المبحث الثَّالث
نشأته وطلبه للعلم ورحلاته
نَشأَ أبو المُطَرّفِ في قُرْطُبةَ، وكَانتْ قُرْطُبةُ في ذَلِكَ الوَقْتِ زَاخِرَةً بِكِبار العُلَماءِ مِنَ المُحَدِّثينَ والفُقَهاءِ والمُقْرِئينَ واللُّغَويينَ، بلْ إنَّها كَانتْ مَقْصِدًا للرَّاغِبينَ في رِحْلةِ المُحَدِّثينَ مِنَ الأَنْدَلُسِ إلى المَشْرِق، وكانتْ لاَ تتَمُّ إلَّا إذا عَرَّجُوا عَلَى قُرْطُبةَ، وأَخَذُوا عَنْ شُيُوخِ العِلْمِ والحَدِيثِ بِها (١).
وبدأ أبو المُطَرِّفِ طَلَبَ العِلْمِ وَهُو مَا يَزَالُ يَافِعًا فِي مُقْتَبلِ عُمُز، ثُمَّ تَدَرَّجَ في تَلَقِّي العُلُومِ على نَحْو مَا كَانَ يَعْهَدُه أبناءُ الأَنْدَلُسِ، حيثُ كانَ يُبْدأُ أَوَّلًا بِحِفْظِ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، وتَعَلُّمِ أُصُولِ الكِتَابةِ، وتَجْويدِ الخَطِّ، وتَعَلُّمِ العَرَبِيَّةِ، والتَّرَسُلِ بأَخْذِ قَوَانِينِها، وحِفْظِ الشِّعْرِ، ومَعْرِفَةِ أُصُولهِ وقَوَاعِدِه، ثُمَّ الاسْتِفَادةُ مِنْ العُلُومِ الأَولِيَّةِ الأخرى كالفِقْهِ والأُصُولِ وغير ذلك بما يمَكِّنُهُ بَعْدُ مِنَ الجُلُوسِ إلى حَلَقَاتِ العُلَمَاءِ، وظَهَرَ هَذا مِنْ خِلاَلِ شُيُوخهِ الذينَ لاَزَمَهُم، وكَانَ كثيرٌ منهُم أَعْيانَ العُلماءِ مِنْ أَهْلِ قُرْطُبةَ ومِنَ الوَافِدِينَ عَلَيْهَا، وكَانُوا رِجَالًا مُؤثِّرينَ في الحياةِ الأَنْدَلُسيِّةِ، ولهم أَدْوَارٌ إيجَابِيِّةٌ في مَسْرَحِ الحَياةِ، وكَانَ أَبو المُطَرِّفِ آنذاكَ يَافِعًا شَارِفًا للبُلُوغِ، ولَمَّا يَبْلُغُ مِنَ العِلْمِ مَدَاهُ.
_________
(١) ينظر: (حركة الحديث بقرطبة) ص ٨٩، فقد ذكر نماذج لبعض المحدثين الذين مروا على قرطبة قبل رحلتهم إلى المشرق، وذكر منهم (علي بن محمد بن أحمد بن عبَادَل الأَنصاري) وَهُو مِنْ أهل إشبيلية، قدم بقرطبة فأخذ عن أبي المُطَرِّفِ القُنازِعي، ثم رحل إلى المشرق.
1 / 30