ما في الأولين بمعنى الذي والمقصود المعبود وما في الآخريين مصدرية أي لا أعبد عبادتكم المبنية على الشك وترك النظر ولا أنتم تعبدون مثل عبادتي المبنية على اليقين وقال ابن عطية: لما كان قوله: { لا أعبد } أن يراد به الآن لا يبقى المستأنف منتظرا ما يكون فيه جاء البيان بقوله: { ولا أنآ عابد ما عبدتم } أي أبدا وما حييت ثم جاء قوله: { ولا أنتم عابدون مآ أعبد } الثاني حتما عليهم لا يؤمنون به أبدا كالذي كشف الغيب فهذا كما قيل لنوح عليه السلام لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن إما أن هذا في معنيين وقوم نوح عموا بذلك فهذا المعنى الترديد الذي في السورة وهو بارع الفصاحة وليس بتكرار فقط بل فيه ما ذكرته " انتهى ".
{ لكم دينكم ولي دين } أي لكم شرككم ولي توحيدي وهذا غاية في التبري ولما كان الأهم انتفاءه عليه السلام من دينهم بدأ بالنفي في الجمل السابقة المنسوب إليه ولما تحقق النفي رجع إلى خطابهم في قوله: { لكم دينكم } على سبيل المهادنة وهي منسوخة بآية السيف.
[110 - سورة النصر]
[110.1-3]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * إذا جآء نصر الله والفتح } هذه السورة مدنية نزلت منصرفة عليه السلام من غزوة حنين وعاش بعد نزولها سنتين وقيل نزلت في أيام التشريق بمنى من حجة الوداع وعاش بعدها ثمانين يوما ولما كان في قوله:
لكم دينكم
[الكافرون: 6] موادعة جاء في هذه بما يدل على تخويفهم وتهديدهم وإن مجيء نصر الله وفتح مكة واضمحلال ملة الأصنام وإظهار دين الله تعالى والفتح فتح البلاد.
{ أفواجا } أي جماعات كثيرة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعد ما كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا واثنين اثنين.
{ فسبح بحمد ربك } أي ملتبسا بحمده على هذه النعم التي خولكها من نصرك على الأعداء وفتحك البلاد وإسلام الناس وأي نعمة أعظم من هذه إذ كل حسنة يعملها المسلمون فهي في ميزانه وعن عائشة رضي الله عنها:
" كان عليه السلام يكثر قبل موته ان يقول: سبحانك اللهم وبحمدك أستغفرك وأتوب إليك وقد علم صلى الله عليه وسلم من هذه السورة دنو أجله وحين قرأها عليه السلام استبشر الصحابة وبكى العباس فقال: وما يبكيك يا عم قال نعيت إليك نفسك فقال: إنها لكما تقول فعاش بعدها سنتين ".
{ إنه كان توابا } فيه ترجئة عظيمة للمستغفرين.
[111 - سورة المسد]
[111.1-5]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * تبت يدآ أبي لهب } هذه السورة مكية ولما ذكر فيما قبلها دخول الناس في دين الله اتبع بذكر من لم يدخل في الدين وخسر ولم يدخل فيما دخل فيه أهل مكة من الإيمان والتب الخسران وأسند الهلاك إلى اليدين لأن العمل أكثر ما يكون بهما وهو في الحقيقة للنفس والظاهر أن تبت دعاء.
{ وتب } إخبار بحصول ذلك روي أنه لما نزل وأنذر عشيرتك الأقربين قال عليه السلام
" يا صفية بنت عبد المطلب يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنكما من الله شيئا سلاني من مالي ما شئتما ثم صعد الصفا فنادى بطون قريش يا بني فلان يا بني فلان "
وروي
" أنه صاح بأعلى صوته يا صباحاه فاجتمعوا إليه من كل وجه فقال لهم: أرأيتم لو قلت لكم إني أنذركم خيلا بسفح هذا الجبل أكنتم مصدقي قالوا: نعم، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا فافترقوا عنه ونزلت هذه السورة "
وأبو لهب اسمه عبد العزى بن عبد المطلب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم والظاهر أن ما في ما أغنى عنه ماله نفي أي لم يغن عنه ماله الموروث عن آبائه.
{ وما كسب } هو بنفسه أو ماشيته وما كسب من نسلها ومنافعها ويجوز أن تكون ما استفهاما في موضع نصب أي شىء يغني عنه ماله على وجه التقرير والإنكار والمعنى أين الغنى الذي لماله ولكسبه والظاهر أن ما في قوله: { وما كسب } موصوله وأجيز أن تكون مصدرية وإذا كانت ما في ما أغنى استفهاما فيجوز أن يكون ما في قوله وما كسب استفهاما أيضا.
{ سيصلى } وعد له بأنه يصلى النار في الآخرة.
{ وامرأته } يجوز أن تكون مبتدأ وحمالة خبره ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير المستكن في سيصلى وحسن ذلك الفصل بينهما وعلى هذا التأويل تكون حمالة خبر مبتدأ محذوف تقديره هي حمالة وقرىء عاصم حمالة نصبا على الذم فيتعين أن يكون وامرأته عطفا على الضمير المستكن في سيصلى وامرأته اسمها أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان وكانت عوراء والظاهر أنها كانت تحمل الحطب الذي فيه الشوك لتؤذي بإلقائه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لتعقرهم حذفت بذلك وسميت حمالة الحطب وقيل حمالة الحطب كناية عن المشي بالنميمة والجيد العنق والظاهر أن الحبل من مسد والمسد الليف ولما سمعت أم جميل هذه السورة أتت أبا بكر وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وبيدها فهر فقالت بلغني أن صاحبك هجاني ولأفعلن وأفعلن وأعمى الله بصرها عن رسوله عليه السلام فروي أن أبا بكر قال لها: هل تري معي أحدا فقالت أتهزأ بي لا أرى غيرك وإن كان شاعرا فأنا مثله أقول:
* مذمما أبينا
ودينه قلينا
وأمره عصينا *
فسكت أبو بكر ومضت هي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لقد حجبتني ملائكة فما رأتني وكفى الله شرها وذكر أنها ماتت مخنوقة بحبلها وأبو لهب رماه الله بالعدسة بعد وقعة بدر بسبع ليال ".
[112 - سورة الإخلاص]
[112.1-4]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * قل هو الله أحد } الآية، هذه السورة مكية ولما تقدم فيما قبلها عداوة أقرب الناس إليه وهو عمه أبو لهب وما كان يقاسي من عباد الأصنام الذين اتخذوا مع الله آلهة جاءت هذه السورة مصرحة بالتوحيد رادة على عباد الأوثان والقائلين بالثنوية وبالتثليث وبغير ذلك من المذاهب المخالفة للتوحيد.
وعن ابن عباس أن اليهود قالوا: يا محمد صف لنا ربك وانسبه فنزل: { قل هو الله أحد }.
{ الله الصمد } مبتدأ وخبر " والصمد " فعل بمعنى مفعول كالقبض بمعنى المقبوض من صمد إليه إذا قصده وهو السيد المصمود إليه في الحوائج، قال الشاعر:
الا خبر الناعي بحير بني أسد
بعمرو بن مسعود بالسيد الصمد
قال الزمخشري: لم يلد لأنه لا يجانس حتى يكون له من جنسه صاحبة فيتوالدا وقد دل على هذا المعنى بقوله تعالى:
أنى يكون له ولد ولم تكن له صحبة
[الأنعام: 101].
{ ولم يولد } لأن كل مولود محدث وجسم والله تعالى قديم لا أول لوجوده وليس بجسم ولم يكافئه فيه أحد أي لم يماثله ولم يشاكله ويجوز أن تكون من الكفاءة في النكاح نفيا للصاحبة " انتهى ".
{ ولم يكن له كفوا أحد } يقال كفو بضم الكاف وفتحها وكسرها مع سكون الفاء وقال الزمخشري: فإن قلت الكلام العربي الفصيح أن يؤخر الظرف الذي هو لغو غير مستقر ولا يقدم وقد نص سيبويه على ذلك في كتابه فما باله مقدما في أفصح الكلام وأعربه. قلت: هذا الكلام إنما سيق لنعي المكافأة عن ذات الباري سبحانه وتعالى وهذا المعنى مصبه ومركزه هو هذا الظرف فكان لذلك أهم شىء وأعناه وأحقه بالتقديم وأحراه. " انتهى ".
وهذه الجملة ليست من هذا الباب وذلك أن قوله ولم يكن له كفوا أحد ليس الجار والمجرور فيه تاما إنما هو ناقص لا يصلح أن يكون خبرا الكان بل هو متعلق بكفوا وقدم عليه فالتقدير { ولم يكن له كفوا أحد } أي مكافئه فهو في معنى المفعول متعلق بكفوا وتقدم على كفوا للاهتمام به إذ فيه ضمير الباري تعالى وتوسط الخبر وإن كان الأصل التأخير لأن تأخير الاسم هو فاصلة فحسن ذلك وعلى هذا الذي قررناه يبطل إعراب مكي وغيره إن له الخبر وكفوا حال من أحد لأنه ظرف ناقص لا يصلح أن يكون خبرا وبذلك يبطل سؤال الزمخشري وجوابه وسيبويه إنما تكلم في الظرف الذي يصلح أن يكون خبرا ويصلح أن يكون غير خبر قال سيبويه: وتقول ما كان فيها أحد خير منك وما كان أحد مثلك فيها وليس أحد فيها خير منك إذا جعلت فيها مستقرا ولم تجعله على قولك فيها زيد قائم أجريت الصفة على الإثم فإن جعلته على فيها زيد قائم نصبت فتقول ما كان فيها أحد خيرا منك وما كان أحد خيرا منك إذا أردت الإلغاء فكلما أخرت المعنى كان أحسن وإذا أردت أن يكون مستقرا فكلما قدمت كان أحسن والتقديم والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير قال تعالى: { ولم يكن له كفوا أحد }.
[113 - سورة الفلق]
[113.1-5]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * قل أعوذ برب الفلق } هذه السورة مكية وسبب نزولها المعوذتين قصة لبيد وما حكي عنه ولما شرح أمر الإلهية في السورة قبلها شرحا يستعاذ منه بالله من الشر الذي في العالم ومراتب مخلوقاته، و { الفلق } الصبح قاله ابن عباس.
{ من شر ما خلق } عام يدخل فيه جميع من يوجد منه الشىء من حيوان مكلف وغير مكلف وجماد كالإحراق بالنار والإغراق بالبحر والقتل باسم وال { غاسق } الليل و { وقب } أظلم ودخل على الناس قاله ابن عباس و { النفاثات } النساء السواحر يعقدون عقدا في خيوط وينفثن عليها ويرقين والإستعاذة من شرهن هو ما يصيب الله به من الشر عند فعلهن ذلك وقيد الغاسق والحاسد بالظرف لأنه إذا لم يدخل الليل لا يكون شر منسوب إلي والحاسد لا يؤثر حسده إلا إذا أظهره بأن يحتال للمحسود فيما يؤذيه أما إذا لم يظهر الحسد فما يتأذى به إلا الحاسد لاغتمامه بنعمة غيره.
[114 - سورة الناس]
[114.1-6]
{ بسم الله الرحمن الرحيم * قل أعوذ برب الناس } الآية تقدم أنها نزلت مع ما قبلها وأضيف الرب إلى الناس لأن الاستعاذة من شر الموسوس في صدورهم استعاذوا بربهم مالكهم وإلههم كما يستعيذ العبد بمولاه إذا دهمه أمر والظاهر أن { ملك الناس * إله الناس } صفتان و { الخناس } الراجع على عقبه المستتر أحيانا وذلك من الشيطان متمكن إذا ذكر العبد الله تأخر ومن في من الجنة والناس للتبعيض أي كائنا من الجنة والناس فهي في موضع الحال أي ذلك الموسوس هو بعض الجنة وبعض الناس
" وكان عليه السلام إذا آوى إلى فراشه جمع كفيه ونفث فيهما وقرأ: قل هو الله أحد والمعوذتين ثم مسح بهما ما استطاع من جسده يبدأ برأسه ووجهه ما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاثا صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم وبارك وترحم ".
" والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم ".
Unknown page